إغاثة اللهفان في مصايد الشيطان ط عالم الفوائد

ابن القيم

مؤسسة سليمان بن عبد العزيز الراجحي الخيرية SULAIMAN BIN ABDUL AZIZ AL RAJHI CHARI CHARIT ABLE FOUNDATION حقوق الطبع والنشر محفوظة لمؤسسة سليمان بن عبد العزيز الراجحي الخيرية الطبعة الأولى 1432 هـ دَار عَالم الفوَائد للنَّشْر وَالتَّوزيْع مكة المكرمة - هاتف 5473166 - 5353590 فَاكس 5457606 الصف والإخراج دار عالم الفوائد للنشر والتوزيع

رَاجَعَ هَذا الجزء سليمان بن عبد الله العميد محمد أجمل الإصلاحي

مقدمة التحقيق

بسم الله الرحمن الرحيم مقدمة التحقيق الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على خير خلقه محمد وعلى آله وصحبه أجمعين. وبعد، فهذا الكتاب الذي نقدِّمه إلى القراء من أعظم مؤلفات الإمام ابن القيم وأجلِّها، وهو كتاب نادر فىِ بابه، استقصى فيه المؤلف مصايد الشيطان ومكايده، ومهَّد لها بأبواب في أمراض القلوب وعلاجها. وقد كان المؤلف من أطباء القلوب البارعين، تناول هذا الموضوع في عددٍ من كتبه بأسلوبه الخاص، يعتمد فيها على نصوص الكتاب والسنة وآثار السلف، ويمزجها بشيء من الشعر في المواعظ والآداب، ويُرشد الناس إلى إصلاح عقيدتهم وسلوكهم وتزكية نفوسهم، ويهديهم إلى الصراط المستقيم. وقد قمت بتحقيق الكتاب بالاعتماد على مخطوطاته القديمة التي تيسَّر الحصول عليها، وأقْدَمها تلك النسخة التي كُتبت في حياة المؤلف سنة 738، وحاولت أن أستخلص نصًّا سليمًا في ضوئها كما تركه المؤلف، وصححت كثيرًا من الأخطاء والتحريفات الموجودة في الطبعات المتداولة التي صدرت بالاعتماد على طبعة الشيخ محمد حامد الفقي رحمه الله، وإن ادَّعى أصحابها أنهم اعتمدوا على بعض النسخ الخطية. وفيما يلي دراسة عن الكتاب تحتوي على تحقيق عنوانه ونسبته إلى المؤلف، وتاريخ تأليفه، وموضوعاته ومباحثه، ومنهج المؤلف فيه، وبيان أهميته، وموارده، وأثره في الكتب اللاحقة، ووصف مخطوطاته، وطبعاته، ومنهجي في هذه الطبعة، وبالله التوفيق.

عنوان الكتاب

* عنوان الكتاب: سماه المؤلف في مقدمته "إغاثة اللهفان في مصايد الشيطان" كما هو مثبت بداخل جميع النسخ وعلى صفحة غلافها، وهي كذلك في بعض المصادر (¬1). وتصحفت "في" بـ "من" في معظم طبعات الكتاب، ولم أجد مستندها في المخطوطات والمصادر. وكأن الناشرين ظنُّوا أن صلة الإغاثة بـ "من" أولى، ويكون معنى العنوان: إغاثته وإخراجه من مصايد الشيطان. ولكن جميع الكتب التي ألِّفت بعنوان الإغاثة (¬2) إما أنها وُصِلت بالباء إذا كان المقصود بالكلمة التي تأتي بعدها ذكر الوسيلة، مثل: "إغاثة الأمة بكشف الغمة" للمقريزي، و"إغائة اللهَّاج بفرائض المنهاج"، أو وُصِلت بـ "في" إذا كان الغرض إمداد القارئ وعونه في باب أو موضوع أو مشكلة، مثل: "إغاثة اللهفان في شرح قصيدة البردة"، و"إغاثة اللهف في تفسير سورة الكهف" لعمر بن يونس الحنفي، و"إغاثة اللهفان في تسخير الملائكة والجان" ليوسف معتوق تاج الدين البعلبكي، و"إغاثة الملهوف في عمل الخسوف والكسوف" لموسى بن شاهين الأبشادي، و"إغاثة المجدّين في تصحيح الدين بشرح أم البراهين" للقيرواني (هذا الأخير يمكن جعْلُ صلة الإغائة فيه "في" أو الباء على اختلاف المعنى). وعلى هذه الجادة "إغاثة اللهفان في حكم طلاق الغضبان" و"إغاثة اللهفان في مصايد الشيطان". فينبغي تصحيح الخطأ الشائع في عنوان هذا الكتاب. ¬

_ (¬1) كشف الظنون (1/ 129) وهدية العارفين (2/ 158) وغاية الأماني (2/ 5). (¬2) انظر: كشف الظنون (1/ 128، 129) وذيل كشف الظنون (1/ 105، 106).

وورد ذكره في بعض المصادر (¬1) بعنوان: "إغاثة اللهفان من مكايد الشيطان"، ويمكن توجيهه بأن المؤلف أكثر من ذكر كلمة "مكايد" بمقابل "المصايد"، وكلاهما متقارب. وربما كانت بعض نسخها بهذا العنوان. وذكرته أغلب المصادر بعنوان "مصايد الشيطان" (¬2) بالاقتصار على الجزء الثاني منه، وتحرف ذلك إلى "مصائد السلطان" في كشف الظنون (2/ 1704) مع أن هناك التصريح بعنوانه الكامل بلفظ "الشيطان" على الصواب. واقتصرت بعض المصادر (¬3) على الجزء الأول من العنوان "إغاثة اللهفان". ومثل هذا الاختصار شائع ومعروف في الكتب، ولا يُعتبر مخالفًا للعنوان الكامل. وهذا العنوان المختصر ذُكر في أغلب المصادر التي اقتبست من الكتاب، كما سيأتي. وهو مشهور بين أهل العلم باسم "الإغاثة الكبرى" تمييزًا له عن "الإغاثة الصغرى" في حكم طلاق الغضبان. وأغرب صاحب شذرات الذهب (6/ 170) فكرّر ذكره في ترجمة ابن القيم بعنوان "مصايد الشيطان" و"إغاثة اللهفان من مكايد الشيطان"، وهو وهمٌ منه. ¬

_ (¬1) شذرات الذهب (5/ 339، 6/ 170) وغذاء الألباب (1/ 246). وهو مكتوب كذلك على صفحة الغلاف من نسخة الظاهرية، على خلاف ما بداخلها. (¬2) المنتقى من معجم شيوخ ابن رجب (ص 101)، ذيل طبقات الحنابلة (2/ 450)، الدرر الكامنة (3/ 402)، المنهج الأحمد (5/ 95)، الدرّ المنضد (2/ 522)، شذرات الذهب (6/ 170)، البدر الطالع (2/ 144). (¬3) لسان الميزان (7/ 518).

تحقيق نسبته إلى المؤلف

* تحقيق نسبته إلى المؤلف: هذا الكتاب من أشهر مؤلفات ابن القيم وأعظمها وأجلّها، وقد ذكره المترجمون له كما سبق. والدراسة المتأنية له تؤكِّد صحة نسبته إليه، ففي الكتاب شواهد متعددة تدلُّ على أنه لابن القيم، وفيما يلي بيانها: أولًا: إشارة المؤلف في مواضع منه إلى مؤلفاتٍ أخرى له وهي ثابتة النسبة إلى ابن القيم، مثل قوله: "وقد ذكرنا الكلام على أسرار هذين المثلين وبعض ما تضمناه من الحكم في كتاب المعالم وغيره" (ص 32)، وكتاب "المعالم" هو المعروف بعنوان "إعلام الموقعين"، والموضوع المشار إليه موجود فيه (1/ 150 - 152). وقال: "كلام أمثاله [أي الرازي] في مثل ذلك كثير جدًّا قد ذكرناه في كتاب الصواعق وغيره" (ص 72). وفي موضع آخر: "وقد بسطنا هذا المعنى [أي مبحث المجاز] واستوفينا الكلام عليه في كتاب "الصواعق المرسلة على الجهمية والمعطلة" (ص 826). وهذا من أشهر كتب ابن القيم، وفيه الكلام المفصل على المجاز، والرد على الرازي وغيره من المتكلمين. وأشار في موضعين منه إلى كتاب "مفتاح دار السعادة"، فقال (ص 842): "وقد أشبعنا الرد على هؤلاء [أي أصحاب النجوم] في كتابنا الكبير المسمى بالمفتاح". وقال (ص 861): "ومن قال: إن ذلك [أي استحسان صفات الكمال واستقباح أضدادها] لا يُعلَم بالعقل ولا بالفطرة، وإنما عُرِف مجرد السمع فقوله باطل، قد بيَّنا بطلانه في كتاب المفتاح من ستين وجهًا، وبيَّنا هناك دلالة القرآن والسنة والعقول والفِطَر على فساد هذا القول". والمبحثان المشار إليهما في مفتاح دار السعادة (2/ 125 وما بعدها، 2/ 2 - 118).

وتحدث في موضع عن الإرادة الكونية والشرعية ثم قال: "وقد أشبعنا الكلام في ذلك في كتابنا الكبير في القدر" (ص 94). والمقصود به كتاب "شفاء العليل في القضاء والقدر والحكمة والتعليل"، والموضوع المذكور في الباب التاسع والعشرين منه. وتكلم في موضوع السماع وقال في آخره: "وقد ذكرنا شُبه المغنيين والمفتونين بالسماع الشيطاني، ونقضناها نقضًا وإبطالًا في كتابنا الكبير في السماع، وذكرنا الفرق بين ما يحركه سماع الأبيات وما يحركه سماع الآيات، وذكرنا الشُّبه التي دخلت على كثير من العُبّاد في حضوره حتى عدُّوه من القُرَب. فمن أحبَّ الوقوف على ذلك فهو مستوفىً في ذلك الكتاب، وإنما أشرنا ههنا إلى نبذة يسيرة في كونه من مكايد الشيطان" (ص 472). والمقصود بالكتاب الكبير كتابه "الكلام على مسألة السماع"، فقد أشبع فيه الكلام على السماع من جميع النواحي. ولما ذكر الأخذ باللَّوث الظاهر في الحدود قال: "وقد أشبعنا الكلام في ذلك في كتاب الإعلام باتساع طرق الأحكام" (ص 833) وقد توسَّع ابن القيم في البحث عن هذا الموضوع في أول كتابه المعروف "الطرق الحكمية في السياسة الشرعية"، فإما أن يكون المقصود به هذا الكتاب، أو كتاب آخر مستقل بالعنوان المذكور لم يذكره المترجمون له، وانفرد بذكره المؤلف. ثانيًا: ذِكْره لشيخه شيخ الإسلام ابن تيمية بقوله: "شيخنا"، وسماعه منه وسؤاله له ونقلُه عنه في مواضع كثيرة من الكتاب، ويمكن معرفة جميع هذه المواضع بفهرس الأعلام. وكثير من هذه الفوائد والتحقيقات لا توجد في

كتب شيخ الإسلام المطبوعة، وانفرد بذكرها المؤلف في هذا الكتاب. كما ذكر بعض الأحداث التي عاصرها والأمور التي شاهدها، مثل قوله: "وقد كان بدمشق كثير من هذه الأنصاب، فيسَّر الله سبحانه كسرها على يد شيخ الإسلام وحزب الله الموحدين، كالعمود المخلَّق، والنُّصب الذي كان بمسجد النارنج عند المصلى يعبده الجهال، والنُّصب الذي كان تحت الطاحون الذي عند مقابر النصارى، ينتابه الناس للتبرك به، وكان صورة صنم في نهر القلّوط ينذرون له ويتبركون به، وقطع الله سبحانه النُّصب الذي كان عند الرحبة، يُسرج عنده ويتبرك به المشركون، وكان عمودًا طويلاً على رأسه حجر كالكُرة، وعند مسجد درب الحجر نُصب قد بُني عليه مسجد صغير، يعبده المشركون، يسَّر الله كسره" (ص 382، 383). وذكر ما كان يقوم به أهل السماع في زمنه في المسجد الأقصى ومسجد الخيف بمنى والمسجد الحرام، فقال: "ومن أعظم المنكرات تمكينهم من إقامة هذا الشعار الملعون هو [أي السماع] وأهلُه في المسجد الأقصى عشيَّةَ عرفة، ويقيمونه أيضًا في مسجد الخيف أيام منًى، وقد أخرجناهم منه بالضرب والنفي مرارًا. ورأيتهم يقيمونه بالمسجد الحرام نفسه والناسُ في الطواف، فاستدعيتُ حزبَ الله وفرَّقنا شَمْلَهم. ورأيتهم يقيمونه بعرفات، والناس في الدعاء والتضرع والابتهال والضجيج إلى الله، وهم في هذا السماع الملعون باليراع والدفّ والغناء" (ص 411، 412). وذكر تصنيف شيخ الإسلام ابن تيمية في ردّ المنطق كتابين فقال: "وآخر من صنَّف في ذلك شيخ الإسلام ابن تيمية، ألَّف في ردّه وإبطاله كتابين: كبيرًا وصغيرًا، بيَّن فيه تناقضه وتهافته وفساد كثير من أوضاعه" (ص 1022).

تاريخ تأليفه

وذكر أيضًا من مؤلفات شيخه: "إبطال التحليل" (ص 479، 775) و"الجواب الصحيح لمن بدَّل دين المسيح" (ص 1139). واستفاد من كتبه الأخرى دون تسميتها، كما نبّهنا على ذلك في هوامش الكتاب. إضافة إلى هذه الشواهد الداخلية هناك من نقل عنه واقتبس منه نصوصًا توجد في الكتاب الذي بين أيدينا. وسيأتي ذكر بعضٍ منها في بيان أثر الكتاب في المؤلفات اللاحقة. * تاريخ تأليفه: إن أقدم النسخ التي وصلت إلينا من الكتاب كُتبت سنة 738 في حياة المؤلف، وبما أن أغلب كتبه ألَّفها بعد وفاة شيخه سنة 728، فيكون تأليفه لهذا الكتاب بين هاتين السنتين. وقد ألَّف في هذه الفترة بعض كتبه التي أشار إليها هنا، مثل: "مفتاح دار السعادة" و"شفاء العليل" و"الصواعق المرسلة" و"إعلام الموقعين" و"الإعلام باتساع طرق الأحكام". ويُشكل عليه أنه ذكر فيه كتابه الكبير في السماع الذي ألَّفه سنة 740 ردًّا على سؤال وُجِّه إليه وإلى غيره من العلماء (¬1). فإما أنه يقصد هنا كتابًا آخر ألَّفه قبل سنة 738 أو أنه يشير إلى كتابه المعروف في السماع الذي جمع مادته ولم يكمله قبل هذه السنة، ولكنه أخرجه بمناسبة استفتائه في هذا الموضوع سنة 740. وهذا الاحتمال هو الراجح، فالوصف المذكور في "الإغاثة" لكتابه الكبير في السماع ينطبق على الكتاب الموجود. وكثيرًا ما يشير ابن القيم وغيره من المؤلفين في كتبهم إلى مؤلفاتهم التي تكون في طور الإعداد والتأليف، ولم يتمكنوا من نشرها وإخراجها للناس إلّا بعد مدة. ¬

_ (¬1) انظر مقدمة "الكلام على مسألة السماع" (ص 22).

موضوعاته ومباحثه

* موضوعاته ومباحثه: رتَب المؤلف كتابَه على ثلاثة عشر بابًا: 1 - في انقسام القلوب إلى صحيح وسقيم وميت. 2 - في ذكر حقيقة مرض القلب. 3 - في انقسام أدوية أمراض القلب إلى طبيعية وشرعية. 4 - في أن حياة القلب وإشراقه مادة كل خير فيه، وموته وظلمته مادة كل شر وفتنة فيه. 5 - في أن حياة القلب وصحته لا تحصل إلّا بأن يكون مدركًا للحق مريدًا له مُؤثِرًا له على غيره. 6 - في أنه لا سعادة للقلب ولا لذة ولا نعيم ولا صلاح إلّا بأن يكون إلهه هو معبوده وأحبَّ إليه من كل ما سواه. 7 - في أن القرآن الكريم متضمن لأدوية القلب وعلاجه من جميع أمراضه. 8 - في زكاة القلب. 9 - فىِ طهارة القلب من أدرانه وأنجاسه. 10 - في علامات مرض القلب وصحته. 11 - في علاج مرض القلب من استيلاء النفس عليه. 12 - في علاج مرض القلب بالشيطان. 13 - في مكايد الشيطان التىِ يكيد بها ابنَ آدم.

وقد ذكر المؤلف أن هذا الباب الأخير هو الذي وضع الكتاب لأجله، ولذلك توسَّع فيه كثيرًا، واستقصى جميع المكايد التي يكيد بها الشيطان الإنسانَ، والمصايد التي يصيده بها. والأبواب السابقة تعتبر مدخلًا وتمهيدًا لهذا الباب، وكلّها لا تزيد على ثُمن الكتاب، والبقية في تفصيل الباب الثالث عشر المعقود لذكر مصايد الشيطان. وإذا استعرضنا الموضوعات التي تناولها فيه نجد أنها تشتمل أولًا على فصول مختصرة ذكر فيها أنواعًا من مكايده، وهي: - كيده للإنسان أنه يورده الموارد ويُخيِّل إليه أن فيها منفعته، ثم يُصدِره المصادر التي فيها عطبه، ويتخلى عنه ويُسلِمه، ويقف يشمت به ويضحك منه. - من كيده: أنه يُخوِّف المؤمنين من جنوده وأوليائه، فلا يجاهدونهم ولا يأمرونهم بالمعروف ولا ينهونهم عن المنكر. - من مكايده: أنه يسحر العقل دائمًا، ولا يسلم من سحره إلّا من شاء الله، فيزيِّن له الفعل الذي يضرُّه حتى يخيّل إليه أنه من أنفع الأشياء، وينفّر من الفعل الذي ينفعه حتى يخيّل إليه أنه يضره. - أول مكايده لآدم وحواء حتى أخرجهما من الجنة. - من كيده: أنه إذا رأى الغالب على نفس الإنسان قوة الإقدام وعلوّ الهمة أخذ يقلِّل عنده المأمور به ويوهمه أنه لا يكفي، وإذا رأى الغالب عليه الإحجام والانكفاف أخذ في تثبيطه وإضعاف همته، وثقَّله عليه فهوَّن عليه تركَه.

- من حيله ومكايده: الكلام الباطل والآراء المتهافتة والخيالات المتناقضة. - من كيده: أنه ألقى على ألسنة المتكلمين أن كلام الله ورسوله ظواهر لفظية لا تفيد اليقين. - من كيده: ما ألقاه إلى جهّال المتصوفة من الشطح والطامّات، وأبرزه لهم في قالب الكشف، وأوحى إليهم أن وراء العلم طريقًا إن سلكوه أفضى بهم إلى كشف العيان، وأغناهم عن التقيد بالسنة والقرآن. - من مكايده: أن يدعو العبد بحسن خلقه وطلاقته إلى أنواع من الآثام والفجور. - من مكايده: أنه يأمر بإعزاز النفس وصونها حيث يكون رضا الله في إذلالها وابتذالها. - من كيده: أن يأمر الرجل بانقطاعه في مسجد أو رباط أو زاوية أو تربة، ويقول له: متى خرجتَ تبذَّلتَ للناس، وسقطت من أعينهم وذهبت هيبتك من قلوبهم. - من كيده: أنه يُغرِي الناس بتقبيل يده والتمسح به والثناء عليه حتى يرى نفسه ويُعجبه شأنها. - من كيده: أنه يحُسِّن إلى أرباب التخلي والزهد والرياضة العملَ بهاجسِهم دون تحكيم أمر الشارع. - من كيده: أمرهم بلزوم زيّ واحد، ولِبْسة واحدة، وهيئة ومِشية معينة، وشيخ معين، وطريقة مخترعة.

وبعد ما انتهى المؤلف من هذه الفصول المختصرة انتقل إلى تفصيل الكلام حول بعض المكايد التي كاد بها الشيطان بعض الفرق والطوائف من الناس، والتي كان ضررها عظيمًا، ومظاهرها موجودة في كل مكان. وقد ردَّ على جميع الشبه التي تعلَّق بها تلك الفرق والجماعات وبيَّن لهم الصراط المستقيم بمقابل الانحرافات والضلالات التي وقعوا فيها. وفيما يلي ذكر هذه المكايد التي أطال الكلام حولها من جوانب مختلفة. - كيده للجهَّال بالوسواس في أمر الطهارة والصلاة، حتى ألقاهم في الآصار والأغلال، وأخرجهم عن اتباع السنة. وردَّ المؤلف على جميع ما احتجّ به الموسوسون. - من أعظم مكايده التي كاد بها أكثر الناس: الفتنة بالقبور وتعظيمها والغلوّ فيها وفي أهلها، وبناء المساجد والقباب وإيقاد السرج عليها، وذكر الأمور التي أوقعتهم في ذلك. - من مكايده: السماع والغناء بالآلات المحرمة وبيان أسمائه وأنواعه، وذكر الأحاديث الواردة في تحريمه. - من مكايده: مكيدة التحليل الذي لعن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فاعلَه، وشبَّهه بالتيس المستعار. وبيان ما أوقع الناس في مصيبة التحليل الملعون، ومبحث الطلاق الثلاث هل تقع ثلاثًا أم واحدةً؟ - من مكايده: الحيل التي تتضمن تحليلَ ما حرَّم الله، وإسقاطَ ما فرضَه، ومضادَّته في أمرِه ونهيه. وأمثلة من الحيل التي يتخلَّص بها من مكر الغير والغدر به. وبيان أن الله أغنانا بما شرعه ويسَّره من الدين عن ارتكاب طرق المكر والخداع والاحتيال. وذكر أنواع الحيل وحكمها في الشرع.

- من مكايده: ما فتن به عشَّاق الصور، وما يلقَون بسببه من عذاب وشَقاء في الدنيا والآخرة. - كيد الشيطان لنفسه ثم - كيده للأبوين ثم - كيده لبني آدم. - كيده لعبَّاد الأصنام ومنكري البعث. ونشأة عبادة الأصنام والشمس والقمر، وسبب عبادتها. - كيده لعبَّاد النار والماء والحيوان والملائكة. - كيده للثنوية القائلين بأن الصانع اثنان: إله الخير (وهو النور)، وإله الشر (وهو الظلمة). - كيده للصابئة، وبيان أصل دينهم وفِرقهم. - تلاعب الشيطان بالدهرية الذين عطَّلوا المصنوعات عن صانعها. - ضلال الفلاسفة بسبب التعطيل والشرك وجحد النبوات. - إفساد النصارى لدين عيسى عليه السلام بإدخال الفلسفة وعبادة الصور والقول باتحاد الأب والابن وروح القدس. وذكر شيء من تاريخهم وضلالاتهم، وتلاعب الشيطان بهم. - تلاعب الشيطان بالأمة الغضبية (اليهود)، وذكر شيء من ضلالاتهم. وبهذا ختم المؤلف الكتابَ، وقال في آخره: "فهذه فصول مختصرة في كيد الشيطان وتلاعبه بهذه الأمة (أي اليهود)، يعرف بها المسلم الحنيف قَدْر نعمة الله عليه، وما منَّ به عليه من نعمة العلم والإيمان، ويهتدي بها من أراد الله هدايته، ومِن الله التوفيق والإرشاد إلى سواء الطريق".

منهج المؤلف فيه

* منهج المؤلف فيه: يتفق منهجه في هذا الكتاب مع سائر كتبه من حيث الاحتجاج بنصوص الكتاب والسنة وآثار السلف من الصحابة والتابعين والأئمة، وحسن الترتيب والتنظيم للمادة العلمية، وقوة البيان وعذوبة اللفظ، والتفصيل والإيضاح للموضوع الذي يتناوله، وذكر الأمثلة الكثيرة والوجوه المتعددة لتأييد الفكرة أو رفضها، والتنويه ببعض الأبحاث الجليلة التي ينفرد بها الكتاب (¬1)، وتكرار بعض الموضوعات في عدد من مؤلفاته، والاهتمام بعلاج أمراض المجتمع في أخلاقه وسلوكه وعقيدته. هذه السمات العامة التي تميزت بها كتب ابن القيم يلاحظها القارئ في الكتاب الذي بين يديه. وفيه بعض المباحث التي كرَّرها وأعاد ذكرها في أكثر من كتاب، ومن أمثلتها: مبحث السماع، فقد ألَّف فيه كتابًا مستقلًّا كما أشار إليه هنا، وتكلم عليه في "مدارج السالكين" (1/ 481 - 505، 2/ 407 - 416) وفي الكتاب الذي بين أيدينا (ص 400 - 473). وكان قصده يختلف في كل كتاب، ويأتي في كل موضع بفوائد جديدة (¬2). ¬

_ (¬1) ذكر المؤلف فصلًا في أسباب ومشخصات مرض البدن والقلب، ثم قال: "وذاكرتُ مرةً بعضَ رؤساء الطب بمصر بهذا، فقال: والله لو سافرتُ إلى المغرب فىِ معرفة هذه الفائدة لكان سفرًا قليلًا، أو كما قال" (ص 23). وقال في تمهيد الباب الثاني عشر في علاج مرض القلب بالشيطان: "هذا الباب من اْهم أبواب الكتاب وأعظمها نفعًا، والمتأخرون من أرباب السلوك لم يعتنوا به اعتناءهم بذكر النفس وعيوبها وآفاتها، فإنهم توسَّعوا في ذلك وقصَّروا في هذا الباب ... " (ص 155). (¬2) انظر مقدمة "الكلام على مسألة السماع" (ص 24 - 32).

وكذلك موضوع الحِيل وأحكامها، فقد تكلم عليه هنا (ص 581 - 836)، وتوسَّع فيه كثيرًا في "إعلام الموقعين" (3/ 171 - 415، 4/ 1 - 117). وهو معذور في هذا البسط والتكرار، لأنه وجد لدى المتأخرين من أهل المذاهب فتح أبواب الحيل على دين الله وشرعه، واستحلال محارمه، وانتهاك حرماته، وارتكاب نواهيه، فكان من واجب البلاغ والتبصير بالدين أن يعالج المؤلف هذا المرض الفتَّاك، وتلك المخادعات التي أخرجها أناسٌ باسم دين الله وشرعه، والشرع منها براء (¬1). وقد ذكر المؤلف في نهاية هذا المبحث هنا (ص 835 - 836) عذره في ذلك، فقال: "لعلك تقول: قد أطلتَ الكلام في هذا الفصل جدًّا وقد كان يكفي الإشارة إليه. فيقال: بل الأمر أعظم مما ذكرنا، وهو بالإطالة أجدر، فإن بلاء الإسلام ومحنته عظمت من هاتين الفرقتين: أهل المكر والمخادعة والاحتيال في العمليات، وأهل التحريف والسفسطة والقرمطة في العلميات، وكل فساد في الدين -بل والدنيا- فمنشؤه من هاتين الطائفتين. فبالتأويل الباطل قُتِل عثمان رضي الله عنه، وعاثت الأمة في دمائها، وكفَّر بعضُها بعضًا، وتفرقت على بضع وسبعين فرقة، فجرى على الإسلام من تأويل هؤلاء وخداع هؤلاء ومكرِهم ما جرى .... ". وبحث المؤلف أيضًا مسألة الطلاق الثلاث هنا (ص 499 - 581)، وفي "زاد المعاد" (5/ 241 - 271) و"إعلام الموقعين" (3/ 41 - 62) و"الصواعق المرسلة" (2/ 619 - 628) و"تهذيب السنن" (3/ 124 - 129). ¬

_ (¬1) "ابن قيم الجوزية" للشيخ بكر أبو زيد (ص 126).

أهميته

وعذره في ذلك (¬1) أنه حُبِس لأجلها وامتُحن وأوذي في ذلك، فإن الفتوى بجعل الطلاق الثلاث بلفظ واحدٍ يقع طلقة واحدةً أمر مستنكر لدى جمهور العلماء، فضلًا عن طلاب العلم وعامة الناس، إذ هم يكادون يُطبقون على أنها تقع ثلاثًا لا واحدةً، فلا عجب إذا رأينا المؤلف يكرر الحديث عن هذا الموضوع، ويزيده في البسط والبيان ليظهر ما يعتقده دينًا وشرعًا، مؤيدًا له بشتى وجوه الأدلة من الكتاب والسنة والمعنى واللغة، مستفيدًا من كلام شيخه في مواضع مختلفة. وهناك موضوعات أخرى مثل عشق الصور وأمراض القلوب وشفائها، تكلم عليها هنا وفي غيره من مؤلفاته، وفي كلٍّ منها ما ليس في الآخر، وهذه طريقته في جميع كتبه، فلا نتوسع بالحديث عنها. * أهميته: خصّص المؤلف هذا الكتاب للتحذير من مصايد الشيطان ومكايده، وتناول كثيرًا من الأمراض القلبية والاعتقادات الفاسدة وضلالات الفرق والطوائف بالبحث والدراسة، وتوسَّع في معالجتها وردّ الشُّبه التي يتعلق بها رؤوس البدع والضلال. ويعتبر هذا الكتاب من أفضل الكتب التي أُلِّفت في بابه، ومن أهمّ مؤلفات ابن القيم رحمه الله، وقد أثنى عليه العلماء وتداولوه فيما بينهم، ونظموا في مدحه شعرًا وفضَّلُوه على غيره من الكتب في هذا الباب، وحثُّوا طالب العلم على قراءته واقتنائه، كما سيأتي ذكره في وصف النسخ. وقد قال العلامة محمود شكري الآلوسي في التعريف به: "هو كتاب ¬

_ (¬1) الكلام الآتي من المصدر السابق (ص 128).

مشهور من كتب السنة، أودعه مؤلفه رحمه الله مهمات المطالب، وأبطل به حبائل الشيطان ومصايده، ودسائسه ومكايده، فلا بِدْعَ أن نفرتْ منه جنوده، واضطربت منه أعوانه وأولياؤه، والله لا يصلح عمل المفسدين" (¬1). وقد سبق المؤلفَ إلى التأليف في هذا الباب العلامةُ ابن الجوزي بكتابه المشهور "تلبيس إبليس"، ولكن منهجه يختلف عن منهج "الإغاثة"، وإن اشتركا في بعض الموضوعات والمباحث. فقد قسَّم ابن الجوزي كتابه إلى ثلاثة عشر بابًا: الأربعة الأولى منها في الأمر بلزوم الجماعة، وذم البدع والمبتدعين، والتحذير من فتن إبليس ومكايده، وبيان معنى التلبيس والغرور. وبقية الأبواب في ذكر تلبيس إبليس في العقائد والديانات، وعلى العلماء في فنون العلم، وعلى الولاة والسلاطين، وعلى العبَّاد والزهّاد والصوفية، وعلى المتدينين، وعلى العوامّ. وختمه بذكر تلبيسه على الكلّ بتطويل الأمل. وقد خصَّ الباب العاشر لذكر تلبيسه على الصوفية وأطال فيه بحيث أصبح أكثر من نصف الكتاب في الرد عليهم (ص 161 - 378 من الطبعة المنيرية). أما "إغاثة اللهفان" فقد بدأه المؤلف بذكر أمراض القلوب وأدوائها وعلاجها، وتكلَّم عليها في اثني عشر بابًا من أصل ثلاثة عشر، وخصَّ الباب الأخير لذكر مكايد الشيطان التي يكيد بها بني آدم. وهذا الباب -الذي لأجله وضع الكتاب كما ذكر المؤلف- قسَّمه إلى فصول كثيرة، تناول فيها ¬

_ (¬1) غاية الأماني في الرد على النبهاني (2/ 5).

أنواعًا من المكايد العامة بالبحث والدراسة أولًا، ثم انتقل إلى تفصيل الكلام حول بعض المكايد التي تختص ببعض الطوائف والفرق، فتكلم على الوسوسة والموسوسين، والفتنة بالقبور وتعظيمها، والسماع والغناء بالآلات المحرمة، ومكيدة التحليل، ومبحث الطلاق الثلاث، والحيل وأنواعها، وعشق الصور، وعبادة الأصنام والكواكب والنار والملائكة، وضلال الثنوية والصابئة والدهرية والفلاسفة، وختم الكتاب بذكر تلاعب الشيطان بالنصارى واليهود. ولم ينقل ابن القيم من كتاب ابن الجوزي إلَّا في مواضع معدودة (انظر ص 233، 297)، وكل منهما له منهج خاص وأسلوب يتميز به، وقد اهتم ابن الجوزي بذكر كثير من الأحاديث والآثار بالأسانيد، وردّ على الصوفية ردًّا مشبعًا، ومنها مذهبهم في السماع والغناء، ولم يتوسع في ذكر الفتنة بالقبور والرد على النصارى واليهود كما توسع فيها ابن القيم. وهكذا يكون كل منهما قد تناول ما ليس عند الآخر بأسلوبه المعروف. ويتميز كتاب "الإغاثة" بأنه تناول أمراض القلوب وشفاءها، وهو موضوع محبب لدى ابن القيم، تطرق إليه في عدد من مؤلفاته. وتوسَّع كذلك في موضوع الوسوسة والموسوسين والتحليل والمحلِّلين، والحيل وأصحابها، وعشق الصور وغير ذلك بحيث أصبح كتابه مرجعًا مهمًّا لدراسة هذه الموضوعات، واعتمد عليه المؤلفون فيما بعد، ونقلوا عنه فقرات كثيرة، وقاموا باختصاره وتهذيبه وتقريبه، كما سيأتي ذكره إن شاء الله.

موارده

* موارده: نقل المؤلف في الكتاب من مصادر متنوعة في الحديث والفقه والتفسير (¬1) واللغة والأدب والتاريخ والتصوف وغيرها، ولم أقصد هنا سردها وبيان مواضع النقل منها، فإن فهرس الكتب الواردة في النص وفهرس المؤلفين من الأعلام يكشفان عن جميع المواضع. وأريد هنا بيان مراجع بعض الفصول والأبواب حسب ترتيب الكتاب، ليكون القارئ على بيِّنة من الأمر عندما يقرأ في موضوع، ويعرف مصدر المؤلف فيه، فإنه لا يُصرِّح أحيانًا باسم الكتاب أو المؤلف، وينقل عنه صفحات متتالية. أما ما يتعلق بأمراض القلوب وعلاجها في الأبواب الأولى من الكتاب (ص 1 - 174) فلم يعتمد فيها على مصدر معين، بل استفاد من كتب الحديث والتفسير والفقه والزهد واللغة عمومًا، وأكثر من النقل عن كتاب "الزهد" للإمام أحمد، و"ذم الدنيا" و"محاسبة النفس" لابن أبي الدنيا. واستفاد في الباب السادس منه من كلام شيخه شيخ الإسلام (في مجموع الفتاوى 1/ 21 - 33) دون أن يصرِّح بذلك، على منهجه المعروف في كتبه. وفي مبحث الوسواس وذم الموسوسين اعتمد على كتاب "ذم الوسواس" لابن قدامة، وصرح باسمه (ص 231) ونقل عنه معظم مباحثه ابتداءً من خطبته، مع تعليقات وفوائد زادها على كلامه. واعتمد في مبحث الفتنة بالقبور وتعظيمها وعبادتها على كلام شيخ ¬

_ (¬1) كان جلُّ اعتماده في التفسير على "البسيط" للواحدي (ت 468)، فقد نقل منه أكثر أقوال المفسرين في تفسير الآيات. أفادني بذلك أخي المحقق الدكتور محمد أجمل الإصلاحي، وقابل نصوص الكتاب عليه، فجزاه الله خيرًا.

الإسلام ابن تيمية في "اقتضاء الصراط المستقيم" وغيره من كتبه وفتاواه، وصرَّح باسم شيخه في بعض المواضع (ص 334، 348، 350، 391). ونقل فصلًا لأبي الوفاء ابن عقيل (ص 352)، وهو موجود بنصه في "تلبيس إبليس" (ص 402). ونقل عن أبي محمد المقدسي -وهو ابن قدامة- (ص 356)، وكلامه في "المغني". وفي مبحث الأنصاب والأزلام نقل عن كتابي أبي بكر الطرطوشي وأبي شامة في البدع (ص 381). ونقل في موضوع السماع والغناء عن كتاب أبي بكر الطرطوشي في تحريم السماع (ص 403، 411)، وعن "روضة الطالبين" للنووي وفتاوى ابن الصلاح (ص 407) وغيرها. وشرحَ أسماء السماع والغناء، وأورد في أثنائها أحاديث كثيرة في ذم الغناء نقلًا عن كتاب "ذم الملاهي" و"مكايد الشيطان" لابن أبي الدنيا (ص 434، 435، 437، 438، 443، 459 - 471)، كما نقل عن "أحكام الملاهي" لأبي الحسين ابن المنادي (ص 438)، وردَّ على ابن حزم في تضعيفه لحديث المعازف من وجوه (ص 456 - 459). وكان جلُّ اعتماده في مبحث التحليل على كتاب شيخ الإسلام "بيان الدليل على إبطال التحليل"، وقد صرَّح بالاستفادة منه في مواضع (ص 479، 483، 490، 492). وكذلك في مبحث الطلاق الثلاث (ص 499 - 581) استفاد من كلام شيخه في كتبه وفتاواه المعروفة، ولخَّصها أحسن تلخيص، بحيث أصبح ما ذكره ابن القيم في "الإغاثة" عمدة لمن جاء بعده وبحث في هذه المسألة. وفي موضوع الحيل أيضًا كان أكثر اعتماده على كتاب شيخه في إبطال

التحليل، وقد صرَّح بالنقل عنه كثيرًا، واستفاد أيضًا من كتاب ابن بطَّة في إبطال الحيل (ص 587، 596، 602). وفي مبحث عشق الصور والكلام على المحبة اعتمد على كلام شيخه أحيانًا (ص 872، 874، 888)، وقد فصَّل الكلام على هذا الموضوع في كتابه "روضة المحبين" الذي ألَّفه بعد "الإغاثة"، فاستقصى البحث فيه من جميع جوانبه. وكان كتاب "الأصنام" لابن الكلبي هو المصدر الرئيسي للمؤلف عند الحديث عن عبادة الأصنام، فقد نقل عنه كثيرًا وأحال عليه (ص 957 وما بعدها)، كما استفاد من سيرة ابن إسحاق أيضًا في هذا الموضوع، فاقتبس منها نصوصًا مهمة (ص 962، 968 - 970). وعند الحديث عن الثنوية والصابئة والدهرية والفلاسفة اعتمد على كتب الملل والنحل، فنقل عن كتاب "الفصل" لابن حزم و"الملل والنحل" للشهرستاني (ص 1015)، وذكر أرباب المقالات كالأشعري وأبي عيسى الوراق والنوبختي (ص 1021، 1027)، وكان جلُّ اعتماده على كتاب "الملل والنحل" للشهرستاني عند ذكر أقوال الفلاسفة وآرائهم (ص 1027 - 1033)، ولكنه لم يُصرِّح بذلك، إلّا أنه ذكر كتاب "المصارعة" للشهرستاني و"مصارعة المصارعة" للنصير الطوسي، وقال إنه وقف عليهما (ص 1132). وكان مصدره الرئيسي في بيان تاريخ النصارى ومجامعهم وفرقهم: "تاريخ" سعيد بن البطريق النصراني، وقد صرَّح بأنه نقل كل ذلك من كتابه (ص 1069). وفي ذكر تلاعب الشيطان باليهود اعتمد اعتمادًا كبيرًا على

أثره في الكتب اللاحقة

كتاب "بذل المجهود في إفحام اليهود" للسموأل بن يحيى المغربي (ت 570)، وجميع النصوص المقتبسة من التوراة وغيره من كتبهم كان بواسطة هذا الكتاب، ولم يصرح المؤلف بذلك. ونقل كلام شيخه من "الجواب الصحيح لمن بدَّل دين المسيح" في موضوع التبديل والتحريف في التوراة والإنجيل (ص 1136 - 1139) وأن الذبيح إسماعيل (ص 1139 - 1142). هذا استعراض بريع لبعض المصادر الرئيسية التي كانت أمام المؤلف إلى جانب المصادر الأخرى في فنون مختلفة، ولكنه لم يقتصر على النقل منها، بل استدرك عليها كثيرًا، وأضاف إليها من آرائه وتحقيقاته ما لا يوجد في مصدر آخر، واستنبط استنباطات دقيقة من الآيات والأحاديث، وحقق القول في بعض الموضوعات وتوسَّع فيها بما لا نجده عند غيره. * أثره في الكتب اللاحقة: كان لهذا الكتاب أثر ملموس في الكتب اللاحقة، حيث اختصره عدد من المؤلفين، واعتمد عليه آخرون ونقلوا عنه في المباحث التي اشتهر بها، واستدرك عليه بعضهم فصححوا بعض المعلومات الواردة فيه. وأَقدَم مَن نقل عنه دون الإشارة إلى الكتاب: ابن مفلح (ت 803) في كتابه "مصائب الإنسان من مكايد الشيطان" (ص 19 - 25) (¬1)، كما يظهر بمقارنته مع كتاب ابن القيم (ص 161 - 168). ¬

_ (¬1) أفادني بهذا المصدر وببعض المصادر الأخرى: فضيلة الشيخ المحقق سليمان العمير، جزاه الله خيرًا.

وممن نقل عنه: ابن النحاس الدمشقي (ت 814) في كتابه "تنبيه الغافلين" (ص 305، 306، 307، 520)، كما نقل عنه في مواضع (ص 308، 234، 522)، ولم يسمّه. وممن نقل عنه وعقَّب عليه الحافظ ابن حجر (ت 852) في "لسان الميزان" (7/ 518) في ترجمة محمد بن مقاتل الرازي، فقد بيَّن وهم المؤلف في ذلك في "الإغاثة" (ص 563)، ونقل عنه أيضًا في "فتح الباري" (6/ 490) في معنى قول عيسى عليه السلام: "آمنت بالله وكذبت عيني"، وتعقبه. وذكره يوسف بن عبد الهادي (ت 909) في "سير الحاثّ" (ص 112)، ونقل عن جده لأمه جمال الدين الإمام (ت 798) أنه نقل في أحد كتبه عن ابن القيم في "إغاثة اللهفان" وسماه "ذم مصايد الشيطان"، وهذا النقل في مسألة ندم عمر رضي الله عنه على إمضاء الثلاث، انظر "سير الحاث" (ص 152). ونقل عنه الحجاوي (ت 968) في "الإقناع" (1/ 367، 368) في موضوع هدم القباب التي على القبور، ونقل هذا النصّ أيضًا: مرعي بن يوسف الكرمي (ت 1033) في "غاية المنتهى" (1/ 251) ومنصور البهوتي (ت 1051) في "كشاف القناع" (2/ 139) ومصطفى الرحيباني (ت 1243) في "مطالب أولي النهى" (1/ 912). واستفاد منه المناوي (ت 1031) في "فيض القدير" (5/ 274) حيث نقل كلام ابن القيم دون أن يسمي المصدر، وهو في "الإغاثة" (ص 342). واقتبس منه ابن العماد الحنبلي (ت 1089) في "شذرات الذهب" (5/ 339 - 340) كلام ابن القيم في النصير الطوسي هنا (ص 1032).

واقتبس منه أيضًا في "معطية الأمان من حنث الأيمان" (ص 254) مسألة تعليق الطلاق بوقت. ونقل عنه المنقور (ت 1125) نصوصًا عديدة في كتابه "الفواكه العديدة في المسائل المفيدة" (1/ 39، 256 - 257، 396، 2/ 74 - 75). ونقل عنه الأمير الصنعاني (ت 1182) في "توضيح الأفكار" (1/ 145) تصحيح حديث المعازف، كما نقل عنه في خاتمة كتابه "الإنصاف في حقيقة الأولياء وما لهم من الكرامات والألطاف" (ص 113 - 116) في موضوع تعظيم القبور وأنه مأخوذ من عبَّاد الأصنام. وسيأتي أن السفّاريني (ت 1188) كان عنده نسخة من الكتاب، وظهر أثر ذلك في مؤلفاته، فقد نقل عنه نصوصًا كثيرة في مبحث السماع في كتابه "غذاء الألباب" (1/ 148، 153، 160 - 163، 167، 168، 169 - 170)، وذكره من المصادر الرئيسية في مقدمته (1/ 11). ونقل عنه أيضًا مكيدة التحليل في "كشف اللثام بشرح عمدة الأحكام" (5/ 346 - 351)، وذكر انتصار ابن القيم لوقوع الطلاق الثلاث واحدةً في "الإغاثة" وغيره من مؤلفاته (5/ 454). أما النواب صديق حسن خان القنوجي (ت 1307) فقد لخَّص في كتابه "الدين الخالص" (2/ 403 - 487) من مبحث عشق الصور إلى تلاعب الشيطان باليهود في نهاية الكتاب في "الإغاثة" (ص 836 - 1151). وقال في آخره: "انتهى من إغاثة اللهفان للحافظ ابن القيم رحمه الله تعالى، ملخَّصًا". وآخر من اطلعتُ عليه نقل من الكتاب قبل سنة 1297: نعمان بن محمود الآلوسي (ت 1317) في كتابه "جلاء العينين في محاكمة

الأحمدين" (ص 193) في مبحث الاجتهاد. أما الذين قاموا باختصاره أو استلُّوا فصلًا منه بشيء من التلخيص والتهذيب فهم كثير، وفيما يلي ذكر هذه المختصرات التي وقفتُ عليها مع بيان مخطوطاتها وطبعاتها: 1 - اختصر منه محمد بن بير علي البركوي (ت 981) ما يتعلق بزيارة القبور، وتوجد منه نسخ بعناوين مختلفة في المكتبات الآتية: - برلين [2657/ 9]. - برنستون [4113]، (ق 28 ب - 155 أ، من القرن الثاني عشر)؛ بلا نسبة. - دار الكتب المصرية [13 م مجاميع] (ق 149 - 191، كتبت سنة 1121). انظر فهرس الخديوية (7/ 519)، الفهرس الثاني (1/ 300). - التيمورية بدار الكتب [174/ 6 مجاميع]. انظر فهرس التيمورية (4/ 54). - التيمورية بدار الكتب [53 عقائد]. انظر فهرس التيمورية (4/ 123). - العثمانية بحلب [818]. - برنستون [3092] (ق 20 ب - 34 أ، سنة 1133) ونسب فيها إلى سنان الدين يوسف الأماسي. - دار الكتب المصرية [25765 ب] (ق 1 - 46، دون تاريخ، وبلا نسبة إلى المؤلف). انظر الفهرس الثالث (3/ 113).

وطبع بعنوان "زيارة القبور" طبعاتٍ عديدة، أولاها بهامش "شرح شرعة الإسلام" (ص 293 - 360) ط. إستانبول: مطبعة الإقدام، 1326. 2 - "تبعيد الشيطان بتقريب إغاثة اللهفان" لهاشم بن يحيى الشامي (ت 1158)، مخطوط في ندوة العلماء بالهند [561]، وفي الخزانة العامة بالرباط (206 ورقة). نقل عنه صاحب "صيانة الإنسان": ص 259. وعنوانه في هدية العارفين (2/ 504) وذيل كشف الظنون (2/ 598): "موارد الظمآن المختصر من إغاثة اللهفان". 3 - "مختصر إغاثة اللهفان ... "، اختصره: عبد الله بن عبد الرحمن أبا بطين (ت 1282)، ط 1. الرياض: دار اليمامة، 1392/ 1972 م، 444 ص، ط 2. الرياض: مطابع الدرعية، 1409/ 1989 م، 442 ص. 4 - "جذوة مباركة من الإغاثة"، ضمن "الجامع المفيد المبني على بيان تحقيق التوحيد" تأليف: علي عبد الله الفهد الصقعبي، بريدة: دار العليا، 1389/ 1969 م. 5 - "موارد الأمان المنتقى من إغاثة اللهفان" بقلم: علي بن حسن بن علي بن عبد الحميد الأثري، ط 5. الدمام، الرياض: دار ابن الجوزي، 1415/ 1995 م، 502 ص. 6 - منه "أقسام الحيل ومراتبها"، مخطوط في جامعة الملك سعود بالرياض.

7 - "الوسواس الخناس" استل من كتاب إغاثة اللهفان، ط. بيروت: دار القلم، بدون تاريخ. 8 - "كيف تتخلص من الوسوسة ومكايد الشيطان"، راجعه وعُني بنشره: أحمد بن سالم بادويلان، الرياض: دار طويق، 1415/ 1994 م، 95 ص. 9 - استخرج منه صالح أحمد الشامي "طبّ القلوب"، ط. دمشق: دار القلم، 1422/ 2001 م، 247 ص. 10 - استخرج منه سعيد هليل العمر "كشف الستور عن مكايد الشيطان لأهل القبور"، 47 ص. 11 - "رسالة في أحكام الغناء"، تحقيق: محمد حامد الفقي، ط. الرياض: دار طيبة، 1403، 48 ص. وطبعت أيضًا بعنوان "حكم الإسلام في الغناء" لابن القيم. 12 - "حكمة الابتلاء لابن قيم الجوزية" قدَّم له مروان كجك. نشر دار الأرقم، الكويت سنة 1406 هـ. جاء النص على أنه من كتاب إغاثة اللهفان في آخر الكتاب (ص 54). 13 - "أصول جامعة نافعة في البلاء والابتلاء، لابن قيم الجوزية" استله أشرف بن عبد المقصود. 14 - "رسالة في أمراض القلوب، تأليف الإمام الحافظ ... ابن قيم الجوزية"، نشر: دار طيبة سنة 1403 هـ. 15 - "مكايد الشيطان في الوسوسة وذم الموسوسين لابن القيم" نشر: مكتبة ابن تيمية، القاهرة سنة 1401 هـ.

وصف النسخ الخطية

16 - "الوسواوس الخناس، تأليف الإمام ... ابن قيم الجوزية" نشر: مكتبة التراث الإسلامي، مصر سنة 1984 م، نصوا على انتقائه من إغاثة اللهفان في آخر الكتاب (ص 156). الأرقام 12 - 16 مستفادة من مقدمة كتاب: الفروق الفقهية عند الإمام ابن قيم الجوزية، للدكتور سيد حبيب الأفغاني، طبعة مكتبة الرشد، 1429 هـ. 17 - "مختصر إغاثة اللهفان" لابن غانم المقدسي (ت 1004 هـ) مطبوع في مكتبة القرآن، بتحقيق إبراهيم محمد الجمل. وهذا مستفاد من مقدمة علي حسن الأثري (ص 9) على كتاب "إغاثة اللهفان". 18 - "مختصر إغاثة اللهفان" لأحمد بن عبد القادر الرومي (ت 1041). ذكره في "الأعلام" (1/ 153) نقلًا عن بروكلمان (¬1). * وصف النسخ الخطية: توجد من هذا الكتاب نسخ كثيرة في مكتبات العالم، بعضها كاملة وأخرى ناقصة، ومنها ما هي قطعة أو فصل من الكتاب. وقد حصلتُ على مصورات سبع نسخ منها، وفيما يلي وصفها: 1) نسخة العلامة عبد العزيز الميمني (= الأصل) هذه النسخة من المكتبة الخاصة للعلامة الميمني رحمه الله، والتي آلت مخطوطاتها إلى مكتبة جامعة السند (جام شورو) بحيدر آباد السند في ¬

_ (¬1) الأرقام (12 - 18) من إفادات فضيلة الشيخ سليمان العمير حفظه الله.

باكستان برقم [36335]. وهي أقدم نسخ الكتاب، حيث كُتِبت سنة 738 في حياة المؤلف، وجاء في آخرها بخط الناسخ: "وقد اتفق الفراغ من نسخه في يوم الأربعاء العشر الأول من شهر الله الحرام رجب المرجب سنة ثمان وثلاثين وسبع مئة الهجرية. والحمد لله أولًا وآخرًا ظاهرًا وباطنًا، وصلاته تترى على سيد المرسلين وإمام المتقين ورسول رب العالمين محمد المصطفى الأمين، وعلى جميع إخوانه من الرسل والنبيين، وعلى آله وصحبه أجمعين، وحسبنا الله ونعم الوكيل. على يد العبد الضعيف المحتاج إلى رحمة الله تعالى إبراهيم بن حاجي سليمان بن محمد بن محيي الدين غُفِر له ولوالديه". ولم أجد ترجمة الناسخ في المصادر التي رجعت إليها. والنسخة مصححة ومقابلة على الأصل كما تدلُّ عليه الدوائر المنقوطة والتصحيحات على هوامشها، وهي بخط نسخي جميل، والخطأ فيها نادر. وعدد أوراقها 177 ورقة، وفي كل صفحة منها 29 أو 30 سطرًا. وعلى صفحة الغلاف في الركن الأيسر فوق كُتِب بخط حديث: "إغاثة اللهفان". وكُتِبَ في وسط الصفحة بخط آخر: "ولبعضهم في مدح هذا الكتاب: إن شئتَ أن تنجو من الشيطانِ ... فالزَمْ كتابَ "إغاثة اللهفانِ" فيه شفاء القلبِ من أمراضهِ ... وهو الطريقُ إلى رضا الرحمنِ للهِ دَرُّ بَنانِ ناظمِ عِقْدِه ... كَمْ ضمَّ فيه مِن فريدِ جُمانِ حِكَمٌ هي الدرُّ المصفَّى لو تَرى ... عينٌ ويسمع من له أذنانِ ومواعظٌ تَسْبِي القلوبَ وتسلُب الْـ ... ألبابَ في لفظٍ ولُطْفِ معانِ فاعكُفْ عليه إذا أردتَ سعادة الدَّ (م) ... ارينِ في فضلٍ وفي إحسانِ

واستغْنِ عن زيدٍ وعمروٍ بالذي ... فيه ولا تأسَفْ على خوَّانِ وافْزَعْ إلى الله المهيمنِ ضارعًا ... فعسى يَجُود عليك بالغفرانِ" وتحت هذه الأبيات بخط آخر: "هذا الكتاب موقوف تحت نظر الفقير عثمان السندي تاب الله عليهم أجمعين". ولم أعرف عثمان المذكور، والخط يدل على أنه كان من القرن الثاني عشر أو الثالث عشر، والله أعلم. وفي النسخة خرم في موضعين، وذلك بفعل فاعل، فقد أسقط من الكتاب عمدًا مبحث الطلاق الثلاث (بعد الورقة 79 = ص 500 - 578 من المطبوع)، ومبحث الحيل (بعد الورقة 80 = ص 584 - 630). وكأن الشخص المذكور لم يعجبه كلام المؤلف في الموضعين، فأسقطه من النسخة. ومع هذا النقص الحاصل فيها فلم تفقد النسخة أهميتها وقيمتها؛ نظرًا لصحتها وندرة الأخطاء فيها، فكان الاعتماد عليها بالدرجة الأولى في إثبات النصّ، ثم الاستعانة بالنسخ الأخرى، واستكمال النقص منها. 2) نسخة جامعة برنستون [مجموعة جاريت B 317] (= م) هذه النسخة كُتبت سنة 790، وجاء في آخرها: "وافق الفراغ منه في يوم الجمعة ثالث يوم في شهر شعبان سنة تسعين وسبع مئة، وذلك بمدينة دمشق المحروسة على يد الفقير إلى الله تعالى المعترف بالتقصير الراجي عفوَ ربه القدير ريحان بن عبد الله الحنبلي، غفر الله له ولإخوانه من المسلمين، ولمن نظر فيه ودعا له بالمغفرة ولجميع المسلمين أجمعين، آمين يا ربَّ العالمين"،

ولم أجد ترجمة الناسخ في كتب تراجم الحنابلة وغيرها، ويبدو أنه من تلاميذ المؤلف، فقد كتب على صفحة العنوان "كتاب إغاثة اللهفان في مصايد الشيطان، تأليف شيخنا الإمام العالم العامل العلامة الحافظ ناصر السنة قامع البدعة شمس الدين أبي عبد الله محمد بن أبي بكر بن أيوب بن سعيد الزرعي الحنبلي إمام الجوزية، رحمه الله تعالى ورضي عنه بمنّه وكرمه، إنه جواد كريم رؤوف رحيم". وكانت هذه النسخة بحوزة عدد من الأشخاص كما أثبتوا أسماءهم على صفحة العنوان، ولكن بعضها لم تظهر بسبب الطمس، وأقدم هؤلاء أحد العلماء الشافعية في شهر ربيع الأول سنة 814، ولم يظهر اسمه، وهناك تملُّكٌ آخر كُتِب فيه: "مما ساقه التقدير إلى الفقير محمد منير بن مصطفى المعروف بكتخدارا، كتبه في 22 ل سنة 109". ولعل (ل) رمز لشهر ربيع الأول، وسنة 109 بعد الألف أي 1109. وهناك تملك آخر بدون تاريخ جاء فيه: "بتقدير الملك القدير قد انسلك في سِلك ملك تاج الدين الحقير عُفِي عنه". وهناك تملك رابع لم يظهر من كتابته إلّا القليل. وكتب أحد العلماء عليه: "طالعه ... "، ولم يظهر اسمه. والنسخة بخط نسخي جيد، وهي مصححة ومقابلة على الأصل، كما أشير إلى ما في نسخة أخرى من الكتاب برمز "خ"، وعلى هوامشها بعض التعليقات والفوائد بخط بعض القراء، وردّ أحد الأشاعرة على كلام المؤلف في بعض المواضع، وخاصة في موضوع علوّ الله وكونه بائنًا عن المخلوقات. ولم يعجبه أيضًا كلام المؤلف في الرد على المنطق، فعلق عليه بما يبيِّن فائدته.

وهذه النسخة تامة في 342 ورقة، وفي كل صفحة منها 21 سطرًا، وهي قريبة من الأصل، ولا تختلف عنه إلَّا قليلًا، وتكمل النقص وتسدّ الفراغ الذي فيه، وتصحح بعض الأخطاء، ولكنها لا ترقى إلى مستوى الأصل في الصحة والضبط. 3) نسخة كوبريللي [704] (= ك) هي بخط محمد بن إبراهيم البشتكي، وقد كتب في آخره: "انتهى هذا الكتاب، وعلقه لنفسه الفقير إلى عفو ربه محمد بن إبراهيم بن محمد الشهير بالبشتكي غفر الله له، والحمد لله أولًا وآخرًا وباطنًا وظاهرًا، حسبنا الله ونعم الوكيل". ولم يثبت تاريخ النسخ، وبما أن الناسخ توفي سنة 830، فالأغلب أنه كتب هذه النسخة في أواخر القرن الثامن أو أوائل التاسع. وعلى هذا فلا يصح ما ذُكر في فهرس المكتبة أنها كتبت سنة 750، فإن الناسخ وُلد سنة 748، كما في مصادر ترجمته (¬1). وهو المعروف ببدر الدين البَشْتكي، كان أديبًا شاعرًا مشهورًا بنسخ الكتب مع الإتقان والسرعة الزائدة، بحيث كان يكتب في اليوم خمس كراريس فأكثر، وربما يتعب فيضطجع على جنبه ويكتب، وكتب بخطه من المطولات والمختصرات لنفسه ولغيره ما لا يدخل تحت الحصر كثرةً، وكان خطه مرغوبًا فيه لغلبة الصحة عليه. ولكنه يكتب بخط التعليق بسرعةٍ، فتفوته بعض الكلمات والجمل، كما يظهر بمقابلة هذه النسخة على النسخ الأخرى. ¬

_ (¬1) تبصير المنتبه (2/ 807) والضوء اللامع (6/ 277) وشذرات الذهب (7/ 195) وتاج العروس (بشتك).

وعدد أوراق هذه النسخة 214 ورقة، في كل صفحة منها 23 سطرًا، وقد وصلتني مصورة هذه النسخة بعد الانتهاء من تحقيق الكتاب، فلم أستفد منها إلّا في مراجعة بعض المواضع التي اختلفت فيها النسخ اختلافًا كثيرًا. وأشكر أخي الدكتور عبد الله البراك على قيامه بتصوير هذه النسخة من تركيا وإرسالها إليَّ، فجزاه الله خيرًا. 4) نسخة "الكواكب الدراري" في الظاهرية [585] (= ظ) يحتوي مجلد من الكتاب الموسوعي "الكواكب الدراري" (لابن عروة الحنبلي) على نسخة من "إغاثة اللهفان"، في 237 ورقة بخطوط مختلفة، حيث تولىَّ نسخها مجموعة من النسَّاخ كلُّ واحدٍ منهم اختص بقسم منها، ولذلك يختلف عدد الأسطر في صفحاتها. ولم يثبت في آخرها تاريخ النسخ، ولعلها كتبت بين السنوات 826 - 830، ففيها نسخت أغلب مجلدات الكتاب الموجودة في دار الكتب الظاهرية بدمشق، وهذه النسخة تتفاوت في الصحة والجودة نظرًا لاختلاف النسَّاخ، وفيها سقط وتحريف في مواضع كثيرة منها، كما يظهر بمقابلتها على بقية النسخ. وكتب على صفحة الغلاف منها بخط حديث: "كتاب إغاثة اللهفان من مكايد الشيطان تأليف الإمام المحقق محمد بن القيم الحنبلي رحمه الله تعالى ورضي عنه". وعليها ختم دار الكتب الظاهرية. 5) نسخة تشستربيتي [3276] (= ش) هذه النسخة بخط نسخي جميل في 237 ورقة (¬1)، وفي كل صفحة ¬

_ (¬1) كُتب في آخر النسخة: "عدة ورق هذا الكتاب مئتين (كذا) وتسعًا وثلاثون (كذا) ورقة".

منها 23 سطرًا، كتبت سنة 984، كما جاء في آخرها: "وكان الفراغ من نَسخه يوم السبت ثالث عشرين (كذا) شعبان المبارك من شهور سنة أربع وثمانين وتسع مئة، بخط العبد الفقير إلى الله تعالى: علي بن أبي بكر بن عمر المقدسي، عفا الله عنه وغفر له ولوالديه ولجميع المسلمين، آمين يا رب العالمين". وعلى صفحة الغلاف عنوان الكتاب واسم المؤلف، وبجواره قيدُ تملك: "ملكه من فضل ربه ... عبد القادر بن الشيخ مصطفى التفال الحنبلي، عُفِي عنه بمنّه". وتحته بخط آخر: "بحمده تعالى في نوبة العبد الفقير إلى باب مولاه الغفار محمد بن محمد أبي الخير علي العطار، من تركة المرحوم الشيخ محمد الدكدكجي (¬1) في ربيع الآخر سنة 1132". وتحت عنوان الكتاب يوجد بخط الناسخ تعريف بالمؤلف والكتاب، ونصه: "الحمد لله، مصنّف هذا الكتاب رضي الله عنه له مصنفات نفيسة، منها: تفسير الفاتحة، ومنها: مفتاح دار السعادة، ومنها: تحصيل النشأتين وتكميل السعادتين (¬2)، ومنها: الكلم الطيب. وأنفسُ مصنفاته هذا الكتاب، وهو أشرف مصنفاته وأفضلها وأرفعها وأنفعها، وهو مما يُعلم بعلو مرتبته ورفع منزلته، وهو كتابٌ حلَّقَ بُزاةُ الهمم في جَوّ الطلب لِنَيلها منه الوطر، وجالت جيادُ العقول في ميدان النظر، فحِيْل بين البزاة وأرَبها، وحسرت ¬

_ (¬1) من تلاميذ الشيخ عبد الغني النابلسي، توفي سنة 1131، انظر ترجمته في سلك الدرر (4/ 25 - 27). (¬2) يقصد الكاتب: "طريق الهجرتين وباب السعادتين". أما "تفصيل النشأتين وتحصيل السعادتين" فهو للراغب الأصفهاني.

الخيول في بداية طلبها، فهو منهاج القوم، أذابوا أنفسهم بنيران الرياضات وصكك الصلوات وهجر الشهوات، و ... التقصير في طويل مدحه قصير. نُقِلتْ من خطّ قديم درس الزمان رسمه". وتحته قيد تملك بخط العالم الحنبلي المشهور محمد السفاريني: "ثم ساقه المنَّان العليّ لنوبة عبده الذليل الملِيّ محمد السفاريني الحنبلي، بثمنن قدرُه أربعة قروش ونصف، وذلك في سنة ألف ومئة وثمان وأربعين. وفيها منَّ الله علينا بالحج إلى بيته الحرام وزيارة قبر خير الأنام محمد عليه الصلاة والسلام، وعلى آله الكرام وخلفائه الأعلام، وأصحابه ذوي الأيادي الجسام والأيام العظام". وفي آخر النسخة قيد تملك هذا نصّه: "الحمد لوليِّ كل حمد ونعمة، أتمها مطالعةً مالكُه الفقير إليه عز شأنه الشيخ خليل العمري إمام الجامع الشريف الأموي، غُفِر له ولمؤلفه ابن القيم الحنبلي، الراسم له بإغاثة اللهفان في مصايد الشيطان، أفادنا الله تعالى منه بمنِّه وكرمه ... شعبان المبارك ... " لم يظهر تاريخ الشهر والسنة. وفي الورقهَ التي قبل صفحة العنوان شعرٌ في بيان فضل الكتاب لمحمد بن محمد التافلاتي بخطه، وهذا نصُّه: "لكاتبه محمد بن محمد التافلاتي (¬1) ارتجالًا: يا من يخاف مكايد الشيطانِ ... ويرومُ سُبْلَ خلاصة الإيمانِ ¬

_ (¬1) ترجم له المحبي في سلك الدرر (4/ 102 - 108) ترجمة ممتعة. توفي سنة 1191.

شَمِّرْ ذيولَك كَيْ ترى سنن الهدى ... في طَيِّ زُبْرِ "إغاثة اللهفانِ" للعالم العلَم الإمام الحنبلي ... نَجْلِ ابن قيِّم العليِّ الشانِ جادَ الرضا والرَّوحُ مُلْحَدَ قبرِه ... ومراقدَ الأعلامِ والأعيانِ" وتحته أبيات أخرى لغيره: من رامَ كشفَ وساوس الشيطانِ ... يلزمْ كتاب "إغاثة اللهفانِ" دَعْ عنك قول الزُّور والبهتانِ ... والزمْ قصدتُكَ شرعةَ الإيمان واعلم بأن العالم العلَم الذي ... قرَّضته في ذروة العرفانِ وهو الغنيُّ بفضله وبجدِّه ... عن قولِ ذي ضِغْن وذي بهتانِ و ...... والتحذلقُ شُنعةٌ .... والفضل يعرفه ذوو العرفانِ واعلم بأن المصطفى كنز الهدى ... قد قال قولًا ظاهر البرهانِ من كان ذا وجهين من كل الورى ... فمقامه يا صاحِ في النيرانِ و"إغاثة اللهفان" بحرٌ زاخرٌ ... مشحونْ بالياقوتِ والمرجانِ و ................... لآلئٌ ... كالشهب ثقّب عن حَشَى الشيطانِ فهو النهاية عند أرباب الذكا ... وخلاصة البرهان للأذهانِ وتحته مقطوعة في المنجيات السبع، وأخرى في الطب، وثالثة في تعليم ضربَ زيدٌ عمرًا عند النحويين، ورابعة في الصداع، ولا حاجة هنا إلى إثباتها. وفي هذه النسخة سقط في مواضع، وهي تشبه نسخة (ظ). 6) نسخة لاله لي [1336] (= ت) هذه النسخة في مجلد ضخم لم ترقَّم أوراقه، في كل صفحة منها 25

سطرًا، وهي بخط نسخي جيد، كتبت سنة 1091، كما جاء في آخرها: "وكان الفراغ من كتابته يوم السبت في الضحى في ... شهر شعبان سنة إحدى وتسعين وألف من الهجرة النبوية، على يد أضعف العباد وأفقرهم إلى رحمة ربِّه الجواد: أحمد بن محمد الحافظ بن سليمان بن محمد المصري، غفر الله له ولوالديه ولمشايخه، آمين. والحمد لله على التمام ... في البدء والأوسط والختامِ" وفي أول النسخة وآخرها ختم وقف الغازي السلطان سليم خان بن مصطفى خان من سلاطين الدولة العثمانية. ويوجد على صفحة الغلاف ختم مكتبة لاله لي بتركيا، وذكر اسم المؤلف دون عنوان الكتاب. وهذه النسخة تشبه نسخة (ظ) في مجملها، وفيها تحريفات وأخطاء في مواضع أشرنا إلى بعضها في الهوامش دون استقصاء. 7) نسخة المحمودية [1692] (= ح) توجد هذه النسخة في مكتبة الملك عبد العزيز بالمدينة المنورة ضمن مجموعة المكتبة المحمودية، وعدد أوراقها 176 ورقة، وفي كل صفحة منها 33 سطرًا، وقد كتبت بخط نسخي دقيق. وجاء في آخرها بخط الناسخ الذي لم يذكر اسمه: "بعناية سيدي السيد الجليل العلامة عماد الإسلام أمتع الله بحياته: يحيى بن أحمد بن الحسين الشامي حفظه الله تعالى وحماه، وبلَّغه المأمول بمعانيه والعمل بما فيه، إنه سميع قريب مجيب. وصلى الله على خير خلقه وآله وسلم. وافق الفراغ من تمامه ضحى يوم الجمعة ليلة ثاني شهر جمادى الأولى أحد شهور عام سبعة وخمسين ومئة وألف 1157".

وعلى صفحة غلافها ذكر عنوان الكتاب واسم المؤلف: وتحته: "الحمد لله، في ملك الفقير إلى الله سبحانه محمد يوسف الصنعاني، عافاه الله تعالى، آمين" وتحته عبارة مشطوب عليها: "ثم انتقل إلى ملك الفقير إلى الله تعالى ... "، ومكان النقط اسم المالك الذي طمس اسمه. وعليها خط آخر شُطب عليه: "الحمد لله. مما استكتبه لنفسه أفقر العباد وأحوجهم إلى المسامحة في يوم المعاد يحيى بن أحمد بن الحسين الشامي، وفقهم الله تعالى لما يُرضيه". وهذا يوكِّد ما ذكره الناسخ في آخر النسخة، كما سبق. وتحته: "الحمد لله، ثم صار مِلْك الفقير إلى الله ... ". واسم المالك مطموس. وكتب أحدهم تحته: "شرعنا في مقابلة هذا الكتاب في أواخر شهر محرم ... "، في مكان النقط طمس. وتحته تملُّك آخر، ونصُّه: "صار مِلْك الفقير إلى الله الحاج رزق بن أحمد البابلي بتاريخ شهر ربيع 1173". وكُتب تحته: "ثم صار إليَّ عاريةً من الوالد رزق بن أحمد البابلي عافاه الله ... ". وطُمس اسم الكاتب. وتحته: "الحمد لله رب العالمين، مَنَّ به ذو المنِّ سبحانه على عبده الفقير إلى رحمته .... لطف الله بهم آمين"، وهنا أيضًا سُوِّد اسم الكاتب بالحبر. وفي وسط صفحة الغلاف كتبت تلك الأبيات الثمانية في مدح الكتاب، التي أُثبتت على نسخة الأصل، وسبق ذكرها فيما مضى. وهذه النسخة أيضًا تشبه نسخة (ظ)، وفيها أخطاء وتحريفات في مواضع كثيرة، وقد صحح بعضها في هوامش النسخة.

بقية النسخ

* بقية النسخ: بالإضافة إلى النسخ المذكورة سابقًا توجد نسخ خطية أخرى من الكتاب في مكتبات العالم اطلعتُ على بعضها، وفيما يلي بيان عنها: - مكتبة خدابخش خان بباتنه (الهند) [4003] (190 ورقة، كتبت سنة 1163). - مكتبة الملك فهد الوطنية بالرياض [2 - بريدة] (197 ورقة كتبت سنة 1209). - المكتبة السعودية التابعة للإفتاء بالرياض [401] (نسخة كتبت سنة 1248). - المكتبة القادرية ببغداد [1493]، (191 ورقة، كتبت سنة 1304). - مكتبة الأوقاف ببغداد [7016]، (451 ورقة، كتبت سنة 1305 بخط صالح بن دخيل بن جار الله في القصيم). - المكتبة السعودية التابعة للإفتاء بالرياض [377] (نسخة كتبت سنة 1314 بخط صالح بن عبد العزيز مرشد). - مركز الملك فيصل [] (نسخة ناقصة الأول والآخر، في 274 صفحة، بخط نجدي حديث). - الخزانة العامة بالرباط [84]. - مكتبة إبراهيم أفندي بتركيا (ضمن السليمانية) [3720]. - المتحف البريطاني بلندن [9219 شرقيات] (نسخة ناقصة). - مكتبة الشيخ علي بن يعقوب بحائل (نسخة في 758 صفحة). - مكتبة جامعة همدرد بدلهي [1655] (442 ورقة).

طبعاته

وهناك قطع من الكتاب في المكتبات الآتية: - مكتبة محرم جلبي في مرعش [182/ ي] (19 ورقة). - مكتبة ندوة العلماء في لكنو بالهند [986] (8 صفحات، بخط فارسي حديث). - تكلي أوغلو في أنتاليا Tekeli 913] 07](21 ورقة). هذا ما وقفتُ عليه من مخطوطات الكتاب في مكتبات العالم، وقد اكتفيتُ بسبع نسخٍ منها عند تحقيق النصّ؛ لأنها أفضل النسخ وأقدمها وأجودها، وتغني عن غيرها. * طبعاته: - طبع الكتاب لأول مرة في المطبع الصديقي في مدينة بريلي بالهند قبل سنة 1304، ولم أطلع على هذه الطبعة، ولكن وجدتُ الشيخ عبد الله الغازيفوري (ت 1337) نقل عنها بالإحالة على صفحاتها في كتابه "إبراء أهل الحديث والقرآن مما في جامع الشواهد من التهمة والبهتان" (المطبوع في مدينة بنارس بالهند سنة 1304). - ثم طُبع في المطبعة الميمنية بالقاهرة في شعبان سنة 1320/ 1902 م، بتصحيح محمد الزهري الغمراوي، وعدد صفحاتها 423 صفحة، ولا ندري شيئًا عن النسخة التي كان الاعتماد عليها عند نشره. وفي هذه الطبعة سقط في مواضع بلغ أحيانًا صفحةً أو صفحتين. - ثم نشره الشيخ محمد حامد الفقي بمطبعة مصطفى البابي الحلبي بالقاهرة سنة 1357/ 1939 م في جزئين، وقد اعتمد فيه على نسخة الشيخ عبد الله بن سليمان بن بليهد، ووصفها بأنها نسخة خطية مصححة مقروءة

على علماء محققين، في غاية الضبط والدقة والتصحيح. وبقراءتها ومقابلتها على النسخة المطبوعة وجد فروقًا عظيمة جدًّا، ووجد كثيرًا من النقص كان في بعض المواضع بالصفحتين. وقد عُني الشيخ الفقي بتصحيح الكتاب ومراجعة الآيات وترقيمها وضبطها بالشكل الكامل، ومراجعة الأحاديث وتصحيح ألفاظها وتخريجها قدر الطاقة. وقد بذل جهدًا مشكورًا في الاعتناء بتحقيقه وخدمته، ويسَّر الاستفادة منه لعامة القراء والمثقفين، فجزاه الله أحسن الجزاء. ويؤخذ على طبعته أن الشيخ رحمه الله كان يغيِّر ما في الأصل إذا شكَّ في كلمة أو عبارة، ويقترح بدلها ما يُؤدي إليه اجتهاده واستحسانه دون إشارة إلى ذلك، وهذا مخالف لما يتطلبه التحقيق العلمي، ثم إنه علق أحيانًا تعليقاتٍ تناقض مقصود المؤلف وتردُّ عليه بأسلوبٍ شديد، ويكون المقام في غنًى عنها. وبقي في النصّ أخطاء وتحريفات بسبب عدم عثوره على نسخ قديمة موثقة، وهو معذور في ذلك ومأجور على اجتهاده إن شاء الله. - ثم صدرت له طبعة بتحقيق: محمد سيد كيلاني، في مطبعة مصطفى البابي الحلبي بالقاهرة سنة 1381/ 1961 م في جزئين، وهو إعادة طبعة الفقي بشيء من التحوير في التعليقات، دون الرجوع إلى المخطوط. - ثم صدرت طبعة بمراجعة وتعليق: محمد الأنور أحمد البلتاجي، بمطابع دار التراث العربي، القاهرة سنة 1403 في مجلدين. - وطبع بتصحيح وتعليق: محمد عفيفي من مكتبة الخاني بالرياض والمكتب الإسلامي ببيروت سنة 1407/ 1987 م. وقد ذكر أنه رجع إلى أربع نسخ خطية وقارن بينها. ومع ذلك ففي هذه الطبعة سقط في مواضع

يبلغ أحيانًا سطرًا أو أكثر، بالإضافة إلى الأخطاء والتحريفات التي وقعت فيها، والأوهام والأغلاط في التخريج والتعليق. - ونشر أيضًا بتحقيق: بشير محمد عيون، من مكتبة المؤيد بالرياض ومكتبة دار البيان بدمشق سنة 1414/ 1993 م، في 856 صفحة. وقد ذكر أنه اعتمد على نسخة خطية، ولكن لا يوجد فرقٌ بين هذه الطبعة وطبعة الفقي إلّا نادرًا. - وطبع بتحقيق وضبط وتخريج وتعليق: حسان عبد المنان وعصام فارس الحرستاني، من مؤسسة الرسالة، بيروت سنة 1414/ 1994 م. وعلى هذه الطبعة مؤاخذات من جهة تخريج الأحاديث للشيخ محمد ناصر الدين الألباني نشرها بعنوان "النصيحة بالتحذير من تخريب ابن عبد المنان لكتب الأئمة الرجيحة، وتضعيفه لمئات الأحاديث الصحيحة". - وطبع أيضًا بتحقيق: السيد الجميلي، من دار ابن زيدون بيروت. - ونُشِر أيضًا بتحقيق: خالد عبد اللطيف السبع العلمي، من دار الكتاب العربي، بيروت، في مجلدين. ولم يرجع إلى أي نسخة خطية، بل اعتمد على طبعات الفقي وعفيفي وبشير عيون والسيد الجميلي، وأثبت الفروق بين الطبعتين الأوليين. - وطبع بتحقيق: علي بن حسن بن علي بن عبد الحميد الحلبي الأثري، وتخريج الشيخ محمد ناصر الدين الألباني، من دار ابن الجوزي بالدمام سنة 1421/ 2001 م. وقد اعتمد فيها على نسخة جامعة برنستون، وقابلها على طبعة الفقي.

هذه الطبعة

وأغلب هذه الطبعات التي صدرت بعد طبعة الفقي كانت عالةً عليها، وإن ادَّعى أصحابها أنهم رجعوا إلى النسخ الخطية، فلا خلافَ يُذكر بينها وبين طبعة الفقي، وإنما تتفاوت في التخريج والتعليق. * هذه الطبعة: اعتمدتُ في تحقيق الكتاب على أهم النسخ الخطية الموجودة منه، كما سبق وصفها، وأقدمها تلك التي كتبت في حياة المؤلف سنة 738، وأثبتُّ النصّ الصحيح في ضوئها، وذكرتُ من الفروق بين النسخ ما يحسن ذكره، ولم أشِرْ إلى الأخطاء والتحريفات الواقعة فيها إلّا نادرًا. ثم قمتُ بضبط النصّ وشَكْل الضروري منه، ووضعه في فقرات مناسبة. ثم وثَّقت النقول من المصادر التي نقل عنها المؤلف ومن غيرها، وقد قام بتخريج الأحاديث والآثار من غير الصحيحين: الشيخ مصطفى بن سعيد إيتيم، فجزاه الله خيرًا. ويوجد في الكتاب شعر ذكره المؤلف في مناسبات مختلفة، فقمت بتخريج ما وجدت منه، وكان فيه تحريف وخلل كثير في النسخ، فقوَّمته في ضوئها وبالرجوع إلى المصادر الأخرى. ولم أهتم بترجمة الأعلام والتعريف بالفرق والبلدان والكتب وشرح الكلمات والمصطلحات، فإنها تُثقِل الكتاب بما هو معلوم لدى عامة المثقفين فضلًا عن العلماء، ويمكن مراجعة المعاجم والمصادر المشهورة لمعرفة شيء منها. وبعد الانتهاء من خدمة النصّ بما يلزم صنعتُ فهارس لفظية وعلمية تكشف عن محتويات الكتاب وموضوعاته، ليصل القارئ إلى بغيته بسهولة، ولا يضيّع وقته وجهدَه في البحث عما يحتاج إليه.

وفي الختام أرجو أنني وُفِّقت في إخراج هذا الكتاب وتقديمه بحيث يتيسر الاستفادة منه، ويعمَّ النفع بقراءته إن شاء الله، ونحن في زمنٍ كثرت فيه مصايد الشيطان وتنوعت مكايده، واتُّخذت شتى الوسائل والأساليب للخداع والتضليل، والدعوة إلى نشر الفواحش والموبقات، والله المستعان وعليه التكلان، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم. كتبه محمد عزير شمس

صفحة العنوان من الأصل

صفحة العنوان من نسخة برنستون (م)

الصفحة الأولى من نسخة برنستون (م)

الصفحة الأخيرة من نسخة برنستون (م)

صفحة العنوان من نسخة الظاهرية (ظ)

الصفحة الأولى من نسخة الظاهرية (ظ)

الصفحة الأخيرة من نسخة الظاهرية (ظ)

صفحة العنوان من نسخة تشستربيتي (ش)

صفحة الأولى من نسخة تشستربيتي (ش)

صفحة الأخيرة من نسخة تشستربيتي (ش)

صفحة العنوان من نسخة لاله لي (ت)

الصفحة الأولى من نسخة لاله لي (ت)

صفحة الأخيرة من نسخة لاله لي (ت)

صفحة العنوان من نسخة المحمودية (ح)

الصفحة الأولى من نسخة المحمودية (ح)

الصفحة الأخيرة من نسخة المحمودية (ح)

آثار الإمام ابن قيم الجوزية وما لحقها من أعمال (25) إِغاثة اللهفان في مصايد الشيطان تأليف الإمام أبي عبد الله محمد بن أبي بكر بن أيوب ابن قيم الجوزية (691 - 751) حَقَّقَهُ محمد عزير شمس خَرَّجَ أَحاِيثَه مصطفي بن سعيد إيتيم وفق المنهج المعتمد من الشيخ العلامة بكر بن عبد الله أبو زيد (رحمه الله تعالي) تمويل مؤسسة سليمان بن عبد العزيز الراجحي الخيرية دار عالم الفوائد للنشر والتوزيع

مقدمة المؤلف

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ ربِّ يسِّر وأعنْ (¬1) الحمدُ لله الذي ظهر لأوليائه بنعوت جلاله، وأنار قلوبَهم بمشاهد (¬2) صفاتِ كماله، وتعرّف إليهم بما أسداه إليهم من إنعامه وإفضاله، فعلموا أنه الواحد الأحد الفرد الصمد، الذي لا شريك له في ذاته ولا في صفاته ولا في أفعاله، بل هو كما وصف به نفسَه وفوق ما يصفه به أحدٌ من خلقه في إكثاره وإقلاله، لا يُحصي أحدٌ ثناءَ عليه، بل هو كما أثنى على نفسه على لسان مَن أكرمهم بإرساله؛ الأول الذي ليس قبله شيء، والآخِر الذي ليس بعده شيء، والظاهر الذي ليس فوقه شيءٌ، والباطن الذي ليس دونه شيء، ولا يحجُب المخلوقَ عنه تستّرُه بسِرْباله، الحي القيوم، الواحد الأحد، الفرد الصمد، المنفرد بالبقاء، وكل مخلوق مُنْتَهٍ إلى زواله، السميع الذي يسمع ضجيجَ الأصوات باختلاف اللغات على تفنُّن الحاجات، فلا يَشْغَلُه سمعٌ عن سمع، ولا تُغلّطه المسائل، ولا يتبرّم من إلحاح المُلِحّين في سؤاله، البصير الذي يرى دبيبَ النملة السوداء على الصخرة الصَّمَاء في الليلة الظّلماء حيث كانت من سهله أو جباله، وألطفُ من ذلك رؤيته لتقلُّب قلب عبده، ومشاهدتُه لاختلاف أحواله؛ فإن أقبل إليه تلقَّاه، وإنما إقبالُ العبد عليه من إقباله، وإن أعرض عنه لم يَكِلْهُ إلى عدوِّه ولم يَدَعْهُ في إهماله، بل يكون ¬

_ (¬1) كذا في الأصل وظ. وفي م: "وما توفيقي إلّا بالله، عليه توكلت". وفي ش: "وبه نستعين، ربنا آتنا من لدنك رحمة، وهيئ لنا من أمرنا رشدا. وصلى الله على نبينا محمد وآله". (¬2) في بقية النسخ: "بمشاهدة".

أرحمَ به من الوالدة بولدها الرفيقةِ به في حمله ورضاعه وفصاله (¬1)، فإن تاب فهو أفرحُ بتوبته من الفاقد لراحلته التي عليها طعامه وشرابه في الأرض الدوَّيَّة المُهْلِكَة إذا وجدها، وقد تهيَّأ لموته وانقطاع أوصاله (¬2)، وإن أصرَّ على الإعراض، ولم يتعرض لأسباب الرحمة، بل أصرَّ على العصيان في إدباره وإقباله، وصالحَ عدوَّه وقاطعَ سيدَه، فقد استحق الهلاك، ولا يَهلِك على الله تعالى إلا الشقيُّ الهالك لعِظَم رحمته وسعة إفضاله. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، إلهًا واحدًا أحدًا فردًا صمدًا، جل عن الأشباه والأمثال، وتقدَّس عن الأضداد والأنداد والشركاء والأشكال، لا مانعَ لما أعطى ولا مُعطيَ لما منع، ولا رادَّ لحكمه ولا معقَبَ لأمره، {وَإِذَا أَرَادَ اللَّهُ بِقَوْمٍ سُوءًا فَلَا مَرَدَّ لَهُ وَمَا لَهُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَالٍ} [الرعد: 11]. وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله القائم له بحقه، وأمينُه على وحيه وخِيَرتُه من خلقه، أرسله رحمةً للعالمين، وإمامًا للمتقين، وحسرةً على الكافرين، وحجةً على العباد (¬3) أجمعين، بعثَه على حين فترةٍ من الرسل، فهدى (¬4) به إلى أقوم الطُّرُق (¬5) وأوضح السُّبُل (¬6)؛ وافترض على العباد ¬

_ (¬1) يشير إلى الحديث الذي أخرجه البخاري (5999) ومسلم (2754) عن عمر بن الخطاب. وفيه: "لله أرحم بعباده من هذه بولدها". (¬2) يشير إلى الحديث الذي أخرجه البخاري (6358) ومسلم (2744) عن ابن مسعود. (¬3) ش: "العالمين". (¬4) ش: "فهداهم". (¬5) ش: "الطريق". (¬6) ش، ظ: "السبيل".

طاعتَه ومحبته، وتعظيمَه وتوقيره والقيامَ بحقوقه، وسدَّ إلى جنته جميعَ الطرق؛ فلم يفتحْ لأحدٍ إلا من طريقه، فشرح له صدره، ووضع عنه وِزرَه، ورفع له ذِكْره، وجعل الذِّلَّة والصَّغار على من خالف أمره (¬1)، وأقسم بحياته في كتابه المبين (¬2) وقرنَ اسمَه باسمه؛ فلا يُذكر إلا ذُكر معه، كما في التشهد والخُطَب والتأذين. فلم يزل - صلى الله عليه وسلم - قائمًا بأمر الله تعالى، لا يردُّه عنه رادٌّ، مشمِّرًا في مرضاة الله تعالى، لا يصدُّه عن ذلك صادٌّ، إلى أن أشرقتِ الدنيا برسالته ضياءً وابتهاجًا، ودخل الناس في دين الله أفواجًا أفواجًا، وسارت دعوتُه مسيرَ الشمس في الأقطار، وبلغ دينه القيّم ما بلَغ الليل والنهار، ثم استأثر الله تعالى به ليُنجِز له ما وعده به في كتابه المبين، بعد أن بلّغ الرسالة، وأدّى الأمانة، ونصح الأمة، وجاهد في الله حق الجهاد، وأقام الدين، وترك أمته على البيضاء الواضحة البينة للسالكين، وقال: {قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي وَسُبْحَانَ اللَّهِ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ} [يوسف: 108]. أما بعد، فإن الله سبحانه وتبارك وتعالى لم يخلق خلقه سُدًى مُهمَلًا (¬3)، بل جعلهم مَوْرِدًا للتكليف، ومحلًّا للأمر والنهي، [2 أ] وألزمَهم فَهْمَ ما أرشدهم إليه مجملًا ومفصلًا، وقسَّمهم إلى شقي وسعيد، وجعل لكل واحد من الفريقين منزلًا، وأعطاهم موادَّ العلم والعمل: من القلب، والسمع، ¬

_ (¬1) كما في الحديث الذي أخرجه أحمد (2/ 50، 92)، وأبو داود (4531) عن ابن عمر. (¬2) في قوله تعالى: {لَعَمْرُكَ إِنَّهُمْ لَفِي سَكْرَتِهِمْ يَعْمَهُونَ} [الحجر: 72]. (¬3) في بعض النسخ: "هملًا".

القلب بالنسبة للأعضاء كالملك المتصرف في الجنود

والبصر، والجوارح، نعمةً منه وتفضُّلًا؛ فمن استعمل ذلك في طاعته، وسلك به طريقَ معرفته على ما أرشد إليه ولم يَبْغِ عنه عُدولًا، فقد قام بشكر ما أُوتيَه من ذلك، وسلك به إلى مرضاة الله سبيلًا، ومن استعمله في إرادته وشهواته ولم يَرْعَ حق خالقه فيه، تحسَّر (¬1) إذا سُئل عن ذلك، وحزن حزنًا طويلًا؛ فإنه لا بدَّ من الحساب على حق هذه الأعضاء؛ لقوله تعالى: {إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولًا} [الإسراء: 36]. ولما كان القلب لهذه الأعضاء كالملك المتصرف في الجنود، الذي تَصدُر كلُّها عن أمره، ويستعملها فيما شاء، فكلها تحت عبوديته وقهره، وتكتسب منه الإقامة والزيغ، وتتَّبعه فيما يعقده من العزم أو يحُلّه، قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: "ألا إن في الجسد مُضْغَة؛ إذا صَلَحَتْ صلح الجسد كله، وإذا فسدت فسد الجسد كله" (¬2)، فهو مَلِكها، وهي المنفِّذة (¬3) لما يأمرها به، القابلة لما يأتيها (¬4) من هديته، ولا يستقيم لها شيء من أعمالها حتى تصدُر عن قصده ونيته، وهو المسؤول عنها كلها؛ لأنَّ كل راعٍ مسؤولٌ عن رعيته (¬5) = كان (¬6) الاهتمام بتصحيحه وتسديده أولى ما اعتمد عليه السالكون، والنظرُ في ¬

_ (¬1) في الأصل: "يخسر" تصحيف. (¬2) أخرجه البخاري (52)، ومسلم (1599) من حديث النعمان بن بشير. والفقرة الأخيرة من الحديث ساقطة من الأصل وم. (¬3) ش: "المنقادة". (¬4) م: "يتهيأ". (¬5) كما في الحديث الذي أخرجه البخاري (893)، ومسلم (1829) عن ابن عمر. (¬6) جواب: "لما" في أول الفقرة.

علم عدو الله إبليس أن المدار على القلب فأجلب عليه بالوساوس

أمراضه وعلاجها أهمَّ ما تنسَّك (¬1) به الناسكون. ولمَّا علم عدو الله إبليس أن المدار على القلب والاعتماد عليه؛ أجلبَ عليه بالوساوس، وأقبل بوجوه الشهوات إليه، وزيَّن له من الأحوال (¬2) والأعمال ما يصدُّه به عن الطريق، وأمدَّه من أسباب الغَيّ بما يقطعه عن أسباب التوفيق، ونصبَ له من المصايد والحبائل ما إن سَلِم من الوقوع فيها لم يَسلَمْ من أن يحصل له بها التعويق، فلا نجاة من مصايده ومكايده إلا بدوام الاستعانة (¬3) بالله تعالى، والتعرُّضِ لأسباب مرضاته، والْتِجَاءِ القلب إليه وإقباله عليه في حركاته وسكناته، والتحقُّق بِذُلِّ العبودية الذي هو أو لى ما تلبَّس به الإنسان ليحصل له الدخول في ضمانِ {إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ} [الحجر: 42]؛ فهذه الإضافة هي القاطعة بين العبد وبين الشياطين، وحصولها بسبب تحقيق مقام العبودية لرب العالمين، وإشعار القلب بإخلاص (¬4) العلم ودوام اليقين، فإذا أُشرب القلبُ العبوديةَ والإخلاص صار عند الله من المقربين، وشَمِلَه استثناءُ {إِلَّا عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ} [الحجر: 40]. ولمَّا منَّ الله الكريم بلطفه بالاطِّلاع على ما أَطْلَعَ عليه من أمراض القلوب وأدوائها، وما يَعرِض لها من وساوس الشياطين أعدائها، وما تُثْمِرُها (¬5) تلك ¬

_ (¬1) في الأصل: "يتنسك". والمثبت من سائر النسخ. (¬2) ظ: "الأقوال". (¬3) م: "الاستغاثة". (¬4) في الأصل: "إخلاص". والمثبت في سائر النسخ. (¬5) ح: "تثمر".

العمل السيئ مصدره من فساد قصد القلب

الوساوس من الأعمال، وما يكتسب القلبُ بعدها من الأحوال، فإن العمل السيئ مصدره عن فساد قصد القلب، ثم يعرض للقلب من فساد العمل قسوة، فيزداد مرضًا على مرضه حتى يموت، ويبقى لا حياة فيه ولا نور له، وكل ذلك من انفعاله (¬1) لوسوسة الشيطان، وركونه إلى عدوه الذي لا يفلح إلَّا من جاهره بالعصيان = أردتُ أن أقيِّد ذلك في هذا الكتاب؛ لأستذكره معترفًا فيه لله بالفضل والنعمة (¬2)؛ وينتفع به من نظر فيه داعيًا لمؤلفه بالمغفرة والرحمة (¬3)، وسميته "إغاثة اللهفان في مصايد الشيطان"، ورتَّبته ثلاثة عشر بابًا: الباب الأول: في انقسام القلوب إلى صحيح وسقيم وميت. الباب الثاني: في ذكر حقيقة مرض القلب [2 ب]. الباب الثالث: في انقسام أدوية أمراض القلب إلى طبعية وشرعية. الباب الرابع: في أن حياة القلب وإشراقه مادة كل خير فيه، وموته وظلمته مادة كل شر فيه. الباب الخامس: في أن حياة القلب وصحته لا تحصل إلا بأن يكون مُدرِكًا للحق، مريدًا له، مُؤْثِرًا له على غيره. الباب السادس: في أنه لا سعادة للقلب ولا لذة ولا نعيم ولا صلاحَ إلا بأن يكون إلهه وفاطره وحده هو معبوده وغاية مطلوبه، وأحبُّ إليه من كل ما سواه. ¬

_ (¬1) م: "افعاله". وهو تصحيف. (¬2) ح: "الإحسان". (¬3) زيد بعدها في ح: "والرضوان".

الباب السابع: في أن القرآن الكريم متضمن لأدوية القلب وعلاجه من جميع أمراضه. الباب الثامن: في زكاءِ القلب. الباب التاسع: في طهارة القلب من أدرانه وأنجاسه. الباب العاشر: في علامات مرض القلب وصحته. الباب الحادي عشر: في علاج مرض (¬1) القلب من استيلاء النفس عليه. الباب الثاني عشر: في علاج مرض القلب بالشيطان. الباب الثالث عشر: في مكايد الشيطان التي يكيد بها ابن آدم. وهو الباب الذي لأجله وُضِعَ الكتاب، وفيه فصول جَمَّةُ الفوائد حسنة المقاصد. والله تعالى يجعله خالصًا لوجهه، مؤمِّنًا من الكَرّة الخاسرة، وينفع به مصنفه وكاتبه، والناظر فيه في الدنيا والآخرة، إنه سميع عليم، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم. ¬

_ (¬1) "مرض" ساقطة من الأصل.

الباب الأول: في انقسام القلوب إلى: صحيح، وسقيم، وميت

الباب الأول في انقسام القلوب إلى صحيحٍ وسقيمٍ ومَيّتٍ لما كان القلب يوصف بالحياة وضدِّها، انقسم بحسب ذلك إلى هذه الأحوال الثلاثة: فالقلب الصحيح هو القلب السليم الذي لا ينجو يوم القيامة إلا من أتى الله به، كما قال تعالى: {يَوْمَ لَا يَنْفَعُ مَالٌ وَلَا بَنُونَ (88) إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ} [الشعراء: 88 - 89]، والسليم هو السالم، وجاء على هذا المثال لأنه للصفات، كالطويل والقصير والظريف. فالسليم: القلب الذي قد صارت السلامة صفةً ثابتة له، كالعليم والقدير، وأيضًا فإنه ضد المريض والسقيم والعليل. وقد اختلفت عبارات الناس في معنى القلب السليم، والأمرُ الجامع لذلك: أنه الذي قد سَلِمَ من كل شهوة تخالف أمرَ الله ونهيَه، ومن كل شبهةٍ تُعارِض خبره، فسَلِم من عبودية ما سواه، وسَلِم من تحكيم غير رسوله؛ فسلِم من محبة غير الله معه، ومن خوفه ورجائه (¬1) والتوكلِ عليه، والإنابة إليه، والذلِّ له، وإيثارِ مرضاته في كل حال، والتباعد من سخطه بكل طريق. وهذا هو حقيقة العبودية التي لا تصلُح إلا لله وحده. فالقلب السليم هو الذي سَلِمَ من أن يكون لغير الله فيه شركٌ (¬2) بوجهٍ ¬

_ (¬1) ح: "فسلم في محبة الله مع تحكيمه لرسوله في خوفه ورجائه". (¬2) ش: "شريك".

ما، بل قد خلصتْ عبوديته لله تعالى: إرادةً، ومحبةً، وتوكلًا، وإنابةً، وإخباتًا، وخشيةً، ورجاءً، وخلصَ عملُه لله، فإن أحبَّ أَحَبَّ في الله، وإن أبْغضَ أبْغضَ في الله، وإن أعْطَى أعطى لله، وإن مَنَع منع لله (¬1). ولا يكفيه هذا حتى يَسْلَم من الانقياد والتحكيم لكل من عدا رسوله - صلى الله عليه وسلم -، فيَعقِد قلبَه معه عقدًا محكمًا على الائتمام والاقتداء به وحدَه دون كل أحد، في الأقوال والأعمال: أقوال القلب وهي العقائد؛ وأقوال اللسان وهي الخبر عما في القلب؛ وأعمال القلب، وهي الإرادة والمحبة والكراهة وتوابعها؛ وأعمال الجوارح، فيكون الحاكم عليه في ذلك كلُّه دِقّه وجِلّه هو ما جاء به الرسول - صلى الله عليه وسلم -، فلا يتقدم بين يديه بعقيدة ولا قول [3 أ]، ولا عمل، كما قال تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ} [الحجرات: 1] أي لا تقولوا حتى يقول، ولا تفعلوا حتى يأمر. قال بعض السلف: ما من فَعلةٍ وإن صغُرت إلا يُنشر لها ديوانان: لِمَ؟ وكيف؟ أي لم فعلت؟ وكيف فعلت؟ فالأول سؤال عن علة الفعل وباعثه وداعيه: هل هو حظ عاجل من حظوظ العامل، وغرض من أغراض الدنيا، من محبة المدح من الناس أو خوف ذمهم، أو استجلاب محبوب عاجل، أو دفع مكروه عاجل؟ أم الباعث على الفعل القيام بحق العبودية، وطلب التودُّد والتقرُّب إلى الرب سبحانه وتعالى، وابتغاء الوسيلة إليه؟ ومحلُّ هذا السؤال: أنه هل كان عليك أن تفعل هذا الفعل لمولاك؟! أم ¬

_ (¬1) أشار المؤلف إلى حديث أخرجه أبو داود (4861) عن أبي أمامة، وهو حديث حسن.

فصل: في القلب الثاني: القلب الميت

فعلته لحظك وهواك؟ والثا في سؤال عن متابعة الرسول - صلى الله عليه وسلم - في ذلك التعبد؛ أي: هل كان ذلك العمل مما شرعته لك على لسان رسولي؟ أم كان عملًا لم أشرعه ولم أرْضَهُ؟ فالأول سؤال عن الإخلاص، والثاني عن المتابعة؛ فإن الله سبحانه لا يقبل عملًا إلا بهما. فطريق التخلُّص من السؤال الأول: بتجريد الإخلاص. وطريق التخلص من السؤال الثاني: بتحقيق المتابعة، وسلامة القلب من إرادة تُعارِض الإخلاص، وهوى يعارض الاتباع. فهذه حقيقة سلامة القلب الذي ضمِنتْ له النجاة والسعادة. فصل والقلب الثاني ضِدُّ هذا، وهو القلب الميت الذي لا حياة به، فهو لا يعرف ربه، ولا يعبده بأمره وما يحبه ويرضاه، بل هو واقفٌ مع شهواته ولذاته (¬1)، ولو كان فيها سخط ربه وغضبه، فهو لا يبالى - إذا فاز بشهوته وحظه - رضي ربُّه أم سخط، فهو متعبد لغير الله: حبًّا (¬2)، وخوفًا، ورجاءً، ورضًا، وسخطًا، وتعظيمًا، وذلًا، إن أحبَّ أحبَّ لهواه، وإن أبغض أبغضَ لهواه، وإن أعطى أعطى لهواه، وإن منع منع لهواه، فهواه آثَرُ عنده وأحب إليه من رضا مولاه؛ فالهوى إمامه، والشهوة قائده، والجهل سائسه، والغفلة ¬

_ (¬1) الأصل، م، ش: "وإراداته" والمثبت من ظ، ث، ح. (¬2) ش: "حياء".

فصل: القلب الثالث: القلب المريض

مركبه، فهو بالفكر في تحصيل أغراضه الدنيوية معمور، وبسكرة الهوى وحبِّ العاجلة مغمور، يُنادَى إلى الله وإلى الدار الآخرة من مكان بعيد، فلا يستجيب للناصح ويتّبع كل شيطان مريد؛ الدنيا تُسخطه وتُرضيه، والهوى يُصمُّه عما سوى الباطل ويُعميه؛ فهو في الدنيا كما قيل في ليلى: عَدُوُّ لِمَنْ عَادَتْ وَسِلْمٌ لأهْلِهَا ... وَمَنْ قَرَّبَتْ لَيْلىَ أَحَبَّ وَقَرَّبَا (¬1) فمخالطة صاحب هذا القلب سُقْمٌ، ومعاشرته سُمٌّ، ومجالسته هلاك. فصل والقلب الثالث قلبٌ له حياة وبه علّة؛ فله مادتان، تَمُدُّه هذه مرة، وهذه أخرى، وهو لِمَا غلب عليه منهما، ففيه من محبة الله تعالى والإيمان به والإخلاص له والتوكل عليه: ما هو مادة حياته، وفيه من محبة الشهوات، وإيثارها، والحرص على تحصيلها، والحسد، والكِبْر، والعُجْب، وحب العلوّ (¬2) في الأرض بالرياسة: ما هو مادة هلاكه وعَطَبِهِ، وهو مُمتحَنٌ بين داعيين: داعٍ يدعوه إلى الله ورسوله والدار الآخرة (¬3)، وداعٍ يدعوه إلى العاجلة، وهو إنما يجيب أقربهما منه بابًا، وأدناهما إليه جوارًا. فالقلب الأول حيٌّ مُخْبِتٌ (¬4) ليِّن واعٍ. والثاني يابسٌ ميتٌ. ¬

_ (¬1) لم أجد البيت في المصادر التي رجعتُ إليها. (¬2) ح: "الفساد". (¬3) الأصل: "الأخرى" والمثبت في سائر النسخ. (¬4) ش: "مجيب".

جمع الله سبحانه بين هذه القلوب الثلاثة في قوله تعالى: {وما أرسلنا من قبلك من رسول}

والثالث مريض؛ فإما إلى السلامة أدنى، وإما إلى العَطَب أدنى. وقد جمع الله سبحانه بين هذه القلوب الثلاثة في قوله: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ وَلَا نَبِيٍّ إِلَّا إِذَا تَمَنَّى أَلْقَى الشَّيْطَانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ فَيَنْسَخُ اللَّهُ مَا يُلْقِي الشَّيْطَانُ ثُمَّ يُحْكِمُ اللَّهُ آيَاتِهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (52) لِيَجْعَلَ مَا يُلْقِي الشَّيْطَانُ فِتْنَةً لِلَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَالْقَاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ وَإِنَّ الظَّالِمِينَ لَفِي شِقَاقٍ بَعِيدٍ (53) وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَيُؤْمِنُوا بِهِ فَتُخْبِتَ لَهُ قُلُوبُهُمْ وَإِنَّ اللَّهَ لَهَادِ الَّذِينَ آمَنُوا إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} [الحج: 52 - 54]. فجعل الله سبحانه وتعالى القلوب في هذه الآيات ثلاثة: قلبين مفتونين، وقلبًا ناجيًا، فالمفتونان: القلب الذي فيه مرض، والقلب القاسي، والناجي: القلب المؤمن المخبت إلى ربه؛ وهو المطمئن إليه، الخاضع له، المستسلم المنقاد. وذلك أن القلب وغيره من الأعضاء يراد منه أن يكون صحيحًا سليمًا لا آفة له، ليتأتى منه ما هُيِّئ له وخُلِق لأجله؛ وخروجُه عن الاستقامة إما بيُبسِه وقساوته، وعدم التأتيِّ لما يراد منه؛ كاليد الشلَّاء، واللسان الأخرس، والأنف الأخشم، وذَكَر العِنِّين، والعين التي لا تبصر شيئًا؛ وإما بمرض وآفة فيه تمنعه من كمال هذه الأفعال، ووقوعها على السداد. فلذلك انقسمت القلوب إلى هذه الأقسام الثلاثة: فالقلب الصحيح السليم: ليس بينه وبين قبول الحق ومحبته وإيثاره سوى إدراكه، فهو صحيح الإدراك للحق، تام الانقياد والقبول له. والقلب الميت القاسي: لا يقبله ولا ينقاد له.

شرح حديث: تعرض الفتن على القلوب كعرض الحصير عودا عودا

والقلب المريض: إن غلب عليه مرضُه التحق بالميت القاصي، وإن غلبت عليه صحته التحق بالسليم. فما يلقيه الشيطان في الأسماع من الألفاظ، وفي القلوب من الشُّبه والشكوك: فتنةٌ لهذين القلبين، وقوة للقلب الحي السليم؛ لأنه يردُّ ذلك ويكرهه ويبغضه، ويعلم أن الحق في خلافه، فيُخبِت للحق (¬1) ويطمئن وينقاد، ويعلم بطلان ما ألقاه الشيطان، فيزداد إيمانًا بالحق ومحبة له، وكفرًا بالباطل وكراهة له؛ فلا يزال القلب المفتون في مِرْية من إلقاء الشيطان. وأما القلب الصحيح السليم فلا يضره ما يلقيه الشيطان أبدًا. قال حُذيفة بن اليمان: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "تُعْرَضُ الفِتَنُ عَلىَ القلُوبِ كعَرْض الحصيرِ عُودًا عُودًا، فأَيُّ قَلْبٍ أُشرِبَها نُكِتَتْ فِيه نُكْتَةٌ سَوْدَاءُ، وَأَيُّ قَلْب أنْكَرهَا نُكِتَتْ فِيه نُكْتَةٌ بَيْضاءُ، حتّى تَعُودَ القُلوبُ عَلىَ قَلْبين: قَلْبٍ أَسْوَد مُرْبَادًّا كالكُوزِ مُجَخِّيًا، لا يَعْرِفُ معرُوفًا وَلا يُنْكِرُ مُنْكَرًا؛ إِلَّا مَا أُشْرِبَ منْ هَوَاهُ، وَقلب أبْيضٌ مثل الصفا، لا تضرُّ فِتْنةٌ مَا دَامَتِ السَّماواتُ وَالأرْضُ" (¬2). فشبَّه عرض الفتن على القلوب شيئًا فشيئًا؛ كعرض عيدانِ الحصير - وهي طاقاتها - شيئًا فشيئًا، وقسَّم القلوب عند عرضها عليها إلى قسمين: قلب إذا عُرضت عليه فتنة أُشْرِبها، كما يشرب السِّفِنْج الماء، فتُنكَت فيه نكتة سوداء، فلا يزال يُشرب كل فتنة تعرض عليه، حتى يسودّ وينتكس، وهو معنى قوله: "كالكوز مُجَخِّيًا"؛ أي مكبوبًا منكوسًا، فإذا اسودَّ وانتكس ¬

_ (¬1) في الأصل بعده زيادة: "قلبه". (¬2) أخرجه مسلم (144).

تقسيم حذيفة بن اليمان رضي الله عنه للقلوب

عرض له من هاتين الآفتين مرضان خطران متراميان إلى الهلاك: أحدهما: اشتباه المعروف عليه با لمنكر، فلا يعرف معروفًا، ولا ينكر منكرًا، وربما استحكم فيه هذا المرض، حتى يعتقد المعروف منكرًا والمنكر معروفًا، والسنة بدعة والبدعة سنة، والحق باطلًا والباطل حقًّا. الثاني: تحكيمه هواه على ما جاء به الرسول - صلى الله عليه وسلم -، وانقياده للهوى واتباعه له. وقلب أبيض، قد أشرق فيه نور الإيمان، وأزهر فيه مصباحه، فإذا عرضت عليه الفتنة أنكرها وكرهَها (¬1)، فازداد نوره وإشراقه وقوَّته [4 أ]. والفتن التي تُعرَض على القلوب هي أسباب مرضها، وهي فتن الشهوات وفتن الشبهات، وفتن الغي والضلال، وفتن المعاصي والبدع، وفتن الظلم والجهل؛ فالأولى توجب فساد القصد والإرادة، والثانية توجب فساد العلم والاعتقاد. وقد قسم الصحابة رضي الله تعالى عنهم القلوب إلى أربعة، كما صح عن حذيفة بن اليمان قوله: القلوب أربعة: قلب أجْردُ، فيه سراج يُزهرُ؛ فذلك قلب المؤمن. وقلب أغلفُ؛ فذلك قلب الكافر. وقلب منكوس؛ فذلك قلب المنافق، عَرف ثم أنكر، وأبصر ثم عَميَ. وقلب تمُدّه مادتان: مادة إيمان، ومادة نفاق؛ وهو لما غلب عليه منهما (¬2). ¬

_ (¬1) في بعض النسخ: "وردّها". (¬2) رواه ابن المبارك في الزهد (1439)، وابن أبي شيبة (6/ 168، 7/ 481)، وعبد الله ابن أحمد في السنة (825)، وابن جرير في تفسيره (2/ 325)، وأبو نعيم في الحلية =

فقوله: "قلب أجرد" أي متجرد مما (¬1) سوى الله ورسوله، فقد تجرد وسلِم مما سوى الحق، و"فيه سراج يزهر"؛ وهو مصباح الإيمان، فأشار بتجرده إلى سلامته من شبهات الباطل وشهوات الغي، وبحصول السراج فيه إلى إشراقه واستنارته بنور العلم والإيمان. وأشار بـ "القلب الأغلف" إلى قلب الكافر؛ لأنه داخل في غلافه وغشائه، فلا يصل إليه نور العلم والإيمان، كما قال تعالى حاكيًّا عن اليهود: {وَقَالُواْ قُلُوبُنَا غُلْفٌ} [البقرة: 88]. وهو جمع أغلف، وهو الداخل في غلافه كقُلْف وأقلَف؛ وهذه الغشاوة هي الأكِنّة التي ضربها الله تعالى على قلوبهم عقوبة لهم على رد الحق والتكبر عن قبوله؛ فهي أكنةٌ على القلوب، ووقْرٌ في الأسماع، وعمّى في الأبصار، وهي الحجاب المستور عن العيون في قوله تعالى: {وَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ جَعَلْنَا بَيْنَكَ وَبَيْنَ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ حِجَابًا مَسْتُورًا (45) وَجَعَلْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوهُ وَفِي آذَانِهِمْ وَقْرًا} [الإسراء: 45، 46]. فإذا ذُكِرَ لهذه القلوب تجريدُ التوحيد وتجريدُ المتابعة ولىّ أصحابها على أدبارهم نفورًا. وأشار بـ "القلب المنكوس" - وهو المكبوب - إلى قلب المنافق، كما قال تعالى: {فَمَا لَكُمْ فِي الْمُنَافِقِينَ فِئَتَيْنِ وَاللَّهُ أَرْكَسَهُمْ بِمَا كَسَبُوا} [النساء: 88]؛ أي نكسهم وردَّهم في الباطل الذي كانوا فيه، بسبب كسبهم وأعمالهم ¬

_ = (1/ 276)، من طرق عن عمرو بن مرة عن أبي البختري عن حذيفة رضي الله عنه، وهذا إسناد منقطع. ينظر: السلسلة الضعيفة (5158). (¬1) في بعض النسخ: "عما".

الباطلة؛ فهذا شر القلوب وأخبثها؛ فإنه يعتقد الباطل حقًّا ويوالي أصحابه، والحق باطلًا ويعادي أهله، فالله المستعان. وأشار بـ "القلب الذي له (¬1) مادتان"الى القلب الذي لم يتمكن فيه الإيمان، ولم يُزهر فيه سراجه، حيث لم يتجرد للحق المحض الذي بعث الله به رسوله، بل فيه مادة منه ومادة من خلافه، فتارة يكون للكفر أقرب منه للإيمان، وتارة يكون للإيمان أقرب منه للكفر؛ والحكم للغالب، وإليه يرجع. ¬

_ (¬1) م: "فيه".

الباب الثاني: في ذكر حقيقة مرض القلب

الباب الثاني في ذكر حقيقة مرض القلب قال الله تعالى عن المنافقين: {فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزَادَهُمُ اللهُ مَرَضًا} [البقرة: 10]، وقال تعالى: {لِيَجْعَلَ مَا يُلْقِي الشَّيْطَانُ فِتْنَةً لِلَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ} [الحج: 53]، وقال تعالى: {يَانِسَاءَ النَّبِيِّ لَسْتُنَّ كَأَحَدٍ مِنَ النِّسَاءِ إِنِ اتَّقَيْتُنَّ فَلَا تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ فَيَطْمَعَ الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ} [الأحزاب: 32]، أمرهُنَّ أن لا يَلِنَّ في كلامهن، كما تلين المرأة المعطية اللَّيانَ في مَنْطِقها، فيطمع مَنْ في قلبه مرض الشهوة، ومع ذلك فلا يَخْشُنَّ في القول بحيث يلتحق بالفحش، بل يَقُلْنَ قولًا، معروفًا. وقال تعالى: {لَئِنْ لَمْ يَنْتَهِ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَالْمُرْجِفُونَ فِي الْمَدِينَةِ لَنُغْرِيَنَّكَ بِهِمْ} [الأحزاب: 60]، وقال تعالى: {وَمَا جَعَلْنَا أَصْحَابَ النَّارِ إِلَّا مَلَائِكَةً وَمَا جَعَلْنَا عِدَّتَهُمْ إِلَّا فِتْنَةً لِلَّذِينَ كَفَرُوا لِيَسْتَيْقِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ وَيَزْدَادَ الَّذِينَ آمَنُوا إِيمَانًا وَلَا يَرْتَابَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ وَالْمُؤْمِنُونَ وَلِيَقُولَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَالْكَافِرُونَ مَاذَا أَرَادَ اللَّهُ بِهَذَا مَثَلًا} [المدثر: 31]. أخبر الله سبحانه عن الحكمة التي جعل لأجلها عدة الملائكة الموكَّلين بالنار تسعة عشر، فذكر سبحانه خمس حِكَم: فتنة الكافرين؛ فيكون ذلك زيادة في كفرهم وضلالهم. وقوة يقين أهل الكتاب؛ فيقوى يقينُهم (¬1) بموافقة الخبر بذلك لما ¬

_ (¬1) ش: "نفسهم".

حال القلوب عند ورود الحق المنزل

عندهم عن أنبيائهم؛ من غير تلقٍّ من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عنهم، فتقوم الحجة على مُعانِدهم، وينقاد للإيمان من يريدُ (¬1) الله أن يهديه. وزيادة إيمان الذين آمنوا؛ بكمال تصديقهم بذلك والإقرار به. وانتفاءُ الرَّيْبِ عن أهل الكتاب لجزمهم بذلك، وعن المؤمنين لكمال (¬2) تصديقهم به. فهذه أربع (¬3) حِكَم: فتنة الكفار، ويقين أهل الكتاب، وزيادة إيمان المؤمنين، وانتفاء الريب عن المؤمنين وأهل الكتاب. الخامسة: حيرة الكافر ومن في قلبه مرض، وعَمِيَ قلبه عن المراد بذلك، فيقول: {مَاذَا أَرَادَ اللَّهُ بِهَذَا مَثَلًا} وهذه حال القلوب عند ورود الحق المنزل عليها: قلب يفتتن به كفرًا وجوفىًا، وقلب يزداد به إيمانًا وتصديقًا، وقلب يتيقَّنه، فتقوم عليه الحجة به، وقلب يوجب له حيرة وعمًى، فلا يدرى ما يراد به. واليقين وعدم الريب في هذا الموضع: إن رجعا إلى شيء واحد كان ذكر عدم الريب مقرِّرًا لليقين، ومؤكدًا له، ونافيًا عنه ما يُضادُّه بوجه من الوجوه، وإن رجعا إلى شيئين بأن يكون اليقين راجعًا إلى الخبر المذكور عن عدَّة (¬4) الملائكة، وعدم الريب عائدًا إلى عموم ما أخبر الرسول به؛ ¬

_ (¬1) الأصل: "يرد". (¬2) م: "الإكمال". (¬3) الأصل: "أربعة". (¬4) م: "هذه". وهو تحريف.

لدلالة هذا الخبر الذي لا يُعلم إلا من جهة الرسول على صدقه، فلا يرتاب من قد عرف صحة هذا الخبر بعدُ في صدق الرسول - صلى الله عليه وسلم - = ظهرت فائدة ذكره. والمقصود ذكر مرض القلب وحقيقته. وقال تعالى: {يَاأَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَتْكُمْ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَشِفَاءٌ لِمَا فِي الصُّدُورِ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ} [يونس: 57]؛ فهو شفاء لما في الصدور من مرض الجهل والغَيّ، فإن الجهل مرض؛ شفاؤه العلم والهدى، والغي مرض؛ شفاؤه الرشد. وقد نزَّه الله سبحانه نبيَّه - صلى الله عليه وسلم - عن هذين الداءين، فقال: {وَالنَّجْمِ إِذَا هَوَى (1) مَا ضَلَّ صَاحِبُكُمْ وَمَا غَوَى} [النجم: 1، 2]، ووصف رسوله - صلى الله عليه وسلم - خلفاءه بضدهما فقال: "عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين من بعدي" (¬1)، وجعل كلامه سبحانه موعظة للناس عامة، وهدى ورحمة ¬

_ (¬1) رواه أحمد (4/ 126، 127)، وأبو داود (4607)، والترمذي (2676)، وابن ماجة (42، 43، 44)، وغيرهم من حديث العرباض بن سارية رضي الله عنه، قال الترمذي: "هذا حديث حسن صحيح"، وصححه البزار كما في جامع كان العلم (2/ 348)، وأبو العباس الدغولي كما في إجمال الإصابة (ص 49)، وابن حبان (5)، والحاكم (1/ 174)، وأبو نعيم كما في جامع العلوم والحكم (ص 258)، وابن عبد البر (2/ 182، 348)، والجوزقاني في الأباطيل والمناكير (1/ 472)، وابن تيمية في منهاج السنة (4/ 164) وفي غيره، والذهبي في السير (18/ 190)، وابن الملقن في البدر المنير (9/ 582)، والعراقي في الباعث على الخلاص (1)، وابن حجر في موافقة الخُبر الخَبر (1/ 136)، والشوكاني في إرشاد الفحول (1/ 95، 221، 2/ 189)، وحسَّنه ابن القيم في إعلام الموقعين (4/ 145)، وهو في السلسلة الصحيحة (937، 2735).

فصل: في أسباب ومشخصات مرض البدن والقلب

لمن آمن به خاصة، وشفاءً تامًّا لما في الصُّدور؛ فمن استشفى به صحَّ وبرئ من مرضه، ومن لم يستشف به فهو كما قيل: إذَا بَلَّ مِنْ دَاءٍ بِهِ ظَنَّ أنّهُ ... نَجَا وَبِهِ الدَّاءُ الَّذي هُوَ قَاتِلُهْ (¬1) وقال تعالى: {وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْءَانِ مَا هُوَ شِفَاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ وَلَا يَزِيدُ الظَّالِمِينَ إِلَّا خَسَارًا} [الإسراء: 82]، والأظهر أن "مِنْ" هاهنا لبيان الجنس، فالقرآن جميعه شفاءٌ ورحمةٌ للمؤمنين. فصل ولما كان مرض البدن خلاف صحته وصلاحه، وهو خروجه عن اعتداله الطبيعي، لفساد يعرض له، يفسد به إدراكه وحركته الطبيعية: فإما أن يذهب إدراكه بالكلية، كالعمى والصمم والشلل، وإما أن ينقص إدراكه لضعف في آلات [5 أ]، الإدراك مع استقامة إدراكه، وإما أن يدرك الأشياء على خلاف ما هي عليه، كما يدرك الحلوَ مُرًّا، والخبيث طيبًا، والطيب خبيثًا. وأما فساد حركته الطبيعية: فمثل أن تضعف قوته الهاضمة، أو الماسكة، أو الدافعة، أو الجاذبة، فيحصل له من الألم بحسب خروجه عن الاعتدال، ولكن مع ذلك لم يصل إلى حدِّ الموت والهلاك، بل فيه نوع قوة على الإدراك والحركة. وسببُ هذا الخروج عن الاعتدال: إما فساد في الكمية أو في الكيفية ¬

_ (¬1) البيت بلا نسبة في إصلاح المنطق ص 190، والجليس الصالح (4/ 85)، والبصائر والذخائر (6/ 179)، وربيع الأبرار (4/ 96)، ووفيات الأعيان (3/ 465)، ولسان العرب (بلل).

فالأول إما نقص في المادة؛ فيحتاج إلى زيادتها، وإما زيادة فيها؛ فيحتاج إلى نقصانها. والثاني إما بزيادة الحرارة، أو البرودة، أو الرطوبة، أو اليبوسة أو نقصانها عن القدر الطبيعي، فيداوى بمقتضى ذلك. ومدار الصحة على حفظ القوة، والحِمْية عن المؤذي، واستفراغ المواد الفاسدة؛ ونظر الطبيب دائر على هذه الأصول الثلاثة، وقد تضمنها الكتاب العزيز، وأرشد إليها مَنْ أنزله شفاءً ورحمةً. فأما حفظُ القوة: فإنه سبحانه أمر المسافر والمريض أن يفطرا في رمضان، ويقضي المسافر إذا قدم، والمريض إذا بَرِئ؛ حفظًا لقوتهما عليهما؛ فإن الصوم يزيد المريض ضعفًا، والمسافر محتاج إلى توفير قوَّته عليه لمشقة السفر، والصوم يضعفها. وأما الحِمية عن المؤذى: فإنه سبحانه حمى المريضَ عن استعمال الماء البارد في الوضوء والغسل إذا كان يضره، وأمره بالعدول إلى التيمم؛ حِميةً له عن ورود المؤذي عليه من ظاهر بدنه، فكيف بالمؤذي له من باطنه؟! وأما استفراغ المادة الفاسدة: فإنه - سبحانه - أباح للمُحْرِم الذي به أذى من رأسه أن يحلقه، فيستفرغ بالحَلْقِ الأبخرةَ المؤذية له، وهذا من أسهل أنواع الاستفراغ وأخفها، فنبَّه به على ما هو أحوج إليه منه. وذاكرتُ مرةً بعض رؤساء الطب بمصر بهذا، فقال: والله لو سافرتُ إلى المغرب في معرفة هذه الفائدة؛ لكان سفرًا قليلًا أو كما قال.

وإذا عُرف هذا فالقلب محتاج إلى ما يحفظ عليه قوَّته، وهو الإيمان وأوراد الطاعات؛ وإلى حِمية عن المؤذى الضارِّ، وذلك باجتناب الآثام والمعاصي وأنواع المخالفات؛ وإلى استفراغه من مادة فاسدة تعرض له، وذلك بالتوبة النصوح، واستغفار غافر الخطيئات. ومرضه هو نوع فساد يحصل له، يفسد به تصوره للحق وإرادته له، فلا يرى الحق حقًّا، أو يراه على خلاف ما هو عليه، أو ينقصُ إدراكه له، ويفسد به إرادته له، فيبغض الحق النافع، أو يحب الباطل الضارَّ، أو يجتمعان له وهو الغالب، ولهذا يُفسَّر المرض الذي يعرض له؛ تارةً بالشك والريب، كما قال مجاهد (¬1) وقتادة (¬2) في قوله تعالى: {فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ} [البقرة: 10]. أي شك، وتارةً بشهوة الزِّنى، كما فُسر به قوله تعالى: {فَيَطْمَعَ الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ} [الأحزاب: 32]، فالأول مرض الشبهة، والثاني مرض الشهوة. والصحة تحُفَظ بالمثْل والشَّبه، والمرض يُدفع بالضد والخلاف، وهو يقوى بمثل سببه، ويزول بضده، والصحة تحُفَظ بمثل سببها، وتضعف أو تزول بضده. ولما كان البدن المريض يؤذيه ما لا يؤذي الصحيح من يسير الحر والبرد والحركة ونحو ذلك، فكذلك القلب إذا كان فيه مرضٌ؛ آذاه أدنى [5 ب] شيء من الشبهة أو الشهوة، حيث لا يقدر على دفعهما (¬3) إذا وردا عليه، والقلب الصحيح القوي يطرقه أضعاف ذلك، وهو يدفعه بقوَّته وصحته. ¬

_ (¬1) انظر: تفسير ابن أبي حاتم (1/ 43)، وتفسير ابن كثير (1/ 77). (¬2) رواه ابن جرير في تفسيره (1/ 285)، وعزاه في الدر المنثور (1/ 76) لعبد بن حميد. (¬3) م: "دفعها".

وبالجملة؛ فإذا حصل للمريض مثل سبب مرضه زاد مرضه، وضعفت قوته، وترامى إلى التلف، ما لم يتدارك ذلك؛ بأن يحصل له ما يُقوِّي قوَّته، ويُزِيل مرضه.

الباب الثالث: في انقسام أدوية أمراض القلب إلى قسمين: طبيعية وشرعية

الباب الثالث في انقسام أدوية أمراض القلب إلى قسمين: طبيعية وشرعية مرض القلب نوعان: نوع لا يتألمَّ به صاحبه في الحال وهو النوع المتقدم؛ كمرض الجهل، ومرض الشبهات والشكوك، ومرض الشهوات، وهذا النوع هو أعظم النوعين ألمًا، ولكن لفساد القلب لا يحس بالألم، ولأن سَكْرة الجهل والهوى تحول بينه وبين إدراك الألم؛ وإلا فألمه حاضرٌ فيه، حاصلٌ له، وهو متوارِ عنه باشتغاله بضده، وهذا أخطر المرضين (¬1) وأصعبهما، وعلاجه إلى الرسل وأتباعهم، فهم أطبَّاء هذا المرض. والنوع الثاني: مرض مؤلم له في الحال، كالهمّ والغمّ والحَزَن والغيظ، وهذا المرض قد يزول بأدوية طبعية، كإزالة أسبابه، أو بالمداواة بما يضاد تلك الأسباب؛ ويدفع مُوجَبها مع قيامها، وهذا كما أن القلب قد يتألم بما يتألم به البدن، ويشقى بما يشقى به البدن؛ فكذلك البدن يتألم كثيرًا بما يتألم به القلب، ويُشقيه ما يُشقيه. فأمراض القلب التي تزول بالأدوية الطبعية من جنس أمراض البدن، وهذه لا توجب وحدها شقاءه وعذابه بعد الموت. وأما أمراضه التي لا تزول إلا بالأدوية الإيمانية النبوية؛ فهي التي توجب له الشقاء والعذاب الدائم إن لم يتداركها بأدويتها المضادة لها، فإذا استعمل تلك الأدوية حصل له الشفاء، ولهذا يقال: شفى غيظه، فإذا استولى عليه عدوه آلمه ¬

_ (¬1) ش: "الموضعين".

ذلك، فإذا انتصف منه اشتفى قلبه، قال تعالى: {قَاتِلُوهُمْ يُعَذِّبْهُمُ اللَّهُ بِأَيْدِيكُمْ وَيُخْزِهِمْ وَيَنْصُرْكُمْ عَلَيْهِمْ وَيَشْفِ صُدُورَ قَوْمٍ مُؤْمِنِينَ (14) وَيُذْهِبْ غَيْظَ قُلُوبِهِمْ وَيَتُوبُ اللَّهُ عَلَى مَنْ يَشَاءُ} [التوبة: 14، 15]، فأمرهم بقتال عدوهم، وأعلمهم أن فيه ست فوائد. فالغيظ يؤلم القلب، ودواؤه (¬1) في شفاء غيظه، فإن شَفاه بحق اشتفى، وإن شفاه بظلم وباطل زاده مرضا من حيث ظن أنه يشفيه، وهو كمن شفى مرض العشق بالفجور بالمعشوق، فإن ذلك يزيد مرضه، ويوجب له أمراضًا أُخر أصعب من مرض العشق، كما سيأتي إن شاء الله تعالى. وكذلك الغم والهم والحزن أمراض للقلب، وشفاؤها بأضدادها من الفرح والسرور، فإن كان ذلك بحق اشتفى القلب وصحَّ وبرئ من مرضه، وإن كان بباطل توارَى ذلك واستتر ولم يَزُلْ، وأعقبه أمراضا هي أصعب وأخطر. وكذلك الجهل مرض يؤلم القلب، فمن الناس من يداويه بعلوم لا تنفع، ويعتقد أنه قد صح من مرضه بتلك العلوم، وهي في الحقيقة إنما تزيده مرضًا إلى مرضه؛ لكن اشتغل القلبُ بها عن إدراك الألم الكامن فيه، بسبب جهله بالعلوم النافعة التي هي شرط في صحته وبُرْئه، قال النبي - صلى الله عليه وسلم - في الذين أفتوا بالجهل، فهلك المستفتي بفتواهم: "قتلوه، قتلهم الله! ألَا سألوا إذْ لم يعلموا؟! فإنما شفاء العِيِّ السؤال" (¬2)؛ فجعل الجهل مرضًا وشفاءه سؤالَ ¬

_ (¬1) ش: "شفاؤه". (¬2) رواه أبو داود (336)، والدارقطني (1/ 189)، والقضاعي في مسند الشهاب (1163)، =

أهل العلم. وكذلك الشاكُّ في الشيء المرتابُ فيه [6 أ] يتألم قلبه حتى يحصل له العلم واليقين، ولما كان ذلك يوجب له حرارةً قيل لمن حصل له اليقين: ثَلَجَ صدره، وحصل له بَرْد اليقين وكذلك يضيق بالجهل والضلال عن طريق رُشده، وينشرح بالهدى والعلم، قال تعالى: {فَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلْإِسْلَامِ وَمَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقًا حَرَجًا كَأَنَّمَا يَصَّعَّدُ فِي السَّمَاءِ} [الأنعام: 125]. وسيأتي ذكر مرض ضيق الصدر وسببه وعلاجه إن شاء الله. والمقصود أن من أمراض القلوب ما يزول بالأدوية الطبعية، ومنها ما لا يزول إلا بالأدوية الشرعية الإيمانية، والقلب له حياة وموت، ومرض وشفاء، وذلك أعظم مما للبدن. ¬

_ = والبيهقي في السنن الكبرى (1/ 227)، من طريق الزبير بن خُريق عن عطاء عن جابر رضي الله عنه، واختُلف في إسناده ومتنه، فرُوي من طرق عن الأوزاعي عن عطاء عن ابن عباس رضي الله عنهما بنحوه، وصحّحه ابن السكن كما في البدر المنير (2/ 615)، وأعله الدارقطني والبيهقي، وضعفه الذهبي في المهذب (1/ 236)، وابن حجر في البلوغ (115)، وقواه الشوكاني في النيل (1/ 323)، وهو مخرج في الإرواء (105). وفي الباب عن زيد بن أنيس وعلي بن أبي طالب رضي الله عنهما.

الباب الرابع: في أن حياة القلب وإشراقه مادة كل خير فيه، وموته وظلمته مادة كل شر فيه

الباب الرابع في أن حياة القلب وإشراقه مادةُ كل خير فيه وموتَه وظلمتَه مادةُ كل شر فيه أصلُ كلِّ خيرٍ وسعادة للعبد بل لكل حي ناطق: كمال حياته ونوره، فالحياة والنور مادة الخير كلُّه، قال الله تعالى: {أَوَمَنْ كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُورًا يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَنْ مَثَلُهُ فِي الظُّلُمَاتِ لَيْسَ بِخَارِجٍ مِنْهَا} [الأنعام: 122]، فجمع بين الأصلين: الحياة، والنور، فبالحياة تكون قوَّته، وسمعه، وبصره، وحياؤه، وعِفّته، وشجاعته، وصبره، وسائر أخلاقه الفاضلة، ومحبته للحسن، وبغضه للقبيح، فكلما قويت حياته قويت فيه هذه الصفات، وإذا ضعفت حياته ضعفت فيه هذه الصفات. وحياؤه من القبائح هو بحسب حياته في نفسه، فالقلب الصحيح الحي إذا عُرضت عليه القبائح؛ نَفَر منها بطبعه وأبغضها، ولم يلتفت إليها، بخلاف القلب الميت، فإنه لا يفرّق بين الحسن والقبيح كما قال عبد الله بن مسعود رضي الله تعالى عنه: هلك من لم يكن له قلب يعرف به المعروف والمنكر (¬1). وكذلك القلبُ المريضُ بالشهوة، فإنه لضعفه يميل إلى ما يعرِض له من ذلك بحسب قوة المرض وضعفه. ¬

_ (¬1) رواه بنحوه ابن أبي شيبة (7/ 554)، وابن جرير في تفسيره (23/ 188)، والطبراني في الكبير (9/ 107)، وعنه أبو نعيم في الحلية (1/ 135)، ورواه البيهقي في الشعب (6/ 95)، وابن عبد البر في الممهيد (23/ 283)، قال الهيثمي في المجمع (7/ 541): "رجاله رجال الصحيح".

وكذلك إذا قوي نوره وإشراقه انكشفت له صور المعلومات وحقائقها على ما هي عليه، فاستبان حُسْنَ الحَسَن بنوره، وَآثَرَهُ بحياته، وكذلك قُبْحُ القبيح. وقد ذكر سبحانه هذين الأصلين في مواضع من كتابه، قال تعالى: {وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِنْ أَمْرِنَا مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلَا الْإِيمَانُ وَلَكِنْ جَعَلْنَاهُ نُورًا نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشَاءُ مِنْ عِبَادِنَا} [الشورى: 52]، فجمع بين الروح الذي يحصل به الحياة، والنور الذي يحصل به الإضاءة والإشراق، وأخبر أن كتابه الذي أنزله على رسوله متضمن للأمرين، فهو روح تحيا به القلوب، ونور تستضيء وتشرق به. كما قال تعالى: {أَوَمَنْ كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُورًا يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ} [الأنعام: 122]؛ أي أوَمَنْ كان كافرَا ميت القلب، مغمورًا في ظلمة الجهل، فهديناه لرشده، ووفقناه للإيمان، وجعلنا قلبه حيًّا بعد موته، مشرقًا مستنيرًا بعد ظلمته؟! فجعل الكافر - لانصرافه عن طاعته، وجهله بمعرفته وتوحيده وشرائع دينه، وتركِه الأخذَ بنصيبه من رضاه، والعملَ بما يؤديه إلى نجاته وسعادته - بمنزلة الميت الذي لا ينفع نفسه بنافعة، ولا يدفع عنها من مكروه، فهديناه للإسلام ونَعَشْناه به؛ فصار يعرف مضارَّ نفسه ومنافعها، ويعمل في خلاصها [6 ب] من سخط الله وعقابه، فأبصر الحق بعد عماه عنه، وعرفه بعد جهله به، واتبعه بعد إعراضه عنه، وحصل له نور وضياء يستضيء به، فيمشى بنوره بين الناس، وهم في سَدَف الظلام، كما قيل: لَيْلِي بِوجْهِك (¬1) مُشْرِقٌ ... وَظَلامُهُ في النَّاسِ سَارِي ¬

_ (¬1) الأصل، م: "بوحيك".

ضرب الله سبحانه المثلين: المائي والناري لوحيه ولعباده

النَّاسُ في سَدَفِ الظّلامِ ... وَنَحْنُ في ضَوْءِ النّهَارِ (¬1) ولهذا يضرب الله سبحانه المثلَين المائيَّ والناريَّ لوحيه ولعباده. أما الأول فكما قال في سورة الرعد: {أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَسَالَتْ أَوْدِيَةٌ بِقَدَرِهَا فَاحْتَمَلَ السَّيْلُ زَبَدًا رَابِيًا وَمِمَّا يُوقِدُونَ عَلَيْهِ فِي النَّارِ ابْتِغَاءَ حِلْيَةٍ أَوْ مَتَاعٍ زَبَدٌ مِثْلُهُ كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ الْحَقَّ وَالْبَاطِلَ فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَاءً وَأَمَّا مَا يَنْفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الْأَرْضِ كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثَالَ} [الرعد: 17]. فضرب لوحيه المثل بالماء لما يحصل به من الحياة، وبالنار لما يحصل بها (¬2) من الإضاءة والإشراق، وأخبر سبحانه أن الأودية تسيل بقدرها، فوادٍ كبيرٌ يسع ماءً كثيرًا، ووادٍ صغيرٌ يسع ماءً قليلًا، كذلك القلوب مُشبّهة بالأودية، فقلب كبير يسع علمًا كثيرًا، وقلب صغير إنما يسع بقدره. وشبَّه ما تحتمله القلوب من الشبهات والشهوات - بسبب مخالطة الوحي لها، وإثارتِه (¬3) لما فيها من ذلك - بما يحتمله السيل من الزبد، وشبَّه بطلان تلك الشبهات - باستقرار العلم النافع فيها - بذهاب ذلك الزبد، وإلقاء الوادي له، وإنما يستقرُّ فيه الماء الذي به النفع. وكذلك في المثل الذي بعده: يذهب الخَبَثُ الذي في ذلك الجوهر، ويستقر صَفْوه. وأما ضرب هذين المثلين للعباد؛ فكما قال في سورة البقرة: {مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ نَارًا فَلَمَّا أَضَاءَتْ مَا حَوْلَهُ ذَهَبَ اللَّهُ بِنُورِهِمْ وَتَرَكَهُمْ فِي ظُلُمَاتٍ ¬

_ (¬1) البيتان بلا نسبة في الموشى (ص 326) والكشكول (1/ 369). (¬2) الأصل، م، ث: "به". (¬3) م: "إمازته".

لَا يُبْصِرُونَ (17) صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لَا يَرْجِعُونَ} [البقرة: 17 - 18]، فهذا المثل الناري، ثم قال: {أَوْ كَصَيِّبٍ مِنَ السَّمَاءِ} إلى آخره [البقرة: 19]، فهذا المثل المائي. وقد ذكرنا الكلام على أسرار هذين المثلين، وبعض ما تَضَمَّنَاهُ من الحكم في كتاب "المعالم" (¬1) وغيره. والمقصود أن صلاخ القلب وسعادته وفلاحه موقوف على هذين الأصلين، قال تعالى: {إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ وَقُرْآنٌ مُبِينٌ (69) لِيُنْذِرَ مَنْ كَانَ حَيًّا} [يس: 69 - 70]، فأخبر أن الانتفاع بالقرآن والإنذار به إنما يحصل لمن هو حيُّ القلب، كما قال في موضع آخر: {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لِمَنْ كَانَ لَهُ قَلْبٌ} [ق: 37]، وقال تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ} [الأنفال: 24]، فأخبر سبحانه وتعالى أن حياتنا إنما هي بما يدعونا إليه الرسول من العلم والإيمان، فعلم أن موت القلب وهلاكه بِفَقْدِ ذلك. وشبَّه سبحانه من لا يستجيب لرسوله بأصحاب القبور، وهذا من أحسن التشبيه؛ فإن أبدانهم قبور لقلوبهم، فقد ماتت قلوبهم وقُبرت في أبدانهم، فقال تعالى: {إِنَّ اللَّهَ يُسْمِعُ مَنْ يَشَاءُ وَمَا أَنْتَ بِمُسْمِعٍ مَنْ فِي الْقُبُورِ} [فاطر: 22]، ولقد أحسن القائل: وَفي الجهلِ قَبْلَ الموْتِ مَوْتٌ لأَهْلِه ... وَأَجْسَامُهُمْ قَبْلَ القُبُورِ قُبُورُ وَأَرْوَاحُهُمْ في وَحْشَةٍ مِنْ جُسُومِهمْ ... وَلَيْسَ لهمْ حَتَّى النُّشُورِ نُشُورُ (¬2) ¬

_ (¬1) أي "إعلام الموقعين". انظر (1/ 150 - 152) منه. (¬2) البيتان بلا نسبة في أدب الدنيا والدين ص 43، ونسبا لعلي بن أبي طالب في ديوانه.

ولهذا جعل سبحانه وحيه الذي يُلقيه إلى الأنبياء روحًا، كما قال تعالى: {يُلْقِي الرُّوحَ مِنْ أَمْرِهِ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ} في موضعين من كتابه: [غافر: 15] (¬1)، وقال: {وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِنْ أَمْرِنَا} [الشورى: 52]؛ لأن حياة الأرواح والقلوب به، وهذه الحياة الطيبة التي [7 أ]، خصَّ بها سبحانه مَن قَبِلَ وحيه، وعَمِل به، فقال: {مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [النحل: 97]، فخصَّهم سبحانه بالحياة الطيبة في الدارين، ومثله قوله تعالى: {وَأَنِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ يُمَتِّعْكُمْ مَتَاعًا حَسَنًا إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى وَيُؤْتِ كُلَّ ذِي فَضْلٍ فَضْلَه} [هود: 3]، ومثله قوله تعالى: {وَالَّذِينَ هَاجَرُوا فِي اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مَا ظُلِمُوا لَنُبَوِّئَنَّهُمْ فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَلَأَجْرُ الْآخِرَةِ أَكْبَرُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ (41) الَّذِينَ صَبَرُوا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ} [النحل: 41، 42]، ومثله قوله تعالى: {لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا فِي هَذِهِ الدُّنْيَا حَسَنَةٌ وَلَدَارُ الْآخِرَةِ خَيْرٌ وَلَنِعْمَ دَارُ الْمُتَّقِينَ} [النحل: 30]. فبيَّن سبحانه أنه يُسعِد المحسنَ بإحسانه في الدنيا وفي الآخرة، كما أخبر أنه يُشقي المسيء بإساءته في الدنيا والآخرة، قال تعالى: {وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى} [طه: 124]. وقال تعالى وجمع بين النوعين فقال: {فَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلْإِسْلَامِ وَمَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقًا حَرَجًا كَأَنَّمَا يَصَّعَّدُ ¬

_ (¬1) والموضع الثاني قوله تعالى: {يُنَزِّلُ الْمَلَائِكَةَ بِالرُّوحِ مِنْ أَمْرِهِ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ} [النحل: 2].

فِي السَّمَاءِ كَذَلِكَ يَجْعَلُ اللَّهُ الرِّجْسَ عَلَى الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ} [الأنعام: 125]. فأهل الهدى والإيمان لهم شَرْحُ الصدر واتساعه وانفساحه، وأهل الضلال لهم ضيق الصدر والحرج. وقال تعالى: {أَفَمَنْ شَرَحَ اللَّهُ صَدْرَهُ لِلْإِسْلَامِ فَهُوَ عَلَى نُورٍ مِنْ رَبِّهِ} [الزمر: 22]. فأهل الإيمان في النور وانشراح الصدور، وأهل الضلال في الظلمة وضيق الصدور. وسيأتي في باب طهارة القلب مزيدُ تقريرٍ لهذا إن شاء الله. والمقصود أن حياة القلب وإضاءته مادة كل خير فيه، وموته وظلمته مادة كل شر فيه.

الباب الخامس: في أن حياة القلب وصحته لا تحصل إلا بأن يكون مدركا للحق مريدا له، مؤثرا له على غيره

الباب الخامس في أن حياة القلب وصحته لا تحصل إلا بأن يكون مُدركًا للحقِّ مريدًا له، مُؤثِرًا له على غيره لما كان في القلب قوتان: قوة العلم والتمييز، وقوة الإرادة والحب كان كماله وصلاحه باستعماله (¬1) هاتين القوتين فيما ينفعه، ويعود بصلاحه وسعادته، فكماله باستعمال قوة العلم في إدراك الحق ومعرفته، والتمييز بينه وبين الباطل، واستعمالِ قوة الإرادة والمحبة في طلب الحق ومحبته وإيثاره على الباطل، فمن لم يعرف الحق فهو ضالٌّ، ومن عرفه وآثر غيرَه عليه فهو مغضوب عليه، ومن عرفه واتبعه فهو مُنعَم عليه. وقد أمرنا الله سبحانه أن نسأله في صلاتنا أن يهدينا صراط الذين أنعم عليهم غير المغضوب عليهم ولا الضالين، ولهذا كان النصارى أخصَّ بالضلال؛ لأنهم أُمة جهل، واليهود أخصَّ بالغضب؛ لأنهم أمة عناد، وهذه الأمة هم المنعم عليهم. ولهذا قال سفيان بن عيينة (¬2): من فسد من عُبّادنا فَفِيه شبه من النصارى، ومن فسد من علمائنا ففيه شبه من اليهود. لأن النصارى عبدوا بغير علم، واليهود عرفوا الحق، وعدلوا عنه. وفى "المسند" والترمذي (¬3) من حديث عَدِيِّ بن حاتم، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - ¬

_ (¬1) ش: "باستكمال". (¬2) ذكره شيخ الإسلام ابن تيمية في "تفسير ست سور" (ص 450). (¬3) مسند أحمد (4/ 378)، سنن الترمذي (2953، 2954)، ورواه أيضًا الطبراني في =

قال: "اليهود مغضوب عليهم، والنصارى ضالُّون". وقد جمع سبحانه بين هذين الأصلين في غير موضع من كتابه، فمنها قوله تعالى: {وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ} [البقرة: 186]، فجمع سبحانه بين الاستجابة له والإيمان به ومنها قوله عن رسوله - صلى الله عليه وسلم -: {فَالَّذِينَ آمَنُوا بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُوا النُّورَ الَّذِي أُنْزِلَ مَعَهُ أُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} [الأعراف: 157]، وقال تعالى: {الم (1) ذَلِكَ الْكِتَابُ لَا رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِلْمُتَّقِينَ (2) الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلَاةَ} [7 ب] إلى قوله: {هُمُ الْمُفْلِحُونَ} [البقرة: 1 - 5]، وقال الله تعالى في وسط السورة: {وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَالْمَلَائِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ وَآتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَالسَّائِلِينَ وَفِي الرِّقَابِ وَأَقَامَ الصَّلَاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ ...} إلى آخر الآية [البقرة: 177]، وقال تعالى: {وَالْعَصْرِ (1) إِنَّ الْإِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ (2) إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ} [العصر: 1 - 3]. ¬

_ = الكبير (17/ 98، 99)، قال الترمذي: "هذا حديث حسن غريب"، وصححه ابن حبان (6246، 7206)، وابن تيمية كما في المجموع (1/ 64) وفي غيره، وابن القيم في بدائع الفوائد (2/ 458)، وقال الهيثمي في المجمع (6/ 356): "رجاله رجال الصحيح، غير عباد بن حبيش، وهو ثقة"، وهو في السلسلة الصحيحة

فوائد من سورة العصر

فأقسم سبحانه بالدهر - الذي هو زمن الأعمال الرابحة والخاسرة - على أن كل أحد في خُسر؛ إلا من كمّل قُوَّته العلمية بالإيمان بالله، وقوَّته العملية بالعمل بطاعته، فهذا كماله في نفسه، ثم كمّل غيره بوصيته له بذلك، وأمْرِهِ إياه به، وبملاك ذلك وهو الصج، فكمُل في نفسه بالعلم النافع والعمل الصالح، وكفل غيره بتعليمه إياه ذلك، ووصيته له بالصبر عليه، ولهذا قال الشافعي: "لو فكر الناس في سورة {وَالْعَصْرِ} لكفتهم" (¬1). وهذا المعنى في القرآن في مواضع كثيرة، يخبر سبحانه أن أهل السعادة هم الذين عرفوا الحق واتبعوه، وأن أهل الشقاوة هم الذين جهلوا الحق وضلوا عنه، أو خالفوه واتبعوا غيره. وينبغي أن يُعرف أن هاتين القوَّتين لا تتعطلان من القلب، بل إن استعمل قوّته العلمية في معرفة الحق وإدراكه؛ وإلا استعملها بمعرفة ما يليق به ويناسبه من الباطل، وإن استعمل قوته الإرادية العملية في العمل به؛ وإلا استعملها في ضده، فالإنسان حارث هَمّام بالطبع، كما قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: "أصدق الأسماء حارث وهمّام" (¬2)، فالحارث: الكاسب العامل، والهمّام: ¬

_ (¬1) انظر: تفسير ابن كثير (8/ 3852). (¬2) رواه أحمد (4/ 345)، والبخاري في الأدب المفرد (814)، وأبو داود (4950) من حديث أبي وهب الجُيشَمي رضي الله عنه، وحسَّنه ابن عبد البر في الاستغناء (1/ 353)، وصححه ابن تيمية كما في المجموع (7/ 43)، وابن القيم في الزاد (2/ 305)، وهو في السلسلة الصحيحة (1040). وفي الباب عن ابن مسعود وأبي سبرة وأبي هريرة وابن عمر ومعاوية وعبد الله بن جراد والحسن بن جابر وعبد الله بن عامر مرسلًا رضي الله عنهم.

المريد؛ فإن النفس متحركة بالإرادة، وحركتها الإرادية لها من لوازم ذاتها، والإرادة تستلزم مرادًا يكون مُتصوَّرًا لها، متميزًا عندها؛ فإن لم تتصور الحق وتطلبه وتُرِدْهُ (¬1) تصوَّرتِ الباطلَ وطلبته وأرادته ولابدَّ. وهذا يتبين بالباب الذي بعده، فنقول: ¬

_ (¬1) الأصل: "تريده".

الباب السادس أنه لا سعادة للقلب ولا لذة ولا نعيم ولا صلاح إلا بأن يكون إلهه وفاطره وحده هو معبوده وغاية مطلوبه، وأحب إليه من كل ما سواه

الباب السادس أنه لا سعادة للقلب ولا لذةَ ولا نعيمَ ولا صلاح إلا بأن يكون إلهه وفاطره وحده هو معبوده وغاية مطلوبه، وأحب إليه من كل ما سواه معلومٌ أن كل حيٍّ سوى الله سبحانه مِن ملَك أو إنس أو جن أو حيوان؛ فهو فقير إلى جلب ما ينفعه ودفع ما يضره، ولا يتم له إلا بتصوره للنافع والضار، والمنفعة من جنس النعيم واللذة، والمضرة من جنس الألم والعذاب. فلا بد له (¬1) من أمرين: أحدهما: هو المحبوب المطلوب الذي ينتفع به، ويلتذُّ بإدراكه، والثاني: المُعِين الموصل، المحصّل لذلك المقصود. وبإزاء ذلك أمران آخران: أحدهما: مكروه بغيض ضارٌّ، والثاني: مُعين دافع له عنه. فهذه أربعة أشياء: أحدها (¬2): أمر هو محبوب مطلوب الوجود. الثاني: أمر مكروه مطلوب العلم. الثالث: الوسيلة إلى حصول المحبوب. الرابع: الوسيلة إلى دفع المكروه. فهذه الأمور الأربعة ضرورية للعبد، بل ولكل حيوان، لا يقوم وجوده (¬3) وصلاحه إلا بها. ¬

_ (¬1) "له" ساقطة من م. (¬2) م، ت: "أحدهما". (¬3) "وجوده" ساقطة من م.

حديث البراء بن عازب: اللهم إني أسلمت نفسي إليك

فإذا تقرر ذلك، فالله تعالى هو الذي يجب أن يكون هو المقصود المدعوَّ المطلوب، الذي يراد وجهُه، ويُبتغَى قُرْبُه، ويُطلَب رضاه، وهو المُعين على حصول ذلك. وعبودية ما سواه والالتفات إليه والتعلق به هو المكروه الضار، وهو المُعين على دفعه. فهو سبحانه الجامع لهذه الأمور الأربعة دون ما سواه؛ فهو المعبود المحبوب المراد، وهو المعين لعبده على وصوله إليه وعبادته له، والمكروه البغيض هو بمشيئته وقدرته، وهو المعين لعبده على دفعه عنه، كما قال أعرف الخلق به: "أعوذ برضاك من سخطك، وأعوذ بمعافاتك من عقوبتك، وأعوذ بك [8 أ] منك" (¬1)، وقال: "اللهم إني أسلمتُ نفسي إليك، ووجّهت وجْهي إليك، وفوّضت أمري إليك، وألجأتُ ظهري إليك، رغبةً ورهبةً إليك، لا ملجأ ولا منجى منك إلا إليك" (¬2)؛ فمنه المنجى، وإليه الملجأ، وبه الاستعاذة من شر ما هو كائن بمشيئته وقدرته، فالإعاذة فعله، والمستعاذ منه فعله أو مفعوله الذي خَلَقَه بمشيئته. فالأمر كله له، والحمد كله له، والمُلك كله له، والخير كله في يديه، لا يحصي أحد من خلقه ثناءً عليه، بل هو كما أثنى على نفسه، وفوق كل ما يثني عليه أحد من خلقه، ولهذا كان صلاح العبد وسعادته في تحقيق معنى {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} [الفاتحة: 5]؛ فإن العبودية تتضمن المقصود المطلوب، لكن على أكمل الوجوه، والمستعان هو الذى يستعان به على المطلوب، ¬

_ (¬1) أخرجه مسلم (486) من حديث عائشة. (¬2) أخرجه البخاري (247)، ومسلم (2710) من حديث البراء بن عازب.

تعريف الإله والرب

فالأول من معنى ألوهيته، والثاني من معنى ربوبيته؛ فإن الإله هو الذي تألهُه القلوب محبةً، وإنابةً، وإجلالًا، وإكرامًا، وتعظيمًا، وذُلًّا، وخضوعًا، وخوفًا، ورجاءً، وتوكلًا. والربُّ هو الذي يَرُبُّ عبده، فيعطيه خلقه، ثم يهديه إلى مصالحه، فلا إله إلا هو، ولا ربَّ إلا هو، فكما أن ربوبية ما سواه أبطل الباطل، فكذلك إلهية ما سواه. وقد جمع الله سبحانه بين هذين الأصلين في مواضع من كتابه، كقوله: {فَاعْبُدْهُ وَتَوَكَّلْ عَلَيْهِ} [هود: 123]، وقوله عن نبيه شُعيب: {وَمَا تَوْفِيقِي إِلَّا بِاللَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ} [هود: 88]، وقوله: {وَتَوَكَّلْ عَلَى الْحَيِّ الَّذِي لَا يَمُوتُ وَسَبِّحْ بِحَمْدِهِ} [الفرقان: 58]، وقوله: {وَتَبَتَّلْ إِلَيْهِ تَبْتِيلًا (8) رَبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ فَاتَّخِذْهُ وَكِيلًا} [المزمل: 8، 9]، وقوله: {قُلْ هُوَ رَبِّي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ مَتَابِ} [الرعد: 30]، وقوله عن الحنفاء أتباع إبراهيم: {رَبَّنَا عَلَيْكَ تَوَكَّلْنَا وَإِلَيْكَ أَنَبْنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ} [الممتحنة: 4]. فهذه سبعة مواضع تنتظم هذين الأصلين الجامعين لمعنيَيِ التوحيد، اللذين لا سعادة للعبد بدونهما البتة. الوجه الثاني: أن الله سبحانه وتعالى خلق الخلق لعبادته، الجامعة لمعرفته، والإنابة إليه، ومحبته، والإخلاص له، فبذكره تطمئن قلوبهم، وتسكن نفوسهم، وبرؤيته في الآخرة تَقَرُّ عيونهم، ويتم نعيمهم، فلا يعطيهم في الآخرة شيئًا هو أحب إليهم ولا أقرُّ لعيونهم ولا أنعم لقلوبهم من النظر إليه، وسماع كلامه منه بلا واسطة، ولم يُعطِهم في الدنيا شيئًا خيرًا لهم (¬1)، ¬

_ (¬1) "خيرًا لهم" ساقطة من ش وغيرها.

ذكر ما في دعاء النبي: - صلى الله عليه وسلم - اللهم بعلمك الغيب .. من الفوائد

ولا أحبَّ إليهم، ولا أقرَّ لعيونهم من الإيمان به، ومحبته، والشوقِ إلى لقائه، والأُنْسِ بقربه، والتنعُّم بذِكْره. وقد جمع النبي - صلى الله عليه وسلم - بين هذين الأمرين في الدعاء الذي رواه النسائي، والإمام أحمد، وابن حبان في "صحيحه" وغيرهم (¬1) من حديث عمار بن ياسر أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان يدعو به: "اللهم بعلمك الغيب، وقدرتك على الخلق، أحْيِني. ما علمت الحياة خيرًا لي، وتوفّني إذا كانت الوفاة خيرًا لي، وأسألك خشيتك في الغيب والشهادة، وأسألك كلمة الحق في الغضب والرضا، وأسألك القصد في الفقر والغنى، وأسألك نعيمًا لا ينفَد، وأسألك قُرّة عين لا تنقطع، وأسألك الرضا بعد القضاء، وأسألك برْد العيش بعد الموت، وأسألك لذة النظر إلى وجهك، والشوقَ إلى لقائك، في غير ضَرّاءَ مُضِرّة، ولا فتنة مُضلة، اللهم زَيِّنَّا بزينة الإيمان، واجعلنا هُداةً مهتدين". فجمع في هذا الدعاء العظيم القدر بين أطيب شيء في الدنيا وهو الشوق إلى لقائه سبحانه، وأطيب شيء في الآخرة وهو النظر إلى وجهه سبحانه، ولما كان كمال ذلك وتمامه موقوفًا على عدم ما يضر في الدنيا، ويفتن في الدين [8 ب]، قال: "في غير ضرّاء مُضرة، ولا فتنة مُضلة". ¬

_ (¬1) مسند أحمد (4/ 264)، سنن النسائي (3/ 54 - 55)، صحيح ابن حبان (1971)، ورواه أيضًا ابن أبي شيبة (6/ 44)، والبزار (1392، 1393)، وأبو يعلى (1624)، وصححه الحاكم (1923)، وقال الشوكاني في النيل (2/ 333): "رجال إسناده ثقات"، وصححه الألباني في تعليقه على شرح الطحاوية (ص 100)، واحتج به الأئمة على إثبات نظر المؤمنين في الآخرة إلى الباري تعالى. وفي الباب عن أنس وزيد بن ثابت رضي الله عنهما.

المقدور يكتنفه أمران: الاستخارة قبل وقوعه، والرضا بعد وقوعه

ولما كان كمال العبد في أن يكون عالمًا بالحق، متَّبعًا له، معلِّمًا لغيره، مرشدًا له، قال: "اجعلنا هُداة مهتدين". ولما كان الرضا النافع المحصِّل للمقصود هو الرضا بعد وقوع القضاء لا قبله -فإن ذلك عَزْمٌ على الرضا، فإذا وقع القضاء انفسخ ذلك العزم- سأل الرضا بعده؛ فإن المقدور يكتنفه (¬1) أمران: الاستخارة قبل وقوعه، والرضا بعد وقوعه، فمن سعادة العبد أن يجمع بينهما، كما في "المسند" وغيره (¬2) عنه - صلى الله عليه وسلم - قال: "إن من سعادة ابن آدم: استخارة الله، ورضاه بما قضى الله، وإن من شقاوة ابن آدم: ترك استخارة الله، وسخطه بما قضى الله". ولما كانت خشية الله رأس كل خير في المشهد والمغيب، سألة خشيته في الغيب والشهادة. ولما كان أكثر الناس إنما يتكلم بالحق في رضاه، فإذا غضب أخرجه غضبه إلى الباطل، وقد يدخله أيضًا رضاه في الباطل، سأل الله أن يوفِّقه لكلمة الحق في الغضب والرضا، ولهذا قال بعض السلف: "لا تكن ممن ¬

_ (¬1) م: "يكشفه". (¬2) مسند أحمد (1/ 168) من حديث سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه، ورواه أيضًا الترمذي (2151)، والبزار (1097، 1178)، وأبو يعلى (701)، والبيهقي في الشعب (1/ 219)، قال الترمذي: "هذا حديث غريب، لا نعرفه إلا من حديث محمد ابن أبي حميد، ويقال له أيضًا: حماد بن أبي حميد، وهو أبو إبراهيم المدني، وليس هو بالقوي عند أهل الحديث"، وضعّفه الذهبي في الميزان (3/ 531)، والهيثمي في المجمع (2/ 566)، والعيني في عمدة القاري (7/ 223)، وأحمد شاكر في التعليق على المسند (3/ 28)، وصححه الحاكم (1903)، وحسَّنه ابن حجر في الفتح (11/ 184)، وهو في السلسلة الضعيفة (1906، 6212).

النعيم نوعان: للبدن وللقلب

إذا رضي أدخله رضاه في الباطل، وإذا غضب أخرجه غضبه من الحق". ولما كان الفقر والغنى مِحْنتين وبَلِيَّتيْنِ، يبتلي الله بهما عبده، ففي الغنى يبسط يده، وفي الفقر يقبضها، سأل الله القصد في الحالين، وهو التوسط الذي ليس معه إسراف ولا تقتير. ولما كان النعيم نوعين: نوعًا للبدن، ونوعًا للقلب؛ وهو قرة العين، وكماله بدوامه واستمراره، جمع بينهما في قوله: "أسألك نعيمًا لا ينفد، وقرة عين لا تنقطع". ولما كانت الزينة زينتين: زينة البدن، وزينة القلب؛ وكانت زينة القلب أعظمهما قدرًا وأجلهما خطرًا، وإذا حصلت حصلت زينة البدن على أكمل الوجوه في العُقْبَى، سأل ربه الزينة الباطنة فقال: "زيِّنَّا بزينة الإيمان". ولما كان العيش في هذه الدار لا يبرُد لأحد كائنًا من كان، بل هو محشوٌّ بالغُصَص والنكد، ومحفوف بالآلام الباطنة والظاهرة، سأل بردَ العيش بعد الموت. والمقصود أنه جمع في هذا الدعاء بين أطيب ما في الدنيا، وأطيب ما في الآخرة. فإن حاجة العباد إلى ربهم في عبادتهم إيّاه وتألُّهِهِمْ له كحاجتهم إليه في خلقه لهم، ورِزْقه إياهم، ومعافاة أبدانهم، وستر عوراتهم، وأمن روعاتهم، بل حاجتهم إلى تأَلُّهِه ومحبته وعبوديته أعظم؛ فإن ذلك هو الغاية المقصودة لهم، ولا صلاح لهم، ولا نعيم ولا فلاح، ولا لذة ولا سعادة بدون ذلك بحال. ولهذا كانت "لا إله إلا الله" أحسن الحسنات، وكان توحيد الإلهية رأس

الأمر. وأما توحيد الربوبية -الذي أقر به المسلم والكافر، وقرره أهل الكلام في كتبهم- فلا يكفى وحده، بل هو الحُجَّةُ عليهم، كما بيّن ذلك سبحانه في كتابه في عدة مواضع. ولهذا كان حق الله على عباده أن يعبدوه، ولا يشركوا به شيئًا، كما في الحديث الصحيح (¬1) الذي رواه معاذ بن جبل رضي الله عنه عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "أتدري ما حق الله على عباده؟ "، قلت: الله ورسوله أعلم! قال: "حقه على عباده أن يعبدوه ولا يشركوا به شيئًا، أتدرى ما حق العباد على الله إذا فعلوا ذلك؟ "، قلت: الله ورسوله أعلم! قال: "حقهم عليه أن لا يعذبهم بالنار". ولذلك يُحِبُّ سبحانه عباده المؤمنين الموحِّدين ويفرح بتوبتهم، كما أن في ذلك أعظم لذّة العبد وسعادته ونعيمه، فليس في الكائنات (¬2) شيء غير الله سبحانه يسكن القلب إليه، ويطمئن به، ويأنس به، ويتنعَّم بالتوجه إليه! ومن عبد غيره سبحانه، وحصل له به نوع منفعة ولذة؛ فمضرته بذلك أضعاف أضعاف منفعته، وهو بمنزلة أكل الطعام [9 أ] المسموم اللذيذ، وكما أن السماوات والأرض لو كان فيهما إله غيره سبحانه لفسدتا، كما قال تعالى: {لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتَا} [الأنبياء: 22]، فكذلك القلب إذا كان فيه معبود غير الله فسد فسادًا لا يُرجى صلاحه إلا بأن يخرج ذلك المعبود من قلبه، ويكون الله وحده إلهه ومعبوده الذي يحبه، ويرجوه، ويخافه، ويتوكل عليه، وينيب إليه. ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري (2856)، ومسلم (30). (¬2) "في الكائنات" ساقطة من الأصل.

فقر العبد إلى أن يعبد الله وحده سبحانه ليس له نظير يقاس به

الوجه الثالث: أن فقر العبد إلى أن يعبد الله وحده، لا يشرك به شيئًا؛ ليس له نظير فيقاسُ به، لكن يشبه من بعض الوجوه حاجة الجسد إلى الغذاء والشراب والنفس، وبينهما فروق كثيرة؛ فإن حقيقة العبد قلبه وروحه، ولا صلاح له إلابإلهه الحق الذي لا إله إلا هو، فلا يطمئن إلا بذكره، ولا يسكن إلا بمعرفته وحبِّه، وهو كادحٌ إليه كدحًا فملاقيه، ولا بدله من لقائه، ولا صلاح له إلا بتوحيد محبته وعبادته وخوفه ورجائه، ولو حصل له من اللَّذَّات والسرور بغيره ما حصل؛ فلا يدوم له ذلك، بل ينتقل من نوع إلى نوع، ومن شخص إلى شخص، ويتنعَّم بهذا في حال وبهذا في حال، وكثيرًا ما يكون ذلك الذي يتنعَّم به هو أعظم أسباب ألمه ومضرّته، وأما إلهه الحق فلا بد له منه في كل وقت، وفى كل حال، وأينما كان. فنفس الإيمان به ومحبته وعبادته وإجلاله وذكره هو غذاء الإنسان وقوته، وصلاحه وقوامه، كما عليه أهل الإيمان، ودلَّ عليه السنة والقرآن، وشهدت به الفطرة والجَنان، لا كما يقوله من قلَّ نصيبه من التحقيق والعرفان، وبُخِس حظُّه من الإحسان: إن عبادته وذكره وشكره تكليف ومشقة، لمجرد الابتلاء والامتحان، أو لأجل مجرد التعويض بالثواب المنفصل كالمعاوضة بالأثمان، أو لمجرد رياضة النفس وتهذيبها ليرتفع عن درجة البهيم من الحيوان، كما هي مقالاتٌ لمن بُخِسَ حظه من معرفة الرحمن، وقلَّ نصيبه من ذوق حقائق الإيمان، وفرح بما عنده من زبَدَ الأفكار وزُبالة الأذهان، بل عبادته ومعرفته وتوحيده وشكره قرَّة عين الإنسان، وأفضل لذة الروح والقلب والجَنان، وأطيب نعيمٍ ناله من كان أهلاً لهذا الشان، والله المستعان، وعليه التُّكلان.

معنى قوله تعالى: {قل بفضل الله وبرحمته فبذلك فليفرحوا} الآية

وليس المقصود بالعبادات والأوامر المشقةَ والكُلْفةَ بالقصد الأول، وإن وقع ذلك ضمنًا وتبعًا في بعضها؛ لأسبابٍ اقتضته لابد منها، هي من لوازم هذه النشأة. فأوامره سبحانه، وحقه الذي أوجبه على عباده، وشرائعه التي شرعها لهم؛ هي قرة العيون ولذة القلوب، ونعيم الأرواح وسرورها، وبه سعادتها وفلاحها، وكمالها في معاشها ومعادها، بل لا سرور لها، ولا فرح، ولا لذة، ولا نعيم في الحقيقة إلا بذلك، كما قال تعالى: {يَاأَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَتْكُمْ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَشِفَاءٌ لِمَا فِي الصُّدُورِ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ (57) قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُوا هُوَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ} [يونس: 57، 58]. قال أبو سعيد الخدري رضي الله عنه: فضلُ الله القرآنُ، ورحمته أن جعلكم من أهله (¬1). وقال هلال بن يِسَاف: بالإسلام الذي هداكم إليه، وبالقرآن الذي علَّمكم إياه، هو خيرٌ مما تجمعون من الذهب والفضة (¬2). وكذلك قال ابنُ عباسٍ والحسن وقتادة: فضله الإسلام، ورحمته القرآن (¬3). وقالت طائفة من السلف: فضله القرآن، ورحمته الإسلام. ¬

_ (¬1) أخرجه الطبري في تفسيره (15/ 106). (¬2) أخرجه الطبري في تفسيره (15/ 106). (¬3) أخرج أقوالهم الطبري في تفسيره (15/ 107).

أفضل نعيم الأخرة وأجله وأعلاه النظر إلى وجه الرب جل جلاله

والتحقيق: أن كُلًّا منهما فيه الوصفان [9 ب] الفضل والرحمة، وهما الأمران اللذان امتنَّ الله بهما على رسوله، فقال: {وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِنْ أَمْرِنَا مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلَا الْإِيمَانُ} [الشورى: 52]؛ والله سبحانه إنما رفع من رفع: بالكتاب والإيمان، ووضع من وضع: بعدمهما. فإن قيل: فقد وقع تسمية ذلك تكليفًا في القرآن كقوله: {لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا} [البقرة: 286]، وقوله: {لَا نُكَلِّفُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا} [الأنعام: 152]. قيل: نعم، إنما جاء ذلك في جانب النفي، ولم يسمِّ سبحانه أوامره ووصاياه وشرائعه تكليفًا قط، بل سماها روحًا، ونورًا، وشفاءً، وهدًى، ورحمة، وحياة، وعهدًا، ووصية، ونحو ذلك. الوجه الرابع: أن أفضل نعيم الآخرة وأجَلّه وأعلاه على الإطلاق هو النظر إلى وجه الرب جل جلاله، وسماع خطابه، كما في "صحيح مسلم" (¬1) عن صُهَيب، عن النبي - صلى الله عليه وسلم -: "إذا دخل أهل الجنة الجنة نادى منادٍ: يا أهل الجنة! إن لكم عند الله موعدًا يريد أن يُنجِزَكموه، فيقولون: ما هو؟ ألم يُبيِّض وجوهَنا؟ ويُثقَل موازيننا؟ ويُدخِلنا الجنة؟ ويُجِرْنا من النار؟ قال: فيكشف الحجاب، فينظرون إليه، فما أعطاهم شيئًا أحبَّ إليهم من النظر إليه". وفى حديث آخر: "فلا يلتفتون إلى شيء من النعيم ما داموا ينظرون إليه" (¬2). ¬

_ (¬1) برقم (181). (¬2) رواه ابن ماجه (184)، والآجري في التصديق بالنظر (48)، والدارقطني في الرؤية (61)، وأبو نعيم في الحلية (6/ 208) من حديث جابر بن عبد الله رضي الله عنهما، =

فبيَّن النبيّ - صلى الله عليه وسلم - أنهم مع كمال تنعُّمهم بما أعطاهم ربهم في الجنة، لم يُعِطهم شيئًا أحبَّ إليهم من النظر إليه، وإنما كان ذلك أحبَّ إليهم؛ لأن ما يحصل لهم به -من اللذة والنعيم والفرح والسرور وقرة العين- فوق ما يحصل لهم من اللذّة والنعيم (¬1) والتمتع بالأكل والشرب والحُور العين، ولا نسبة بين اللذتين والنعيمين البتة. ولهذا قال سبحانه في حق الكفار: {كَلَّا إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ (15) ثُمَّ إِنَّهُمْ لَصَالُو الْجَحِيمِ} [المطففين: 15، 16]، فجمع عليهم نوعي العذاب: عذاب النار، وعذاب الحجاب عنه سبحانه، كما جمع لأوليائه نوعي النعيم: نعيم التمتع بما في الجنة، ونعيم التمتع برؤيته، وذكر سبحانه هذه الأنواع الأربعة في هذه السورة، فقال في حق الأبرار: {إِنَّ الْأَبْرَارَ لَفِي نَعِيمٍ (22) عَلَى الْأَرَائِكِ يَنْظُرُونَ} [المطففين: 22، 23]. وهضمَ معنى الآية من قال: ينظرون إلى أعدائهم يُعذَّبون، أو ينظرون إلى قصورهم وبساتينهم، أو ينظر بعضهم إلى بعض. وكل هذا عُدول عن المقصود إلى غيره، وإنما المعنى ينظرون إلى وجه ربهم، ضدَّ حال الكفار الذين هم عن ربهم محجوبون، {ثُمَّ إِنَّهُمْ لَصَالُو الْجَحِيمِ} [المطففين: 16]. ¬

_ = قال أبو نعيم: "تفرّد به الفضل الرقاشي، ولم يتابع عليه، وفيه ضعف ولين"، وقال ابن كثير في تفسيره (3/ 759): "في إسناده نظر"، وضعفه الهيثمي في المجمع (7/ 218)، وهو في ضعيف الترغيب (2244). (¬1) "اللذة والنعيم" ساقطة من الأصل.

فصل: في أن لذة النظر إلى وجه الله سبحانه يوم القيامة تابعة للتلذذ بمعرفته ومحبته في الدنيا

وتأمل كيف قابل سبحانه ما قاله الكفار في أوليائه (¬1) في الدنيا وسخروا به منهم، بضده في القيامة؛ فإن الكفار كانوا إذا مر بهم المؤمنون يتغامزون ويضحكون منهم، {وَإِذَا رَأَوْهُمْ قَالُوا إِنَّ هَؤُلَاءِ لَضَالُّونَ} [المطففين: 32]، قال تعالى: {فَالْيَوْمَ الَّذِينَ آمَنُوا مِنَ الْكُفَّارِ يَضْحَكُونَ} [المطففين: 34]، مقابلة لتغامزهم بهم وضحكهم منهم. ثم قال: {عَلَى الْأَرَائِكِ يَنْظُرُونَ} [المطففين: 35]، فأطلق النظر، ولم يقيده بمنظور دون منظور، وأعلى ما نظروا إليه وأجلُّه وأعظمه: هو الله سبحانه، والنظر إليه أجلُّ أنواع النظر وأفضلها، وهو أعلى مراتب الهداية، فقابل بذلك قولهم: {إِنَّ هَؤُلَاءِ لَضَالُّونَ}، فالنظر إلى الرب سبحانه مراد من هذين الموضعين (¬2) ولا بدَّ، إما بخصوصه، وإما بالعموم والإطلاق؛ ومَنْ تأمل السياق لم يجد الآيتين تحتملان غير إرادة ذلك خصوصًا أو عمومًا. فصل وكما أنه لا نِسْبَةَ لنعيم ما في الجنة إلى نعيم النظر إلى وجه الأعلى سبحانه، فلا نسبة لنعيم الدنيا إلى نعيم محبته، ومعرفته، والشوق إليه، والأُنس (¬3) به، بل لذة النظر إليه سبحانه تابعة [10 أ] لمعرفتهم به، ومحبتهم له؛ فإن اللذة تتبع الشعور والمحبة، فكلما كان المحب أعرف بالمحبوب، وأشد محبة له، كان الْتذاذه بقربه ورؤيته ووصوله إليه أعظم. ¬

_ (¬1) ش: "عباده". ظ: "أعدائهم". (¬2) ش: "النوعين". (¬3) ش: "الأمن".

لا يملك مخلوق لمخلوق نفعا ولا ضرا، بل كل ذلك لله وحده

الوجه الخامس: أن المخلوق ليس عنده للعبد نفع ولا ضرٌّ، ولا عطاء ولا منع، ولا هدى ولا ضلال، ولا نصر ولا خِذلان، ولا خفض ولا رفع، ولا عزٌّ ولا ذلٌّ، بل الله وحده هو الذي يملك له ذلك كله، قال تعالى: {مَا يَفْتَحِ اللَّهُ لِلنَّاسِ مِنْ رَحْمَةٍ فَلَا مُمْسِكَ لَهَا وَمَا يُمْسِكْ فَلَا مُرْسِلَ لَهُ مِنْ بَعْدِهِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} [فاطر: 2]، وقال تعالى: {وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللَّهُ بِضُرٍّ فَلَا كَاشِفَ لَهُ إِلَّا هُوَ وَإِنْ يُرِدْكَ بِخَيْرٍ فَلَا رَادَّ لِفَضْلِهِ يُصِيبُ بِهِ مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَهُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ} [يونس: 107]، وقال تعالى: {إِنْ يَنْصُرْكُمُ اللَّهُ فَلَا غَالِبَ لَكُمْ وَإِنْ يَخْذُلْكُمْ فَمَنْ ذَا الَّذِي يَنْصُرُكُمْ مِنْ بَعْدِهِ} [آل عمران: 160]، وقال تعالى عن صاحب يس: {أَأَتَّخِذُ مِنْ دُونِهِ آلِهَةً إِنْ يُرِدْنِ الرَّحْمَنُ بِضُرٍّ لَا تُغْنِ عَنِّي شَفَاعَتُهُمْ شَيْئًا وَلَا يُنْقِذُونِ} [يس: 23]، وقال: {يَاأَيُّهَا النَّاسُ اذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ هَلْ مِنْ خَالِقٍ غَيْرُ اللَّهِ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ} [فاطر: 3]، وقال تعالى: {أَمَّنْ هَذَا الَّذِي هُوَ جُنْدٌ لَكُمْ يَنْصُرُكُمْ مِنْ دُونِ الرَّحْمَنِ إِنِ الْكَافِرُونَ إِلَّا فِي غُرُورٍ (20) أَمَّنْ هَذَا الَّذِي يَرْزُقُكُمْ إِنْ أَمْسَكَ رِزْقَهُ بَلْ لَجُّوا فِي عُتُوٍّ وَنُفُورٍ} [الملك: 20، 21]. فجمع سبحانه بين النصر والرزق، فإن العبد مضطرٌّ إلى من يدفع عنه عدوه بنصره (¬1)، ويجلب له منافعه برزقه (¬2)، فلا بد له من ناصر ورازق، والله وحده هو الذي ينصر ويرزق، فهو الرزاق ذو القوة المتين، ومن كمال فطنة العبد ومعرفته أن يعلم أنه إذا مسَّه الله بسوء لم يرفعه عنه غيره، وإذا ناله ¬

_ (¬1) في بعض النسخ: "وينصره". (¬2) في بعض النسخ: "ويرزقه".

بنعمة لم يرزقه إياها سواه. ويُذكَر أن الله سبحانه أوحى إلى بعض أنبيائه: "أدرك لي لطيف الفطنة وخفيَّ اللطف، فإني أحب ذلك، قال: يا رب! وما لطيف الفطنة؟ قال: إن وقعت عليك ذبابة فاعلم أني أوقعتُها؛ فَسَلْني أرفعها، قال: وما خفيُّ اللطف؟ قال: إذا آتيتُك (¬1) حَبّة فاعلم أني ذكرتك بها". وقد قال تعالى عن السحرة: {وَمَا هُمْ بِضَارِّينَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ} [البقرة: 102]، فهو سبحانه وحده - الذي يكفى عبده وينصره ويرزقه ويكلؤه. قال الإمام أحمد (¬2): حدثنا عبد الرزاق، أخبرنا عمران، قال: سمعت وهبًا يقول: قال الله عز وجل في بعض كتبه: "بِعزّتي إنه من اعتصم بي، فإن كادته السماوات بمن فيهن، والأرضون بمن فيهن؛ فإني أجعل له من ذلك مخرجًا، ومن لم يعتصم بي فإني أقطع يديه من أسباب السماء، وأخسِفُ به من تحت قدميه الأرض، فأجعله في الهواء، ثم أكِلُه إلى نفسه، كفَى بي ¬

_ (¬1) في بعض النسخ: "أتتك". وهذا الأثر ذكره أبو طالب المكي في "قوت القلوب" (2/ 15، 178). (¬2) لم أقف عليه بهذا الإسناد، ورواه إلى قوله: "ثم أكله إلى نفسه" أبو داود في الزهد (3) وابن أبي حاتم في التفسير (16520) من طريق عبد الصمد بن معقل عن وهب به. ورواه بنحوه ابن المبارك في الزهد (ص 108) عن معمر عن محمد بن عمر عن وهب، ومن طريق ابن المبارك رواه أبو نعيم في الحلية (4/ 38). وروى جزأه الأخير أحمد في الزهد (ص 96 - 97) من طريق جعفر عن عمران، وأبو نعيم (4/ 26) من طريق عبد الصمد بن معقل، كلاهما عن وهب.

لعبدي مالًا، إذا كان عبدي في طاعتي أعطيه قبل أن يسألني، وأستجيب له قبل أن يدعوني، فأنا أعلم بحاجته التي ترفُق به منه". قال أحمد (¬1): وحدثنا هاشم بن القاسم، حدثنا أبو سعيد المؤدِّب، حدثنا من سمع عطاءً الخراساني، قال: لقيت وهب بن مُنبِّه وهو يطوف بالبيت، فقلت له: حدِّثني حديثًا أحفظه عنك في مقامي هذا، وأوجِزْ، قال: نعم، أوحى الله تبارك وتعالى إلى داود عليه السلام: "يا داود! أما وعزتي وعظمتي لا يعتصم بي عبد من عبادي دون خلقي، أعرف ذلك من نيَّته، فتكيده السماوات السبع ومن فيهنّ، والأرضون السبع ومن فيهن، إلا جعلت له من بينهن مخرجًا، أما وعزّتي وعظمتي لا يعتصم مني عبد من عبادي بمخلوق دوني، أعرف ذلك [10 ب] من نيته؛ إلا قطعتُ أسباب السماء من يده، وأسَخْتُ الأرضَ من تحت قدميه، ثم لا أبالي بأي وادٍ هلك". وهذا الوجه أظهر للعامة من الذي قبله، ولهذا خوطبوا به في القرآن أكثر من الأول، ومنه دعت الرسل إلى الوجه الأول، وإذا تدبر اللبيب القرآن وجد الله سبحانه يدعو عباده بهذا الوجه إلى الوجه الأول، وهذا الوجه يقتضى التوكل على الله والاستعانة به، ودعاءه ومسألته دون ما سواه، ويقتضي أيضًا محبته وعبادته، لإحسانه إلى عبده، وإسباغ نعمه عليه، فإذا عبدوه وأحبوه وتوكلوا عليه من هذا الوجه دخلوا منه إلى الوجه الأول. ونظير ذلك من ينزل به بلاء عظيم، أو فاقة شديدة، أو خوف مُقِلقٌ، فجعل يدعو الله سبحانه ويتضرع إليه، حتى فتح له من لذيذ مناجاته، وعظيم ¬

_ (¬1) لم أقف عليه بهذا الإسناد، ورواه أبو نعيم في الحلية (4/ 25 - 26) من طريق سعيد ابن سليمان عن فرج بن فضالة عن عطاء الخراساني به.

تعلق العبد بما سوى الله تعالى مضرة عليه

الإيمان به، والإنابة إليه، ما هو أحبُّ إليه من تلك الحاجة التي قصدها أولًا، ولكنه لم يكن يعرف ذلك أولًا حتى يطلبه، ويشتاق إليه. وفي نحو ذلك قال القائل (¬1): جَزَى اللهُ يَوْمَ الرَّوْع خَيْرًا فَإِنَّهُ ... أَرَانَا عَلىَ عِلَّاتِهِ أُمَّ ثَابِتِ أَرَانَا مَصُونَاتِ الحِجالِ وَلَم نَكُنْ ... نَرَاهُنَّ إِلا عِنْدَ نَعْتِ النَّوَاعِتِ الوجه السادس: أن تعلُّق العبد بما سوى الله تعالى مَضَرة عليه، إذا أخذ منه فوق القدر الزائد على حاجته، غير مستعين به على طاعة الله، فإذا قال من الطعام والشراب والنكاح واللباس فوق حاجته ضرَّه ذلك، ولو أحب سوى الله ما أحب؛ فلا بد أن يُسْلبَه ويفارقه، فإن أحبه لغير الله فلا بد أن تضره محبته ويعذّب بمحبوبه إما في الدنيا وإما في الآخرة؛ والغالب أنه يعذب به في الدارين، قال تعالى: {وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلَا يُنْفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ (34) يَوْمَ يُحْمَى عَلَيْهَا فِي نَارِ جَهَنَّمَ فَتُكْوَى بِهَا جِبَاهُهُمْ وَجُنُوبُهُمْ وَظُهُورُهُمْ هَذَا مَا كَنَزْتُمْ لِأَنْفُسِكُمْ فَذُوقُوا مَا كُنْتُمْ تَكْنِزُونَ} [التوبة: 34، 35]، وقال تعالى: {فَلَا تُعْجِبْكَ أَمْوَالُهُمْ وَلَا أَوْلَادُهُمْ إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ بِهَا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَتَزْهَقَ أَنْفُسُهُمْ وَهُمْ كَافِرُونَ} [التوبة: 55]. ولم يُصِبْ من قال: إن الآية على التقديم والتأخير كالجُرجانى (¬2)، ¬

_ (¬1) البيتان لابن ميادة في المحب والمحبوب (1/ 76)، ولأعرابي في وفيات الأعيان (3/ 122). (¬2) هو أبو علي الحسن بن يحيى صاحب "نظم القرآن"، وقد نقله عنه المؤلف في كتاب =

حيث قال: ينتظم قوله: {فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} بعد فصل آخر ليس بموضعه، على تأويل: "فلا تعجبك أموالهم ولا أولادهم في الحياة الدنيا، إنما يريد الله ليعذبهم بها في الآخرة". وهذا القول يُروى عن ابن عباس، وهو منقطعٌ (¬1)، واختاره قتادة (¬2) وجماعة. وكأنهم لما أشكل عليهم وجهُ تعذيبهم بالأموال والأولاد في الدنيا، وأن سرورهم ولذتهم ونعيمهم بذلك، فرُّوا إلى التقديم والتأخير. وأما الذين رأوا أن الآية على وجهها ونظمها، فاختلفوا في هذا التعذيب: فقال الحسن البصري: يعذبهم بأخذ الزكاة منها والإنفاق في الجهاد (¬3). واختاره ابن جرير، وأوضحه، فقال: العذاب بها إلزامهم بما أوجب الله عليهم فيها من حقوقه وفرائضه، إذ كان يؤخذ منه ذلك، وهو غير طيب النفس، ولا راجٍ من الله جزاءً، ولا من الآخذ منه حمدًا ولا شكرًا، بل على صُغْرٍ منه وكُرْهٍ (¬4). ¬

_ = "الروح" (ص 168، 169) ط. محمد علي صبيح، و"الفوائد" (ص 129)، ونقل عنه القرطبي في تفسيره في مواضع. (¬1) رواه ابن جرير في تفسيره (14/ 296) من طريق علي بن أبي طلحة عن ابن عباس رضي الله عنهما، وعزاه في الدر المنثور (4/ 218) لابن المنذر. (¬2) رواه عن قتادة ابن جرير في تفسيره (14/ 295 - 296)، وابن أبي حاتم (6/ 1813)، وعزاه في الدر المنثور (4/ 218) لابن المنذر وابن أبي حاتم وأبي الشيخ. (¬3) رواه ابن جرير في تفسيره (14/ 296). (¬4) انظر المصدر السابق.

وهذا أيضًا عدولٌ عن المراد بتعذيبهم في الدنيا بها، وذهاب عن مقصود الآية. وقالت طائفة: تعذيبهم بها أنهم يُعرَّضون (¬1) بكفرهم لغنيمة أموالهم، وسَبْي أولادهم؛ فإن هذا حكم الكافر، وهم في الباطن كذلك وهذا أيضًا من جنس ما قبله؛ فإن الله سبحانه أقرَّ المنافقين، وعصم أموالهم وأولادهم بالإسلام الظاهر، وتولىّ سرائرهم، فلو كان المراد ما ذكره هؤلاء لوقع مراده سبحانه من غنيمة أموالهم وسبي أولادهم، فإن الإرادة هاهنا كونِيّة بمعنى المشيئة، وما شاء الله كان ولا بد، وما لم يشأ لم يكن. فالصواب والله أعلم أن يقال: تعذيبهم بها هو الأمر المشاهد من تعذيب طلاب الدنيا ومحبِّيها ومُؤْثِريها على الآخرة، بالحرص على تحصيلها، والتعب العظيم في جمعها، ومقاساة أنواع المشاقِّ في ذلك، فلا تجد أتعب ممن الدنيا أكبرُ همِّه، وهو حريص بجهْده على تحصيلها. والعذاب هنا هو الألم والمشقة والتعب، كقوله - صلى الله عليه وسلم -: "السفر قطعة من العذاب" (¬2)، وقوله: "إن الميت يُعذَّب ببكاء أهله عليه" (¬3)؛ أي يتألم ويتوجع، لا أنه يعاقب بأعمالهم. وهكذا مَن الدنيا كلُّ همِّه أو أكبرُ همِّه، كما قال النبي - صلى الله عليه وسلم - في الحديث الذي رواه الترمذي وغيره من حديث أنس رضي الله عنه: "من كانت الآخرة ¬

_ (¬1) في م: "يرضون"، وفي ح: "معرّضون". (¬2) أخرجه البخاري (5429)، ومسلم (1927) عن أبي هريرة. (¬3) أخرجه البخارىِ (1286)، ومسلم (508)

همَّه جعل الله غِناه في قلبه، وجمع له شَمْله، وأتتْه الدنيا وهي راغمة، ومن كانت الدنيا همَّه جعل الله فقره بين عينيه، وفَرّق عليه شمله، ولم يأتِه من الدنيا إلا ما قُدِّرَ له" (¬1). ومن أبلغ العذاب في الدنيا تشتيتُ الشَّمْل وتفرّقُ القلب، وكون الفقر نُصْبَ عيني العبد لا يفارقه، ولولا سكرة عُشَّاق الدنيا بحبها لاستغاثوا من هذا العذاب، على أن أكثرهم لا يزال يشكو ويصرخ منه. وفي الترمذي أيضًا عن أبى هريرة رضي الله عنه، عن النبي - صلى الله عليه وسلم -، قال: "يقول الله تبارك وتعالى: ابن آدم! تَفَرّغْ لعبادتي أملأْ صدرك غنًى، وأسُدَّ فقرك، وإن لا تفعلْ ملأت يديك شغلًا، ولم أسدَّ فقرك" (¬2)، وهذا أيضًا من أنواع العذاب، وهو اشتغال القلب والبدن بتحمل أنكاد الدنيا ومجاذبة (¬3) أهلها إياها، ومقاساة معاداتهم، كما قال بعض السلف (¬4): "من أحب الدنيا ¬

_ (¬1) سنن الترمذي (2465)، ورواه أيضًا هناد في الزهد (669)، وابن أبي الدنيا في ذم الدنيا (399)، وابن أبي عاصم في الزهد (164)، وأبو نعيم في الحلية (6/ 307 - 308)، وهو في صحيح الترغيب (3169)، وفي الباب عن زيد بن ثابت وابن عباس وابن عمر وأبي الدرداء رضي الله عنهم. (¬2) سنن الترمذي (2466)، ورواه أيضًا أحمد (2/ 358)، وابن ماجه (4107)، والبيهقي في الآداب (1119)، وفي الشعب (7/ 288)، قال الترمذي: "هذا حديث حسن غريب"، وصححه ابن حبان (393)، والحاكم (3657)، وحسّنه ابن مفلح في الآداب الشرعية (3/ 262)، وهو في السلسلة الصحيحة (1359). وفي الباب عن معقل بن يسار رضي الله عنه. (¬3) م: "محاربة". (¬4) هو عبد الرحمن بن أبي بكرة، أخرجه ابن أبي الدنيا في "الاعتبار" (20).

محب الدنيا لا ينفك من ثلاث: هم لازم، وتعب دائم، وحسرة لا تنقضي

فليُوطِّن نفسَه على تحمل المصائب". ومُحِبُّ الدنيا لا ينفكُّ من ثلاث: هَمٍّ لازم، وتعب دائم، وحسرة لا تنقضي، وذلك أن محبها لا ينال منها شيئًا إلا طمحت نفسه إلى ما فوقه، كما في الحديث الصحيح عن النبي - صلى الله عليه وسلم -: "لو كان لابن آدم واديان من مالٍ لابتغى لهما ثالثًا" (¬1)، وقد مثل عيسى ابن مريم عليه السلام محب الدنيا بشارب البحر (¬2)، كما ازداد شربًا ازداد عطشًا (¬3). وذكر ابن أبى الدنيا (¬4): أن الحسن كتب إلى عمر بن عبد العزيز: "أما بعد فإن الدنيا دار ظَعْنٍ، ليست بدار إقامة، إنما أُنزل إليها آدم عقوبةً، فاحذرها يا أمير المؤمنين! فإن الزاد منها تركها، والغنى فيها فقرها، لها في كل حين قتيل، تُذِلُّ من أعزها، وتُفقِر من جمعها؛ كالسُّمِّ يأكله من لا يعرفه وهو حَتْفُه، فكن فيها كالمداوي جِراحَه، يحتمي قليلًا، مخافة ما يكره طويلًا، ويصبر على شدة الدواء (¬5)؛ مخافة طول البلاء، فاحذر هذه الدار الغرّارة، الخدَّاعة الختَّالة، التي قد تزينت بخِدَعها، وفتنت بغرورها، وخيَّلت (¬6) بآمالها، ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري (6439)، ومسلم (1048) عن أنس بن مالك. (¬2) ت: "الخمر" وهو تحريف. (¬3) رواه ابن أبي الدنيا في الزهد (342) قال: قرأت في كتاب داود بن رشيد، حدثني أبو عبد الله قال: قال عيسى ابن مريم: "طالبُ الدنيا مثل شارب ماء البحر؛ كلما ازداد شربًا ازداد عطشًا حتى يقتله"، ورواه ابن عساكر في تاريخ دمشق (47/ 431) من طريق إبراهيم الحربي عن داود بن رشيد عن أبي عبد الله الصوفي به. (¬4) في كتاب ذم الدنيا (50). (¬5) في جميع النسخ: "الداء"، والمثبت من ت. (¬6) ح: "ختلت".

وتشوَّفت لخُطَّابها، فأصبحت كالعروس المجلوّة؛ فالعيون إليها ناظرة، والقلوب عليها والهةٌ، والنفوس لها عاشقة، وهى لأزواجها كلِّهم قاتلة؛ فعاشق لها قد ظفِرَ منها بحاجته فاغترَّ وطغى، ونسي المعاد فشُغِل بها لُبُّه، حتى زالت عنها قدمُه، فعظمت ندامته، وكثرت حسرته، واجتمعت عليه سكرات [11 ب] الموت وألمه، وحسرات الفوت، وعاشق لم يَنل منها بُغْيته، فعاش بغُصَّته، وذهب بكَمده، ولم يدرك منها ما طلب، ولم تَستِرحْ نفسُه من التعب، فخرج بغير زاد، وقدِم على غير مهاد. فكن أسرَّ ما تكون فيها أحذرَ ما تكون لها؛ فإن صاحب الدنيا كلما اطمأنَّ منها إلى سرور أشخصَتْه إلى مكروه وُصِل الرخاء منها بالبلاء، وجُعل البقاء فيها إلى فناء، سرورها مشوبٌ بالحزن، أمانيها كاذبة، وآمالها باطلة، وصفوها كدر، وعيشها نكد، فلو كان ربُّها لم يخُبر عنها خبرًا، ولم يَضرب لها مثلًا، لكانت قد أيقظت النائم، ونبَّهت الغافل، فكيف وقد جاء من الله فيها واعظ، وعنها زاجر؟ فما لها عند الله قَدْرٌ ولا وزن، وما نظر إليها منذ خلقها. ولقد عُرِضت على نبينا بمفاتيحها وخزائنها، لا تنقصه عند الله جَناح بَعوضة، فأبى أن يقبلها. كره أن يحبّ ما أبغض خالقُه، أو يرفع ما وضع مليكُه، فزَوَاها عن الصالحين اختبارًا (¬1)، وبسطها لأعدائه اغترارًا، فيظن المغرور بها المقتدر عليها أنه أُكرم بها، ونسي ما صنع الله برسوله حين شدَّ الحجر على بطنه" (¬2). ¬

_ (¬1) كذا في ش، ت. وفي الأصل، م، ظ، ح: "اختيارًا". (¬2) شدُّ النبيّ الحجرَ على بطنه من الجوع ثابت في الصحيح، فمن ذلك ما رواه البخاري (3875) عن جابر رضي الله عنه في قصة الخندق أن النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - قام إلى كدية وبطنه معصوب بحجر. ومنه ما رواه مسلم (2040) عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: جئت رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - يومًا، فوجدته جالساً مع أصحابه يحدّثهم وقد عصب بطنَه =

وقال الحسن أيضًا: "إن قومًا أَكرَموا الدنيا فصَلبتْهم على الخُشب، فأهينوها، فأهنأ ما تكون إذا أهنتموها" (¬1). وهذا باب واسع. وأهل الدنيا وعُشَّاقها أعلم بما يقاسونه من العذاب وأنواع الألم في طلبها. ولما كانت هي أكبر هَمّ مَن لا يؤمن بالآخرة، ولا يرجو لقاء ربه كان عذابه بها بحسب حرصه عليها، وشدة اجتهاده في طلبها. وإذا أردت أن تعرف عذاب أهلها بها فتأملْ حال عاشق فانٍ في حب معشوقه، فكلما رامَ قربًا من معشوقه نأى عنه، ولا يفي له، ويهجره ويَصِلُ عدؤَه، فهو مع معشوقه في أنكد عيش، يختار الموت دونه، فمعشوقه قليل الوفاء، كثير (¬2) الجفاء، كثير الشركاء، سريع الاستحالة، عظيم الخيانة، كثير التلوُّن، لا يأمن عاشقُه معه على نفسه، ولا على ماله، مع أنه لا صبر له عنه، ولا يجد عنه سبيلًا إلى سَلْوةٍ تُريحه، ولا وصالٍ يدوم له، فلو لم يكن لهذا العاشق عذابٌ إلا هذا العاجل لكفى به، فكيف إذا حِيْل بينه وبين لذّاته كلها، وصار معذَّبًا بنفس ما كان ملتذًا به، على قدر لذته به التي شغلته عن سعيه في طلب زاده، ومصالح معاده؟ ¬

_ = بعصابة على حجر، فقلت لبعض أصحابه: لم عصبَ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بطنه؟ فقالوا: من الجوع. (¬1) رواه ابن أبي الدنيا في ذم الدنيا (489) عن الحسين بن عبد الرحمن عن شيخ مولى لبني هاشم عن الحسن به، إلا أنه قال فيه: "فأهنأ ما تكونون إذا أهنتموها". (¬2) الأصل: "كبير".

المحبوب مع محبوبه دنيا وأخرى

وسنعود إلى تمام الكلام في هذا الباب في باب ذكر علاج مرض القلب بحب الدنيا إن شاء الله تعالى؛ إذ المقصود بيان أن من أحب شيئًا سوى الله تعالى، ولم تكن محبته له لله، ولا لكونه معينًا له على طاعة الله، عُذِّب به في الدنيا قبل اللقاء. كما قيل (¬1): أَنْتَ القَتِيلُ بِكُلِّ مَنْ أَحْبَبْتَهُ ... فَاخْتَرْ لِنَفْسِكَ في الهَوَى مَنْ تَصْطَفِي فإذا كان يومُ المعاد ولىَّ الحكَمُ العدلُ سبحانه كلَّ محب ما كان يحبه في الدنيا؛ فكان معه إما منعَّمًا أو معذبًا، ولهذا "يُمثَّل لمحبِّ المالِ مالُه شجاعًا أقرع، يأخذ بلِهْزِمَتِه، يقول: أنا مالُك، أنا كنزك، وتُصَفّح له صفائحُ من نارٍ، فيُكْوَى بها جَبينه وجَنبه وظهره" (¬2)، وكذلك عاشق الصُّوَر إذا اجتمع هو ومعشوقه على غير طاعة الله، جُمِع بينهما في النار، وعُذِّب كل منهما بصاحبه، قال تعالى: {الْأَخِلَّاءُ يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلَّا الْمُتَّقِينَ} [الزخرف: 67]، وأخبر سبحانه أن الذين توادُّوا في الدنيا على الشرك، يَكْفُرُ بعضهم ببعض يوم القيامة، ويَلْعنُ بَعْضُهُم بَعْضًا، ومأواهُمْ النارُ وما لهم [12 أ] من ناصرين. فالمحب مع محبوبه دنيا وأخرى، ولهذا يقول تعالى يوم القيامة للخلق: "أليس عدلًا مني أن أُولِّي كلَّ رجلٍ منكم ما كان يتولى في دار الدنيا؟ " (¬3)، ¬

_ (¬1) البيت لابن الفارض في ديوانه (ص 151)، وهو بلا نسبة في روضة المحبين (ص 110، 572). (¬2) أخرجه البخاري (1403)، ومسلم (987) عن أبي هريرة في حديث طويل. (¬3) روى الطبراني في الأوسط (81) من حديث أبي موسى رضي الله عنه أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "يحشر الناس يوم القيامة، فينادي منادٍ: أليس عدلًا مني أن أولِّيَ كلَّ قوم ما =

وقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: "المرء مع من أحب" (¬1). وقال تعالى: {وَيَوْمَ يَعَضُّ الظَّالِمُ عَلَى يَدَيْهِ يَقُولُ يَالَيْتَنِي اتَّخَذْتُ مَعَ الرَّسُولِ سَبِيلًا (27) يَاوَيْلَتَى لَيْتَنِي لَمْ أَتَّخِذْ فُلَانًا خَلِيلًا (28) لَقَدْ أَضَلَّنِي عَنِ الذِّكْرِ بَعْدَ إِذْ جَاءَنِي وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِلْإِنْسَانِ خَذُولًا} [الفرقان: 27 - 29]، وقال تعالى: {احْشُرُوا الَّذِينَ ظَلَمُوا وَأَزْوَاجَهُمْ وَمَا كَانُوا يَعْبُدُونَ (22) مِنْ دُونِ اللَّهِ فَاهْدُوهُمْ إِلَى صِرَاطِ الْجَحِيمِ (23) وَقِفُوهُمْ إِنَّهُمْ مَسْئُولُونَ (24) مَا لَكُمْ لَا تَنَاصَرُونَ} [الصافات: 22 - 25]، قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: أزواجهم أشباههم ونظراؤهم (¬2). وقال تعالى: {وَإِذَا النُّفُوسُ زُوِّجَتْ} [التكوير: 7]، فقرن كل شكل إلى شكله، وجعل معه قرينا وزوجا: البر مع البر، والفاجر مع الفاجر. والمقصود أن من أحب شيئا سوى الله تعالى فالضرر حاصل له بمحبوبه، إن وُجد وإن فُقد؛ فإنه إنْ فَقَدَه عُذِّب بفواته، وتألم على قدر تعلُّق قلبه به، وإن وجده كان ما يحصل له من الألم قبل حصوله، ومن النكد في حال حصوله، ومن الحسرة عليه بعد فواته، أضعافُ أضعافٍ ما في حصوله له من اللذة: ¬

_ = كانوا يعبدون؟ " الحديث. قال الهيثمي في المجمع (10/ 621): "رواه الطبراني في الكبير والأوسط، وفيه فرات بن السائب وهو ضعيف". (¬1) أخرجه البخاري (6170)، ومسلم (2641) عن أبي موسى الأشعري. (¬2) رواه ابن منيع - كما في المطالب العالية (4/ 147) - بلفظ: "أزواجهم أشباههم"، وصححه ابن حجر. ورواه ابن جرير في تفسيره (21/ 27، 24/ 244) ولفظه: "وأزواجَهم ضُرباءَهم". وعزاه في الدر المنثور (7/ 83) لعبد الرزاق والفريابي وابن أبي شيبة وعبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم وابن مردويه والبيهقي في البعث، ولفظه: "أمثالهم الذين هم مثلهم"، وصححه الحاكم (3609).

اعتماد العبد على المخلوق وتوكله عليه يوجبب له الضرر من جهته ولابد

فَمَا في الأرْضِ أَشْقَى مِنْ مُحِبٍّ ... وَإِنْ وجَدَ الهَوَى حُلْوَ المذَاقِ تَرَاهُ بَاكِيًا في كُلِّ حَالٍ ... مَخَافَةَ فُرْقَةٍ أَوْ لا شْتِياقِ فَيَبْكِي إنْ نَأَوْا شَوْقًا إلَيْهِمْ ... وَيَبْكِي إِنْ دَنَوْا حَذرَ الْفِرَاقِ فَتَسْخُنُ عَيْنُهُ عِنْدَ التَّلاقي ... وَتَسْخُنُ عَيْنُهُ عِنْدَ الْفِرَاقِ (¬1) وهذا أمرٌ معلومٌ بالاستقراء والاعتبار والتجارب، ولهذا قال النبي - صلى الله عليه وسلم - في الحديث الذي رواه الترمذي وغيره: "الدنيا ملعونة ملعون ما فيها؛ إلا ذكر الله وما والاه" (¬2)؛ فذِكْرُ الله (¬3) جميع أنواع طاعته، فكل من كان في طاعته فهو ذاكره، وإن لم يتحرك لسانه بالذكر، وكل من والاهُ الله فقد أحبَّه وقربَه، فاللعنة لا تنال ذلك بوجه، وهى نائلةٌ كلَّ ما عداه. الوجه السابع: أن اعتماد العبد على المخلوق، وتوكله عليه يوجب له الضرر من جهته هو ولا بد، عكس ما أمّله منه، فلا بد أن يُخْذَلَ من الجهة التي قَدّر أن يُنْصَر منها، ويُذمّ من حيث قدَّر أن يُحْمد. وهذا (¬4) أيضًا كما أنه ثابت بالقرآن والسنة، فهو معلوم بالاستقراء والتجارب، قال تعالى: {وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ آلِهَةً لِيَكُونُوا لَهُمْ عِزًّا (81) كَلَّا سَيَكْفُرُونَ بِعِبَادَتِهِمْ ¬

_ (¬1) الأبيات لنصيب في ديوانه (ص 111)، وبلا نسبة في الحماسة (2/ 93). (¬2) سنن الترمذي (2322) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه، ورواه أيضًا ابن ماجه (4112)، وابن أبي عاصم في الزهد (126)، والبيهقي في الشعب (2/ 265)، قال الترمذي: "هذا حديث حسن غريب"، وحسنه ابن القيم في عدة الصابرين (ص 140)، وابن مفلح في الآداب الشرعية (2/ 38)، وهو في السلسلة الصحيحة (2797). وفي الباب عن جابر وأبي الدرداء رضي الله عنهما. (¬3) الأصل: "فذكره". (¬4) "هذا" ساقطة من م.

الله سبحانه هو المحسن إلى العبد أبدا، وهو الغني الحميد بذاته

وَيَكُونُونَ عَلَيْهِمْ ضِدًّا} [مريم: 82] وقال تعالى: {وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ آلِهَةً لَعَلَّهُمْ يُنْصَرُونَ (74) لَا يَسْتَطِيعُونَ نَصْرَهُمْ وَهُمْ لَهُمْ جُنْدٌ مُحْضَرُونَ} [يس: 74، 75]؛ أي يغضبون لهم ويحاربون، كما يغضب الجند ويحارب عن أصحابه (¬1)، وهم لا يستطيعون نصرهم، بل هم كَلٌّ عليهم. وقال تعالى: {وَمَا ظَلَمْنَاهُمْ وَلَكِنْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ فَمَا أَغْنَتْ عَنْهُمْ آلِهَتُهُمُ الَّتِي يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ لَمَّا جَاءَ أَمْرُ رَبِّكَ وَمَا زَادُوهُمْ غَيْرَ تَتْبِيبٍ} [هود: 101]؛ أي غير تَخسير، وقال تعالى: {فَلَا تَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ فَتَكُونَ مِنَ الْمُعَذَّبِينَ} [الشعراء: 213]، وقال تعالى: {لَا تَجْعَلْ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ فَتَقْعُدَ مَذْمُومًا مَخْذُولًا} [الإسراء: 22]؛ فإن المشرك يرجو بشركه النصر تارة، والحمد والثناء تارة، فأخبر سبحانه أن مقصوده ينعكس عليه، ويحصل له الخِذلان والذم. والمقصود أن هذين الوجهين في المخلوق ضدُّهما في الخالق، فصلاح القلب وسعادته وفلاحه في عبادة الله والاستعانة به، وهلاكه وشقاؤه وضرره العاجل والآجل في عبادة المخلوق والاستعانة به. الوجه الثامن: أن الله سبحانه غني كريم، عزيز رحيم؛ فهو محسن إلى عبده مع غناه عنه، يريد به الخير، ويكشف عنه الضر، لا لجلب منفعة إليه من العبد، ولا لدفع مضرة؛ بل رحمةً منه وإحسانًا. فهو سبحانه لم يخلق خلقه ليتكثّر بهم من قِلّة، ولا ليتعزَّز بهم من ذِلّة، ولا ليرزقوه، ولا لينفعوه، ولا ليدفعوا عنه، كما قال تعالى: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ (56) مَا أُرِيدُ مِنْهُمْ مِنْ رِزْقٍ وَمَا أُرِيدُ أَنْ يُطْعِمُونِ (57) إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ} ¬

_ (¬1) ظ: "أصحابهم".

[الذاريات: 56 - 58]، وقال تعالى: {وَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَمْ يَتَّخِذْ وَلَدًا وَلَمْ يَكُنْ لَهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ وَلَمْ يَكُنْ لَهُ وَلِيٌّ مِنَ الذُّلِّ} [الإسراء: 111]. وهو سبحانه لا يُوالي من يواليه من الذل، كما يُوالي المخلوقُ المخلوقَ، وإنما يُوالي أولياءه إحسانًا ورحمة ومحبة لهم، وأما العباد فإنهم كما قال تعالى: {وَاللَّهُ الْغَنِيُّ وَأَنْتُمُ الْفُقَرَاءُ} [محمد: 38]، فهم لفقرهم وحاجتهم إنما يُحْسِن بعضُهم إلى بعض لحاجته إلى ذلك، وانتفاعه به عاجلًا أو آجلًا، ولولا تصور ذلك النفع لما أحسن إليه فهو في الحقيقة إنما أراد الإحسان إلى نفسه، وجعل إحسانه إلى غيره وسيلة وطريقًا إلى حصول (¬1) نفع ذلك الإحسان إليه؛ فإنه إما أن يُحسِن إليه لتوقع جزائه في العاجل، فهو محتاج إلى ذلك الجزاء، ومُعاوِضٌ بإحسانه، أو لتوقع حمده وشكره، فهو أيضًا إنما يُحسِن إليه ليحصل له منه ما هو محتاج إليه من الثناء والمدح، فهو محسن إلى نفسه بإحسانه إلى الغير، وإما أن يريد الجزاء من الله في الآخرة، فهو أيضًا محسن إلى نفسه بذلك، وإنما أخَّر جزاءه إلى يوم فقره وفاقته، فهو غير مَلُوم في هذا القصد؛ فإنه فقير محتاج، وفقره وحاجته أمر لازم له من لوازم ذاته، فكماله أن يحرص على ما ينفعه ولا يعجز عنه. وقال تعالى: {إِنْ أَحْسَنْتُمْ أَحْسَنْتُمْ لِأَنْفُسِكُمْ} [الإسراء: 7]، وقال تعالى: {وَمَا تُنْفِقُوا (¬2) مِنْ خَيْرٍ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ} [البقرة: 272]، وقال تعالى، فيما رواه عنه رسوله - صلى الله عليه وسلم -: "يا عبادي! إنكم لن تبلغوا ضَرِّي فتضرُّوني، ولن ¬

_ (¬1) في بعض النسخ: "وصول". (¬2) في جميع النسخ: "وما تفعلوا".

العبد مخلوق لا يعلم مصلحته حتى يعرفه الله إياها

تبلغوا نفعي فتنفعوني، يا عبادي! إنما هي أعمالكم أحصيها لكم، ثم أوَفيكم إياها، فمن وجد خيرًا فليحمد الله، ومن وجد غير ذلك فلا يلومنّ إلا نفسه" (¬1). فالمخلوق لا يقصد منفعتك بالقصد الأول، بل إنما يقصد انتفاعه بك، والرب تعالى إنما يريد نفعك لا انتفاعه بك، وذلك منفعة محضة لك، خالصة من المضرة، بخلاف إرادة المخلوق نفعك، فإنه قد تكون فيه مضرة عليك، ولو بتحمُّل مِنّته. فتدبر هذا، فإن ملاحظته تمنعك أن ترجو المخلوق، أو تعامله دون الله، أو تطلب منه نفعًا أو دفعًا، أو تُعلِّق قلبك به؛ فإنه إنما يريد انتفاعه بك لا محض نفعك. وهذا حال الخلق كلهم بعضهم مع بعض، وهو حال الولد مع والده، والزوج مع زوجته، والمملوك مع سيده، والشريك مع شريكه، فالسعيد من عاملهم لله تعالى لا لهم، وأحسن إليهم لله، وخاف الله فيهم، ولم يَخَفْهُم مع الله، ورجا الله بالإحسان إليهم، ولم يَرْجُهُم مع الله، وأحبهم لحب الله، ولم يحبهم مع الله، كما قال أولياء الله: {إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ لَا نُرِيدُ مِنْكُمْ جَزَاءً وَلَا شُكُورًا} [الإنسان: 9]. الوجه التاسع: أن العبد لا يعلم مصلحتك حتى يُعرِّفه الله تعالى إياها، ولا يقدر على تحصيلها لك حتى يُقدِره الله عليها، ولا يريد ذلك حتى يخلق الله فيه إرادة ومشيئة، [13 أ] فعاد الأمر كله لمن ابتدأ منه؛ وهو الذى بيده ¬

_ (¬1) أخرجه مسلم (2577) عن أبي ذر. ولشيخ الإسلام ابن تيمية شرح عليه مطبوع ضمن مجموع الفتاوى (18/ 136 - 209). وقبله في مجموعة الرسائل المنيرية (3/ 205 - 246).

غالب الخلق إنما يريدون قضاء حاجاتهم بك، وإن أضر ذلك بدينك ودنياك

الخير كله، وإليه يرجع الأمر كله، فتعلُّق القلب بغيره رجاءً وخوفًا وتوكلًا وعبودية ضررٌ محضٌ، لا منفعة فيه، وما يحصل بذلك من المنفعة فهو وحده الذي قدَّرها ويسَّرها، وأوصلها إليك. الوجه العاشر: أن غالب الخلق إنما يريدون قضاء حاجاتهم بك، وإن أضرَّ ذلك بدينك ودنياك، فهم إنما غرضهم قضاء حوائجهم ولو بمضرّتك، والرب تعالى إنما يريدك لك، ويريد الإحسان إليك لك لا لمنفعته، ويريد دفع الضرر عنك، فكيف تُعلِّق أملَك ورجاءك وخوفك بغيره؟ وجِماع هذا أن تعلم "أن الخلق لو اجتمعوا كلهم على أن ينفعوك بشيءٍ؛ لم ينفعوك إلا بشيء قد كتبه الله لك، ولو اجتمعوا كلهم على أن يضروك بشيء؛ لم يضروك إلا بشيء قد كتبه الله عليك" (¬1). قال تعالى: {قُلْ لَنْ يُصِيبَنَا إِلَّا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَنَا هُوَ مَوْلَانَا وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ} [التوبة: 51]. خاتمة لهذا الباب لما كان الإنسان بل وكلُّ حيٍّ متحرك بالإرادة لا ينفكُّ عن علم وإرادة وعمل بتلك الإرادة، وله مراد مطلوب، وطريق وسبب موصل إليه، معين عليه، وتارة يكون السبب منه، وتارة من خارج منفصل عنه، وتارة منه ومن الخارج، فصار الحي مجبولًا على أن يقصد شيئًا ويريده، ويستعين بشيء، ويعتمد عليه في حصول مراده. ¬

_ (¬1) جزء من حديث أخرجه الترمذي (2516)، وأحمد (1/ 293، 303) عن ابن عباس. وقال الترمذي: هذا حديث حسن صحيح. وقد أفرد ابن رجب هذا الحديث بالشرح في "نور الاقتباس في مشكاة وصية النبي - صلى الله عليه وسلم - لابن عباس".

والمراد قسمان: أحدهما: ما هو مراد لنفسه، والثاني: ما هو مراد لغيره. والمستعان قسمان (¬1): أحدهما: ما هو مستعان بنفسه، والثاني: ما هو تبع له وآلةٌ. فهذه أربعة أمور: مراد لنفسه، ومراد لغيره، ومستعان بنفسه، ومستعان بكونه آلةً وتبعًا للمستعان بنفسه. فلا بد للقلب من مطلوب يطمئن إليه، وتنتهي إليه محبته، ولا بدّ له من شيء يتوصل به ويستعين به في حصول مطلوبه، والمستعان مدعوٌّ ومسؤول، والعبادة والاستعانة كثيرًا ما يتلازمان، فمن اعتمد القلب عليه في رزقه ونصره ونفعه خضع له، وذَلَّ له، وانقاد له، وأحبَّه من هذه الجهة وإن لم يحبَّه لذاته، لكن قد يغلب عليه حكم الحال حتى يحبه لذاته، وينسى مقصوده منه. وأما من أحبه القلب وأراده وقصده فقد لا يستعين به، ويستعين بغيره عليه، كمن أحب مالًا أو منصبًا أو امرأة، فإن علم أن محبوبه قادر على تحصيل غرضه استعان (¬2) به، فاجتمع له محبته والاستعانة (¬3) به. فالأقسام أربعة: محبوب لنفسه وذاته مستعان بنفسه؛ فهذا أعلى الأقسام، وليس ذلك إلا لله وحده، وكلُّ ما سواه فإنما ينبغي أن يحُبَّ تبعًا لمحبته، ويُستعان به لكونه آلةً وسببًا. ¬

_ (¬1) "أحدهما ... قسمان" ساقطة من الأصل. (¬2) م: "استعاذ". (¬3) م: "الاستعاذة".

الثاني: محبوب لغيره ومستعان به أيضًا، كالمحبوب الذي هو قادر على تحصيل غرض مُحِبّه (¬1). الثالث: محبوب مستعان عليه بغيره. الرابع: مستعان به غير محبوب في نفسه. فإذا عُرِف ذلك تبين مَنْ أحق هذه الأقسام الأربعة بالعبودية والاستعانة، وأن محبة غيره واستعانته به إن لم تكن وسيلة إلى محبته واستعانته، وإلا كانت مضرَّةً على العبد، ومفسدتها أعظم من مصلحتها. والله المستعان، وعليه التُّكلان. ¬

_ (¬1) م: "محبته" وهو خطأ.

الباب السابع: في أن القرآن متضمن لأدوية القلب، وعلاجه من جميع أمراضه

الباب السابع في أن القرآن متضمن لأدوية القلب وعلاجه من جميع أمراضه قال الله تعالى: {يَاأَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَتْكُمْ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَشِفَاءٌ لِمَا فِي الصُّدُورِ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ} [يونس: 57]، وقال: {وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ} [الإسراء: 82]، وقد تقدم أن جِماع أمراض القلب هي أمراض الشبهات والشهوات، والقرآن شفاء للنوعين: ففيه من البينات والبراهين القطعية ما يُبيِّن الحق من الباطل، فتزول أمراض الشُّبه المفسدة للعلم والتصور والإدراك، بحيث يرى الأشياء على ما هي عليه، وليس تحت أديم السماء كتاب متضمن للبراهين والآيات على المطالب العالية -من التوحيد، وإثبات الصفات، وإثبات المعاد، والنبوّات، ورد النِّحَل الباطلة والآراء الفاسدة- مثل القرآن؛ فإنه كفيل بذلك كله، متضمن له على أتمّ الوجوه وأحسنها، وأقربها إلى العقول، وأفصحها بيانًا، فهو الشفاء على الحقيقة من أدواء الشبه والشكوك، ولكن ذلك موقوف على فهمه ومعرفة المراد منه. فمن رزقه الله ذلك أبصر الحق والباطل عِيانًا بقلبه، كما يرى الليل والنهار، وعلم أن ما عداه من كتب الناس وآرائهم ومعقولاتهم: بين علوم لا ثقةَ بها، وإنما هي آراء وتقليد، وبين (¬1) ظنون كاذبة لا تُغني من الحق شيئًا، ¬

_ (¬1) م: "وهي".

المتكلمون ليس عندهم إلا التكلف والتطويل والتعقيد

وبين أمور صحيحة لا منفعة للقلب فيها، وبين علوم صحيحة قد وعّروا الطريق إلى تحصيلها، وأطالوا الكلام في إثباتها، مع قلة نفعها، فهي "لحمُ جملٍ غَثٍّ، على رأس جبل وَعْر، لا سهلٌ فيُرتقَى، ولا سمينٌ فينتقل" (¬1). وأحسنُ ما عند المتكلمين وغيرهم فهو في القرآن أصح تقريرًا وأحسن تفسيرًا، فليس عندهم إلا التكلف والتطويل والتعقيد، كما قيل: لَوْلَا التَّنَافُسُ في الدُّنْيَا لمَا وُضِعَتْ ... كُتْبُ التَّنَاظُرِ لا "المُغْني" وَلا "العُمَدُ" يُحَلِّلُونَ بِزَعْمٍ مِنْهُمُ عُقَدًا ... وبالَّذِي وَضَعُوهُ زَادَتِ العُقَدُ (¬2) فهم يزعمون أنهم يدفعون بالذي وضعوه الشُّبَه والشكوك، والفاضل الذكي يعلم أن الشبه والشكوك زادت بذلك. ومن المحال أن لا يحصل الشفاء والهدى والعلم واليقين من كتاب الله وكلام رسوله، ويحصلَ من كلام هؤلاء المتحيرين المتشككين الشاكِّين، الذين أخبر الواقف على نهايات أقدامهم بما انتهى إليه من مَرامهم، حيث يقول (¬3): ¬

_ (¬1) جزء من حديث أم زرع الذي أخرجه البخاري (5189)، ومسلم (2448) عن عائشة. وقد شرح هذا الحديث القاضي عياض في كتابه "بغية الرائد لما تضمنه حديث أم زرع من الفوائد". (¬2) البيت الأول لأبي العلاء المعري في اللزوميات (1/ 321)، ومعجم الأدباء (1/ 338)، و"المغني" و"العمد" كلاهما للقاضي عبد الجبار المعتزلي. (¬3) الأبيات للفخر الرازي في كتابه "أقسام اللذات"، وعنه نقلها شيخ الإسلام ابن تيمية في درء التعارض (1/ 160) وغيره من مؤلفاته. وهي في وفيات الأعيان (4/ 250)، والوافي بالوافيات (4/ 257، 258)، ونفح الطيب (5/ 232)، وعيون الأنباء (3/ 42، 43)، وطبقات السبكي (8/ 96) وغيرها.

شفاء القرآن لمرض الشهوات

نهَايَةُ إِقدَامِ العُقُولِ عِقَالُ ... وَأَكثَرُ سعْي العَالمِينَ ضَلَالُ وَأَرْوَاحُنَا في وَحْشَةٍ مِنْ جُسُومِنَا ... وَحَاصِلُ دُنْيَانَا أَذًى وَوَبَالُ وَلمْ نَسْتَفِدْ مِنْ بَحْثِنَا طُولَ عُمرِنَا ... سِوَى أَنْ جَمَعْنَا فِيه قِيلَ وَقَالُوا لقد تأملتُ الطرق الكلامية، والمناهج الفلسفية، فما رأيتها تشفي عليلًا، ولا تُروي غليلًا، ورأيت أقرب الطرق طريقة القرآن، أقرأ في الإثبات: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} [طه: 5]، {إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ} [فاطر: 10]، وأقرأ في النفي: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} [الشورى: 11]، {وَلَا يُحِيطُونَ بِهِ عِلْمًا} [طه: 110]، ومن جرّب مثل تجربتي عرف مثل معرفتي". فهذا إنشاده وألفاظه في آخر كتبه، وهو أفضل أهل زمانه على الإطلاق في علم الكلام والفلسفة. وكلام أمثاله في مثل ذلك كثير جدًا، قد ذكرناه في كتاب "الصواعق" (¬1) وغيره، وذكرنا قول بعض العارفين بكلام هؤلاء: "آخر أمر المتكلمين الشك، وآخر أمر المتصوفين الشطح". والقرآن يُوصلك إلى نفس اليقين [14 أ] في هذه المطالب التي هي أعلى مطالب العباد، ولذلك أنزله من تكلم به، وجعله شفاءً لما في الصدور، وهدى ورحمة للمؤمنين. وأما شفاؤه لمرض الشهوات فذلك بما فيه من الحكمة والموعظة الحسنة؛ بالترغيب والترهيب، والتزهيد في الدنيا، والترغيب في الآخرة، والأمثال والقَصص التي فيها أنواع العبر والاستبصار، فيرغب القلب السليم إذا أبصر ذلك فيما ينفعه في معاشه ومعاده، ويرغب عمَّا يضرُّه، فيصير القلب محبًّا للرشد، مبغضًا للغيِّ، فالقرآن مزيل للأمراض الموجِبَةِ للإرادات ¬

_ (¬1) انظر: الصواعق المرسلة (1/ 167) واجتماع الجيوش الإسلامية (ص 469).

الفاسدة، فيصلح القلب، فتصلح إرادته، ويعود إلى فطرته التي فُطِر عليها، فتصلح أفعاله الاختيارية الكسبية، كما يعود البدن بصحته وصلاحه إلى الحال الطبيعي، فيصير بحيث لا يقبل إلا الحق، كما أن الطفل لا يقبل إلا اللبن: وَعَادَ الفَتَى كَالطِّفْلِ لَيْسَ بقَابِلٍ ... سِوَى المحض شَيْئًا وَاسْتَراحَتْ عَوَاذِلُهْ (¬1) فيتغذَّى القلب من الإيمان والقرآن بما يزكِّيه ويقوِّيه، ويؤيده ويفرحه، ويسرُّه وينشِّطه، ويثبِّت ملكه، كما يتغذّى (¬2) البدن بما ينمِّيه ويقويه، وكلٌ من القلب والبدن محتاج إلى أن يتربَّى (¬3)، فينمو ويزيد حتى يكمل ويصلح. فكما أن البدن محتاج إلى أن يُربَّى بالأغذية المصلحة له، والحِمْية عما يضره، فلا ينمو إلا بإعطاء ما ينفعه، ومنع ما يضره؛ فكذلك القلب لا يزكو ولا ينمو ولا يتم صلاحه إلا بذلك، ولا سبيل له إلى الوصول إلى ذلك إلا من القرآن، وإن وصل إلى شيء منه من غيره فهو نَزْرٌ يسير، لا يحُصِّل تمام المقصود، وكذلك الزرع لا يتم إلا بهذين الأمرين، فحينئذٍ يقال: زَكَا الزّرْعُ وكَمُلَ. ولما كانت حياته ونعيمه لا يتم إلا بزكاته وطهارته: لم يكن بدٌّ من ذكر هذا وهذا، فنقول: ¬

_ (¬1) لم أجد البيت فيما بين يدي من المصادر. وفي الأصل: "سوى الحق". (¬2) م: "يغتذي". (¬3) م: "يترقى"، ش: "يربى".

الباب الثامن: في زكاة القلب

الباب الثامن في زكاة القلب الزكاة في اللغة: هي النماء والزيادة في الصلاح وكمال الشيء، يقال: زكا الشيء إذا نما، وقال تعالى: {خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا} [التوبة: 103]، فجمع بين الأمرين الطهارة والزكاة لتلازمهما؛ فإن نجاسة الفواحش والمعاصي في القلب بمنزلة الأخلاط الرديئة في البدن، وبمنزلة الدَّغَل في الزرع، وبمنزلة الخَبَث في الذهب والفضة والنحاس والحديد. فكما أن البدن إذا استفرغ من الأخلاط الرديئة تخلصت القوة الطبيعية منها فاستراحت، فعملت عملها بلا مُعَوِّق ولا ممانع، فنما البدن، فكذلك القلب إذا تخلص من الذنوب بالتوبة فقد استفرغ من تخليطه، فتخلصت قوة القلب وإرادته للخير، فاستراح من تلك الجواذب الفاسدة والمواد الرديئة، زكا ونما، وقوي واشتد، وجلس على سرير ملكه، ونفَّذ حكمه في رعيّته، فسمعت له وأطاعت، فلا سبيل له إلى زكاته إلا بعد طهارته، كما قال تعالى: {قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ ذَلِكَ أَزْكَى لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا يَصْنَعُونَ} [النور: 30]، فجعل الزكاة بعد غض البصر وحفظ الفرج. ولهذا كان [14 ب] غضُّ البصر عن المحارم يوجب ثلاث فوائد عظيمة الخطر، جليلة القدر (¬1): ¬

_ (¬1) انظر: فوائد غض البصر في الداء والدواء (ص 415 وما بعدها)، وروضة المحبين (ص 153 - 166).

إحداها: حلاوة الإيمان ولذته

إحداها: حلاوة الإيمان ولذَّته، التي هي أحلى وأطيب وألذ مما صرف بصره عنه وتركه لله؛ فإن من ترك لله شيئًا عوضه الله خيرًا منه، والنفس مُولَعةٌ بحب النظر إلى الصور الجميلة، والعين رائد القلب، فيبعث رائده لينظر ما هناك، فإذا أخبره بحسن المنظور إليه وجماله؛ تحرك اشتياقًا إليه، وكثيرًا ما يَتعبُ ويُتْعِبُ (¬1) رسوله ورائده، كما قيل: وَكُنْتَ مَتى أرْسَلْتَ طَرْفَكَ رَائِدًا ... لِقَلبِكَ يَومًا أتْعَبَتْكَ المنَاظِرُ رَأَيْتَ الذي لا كُلُّهُ أَنْتَ قَادِرٌ ... عَلَيْه وَلا عَنْ بَعْضِهِ أَنْتَ صَابرُ (¬2) فإذا كفَّ الرائد عن الكشف والمطالعة استراح القلب من كلفة الطلب والإرادة، فمن أطلق لحظاته دامت حسراته؛ فإن النظر يُولِّد المحبة، فتبدأ علاقةً يتعلق بها القلب بالمنظور إليه، ثم تَقوى فتصير صَبَابةً، ينصبُّ إليه القلب بكُلِّيته، ثم تقوى فتصير غرامًا، يلزم القلب كلزوم الغريم الذي لا يفارق غريمه، ثم يقوى فيصير عِشقًا، وهو الحب المفرط، ثم يقوى فيصير شغفًا، وهو الحب الذي قد وصل إلى شَغاف القلب وداخله، ثم يقوى فيصير تَتيُّمًا (¬3)، والتتيُّم: التعبد، ومنه: تَيّمه الحُبُّ إذا عَبّده، وتَيْمُ اللهِ: عبدالله، فيصير القلب عبدًا لمن لا يصلح أن يكون هو عبدًا له، وهذا كله جناية النظر، فحينئذٍ يقع القلب في الأسر، فيصير أسيرًا بعد أن كان ملِكًا، ومسجونًا بعد أن كان مُطْلقًا، يتظلم من الطرف ويشكوه، والطرف يقول: أنا ¬

_ (¬1) في جميع النسخ: "يبعث"، والمثبت من ش. (¬2) البيتان بلا نسبة في حماسة أبي تمام (2/ 15)، وعيون الأخبار (4/ 22)، وروضة المحبين (ص 328، 154). (¬3) انظر: أسماء الحب ومراتبه في روضة المحبين (ص 25 وما بعدها).

الثانية: نور القلب وصحة الفراسة

رائدك ورسولك، وأنت بعثتني. وهذا إنما تُبْلىَ به القلوب الفارغة من حب الله والإخلاص له؛ فإن القلب لا بد له من التعلق بمحبوب، فمن لم يكن الله وحده محبوبه وإلهه ومعبوده فلا بد أن يتعبد قلبه لغيره، قال تعالى عن يوسف الصديق عليه السلام: {كَذَلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشَاءَ إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُخْلَصِينَ} [يوسف: 24]، فامرأة العزيز لما كانت مشركة وقعت فيما وقعت فيه مع كونها ذات زوج، ويوسف عليه السلام لما كان مخلصًا لله نجا من ذلك، مع كونه شابًّا عَزَبًا غريبًا مملوكًا (¬1). الفائدة الثانية: في غض البصر نور القلب وصحة الفراسة. قالى أبو شجاع الكرماني (¬2): "من عَمَرَ ظاهره باتباع السنة، وباطنَه بدوام المراقبة، وكفَّ نفسه عن الشهوات، وغضَّ بصره عن المحارم، واعتاد أكل الحلال، لم تُخطئ له فراسة". وقد ذكر سبحانه قصة قوم لوط وما ابتُلوا به، ثم قالى بعد ذلك: {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِلْمُتَوَسِّمِينَ} [الحجر: 75]، وهم المتفرِّسون الذين سلِموا من النظر المحرَّم والفاحشة، وقال تعالى عَقِيبَ أمره للمؤمنين بغضّ أبصارهم وحفظ ¬

_ (¬1) الأصل: " في صورة مملوك". والمثبت من النسخ الأخرى. (¬2) كذا في النسخ، ووقع اسمه في المطبوع من مجموع الفتاوى (15/ 425): شجاع بن شاه. والصواب: شاه بن شجاع. وكلامه هذا رواه أبو نعيم في الحلية (10/ 237) عن أبي عبد الرحمن السلمي عن جدّه أبي عمرو بن نجيد عن أبي الفوارس شاه بن شجاع الكرماني. وانظر: الرسالة القشيرية (ص 428)، وصفة الصفوة (4/ 67)، ومجموع الفتاوى (15/ 396، 21/ 257).

الثالثة: قوة القلب وثباته وشجاعته

فروجهم: {اللَّهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} [النور: 35]. وسرُّ هذا أن الجزاء من جنس العمل، فمن غضَّ بصره عما حرَّمه الله عليه عوّضه الله من جنسه ما هو خير منه؛ فكما أمسك نورَ بصره عن المحرمات، أطلق الله نور بصيرته وقلبه، فرأى به ما لم يره من أطلق بصره [15 أ] ولم يَغُضَّه عن محارم الله، وهذا أمر يُحِسُّهُ الإنسان من نفسه؛ فإن القلب كالمرآة، والهوى كالصدأ فيها، فإذا خلصت من الصدأ انطبعت فيها صُوَر الحقائق كما هى عليه، وإذا صَدِئتْ لم ينطبع فيها صور المعلومات، فيكون علمه وكلامه من باب الخَرْص والظنون. الفائدة الثالثة: قوة القلب وثباته وشجاعته، فيعطيه الله بقوَّته سلطان النصرة (¬1)، كما أعطاه بنوره سلطان الحجة، فيجمع له بين السلطانين، ويهرب الشيطان منه، كما في الأثر: "إن الذي يخالف هواه يَفْرَق الشيطان من ظلِّه" (¬2)، ولهذا يوجد في المتَّبع هواه مِنْ ذُلِّ النفس وضعفها ومهانتها ما جعله الله لمن عصاه، فإنه سبحانه جعل العز لمن أطاعه والذل لمن عصاه، قال تعالى: {وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ} [المنافقون: 8]، وقال تعالى: {وَلَا تَهِنُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} [آل عمران: 139]، وقال تعالى: {مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْعِزَّةَ فَلِلَّهِ الْعِزَّةُ جَمِيعًا} [فاطر: 10]، أي من كان يطلب العزة فليطلبها بطاعة الله: بالكلم الطيب والعمل الصالح. ¬

_ (¬1) الأصل: "البصيرة". (¬2) قال مالك بن دينار: "من غلب شهوةَ الحياة الدنيا فذلك الذي يفرق الشيطان من ظله" رواه أبو نعيم في الحلية (2/ 365)، وابن الجوزي في ذم الهوى (ص 22)، وانظر: مجموع الفتاوى (15/ 399، 426، 21/ 258).

وقال بعض السلف: "الناس يطلبون العزَّ بأبواب الملوك، ولا يجدونه إلا في طاعة الله" (¬1). وقال الحسن: "وإن هَمْلَجتْ بهم البَراذين، وطَقْطقَتْ بهم البغال، إن ذُلَّ المعصية لفي قلوبهم، أبى الله إلا أن يُذِلّ من عصاه" (¬2). وذلك أن من أطاع الله فقد والاه، ولا يَذِلُّ من والاه ربُّه، كما في دعاء القنوت: "إنه لا يَذِلُّ من واليت، ولا يَعِزُّ من عاديت" (¬3). ¬

_ (¬1) انظر: مجموع الفتاوى (15/ 426، 21/ 258)، قال: كان في كلام الشيوخ .. وَذكره. (¬2) رواه أبو نعيم في الحلية (2/ 149) من طريق حوشب بن مسلم عن الحسن قال: "أما والله، لئن تدقدقت بهم الهماليج، ووطئت الرجال أعقابهم، إنّ ذلّ المعاصي لفي قلوبهم، ولقد أبى الله أن يعصيه عبد إلا أذلّه". وذكره ابن عبد ربه في العقد الفريد (3/ 202) بغير إسناد، ولفظه: "أما إنهم وإن هَمْلَجت بهم البِغال، وأطافت بهم الرِّجال، وتعاقبت لهم الأموال، إن ذُلَّ المعصية في قلوبهم، أبى الله إلا أن يُذِلَّ من عصاه". (¬3) رواه أحمد (1/ 199، 200)، وأبو داود (1425)، والترمذي (464)، والنسائي (1745، 1746)، وابن ماجه (1178)، والطبراني في الكبير (3/ 73 - 77)، والبيهقي في الكبرى (2/ 209، 497)، وغيرهم عن الحسن بن علي رضي الله عنهما قال: علمني جدي - صلى الله عليه وسلم - كلمات أقولهن في قنوت الوتر ... وذكر الدعاء، وحسنه الترمذي، وصححه ابن الجارود (272)، والحاكم (4800)، وابن عبد البر في الاستذكار (2/ 296)، والنووي في الأذكار (ص 86)، وابن الملقن في البدر المنير (3/ 630)، وابن حجر في موافقة الخبر الخبر (1/ 333)، والألباني في الإرواء (429). وروى الدعاءَ الطيالسي (1275)، والبزار (1336)، وأبو يعلى (6759، 6762)، وغيرهم، وليس فيه ذكر القنوت ولا الوتر، ورجّحه ابن خزيمة (1096)، وابن حبان (722، 945)، وانظر: البدر المنير (3/ 634).

زكاة القلب موقوفة على طهارته

والمقصود: أن زكاة القلب موقوفة على طهارته، كما أن زكاة البدن موقوفة على استفراغه من أخلاطه الرديئة الفاسدة، قال تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ وَمَنْ يَتَّبِعْ خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ فَإِنَّهُ يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ مَا زَكَى مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ أَبَدًا وَلَكِنَّ اللَّهَ يُزَكِّي مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ} [النور: 21]، وذكر ذلك سبحانه عَقِيبَ تحريم الزنا والقذف ونكاح الزانية، فدل على أن التزكِّي هو باجتناب ذلك، وكذلك قوله تعالى في الاستئذان على أهل البيوت: {وَإِنْ قِيلَ لَكُمُ ارْجِعُوا فَارْجِعُوا هُوَ أَزْكَى لَكُمْ} [النور: 28]؛ فإنهم إذا أُمروا بالرجوع لئلَّا يَطّلعوا على عورة لم يحبَّ صاحب المنزل أن يُطّلَع عليها، كان ذلك أزكى لهم، كما أن ردّ البصر وغضّه أزكى لصاحبه. وقال تعالى: {قَدْ أَفْلَحَ مَنْ تَزَكَّى (14) وَذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ فَصَلَّى} [الأعلى: 14، 15]، وقال تعالى عن موسى في خطابه لفرعون: {هَلْ لَكَ إِلَى أَنْ تَزَكَّى} [النازعات: 18]، وقال تعالى: {وَوَيْلٌ لِلْمُشْرِكِينَ (6) الَّذِينَ لَا يُؤْتُونَ الزَّكَاةَ} [فصلت: 6، 7]. قال أكثر المفسرين من السلف ومن بعدهم (¬1): هي التوحيد، شهادة أن لا إله إلا الله، والإيمان الذي به يزكو القلب؛ فإنه يتضمن نفى إلهية ما سوى الحق من القلب، وذلك طهارة، وإثبات إلهيته سبحانه، وهو أصل كل زكاة ونماء؛ فإن التزكي وإن كان أصله النماء والزيادة والبركة، فإنما يحصل بإزالة الشر؛ فلهذا صار التزكي ينتظم الأمرين جميعًا، فأصل ما تزكو به القلوب والأرواح هو التوحيد. ¬

_ (¬1) انظر: تفسير ابن كثير (7/ 3094).

التزكية تكون في الذات، أو في الاعتقاد والخبر عنه

والتزكية جَعْلُ الشيء زكيًّا: إما في ذاته، وإما في الاعتقاد والخبر عنه، كما يقال عدَّلتُه وفسَّقتُه إذا جعلتَه كذلك في الخارج أو في الاعتقاد والخبر. وعلى هذا فقوله تعالى: {فَلَا تُزَكُّوا أَنْفُسَكُمْ} [النجم: 32] هو على غير معنى {قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا} [الشمس: 9]؛ أي لا تخبروا بزكاتها وتقولوا: نحن زاكون صالحون متقون، ولهذا قال عقيب ذلك: {هُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اتَّقَى} [النجم: 32]. وكان اسم زينب بَرّة، فقال: "تُزكِّي نفسها"؛ فسماها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - زينب (¬1)، وقال: "الله أعلم [15 ب] بأهل البر منكم" (¬2). وكذلك قوله: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يُزَكُّونَ أَنْفُسَهُمْ}؛ أي يعتقدون زكاءها ويخبرون به، كما يزكِّي المزكِّي الشاهدَ، فيقول عن نفسه ما يقول المزكّي فيه، ثم قال تعالى: {بَلِ اللَّهُ يُزَكِّي مَنْ يَشَاءُ} [النساء: 49]؛ أي هو الذي يجعله زاكيًا ويخبر بزكاته. وهذا بخلاف قوله: {قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا}؛ فإنه من باب قوله: {فَقُلْ هَلْ لَكَ إِلَى أَنْ تَزَكَّى} [النازعات: 18]؛ أي تعمل بطاعة الله، فتصير زاكيًا، ومثله قوله تعالى: {قَدْ أَفْلَحَ مَنْ تَزَكَّى} [الأعلى: 14]. وقد اختُلِف في الضمير المرفوع في قوله: {زَكَّاهَا} (¬3): فقيل: هو لله، أي أفلحت نفسٌ زكَّاها الله، وخابت نفسٌ دسّاها. ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري (6192)، ومسلم (2141) عن أبي هريرة. (¬2) أخرجه مسلم (2142) عن زينب بنت أبي سلمة. (¬3) انظر: تفسير ابن كثير (8/ 3788) والقرطبي (20/ 76، 77).

وقيل: إن الضمير يعود على فاعل {أَفلَحَ}، وهو {مَن} سواءً كانت موصولة أو موصوفة؛ فإن الضمير لو عاد على الله سبحانه لقال: قد أفلح من زكاه، وقد خاب من دسّاه. والأولون يقولون: {مَن} وإن كان لفظها مذكرًا، فإذا وقعت على مؤنث جاز إعادة الضمير عليها بلفظ المؤنث مراعاةً للمعنى، وبلفظ المذكر مراعاةً للفظ، وكلاهما من الكلام الفصيح، وقد وقع في القرآن اعتبار لفظها ومعناها، فالأول كقوله: {وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ} [الأنعام: 25]، فأفرد الضمير، والثاني كقوله: {وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُونَ إِلَيْكَ} [يونس: 42] قال المرجِّحون للقول الأول: يدل على صحة قولنا ما رواه أهل "السنن" (¬1) من حديث ابن أبي مُليْكة عن عائشة رضي الله عنها، قالت: أتيت ليلة، فوجدت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: "ربِّ! أعطِ نفسي تقواها، وزَكِّها أنت خير من زكّاها، أنت وليها ومولاها"؛ فهذا الدعاء كالتفسير لهذه الآية، وأن الله هو الذي يزكي النفوس، فتصير زاكية، فالله هو المزكّي، والعبد هو ¬

_ (¬1) هو في مسند أحمد (6/ 209) من طريق صالح بن سعيد عن عائشة أنها فقدت النبي - صلى الله عليه وسلم - من مضجعه، فلمسته بيدها، فوقعت عليه وهو ساجد وهو يقول ... الدعاء. حسنه العراقي في تخريج الإحياء (1/ 329)، وقال الهيثمي في المجمع (10/ 144): "رجاله رجال الصحيح، غير صالح بن سعيد الراوي عن عائشة، وهو ثقة"، وقال ابن حجر في نتائج الأفكار (2/ 98): "رجاله رجال الصحيح إلا صالح بن سعيد، فلم أجد له ذكرًا إلا في ثقات ابن حبان". وضعفه الألباني في تمام المنة (ص 208)، وفي الباب عن زيد بن أرقم وابن عباس وأبي هريرة وعبد الرحمن بن أبي عمرة مرسلاً.

المتزكِّي، والفرق بينهما فرقُ ما بين الفاعل والمطاوع. قالوا: والذي جاء في القرآن من إضافة الزكاة إلى العبد إنما هو بالمعنى الثاني دون الأول؛ كقوله: {قَدْ أَفْلَحَ مَنْ تَزَكَّى} [الأعلى: 14]، وقوله: {فَقُلْ هَلْ لَكَ إِلَى أَنْ تَزَكَّى} [النازعات: 18]؛ أي تقبل تزكية الله لك، فتزكّى. قالوا: وهذا هو الحق؛ فإنه لا مفلح إلا من زكّاه الله. قالوا: وهذا اختيار ترجمان القرآن ابن عباس؛ فإنه قال في رواية علي ابن أبى طلحة، وعطاء، والكلبيّ: "قد أفلح من زكى اللهُ نفسَه" (¬1). وقال ابن زيد: "قد أفلح من زكى الله نفسه" (¬2)، واختاره ابن جرير. قالوا: ويشهد لهذا القول -أيضًا- قوله في أول السورة: {فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا} [الشمس: 8]. قالوا: وأيضًا فإنه سبحانه أخبر أنه خالق النفس وصفاتها؛ وذلك هو معنى التسوية. قال أصحاب القول الآخر: ظاهر الكلام ونظمه الصحيح يقتضي أن يعود الضمير على {مَن}؛ أي أفلح من زكَّى نفسَه، هذا هو المفهوم المتبادر إلى الفهم، بل لا يكاد يُفهم غيره، كما إذا قلت: هذه جارية قد ربح من اشتراها، ¬

_ (¬1) رواه ابن جرير في تفسيره (24/ 456)، واللالكائي في شرح أصول الاعتقاد (955)، والبيهقي في القضاء والقدر (355) من طريق علي بن أبي طلحة عن ابن عباس. وعزاه في الدر المنثور (8/ 531) لابن المنذر وابن أبي حاتم. وروى عبد بن حميد -كما في الدر المنثور (8/ 530) - عن الكلبي قال: "أفلح من زكاه الله، وخاب من دساه الله". (¬2) رواه ابن جرير في تفسيره (24/ 456).

وصلاة قد سَعِدَ من صلاها، وضالّة قد خاب من آواها، ونظائر ذلك. قالوا: والنفس مؤنثة، فلو عاد الضمير على الله سبحانه لكان وجه الكلام: قد أفلحت نفسٌ زكاها، أو (¬1) أفلحت من زكاها، لوقوع {مَن} على النفس. قالوا: كان جاز تفريغ الفعل من التاء (¬2) لأجل لفظ {مَن}، كما تقول: قد أفلح من قامت منكن، فذاك حيث لا يقع اشتباه والتباس، فإذا وقع الاشتباه لم يكن بُدٌّ من ذكر ما يزيله. قالوا: و {مَن} موصولة بمعنى (الذي)، ولو قيل: قد أفلح الذي زكاها الله لم يكن جائزًا؛ لعود الضمير المؤنث على الذي، وهو مذكر، قالوا: وهو سبحانه قصد نسبة الفلاح إلى صاحب النفس إذا زكَّى نفسَه، ولهذا فرّغ الفعل من التاء (¬3)، وأتى بـ {مَن} التي هي بمعنى الذي. وهذا الذي عليه جمهور المفسرين، حتى أصحاب ابن عباس [16 أ]. وقال قتادة: " {قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا}، مَنْ عمل خيرًا زكاها بطاعة الله" (¬4). وقال أيضًا: "قد أفلح من زكَّى نفسه يعمل صالح" (¬5). ¬

_ (¬1) "قد ... أو" ساقطة من الأصل. (¬2) م: "الهاء". (¬3) م: "الهاء". (¬4) رواه ابن جرير في تفسيره (24/ 456)، وعزاه في الدر المنثور (8/ 529 - 530) لعبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم. (¬5) رواه ابن جرير في تفسيره (24/ 456).

وقال الحسن: "قد أفلح من زكى نفسه، فأصلحها وحملها على طاعة الله، وقد خاب من أهلكها وحملها على معصية الله" (¬1). قال ابن قتيبة (¬2): "يريد: أفلح من زكَّى نفسه، أي أنماها وأعلاها بالطاعة، والبِرّ، والصدقة، واصطناع المعروف، {وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا} [الشمس: 10]، أي نقصها وأخفاها بترك عمل البر، وركوب المعاصي. والفاجر أبدًا خفيُّ المكان، زَمِرُ المروءة، غامض الشخص، ناكس الرأس، فمرتكب الفواحش قد دَسَّى نفسه وقمعها، ومصطنع المعروف شهَّر نفسَه ورفعها. وكانت أجواد العرب تنزل الرُّبى ويَفَاع الأرض؛ لتُشهِّر أماكنها للمُعْتفين (¬3)، وتوقد النيران في الليل للطارقين، وكانت اللئام تنزل الأوْلاج والأطراف والأهضام؛ لتُخفِي أماكنهَا على الطالبين، فأولئك أعلوا أنفسهم وزكَّوها، وهؤلاء أخفوا أنفسهم ودسَوها". وأنشد (¬4): وَبَوَّأتَ بَيْتَكَ في مَعْلَمٍ ... رَحيبِ المَباءَةِ وَالمَسْرَحِ كَفَيْتَ العُفَاةَ طِلابَ القِرَى ... وَنَبْحَ الكِلَابِ لمُسْتَنْبح فهذان قولان مشهوران في الآية. ¬

_ (¬1) رواه عبد بن حميد بنحوه كما في الدر المنثور (8/ 530)، وانظر: تفسير البغوي (8/ 439). (¬2) انظر: تأويل مشكل القرآن (ص 344، 345). (¬3) الأصل، ظ، ت: "للمعتقبين" تصحيف. (¬4) أي ابن قتيبة في المصدر السابق. والبيتان بلا نسبة في الحيوان (1/ 381، 382، 5/ 134، 135)، وتاج العروس (بوأ).

وفيها قول ثالث: إن المعنى خاب من دسَّ نفسه مع الصالحين وليس منهم، حكاه الواحدي (¬1)، قال: ومعنى هذا أنه أخفى نفسه في الصالحين، يُرِي الناس أنه منهم، وهو منطوٍ على غير ما ينطوي عليه الصالحون. وهذا وإن كان حقًّا في نفسه؛ لكن في كونه هو المراد بالآية نظرٌ. وإنما يدخل في الآية بطريق العموم؛ فإن الذي يدسُّ نفسه بالفجور إذا خالط أهل الخير دسَّ نفسه فيهم، والله أعلم. ¬

_ (¬1) في البسيط (24/ 64). وانظر تهذيب اللغة (12/ 281). والقائل هو ابن الأعرابي.

الباب التاسع في طهارة القلب من أدرانه ونجاساته

الباب التاسع في طهارة القلب من أدرانه ونجاساته هذا الباب وإن كان داخلاً فيما قبله، كما بينَّا أن الزكاة لا تحصل إلا بالطهارة، فأفردناه بالذكر لبيان معنى طهارته، وشدة الحاجة إليها، ودلالة القرآن والسنة عليها، قال الله تعالى: {يَاأَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ (1) قُمْ فَأَنْذِرْ (2) وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ (3) وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ} [المدثر: 1 - 4]، وقال تعالى: {أُولَئِكَ الَّذِينَ لَمْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يُطَهِّرَ قُلُوبَهُمْ لَهُمْ فِي الدُّنْيَا خِزْيٌ وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ} [المائدة: 41]، وجمهور المفسرين من السلف ومن بعدهم على أن المراد بالثياب هاهنا القلب، والمراد بالطهارة إصلاح الأخلاق والأعمال. قال الواحدي (¬1): اختلف المفسرون في معناه، فروى عطاء، عن ابن عباس قال: "يعني: من الإثم ومما كانت الجاهلية تجيزه" (¬2). وهذا قول قتادة (¬3)، ومجاهد (¬4)، قالا: "نَفْسَك فطهِّرْ من الذنب". ¬

_ (¬1) من هنا إلى ص 92 كله منقول من "البسيط" (22/ 396 - 404). (¬2) رواه أبو داود في الزهد (353)، وابن جرير في تفسيره (23/ 10، 11)، وابن المنذر في الأوسط (685)، وابن عبد البر في التمهيد (22/ 235)، وصححه الحاكم (3869) على شرطهما، وعزاه في الدر المنثور (8/ 326) للفريابي وعبد بن حميد وابن أبي حاتم، وليس عند أحد منهم: "ومما كانت الجاهلية تجيزه"، وإنما عند بعضهم: "وهي في كلام العرب: نقيّ الثياب". (¬3) قول قتادة رواه عبد الرزاق في تفسيره (3/ 327)، وابن جرير في تفسيره (23/ 11)، وعزاه في الدر المنثور (8/ 325) لعبد بن حميد وابن المنذر. (¬4) قول مجاهد رواه عبد بن حميد كما في الدر المنثور (8/ 327)، وانظر: تفسير البغوي (8/ 264).

ونحوه قال الشعبي (¬1)، وإبراهيم (¬2)، والضحاك (¬3)، والزُّهرى (¬4). وعلى هذا القول الثياب عبارة عن النفس، والعرب تَكْنِي بالثياب عن النفس، ومنه قول الشمّاخ: رَمَوْهَا بِأَثْوَابٍ خِفَافٍ فَلا تَرَى ... لهَا شَبهًا إلا النَّعَامَ المنُفَّرَا (¬5) رموها -يعني الركابَ- بأبدانهم. وقال عنترة: فَشَكَكْتُ بالرُّمْحِ الأَصَمِّ ثِياَبَهُ ... لَيْسَ الْكَرِيمُ عَلىَ الْقَنَا بِمُحَرَّمِ (¬6) يعني نفسه. وقال في رواية الكلبي: يعني لا تغدر، فتكون غادرًا دنِسَ الثياب (¬7). ¬

_ (¬1) قول عامر الشعبي رواه ابن جرير في تفسيره (23/ 11). (¬2) قول إبراهيم النخعي رواه ابن جرير في تفسيره (23/ 11)، وابن عبد البر في التمهيد (22/ 236)، وعزاه في الدر المنثور (8/ 325) لسعيد بن منصور وعبد بن حميد وابن المنذر. وانظر: الأوسط (2/ 135). وله تفسير آخر كقول مجاهد الآتي: "وعملك فأصلح"، رواه عنه ابن حبان (7317). (¬3) انظر: تفسير الثعلبي (10/ 68)، وتفسير البغوي (8/ 264)، وروى عنه ابن جرير في تفسيره (23/ 11) قوله: "لا تلبس ثيابك على معصية". (¬4) انظر: تفسير الثعلبي (10/ 68)، وتفسير البغوي (8/ 264). (¬5) البيت لا يوجد في ديوان الشماخ. وهو له في تهذيب اللغة (15/ 154)، ولليلى الأخيلية في ديوانها (ص 70)، وسمط اللآلي (ص 922)، وأساس البلاغة (ثوب)، والمعاني الكبير (ص 486)، والصناعتين (ص 353)، وبلا نسبة في اللسان (ثوب). (¬6) البيت من معلقته، وانظر ديوانه (ص 210). (¬7) لم أقف على هذه الرواية.

وقال سعيد بن جُبير: كان الرجل إذا كان غادرًا قيل: دنِسُ الثياب، وخبيث الثياب (¬1). وقال عكرمة: لا تلبس ثوبك على معصية، ولا على فَجْرَة (¬2). وروي ذلك عن ابن عباس (¬3)، واحتج يقول الشاعر: وَإنيَ بِحَمْدِ اللهِ لا ثَوْبَ غَادِرٍ ... لَبِسْتُ وَلا مِنْ خِزْيَةٍ أَتقَنَّعُ (¬4) وهذا المعنى أراد من قال في هذه الآية: "وعملك فأصلح"، وهو قول أبي رَزِين (¬5) ¬

_ (¬1) رواه ابن أبي شيبة وابن المنذر كما في الدر المنثور (8/ 326)، وانظر: الأوسط (2/ 136). (¬2) رواه الدينوري في المجالسة (1528، 3542)، وابن جرير في تفسيره (13/ 10)، ولفظه عندهما: "لا تلبسها على غَدرة ولا على فجرة"، وابن عبد البر في التمهيد (22/ 236)، ومن طريق الدينوري رواه ابن عساكر في تاريخ دمشق (48/ 141). (¬3) رواه ابن جرير في تفسيره (23/ 10)، وابن المنذر في الأوسط (686)، وابن حجر في الإصابة (5/ 335)، وعزاه في الدر المنثور (8/ 326) لسعيد بن منصور وعبد بن حميد وابن أبي حاتم وابن الأنباري في الوقف والابتداء وابن مردويه. (¬4) البيت لغيلان في تهذيب اللغة (6/ 172. 15/ 154) واللسان (طهر)، ولابن مطر المازني في معجم الشعراء (ص 468)، والمرصع (ص 278)، ولبرذع بن عدي الأوسي في مجالس ثعلب (ص 210)، وبلا نسبة في اللسان (ثوب، قوا)، وأساس البلاغة (قنع، خزى). (¬5) قول أبي رزين رواه ابن أبي شيبة في المصنف (7/ 154) وزاد: "فكان الرجل إذا كان حسن العمل قيل: فلان طاهر الثياب"، ومن طريق ابن أبي شيبة رواه ابن عبد البر في التمهيد (22/ 235). ورواه الدينوري في المجالسة (2872)، وابن جرير في تفسيره (23/ 12)، وزادا: "وكان الرجل إذا كان خبيث العمل قالوا: فلان خبيث الثياب، وإذا كان حسن العمل قالوا: فلان طاهر الثياب"، وعزاه في الدر =

ورواية منصور عن مجاهد (¬1) وأبي رَوْق (¬2). وقال السُّدي: "يقال للرجل إذا كان صالحًا: إنه لطاهرُ الثياب، وإذا كان فاجرًا: إنه لخبيثُ الثياب" (¬3). قال الشاعر: لَا هُمَّ إنَّ عَامِرَ بن جَهْمِ ... أوْ ذَمَ حَجًّا في ثِيابٍ دُسْمِ (¬4) يعني أنه متدنس بالخطايا، وكما وصفوا الغادر الفاجر بدَنَسِ الثوب، وصفوا الصالح بطهارة الثوب، قال امرؤ القيس: ثِيابُ بَنِي عَوْفٍ طَهَارَى نَقِيَّةٌ (¬5) يريد أنهم لا يغدرون، بل يَفُون. ¬

_ = المنثور (8/ 326) لعبد بن حميد وابن المنذر. وانظر: الأوسط (2/ 136). (¬1) رواية منصور عن مجاهد أخرجها ابن جرير في تفسيره (23/ 12)، والخطابي في غريب الحديث (1/ 613)، وأبو نعيم في الحلية (3/ 281). وعزا الأثر في الدر المنثور (8/ 326) لسعيد بن منصور وعبد بن حميد وابن المنذر. وانظر: الأوسط (2/ 136). (¬2) الذي في تفسير الثعلبي (10/ 69) وتفسير البغوي (8/ 264) رواية أبي روق هذا القول عن الضحاك. (¬3) انظر: تفسير الثعلبي (15/ 69)، وتفسير البغوي (8/ 264)، وتفسير القرطبي (19/ 63). (¬4) الرجز بلا نسبة في تهذيب اللغة (12/ 377، 15/ 29)، ومقاييس اللغة (2/ 276)، وأساس البلاغة (دسم)، واللسان (دسم، وذم). وأوذمَ أي أوجب على نفسه. (¬5) عجزه: وأوجههم بيض المسافر غرّانُ. انظر: ديوانه (ص 83)، ولسان العرب (ثوب، سفر، طهر، غرر).

من قال بأن الآية على ظاهرها

وقال الحسن: "خُلُقَك فحسِّنْهُ" (¬1)، وهذا قول القُرَظي. وعلى هذا: الثياب عبارةٌ عن الخُلُقِ؛ لأن خلق الإنسان يشتمل على أحواله اشتمالَ ثيابه على نفسه. وروى العَوفي عن ابن عباس في هذه الآية: "لا تكن ثيابُك التي تلبس من مكسب غير طيب" (¬2). والمعنى: طهِّرها من أن تكون مغصوبة، أو من وجه لا يحلُّ اتخاذها منه. وروي عن سعيد بن جبير: "وقلبك ونيَّتك فطهِّر" (¬3). وقال أبو العباس (¬4): الثياب: اللباس. ويقال: القلب، وعلى هذا يُنشَد: فَسُلِّى ثِيابِي مِنْ ثِياَبِكِ تَنْسُلِ (¬5) وذهب بعضهم في تفسير هذه الآية إلى ظاهرها، وقال: إنه أمر بتطهير ثيابه من النجاسات التي لا تجوز معها الصلاة، وهو قول ابن سيرين (¬6)، ¬

_ (¬1) رواه ابن المنذر كما في فتح الباري (8/ 679) والدر المنثور (8/ 327). وانظر: الأوسط (2/ 136). (¬2) م، ظ، ت: "طائل"، من: "طاهر"، والمثبت من الأصل وح. والأثر رواه ابن جرير في تفسيره (23/ 11)، وعزاه في الدر المنثور (8/ 326) لابن المنذر وابن أبي حاتم وابن مردويه. (¬3) انظر: تفسير البغوي (8/ 265)، وزاد المسير (8/ 401)، وتفسير القرطبي (19/ 63). (¬4) هو ثعلب، انظر: تهذيب اللغة (ثوب)، ومنه نقله الواحدي في البسيط. (¬5) صدره: وإن كنتِ قد ساءتكِ مني خليقةٌ والبيت لامرئ القيس من معلقته، وانظر ديوانه (ص 13). (¬6) رواه عنه ابن جرير في تفسيره (23/ 12)، ولفظه: "اغسلها بالماء"، وانظر: الأوسط (2/ 136).

وابن زيد (¬1) وذكر أبو إسحاق (¬2): "وثيابك فقصِّر"، قال: لأن تقصير الثوب أبعد من النجاسة، فإنه إذا انجرّ على الأرض لم يُؤمَنْ أن يصيبه ما ينجِّسه. وهذا قول طاوس (¬3). وقال ابن عرفة: "معناه: نساءك طهِّرْهن" (¬4)، وقد يُكنى عن النساء بالثياب واللباس، قال تعالي: {أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيَامِ الرَّفَثُ إِلَى نِسَائِكُمْ هُنَّ لِبَاسٌ لَكُمْ وَأَنْتُمْ لِبَاسٌ لَهُنَّ} [البقرة: 187] ويكنى عنهن بالإزار، ومنه قول الشاعر: أَلا أَبْلِغْ أبا حَفْصٍ رَسُولًا ... فِدًى لَكَ مِنْ أخِي ثِقَةٍ إِزَارِي (¬5) أي أهلي. ¬

_ (¬1) رواه عنه ابن جرير في تفسيره (23/ 12)، ولفظه: "كان المشركون لا يتطهرون، فأمره أن يتطهر ويطهر ثيابه". (¬2) هو الزجاج، انظر كلامه في "معاني القرآن" له (5/ 245). (¬3) انظر: تفسير البغوي (8/ 265)، وزاد المسير (8/ 451)، وتفسير القرطبي (19/ 65). (¬4) رواه الخطابي في غريب الحديث (2/ 101) قال: أخبرني بعض أصحابنا عن إبراهيم بن محمد بن عرفة النحوي. وذكره. (¬5) البيت لبقيلة الأكبر الأشجعي في اللسان (أزر)، والمؤتلف والمختلف (ص 83)، وعجزه في اللسان (أزر) منسوبًا إلى جعدة بن عبد الله السلمي. وبلا نسبة في اللسان (قلص) وشرح اختيارات المفضل (ص 250)، وشرح شواهد الإيضاح (ص 162).

ترجيح المؤلف

ومنه قول البراء بن مَعْرورٍ للنبي - صلى الله عليه وسلم - ليلة العَقَبة: "لَنَمْنَعنّكَ مِمّا نَمْنَعُ مِنْهُ أُزُرَنَا" (¬1)، أي نساءنا. قلت: الآية تعمُّ هذا كله، وتدل عليه بطريق التنبيه واللزوم، إن لم تتناول ذلك لفظًا؛ فإن المأمور به إن كان طهارة القلب فطهارة الثوب وطيب مكسبه تكميل لذلك، فإن خبث الملبس يُكسِبُ القلب هيئةً خبيثة، كما أن خبث المطعمِ يُكسِبه ذلك، ولذلك حَرُمَ لبس جلود النمور والسباع بنهي النبي - صلى الله عليه وسلم - عن ذلك في عدة أحاديث صحاح لا معارض لها (¬2)، لما يكتسب القلب من الهيئة المشابهة لتلك الحيوانات، فإن الملابسة الظاهرة تسري إلى الباطن، ولذلك حَرُم لبس الحرير والذهب على الذكور، لما يُكْسِبُ القلب من الهيئة ¬

_ (¬1) رواه أحمد (3/ 460)، والطبري في التاريخ (1/ 562)، والطبراني في الكبير (19/ 87)، من حديث كعب بن مالك رضي الله عنه، وصححه ابن حبان (7011)، وقال الهيثمي في "المجمع (6/ 54): "رواه أحمد والطبراني، ورجال أحمد رجال الصحيح، غير ابن إسحاق وقد صرح بالسماع"، وصححه الألباني في تخريج فقه السيرة (ص 146). (¬2) من ذلك حديث أبي المليح بن أسامة عن أبيه أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - نهى عن جلود السباع، رواه ابن أبي شيبة (7/ 314)، وأحمد (5/ 74، 75)، والدارمي (1983، 1984)، وأبو داود (4132)، والترمذي (1770)، والنسائي (4253)، وغيرهم، وصححه ابن الجارود (875)، والحاكم (507، 558)، والنووي في رياض الصالحين (ص 335)، وهو في السلسلة الصحيحة (3/ 9). ورواه عبد الرزاق (215)، وابن أبي شيبة (7/ 314)، والترمذي (1771)، والبزار (2330) عن أبي المليح مرسلاً، قال الترمذي: "هذا أصح". وفي الباب عن علي ومعاوية وابن عمر وابن عباس وأبي هريرة وأبي سعيد وسمرة والمقدام وثوبان وأبي ريحانة وجعدة وعائشة وغيرهم رضي الله عنهم.

العبد إذا اعتاد سماع الباطل وقبوله أكسبه ذلك تحريفا للحق عن مواضعه

التي تكون لمن ذلك لُبْسُهُ من النساء، وأهل الفخر والخُيَلاء. والمقصود أن طهارة الثوب وكونه من مكسب طيب هو من تمام طهارة القلب وكمالها؛ فإن كان المأمور به ذلك فهو وسيلة مقصودة لغيرها، فالمقصود لنفسه أولى أن يكون مأمورًا به، وإن كان المأمور به طهارة القلب وتزكية النفس فلا يتم إلا بذلك، فَتَبيَّنَ (¬1) دلالة القرآن على هذا وهذا. وقوله تعالى: {أُولَئِكَ الَّذِينَ لَمْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يُطَهِّرَ قُلُوبَهُمْ} [المائدة: 41] عقيب قوله: {سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ} {سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ} إلى قوله {يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ مِنْ بَعْدِ مَوَاضِعِهِ} [المائدة: 41] مما يدلُّ على أن العبد إذا اعتاد سماع الباطل وقبوله أكسبه ذلك تحريفًا للحق عن مواضعه، فإنه إذا قبل الباطل أحبَّهُ ورضيه، فإذا جاء الحق بخلافه ردّه وكذَّبه إن قدر على ذلك، وإلا حَرّفه، كما تصنع الجَهْميّة بآيات الصفات وأحاديثها، يردون هذه بالتأويل الذي هو تكذيب لحقائقها، وهذه بكونها أخبار آحاد لا يجوز الاعتماد عليها في باب معرفة الله وأسمائه وصفاته. فهؤلاء وإخوانهم من الذين لم يُرِد الله أن يطهر قلوبهم؛ فإنها لو طهرت لما تعوَّضت بالباطل عن كلام الله تعالي ورسوله. كما أن المنحرفين من أهل الإرادة لمَّا لم تطهر قلوبهم تعوَّضوا بالسماع الشيطاني عن السماع القرآني الإيماني. قال عثمان بن عفان رضي الله عنه: "لو طَهُرت قلوبنا لما شَبِعتْ من كلام الله" (¬2). ¬

_ (¬1) م، ظ، ت: "فبيّن". (¬2) رواه الحسين المروزي في زوائد الزهد (ص 399)، وعبد الله في زوائد الزهد =

القلب الطاهر لا يشبع من القرآن

فالقلب الطاهر -لكمال حياته ونوره وتخلُّصه من الأدران والخبائث- لا يشبع من القرآن، ولا يتغذى إلا بحقائقه، ولا يتداوى إلا بأدويته، بخلاف القلب الذي لم يُطهِّره الله، فإنه يتغذى من الأغذية التي تناسبه، بحسب ما فيه من النجاسة، فإن القلب النجس كالبدن العليل المريض، لا تلائمه الأغذية التي تلائم الصحيح. ودلت الآية على أن طهارة القلب موقوفة على إرادة الله، وأنه سبحانه لما لم يُرِد أن يُطهِّر قلوب القائلين بالباطل المحرِّفين للحق لم يحصل لها الطهارة. ولا يصحُّ أن تفسَّر الإرادة ها هنا بالإرادة الدينية، وهي الأمر والمحبة، فإنه سبحانه قد أراد ذلك لهم أمرًا ومحبة، ولم يرده منهم كونا؛ فأراد الطهارة لهم، ولم يُرِدْ وقوعها منهم؛ لما له في ذلك من الحكمة التي فَواتهُا أكرهُ إليه من فوات الطهارة منهم. وقد أشبعنا الكلام في ذلك في كتابنا الكبير في القَدَر (¬1). ودلت الآية على أن من لم يُطهِّر الله قلبه فلا بد أن يناله الخِزْيُ في الدنيا والعذاب في الآخرة، بحسب نجاسة قلبه وخبثه، ولهذا حرّم الله سبحانه ¬

_ = (ص 128) عن ابن عيينة عن عثمان، ومن طريق عبد الله رواه أبو نعيم في الحلية (7/ 272، 300). ورواه البيهقي في الشعب (2/ 409)، وفي الاعتقاد (ص 105) من طريق ابن عيينة عن إسرائيل بن موسى عن الحسن عن عثمان، ومن طريق البيهقي رواه ابن عساكر في تاريخ دمشق (39/ 239). (¬1) هو "شفاء العليل"، انظر الباب التاسع والعشرين منه في انقسام القضاء والإرادة إلى كوني متعلق بخلقه، وإلى ديني متعلق بأمره.

الجنة دار الطيبين

الجنة على من في قلبه نجاسة وخبث، ولا يدخلها إلا بعد طِيبه وطهره (¬1)، فإنها دار الطيبين، ولهذا يقال لهم: {طِبْتُمْ فَادْخُلُوهَا خَالِدِينَ} [الزمر: 73] , أي ادخلوها بسبب طيبكم. والبشارة عند الموت لهؤلاء دون غيرهم، كما قال تعالى: {الَّذِينَ تَتَوَفَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ طَيِّبِينَ يَقُولُونَ سَلَامٌ عَلَيْكُمُ ادْخُلُوا الْجَنَّةَ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} [النحل: 32] , فالجنة لا يدخلها خبيث، ولا من فيه شيء من الخبث. فمن تطهر في الدنيا ولقي الله طاهرًا من نجاساته دخلها بغير مُعَوِّق، ومن لم يتطهر في الدنيا؛ فإن كانت نجاسته عينية كالكافر لم يدخلها بحال، وإن كانت نجاسته كسبية عارضة دخلها بعد ما يتطهر من تلك النجاسة، ثم يخرج منها، حتى إن أهل الإيمان إذا جازوا الصراط حُبسوا على قنطرة بين الجنة والنار، فيُهَذَّبون ويُنقَّون من بقايا بقيت عليهم، قصَّرت (¬2) بهم عن الجنة، ولم توجب لهم دخول النار، حتى إذا هُذّبوا ونُقُّوا أُذِن لهم في دخول الجنة (¬3). والله سبحانه بحكمته جعل الدخول عليه موقوفًا على الطهارة، فلا يدخل المصلي عليه حتى يتطهر، وكذلك جعل الدخول إلى جنته موقوفًا على الطِّيب والطهارة، فلا يدخلها إلا طَيِّبٌ طاهر، فهما طهارتان: طهارة البدن، وطهارة القلب، ولهذا شُرع للمتوضئ أن يقول عقيب وضوئه: "أشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، اللهم اجعلني من ¬

_ (¬1) في م: "تطهره". (¬2) م، ت، ظ: "فصرف". (¬3) كما في الحديث الذي أخرجه البخاري (2440) عن أبي سعيد الخدري.

معنى دعاء النبي - صلى الله عليه وسلم -: "اللهم طهرني من خطاياي بالماء والثلج والبرد"

التوّابين، واجعلني من المتطهرين" (¬1)، فطهارة القلب بالتوبة، وطهارة البدن بالماء. فلما اجتمع له طهوران صلح للدخول على الله، والوقوف بين يديه ومناجاته. وسألت شيخ الإسلام عن معنى دعاء النبي - صلى الله عليه وسلم -: "اللهم طهِّرني من خطاياي بالماء والثلج والبَرَد" (¬2)، كيف تُطهَّر الخطايا بذلك؟ وما فائدة التخصيص بذلك؟ وقوله في لفظ آخر: "والماء البارد"، والحارُّ أبلغ في الإنقاء؟ فقال: الخطايا تُوجب للقلب حرارةً ونجاسة وضعفًا، فتُرخي القلبَ، وتُضْرِمُ (¬3) فيه نارَ الشهوة، وتنجِّسه، فإن الخطايا والذنوب له بمنزلة الحطب الذي يمدُّ النار ويوقدها, ولهذا كما كثرت الخطايا اشتدت نار القلب وضعفه، والماء يغسل الخبث ويُطفئ النار، فإن كان باردًا أورث الجسم صلابة وقوة، فإن كان معه ثلج وبردٌ كان أقوى في التبريد وصلابة الجسم وشدَّته، فكان أذهبَ لأثرِ الخطايا. ¬

_ (¬1) جزء من حديث رواه الترمذي (55) عن عمر رضي الله عنه أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "من توضأ فأحسن الوضوء ثم قال: أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، اللهم اجعلني من التوابين واجعلني من المتطهرين، فتحت له ثمانية أبواب الجنة يدخل من أيها شاء"، وأعله بالاضطراب، وهو في صحيح مسلم (234) بدون قوله: "اللهم اجعلني من التوابين واجعلني من المتطهرين"، وحسنه ابن القيم في المنار المنيف (ص 121)، وصححه الألباني في الإرواء (96). وفي الباب عن علي وثوبان وأنس والبراء رضي الله عنهم. (¬2) أخرجه البخاري (744)، ومسلم (598) عن أبي هريرة. (¬3) م: "فيرتخي القلب وتضطرم".

من كمال بيان النبي - صلى الله عليه وسلم - تمثيله الأمر المطلوب المعنوي بالأمر المحسوس، وهذا كثير في كلامه - صلى الله عليه وسلم -

هذا معنى كلامه، وهو محتاجٌ إلى مزيد بيان وشرح، فاعلم أن ها هنا أربعة أمور: أمران حسِّيَّان، وأمران معنويَّان: فالنجاسة التي تزول بالماء هي ومُزِيلها حسيَّان، وأثر الخطايا التي تزول بالتوبة والاستغفار؛ هي ومزيلها معنويَّان، وصلاح القلب وحياته ونعيمه لا يتم إلا بهذا وهذا، فذكر النبي - صلى الله عليه وسلم - من كل شطر قسمًا، نبّه به على القسم الآخر، فتضمنت كلماته الأقسام الأربعة في غاية الاختصار، وحسن البيان. كما في حديث الدعاء بعد الوضوء: "اللهم اجعلني من التوابين واجعلني من المتطهِّرين"؛ فإنه يتضمن ذكر الأقسام الأربعة. ومن كمال بيانه - صلى الله عليه وسلم -، وتحقيقه لما يخبر به ويأمر به: تمثيل (¬1) الأمر المطلوب المعنوي بالأمر المحسوس، وهذا كثير في كلامه، كقوله في حديث علي بن أبي طالب رضي الله عنه: "سل الله الهدى والسداد، واذكُر بالهدى هدايتَك الطريق، وبالسداد سَداد السّهم" (¬2)؛ وهذا من أبلغ التعليم والنصح، حيث أمره أن يذكر -إذا سأل الله الهدى إلى طريق رضاه وجنته- كونَه مسافرًا، وقد ضل عن الطريق، فلا يدري أين يتوجه، فطلع له رجل خبير بالطريق عالم بها، فسأله أن يدلَّه على الطريق، فهكذا شأن طريق الآخرة تمثيلاً لها بالطريق المحسوس للمسافر، وحاجة المسافر -إلى الله- سبحانه إلى من (¬3) يهديه تلك الطريق، أعظم من حاجة المسافر إلى بلد إلى من يدلُّه على الطريق الموصل إليها. ¬

_ (¬1) الأصل، م، ظ: "يمثل"، من: "مثل"، والمثبت من ح، ت. (¬2) أخرجه مسلم (2725). (¬3) م: "أن".

الإنسان لا يصل إلى مقصده إلا بزاد يبلغه ذلك

وكذلك السداد، هو إصابة القصد قولًا وعملاً؛ فَمَثَلُهُ مَثَلُ رامي السهم، إذا وقع سهمه في نفس الشيء الذي رماه؛ فقد سدّد سهمه وأصاب، ولم يقع باطلًا، فهكذا المصيب للحق في قوله وعمله بمنزلة المصيب في رميه، وكثيرًا ما يُقْرَنُ في القرآن هذا وهذا. فمنه قوله تعالى: {وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى وَاتَّقُونِ يَاأُولِي الْأَلْبَابِ} [البقرة: 197] أمر الحاجّ بأن يتزودوا لسفرهم، ولا يسافروا بغير زاد، ثم نبههم على زاد سفر الآخرة، وهو التقوى، فكما أنه لا يصل المسافر إلى مقصده إلا بزاد يُبلغه إياه، فكذلك المسافر إلى الله والدار الآخرة لا يصل إلا بزاد من التقوى، فجمع بين الزادين. ومنه قوله سبحانه وتعالى: {يَابَنِي آدَمَ قَدْ أَنْزَلْنَا عَلَيْكُمْ لِبَاسًا يُوَارِي سَوْآتِكُمْ وَرِيشًا وَلِبَاسُ التَّقْوَى ذَلِكَ خَيْرٌ} [الأعراف: 26]؛ فجمع بين الزينتين: زينة البدن باللباس، وزينة القلب بالتقوى؛ زينة الظاهر والباطن، وجمال الظاهر والباطن. ومنه قوله تعالى: {فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلَا يَضِلُّ وَلَا يَشْقَى} [طه: 123]؛ فنفى عنه الضلال الذي هو عذاب القلب والروح، والشقاء الذي هو عذاب البدن والروح أيضًا، فهو منعَّم القلب والبدن بالهدى والفلاح. ومنه قول امرأة العزيز عن يوسف لما أرَتْهُ النسوةَ اللائمات لهادي حُبِّه: {فَذَلِكُنَّ الَّذِي لُمْتُنَّنِي فِيهِ} [يوسف: 32]؛ فأرَتهن جماله الظاهر، ثم قالت: {وَلَقَدْ رَاوَدْتُهُ عَنْ نَفْسِهِ فَاسْتَعْصَمَ}، فأخبرت عن جماله الباطن بعفته، فأخبرَتهْن بجمال باطنه، وأرتهُنَّ جمال ظاهره.

الحكمة من قوله "غفرانك" إذا خرج من الخلاء

فنبَّه - صلى الله عليه وسلم - بقوله: "اللهم طهِّرْني من خطاياي بالماء والثلج والبرد" على شدة حاجة البدن والقلب إلى ما يُطهّرُهما ويُبرِّدهما ويقوّيهما، وتضمن دعاؤه سؤالَ هذا وهذا، والله أعلم. وقريب من هذا أنه - صلى الله عليه وسلم - كان إذا خرج من الخلاء قال: "غفرانك" (¬1). وفي هذا من السر -والله أعلم- أن النّجْوَ يُثقِل البدنَ ويؤذيه باحتباسه، والذنوب تُثقِل القلب وتؤذيه باحتباسها فيه، فهما مُؤذيان مُضِرَّان بالبدن والقلب، فحمد الله عند خروجه على خلاصه منْ هذا المؤذي لبدنه، وخفة البدن وراحته، وسأله أن يُخلِّصه من المؤذي الآخر ويُرِيح قلبه منه ويخففه. وأسرار كلماته وأدعيته - صلى الله عليه وسلم - فوق ما يخطر بالبال. فصل وقد وسَم الله سبحانه الشرك والزنى واللواط بالنجاسة والخبث في كتابه دون سائر الذنوب، وإن كانت مشتملة على ذلك، لكن الذي وقع في القرآن قوله تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ} [التوبة: 28] , وقوله في حق اللوطية: {وَلُوطًا آتَيْنَاهُ حُكْمًا وَعِلْمًا وَنَجَّيْنَاهُ مِنَ الْقَرْيَةِ الَّتِي ¬

_ (¬1) رواه أحمد (6/ 155)، والبخاري في الأدب المفرد (693)، وأبو داود (35)، والترمذي (7)، وابن ماجه (300)، وغيرهم من حديث عائشة رضي الله عنها، وحسنه الترمذي، وصححه ابن الجارود (42)، وابن خزيمة (95)، وابن حبان (1444)، والحاكم (562)، والنووي في المجموع (2/ 75) وفي غيره، وابن الملقن في البدر المنير (2/ 394) وفي غيره، وابن حجر في نتائج الأفكار (1/ 214)، وهو مخرج في الإرواء (52).

نجاسة الشرك نوعان: نجاسة مغلظة ونجاسة مخففة

كَانَتْ تَعْمَلُ الْخَبَائِثَ إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمَ سَوْءٍ فَاسِقِينَ} [الأنبياء: 74] وقالت اللوطية: {أَخْرِجُوا آلَ لُوطٍ مِنْ قَرْيَتِكُمْ إِنَّهُمْ أُنَاسٌ يَتَطَهَّرُونَ} [النمل: 56] فأقرُّوا مع شركهم وكفرهم أنهم هم الأخابث الأنجاس، وأن لوطًا وآله مطهرون من ذلك باجتنابهم له، وقال تعالي في حق الزُّناة: {الْخَبِيثَاتُ لِلْخَبِيثِينَ وَالْخَبِيثُونَ لِلْخَبِيثَاتِ} [النور: 26]. فأما نجاسة الشرك فهي نوعان: نجاسة مغلَّظة، ونجاسة مخفَّفة، فالمغلَّظة: الشرك الأكبر الذي لا يغفره الله، فإن الله لا يغفر أن يُشرَك به، والمخفَّفة: الشرك الأصغر؛ كيسير الرياء، والتصنع للمخلوق، والحلف به، وخوفه، ورجائه. ونجاسة الشرك عينية، ولهذا جعل سبحانه المشرك نَجَسًا بفتح الجيم، ولم يقل: إنما المشركون نجِس بالكسر؛ فإن النجَس عين النجاسة، والنجِس بالكسر هو المتنجس، فالثوب إذا أصابه بول أو خمر نَجِسَ، والبول والخمر نجَس، فأنجس النجاسة الشرك، كما أنه أظلم الظلم؛ فإن النجَس في اللغة والشرع هو المستقْذَر الذي تُطْلَب مباعدتُه والبعد منه، بحيث لا يُلْمَسُ ولا يُشَمُّ ولا يُرى، فضلاً أن يخُالط ويلابس؛ لقذارته ونُفْرة الطباع السليمة منه، وكلما كان الحي أكمل حياةً وأصحَّ حياءً كان إبعاده لذلك أعظم، ونفرته منه أقوى. فالأعيان النجسة إما أن تُؤذي البدن، أو القلب، أو تؤذيهما معًا. والنجَس قد يؤذي برائحته (¬1)، وقد يؤذي بملابسته، وإن لم تكن له رائحة كريهة. ¬

_ (¬1) الأصل: "تؤذي رائحته". والمثبت من بقية النسخ.

النجاسة تكون: محسوسة ظاهرة، وتكون معنوية باطنة

والمقصود أن النجاسة تارة تكون محسوسة ظاهرة، وتارة تكون معنوية باطنة، فيغلب على الروح والقلب الخبثُ والنجاسة، حتى إن صاحب القلب الحي ليَشَمُّ من تلك الروح والقلب رائحةً خبيثة يتأذى بها، كما يتأذى من يشَمَّ رائحة النّتْن، ويظهر ذلك كثيرًا في عَرَقِهِ، حتى يجد لرائحة عَرَقِه نتنًا، فإن نَتْن القلب والروح يتصل بباطن البدن أكثر من ظاهره، والعَرق يَفِيض من الباطن، ولهذا كان الرجل الصالح طيبَ العرق، وكان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أطيب الناس عرقًا، قالت أم سُلَيم -وقد سألها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عنه وهي تلتقطه-: هو من أطيب الطيب (¬1). فالنفس النجسة الخبيثة يقوى خبثُها ونجاستها حتى يبدوَ على الجسد، والنفسُ الطيبة بضدها، فإذا تجردت وخرجت من البدن وُجِدَ لهذه كأطيب نَفْحَة مسكٍ وُجِدتْ على وجه الأرض، ولتلك كأنتن ريح جِيفةٍ وُجدتْ على وجه الأرض. والمقصود أن الشرك لما كان أظلم الظلم، وأقبح القبائح، وأنكر المنكرات، كان أبغضَ الأشياء إلى الله وأكرهَها له، وأشدها مقتًا لديه، ورتَّب عليه من عقوبات الدنيا والآخرة ما لم يرتِّبه على ذنب سواه، وأخبر أنه لا يغفره، وأن أهله نَجَس، ومنعَهم من قُرْبان حَرَمِهِ، وحرّم ذبائحهم ومناكحهم، وقطع الموالاة بينهم وبين المؤمنين، وجعلهم أعداءً له سبحانه ولملائكته ورسله وللمؤمنين، وأباح لأهل التوحيد أموالهم ونساءهم وأبناءهم، وأن يتخذوهم عبيدًا. وهذا لأن الشرك هَضمٌ لحق الربوبية، وتنقُّصٌ لعظمة الإلهية، وسوء ظن برب العالمين، كما قال تعالي: {وَيُعَذِّبَ الْمُنَافِقِينَ ¬

_ (¬1) أخرجه مسلم (2331).

وَالْمُنَافِقَاتِ وَالْمُشْرِكِينَ وَالْمُشْرِكَاتِ الظَّانِّينَ بِاللَّهِ ظَنَّ السَّوْءِ عَلَيْهِمْ دَائِرَةُ السَّوْءِ وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَلَعَنَهُمْ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيرًا} [الفتح: 6]. فلم يُجمَع على أحد من الوعيد والعقوبة ما جُمِع على أهل الإشراك؛ فإنهم ظنوا به ظنَّ السوء حتى أشركوا به، ولو أحسنوا به الظن لوحَّدوه حق توحيده، ولهذا أخبر سبحانه عن المشركين أنهم ما قَدَروه حقَّ قدره في ثلاثة (¬1) مواضع من كتابه (¬2)؟ وكيف يَقدِرُه حقَّ قدره من جعل له عِدْلًا ونِدًّا يحبه، ويخافه، ويرجوه، ويَذِلُّ له، ويخضع له، ويهرب من سخطه، ويُؤْثِرُ مَرْضَاتَهُ؟ قال تعالي: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْدَادًا يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ} [البقرة: 165] وقال تعالى: {الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَجَعَلَ الظُّلُمَاتِ وَالنُّورَ ثُمَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ} [الأنعام: 1]؛ أي يجعلون له عِدْلاً في العبادة والمحبة والتعظيم. وهذه هي التسوية التي أثبتها المشركون بين الله وبين آلهتهم، وعرفوا في النار أنها كانت ضلالا وباطلاً، فيقولوا لآلهتهم وهم في النار مَعَهُمْ: {تَاللَّهِ إِنْ كُنَّا لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (97) إِذْ نُسَوِّيكُمْ بِرَبِّ الْعَالَمِينَ} [الشعراء: 97، 98] ومعلوم أنهم ما سوَّوهم (¬3) به في الذات والصفات والأفعال، ولا ¬

_ (¬1) م، ظ، ت: "ثلاث". (¬2) هي في سورة الأنعام/ 91، وسورة الحج/ 74، وسورة الزمر/ 67. (¬3) الأصل: "ساووهم".

الشرك والتعطيل مبنيان على سوء الظن بالله تعالى

قالو ا: إن آلهتهم خلقت السماوات والأرض، وإنها تحيي وتميت، وإنما سوَّوها (¬1) به في محبتهم لها، وتعظيمهم لها، وعبادتهم إياها، كما ترى عليه أهل الإشراك ممن ينتسب (¬2) إلى الإسلام. ومن العجب أنهم يَنْسُبون أهل التوحيد إلى التنقُّص بالمشايخ والأنبياء والصالحين، وما ذنبهم إلا أن قالوا: إنهم عبيد، لا يملكون لأنفسهم ولا لغيرهم ضرًّا ولا نفعًا, ولا موتًا ولا حياة ولا نشورًا، وإنهم لا يشفعون لعابديهم أبدًا، بل قد حرَّم الله شفاعتَهم لهم، ولا يشفعون لأهل التوحيد إلا بعد إذن الله لهم في الشفاعة، فليس لهم من الأمر شيء، بل الأمر كله لله، والشفاعة كلها له سبحانه، والولاية له، فليس لخلقه من دونه ولي ولا شفيع. فالشرك والتعطيل مبنيَّان على سوء الظن بالله، ولهذا قال إمام الحنفاء عليه السلام لخصمائه من المشركين: {أَئِفْكًا آلِهَةً دُونَ اللَّهِ تُرِيدُونَ (86) فَمَا ظَنُّكُمْ بِرَبِّ الْعَالَمِينَ} [الصافات: 86، 87] وإن كان المعنى: ما ظنكم به أن يعاملكم ويجازيكم به، وقد عبدتم معه غيره، وجعلتم له نِدًّا؟ فأنت تجد تحت هذا التهديد: ما ظننتم بربكم من السوء حتى عبدتم معه غيره؟ فإن المشرك إما أن يظن أن الله سبحانه يحتاج إلى من يُدبِّر أمرَ العالم معه من وزير أو ظهير أو عون، وهذا أعظم التنقيص لمن هو غني عن كل ما سواه بذاته، وكلُّ ما سواه فقير إليه بذاته، وإما أن يظن أنه سبحانه إنما تتم قدرته بقدرة الشريك، وإما أن يظن بأنه لا يعلم حتى يُعْلِمَهُ الواسطة، أو لا ¬

_ (¬1) الأصل: "ساووها". (¬2) في بعض النسخ: "ينسب".

لا تجد مشركا قط إلا وهو متنقص لله سبحانه، كما أنك لا تجد مبتدعا إلا وهو متنقص للرسول - صلى الله عليه وسلم -

يرحم حتى تجعله الواسطة يرحم، أو لا يكفي وحدَه، أو لا يفعل ما يريد بالعبد (¬1) حتى يشفع عنده الواسطة، كما يشفع المخلوق عند المخلوق، فيحتاج أن يقبل شفاعته لحاجته إلى الشافع وانتفاعه به، وتكثُّرِه به من القِلّة، وتعزُّزِه به من الذّلة، أو لا يجيب دعاء عباده، حتى يسألوا الواسطة أن ترفع تلك الحاجات إليه، كما هو حال ملوك الدنيا، وهذا أصل شرك الخلق، أو يظن أنه لا يسمع دعاءهم لبعده عنهم، حتى ترفع الوسائط إليه ذلك، أو يظن أن للمخلوق عليه حقًا؛ فهو يُقْسِم عليه بحق ذلك المخلوق عليه، ويتوسل إليه بذلك المخلوق، كما يتوسل الناس إلى الأكابر والملوك بمن يَعِزّ عليهم ولا يمكنهم مخالفته. وكل هذا تنقُّصٌ للربوبية، وهَضْمٌ لحقها, ولو لم يكن فيه إلا نقص محبة الله وخوفِه ورجائه والتوكلِ عليه والإنابةِ إليه من قلب المشرك؛ بسبب قسمة ذلك بينه سبحانه وبين من أشرك به، فينقص ويضعف أو يضمحلُّ ذلك التعظيم والمحبة والخوف والرجاء؛ بسبب صرف أكثره أو بعضه إلى من عَبَده من دونه. فالشرك ملزومٌ لتنقُّص الرب سبحانه، والتنقص لازم له ضرورةً، شاء المشرك أم أبي، ولهذا اقتضى حمدُه سبحانه وكمالُ ربوبيته ألا يغفره، وأن يُخلِّد صاحبَه في العذاب الأليم، ويجعله أشقى البرية، فلا تجد مشركًا قط إلا وهو متنقص لله سبحانه، وإن زعم أنه يُعظِّمه (¬2) بذلك، كما أنك لا تجد مبتدعًا إلا وهو متنقص للرسول، وإن زعم أنه معظِّم له بتلك البدعة؛ فإنه ¬

_ (¬1) م، ث، ظ: "العبد"، والمثبت من ح. (¬2) في م: "معظِّم له".

عشق الصور المحرمة نوع تعبد لها

يزعم أنها خير من السنة وأولى بالصواب، ويزعم أنها هي السنة إن كان جاهلًا مقلِّدًا، وإن كان مستبصرًا في بدعته فهو مشاقٌّ لله ورسوله. فالمتنقِّصون المنقوصون عند الله ورسوله وأوليائه: هم أهل الشرك وابى عة، ولا سيما من بَنَى دينه على أن كلام الله ورسول أدلة لفظية لا تفيد اليقين، ولا تُغني من اليقين والعلم شيئًا. فيا لله للمسلمين! أيُّ شيء فات هذا من التنقص؟ وكذلك من نفى صفات الكمال عن الرب تعالى، خشيةَ ما يتوهمه من التشبيه والتجسيم لله؛ فقد جاء من التنقص بضدِّ ما وصف اللهُ سبحانه به نفسَه من الكمال. والمقصود أن هاتين الطائفتين هم أهل التنقص في الحقيقة، بل هم أعظم الناس تنقصًا، لبّس عليهم الشيطان، حتى ظنوا أن تنقُّصهم هو الكمال، ولهذا كانت البدعة قرينة الشرك في كتاب الله تعالي، قال تعالي: {قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالْإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَنْ تُشْرِكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ} [الأعراف: 33]. فالإثم والبغي قرينان، والشرك والبدعة قرينان. فصل وأما نجاسة الذنوب والمعاصي فإنها بوجه آخر؛ فإنها لا تستلزم تنقيص الربوبية، ولا سوء الظن بالله عَزَّ وَجَلَّ، ولهذا لم يُرتِّب الله سبحانه عليها من العقوبات والأحكام ما رتبه على الشرك، وهكذا (¬1) استقرّت الشريعة على ¬

_ (¬1) م: "ولهذا".

أنه يُعفَى عن النجاسات المخففة -كالنجاسة في محل الاستجمار، وأسفل الخُفّ والحذَاء، وبول الصبي الرّضيعِ وغير ذلك- ما لا يُعْفَى عن المغلظة، وكذلك يُعفَى عن الصغائر ما لا يُعفى عن الكبائر، ويُعفَى لأهل التوحيد المحض الذي لم يَشُوبوه بالشرك ما لا يُعفَى لمن ليس كذلك، فلو لقي الموحِّدُ -الذي لم يشرك بالله شيئًا البتة- ربَّه بقُراب الأرض خطايا أتاه بقُرابها مغفرة، ولا يحصل هذا لمن نقص توحيده وشابَهُ بالشرك؛ فإن التوحيد الخالص الذي لا يشوبه شرك لا يبقى معه ذنب، فإنه يتضمن من محبة الله وإجلاله، وتعظيمه، وخوفه، ورجائه وحده، ما يوجب غَسْلَ الذنوب، ولو كانت قُراب الأرض، فالنجاسة عارضة، والدافع لها قويّ، فلا تثبت معه. ولكن نجاسة الزنا واللواط أغلظ من غيرهما من النجاسات، من جهة أنها تُفسِد القلب، وتُضعِف توحيده جدًّا, ولهذا أحظى الناس بهذه النجاسة أكثرهم شركًا؛ فكلما كان الشرك في العبد أغلب كانت هذه النجاسة والخبائث فيه أكثر، وكلما كان أعظم إخلاصًا كان منها أبعد، كما قال تعالى عن يوسف الصديق: {كَذَلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشَاءَ إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُخْلَصِينَ} [يوسف: 24]. فإن عشق الصور المحرمة نوع تَعَبُّدٍ لها، بل هو من أعلى أنواع التعبد، ولا سيما إذا استولى على القلب وتمكن منه صار تتَيُّمًا، والتتيم: التعبد، فيصير العاشق عابدًا لمعشوقه، وكثيرًا ما يغلب حبُّه وذِكْرُه والشوق إليه، والسعي في مرضاته، وإيثارُ محابّه، على حب الله وذِكْرِه والسعي في مرضاته، بل كثيرًا ما يذهب ذلك من قلب العاشق بالكُلية، ويصير متعلقًا

نجاسة الزنا واللواط أغلظ من غيرها من النجاسات

بمعشوقه من الصور كما هو مشاهد، فيصير المعشوق هو إلهه من دون الله، يُقدِّم رضاه وحبَّه على رضا الله وحبه، ويتقرب إليه ما لا يتقرب إلى الله، ويُنفِق في مرضاته ما لا ينفقه في مرضاة الله، ويتجنّب من (¬1) سَخَطه ما لا يتجنب من سخط الله، فيصير آثرَ عنده من ربِّه: حُبًّا، وخضوعًا، وذلًّا، وسمعًا، وطاعة. ولهذا كان العشق والشرك متلازمين، وإنما حكى الله سبحانه العشق عن المشركين من قوم لوط، وعن امرأة العزيز، وكانت إذ ذاك مشركة، فكلما قوي شرك العبد بُليَ بعشق الصور، وكلما قوي توحيده صُرِف ذلك عنه، والزنى واللواط كمال لذّته إنما يكون مع العشق، ولا يخلو صاحبهما منه، وإنما -لتنقُّله من محل إلى محل- لا يبقى عشقه مقصورًا على محل واحد، بل ينقسم على سِهام (¬2) كثيرة، لكل محبوب نصيبٌ من تألهُّه وتعبُّدِه. فليس في الذنوب أفسد للقلب والدين من هاتين الفاحشتين، ولهما خاصية في تبعيد القلب من الله؛ فإنهما من أعظم الخبائث، فإذا انصبغ القلب بهما بعُد ممن هو طيب لا يصعد إليه إلا طيب (¬3)، وكلما ازداد خبثًا ازداد من الله بعذا, ولهذا قال المسيح فيما رواه الإِمام أحمد في كتاب "الزهد" (¬4): "لا ¬

_ (¬1) "من" ساقطة من الأصل، م، ت. وفي ظ: "بسخطه". (¬2) من: "جهات". (¬3) كما في الحديث الذي أخرجه مسلم (1015) عن أبي هريرة. (¬4) لم أقف عليه في المطبوع من الزهد، ولم أقف عليه في غيره من كلام عيسى عليه السلام، ورواه أبو خيثمة في كتاب العلم (127) وأبو نعيم في الحلية (4/ 30) من كلام وهب بن منبه رحمه الله، ومن طريق أبي خيثمة رواه ابن عساكر في تاريخ دمشق (63/ 391).

معنى قوله تعالى: {الزاني لا ينكح إلا زانية أو مشركة} وذكر الخلاف في ذلك

يكون البطّالون من الحكماء، ولا يِلِجُ الزناة مَلكوتَ السماء". ولما كانت هذا حال الزنى كان قرينا للشرك في كتاب الله، قال تعالى: {الزَّانِي لَا يَنْكِحُ إِلَّا زَانِيَةً أَوْ مُشْرِكَةً وَالزَّانِيَةُ لَا يَنْكِحُهَا إِلَّا زَانٍ أَوْ مُشْرِكٌ وَحُرِّمَ ذَلِكَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ} [النور: 3]. والصواب القول بأن هذه الآية محكمة يُعمل بها, لم ينسخها شيء، وهي مشتملة على خبير وتحريم، ولم يأتِ من ادّعى نسخها بحجةٍ البتة، والذي أشكل منها على كثير من الناس واضح بحمد الله، فإنهم أشكل علهم قوله: {الزَّانِي لَا يَنْكِحُ إِلَّا زَانِيَةً أَوْ مُشْرِكَةً}؛ هل هو خبر أو نهي أو إباحة؟ فإن كان خبرًا فقد رأينا كثيرًا من الزناة ينكح عفيفة. وإن كان نهيًا فيكون قد نهى الزاني أن يتزوجٍ إلا بزانية أو مشركة، فيكون نهيا له عن نكاح المؤمنات العفائف، وإباحة له نكاحَ المشركات والزواني، والله سبحانه لم يُرِد ذلك قطعًا، فلما أشكل عليهم ذلك طلبوا للآية وجهًا يصح حملها عليه. فقال بعضهم: المراد من النكاح الوطء والزنى، فكأنه قال: الزاني لا يزني إلا بزانية أو مشركة. وهذا فاسدٌ، فإنه لا فائدة فيه، ويُصان كلام الله عن حمله على مثل ذلك، فإنه من المعلوم أن الزاني لا يزني إلا بزانية، فأي فائدة في الإخبار بذلك؟ ولما رأى الجمهور فساد هذا التأويل أعرضوا عنه. ثم قالت طائفة: هذا عام اللفظ خاص المعنى، والمراد به رجل واحد وامرأة واحدة، وهي عَناق البَغِيّ وصاحبها؛ فإنه أسلم واستأذن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في نكاحها، فنزلت هذه الآية (¬1). ¬

_ (¬1) رواه أبو داود (2051)، والترمذي (3177)، والنسائي (3228)، وغيرهم من طريق =

وهذا أيضًا فاسدٌ، فإن هذه الصورة المعيَّنة -وإن كانت سبب النزول- فالقرآن لا يُقتصر به على محَالِّ أسبابه، ولو كان كذلك لبطل الاستدلال به على غيرها. وقالت طائفة: بل الآية منسوخة بقوله: {وَأَنْكِحُوا الْأَيَامَى مِنْكُمْ} [النور: 32]. وهذا أفسد من الكل، فإنه لا تعارضَ بين هاتين الآيتين، ولا تُناقِضُ إحداهما الأخرى، بل أمر سبحانه وإنكاح الأيامى، وحرّم نكاح الزانية، كما حرّم نكاح المعتدة والمحرمة وذوات المحارم، فأين الناسخ والمنسوخ في هذا؟ فإن قيل: فما وجه الآية؟ قيل: وجهها -والله أعلم-: أن المتزوج أُمِر أن يتزوج المحصنة العفيفة، وإنما أبيح له نكاح المرأة بهذا الشرط، كما ذكر ذلك سبحانه في سورتي النساء (¬1) والمائدة (¬2)؛ والحكم المعلَّق على الشرط ينتفي عند إنتفائه، والإباحة قد عُلّقت على شرط الإحصان، فإذا انتفى الإحصان انتفت الإباحة المشروطة به، فالمتزوج إما أن يلتزم حكم الله وشرعه الذي شرعه على لسان رسوله، أو لا يلتزمه، فإن لم يلتزم فهو مشرك لا يرضى بنكاحه إلا من هو مشرك مثله، وإن التزمه وخالفه ونكح ما حُرّم عليه لم يصح النكاح، فيكون زانيًا، فظهر معنى قوله: {لَا يَنْكِحُ إِلَّا زَانِيَةً أَوْ مُشْرِكَةً}، وتبيَّن غاية البيان وكذلك حكم المرأة. ¬

_ = عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده، وحسنه الترمذي، وصححه الحاكم (2701)، وابن العربي في عارضة الأحوذي (6/ 260)، وهو مخرج في الإرواء (1886). (¬1) الآية 24. (¬2) الآية 5.

وكما أن هذا الحكم هو موجب القرآن وصريحه، فهو موجب الفطرة ومقتضى العقل، فإن الله سبحانه حرم على عبده أن يكون قَرْنانا دَيُّوثًا زوجَ بغيّ، فإن الله فطر الناس على استقباح ذلك واستهجانه، ولهذا إذا بالغوا في سب الرجل قالوا: زوج قَحْبةٍ، فحرّم الله تعالي على المسلم أن يكون كذلك. فظهرت حكمة التحريم، وبأن معنى الآية، والله الموفق. ومما يوضح التحريم، وأنه هو الذي يليق بهذه الشريعة الكاملة: أن هذه الخيانة من المرأة تعود بفساد فراش الزوج، وفساد النسب الذي جعله الله بين الناس لتمام مصالحهم، وعَدُّوهُ من جملة نعمه عليهم، فالزنى يُفضِي إلى (¬1) اختلاط المياه واشتباه الأنساب، فمن محاسن الشريعة تحريم نكاح الزانية حتى تتوب وتُستبرأ. وأيضًا فإن الزانية خبيثة، كما تقدم بيانه، والله سبحانه جعل النكاح سببًا للمودة والرحمة، والمودة: خالص الحب، فكيف تكون الخبيثة مودودة للطيِّب، زوجًا له؟ والزوج سُمِّيَ زوجًا من الازدواج، وهو الاشتباه؛ فالزوجان: الاثنان المتشابهان (¬2)، والمنافرة ثابتة بين الطيب والخبيث شرعًا وقَدَرًا، فلا يصحُّ معها الازدواج والتراحم والتوادُّ، ولقد أحسن كلَّ الإحسان مَنْ ذهب إلى هذا المذهب، ومنع الرجل أن يكون زوج قحبة. فأين هذا مِن قول مَن جوَّز أن يتزوجها ويطأها الليلة، وقد وطئها الزاني البارحة؟ وقال: ماء الزاني لا حرمة له. فهب أن الأمر كذلك؛ فماء الزوج له حرمة، فكيف يجوز اجتماعه مع ماء الزاني في رحم واحد؟ ¬

_ (¬1) "إلى" ساقطة من م. (¬2) في جميع النسخ: "فالزوجين الاثنين المتشابهين".

والمقصود أن الله سبحانه سمى الزواني والزناة خبيثين وخبيثات، وجنس هذا الفعل قد شُرِعَتْ فيه الطهارة وإن كان حلالًا، وسُمِّيَ فاعله جُنُبًا، لبعده عن قراءة القرآن وعن الصلاة وعن المساجد، فمُنِعَ من ذلك كله حتى يتطهر بالماء، فكذلك إذا كان حرامًا يبعد القلب عن الله وعن الدار الآخرة، بل يحول بينه وبين الإيمان, حتى يُحْدِثَ طُهرًا كاملًا بالتوبة، وطُهرًا لبدنه با لماء. وقول اللوطية: {أَخْرِجُوهُمْ مِنْ قَرْيَتِكُمْ إِنَّهُمْ أُنَاسٌ يَتَطَهَّرُونَ} [الأعراف: 82] من جنس قوله سبحانه في أصحاب الأُخدود: {وَمَا نَقَمُوا مِنْهُمْ إِلَّا أَنْ يُؤْمِنُوا بِاللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ} [البروج: 8] وقوله تعالى: {قُلْ يَاأَهْلَ الْكِتَابِ هَلْ تَنْقِمُونَ مِنَّا إِلَّا أَنْ آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْنَا وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلُ} [المائدة: 59]. وهكذا المشرك، إنما يَنقِم على الموحد تجريدَه للتوحيد، وأنه لا يشوبه بالإشراك. وهكذا المبتدع، إنما يَنقِم على السُّنِّيَ تجريدَه متابعةَ الرسول، وأنه لم يَشُبْها بآراء الرجال، ولا بشيء مما خالفها. فَصَبْرُ الموحد المتبع للرسول على ما ينقمه عليه أهل الشرك والبدعة خير له وأنفع، وأسهل عليه مِنْ صبْرِه على ما يَنقِمُه الله ورسوله عليه من موافقة أهل الشرك والبدعة. إذَا لم يَكُنْ بُدٌّ مِنَ الصَّبْرِ فَاصْطَبِرْ ... عَلىَ الحَقِّ، ذَاكَ الصبْرُ تُحْمَدُ عُقْبَاهُ (¬1) ¬

_ (¬1) لم أجد البيت في المصادر التي رجعت إليها.

الباب العاشر: في علامات مرض القلب وصحته

الباب العاشر في علامات مرض القلب وصحته كلُّ عضو من أعضاء البدن خُلق لفعل خاص به، كماله في حصول ذلك الفعل منه، ومرضه أن يتعذر عليه الفعل الذي خُلق له، حتى لا يصدر منه، أو يصدر مع نوع من الاضطراب. فمرض اليد: أن يتعذر عليها البطش، ومرض العين: أن يتعذر عليها النظر والرؤية، ومرض اللسان: أن يتعذر عليه النطق، ومرض البدن: أن يتعذر عليه حركته الطبيعية أو يضعف، ومرض القلب: أن يتعذر عليه ما خُلق له من المعرفة بالله، ومحبته، والشوق إلى لقائه، والإنابة إليه، وإيثار ذلك على كل شهوة. فلو عرف العبد كل شيء ولم يعرف ربه فكأنه لم يعرف شيئًا, ولو نال كلَّ حظ من حظوظ الدنيا ولذّاتها وشهواتها, ولم يظفر بمحبة الله والشوق إليه والإنس به، فكأنه لم يظفر بلذة ولا نعيم ولا قرة عين، بل إذا كان القلب خاليًا من ذلك عادت تلك الحظوظ واللذات عذابًا له ولا بدَّ، فيصير مُعذَّبًا بنفس ما كان مُنعَّمًا به من جهتين: من جهة حسرة فَوْته، وأنه حِيلَ بينه وبينه، مع شدة تعلُّق روحه به، ومن جهة فَوْت ما هو خير له وأنفع وأدوم حيث لم يحصل له، فالمحبوب الحاصل فات، والمحبوب الأعظم لم يظفر به. وكل من عرف الله أحبَّه وأخلص العبادة له ولا بدَّ، ولم يُؤثِر عليه شيئًا من المحبوبات فمن آثر عليه شيئًا من المحبوبات؛ فقلبه مريض، كما أن المعدة إذا اعتادت أكل الخبيث، وآثرته على الطيب سقطت عنها شهوة الطيِّب، وتعوَّضت بمحبة غيره.

البصير الصادق لا يستوحش من قلة الرفيق

وقد يمرض القلب ويشتد مرضه، ولا يعرف به (¬1) صاحبه؛ لاشتغاله وانصرافه عن معرفة صحته وأسبابها، بل قد يموت وصاحبه لا يشعر بموته، وعلامة ذلك أنه لا تُؤلمِه جراحات القبائح، ولا يُوجِعه جهله بالحق وعقائده الباطلة؛ فإن القلب إذا كان فيه حياة يألم بورود القبيح عليه، ويألم بجهله بالحق بحسب حياته، وما لِجُرحٍ بميّتٍ إيلامُ (¬2) وقد يشعر بمرضه (¬3)، ولكن يشتد عليه تحمُّلُ مرارة الدواء والصبر عليها؛ فيُؤْثِرُ بقاءَ ألمه على مشقة الدواء، فإن دواءه في مخالفة الهوى، وذلك أصعب شيء على النفس، وليس لها أنفع منه. وتارة يُوطِّن نفسه على الصبر، ثم ينفسخ عزمه، ولا يستمر معه؛ لضعف علمه وبصيرته وصبره، كمن دخل في طريق مَخُوفٍ مُفْضٍ إلى غاية الأمن, وهو يعلم أنه إن صبر عليه انقضى الخوف وأعقبه الأمن, فهو محتاج إلى قوة صبر، وقوة يقين بما يصير إليه، ومتى ضعف صبره ويقينه رجع من الطريق، ولم يتحمل مشقتها, ولا سيما إن عَدِمَ الرفيقَ، واستوحش من الوحدة، وجعل يقول: أين ذهب الناس؟ فلي بهم أسوة. وهذه حال أكثر الخلق، وهي التي أهلكتهم؛ فالبصير الصادق لا يستوحش ¬

_ (¬1) "به" ساقطة من م. (¬2) صدره: من يَهُنْ يسهلِ الهوانُ عليه. والبيت للمتنبي في ديوانه (4/ 217). (¬3) م: "بما فيه".

من قلة الرفيق ولا من فقده؛ إذا استشعر قلبه مرافقة الرعيل (¬1) الأول، {الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقًا} [النساء: 69] فتفرُّدُ العبد في طريق طلبه دليل على صدق الطلب. ولقد سئل إسحاق بن راهَوَيْه عن مسألة فأجاب عنها، فقيل له: إن أخاك أحمد بن حنبل يقول فيها بمثل قولك، فقال: ما ظننتُ أن أحدًا يوافقني عليها, ولم يستوحش بعد ظهور الصواب له من عدم الموافق؛ فإن الحق إذا لاح وتبيَّن لم يَحْتَجْ إلى شاهد يشهد به. والقلب يُبْصرُ الحقَّ كما تبصر العينُ الشمسَ؛ فإذا رأى الرائي الشمس لم يحتج -في علمه بها واعتقاده أنها طالعة- إلى من يشهد بذلك ويوافقه عليه. وما أحسن ما قال أبو محمد عبد الرحمن بن إسماعيل المعروف بأبي شامة في كتاب "الحوادث والبدع" (¬2). "حيث جاء الأمر بلزوم الجماعة: فالمراد به لزوم الحق واتّباعه، وإن كان المتمسِّك به قليلاً، والمخالف له كثيرًا؛ لأن الحق هو الذي كانت عليه الجماعة الأولى من عهد النبي - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه، ولا نظر إلى كثرة أهل الباطل بعدهم. قال عمرو بن ميمون الأوْدي: صحبتُ معاذًا باليمن، فما فارقته حتى واريته في التراب بالشام، ثم صحبت بعده أفقه الناس عبد الله بن مسعود، فسمعته يقول: عليكم بالجماعة؛ فإن يد الله على الجماعة، ثم سمعته يومًا من الأيام وهو يقول: سيلي عليكم ولاةٌ يؤخِّرون الصلاة عن مواقيتها، ¬

_ (¬1) من: "الرفقة". (¬2) و"الباعث على إنكار البدع والحوادث" (ص 26، 27) ط. بشير عيون.

فصلوا الصلاة لميقاتها، فهي الفريضة، وصلوا معهم فإنها لكم نافلة، قال: قلت: يا أصحاب محمد! ما أدري ما تحُدِّثونا؟ قال: وما ذاك؟ قلت: تأمرني با لجماعة وتحضُّني عليها، ثم تقول: صلِّ الصلاة وحدك وهي الفريضة، وصلِّ مع الجماعة وهي نافلة؟ قال: يا عمرو بن ميمون! قد كنت أظنك من أفقه أهل هذه القرية؛ تدري ما الجماعة؟ قلت: لا، قال: إن جمهور الجماعة الذين فارقوا الجماعةَ، الجماعةُ ما وافق الحق، وإن كنتَ وحدك (¬1). وفي طريق أخرى: فضرب على فخذي وقال: ويحك! إن جمهور الناس فارقوا الجماعة، وإن الجماعة ما وافق طاعة الله عز وجل. قال نُعيم بن حماد: يعني إذا فسدت الجماعة، فعليك بما كانت عليه الجماعة قبل أن تفسد وإن كنت وحدك؛ فإنك أنت الجماعة حينئذٍ. ذكره البيهقي وغيره" (¬2). وقال أبو شامة عن مبارك، عن الحسن البصري، قال: "السنة -والذي لا إله إلا هو- بين الغالي والجافي، فاصبروا عليها رحمكم الله؛ فإن أهل السنة كانوا أقلّ الناس فيما مضى، وهم أقل الناس فيما بقي، الذين لم يذهبوا مع أهل الإتراف في إترافهم، ولا مع أهل البدع في بدعهم، وصبروا على سنتهم حتى لقوا ربهم، فكذلك إن شاء الله فكونوا" (¬3). ¬

_ (¬1) رواه اللالكائي في شرح أصول الاعتقاد (160)، ورواه ابن عساكر في تاريخ دمشق (46/ 408 - 409) من طريق البيهقي. (¬2) رواه ابن عساكر في تاريخ دمشق (46/ 409) من طريق البيهقي، وانظر: تهذيب الكمال (22/ 264 - 265). (¬3) رواه الدارمي (216)، والمروزي في تعظيم قدر الصلاة (743). والنصُّ في كتاب أبي شامة (ص 16).

وكان محمد بن أسلم الطُّوسي -الإمام المتفق على إمامته مع رتبته- أتبع الناس للسنة في زمانه، حتى قال: "ما بلغني سنةٌ عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلا عملت بها, ولقد حرصت على أن أطوف بالبيت راكبًا، فما مُكّنت من ذلك" (¬1). فسُئل بعض أهل العلم في زمانه عن السّواد الأعظم الذين جاء فيهم الحديث: "إذا اختلف الناس فعليكم بالسواد الأعظم" (¬2): مَنِ السواد الأعظم؟ فقال: "محمد بن أسلم الطُّوسي هو السواد الأعظم" (¬3). وصدق والله؛ فإن العصر إذا كان فيه إمامٌ عارف بالسنة داعٍ إليها، فهو الحجة، وهو الإجماع، وهو السوادُ الأعظم، وهو سبيل المؤمنين التي من فارقها واتبع سواها ولَّاه الله ما تولي، وأصلاه جهنّم، وساءت مصيرًا. والمقصود أن من علامات أمراض القلوب عُدُولهَا عن الأغذية النافعة الموافقة لها إلى الأغذية الضارة، وعُدُولهَا عن دوائها النافع إلى دائها الضار، فهنا أربعة أمور: غذاء نافع، ودواء شافٍ، وغذاء ضارٌّ، وداءٌ (¬4) مهلك. ¬

_ (¬1) لم أقف عليه. (¬2) رواه عبد بن حميد (1218)، وابن ماجه (3950)، وابن أبي عاصم في السنة (84)، وابن عدي في الكامل (6/ 328)، وغيرهم عن أنس رضي الله عنه، وضعفه ابن كثير في تحفة الطالب (37)، والبوصيري في الزوائد، وابن حجر كما في فيض القدير (2/ 431)، وعبد الله الغماري في تخريج أحاديث اللمع (ص 246)، وهو في السلسلة الضعيفة (2896). (¬3) سئل ابن راهويه: من السواد الأعظم؟ فقال: "محمد بن أسلم وأصحابه ومن تبعه". رواه أبو نعيم في الحلية (9/ 238، 239)، ومن طريقه الذهبي في السير (12/ 196 - 197). (¬4) ت، ظ، ش: "ودواء".

القلب الصحيح، وعلامات صحته

فالقلب الصحيح: يُؤثِرُ النافعَ الشافي على الضارِّ المؤذي، والقلب المريض بضدِّ ذلك. وأنفع الأغذية: غذاء الإيمان, وأنفع الأدوية: دواء القرآن، وكلٌّ منهما فيه الغذاء والدواء. ومن علامات صحته أيضًا أن يرتحل عن الدنيا حتى ينزل بالآخرة، ويحلَّ فيها، حتى يبقى كأنه من أهلها وأبنائها، جاء إلى هذه الدار غريبًا، يأخذ منها حاجته، ويعود إلى وطنه، كما قال النبي - صلى الله عليه وسلم - لعبد الله بن عمر: "كن في الدنيا كأنك غريب أو عابر سبيل، وعُدَّ نفسك من أهل القبور" (¬1). فَحَيَّ عَلىَ جَنَاتِ عَدْنٍ فَإِنَّهَا ... مَنَازِلُكَ الأولىَ وَفِيهَا المُخَيَّمُ وَلكِنَّنَا سَبْيُ العَدُوِّ فَهَلْ تُرَى ... نَعُودُ إلىَ أَوْطَانِنَا وَنُسَلِّمُ؟ (¬2) وقال علي بن أبي طالب رضي الله عنه: "إن الدنيا قد ترحّلت مدبرةً، وإن الآخرة قد ترحّلت مقبلةً، ولكلٍ منهما بَنُونَ، فكونوا من أبناء الآخرة، ¬

_ (¬1) رواه ابن المبارك في الزهد (ص 5)، وابن أبي شيبة (7/ 75)، وأحمد (2/ 24، 41)، والترمذي (2333)، وابن ماجه (4114)، وغيرهم من حديث ابن عمر رضي الله عنهما، وقواه الألباني في السلسلة الصحيحة (3/ 148). وهو في صحيح البخاري (6053) بدون قوله: "وعدَّ نفسك من أهل القبور". (¬2) البيتان من ميمية المؤلف التي نشرت لأول مرة في الهند سنة 1316 ضمن مجموعة تسمى "أربح بضاعة في معتقد أهل السنة والجماعة" (جمعها علي بن سليمان آل يوسف). وأورد المؤلف منها أبياتًا كثيرة في طريق الهجرتين (ص 108 - 115)، وحادي الأرواح (ص 12 - 15). ومطلع القصيدة في الرسالة التبوكية (ص 3).

ولا تكونوا من أبناء الدنيا؛ فإن اليوم عمل ولا حساب، وغدًا حسابٌ ولا عمل" (¬1). وكلما صح القلب من مرضه ترحل إلى الآخرة، وقرب منها، حتى يصير من أهلها، وكلما مرض القلب واعتلَّ آثر الدنيا واستوطنها، حتى يصير من أهلها. ومن علامات صحة القلب: أنه لا يزال يَضرِب على صاحبه، حتى يُنيب إلى الله ويُخْبِت إليه، ويتعلق به تعلُّق المحب المضطر إلى محبوبه، الذي لا حياة له ولا فلاح ولا نعيم ولا سرور إلا برضاه وقربه والأُنس به. فيه يطمئن، وإليه يسكن، وإليه يأوي، وبه يفرح، وعليه يتوكل، وبه يثق، وإياه يرجو، وله يخاف. فَذِكْرُه: قُوتُه وغذاؤه، ومحبته والشوق إليه: حياته ونعيمه ولذته وسروره، والالتفات إلى غيره والتعلق بسواه: داؤه، والرجوع إليه: دواؤه. فإذا حصل له ربُّه سكن إليه واطمأن به، وزال ذلك الاضطراب والقلق، وانسدتْ تلك الفاقة، فإن في القلب فاقة لا يسدُّها شيء سوى الله تعالى أبدًا، وفيهْ شعثٌ (¬2) لا يَلُمُه غير الإقبال عليه، وفيه مرض لا يشفيه غير الإخلاص له وعبادته وحده، فهو دائمًا يضرب على صاحبه حتى يسكن ويطمئن إلى إلهه ومعبوده، فحينئذٍ يباشر روح الحياة، ويذوق طعمها، وتصير له حياة ¬

_ (¬1) علقه البخاري في كتاب الرقاق، باب: في الأمل وطوله، عن علي مجزومًا به، وهو موصول عند ابن المبارك في الزهد (ص 86)، وابن أبي شيبة في المصنف (7/ 100)، وأحمد في الزهد (ص 130)، وهناد في الزهد (1/ 290 - 291)، وابن أبي الدنيا في قصر الأمل (49)، وأبي نعيم في الحلية (1/ 76)، وغيرهم. (¬2) الأصل: "شعب". والمثبت من بقية النسخ.

أخرى غير حياة الغافلين المعرضين عن هذا الأمر الذي له خُلِقَ الخَلْقُ، ولأجله خُلِقت الجنة والنار، وله أُرْسِلت الرسل وأُنزلت الكتب، ولو لم يكن له جزاءً إلا نفسُ وجوده لكفى به جزاءً، وكفى بفوته حسرةً وعقوبةً، كما قيل: وَمَن صدَّ عَنَّا حَظُّهُ (¬1) البُعْدُ والقِلىَ ... وَمَنْ فاتَنا (¬2) يَكْفِيهِ أَنِّي أَفُوتُهُ (¬3) قال بعض العارفين: "مساكين أهل الدنيا، خرجوا من الدنيا وما ذاقوا أطيب ما فيها، قيل: وما أطيب ما فيها؟ قال: محبة الله، والإنس به، والشوق إلى لقائه، والتنعُّم بذكره وطاعته" (¬4). وقال آخر: "إنه ليمر بي أوقات أقول فيها: إن كان أهل الجنة في مثل هذا إنهم لفي عيش طيِّب" (¬5). وقال آخر: "والله ما طابت الدنيا إلا بمحبته وطاعته، ولا الجنة إلا برؤيته ومشاهدته" (¬6). ¬

_ (¬1) خ، من: "حسبه". (¬2) في النسخ: "فته"، والمثبت من ح. (¬3) لم أجد البيت فيما بين يدي من المصادر. (¬4) روى أبو نعيم في الحلية (8/ 167) بإسناده عن عبد الله بن المبارك قال: "أهل الدنيا خرجوا من الدنيا قبل أن يتطعموا أطيب ما فيها"، قيل له: وما أطيب ما فيها؟ قال: "المعرفة بالله عز وجل". (¬5) ذكر ابن كثير في البداية والنهاية (10/ 257) عن أبي سليمان الداراني أنه قال: "إنه لتمر بالقلب أوقات يرقص فيها طربًا، فأقول: إن كان أهل الجنة في مثل هذا إنهم لفي عيش طيب". (¬6) روى أبو نعيم في الحلية (9/ 372) بإسناده عن ذي النون المصري قال: "ما طابت الدنيا إلا بذكره، ولا طابت الآخرة إلا بعفوه، ولا طابت الجنان إلا برؤيته".

وقال أبو الحسين (¬1) الورّاق: "حياة القلب في ذكر الحي الذي لا يموت، والعيش الهني الحياة مع الله تعالى لا غير" (¬2). ولهذا كان الفَوْتُ عند العارفين بالله أشدَّ عليهم من الموت؛ لأن الفوت انقطاع عن الحق، والموت انقطاع عن الخلق، فكم بين الانقطاعين؟! وقال آخر: "من قرَّت عينه بالله تعالى قرَّت به كل عين، ومن لم تقرَّ عينه بالله تقطع قلبه على الدنيا حسرات" (¬3). وقال يحيى بن معاذ: "من سرَّ بخدمة الله سرَّت الأشياء كلها بخدمته، ومن قرَّت عينه بالله قرَّتْ عيون كل أحد بالنظر إليه" (¬4). ومن علامات صحة القلب: أن لا يفتر عن ذكر ربه، ولا يسأم من خدمته، ولا يأنس بغيره؛ إلا بمن يَدُلُهُ عليه، ويُذكِّره به، ويذاكره بهذا الأمر. ومن علامات صحته: أنه إذا فاته وِرْده وجد لفواته ألمًا أعظم من تألمُّ الحريص بفوات ماله وفقده. ومن علامات صحته: أنه يشتاق إلى الخدمة، كما يشتاق الجائع إلى الطعام والشراب. ¬

_ (¬1) خ: "الحسن". (¬2) رواه أبو عبد الرحمن السلمي في طبقات الصوفية (ص 230) عن أبي بكر محمد بن أحمد بن إبراهيم عنه به. (¬3) لم أقف عليه. (¬4) رواه أبو عبد الرحمن السلمي في طبقات الصوفية (ص 152)، وعنه البيهقي في الزهد الكبير (726).

ومن علامات صحته: أنه إذا دخل في الصلاة ذهب عنه همُّه وغمُّه بالدنيا، واشتد عليه خروجه منها، ووجد فيها راحته ونعيمه، وقُرَّةَ عينه وسرورَ قلبه. ومن علامات صحته: أن يكون همُّه واحدًا، وأن يكون في الله. ومن علامات صحته: أن يكون أشحَّ بوقته أن يذهب ضائعًا من أشد الناس شُحًّا بماله. ومنها: أن يكون اهتمامه بتصحيح العمل أعظم منه بالعمل، فيحرص على الإخلاص فيه والنصيحة والمتابعة والإحسان, ويشهد مع ذلك مِنّة الله عليه فيه، وتقصيره في حق الله. فهذه ستةُ (¬1) مشاهد، لا يشهدها إلا القلب الحيُّ السليم. وبالجملة فالقلب الصحيح: هو الذي همُّه كله في الله، وحبُّه كله له، وقصده له، وبدنه له، وأعماله له، ونومه له، ويقظته له، وحديثه والحديث عنه أشهى إليه من كل حديث، وأفكاره تحوم على مراضيه ومحابِّه، والخلوة به اَثرُ عنده من الخلطة؛ إلا حيث تكون الخلطة (¬2) أحبَّ إليه وأرضى له، قُرّةُ عينه به، وطمأنينته وسكونه إليه، فهو كما وجد من نفسه التفاتًا إلى غيره تلا عليها: {يَاأَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ (27) ارْجِعِي إِلَى رَبِّكِ رَاضِيَةً مَرْضِيَّةً} [الفجر: 27، 28] , فهو يُردِّد عليها الخطاب بذلك ليسمعه من ربه يوم لقائه؛ فينصبغ القلب بين ¬

_ (¬1) في النسخ: "ست". (¬2) "الخلطة" ساقطة من م وبعض النسخ.

يدي إلهه ومعبوده الحق بصبغة (¬1) العبودية، فتصير العبودية صفة (¬2) وذوقًا لا تكلفًا، فيأتي بها تودُّدًا وتحببًا وتقربًا، كما يأتي المحب المتيَّم في محبة محبوبه بخدمته وقضاء أشغاله. فكلما عَرَضَ له أمر من ربه أو نهْي أحسَّ من قلبه ناطقًا ينطق لبيْكَ وسَعْديْك، إني سامع مطيع ممتثل، ولك عليّ المِنّة في ذلك، والحمد فيه عائد إليك. وإذا أصابه قَدَر وجد من قلبه ناطقًا يقول: أنا عبدك ومسكينك وفقيرك، وأنا عبدك الفقير العاجز الضعيف المسكين، وأنت ربي العزيز الرحيم، لا صبر لي إن لم تُصبِّرني، ولا قوة لي إن لم تحَمِلنْي وتُقَوِّني، لا ملجأ لي منك إلا إليك، ولا مستعان لي إلا بك، ولا انصرافَ لي عن بابك، ولا مذهب لي عنك. فينطرح بمجموعه بين يديه، ويعتمد بكلِّيَّته عليه، فإن أصابه بما يكره قال: رحمة أُهدِيَتْ إليّ، ودواء نافع من طبيب مشفق، وإن صُرِفَ عنه ما يحب قال: شرٌّ صُرف عني: وَكَمْ رُمْتُ أَمْرًا خِرْتَ ليِ في انْصِرافِهِ ... وَمَا زِلْتَ بي مِنِّي أبَرَّ وَأَرْحَمَا (¬3) فكل ما مسّه به من السراء والضراء اهتدى بها طريقًا إليه، وانفتح له منه باب يدخل منه عليه، كما قيل (¬4): ¬

_ (¬1) م: "بصفة". (¬2) الأصل: "صبغة"، والمثبت من النسخ الأخرى. (¬3) البيت ضمن ثلاثة أبيات في ذيل مرآة الزمان (4/ 169) لأبي الحسين النوري. (¬4) لم أقف على القائل.

ما مَسّنِي قدَرٌ بِكُرْهٍ أوْ رِضًا ... إلَّا اهْتَدَيْتُ بِهِ إليكَ طَرِيقَا أَمْضِ القَضَاءَ على الرِّضَا مِنِّي بِهِ ... إنِّي وجَدْتُكَ في البَلاءِ رَفِيقَا فلله هاتيك القلوبُ وما انطوت عليه من الضمائر، وماذا أُودِعَتْهُ من الكنوز والذخائر! ولله طِيبُ أسرارها, ولا سيما يوم تُبْلىَ السرائر! سَيَبْدُو لهًا طِيبٌ وَنُورٌ وَبَهْجَةٌ ... وَحُسْنُ ثَنَاءٍ يَوْمَ تُبْلىَ السَّرَائرُ (¬1) تالله لقد رُفع لها عَلَمٌ عظيم فشمَّرتْ إليه، واستبان لها صراط مستقيم فاستقامت عليه، ودعاها ما دون مطلوبها الأعلى؛ فلم تستجب له، واختارته على ما سواه وآثرت ما لديه. ¬

_ (¬1) لم أجد البيت.

الباب الحادي عشر: في علاج مرض القلب من استيلاء النفس عليه

الباب الحادي عشر في علاج مرض القلب من استيلاء النفس عليه هذا الباب كالأساس والأصل لما بعده من الأبواب؛ فإن سائر أمراض القلب إنما تنشأ من جانب النفس، فالمواد الفاسدة كلها إليها تنصبُّ، ثم تنبعث منها إلى الأعضاء، وأولُ ما تنال القلب، وقد كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول في خطبة الحاجة: "الحمد لله، نستعينه ونستهديه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا" (¬1). وفي "المسند"، والترمذي من حديث حُصين بن عبيد (¬2): أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال له: "يا حُصين! كم تعبد اليوم إلهًا؟ " (¬3) قال: سبعةً، ستةً في الأرض وواحدًا في السماء، قال: "فمن الذي تُعِدُّ لرَغْبتك ورهبتك؟ "، قال: الذي في السماء، قال: "أسْلِمْ حتى أعلِّمك كلمتين ينفعك الله بهما"، فأسلم، فقال له: "قل: اللهم ألهمني رشدي، وقِني شرّ نفسي" (¬4). ¬

_ (¬1) رواه أحمد (1/ 392)، وأبو داود (2118)، والترمذي (1105)، والنسائي (1404، 3277)، وابن ماجه (1892)، وغيرهم من حديث ابن مسعود رضي الله عنه، وحسنه الترمذي، وصححه ابن الجارود (679)، وابن العربي في عارضة الأحوذي (3/ 27)، والنووي في شرح صحيح مسلم (6/ 160) وفي غيره، والذهبي في المهذب (3/ 1142)، وليس في شيء من روايات هذا الحديث ذكر الاستهداء. وانظر: مجموع الفتاوى (18/ 286 - 290) والسلسلة الضعيفة (6525)، وخطبة الحاجة للألباني. (¬2) في الأصل وأغلب النسخ: "المنذر". (¬3) "اليوم إلها" ساقطة من الأصل. (¬4) رواه الترمذي (3483)، والدارمي في النقض على المريسي (1/ 227 - 228)، وابن =

معنى قوله - صلى الله عليه وسلم -: "ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا"

وقد استعاذ النبي - صلى الله عليه وسلم - من شرِّها عمومًا، ومن شر ما يتولد منها من الأعمال، ومن شر ما يترتب على ذلك من المكاره والعقوبات، وجمع بين الاستعاذة من شر النفس وسيئات الأعمال؛ وفيه وجهان: أحدهما: أنه من باب إضافة النوع إلى جنسه، أي: أعوذ بك من هذا النوع من الأعمال .. والثاني: أن المراد به عقوبات الأعمال التي تسوء صاحبها. فعلى الأول: يكون قد استعاذ من صفة النفس وعملها. وعلى الثاني: يكون قد استعاذ من العقوبات وأسبابها. ويدخل العمل السيئ في شر النفس، فهل المعنى: ما يسوؤني (¬1) من جزاء عملي، أو من عملي السيئ؟ وقد يترجَّح الأول، فإن الاستعاذة من العمل السيئ بعد وقوعه إنما هي استعاذة من جزائه وموجَبه؛ وإلا فالموجود لا يمكن رفعه بعينه. وقد اتفق السالكون إلى الله -على اختلاف طرقهم وتباين سلوكهم- ¬

_ = أبي عاصم في الآحاد والمثاني (2355)، والبزار (3579، 3580)، والطبراني في الكبير (18/ 174)، وفي الأوسط (1985)، واللالكائي في شرح أصول الاعتقاد (1184)، وغيرهم من طريق شبيب بن شيبة عن الحسن عن عمران بن حصين رضي الله عنه، وفي إسناده ضعف وانقطاع، وأعلّ بالإرسال. قال الترمذي: "غريب"، وقال البزار: "اختلفوا في إسناده"، وقال الذهبي في العلو (ص 2): "شبيب ضعيف"، وصححه ابن القيم في الوابل الصيب (ص 411)، وحسنه ابن حجر في التهذيب (2/ 384)، وانظر: العلل الكبير للترمذي (ص 364). (¬1) م: "يسرني"، تصحيف.

من ظفر بنفسه فقد أفلح

على أن النفس قاطعة بين القلب وبين الوصول إلى الرب، وأنه لا يُدخَلُ عليه سبحانه ولا يُوصل إليه إلا بعد تركها، وإماتتها بمخالفتها، والظفر بها. فإن الناس على قسمين: قسم ظفرت به نفسه؛ فملكتْه وأهلكتْه، وصار طوعًا لها تحت أوامرها. وقسم ظفروا بنفوسهم؛ فقهروها، فصارت طوعًا لهم، مُنقادةً لأوامرهم. كما قال بعض العارفين: انتهى سفر الطالبين إلى الظفر بأنفسهم، فمن ظَفِر بنفسه أفلح وأنجح، ومن ظفرت به نفسه خسر وهلك، قال تعالي: {فَأَمَّا مَنْ طَغَى (37) وَآثَرَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا (38) فَإِنَّ الْجَحِيمَ هِيَ الْمَأْوَى (39) وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى (40) فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَى} [النازعات: 37 - 41]. فالنفس تدعو إلى الطغيان وإيثار الحياة الدنيا، والرب تعالي يدعو العبد إلى خوفه ونهي النفس عن الهوى، والقلب بين الداعيين، يميل إلى هذا الداعي مرة والى هذا مرة، وهذا موضع المحنة والابتلاء. وقد وصف سبحانه النفسَ في القرآن بثلاث صفات: المطمئنة، والأمّارة بالسوء، واللوامة. فاختلف الناس: هل النفس واحدة، وهذه أوصاف لها؟ أم للعبد ثلاثة أنفس: نفس مطمئنة، ونفس لوامة، ونفس أمارة؟ والأول: قول الفقهاء والمتكلمين، وجمهور أهل التفسير، وقول محُقِّقي الصوفية. والثاني: قول كثير من أهل التصوف.

النفس الأمارة بالسوء

والتحقيق: أنه لا نزاع بين الفريقين؛ فإنها واحدة باعتبار ذاتها، وثلاثة (¬1) باعتبار صفاتها، فإذا اعتُبرت بنفسها فهي واحدة، وإن اعتُبرت مع كل صفة دون الأخرى فهي متعددة، وما أظنهم يقولون: إن لكل أحد ثلاث أنفس؛ كل نفس قائمة بذاتها، مساوية للأخرى في الحد والحقيقة، وأنه إذا قُبض العبد قُبضت له ثلاثة أنفس، كل واحدة مستقلة بنفسها! وحيث ذكر سبحانه النفس وأضافها إلى صاحبها؛ فإنما ذكرها بلفظ الإفراد، وهكذا في سائر الأحاديث، ولم يجيء في موضع واحد: "نفوسك" و"نفوسه"، ولا "أنفسك" و"أنفسه"؟ وإنما جاءت مجموعة عند إرادة العموم، كقوله تعالى: {وَإِذَا النُّفُوسُ زُوِّجَتْ} [التكوير: 7] أو عند إضافتها إلى الجمع, كقوله - صلى الله عليه وسلم -: "إنما أنفسنا بيد الله" (¬2)، ولو كانت في الإنسان ثلاثة أنفس لجاءت مجموعة إذا أضيفت إليه؛ ولو في موضع واحد. فالنفس إذا سَكَنَتْ إلى الله، واطمأنت بذكره، وأنابت إليه، واشتاقت إلى لقائه، وأنست بقربه، فهي مطمئنة، وهي التي يقال لها عند الموافاة (¬3): {يَاأَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ (27) ارْجِعِي إِلَى رَبِّكِ رَاضِيَةً مَرْضِيَّةً} [الفجر: 27، 28]. قال ابن عباس: {يَاأَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ}، يقول: المصدِّقة (¬4). ¬

_ (¬1) كذا في النسخ "ثلاثة" في جميع المواضع. (¬2) هذا من قول عليّ رضي الله عنه لما أيقظه النبي - صلى الله عليه وسلم - هو وفاطمة لقيام الليل، رواه البخاري (1075)، ومسلم (775). (¬3) ح: "الوفاة". (¬4) رواه ابن جرير في تفسيره (24/ 423) من طريق علي بن أبي طلحة عن ابن عباس، وعزاه في الدر المنثور (8/ 514) لابن المنذر.

وقال قتادة: "هو المؤمن، اطمأنت نفسه إلى ما وعبد الله" (¬1). وقال الحسن: "المطمئنة بما قال الله، والمصدقة بما قال" (¬2). وقال مجاهد: "هي المُنيبة المُخْبتة التي أيقنت أن الله ربها، وضربت جأشًا لأمره وطاعته، وأيقنت بلقائه" (¬3). وحقيقة الطمأنينة: السكون والاستقرار، فهي التي قد سكنت إلى ربها وطاعته وأمره وذِكْره، ولم تسكن إلى سواه، فقد اطمأنت إلى محبته وعبوديته وذِكْره، واطمأنت إلى أمره ونهيه وخبره، واطمأنت إلى لقائه ووعده، واطمأنت إلى التصديق بحقائق أسمائه وصفاته، واطمأنت إلى الرضا به ربًّا، وبالإِسلام دينًا، وبمحمد رسولاً، واطمأنت إلى قضائه وقدره، واطمأنت إلى كفايته وحَسْبِه وضمانه، فاطمأنت بأنه وحده ربها، وإلهها، ومعبودها، ومليكها، ومالك أمرها كله، وأن مرجعها إليه، وأنها لا غنى لها عنه طرفة عينٍ. وإذا كانت بضدِّ ذلك فهي أمَّارة بالسوء، تأمر صاحبها بما تهواه من شهوات الغيّ واتباع الباطل، فهي مأوى كل سوء، إن أطاعها قادته إلى كل قبيح وكل مكروه، وقد أخبر سبحانه أنها أمّارة بالسوء، ولم يقل: آمرة؛ لكثرة ¬

_ (¬1) رواه ابن جرير في تفسيره (24/ 423)، وعزاه في الدر المنثور (8/ 515) لعبد بن حميد وابن أبي حاتم. (¬2) رواه عبد الرزاق في تفسيره (3/ 372)، وابن جرير في تفسيره (24/ 423) عن معمر عن قتادة والحسن. (¬3) رواه ابن جرير في تفسيره (24/ 423 - 424)، وعزا بعضه في الدر المنثور (8/ 514) لسعيد بن منصور والفريابي وعبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم.

فصل: النفس اللوامة

ذلك منها، وأنه عادتها ودأبها إلا إذا رحمها الله، وجعلها زاكيةً تأمر صاحبها بالخير، فذلك من رحمة الله، لا منها، فإنها بذاتها أمارة بالسوء؛ لأنها خلقت في الأصل جاهلة ظالمة إلا من رحمه الله (¬1)، والعلمُ والعدلُ طارئٌ عليها بإلهام ربهِّا وفاطرها لها ذلك، فإذا لم يُلِهمْها رشدَها بقيتْ على ظلمها وجهلها، فلم تكن أمَّارة إلا بموجب الجهل والظلم، فلولا فضل الله ورحمته على المؤمنين ما زَكَتْ منهم نفس واحدة. فإذا أراد سبحانه بها خيرًا جعل فيها ما تزكو به وتصلح من الإرادات والتصورات، وإذا لم يُرِدْ بها ذلك تركها على حالها التي خُلقت عليها من الجهل والظلم. وسبب الظلم: إما جهل، وإما حاجة، وهي في الأصل جاهلة، والحاجة لازمة لها، فلذلك كان أمرها بالسوء أمرًا لازمًا (¬2) لها إن لم تدركها رحمة الله وفضله. وبهذا يُعلم أن ضرورة العبد إلى ربه فوق كل ضرورة، ولا تُشبِهها ضرورة تُقاس بها؛ فإنه إن أمسك عنه رحمته وتوفيقه وهدايته طرفة عينٍ خسِر وهلك. فصل وأما اللوّامة فاختُلِف في اشتقاق هذه اللفظة: هل هو من التلوُّم؛ وهو التلوُّن والتردد؟ أو من اللوم؟ وعبارات السلف تدور على هذين المعنيين. ¬

_ (¬1) "إلا من رحمة الله" زيادة من ح. (¬2) م، ظ: "أمر لازم".

قال سعيد بن جبير: قلت لابن عباس: ما اللوامة؟ قال: "هي النفس اللَّؤوم" (¬1). وقال مجاهد: "هي التي تَنْدَم على ما فات، وتلوم عليه" (¬2). وقال قتادة: "هي الفاجرة" (¬3). وقال عكرمة: "تلوم على الخير والشر" (¬4). وقال عطاء عن ابن عباس: "كل نفس تلوم نفسها يوم القيامة: يلوم المحسنُ نفسَه أن لا يكون ازداد إحسانًا، ويلوم المسيءُ نفسَه أن لا يكون رجع عن إساءته" (¬5). وقال الحسن: "إن المؤمن والله ما تراه إلا يلوم نفسَه على كل حالاته، يستقصرها في كل ما يفعل؛ فيندم ويلوم نفسه، وإن الفاجر ليَمضي قُدُمًا، لا يُعاتِب نفسَه" (¬6). ¬

_ (¬1) رواه ابن جرير في تفسيره (24/ 49)، وصححه الحاكم (3877)، وعزاه في الدر المنثور (8/ 342) لابن المنذر. (¬2) رواه ابن جرير في تفسيره (24/ 50)، وابن الجوزي في ذم الهوى (ص 43)، وعزاه في الدر المنثور (8/ 343) لعبد بن حميد. (¬3) رواه ابن جرير في تفسيره (24/ 50)، وعزاه في الدر المنثور (8/ 342) لعبد بن حميد. (¬4) رواه ابن جرير في تفسيره (24/ 49). (¬5) انظر: البسيط للواحدي (22/ 475). (¬6) رواه أحمد في الزهد (ص 281) عن روح، وابن أبي الدنيا في محاسبة النفس (4) من طريق أبي عامر العقدي، كلاهما عن قرة بن خالد عن الحسن، ولفظه: "إن المؤمن لا تراه إلا يلوم نفسه يقول: ما أردت بكلمتي؟ يقول: ما أردتُ بأكلتي؟ ما =

النفس تكون: تارة أمارة، وتارة لوامة، وتارة مطمئنة، والحكم للغالب عليها من أحوالها

فهذه عباراتُ من ذَهب إلى أنها من اللَّوْم. وأما من جعلها من التلوُّم فكثرة ترددها وتلؤُمها، وأنها لا تستقر على حال واحدة. والأول أظهر؛ فإن هذا المعنى لو أُريد لقيل: المتلوِّمة، كما يقال: المتلونة والمترددة، ولكن هو من لوازم القول الأول؛ فإنها لتلُّومِها وعدم ثباتها تفعل الشيء ثم تلوم عليه، فالتلوّم من لوازم اللوم. والنفس قد تكون تارة أمّارةً، وتارة لوامةً، وتارة مطمئنةً، بل في اليوم الواحد والساعة الواحدة يحصل فيها (¬1) هذا وهذا وهذا، والحكم للغالب عليها من أحوالها، فكونها مطمئنةً وصفُ مدحٍ لها، وكونها أمّارةً بالسوء وصفُ ذمٍّ لها، وكونها لوامةً ينقسم إلى المدح والذم، بحسب ما تلوم عليه. والمقصود ذكر علاج مرض القلب باستيلاء النفس الأمارة عليه، وله علاجان: محاسبتها، ومخالفتها. وهلاك القلب من إهمال محاسبتها، ومن موافقتها واتباع هواها، وفي الحديث الذي رواه أحمد وغيره من حديث شدّاد بن أوس، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "الكَيّس من دان نفسَه، وعمِلَ لما بعد الموت، والعاجز من أتبعَ نفسَه هواها، وتمنّى على الله" (¬2)، دان نفسه أي: حاسبها. ¬

_ = أردتُ بحديث نفسي؟ فلا تراه إلا يعاتبها، وإن الفاجر يمضي قدمًا فلا يعاتب نفسه"، وعزاه في الدر المنثور (8/ 343) لعبد بن حميد. (¬1) ح: "منها". (¬2) مسند أحمد (4/ 124)، ورواه أيضًا ابن المبارك في الزهد (171)، والطيالسي (1122)، والترمذي (2459)، وابن ماجه (4265)، وابن أبي الدنيا في محاسبة =

وذكر الإمام أحمد عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه، أنه قال: "حاسبوا أنفسكم قبل أن تُحاسَبوا، وزِنوا أنفسكم قبل أن توزنوا؛ فإنه أهون عليكم في الحساب غدًا أن تحُاسِبوا أنفسَكم اليومَ، وَتَزَيّنوا للعرض الأكبر؛ يومئذٍ تُعرَضون لا تخفى منكم خافية" (¬1). وذكر أيضًا عن الحسن، قال: "لا يُلفَى المؤمنُ إلا يُحاسِبُ نفسه: ما أردتُ بكلمتي؟ وماذا أردتُ بأكلتي؟ وماذا أردت بشَرْبتي؟ والفاجر يمضي قُدُمًا، لا يحُاسِب نفسَه" (¬2). وقال قتادة في قوله تعالى: {وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطًا} [الكهف: 28]: "أضاع نفسَه وغُبِن، مع ذلك تراه حافظًا لمالِه مضيِّعًا لدينه" (¬3). وقال الحسن: "إن العبد لا يزال بخير ما كان له واعظٌ من نفسه، وكانت المحاسبة من همَّته" (¬4). ¬

_ = النفس (1)، والبزار (3489)، والطبراني في الكبير (7/ 281، 248)، وابن عدي في الكامل (2/ 39)، وأبو نعيم في الحلية (1/ 267، 8/ 174)، وغيرهم، قال الترمذي: "هذا حديث حسن"، وصححه الحاكم (191، 7639)، وتعقبه الذهبي بقوله: "لا والله، أبو بكر بن أبي مريم واه"، وهو في السلسلة الضعيفة (5319). (¬1) الزهد لأحمد (ص 120)، ورواه أيضًا ابن المبارك في الزهد (306)، وابن أبي شيبة (7/ 96)، وابن أبي الدنيا في محاسبة النفس (2)، والدينوري في المجالسة (1291)، وأبو نعيم في الحلية (1/ 52)، وغيرهم من أوجه عن عمر، وهو في السلسلة الضعيفة (1201). (¬2) تقدم تخريجه قريبًا. وفي ح: "ماذا أردت تعملين ... تأكلين ... تشربين". (¬3) رواه ابن أبي الدنيا في محاسبة النفس (5) بنحوه. (¬4) رواه الحسين المروزي في زوائد الزهد (1103)، وابن أبي الدنيا في محاسبة النفس =

لا يكون العبد تقيا حتى يكون أشد محاسبة لنفسه من الشريك لشريكه

وقال ميمون بن مِهران: "لا يكون العبد تقيًّا حتى يكون لنفسه أشدَّ محاسبةً من الشريك لشريكه" (¬1)، ولهذا قيل: النفس كالشريك الخوّان، إن لم تحاسبه ذهب بمالك. وقال ميمون بن مهران أيضًا: "إنّ المتقي أشدُّ محاسبةً لنفسه من سلطان عَاصٍ، ومن شريك شحيح" (¬2). وذكر الإمام أحمد عن وهب قال: "مكتوبٌ في حكمة آل داود: حقٌّ على العاقل أن لا يَغفُل عن أربع ساعات: ساعة يناجي فيها ربَّه، وساعة يحُاسب فيها نفسَه، وساعة يخلو فيها مع إخوانه الذين يخبرونه بعيوبه ويَصْدُقونه عن نفسه، وساعة يتخلى فيها بين نفسه وبين لذاتها فيما يحل ويجمل؛ فإن في هذه الساعة عونًا على تلك الساعات، وإجمامًا للقلوب" (¬3). ¬

_ = (6)، والدينوري في المجالسة (1917، 2692)، وأبو نعيم في الحلية (2/ 145 - 146)، من طرق عن الحسن. (¬1) رواه وكيع في الزهد (239)، وابن أبي شيبة (7/ 195، 235)، وهناد في الزهد (1228)، وابن أبي الدنيا في محاسبة النفس (7) عن جعفر بن برقان عن ميمون، ورواه ابن الجوزي في ذم الهوى (ص 43) من طريق وكيع ومن طريق ابن أبي الدنيا. (¬2) رواه ابن أبي الدنيا في محاسبة النفس (9) عن أبي موسى العبدي عن أبي المليح عن ميمون. (¬3) رواه ابن البناء في الرسالة المغنية (19) من طريق أحمد، ولم أقف عليه عنده. ورواه ابن المبارك في الزهد (313)، وعبد الرزاق (11/ 21 - 22)، وهناد في الزهد (1226)، وابن أبي الدنيا في محاسبة النفس (12)، وفي العقل (29)، والبيهقي في الشعب (4/ 164 - 165). ومن طريق عبد الرزاق رواه الخطابي في العزلة (ص 99)، ومن طريق ابن المبارك رواه الخطيب في الفقيه والمتفقه (2/ 220).

وقد رُوي هذا مرفوعًا من كلام النبي - صلى الله عليه وسلم -، رواه أبو حاتم ابنُ حبان وغيره (¬1). وكان الأحنف بن قيس يجيء إلى المصباح، فيضع إصبعه فيه، ثم يقول: حَسِّ يا حُنَيفُ! ما حملك على ما صنعت يوم كذا؟ ما حملك على ما صنعت يوم كذا؟ " (¬2). وكتب عمر بن الخطاب إلى بعض عُمَّاله: "حاسِبْ نفسَك في الرخاء قبل حساب الشدة؛ فإن من حاسب نفسه في الرخاءِ قبل حساب الشدة عاد أمره إلى الرضا والغبطة، ومن ألهْتهُ حياتُه وشغلته أهواؤه عاد أمره إلى الندامة والحسرة" (¬3). ¬

_ (¬1) صحيح ابن حبان (361) عن أبي ذر رضي الله عنه في حديث طويل فيه جملة من الحِكم والمواعظ، وفيه ذكر عدد الأنبياء وعدد الرسل وعدد الكتب، ورواه أيضًا أبو نعيم في الحلية (1/ 18 - 19، 166 - 168)، وابن عساكر في تاريخ دمشق (23/ 273 - 279)، وغيرهم، قال ابن كثير في تفسيره (1/ 778): "ذكر ابن الجوزي هذا الحديث في كتابه "الموضوعات" واتَّهم به إبراهيم بن هشام، ولا شكَّ أنه قد تكلم فيه غير واحد من أئمة الجرح والتعديل من أجل هذا الحديث"، وهو في ضعيف الترغيب (1352)، وانظر: البدر المنير (4/ 353 - 357)، والسلسلة الضعيفة (1910، 5638). (¬2) رواه ابن أبي الدنيا في محاسبة النفس (13)، وعبد الله في زوائد الزهد (ص 235) عن مولى كان يصحَب الأحنف بن قيس، ومن طريق عبد الله رواه الخطيب في تاريخ بغداد (10/ 30)، ورواه ابن عساكر في تاريخ دمشق (24/ 324) من طريق ابن أبي الدنيا ومن طريق الخطيب، ورواه ابن الجوزي في ذم الهوى (ص 44) من طريق ابن أبي الدنيا. (¬3) رواه ابن أبي الدنيا في محاسبة النفس (16)، والبيهقي في الشعب (7/ 366)، وفي =

وقال الحسن: "المؤمن قوّامٌ على نفسه، يحُاسِب نفسَه لله، وإنما خفّ الحساب يوم القيامة على قوم حاسبوا أنفسهم في الدنيا، وإنما شقّ الحساب يوم القيامة على قوم أخذوا هذا الأمر من غير محاسبة، إن المؤمن يَفْجؤه الشيء ويعجبه، فيقول: والله إني لأشتهيك، وإنك لمن حاجتي، ولكن والله ما من صلة إليك، هيهات! حِيْلَ بيني وبينك. ويَفرُط منه الشيء، فيرجع إلى نفسه، فيقول: ما أردتُ إلى هذا ما لي ولهذا؟ والله لا أعود إلى هذا أبدًا. إن المؤمنين قوم أوقفهم القرآن، وحال بينهم وبين هَلَكَتِهم، إن المؤمن أسيرٌ في الدنيا يسعى في فكاك رقبته، لا يأمن شيئًا حتى يَلقى الله، يعلم أنه مأخوذ عليه في سمعه، وفي بصره، وفي لسانه، وفي جوارحه، مأخوذ عليه في ذلك كله" (¬1). وقال مالك بن دينار: "رحم الله عبدًا قال لنفسه: ألستِ صاحبةَ كذا؟ ألستِ صاحبةَ كذا؟! ثم زَمَّها، ثم خَطَمَها، ثم ألزمها كتابَ الله عز وجل، فكان لها قائدًا" (¬2). وقد مُثِّلَتِ النفسُ مع صاحبها بالشريك في المال، فكما أنه لا يتم مقصود الشركة من الربح إلا بالمشارطة على ما يفعل الشريك أولًا، ثم ¬

_ = الزهد الكبير (462) من طريق جعفر بن برقان عن عمر، ومن طريق البيهقي رواه ابن عساكر في تاريخ دمشق (44/ 321، 357). (¬1) رواه ابن المبارك في الزهد (357)، وأبو نعيم في الحلية (2/ 157)، ومن طريق ابن المبارك رواه ابن أبي شيبة (7/ 188 - 189)، وابن أبي الدنيا في محاسبة النفس (17)، والدينوري في المجالسة (1556)، وابن الجوزي في ذم الهوى (ص 41 - 42)، والمزي في تهذيب الكمال (31/ 531). (¬2) رواه ابن أبي الدنيا في محاسبة النفس (8)، وابن عساكر في تاريخ دمشق (56/ 420).

الجوارح هي مراكب العطب والنجاة

بمطالعة (¬1) ما يعمل، والإشراف عليه ومراقبته ثانيًا، ثم بمحاسبته ثالثًا، ثم يمنعه من الخيانة إن اطلع عليه رابعًا، فكذلك النفس؛ يُشارطها (¬2) أولًا على حفظ الجوارح السبعة التي حِفْظُها هو رأس المال؛ والربح بعد ذلك، فمن ليس له رأس مال؛ فكيف يطمع في الربح؟ وهذه الجوارح السبعة -وهي العين، والأذن، والفم، واللسان، والفرج، واليد، والرِّجل- هي مركب العَطَب والنجاة، فمنها عطب مَنْ عطب بإهمالها وعدمِ حفظها، ونجا من نجا بحفظها ومراعاتها، فحِفْظُها أساس كل خير، وإهمالها أساس كل شر؛ قال تعالى: {قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ} [النور: 30]، وقال: {وَلَا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحًا إِنَّكَ لَنْ تَخْرِقَ الْأَرْضَ وَلَنْ تَبْلُغَ الْجِبَالَ طُولًا} [الإسراء: 37] وقال: {وَلَا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولًا} [الإسراء: 36] وقال تعالى: {وَقُلْ لِعِبَادِي يَقُولُوا الَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} [الإسراء: 53] وَقال: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا} [الأحزاب: 70]، وقال: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ لِغَدٍ} [الحشر: 18]. فإذا شارطها على حفظ هذه الجوارح انتقل منها إلى مطالعتها والإشراف عليها ومراقبتها، فلا يهُملها، فإنه إن أهملها لحظة وقعتْ (¬3) في الخيانة ولا بدَّ، فإن تمادى على الإهمال تمادت في الخيانة، حتى يذْهَبَ رأس المال ¬

_ (¬1) م: "يطالعه". (¬2) م، ت، ظ: "شارطها". (¬3) كذا في الأصل، وفي بعض النسخ: "رتعت".

كلُّه، فمتى أحسّ بالنقصان انتقل إلى المحاسبة؛ فحينئذٍ يتبيَّنُ له حقيقة الربح والخسران، فإذا أحس بالخسران وتيقَّنه استدرك منها ما يستدركه الشريك من شريكه، من الرجوع عليه بما مضى، والقيام بالحفظ والمراقبة في المستقبل، ولا مطمع له في فسخ عقد الشركة مع هذا الخائن والاستبدال بغيره؛ فإنه لا بدَّ له منه، فليجتهد في مراقبته ومحاسبته، وليحذر من إهماله. ويُعينه على هذه المراقبة والمحاسبةِ معرفتُه أنه كما اجتهد فيها اليوم استراح منها غذا إذا صار الحساب إلى غيره، وكلما أهملها اليوم اشتد عليه الحساب غدًا. ويعينه عليها أيضًا معرفتُه أن ربح هذه التجارة سُكْنى الفردوس، والنظر إلى وجه الرب سبحانه، وخسارتها دخول النار، والحجاب عن الرب تعالي، فإذا تيقن هذا هان عليه الحساب اليوم. فحقٌّ على الحازم المؤمن بالله واليوم الآخر: أن لا يغفُلَ عن محاسبة نفسه، والتضييق عليها في حركاتها، وسكناتها، وخطراتها، وخطواتها (¬1)، فكل نَفَسٍ من أنفاس العمر جوهرة نفيسة لا خَطَرَ لها، يمكن أن يُشترى به كنز من الكنوز لا يتناهى نعيمه أبدَ الآباد، فإضاعة هذه الأنفاس، أو اشتراء صاحبها بها ما يَجلِب هلاكَه: خسران عظيم، لا يَسمح بمثله إلا أجهلُ الناس وأحمقهم وأقلهم عقلًا، وإنما يظهر له حقيقة هذا الخسران يوم التغابن: {يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ مَا عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُحْضَرًا وَمَا عَمِلَتْ مِنْ سُوءٍ تَوَدُّ لَوْ أَنَّ بَيْنَهَا وَبَيْنَهُ أَمَدًا بَعِيدًا} [آل عمران: 30]. ¬

_ (¬1) "وخطواتها" ساقطة من الأصل.

فصل: محاسبة النفس تكون قبل العمل وبعبد العمل

فصل ومحاسبة النفس نوعان: نوع قبل العمل، ونوع بعده. فأما النوع الأول: فهو أن يقف عند أول همته وإرادته، ولا يبادر بالعمل حتى يتبين له رجحانه على تركه. قال الحسن: "رحم الله عبداً وقف عند همِّه، فإن كان لله مضى، وإن كان لغيره تأخر" (¬1). وشرح هذا بعضهم، فقال: إذا تحركت النفس لعمل من الأعمال وهَمَّ به العبدُ (¬2) وقف أولاً، ونظر: هل ذلك العمل مقدور له أم غير مقدور ولا مستطاع؟ فإن لم يكن مقدوراً لم يُقْدِم عليه، وإن كان مقدوراً وقف وقفة أُخرى ونظر: هل فعلُه خير من ترْكه، أو تركه خير من فعله؟ فإن كان الثاني تركه ولم يُقْدِم عليه، وإن كان الأول وقف وقفة ثالثة، ونظر: هل الباعث عليه إرادة وجه الله وثوابه، أم إرادة الجاه والثناء والمال من المخلوق؟ فإن كان الثاني لم يُقدمِ عليه وإن أفضى به إلى مطلوبه؟ لئلا تعتاد النفس الشرك، ويخص عليها العمل لغير الله، فبقدر ما يَخِف عليها ذلك يثقل عليها العمل لله، حتى يصير أثقل شيء عليها، وإن كان الأول وقف وقفة أخرى، ونظر: هل هو مُعانٌ عليه، وله أعوان يساعدونه وينصرونه إذا كان العمل محتاجاً إلى ذلك؛ أم لا؟ فإن لم يكن له أعوان أمسك عنه، كما أمسك النبي - صلى الله عليه وسلم - عن الجهاد بمكة حتى صار له شوكة وأنصار، وإن وجده مُعاناً عليه فليُقْدِم عليه ¬

_ (¬1) رواه البيهقي في الشعب (5/ 458). (¬2) "العبد" ساقطة من م.

فصل: محاسبة النفس بعد العمل

فإنه منصور، ولا يفوت النجاح إلا من فوات خصلةٍ من هذه الخصال، وإلا فمع اجتماعها لا يفوته النجاح. فهذه أربع مقامات، يحتاج إلى محاسبة نفسه عليها قبل الفعل؛ فلا كلُّ ما يريد العبد فعله يكون مقدوراً له، ولا كلُّ ما يكون مقدوراً له يكون فعله خيراً له من تركه، ولا كلُّ ما يكون فعله خيراً له من تركه [25 ب] يفعله لله، ولاكلُّ ما يفعله لله يكون مُعاناً عليه، فإذا حاسب نفسه على ذلك تبين له ما يُقدم عليه، وما يحُجِم عنه. فصل النوع الثاني: محاسبة النفس بعد العمل، وهو ثلاثة أنواع: أحدها: محاسبتها على طاعة قصّرت فيها من حق الله؛ فلم تُوقِعها على الوجه الذي ينبغي. وحق الله في الطاعة بمراعاة ستة أمور قد تقدّمت، وهي: الإخلاص في العمل، والنصيحة لله فيه، ومتابعة الرسول فيه، وشهود مشهد الإحسان فيه، وشهود مِنّة الله عليه فيه، وشهود تقصيره فيه بعد ذلك كله. فيحاسب نفسَه: هل وَفَّى هذه المقامات حقَّها؟ وهل أتى بها في هذه الطاعة؟ الثاني: أن يحاسب نفسه على عمل كان تركُه خيراً له من فعله. الثالث: أن يحاسب نفسه على أمر مباح أو معتاد: لِمَ فعله؟ وهل أراد به الله والدار الآخرة؛ فيكون رابحاً فيه، أو أراد به الدنيا وعاجلها؟ فيخسر ذلك الربح ويفوته الظَّفَرُ به.

فصل: ضرر ترك المحاسبة

فصل وأضرّ ما عليه: الإهمالُ، وتركُ المحاسبة، والاسترسالُ، وتسهيلُ الأمور، وتمشيتُها؛ فإن هذا يؤول به إلي الهلاك، وهذه حال أهل الغرور: يُغمِض عينيه عن العواقب، ويُمشِّي الحال، ويتكل على العفو؛ فيهمل (¬1) محاسبة نفسه والنظر في العاقبة، وإذا فعل ذلك سهل عليه مواقعة الذنوب، وأنِس بها، وعَسُر عليه فطامها، ولو حضره رشده لعلم أن الحِمْية أسهل من الفطام وتركِ المألوف والمعتاد. قال ابن أبي الدنيا: حدثني رجل من قريش ذكر أنه من ولد طلحة بن عبيد الله، قال: كان توبة بن الصمَّة بالرقة، وكان محاسباً لنفسه، فحسب يوماً، فإذا هو ابن ستين سنة، فحسب أيامها، فإذا هي أحد وعشرون ألف يوم وخمس مائة يوم، فصرخ، وقال: يا ويلتا! ألقى ربي بأحد وعشرين ألف ذنب؟ كيف وفي كل يوم آلاف من الذنوب؟ ثمَّ خرَّ مغشيَّاً عليه، فإذا هو ميت، فسمعوا قائلاً يقول: "يا لكِ ركضةً إلي الفردوس الأعلى" (¬2). وجِمَاع ذلك: أن يحاسب نفسه أولاً على الفرائض، فإن تذكَّر فيها نقصاً تداركه، إما بقضاء أو إصلاح، ثمَّ يحاسبها على المناهي؛ فإن عرف أنه ارتكب منها شيئاً تداركه بالتوبة والاستغفار والحسنات الماحية، ثم يحاسب نفسه على الغفلة، فإن كان قد غفل عما خُلِق له تداركه بالذِّكْر والإقبال على الله، ثمَّ يحاسبها بما تكلم به، أو مشت إليه رجلاه، أو بطشته يداه، أو سمعته أذناه: ماذا ¬

_ (¬1) م: "فيهمل". (¬2) محاسبة النفس لابن أبي الدنيا (76)، ورواه من طريقه البيهقي في الشعب (1/ 533)

أردتِ بهذا؟ ولمن فعلتيه (¬1)؟ وعلى أي وجه فعلتيه؟ ويعلم أنه لا بد أن يُنشر لكل حركة وكلمة منه ديوانان: ديوان لمن فعلته؟ وديوان: كيف فعلته؟ فالأول: سؤال عن الإخلاص، والثاني: سؤال عن المتابعة، قال تعالي: {فَوَرَبِّكَ لَنَسْأَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ (92) عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [الحجر: 92، 93]، وقال تعالى: {فَلَنَسْأَلَنَّ الَّذِينَ أُرْسِلَ إِلَيْهِمْ وَلَنَسْأَلَنَّ الْمُرْسَلِينَ (6) فَلَنَقُصَّنَّ عَلَيْهِمْ بِعِلْمٍ وَمَا كُنَّا غَائِبِينَ} [الأعراف: 6، 7] وقال تعالى: {لِيَسْأَلَ الصَّادِقِينَ عَنْ صِدْقِهِمْ} [الأحزاب: 8] فإذا سُئل الصادقون وحوسبوا على صدقهم فما الظن بالكاذبين؟ قال مقاتل (¬2): "يقول تعالي: أخذنا ميثاقهم؛ لكي يسأل الله الصادقين -يعني به النبيين- عن تبليغ الرسالة". وقال مجاهد: "يسأل المبلِّغين المؤدِّين عن الرسل" (¬3)، يعني: هل بلَّغوا عنهم كما يسأل الرسلَ: هل بلَّغوا عن الله؟ والتحقيق: [26 أ]، أن الآية تتناول هذا وهذا، فالصادقون هم الرسل والمبلغون عنهم، فيسأل الرسل عن تبليغ رسالاته، ويسأل المبلِّغين عنهم عن تبليغ ما بلَّغتهم الرسل، ثمَّ يسأل الذين بَلَغتهم الرسالة: ماذا أجابوا المرسلين؟ كما قال تعالي: {وَيَوْمَ يُنَادِيهِمْ فَيَقُولُ مَاذَا أَجَبْتُمُ الْمُرْسَلِينَ} [القصص: 65]. ¬

_ (¬1) كذا في الأصل، وفي بعض النسخ: "فعلته". (¬2) تفسيره (3/ 36). (¬3) رواه ابن جرير في تفسيره (20/ 214) من طرق عن مجاهد، وعزاه في الدر المنثور (6/ 568) للفريابي وابن المنذر وابن أبي حاتم.

معنى قوله تعالى: {ثم لتسألن يومئذ عن النعيم}

قال قتادة: كلمتان يُسأل عنهما الأولون والآخرون: ماذا كنتم تعبدون؟ وماذا أجبتم المرسلين؟ فيُسأل عن المعبود وعن العبادة (¬1). وقال تعالي: {ثُمَّ لَتُسْئَلُنَّ يَوْمَئِذٍ عَنِ النَّعِيمِ} [التكاثر: 8]. قال محمد بن جرير: "يقول تعالى: ثم ليسألنكم الله عز وجل عن النعيم الذي كنتم فيه في الدنيا: ماذا عملتم فيه؟ ومن أين وصلتم إليه؟ وفيمَ أصبتموه؟ وماذا عملتم به؟ " (¬2). وقال قتادة: "إن الله سائل كل عبد عما استودعه من نعمته وحقه" (¬3). والنعيم المسؤول عنه نوعان: نوع أُخذ من حِلِّه وصُرف في حقه، فيُسأل عن شُكره. ونوع أُخذ بغير حِلِّه، وصُرف في غير حقه، فيُسأل عن مُسْتخرجه ومصرفه. فإذا كان العبد مسؤولاً، ومحاسباً على كل شيء، حتى على سمعه وبصره وقلبه، كما قال تعالي: {إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولاً} [الإسراء: 36] فهو حقيق أن يحاسب نفسه قبل أن يُناقش الحساب. ¬

_ (¬1) ذكره ابن تيمية كما في المجموع (15/ 105)، وابن القيم في طريق الهجرتين (ص 443)، وفي مدارج السالكين (1/ 341) من كلام أبي العالية، ولم أقف عليه. (¬2) انظر تفسيره (24/ 586). (¬3) رواه ابن جرير في تفسيره (24/ 586) من طريق سعيد ومعمر -فرَّقهما- عن قتادة، وعزاه في الدر المنثور (8/ 612) لعبد الرزاق وعبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم.

فصل: ما في محاسبة النفس من المصالح

وقد دلَّ على وجوب محاسبة النفس قوله تعالي: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ لِغَد} [الحشر: 18]، يقول تعالي: لينظر أحدكم ما قدم ليوم القيامة من الأعمال: من الصالحات التي تُنجِيه، أم من السيئات التي تُوبِقه؟ قال قتادة: "ما زال ربُّكم يُقرِّب الساعة حتى جعلها كغدٍ" (¬1). والمقصود أن صلاح القلب بمحاسبة النفس، وفساده بإهمالها والاسترسال معها. فصل وفي محاسبة النفس عدة مصالح: منها: الاطلاع على عيوبها، ومن لم يطلع على عيب نفسه لم يمكنه إزالته، فإذا اطلع على عيبها مَقَتها في ذات الله. وقد روى الإمام أحمد عن أبي الدرداء، قال: "لا يفقه الرجل كلَّ الفقه حتى يَمقُت الناسَ في جنب الله، ثم يرجع إلى نفسه؛ فيكون لها أشدَّ مقتاً" (¬2). ¬

_ (¬1) رواه ابن جرير في تفسيره (23/ 299). (¬2) الزهد لأحمد (ص 134)، ورواه أيضاً عبد الرزاق (11/ 255)، وابن أبي شيبة (7/ 110)، وأبو داود في الزهد (ص 228)، وابن أبي الدنيا في محاسبة النفس (23)، وابن جرير في تفسيره (1/ 8)، وابن عساكر في تاريخ دمشق (47/ 172 - 173)، من طرق عن أيوب عن أبي قلابة عنه، ورواه أبو نعيم في الحلية (1/ 211) من طريق أحمد، والبيهقي في الأسماء والصفات (619) وابن عبد البر في جامع بيان العلم (792) من طريق عبد الرزاق، قال ابن حجر في الفتح (13/ 383): "رجاله ثقات إلا إنه منقطع".

وقال مُطَرِّف بن عبد الله: "لولا ما أعلم من نفسي لقَليتُ الناس" (¬1). وقال مُطرِّفٌ في دعائه بعرفة: "اللهم لا تَرُدَّ الناس لأجلي" (¬2). وقال بكرُ بن عبد الله المُزني: "لما نظرت إلى أهل عرفات ظننت أنهم قد غُفِر لهم، لولا أني كنت فيهم" (¬3). وقال أيوب السختياني: "إذا ذُكر الصالحون كنتُ عنهم بمعْزِل" (¬4). ولما احتُضِر سفيان الثوري دخل عليه أبو الأشهب وحماد بن سلمة، فقال له حماد: يا أبا عبد الله" أليس قد أمنت مما (¬5) كنت تخافه؟ وتقدمُ على مَنْ ترجوه، وهو أرحم الراحمين؟ فقال: يا أبا سلمة! أتطمع لمثلي أن ينجو من النار؟ قال: إي والله، إني لأرجو ذلك (¬6). ¬

_ (¬1) رواه ابن سعد في الطبقات (7/ 144)، وأبو نعيم في الحلية (2/ 210) من طريق مهدي بن ميمون عن غيلان، وابن أبي الدنيا في محاسبة النفس (24) من طريق إسماعيل بن علية عن صالح بن رستم، كلاهما عن مطرف، ولفظه من الطريق الأول: "لو حمدتُ نفسي لقليتُ الناس". (¬2) رواه ابن أبي الدنيا في محاسبة النفس (25) عن رجل من بني نهشل عن مطرف. (¬3) رواه ابن أبي الدنيا في محاسبة النفس (26) من طريق معتمر بن سليمان عن أبيه عن بكر بن عبد الله أو عن رجل، ومن طريق ابن أبي الدنيا رواه البيهقي في الشعب (6/ 302). (¬4) رواه ابن أبي الدنيا في محاسبة النفس (28)، وابن عدي في الكامل (1/ 62)، وأبو نعيم في الحلية (3/ 5 - 6)، والبيهقي في الشعب (6/ 302)، كلهم من طريق وهيب ابن خالد عن أيوب. (¬5) في الأصل: "آمنت بمن". (¬6) رواه ابن أبي الدنيا في محاسبة النفس (30) عن عبد الله بن داود قال: لما حضرت =

وذكر ابن زيد (¬1) عن مسلم بن سعيد الواسطي، قال: أخبرني حمّاد بن جعفر بن زيد، أن أباه أخبره، قال: خرجنا في غزوة إلي كابُل، وفي الجيش صِلة بن أشيَم، فنزل الناس عند العتمة، فصلّوا ثم اضطجع، فقلت: لأرمُقَنّ عمله، فالتمس غفلة الناس، حتى إذا قلت: هدأت العيون، وثب فدخل غيضةً قريباً منا، فدخلتُ على إثره، فتوضأ، ثم قام يصلي، وجاء أسدٌ حتى دنا منه، فصعدت في شجرةٍ، فتراهُ التفت أو عدّهُ جرواً! فلما سجد قلت: الآن يفترسه، فجلس ثم سلم، ثم قال: أيها السبع! اطلب الرزق من مكان آخر، فولىّ وإن له لزئيراً، أقول: تصدّع الجبال منه، قال: فما زال كذلك يصلي؛ حتى [26 ب] كان عند الصبح جلس، فحمد الله بمحامد لم أسمع بمثلها، ثم قال: اللهم إني أسألك أن تجُيرني من النار، ومثلي يجترئ أن يسألك الجنة، قال: ثم رجع وأصبح كأنه بات على الحشايا، وأصبحتُ وبي من الفترة (¬2) شيءٌ الله به عالم (¬3). وقال يونس بن عبيد: "إني لأجد مئة خصلة من خصال الخير؛ ما أعلم أن في نفسي منها واحدةً (¬4). ¬

_ = سفيان الثوري الوفاة قال لرجل: أدخل عليَّ رجلين. . وذكره ابن الجوزي في صفة الصفوة (3/ 151) عن ابن أبجر قال: لما حضرت سفيان الوفاة قال: يا ابن أبجر، قد نزل بي ما ترى فانظر من يحضرني ... وذكر القصة. (¬1) "ابن زيد" ساقطة من م. (¬2) ش: الفزع. (¬3) رواه ابن المبارك في الزهد (863)، ومن طريقه ابن أبي الدنيا في محاسبة النفس (33) والمروزي في تعظيم قدر الصلاة (836) وأبو نعيم في الحلية (2/ 240). (¬4) رواه ابن أبي الدنيا في محاسبة النفس (34) عن محمد بن عمر المقدمي، وأبو نعيم =

وقال محمد بن واسع: "لو كان للذنوب ريح ما قَدَرَ أحد أن يجلس إليّ" (¬1). وذكر ابن أبي الدنيا عن الجَلْدِ بن أيوب، قال: "كان راهب في بني إسرائيل في صومعة منذ ستين سنة، فأُتي في منامه، فقيل له: إن فلاناً الإسكاف خير منك - ليلة بعد ليلة - فأتى الإسكاف، فسأله عن عمله، فقال: إني رجل لا يكاد يمر بي أحد إلا ظننته أنه في الجنة وأنا في النار، ففُضِّل على الراهب بإزرائه على نفسه" (¬2). وذُكر داود الطائي عند بعض الأمراء، فأثنوا عليه، فقال: "لو يعلم الناس بعض ما نحن عليه ما ذلّ لنا لسانٌ بذكر خير أبداً" (¬3). وقال أبو حفص: من لم يَتَّهِمْ نفسه على دوام الأوقات، ولم يخالفها في ¬

_ = في الحلية (3/ 18) من طريق أحمد بن إبراهيم الدورقي، كلاهما عن سعيد بن عامر قال: بلغني عن يونس بن عبيد. . . ورواه المزي في تهذيب الكمال (32/ 524) من طريق أبي نعيم. وذكره ابن الجوزي في صفة الصفوة (3/ 307) عن بشر بن الحارث عن يونس بن عبيد. (¬1) ذكره أحمد في الورع (ص 152)، ورواه ابن أبي الدنيا في محاسبة النفس (37) عن إسماعيل بن علية قال: بلغني عن محمد بن واسع، ورواه أبو نعيم في الحلية (2/ 349) عن ابن علية عن يونس عن محمد بن واسع، ورواه الدينوري في المجالسة (157) من طريق عمارة بن زاذان، وابن عساكر في تاريخ دمشق (56/ 158) من طريق سفيان، كلاهما عن محمد بن واسع. (¬2) محاسبة النفس (41)، وقد اختصر المؤلف سياقه. (¬3) رواه ابن أبي الدنيا في محاسبة النفس (42)، ومن طريقه أبو نعيم في الحلية (7/ 359).

جميع الأحوال، ولم يجرَّها إلى مكروهها في سائر أوقاته، كان مغروراً، ومن نظر إليها باستحسان شيء منها فقد أهلكها" (¬1). فالنفس داعية إلى المهالك، مُعينةٌ للأعداء، طامحة إلى كل قبيح، متَّبعة لكل سوء؛ فهي تجري بطبعها في ميدان المخالفة. فالنعمة التي لا خَطَر لها: الخروج منها، والتخلصُ من رِقِّها، فإنها أعظم حجاب بين العبد وبين الله، وأعرفُ الناس بها أشدُّهم إزراءً عليها، ومقتاً لها. قال ابن أبي حاتم في "تفسيره" (¬2): حدثنا علي بن الحسن (¬3)، حدثنا المُقَدَّمي، حدثنا عامر بن صالح عن أبيه، عن ابن عمر أن عمر بن الخطاب قال: اللهم اغفر لي ظلمي وكفري، فقال قائل: يا أمير المؤمنين! هذا الظلم، فما بال الكفر؟ قال: {إِنَّ الْإِنْسَانَ لَظَلُومٌ كَفَّارٌ}. قال: وحدثنا يونس بن حبيب، حدثنا أبو داود، عن الصلت بن دينار، حدثنا بقية بن صُهبان (¬4) الهُنائي، قال: سألت عائشة عن قول الله عز وجل: {ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ} الآية [فاطر: 32] فقالت: يا بني! هؤلاء في الجنة، أما السابق بالخيرات فمن مضى ¬

_ (¬1) انظر: الرسالة القشيرية (ص 189)، وأبو حفص هذا هو عمرو وقيل: عمر بن سلمة النيسابوي، له ترجمته في طبقات الصوفية (ص 103 - 159)، وحلية الأولياء (10/ 229 - 230). (¬2) عزاه إليه في الدر المنثور (5/ 45). (¬3) ح: "الحسين" (¬4) ح: "نبهاني".

على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، شهد له رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بالجنة والرزق، وأما المقتصد فمن تبع أثره من أصحابه حتى لحق به، وأما الظالم لنفسه فمثلي ومثلكم"؛ فجعلت نفسها معنا (¬1). وقال الإمام أحمد: حدثنا حجاج، حدثنا شَرِيكٌ، عن عاصم، عن أبي وائل عن مسروق، قال: دخل عبد الرحمن على أم سلمة، فقالت: سمعت النبي - صلى الله عليه وسلم - يقول: "إِنَّ مِنْ أصْحابي لمَنْ لا يَرَانِى بَعْدَ أَنْ أَمُوتَ أَبداً"، فخرج عبد الرّحمن من عندها مذعوراً، حتّى دخل على عمر، فقال له: اسمع ما تقول أمّك! فقام عمر حتّى أتاها؛ فدخل عليها فسألها ثمّ قال: أنشدك بالله، أمنهم أنا؟ قالت: لا، ولن أبرّئ بعدك أحدًا (¬2). ¬

_ (¬1) هو في مسند أبي داود الطيالسي (1489)، ورواه أيضاً الطبراني في الأوسط (6094) والثعلبي في الكشف والبيان (8/ 109) من طريق الصلت، وعزاه في الدر المنثور (7/ 24) لعبد بن حميد وابن مردويه، وصححه الحاكم (3593)، وتعقبه الذهبي بقوله: " الصلت قال النسائي: ليس بثقة، وقال أحمد: ليس بالقوي"، وقال الهيثمي في "المجمع (7/ 216): "فيه الصلت بن دينار وهو متروك" وضعفه البوصيري في إتحاف الخيرة (6/ 258)، وهو في السلسلة الضعيفة (3235). (¬2) مسند أحمد (6/ 312)، ورواه أحمد أيضاً (6/ 298) عن أسود بن عامر، والطبراني في الكبير (23/ 317) من طريق أبي نعيم، كلاهما عن شريك به. ورواه الطبراني (23/ 318) من طريق عمرو بن أبي قيس وإسرائيل - فرَّقهما - عن عاصم به. ورواه ابن راهويه في مسنده (1913)، وأحمد (6/ 290، 307، 317)، والبرقي في مسند عبد الرحمن بن عوف (46)، وأبو يعلى (7003)، والطبراني في الكبير (23/ 319) من طرق عن الأعمش عن أبي وائل عن أم سلمة، قال الهيثمي في المجمع (9/ 72): "رواه البزار ورجاله رجال الصحيح"، وهو في السلسلة الصحيحة (2982).

مقت النفس في ذات الله من صفات الصديقين

فسمعت شيخنا يقول: إنما أرادت أني لا أفتح عليَّ هذا الباب، ولم تُرِدْ أنك وحدك البريء من ذلك دون سائر الصحابة. ومَقْتُ النفس في ذات الله من صفات الصدِّيقين، ويدنو العبد به من الله سبحانه في لحظة واحدة أضعافَ أضعافِ ما يدنو بالعمل. ذكر ابن أبي الدنيا عن مالك بن دينار، قال: "إن قوماً من بني إسرائيل كانوا في مسجد لهم في يوم عيد، فجاء شاب حتى قام على باب المسجد، فقال: ليس مثلي يدخل معكم، أنا صاحب كذا، أنا صاحب كذا؛ يزري على نفسه، فأوحى الله إلى نبيهم أنّ فلاناً صدِّيق" (¬1). وقال الإمام أحمد: حدثنا محمد بن الحسن بن أَتَش، حدثنا منذر، عن وهب: "أن رجلاً سائحاً عبَدَ الله عز وجل سبعين سنة، ثم خرج يوماً، فقلَّلَ عمله، وشكا إلى الله منه، واعترف بذنبه، فأتاه آتٍ من الله فقال: إن مجلسك هذا أحب إليّ من عملك فيما مضى من عمرك" (¬2). ¬

_ (¬1) هو في محاسبة النفس (31) عن إسماعيل بن إبراهيم عن عامر بن يساف عن مالك ابن دينار، ورواه من طريقه ابن الجوزي في ذم الهوى (ص 44)، ورواه أحمد في الزهد (ص 100) عن غسان بن الربيع عن عامر به نحوه. وورد من كلام كعب الأحبار، فرواه ابن المبارك في الزهد (478)، وأبو داود في الزهد (10) عن عبد العزيز بن عبد الصمد، وأبو نعيم في الحلية (5/ 378)، والبيهقي في الشعب (5/ 431) من طريق جعفر بن سليمان، كلاهما عن مالك بن دينارعن معبد الجهني عن أبي العوام عن كعب الأحبار قولَه. (¬2) الزهد لأحمد (ص 53)، ورواه أبو داود في الزهد (15) عن محمد بن رافع النيسابوري عن محمد بن الحسن به.

قال أحمد: وحدثنا عبد الصمد، حدثنا أبو هلال، حدثنا قتادة، قال: قال عيسى ابن مريم: "سلوني، فإني ليِّن القلب، صغير عند نفسي" (¬1). وذكر أحمد أيضاً عن عبد الله بن رباح الأنصاري، قال: "كان داود ينظر أَغمص حلقةٍ في بني إسرائيل، فيجلس بين ظهرانيهم، ثم يقول: يا ربِّ! مسكين بين ظهراني مساكين" (¬2). وذُكر عن عمران بن مُسْلِم القصير، قال: قال موسى: "يا رب! أين أبغيك! قال: ابْغِني عند المنكسرة قلوبهُم؛ فإني أدنو منهم كل يوم باعاً، ولولا ذلك انهدموا" (¬3). وفي كتاب "الزهد" للإمام أحمد: "أن رجلاً من بني إسرائيل تعبَّد ستين سنة في طلب حاجة، فلم يظفر بها، فقال في نفسه: والله لو كان فيكَ خير لظفرتَ بحاجتك، فأُتي في منامه، فقيل له: أرأيت إزراءك على نفسِك تلك الساعة؟ فإنه خير من عبادتك تلك السنين" (¬4). ¬

_ (¬1) الزهد لأحمد (ص 59)، ورواه أيضاً (ص 58) عن الحسن بن موسى عن أبي هلال به، ورواه ابن جرير في تفسيره (18/ 192) عن بشر عن يزيد، والثعلبي في الكشف والبيان (6/ 215) من طريق روح بن عبادة، كلاهما عن سعيد عن قتادة به. (¬2) لم أقف عليه من هذه الطريق، والذي في الزهد لأحمد (ص 73) عن يزيد بن هارون عن الجريري عن أبي السليل قال: كان داود النبي عليه السلام. . . وكذا ذكر إسناده ابن القيم في عدة الصابرين (ص 147). (¬3) رواه عبد الله في زوائد الزهد (ص 75)، وأبو نعيم في الحلية (6/ 177) عن سيار عن جعفر عن عمران القصير به. (¬4) الزهد لأحمد (ص 97، 374 - 375)، ورواه أيضاً ابن أبي الدنيا في محاسبة النفس (60)، والخرائطي في اعتلال القلوب (38)، كلّهم من طريق عبد الحميد صاحب =

من فوائد محاسبة النفس: معرفة حق الله تعالى على عباده

ومن فوائد محاسبة النفس: أنه يعرف بذلك حق الله عليه. ومن لم يعرف حق الله عليه فإن عبادته لا تكاد تُجدي عليه، وهي قليلة المنفعة جدًّا. وقد قال الإمام أحمد: حدثنا حجاج، حدثنا جرير بن حازم، عن وهب، قال: "بلغني أن نبي الله موسى - صلى الله عليه وسلم - مرَّ برجل يدعو ويتضرع، فقال: يا رب! ارحمه فإني قد رحمته، فأوحى الله إليه: لو دعاني حتى ينقطع قواه ما استجبتُ له حتى ينظر في حقِّي عليه" (¬1). فمِن أنفع ما للقلب: النظر في حق الله على العبد؛ فإن ذلك يُورِثه مقتَ نفسِه، والإزراء عليها، ويخُلِّصه من العُجب ورؤية العمل، ويفتح له باب الخضوع والذل والانكسار بين يدي ربه، واليأس (¬2) من نفسه، وأن النجاة لا تحصل له إلا بعفو الله ومغفرته ورحمته؛ فإن من حقه أن يُطاع ولا يُعصى، وأن يُذكر فلا يُنسى، وأن يُشكر فلا يُكفر. فمَن نظر في هذا الحق الذي لربه عليه عَلِم عِلْمَ اليقين أنه غير مؤدٍّ له كما ينبغي، وأنه لا يسعه إلا العفو والمغفرة، وأنه إن أُحيل على عمله هلك. فهذا محل نظر أهل المعرفة بالله وبنفوسهم، وهذا الذي أيأسَهم من أنفسهم، وعلَّق رجاءهم كله بعفو الله ورحمته. وإذا تأمَّلت حال أكثر الناس وجدتهم بضد ذلك، ينظرون في حقهم ¬

_ = الزيادي عن وهب بن منبه نحوه، ومن طريق ابن أبي الدنيا رواه ابن الجوزي في ذم الهوى (ص 46)، ورواه البيهقي في الشعب (5/ 433) من طريق عبد الحميد صاحب الزيادي عن ابن أخت وهب بن منبه عن وهب. (¬1) الزهد لأحمد (ص 88). (¬2) م: "التأسي" تحريف.

على الله، ولا ينظرون في حق الله عليهم، ومن ها هنا انقطعوا عن الله، وحُجبت قلوبهم عن معرفته ومحبته، والشوق إلي لقائه، والتنعم بذكره، وهذا غاية جهل الإنسان بربه وبنفسه. فمحاسبة النفس هو نظر العبد في حق الله عليه أولاً، ثم نظره هل قام به كما ينبغي ثانياً؟ وأفضل الفكر الفكرُ في ذلك؛ فإنه يسيِّر القلب إلى الله، ويطرحه بين يديه ذليلاً خاضعاً، منكسراً كَسْراً فيه جَبْرُهُ، ومفتقراً فقراً فيه غناه، وذليلاً ذلَّاً فيه عِزُّه، ولو عمل من الأعمال ما عساه أن يعمل، فإذا فاته هذا فالذي فاته من البر أفضل من الذي أتى به. وقال الإمام أحمد: حدثنا ابن القاسم: حدثنا صالح المُرِّيُّ، عن أبي عمران (¬1) الجَوْني، عن أبي الجَلد: أن الله تعالي أوحى إلي موسى: "إذا ذكرتني فاذكرني وأنت تنتفض أعضاؤك، وكن عند ذكري خاشعاً مطمئنًّا, وإذا ذكرتني فاجعل لسانك من وراء قلبك، وإذا قمت بين يديّ فقم مقام العبد الحقير الذليل، وذُمَّ [27 ب] نفسك فهي أولى بالذم، وناجِني حين تناجيني بقلب وَجِلٍ ولسان صادق" (¬2). ¬

_ (¬1) ح: "ابن أبي عمران". (¬2) الزهد لأحمد (ص 67)، ومن طريقه ابن عساكر في تاريخ دمشق (61/ 148)، ورواه أحمد أيضًا (ص 86 - 87) عن يزيد بن هارون عن صالح به، ورواه أبو نعيم في الحلية (6/ 55) من طريق أحمد عن يزيد وهاشم بن القاسم عن صالح به. ورواه الدينوري في المجالسة (2224) عن إبراهيم بن حبيب عن داود بن رشيد قال: بلغني عن أبي عمران الجوني أنه قال: أوحى الله تبارك وتعالي إلي موسى. . . وذكره بنحوه، ومن طريق الدينوري رواه ابن عساكر في تاريخ دمشق (61/ 147).

فوائد نظر العبد في حق الله عليه

ومن فوائد نظر العبد في حق الله عليه: أنه لا يتركه ذلك يُدِلُّ بعمل أصلاً، كائناً ما كان، ومَنْ أدلّ بعمله لم يصعد إلى الله، كما ذكر الإمام أحمد عن بعض أهل العلم بالله، أنه قال له رجل: إني لأقوم في صلاتي؛ فأبكي حتى يكاد ينبت البَقْل من دموعي، فقال له: إنك إن تضحك وأنت تعترف لله بخطيئتك، خيرٌ من أن تبكي وأنت تُدِلُّ بعملك؛ فإن صلاة المُدلِّ لا تصعد فوقه، فقال له: أوصني، قال: عليك بالزهد في الدنيا، وأن لا تنازعها أهلَها، وأن تكون كالنّحلة، إن أكلت أكلت طيبا، وإن وضعت وضعت طيباً، وإن وقعت على عود لم تضرَّه ولم تكسره، وأوصيك بالنصح لله عز وجل نُصْح الكلب لأهله؛ فإنهم يجُيعونه ويطردونه؛ ويأبى إلا أن يحوطَهم وينصحهم" (¬1). ومن ها هنا أخذ الشاطبي قوله: وَقَدْ قِيلَ كُنْ كالكَلْبِ يُقْصِيهِ أَهْلُهُ ... وَلا يَأْتلِي في نُصْحِهِمْ مُتبَذِّلَا (¬2) وقال الإمام أحمد: حدثنا سيّار، حدثنا جعفر، حدثنا الجريرى، قال: "بلغني أن رجلاً من بني إسرائيل كانت له إلى الله تعالى حاجة، فتعبد ¬

_ (¬1) الزهد لأحمد (ص 79) من طريق سفيان عن رجل من أهل صنعاء عن وهب بن منبه، ورواه أيضًا ابن أبي شيبة في المصنف (7/ 183)، وهناد في الزهد (459)، والدينوري في المجالسة (2012) من نفس الطريق. ورواه أبو نعيم في الحلية (4/ 28، 43 - 44) من طريق جعفر بن سليمان عن عمر بن عبد الرحمن الصنعاني عن وهب، ومن طريق أشرس عن أبي عبد الرحمن عن وهب، ورواه في موضع ثالث (7/ 55) من طريق يحيى عن الفريابي عن سفيان قوله. (¬2) انظر: حرز الأماني المعروف بالشاطبية (ص 15) ط. دار الكتاب النفيس.

واجتهد، ثم طلب إلى الله حاجته، فلم ير نجاحاً، فبات ليلةً مُزرياً على نفسه، وقال: يا نفس! مالك لا تُقضَى حاجتك؟ فبات محزوناً قد أزرى على نفسه، وألزم الملامةَ نفسه، فقال: أما والله ما من قِبَل ربي أُتِيتُ، ولكن من قِبَل نفسي أُتيتُ، فبات ليلةً مزرياً على نفسها، وألزم الملامة نفسه، فقُضيت حاجته" (¬1). ¬

_ (¬1) لم أقف عليه.

الباب الثاني عشر: في علاج مرض القلب بالشيطان

الباب الثاني عشر في علاج مرض القلب بالشيطان هذا الباب من أهم أبواب الكتاب وأعظمها نفعاً، والمتأخرون من أرباب السلوك لم يعتنوا به اعتناءهم بذكر النفس وعيوبها وآفاتها؛ فإنهم توسعوا في ذلك، وقصَّروا في هذا الباب. ومن تأمل القرآن والسنة وجد اعتناءهما بذكر الشيطان وكيده ومحاربته أكثر من ذكر النفس؛ فإن النفس المذمومة ذُكرت في قوله: {إِنَّ النَّفْسَ لَأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ} [يوسف: 53]، واللوامة في قوله: {وَلَا أُقْسِمُ بِالنَّفْسِ اللَّوَّامَةِ} [القيامة: 2]، وذُكرت النفس المذمومة في قوله: {وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى} [النازعات: 40]، وأما الشيطان فذُكر في عدة مواضع، وأُفردت له سورة تامة (¬1)، فتحذير الرب تعالي لعباده منه جاء أكثر من تحذيره من النفس، وهذا هو الذي لا ينبغي غيره؛ فإن شر النفس وفسادها ينشأ من وسوسته، فهي مركَبُه، وموضع سِرّه، ومحلّ طاعته، وقد أمر الله سبحانه بالاستعاذة منه عند قراءة القرآن وغير ذلك، وهذا لشدة الحاجة إلى التعوذ منه، ولم يأمر بالاستعاذة من النفس في موضع واحد، وإنما جاءت الاستعاذة من شرها في خطبة الحاجة في قوله: "ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا" (¬2)، كما تقدم ذلك في الباب الذي قبله. ¬

_ (¬1) هي سورة الناس. (¬2) تقدم تخريجه.

فصل: الاستعاذة بالله من الشيطان ومعناها وفوائدها

وقد جمع النبي - صلى الله عليه وسلم - بين الاستعاذة من الأمرين؛ في الحديث الذي رواه الترمذي وصححه، عن أبي هريرة: أن أبا بكر الصديق رضي الله عنه قال: يا رسول الله! - صلى الله عليه وسلم - علِّمني شيئاً أقوله إذا أصبحت وإذا أمسيتُ؟ قال: "قل: اللهم عالِمَ الغيب والشهادة! فاطر السماوات والأرض! ربَّ كل شيء ومليكَه! أشهد أن لا إله إلا أنت؛ أعوذ بك من شر نفسي، ومن شر الشيطان وشِرْكه، وأن أقترف على نفسي سوءاً، أو أجُرّه إلى مسلم. قله إذا أصبحت، وإذا أمسيت، وإذا أخذت مضجعك" (¬1). فقد تضمن هذا الحديث الشريف الاستعاذة من الشر وأسبابه وغايته: فإن الشر كله إما أن يصدر من النفس أو من الشيطان، وغايته: إما أن تعود على العامل، أو على أخيه المسلم، فتضمن الحديث مصدري الشر اللذين يصدر عنهما، وغايتيه اللتين يصل إليهما. فصل قال تعالي: {فَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ (98) إِنَّهُ لَيْسَ لَهُ سُلْطَانٌ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ (99) إِنَّمَا سُلْطَانُهُ ¬

_ (¬1) سنن الترمذي (3392)، وليس فيه قوله: "وأن أقترف على نفسي سوءاً أو أجره إلى مسلم "، ورواه أيضًا الطيالسي (9، 2582)، وابن أبي شيبة (5/ 322، 6/ 34)، وأحمد (1/ 9، 10، 2/ 297)، والدارمي (2689)، والبخاري في الأدب المفرد (1202، 1203)، وأبو داود (5067)، والنسائي في الكبرى (7715، 9839، 10631)، وأبو يعلى (77)، وغيرهم، وصححه ابن حبَّان (962)، والحاكم (1892)، والنووي في الأذكار (212، 274)، وابن دقيق العيد في الاقتراح (ص 128)، وابن القيم في الزاد (2/ 332)، وابن حجر في نتائج الأفكار (2/ 363)، وهو في السلسلة الصحيحة (2753).

ما في أمره سبحانه بالاستعاذة به من الشيطان عند قراءة القرآن من الحكم والفوائد

عَلَى الَّذِينَ يَتَوَلَّوْنَهُ وَالَّذِينَ هُمْ بِهِ مُشْرِكُونَ} [النحل: 98 - 10] ومعنى اسْتَعِذْ بِالله: امتنع به، واعتصم به، والجأ إليه، ومصدره: العَوْذ، والْعِياذ، والمَعَاذ؛ وغالِب استعماله في المستعاذ به، ومنه قول النبي - صلى الله عليه وسلم -: "لقد عذتِ بِمَعاذ" (¬1). وأصل اللفظة من اللَّجأ إلي الشيء والاقتراب منه، ومن كلام العرب: "أطيبُ اللحم عُوَّذُه"؛ أي الذي قد عاذ بالعظم واتصل به، و"ناقة عائذ": يعوذ بها ولدها، وجمعها عُوذ كحُمْر. ومنه في حديث الحُديبية: "معهم العُوذ المطافيل" (¬2)؛ والمطافيل: جمع مُطْفِلٍ، وهي الناقة التي معها فصيلها. قالت طائفةٌ - منهم صاحب "جامع الأصول" (¬3) -: استعار ذلك للناس؛ أي معهم النساء وأطفالهن. ولا حاجة إلي ذلك، بل اللفظ على حقيقته، أي قد خرجوا إليك بدوابِّهم ومراكبهم، حتى أخرجوا معهم النوق التي معها أولادها. فأمر سبحانه بالاستعاذة به من الشيطان عند قراءة القرآن. وفي ذلك وجوه: منها: أن القرآن شفاء لما في الصدور، مُذهِبٌ لما يلقيه الشيطان فيها من الوساوس والشهوات والإرادات الفاسدة، فهو دواء لما أَثَّره فيها الشيطان، ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري (5254) من حديث عائشة. (¬2) أخرجه البخاري (2731، 2732) من حديث المسور بن مخرمة ومروان. (¬3) أنظر (8/ 303) منه.

فأمر أن يطرُدَ مادة الداء، ويُخلِي منه القلب، ليصادف الدواء محلًّا خالياً، فيتمكّن منه، ويؤثِّر فيه، كما قيل: أَتَانِى هَوَاهَا قَبْلَ أَنْ أَعْرِفَ الهَوَى ... فَصادَفَ قَلْباً خَالِياً فتمَكّنَا (¬1) فيجيء هذا الدواء الشافي إلى القلب قد خلا من مزاحمٍ ومُضادٍّ له، فينجع فيه. ومنها: أن القرآن مادة الهدى والعلم والخير في القلب، كما أن الماء مادة النبات، والشيطان نارٌ يحرق النبات أولاً فأولاً، فكلما أحسَّ بنبات الخير في القلب سعى في إفساده وإحراقه، فأُمر أن يستعيذ بالله منه؛ لئلا يُفسِد عليه ما يحصل له بالقرآن. والفرق بين هذا الوجه والوجه الذي قبله: أن الاستعاذة في الوجه الأول لأجل حصول فائدة القرآن، وفي الوجه الثاني لأجل بقائها وحفظها وثباتها. وكأنَّ من قال: إن الاستعاذة بعد القراءة؛ لَحَظَ هذا المعنى، وهو لعَمْر الله (¬2) مَلْحَظ جيد؛ إلا أن السنة وآثار الصحابة إنما جاءت بالاستعاذة قبل الشروع في القراءة، وهو قول جمهور الأمة من السلف والخلف، وهي محصّلة للأمرين. ومنها: أن الملائكة تدنو من قارئ القرآن، وتستمع لقراءته، كما في حديث أُسيد بن حُضَير لما كان يقرأ، ورأى مثلَ الظُّلة فيها مثل المصابيح، ¬

_ (¬1) البيت للمجنون في ديوانه (ص 219)، وينسب لغيره. انظر: روضة المحبين (ص 144، 212). (¬2) م: "نعم والله".

فقال عليه النبي - صلى الله عليه وسلم -: "تلك الملائكة" (¬1) والشيطان ضد الملَك وعدوُّه، فأُمر القارئ أن يطلب من الله مباعدة عدوه عنه حتى تحضره خاصتُه وملائكته، فهذه وليمة لا تجتمع فيها الملائكة والشياطين. ومنها: أن الشيطان يُجْلِب على القارئ بخيله ورَجله، حتى يَشْغَله عن المقصود بالقرآن، وهو تدبره وتفهمه ومعرفة ما أراد به المتكلم به سبحانه، فيحرص بجهده على أن يحول بين قلبه وبين مقصود القرآن؛ فلا يكمل انتفاع القارئ به، فأُمر عند الشروع أن يستعيذ [28 ب] بالله منه. ومنها: أن القارئ مناجٍ لله بكلامه، والله تعالي أشد أَذَنًا للقارئ الحسن الصوت بالقرآن من صاحب القَيْنة إلى قينته (¬2)، والشيطان إنما قراءته الشعر والغناء، فأُمر القارئ أن يطرده بالاستعاذة عند مناجاته لله، واستماع الربِّ قراءتَهُ. ومنها: أن الله سبحانه أخبر أنه ما أرسل من رسول ولا نبي إلا إذا تمنى ألقى الشيطان في أُمنيته (¬3)، والسلف كلهم على أن المعنى: إذا تلا ألقى الشيطان في تلاوته، كما قال الشاعر في عثمان: تَمنَّى كِتابَ اللهِ أَوَّلَ لَيْلِهِ ... وَآخِرَهُ لاقَى حِمامَ المَقادِرِ (¬4) ¬

_ (¬1) أخرجه مسلم (796) عن أبي سعيد، وذكره البخاري (5018) تعليقاً. (¬2) كما في الحديث الذي أخرجه أحمد (6/ 19، 20)، وابن ماجه (1340)، والحاكم في المستدرك (1/ 571) وصححه، وردَّه الذهبي وقال: بل هو منقطع. انظر: السلسلة الضعيفة (2951). (¬3) كما في سورة الحج: 52 - 54. (¬4) ينسب البيت لحسان بن ثابت في البحر المحيط (6/ 382)، وليس في ديوانه. وهو بلا =

فإذا كان هذا فعله مع الرسل، فكيف بغيرهم؟ ولهذا يُغلِّط القارئ تارة، ويخبط عليه القراءة، ويشوِّشها عليه، فيخبط عليه لسانه، أو يُشوش عليه فهمه وقلبه، فإذا حضر عند القراءة لم يَعدمْ منه القارئ هذا أو هذا، وربما جمعهما له، فكان من أهم الأمور: استعاذة بالله منه عند القراءة. ومنها: أن الشيطان أحرصُ ما يكون على الإنسان عندما يهُمُّ بالخير، أو يدخل فيه، فهو يشتد عليه حينئذٍ ليقطعه عنه، وفي "الصحيح" عنه - صلى الله عليه وسلم -: "إن شيطاناً تَفلَّتَ عليّ البارحة، فأراد أن يقطع عليّ صلاتي" الحديث (¬1). وكلما كان الفعل أنفع للعبد وأحب إلى الله، كان اعتراض الشيطان له أكثر. وفي "مسند الإمام أحمد" من حديث سَبْرة بن أبي الفاكه، أنه سمع النبي - صلى الله عليه وسلم - يقول: "إن الشيطان قعد لابن آدم بأطرُقِه، فقعد له بطريق الإسلام، فقال: أتُسلِم وتَذَرُ دينَك ودينَ آبائك؟ فعصاه فأسلم، ثم قعد له بطريق الهجرة، فقال: أتهاجر وتذَرُ أرضك وسماءك؟ وإنما مثل المهاجر كالفَرَس في الطِّوَل، فعصاه وهاجر، ثم قعد له بطريق الجهاد - وهو جهاد النفس والمال -؛ فقال: تقاتِل فتُقتلُ، فتُنكَحُ المرأة ويُقسم (¬2) المال! " (¬3). ¬

_ = نسبة في كتاب العين (8/ 390)، ومقاييس اللغة (5/ 277)، ولسان العرب (منى). (¬1) أخرجه البخاري (461، 1210، ومواضع أخرى)، ومسلم (541) عن أبي هريرة. (¬2) الأصل: "ويغنم". (¬3) مسند أحمد (3/ 483)، ورواه أيضًا النسائي (3134)، والطبراني في الكبير (7/ 117)، والبيهقي في الشعب (4/ 21)، وصححه ابن حبان (4593)، والعراقي في تخريج الإحياء (2/ 718)، وحسنه ابن حجر في الإصابة (3/ 31) وقال: "إلا أن في إسناده اختلافاً"، وهو في السلسلة الصحيحة (2979).

الاستعاذة للقراءة في الصلاة وغيرها

فالشيطان بالرَّصدِ للإنسان على طريق كل خير. وقال منصور عن مجاهد: "ما من رفقة تخرج إلى مكة إلا جهَّز معهم إبليس مثل عدتهم". رواه ابن أبي حاتم في "تفسيره" (¬1). فهو بالرَّصد، ولا سيما عند قراءة القرآن، فأمر سبحانه العبد أن يحارب عدُوَّه الذي يقطع عليه الطريق، ويستعيذ بالله منه أولاً، ثم يأخذ في السير، كما أن المسافر إذا عرض له قاطع طريق اشتغل بدفعه، ثم اندفع في سيره. ومنها: أن الاستعاذة قبل القراءة عنوان وإعلام بأن المأتيَّ به بعدها القرآن، ولهذا لم تُشرَع الاستعاذة بين يدي كلام غيره، بل الاستعاذة مقدمة وتنبيه للسامع أن الذي يأتي بعدها هو التلاوة، فإذا سمع السامع الاستعاذة استعدَّ لاستماع كلام الله، ثم شُرع ذلك للقارئ وإن كان وحده (¬2)؛ لما ذكرنا من الحكم وغيرها. فهذه بعض فوائد الاستعاذة. وقد قال أحمد في رواية حنبل: "لا يقرأ في صلاة ولا غير صلاة إلا استعاذ؛ لقوله عز وجل: {فَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ} [النحل: 98] " وقال في رواية ابن مُشَيْشٍ: "كلما قرأ يستعيذ". وقال عبد الله بن أحمد: سمعت أبي إذا قرأ استعاذ، يقول: "أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، إن الله هو السميع العليم". ¬

_ (¬1) لم يعزه في الدر المنثور (3/ 426) إلا لابن المنذر. (¬2) م: "بعده".

وفي "المسند" والترمذي من حديث أبي سعيد الخدري، قال: كان النبي - صلى الله عليه وسلم - إذا قام إلي الصلاة استفتح، ثم يقول: "أعوذ بالله السميع العليم من الشيطان الرجيم من هَمْزِهِ ونَفْخِهِ ونَفْثِهِ" (¬1). وقال ابن المنذر: جاء عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه كان يقول قبل القراءة: [29 أ] "أعوذ بالله من الشيطان الرجيم". واختار الشافعي، وأبو حنيفة، والقاضي في "الجامع" أنه يقول: "أعوذ بالله من الشيطان الرجيم". وهو روايةٌ عن أحمد؛ لظاهر الآية، وحديث ابن المنذر. وعن أحمد من رواية عبد الله: "أعوذ بالله السميع العليم من الشيطان الرجيم"؛ لحديث أبي سعيد. وهو مذهب الحسن، وابن سيرين. ¬

_ (¬1) مسند أحمد (3/ 50)، سنن الترمذي (242)، ورواه أيضًا الدارمي (1239)، وأبو داود (775)، والنسائي (899، 900)، وابن ماجه (804)، وليس عندهما ذكر الاستعاذة، وأبو يعلى (1108)، وابن خزيمة (467)، والطحاوي في شرح معاني الآثار (1073، 1074)، والدارقطني (1/ 298)، والبيهقي في الكبرى (2/ 34، 35)، كلهم من طريق جعفر بن سليمان عن علي بن علي الرفاعي عن أبي المتوكل الناجي عن أبي سعيد رضي الله عنه، وأعلّ بالإرسال فقال أبو داود: "وهذا الحديث يقولون: هو عن علي بن عليّ عن الحسن مرسلاً، الوهم من جعفر"، وقال الترمذي: "تُكلِّم في إسناده، كان يحيى بن سعيد يتكلم في علي بن عليّ الرفاعي، وقال أحمد: لا يصح هذا الحديث"، وذكره ابن الجوزي في علله (1/ 417)، وضعفه النووي في المجموع (3/ 320)، وحسنه ابن حجر في نتائج الأفكار (1/ 417)، والألباني في الإرواء (2/ 51 - 52). وفي الباب عن عمر وجبير بن مطعم وابن مسعود وأبي أمامة وعن أبي سلمة مرسلاً.

ويدلُّ عليه ما رواه أبو داود في قصة الإفك: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - جلس، وكشف عن وجهه وقال: "أعوذ بالله السميع العليم من الشيطان الرجيم" (¬1). وعن أحمد رواية أخرى أنه يقول: "أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، إن الله هو السميع العليم"، وبه قال سفيان الثوري، ومسلم بن يَسار، واختاره القاضي في "المجرَّد"، وابن عقيل؛ لأن قوله: {فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ} [النحل: 98]، وقوله في الآية الأخرى: {فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ} [فصلت: 36] يقتضي أن يلحق بالاستعاذة وصفه بأنه هو السميع العليم في جملة مستقلة بنفسها؛ مؤكدة بحرف "إنَّ"؛ لأنه سبحانه هكذا ذَكره. وقال إسحاق: الذي أختاره ما ذُكر عن النبي - صلى الله عليه وسلم - "اللهم إني أعوذ بك من الشيطان الرجيم من هَمْزه ونفخه ونَفْثِه". وقد جاء في الحديث تفسير ذلك، قال: "وهمزه: المُوتَة، ونفخه: الكِبْر، ونفثه: الشعر" (¬2). ¬

_ (¬1) سنن أبي داود (785) عن حميد عن الزهري عن عروة عن عائشة، ورواه البيهقي في الكبرى (2/ 43) من طريق أبي داود، قال أبو داود: "هذا حديث منكر، قد روى هذا الحديث جماعة عن الزهري لم يذكروا هذا الكلام على هذا الشرح، وأخاف أن يكون أمر الاستعاذة من كلام حميد"، وهو في ضعيف السنن (167). (¬2) ورد هذا التفسير مرفوعاً من حديث جبير بن مطعم رضي الله عنه عند أحمد (4/ 80) والطبراني في مسند الشاميين (1343)، وعن رجل من جهينة عند ابن منده كما في أسد الغابة (6/ 414)، وعن أبي سلمة مرسلًا عند أحمد (6/ 156)، وعن الحسن =

وقال تعالي: {وَقُلْ رَبِّ أَعُوذُ بِكَ مِنْ هَمَزَاتِ الشَّيَاطِينِ (97) وَأَعُوذُ بِكَ رَبِّ أَنْ يَحْضُرُونِ} [المؤمنون: 97 - 98]، والهَمَزات: جمع هَمْزة كتَمَرات وتَمْرة، وأصل الهمز: الدفع. قال أبو عبيد (¬1) عن الكسائي: هَمَزتُه، ولمَزْتُهُ، ولهَزتُهُ، ونَهزتُه: إذا دفعته. والتحقيق: أنه دفعٌ بنَخْز، وغَمْز يشبه الطعن، فهو دفع خاص، فهمزات الشياطين: دفعهم الوساوس والإغواء إلي القلب. قال ابن عباس والحسن: {هَمَزَاتِ الشَّيَاطِينِ}: نزغاتهم ووساوسهم (¬2). وفُسِّرت همزاتهم بنفخهم ونفثهم، هذا قول مجاهد (¬3). وفُسِّرت بخنقهم؛ وهو الموتة التي تشبه الجنون (¬4). ¬

_ = مرسلاً عند عبد الرزاق (2/ 82). وجاء من كلام ابن مسعود عند عبد الرزاق (2/ 84) والطبراني في الكبير (9/ 262)، ومن كلام عمرو بن مرّة عند أحمد (4/ 85)، وابن ماجه (807)، وأبي يعلى (7398)، وابن الجارود (180)، وابن حبان (1779، 1780، 2601)، والطبراني في الكبير (2/ 134)، والبيهقي في الكبرى (2/ 35)، ومن كلام جعفر بن سليمان عند البيهقي في الكبرى (2/ 34)، ومن كلام عطاء بن السائب عند البيهقي أيضًا (2/ 36)، ومن كلام حصين بن عبد الرحمن عند أحمد (4/ 82)، ومن كلام مطر عند الدارمي (1239). (¬1) في غريب الحديث (3/ 77، 78). ونقله الواحدي في البسيط (16/ 55). (¬2) قال ابن عباس: "نزغاتهم"، وقال الحسن: "وساوسهم". انظر: تفسير الثعلبي (7/ 55)، وتفسير البغوي (5/ 428). (¬3) انظر: تفسير الثعلبي (7/ 55)، وتفسير البغوي (5/ 428). (¬4) وهو قول ابن زيد، رواه عنه ابن جرير في تفسيره (19/ 68).

وظاهر الحديث: أن الهمز نوع غير النفخ والنفث. وقد يقال -وهو الأظهر-: إن همزات الشياطين إذا أُفردت دخل فيها جميع إصاباتهم لابن آدم، وإذا قُرنت بالنفخ والنفث كانت نوعاً خاصًّا، كنظائر ذلك. ثم قال: {وَأَعُوذُ بِكَ رَبِّ أَنْ يَحْضُرُونِ}. قال ابن زيد: في أموري (¬1). وقال الكلبي: عند تلاوة القرآن (¬2). وقال عكرمة: عند النزع والسِّياق (¬3). فأمَره أن يستعيذ من نَوْعَيْ شرِّهم: إصابتهم له بالهمز، وقربهم ودنوّهم منه. فتضمنت الاستعاذة أن لا يمسوه ولا يقربوه، وذكر ذلك سبحانه عقيب قوله: {ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ السَّيِّئَةَ نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَصِفُونَ} [المؤمنون: 96]، فأمره أن يحترز من شر شياطين الإنس بدفع إساءتهم إليه بالتي هي أحسن، وأن يدفع شر شياطين الجن بالاستعاذة منهم. ونظير هذا قولُه في الأعراف: {خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ} [الأعراف: 199]، فأمره بدفع شر الجاهلين بالإعراض عنهم، ثم أمره بدفع شر الشيطان (¬4) بالاستعاذة منه؛ فقال: {وَإِمَّا يَنْزَغَنَّكَ مِنَ ¬

_ (¬1) رواه ابن جرير في تفسيره (19/ 69)، وعزاه في الدر المنثور (6/ 114) لابن أبي حاتم. (¬2) انظر: النكت والعيون للماوردي (4/ 66). (¬3) انظر: الكشاف للزمخشري (3/ 204). والأقوال الثلاثة في البسيط (16/ 58). (¬4) الأصل: "الشياطين". والمثبت من بقية النسخ.

سر التأكيد بـ "أن" وضمير الفصل والتعريف في قوله تعالى في سورة فصلت: {إنه هو السميع العليم}

الشَّيْطَانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ} [الأعراف: 200]. ونظير ذلك قولُه في سورة فُصِّلت: {وَلَا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلَا السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ} [فصلت: 34]، فهذا لدفع شر شيطان الإنس، ثم قال: {وَإِمَّا يَنْزَغَنَّكَ [29 ب] مِنَ الشَّيْطَانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ} [فصلت: 36]، وقال ها هنا: {إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ}؛ فأكد بـ (إن) وبضمير الفصل، وأتى باللام في {السَّمِيعُ الْعَلِيمُ}، وقال في الأعراف: {إِنَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ}. وسرُّ ذلك - والله أعلم -: أنه حيث اقتصر على مجرد الاسم ولم يؤكده؛ أريد إثبات مجرد الوصف الكافي في الاستعاذة، والإخبار أنه سبحانه يسمع ويعلم، فيسمع استعاذتك فيجيبك، ويعلم ما تستعيذ منه فيدفعه عنك، فالسمع لكلام المستعيذ، والعلم لفعل المستعاذ منه، وبذلك يحصل مقصود الاستعاذة، وهذا المعنى شامل للموضعين. وامتاز المذكور في "فصلت" بمزيد التأكيد والتعريف والتخصيص؛ لأن سياق ذلك بعد إنكاره سبحانه على الذين شكُّوا في سمعه لقولهم، وعلمه بهم (¬1)، كما ثبت في "الصحيحين" (¬2) من حديث ابن مسعود، قال: اجتمع عند البيت ثلاثة نفر: قرشيان وثقفي أو ثقفيان وقرشي، كثيرٌ شحمُ بطونهم، قليلٌ فقه قلوبهم، فقالوا: أترون الله يسمع ما نقول؟ فقال أحدهم: ¬

_ (¬1) في أكثر النسخ: "وعلمهم به". (¬2) البخاري (4817)، ومسلم (2775).

يسمع إن جهرنا، ولا يسمع إن أخفينا، فقال الآخر: إنْ سَمِعَ بعضَهُ سمعه كُلَّه، فأنزل الله عز وجل: {وَمَا كُنْتُمْ تَسْتَتِرُونَ أَنْ يَشْهَدَ عَلَيْكُمْ سَمْعُكُمْ وَلَا أَبْصَارُكُمْ وَلَا جُلُودُكُمْ وَلَكِنْ ظَنَنْتُمْ أَنَّ اللَّهَ لَا يَعْلَمُ كَثِيراً مِمَّا تَعْمَلُون} إلى قوله: {مِنَ الْخَاسِرينَ} [فصلت: 22، 23]. فجاء التأكيد في قوله: {إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ} في سياق هذا الإنكار، أي هو وحده الذي له كمال قوة السمع وإحاطة العلم، لا كما يظن به أعداؤه الجاهلون: أنه لا يسمع إن أخفوْا، وأنه لا يعلم كثيراً مما يعملون. وحسّن ذلك أيضًا: أن المأمور به في سورة فصلت دفع إساءتهم إليه بإحسانه إليهم، وذلك أشق على النفوس من مجرد الإعراض عنهم؛ ولهذا عقبه بقوله: {وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ} [فصلت: 35]، فحسن التأكيد لحاجة المستعيذ. وأيضاً فإن السياق هاهنا لإثبات صفات كماله، وأدلة ثبوتها، وآيات ربوبيته، وشواهد توحيده؛ ولهذا عقَّب ذلك بقوله: {وَمِنْ آيَاتِهِ اللَّيْلُ وَالنَّهَارُ} [فصلت: 37]، {وَمِنْ آيَاتِهِ أَنَّكَ تَرَى الْأَرْضَ خَاشِعَةً} [فصلت: 39]، فأتى بأداة التعريف الدالة على أن من أسمائه السَّميعَ العَلِيمَ، كما جاءت الأسماء الحسنى كلها معرَّفةً. والذي في الأعراف في سياق وعيد المشركين وإخوانهم من الشياطين، ووعد المستعيذ بأن له ربًّا يسمع ويعلم، وآلهة المشركين التي (¬1) عبدوها من ¬

_ (¬1) الأصل: "الذين". والمثبت من بقية النسخ.

فصل: إرشاد القرآن إلى الاستعاذة والإعراض عن الجاهلين

دونه؛ ليس لهم أعين يبصرون بها، ولا آذان يسمعون بها، فالله سميع عليم، وآلهتهم لا تسمع ولا تبصر ولا تعلم، فكيف يُسَوُّونها به في العبادة. فعلمتَ أنه لا يليق بهذا السياق غير التنكير، كما لا يليق بذلك غير التعريف. والله أعلم بأسرار كلامه. ولمّا كان المستعاذ منه في سورة {حم} المؤمن هو شرّ (¬1) مجادلة الكفار في آياته، وما ترتَّب عليها من أفعالهم المرئية بالبصر، قال: {إِنَّ الَّذِينَ يُجَادِلُونَ فِي آيَاتِ اللَّهِ بِغَيْرِ سُلْطَانٍ أَتَاهُمْ إِنْ فِي صُدُورِهِمْ إِلَّا كِبْرٌ مَا هُمْ بِبَالِغِيهِ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} [غافر: 56]؛ فإنه لما كان المستعاذ منه كلامهم وأفعالهم المشاهدة عيانا قال: {إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ}، وهناك المستعاذ منه غير مشاهد لنا؛ فإنه يرانا هو وقَبيلُه من حيث لا نراه، بل هو معلوم بالإيمان وإخبار الله ورسوله. فصل فالقرآن أرشد إلي دفع [30 أ]، هذين العدوّين بأسهل الطرق: بالاستعاذة، والإعراض عن الجاهلين، ودفع إساءتهم بالإحسان، وأخبر عن عِظم حظِّ من لقّاه ذلك؛ فإنه ينال بذلك كفّ شر عدوه وانقلابه صديقاً، ومحبة الناس له، وثناءهم عليه، وقهر هواه، وسلامة قلبه من الغِلّ والحقد، وطمأنينة الناس حتى عدوه إليه، هذا غير ما يناله من كرامة الله، وحسن ثوابه ورضاه عنه، وهذا غاية الحظ عاجلاً وآجلاً. ولما كان ذلك لا يُنال إلا بالصبر قال: {وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا} [فصلت: 35]؛ فإن النَّزِق الطائش لا يصبر عن المقابلة. ¬

_ (¬1) ت، ظ: "سر". م: "سوء".

معنى قوله تعالى: {إنه ليس له سلطان على الذين ..}

ولما كان الغضب مَرْكَبَ الشيطان -فتتعاون النفس الغضبية والشيطان على النفس المطمئنة التي تأمر بدفع الإساءة بالإحسان-: أُمر أن يعاونها بالاستعاذة منه، فتَمُدُّ الاستعاذةُ للنفس المطمئنة، فتقوى على مقاومة جيش النفس الغضبية، ويأتي مدد الصبر الذي يكون النصر معه، وجاء مدد الإيمان والتوكل، فأبطل سلطان الشيطان، فـ {إِنَّهُ لَيْسَ لَهُ سُلْطَانٌ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ} [النحل: 99]. قال مجاهد (¬1)، وعكرمة (¬2)، والمفسرون: ليس له حجة. والصواب أن يقال: ليس له طريق يتسلط به عليهم لا من جهة الحجة، ولا من جهة القدرة، فالقدرة داخلة في مُسمَّى السلطان، وإنما سُمِّيت الحجة سلطاناً؛ لأن صاحبها يتسلط بها تسلُّط صاحب القدرة بيده، وقد أخبر سبحانه أنه لا سلطان لعدوه على عباده المخلصين المتوكلين، فقال في سورة الحجر: {رَبِّ بِمَا أَغْوَيْتَنِي لَأُزَيِّنَنَّ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ وَلَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ (39) إِلَّا عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ (40) قَالَ هَذَا صِرَاطٌ عَلَيَّ مُسْتَقِيمٌ (41) إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ إِلَّا مَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْغَاوِينَ} [الحجر: 39 - 42]. وقال في سورة النحل: {إِنَّهُ لَيْسَ لَهُ سُلْطَانٌ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَلَى ¬

_ (¬1) روى ابن جرير في تفسيره (17/ 294) من طريق ابن أبي نجيح عن مجاهد قال: "حجته على الذين يتولّونه"، وعزاه في الدر المنثور (5/ 166) لابن أبي شيبة وابن المنذر وابن أبي حاتم. (¬2) روى ابن جرير في تفسيره (8/ 30، 9/ 337، 19/ 444، 23/ 44) من طريق سفيان عن رجل عن عكرمة قال: "كل شيء في القرآن سلطان فهو حجة".

رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ (99) إِنَّمَا سُلْطَانُهُ عَلَى الَّذِينَ يَتَوَلَّوْنَهُ وَالَّذِينَ هُمْ بِهِ مُشْرِكُونَ} [النحل: 99، 100]. فتضمن ذلك أمرين: أحدهما: نفي سلطانه وإبطاله على أهل التوحيد والإخلاص. والثاني: إثبات سلطانه على أهل الشرك وعلى من تولَّاه. ولما علم عدوُّ الله أن الله لا يُسلّطه على أهل التوحيد والإخلاص قال: {قَالَ فَبِعِزَّتِكَ لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ (82) إِلَّا عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ} [ص: 82، 83]. فعلم عدو الله أن من اعتصم بالله، وأخلص له، وتوكل عليه لا يقدر على إغوائه وإضلاله، وإنما يكون له السلطان على من تولاه وأشرك مع الله، فهؤلاء رعيته، وهو وليُّهم وسلطانهم ومتبوعهم. فإن قيل: فقد أثبت له السلطان على أوليائه في هذا الموضع، فكيف ينفيه في قوله: {وَلَقَدْ صَدَّقَ عَلَيْهِمْ إِبْلِيسُ ظَنَّهُ فَاتَّبَعُوهُ إِلَّا فَرِيقًا مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (20) ومَا كَانَ لَهُ عَلَيْهِمْ مِنْ سُلْطَانٍ إِلَّا لِنَعْلَمَ مَنْ يُؤْمِنُ بِالْآخِرَةِ مِمَّنْ هُوَ مِنْهَا فِي شَكّ} [سبأ: 20، 21]. قيل: إن كان الضمير في قوله: {ومَا كَانَ لَهُ عَلَيْهِمْ مِنْ سُلْطَانٍ} عائداً على المؤمنين فالسؤال ساقط، ويكون الاستثناء منقطعاً؛ أي لكن امتحنّاهم بإبليس، لنعلم من يؤمن بالآخرة ممن هو منها في شك. وإن كان عائداً على ما عاد عليه في قوله: {وَلَقَدْ صَدَّقَ عَلَيْهِمْ إِبْلِيسُ ظَنَّهُ فَاتَّبَعُوهُ}، وهو الظاهر؛ ليصحّ الاستثناء المنقطع بوقوعه بعد النفي،

ويكون المعنى: وما سلّطناه عليهم إلا لنعلم من يؤمن بالآخرة (¬1). قال ابن قُتيبة (¬2): "إن إبليس لما سأل الله النظرة: فأنظَره، قال: لأُغوِينَّهم ولأُضِلَّنهم ولاَمرنَّهم بكذا، ولأتخذنّ من عبادك نصيباً مفروضاً، وليس هو في وقت هذه المقالة مستيقناً أن ما قدّره فيهم يتمّ، وإنما قاله ظانًّا، فلما اتّبعوه وأطاعوه صدَّق عليهم ما ظنَّه فيهم، فقال تعالي: وما كان تسليطنا إياه إلا لنعلم المؤمنين من الشاكِّين، يعني: نعلمهم موجودين ظاهرين، فيحق القول ويقع الجزاء". وعلى هذا فيكون السلطان ها هنا على من لم يؤمن بالآخرة وشكّ فيها، وهم الذين تولَّوه وأشركوا به؛ فيكون السلطان ثابتاً لا منفيَّاً، فتتفق هذه الآية مع سائر الآيات. فإن قيل: فما تصنع بالتي في سورة إبراهيم؟ حيث يقول لأهل النار: {وَمَا كَانَ لِيَ عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطَانٍ إِلَّا أَنْ دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِي} [إبراهيم: 22]، وهذا وإن كان قوله فالله سبحانه أخبر به عنه مُقرراً له لا منكراً، فدلّ على أنه كذلك. قيل: هذا سؤال جيد، وجوابه: أن السلطان المنفي في هذا الموضع هو الحجة والبرهان؛ أي ما كان لي عليكم من حجة وبرهان أحتجُّ به عليكم، كما قال ابن عباس: "ما كان لي من حجة أحتجُّ بها عليكم" (¬3)؛ أي ما ¬

_ (¬1) م: "بالله". (¬2) في "تأويل مشكل القرآن" (ص 313). (¬3) علّق البخاري في كتاب التفسير، باب: سورة بني إسرائيل، بصيغة الجزم عن ابن =

معنى الأر في قوله تعالى: {ألم تر أنا أرسلنا الشياطين على الكافرين تؤزهم أزا}

أظهرتُ لكم حجةً إلا أن دعوتكم فاستجبتم لي، وصدقتم مقالتي، واتبعتموني بلا برهان ولا حجة. وأما السلطان الذي أثبته في قوله: {إِنَّمَا سُلْطَانُهُ عَلَى الَّذِينَ يَتَوَلَّوْنَهُ} [النحل: 100]، فهو تسلُّطُه (¬1) عليهم بالإغواء والإضلال، وتمكُّنه منهم، بحيث يؤُزُّهم إلي الكفر والشرك وُيزعِجهم إليه، ولا يدعهم يتركونه، كما قال تعالي: {أَلَمْ تَرَ أَنَّا أَرْسَلْنَا الشَّيَاطِينَ عَلَى الْكَافِرِينَ تَؤُزُّهُمْ أَزًّا} [مريم: 83]، قال ابن عباس: "تُغريهم إغراءً" (¬2)، وفي رواية: "تُشْلِيهم إشلاءً" (¬3)، وفي لفظ: "تُحرِّضهم تحريضاً" (¬4)، وفي آخر: "تُزعِجهم إلي المعاصي إزعاجاً" (¬5)، وفي آخر؛ ¬

_ = عباس قال: "كل سلطان في القرآن فهو حجة"، وهو موصول عند عبد الرزاق في تفسيره (2/ 399)، وابن جرير في تفسيره (19/ 444)، وابن أبي حاتم في تفسيره (5778، 16232)، وغيرهم، وصحّح إسناده ابن كثير في تفسيره (2/ 441)، وابن حجر في الفتح (8/ 391). (¬1) م: "تسليطه". (¬2) رواه ابن جرير في تفسيره (18/ 251)، وابن أبي حاتم -كما في فتح الباري (8/ 427) - من طريق علي بن أبي طلحة عن ابن عباس، وانظر: معاني القرآن للنحاس (4/ 360). (¬3) لم أقف عليه من كلام ابن عباس، وورد من تفسير مجاهد، رواه عنه ابن أبي حاتم كما في الدر المنثور (5/ 538)، ومن تفسير ابن زيد، رواه عنه ابن جرير في تفسيره (18/ 252). (¬4) روى ابن أبي حاتم -كما في الدر المنثور (5/ 538) - عن ابن عباس في قوله تعالي: {تَؤُزهم} قال: "تحرّض المشركين على محمد وأصحابه". وانظر: تفسير ابن كثير (5/ 262). (¬5) انظر: تفسير الثعلبي (6/ 229)، وتفسير الرازي (21/ 215)، وتفسير القرطبي =

"تُوقِدهم" (¬1)؛ أي: تُحرِّكهم كما يحرَّك الماء بالإيقاد تحته. وقال الأخفش: "تُوهِّجهم" (¬2). وحقيقة ذلك: أن الأزّ هو التحريك والتهييج، ومنه يقال لغليان القدر: الأزيز؛ لأن الماء يتحرك عند الغليان، ومنه الحديث: "لِجَوفه أزيزٌ كأزيزِ المِرْجَل من البكاء" (¬3). قال أبو عبيدة (¬4): الأزيز: الالتهاب والحركة، كالتهاب النار في الحطب، يقال: اُزَّ قِدْرَك أي: أَلهْبْ تحتها بالنار؛ وائتزَّت القِدْرُ: إذا اشتد غليانها. فقد حصل للأزّ معنيان، أحدهما: التحريك، والثاني: الإيقاد والإلهاب، وهما متقاربان، فإنه تحريك خاص بإزعاج وإلهاب. ¬

_ = (11/ 137). (¬1) رواه عنه ابن الأنباري في "إيضاح الوقف والابتداء". انظر: الدر المنثور (5/ 538). (¬2) انظر: تفسير الثعلبي (6/ 230). (¬3) رواه ابن المبارك في الزهد (109)، وأحمد (4/ 25، 26)، وعبد بن حميد (514)، وأبو داود (904)، والترمذي في الشمائل (323)، والنسائي (1214)، وأبو يعلى (1599)، وغيرهم عن عبد الله بن الشخير رضي الله عنه، وصححه ابن خزيمة (900)، وابن حبان (665، 753)، والحاكم (971)، والنووي في رياض الصالحين (450) وفي غيره، وابن دقيق العيد في الاقتراح (ص 96)، وابن رجب في فتح الباري (4/ 245)، وقال ابن حجر في الفتح (2/ 206): "إسناده قوي"، وهو في صحيح الترغيب (544، 3329). (¬4) انظر: تهذيب اللغة (13/ 281). واختصر المؤلف أقوال العلماء في تفسير "الأزّ" من البسيط للواحدي (14/ 324، 325).

فهذا من السلطان الذي له على أوليائه وأهل الشرك، ولكن ليس له على ذلك سلطان حجةٍ وبرهان، وإنما استجابوا له بمجرَّد دعوته إياهم، لمّا وافقت أهواءهم وأغراضهم، فهم الذين أعانوا على أنفسهم، ومكّنوا عدوَّهم من سلطانه عليهم بموافقته ومتابعته، فلما أعطوا بأيديهم واستأسروا له سُلّط عليهم عقوبةً لهم! وبهذا يظهر معنى قوله سبحانه: {وَلَنْ يَجْعَلَ اللَّهُ لِلْكَافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلًا} [النساء: 141]، فالآية على عمومها وظاهرها، وإنما المؤمنون يصدر منهم من المعصية والمخالفة التي تضادُّ الإيمان ما يصير به للكافرين عليهم سبيل، بحسب تلك المخالفة، فهم الذين تسبَّبُوا إلى جعل السبيل عليهم، كما تسبّبوا إليه يوم أُحد بمعصية الرسول ومخالفته. والله سبحانه لم يجعل للشيطان على العبد سلطاناً حتى جعل له العبد سبيلاً إليه؛ بطاعته والشرك به، فجعل الله حينئذٍ له عليه تسلطاً وقهراً، فمن وجد خيراً فليحمد الله، ومن وجد غير ذلك فلا يلومنّ [31 أ]، إلا نفسه (¬1). فالتوحيد والتوكل والإخلاص يمنع سلطانه، والشرك وفروعه يوجب سلطانه، والجميع بقضاء مَنْ أزِمَّة الأمور بيديه، ومَردُّها إليه، وله الحجة البالغة، ولو شاء لجعل الناس أمة واحدة، لكن أبتْ حكمته وحمده وملكه إلا ذلك: {فَلِلَّهِ الْحَمْدُ رَبِّ السَّمَاوَاتِ وَرَبِّ الْأَرْضِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (36) وَلَهُ الْكِبْرِيَاءُ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} [الجاثية: 37، 36]. ¬

_ (¬1) كما في الحديث القدسي المشهور الذي أخرجه مسلم (2577) عن أبي ذر.

الباب الثالث عشر: في مكايد الشيطان التي يكيد بها ابن آدم، (وهو الباب الذي وضع المصنف لأجله الكتاب)

الباب الثالث عشر في مكايد الشيطان التي يكيد بها ابن آدم قال تعالى إخباراً عن عدوِّه إبليس، لمّا سأله عن امتناعه عن السجود لآدم، واحتجاجه بأنّه خيرٌ منه، وإخراجه من الجنة، أنه سأله أن يُنْظِره، فأنظَره، ثم قال عدو الله: {فَبِمَا أَغْوَيْتَنِي لَأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِرَاطَكَ الْمُسْتَقِيمَ (16) {ثُمَّ لَآتِيَنَّهُمْ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ وَعَنْ أَيْمَانِهِمْ وَعَنْ شَمَائِلِهِمْ وَلَا تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شَاكِرِينَ} [الأعراف: 16، 17]. قال جمهور المفسِّرين والنحاة؛ حذف "على" فانتصب الفعل؛ والتقدير: لأقعدنّ لهم على صراطك. والظاهر: أن الفعل مضمر؛ فإن القاعد على الشيء ملازم له، فكأنه قال: لألزمنّه، ولأرصُدنَّه، ولأُحْوِجنَّه، ونحو ذلك. قال ابن عباس: "دينك الواضح" (¬1). وقال ابن مسعود: "هو كتاب الله" (¬2). ¬

_ (¬1) انظر: البسيط (9/ 51)، وروى ابن أبي حاتم في تفسيره (1/ 30) من طريق بشر بن عمارة عن أبي روق عن الضحاك عن ابن عباس في قوله: "الصِّراط المستقيم" قال: "دينك الحق". (¬2) رواه ابن جرير في تفسيره (1/ 173)، والطبراني في الكبير (9/ 212)، والبيهقي في الشعب (2/ 326) من طريق الثوري عن منصور عن أبي وائل عنه، وعزاه في الدر المنثور (1/ 39) لوكيع وعبد بن حميد وابن المنذر وأبي بكر بن الأنباري في كتاب المصاحف، وصححه الحاكم (3023، 3669) على شرطهما.

وقال جابر: "هو الإسلام" (¬1). وقال مجاهد: "هو الحق" (¬2). والجميع عبارات عن معنى واحد، وهو الطريق الموصل إلي الله. وقد تقدم حديث سَبْرة بن أبي الفاكه (¬3): "إن الشيطان قعد لابن آدم بأطْرُقِه كلها" الحديث (¬4)؛ فما من طريق خير إلا والشيطان قاعد عليه، يقطعه على السالك. وقوله: {ثُمَّ لَآتِيَنَّهُمْ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ} [الأعراف: 17]. قال ابن عباس في رواية عطية عنه: "مِنْ قِبَل الدنيا" (¬5). وفي رواية علي عنه: "أُشكّكهم في آخرتهم" (¬6). ¬

_ (¬1) رواه ابن جرير في تفسيره (1/ 173) من طريق عبد الله بن محمد بن عقيل عنه، وعزاه في الدر المنثور (1/ 38) لوكيع وعبد بن حميد وابن المنذر والمحاملي في أماليه، وصححه الحاكم (3024، 3668). (¬2) رواه ابن جرير في تفسيره (12/ 336) من طريق ابن أبي نجيح وأبي سعد المدني- فرَّقهما -، وابن أبي حاتم في تفسيره (1/ 30) من طريق خالد بن عبد الرحمن المخزومي عن عمر بن ذر، كلهم عن مجاهد. وعزاه في الدر المنثور (3/ 426) لابن أبي شيبة وعبد بن حميد وابن المنذر وأبي الشيخ. (¬3) كذا في الأصل، وفي بعض النسخ: "بن الفاكه". وهو بالوجهين في التقريب وغيره. (¬4) تقدم تخريجه. (¬5) رواه ابن جرير في تفسيره (12/ 339)، وابن أبي حاتم في تفسيره (8244)، ورواه ابن جرير أيضًا (12/ 338) من طريق علي بن أبي طلحة عنه. (¬6) رواه ابن جرير في تفسيره (12/ 338)، وابن أبي حاتم في تفسيره (8245)، وعزاه في الدر المنثور (3/ 426) لابن المنذر وأبي الشيخ.

وكذلك قال الحسن: "من قِبَلِ الآخرة؛ تكذيباً بالبعث والجنة والنار" (¬1). وقال مجاهد: "من بين أيديهم: من حيث يبصرون" (¬2). {وَمِنْ خَلْفَهِمْ}: قال ابن عباس: "أرغِّبهم في دنياهم" (¬3). وقال الحسن: "مِن قِبَل دنياهم، أزيِّنها لهم وأُشهّيها إليهم" (¬4). وعن ابن عباس رواية أخرى: "من قِبَل الآخرة" (¬5). وقال أبو صالح: "أُشككهم في الآخرة، وأباعدها عليهم" (¬6). وقال مجاهد أيضًا: "من حيث لا يبصرون" (¬7). ¬

_ (¬1) رواه ابن أبي حاتم في تفسيره (8246) من طريق سعيد عن قتادة عنه. (¬2) رواه ابن جرير في تفسيره (12/ 340 - 341)، وابن أبي حاتم في تفسيره (8247) من طريق ابن أبي نجيح عنه. (¬3) رواه ابن جرير في تفسيره (12/ 338)، وابن أبي حاتم في تفسيره (8248) من طريق علي بن أبي طلحة عنه، ولفظ ابن أبي حاتم: "أرغبهم عن دينهم"، وعزاه في الدر المنثور (3/ 426، 427) لابن المنذر وأبي الشيخ. (¬4) رواه ابن أبي حاتم في تفسيره (8249) من طريق سعيد عن قتادة عنه بنحوه. (¬5) رواه ابن جرير في تفسيره (12/ 338 - 339)، وابن أبي حاتم في تفسيره (8250) من طريق عطية العوفي عنه، ورواه ابن جرير في تفسيره (12/ 338 - 339) من طريق علي بن أبي طلحة عنه. (¬6) رواه ابن أبي حاتم في تفسيره (8251) من طريق شعبة عن إسماعيل عنه. (¬7) رواه ابن جرير في تفسيره (12/ 340، 341)، وابن أبي حاتم في تفسيره (8252) من طريق ابن أبي نجيح عنه.

{وَعَنْ أَيْمَانِهِمْ}: قال ابن عباس: "أُشَبّه عليهم أمر دينهم" (¬1). وقال أبو صالح: "الحقّ أُشكِّكهم فيه" (¬2). وعن ابن عباس أيضًا: "من قِبَل حسناتهم" (¬3). وقال الحسن: "من قِبَل الحسنات أثبِّطهم عنها" (¬4). وقال أبو صالح أيضًا: "من بين أيديهم، ومن خلفهم، وعن أيمانهم، وعن شمائلهم: الباطل أُنَفِّقه عليهم وأُرغّبهم فيه" (¬5). وقال الحسن: {وَعَنْ شَمَائِلِهِمْ}: السيئات يأمرهم بها، ويحثهم عليها، ويُزيِّنها في أعينهم (¬6) وصح عن ابن عباس أنه قال: "ولم يقل: من فوقهم؛ لأنه عَلِم أن الله من ¬

_ (¬1) رواه ابن جرير في تفسيره (12/ 338)، وابن أبي حاتم في تفسيره (8253) من طريق علي بن أبي طلحة عنه، وعزاه في الدر المنثور (3/ 426 - 427) لابن المنذر وأبي الشيخ. (¬2) رواه ابن أبي حاتم في تفسيره (8254) من طريق شعبة عن إسماعيل عنه، ووقع عنده: "الوحي أشككهم فيه". (¬3) رواه ابن جرير في تفسيره (12/ 338 - 339)، وابن أبي حاتم في تفسيره (8255) من طريق عطية عنه، ورواه ابن جرير أيضًا (12/ 338 - 339) من طريق علي بن أبي طلحة عنه. (¬4) رواه ابن أبي حاتم في تفسيره (8256) من طريق سعيد عن قتادة عنه. (¬5) رواه ابن أبي حاتم في تفسيره (8259) من طريق شعبة عن إسماعيل عنه. (¬6) رواه ابن أبي حاتم في تفسيره (8360) من طريق سعيد عن قتادة عنه.

فوقهم" (¬1). وقال الشعبي: "الله عز وجل أنزل الرحمة عليهم من فوقهم" (¬2). وقال قتادة: "أتاك الشيطان يا ابن آدم من كل وجه، غير أنه لم يأتك من فوقك؛ لم يستطع أن يحول بينك وبين رحمة الله" (¬3). قال الواحدي (¬4): وقول من قال: الأيمان كناية عن الحسنات، والشمائل كناية عن السيئات، حسنٌ؛ لأن العرب تقول: اجعلني في يمينك، ولا تجعلني في شمالك، تريد: اجعلني من المقدَّمين عندك، ولا تجعلني من المؤخَّرين، وأنشد لابن الدُّميْنة: أَبِيني أفِي يُمْنى يَديْكِ جَعَلْتِنِي ... فَأَفْرَحَ أمْ صَيَّرْتِنِي في شِمالِكِ؟ (¬5) [31 ب] وروى أبو عبيد عن الأصمعي: هو عندنا باليمين، أي: بمنزلةٍ حسنة، وبضد ذلك: هو عندنا بالشمال، وأنشد: ¬

_ (¬1) رواه ابن راهويه -كما في المطالب العالية (3011) - وابن جرير في تفسيره (12/ 341 - 342) من طريقين عن الحكم بن أبان عن عكرمة عنه، ولفظ الطبري: "ولم يقل: من فوقهم لأن الرحمة تنزل من فوقهم"، ومن طريق ابن راهويه رواه اللالكائي في شرح أصول الاعتقاد (661)، وعزاه في الدر المنثور (3/ 427) لعبد ابن حميد. (¬2) رواه ابن أبي حاتم في تفسيره (8262) من طريق مجاهد عنه. (¬3) رواه ابن جرير في تفسيره (12/ 339) من طريق سعيد بن أبي عروبة عنه. (¬4) في البسيط (9/ 54 - 56). وهو قول ابن الأنباري نقله الواحدي، ونقله الرازي أيضًا عن ابن الأنباري. (¬5) انظر: ديوانه (ص 13 - 17)، وأمالي الزجاجي (ص 168).

رَأَيتُ بَنِي العَلَّاتِ لمّا تَظافَروا ... يَحُوزُونَ سَهْمي عِنْدَهُمْ في الشَّمائِلِ (¬1) أي: يُنزِلونني بالمنزلة السيئة. وحكى الأزهري (¬2) عن بعضهم في هذه الآية: "لأغوينَّهم حتى يكذِّبوا بما تقدم من أمور الأمم السالفة، ومن خلفهم بأمر البعث، وعن أيمانهم وعن شمائلهم؛ أي: لأضلّنهم فيما يعملون؛ لأن الكسب يقال فيه: ذلك بما كسبت يداك، وإن كانت اليدان لم تَجنِيا (¬3) شيئاً؛ لأنهما الأصل في التصرف، فجُعلتا مثلاً لجميع ما يُعمل بغيرهما". وقال آخرون - منهم أبو إسحاق، والزمخشري، واللفظ لأبي إسحاق (¬4) -: "ذكر هذه الوجوه للمبالغة في التوكيد؛ أي: لآتينَّهم من جميع الجهات، والحقيقة -والله أعلم-: أتصرف لهم في الإضلال من جميع جهاتهم". وقال الزمخشري (¬5): "ثم لآتينَّهم من الجهات الأربع التي يأتي منها العدوفي الغالب، وهذا مَثلٌ لوسوسته إليهم، وتسويله ما أمكنه وقدر عليه، كقوله: {وَاسْتَفْزِزْ مَنِ اسْتَطَعْتَ مِنْهُمْ بِصَوْتِكَ وَأَجْلِبْ عَلَيْهِمْ بِخَيْلِكَ وَرَجِلِكَ} [الإسراء: 64] ". ¬

_ (¬1) البيت لأبي خراش الهذلي في شرح أشعار الهذليين (3/ 1197)، ولأبي جندب الهذلي فيه (1/ 348)، وهو لأبي خراش في المعاني الكبير (ص 849، 1125)، والأغاني (21/ 220). (¬2) انظر: تهذيب اللغة (15/ 523). ونقله المؤلف من البسيط (9/ 56). (¬3) م: "يجتنبا" تحريف. (¬4) انظر: معاني القرآن لأبي إسحاق الزجاج (2/ 324)، والوسيط للواحدي (2/ 335). (¬5) الكشاف (2/ 56).

وهذا يوافق ما حكيناه عن قتادة: "أتاك من كل وجه، غير أنه لم يأتك من فوقك". وهذا القول أعمُّ فائدةً، ولا يناقض ما قاله السلف؛ فإن ذلك على جهة التمثيل لا التعيين. قال شقيق (¬1): "ما من صباحٍ إلا قعد لي الشيطان على أربعة مراصد: من بين يديَّ، ومن خلفي، وعن يميني، وعن شمالي، فيقول: لا تَخف فإن الله غفور رحيم، فاقرأ: {وَإِنِّي لَغَفَّارٌ لِمَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا ثُمَّ اهْتَدَى} [طه: 82]، وأما من خلفي فيُخوِّفني الضيْعة على من أُخلّفه، فأقرأ: {وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ إِلَّا عَلَى اللَّهِ رِزْقُهَا} [هود: 6]، ومن قِبَل يميني، يأتيني من قِبَل الثَّناء، فأقرأ: {وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ} [الأعراف: 128]، ومن قبل من لي، فيأتيني من قبل الشهوات، فأقرأ: {وَحِيلَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ مَا يَشْتَهُونَ} [سبأ: 54] ". قلت: السُّبُل التي يسلكها الإنسان أربعة لا غير: فإنه تارة يأخذ على جهة يمينه، وتارة على شماله، وتارة أمامه، وتارة يرجع خلفه، فأيَّ سبيل سلكها من هذه وجد الشيطان عليها رصداً له، فإن سلكها في طاعة وجده عليها يُثبّطه عنها ويقطعه، أو يُعوِّقه ويُبطّئه، وإن سلكها لمعصية وجده عليها حاملاً له، وحاديا، ومعينا، ومُمَنِّيًا، ولو اتفق له الهبوط إلي أسفل لأتاه من هناك. ¬

_ (¬1) انظر: تفسير الثعلبي (4/ 222)، والكشاف (2/ 89 - 90)، وشرح نهج البلاغة (16/ 178)، وتفسير النسفي (2/ 6). وشقيق هذا هو شقيق بن إبراهيم البلخي الزاهد، توفي سنة 194 هـ، له ترجمته في حلية الأولياء (8/ 58 - 73)، وتاريخ دمشق (23/ 131 - 145)، وسير أعلام النبلاء (9/ 313 - 316)، ولسان الميزان (3/ 151).

ومما يشهد لصحة أقوال السلف قوله تعالي: {وَقَيَّضْنَا لَهُمْ قُرَنَاءَ فَزَيَّنُوا لَهُمْ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ} [فصلت: 25]. قال الكلبي: "ألزمناهم قرناء من الشياطين" (¬1). وقال مقاتل: "هيأنا لهم قرناء من الشياطين" (¬2). وقال ابن عباس: "ما بين أيديهم: من أمر الدنيا، وما خلفهم: من أمر الآخرة" (¬3). والمعنى: زيَّنوا لهم الدنيا حتى آثروها، ودعوْهم إلي التكذيب بالآخرة والإعراض عنها. وقال الكلبي: "زينوا لهم ما بين أيديهم من أمر الآخرة: أنه لا جنة، ولا نار، ولا بعث؛ وما خلفهم من أمر الدنيا: ما هم عليه من الضلالة" (¬4). وهذا اختيار الفرّاء (¬5). وقال ابن زيد: "زيَّنوا لهم ما مضى من خبيث أعمالهم، وما يستقبلون منها" (¬6). ¬

_ (¬1) انظر: البسيط للواحدي (19/ 450)، وفيه بقية الأقوال المذكورة هنا. (¬2) انظر: تفسير مقاتل (3/ 741)، وفيه: "من الدنيا" بدل "من الشياطين". (¬3) لم أقف عليه من تفسير ابن عباس، ورواه ابن جرير في تفسيره (21/ 459) من قول السدي. (¬4) انظر: تفسير الماوردي (5/ 178). و"قال الكلبي ... الضلالة" ساقطة من الأصل. (¬5) انظر: معاني القرآن له (3/ 17). (¬6) انظر: تفسير الرازي (27/ 103).

تفسير قوله تعالى: {إن يدعون من دونه إلا إناثا} الآيات

والمعنى على هذا: زيَّنوا لهم ما عملوه، فلم يتوبوا منه، وما يعزمون عليه، فلا ينوون تركه. فقول عدو الله: {ثُمَّ لَآتِيَنَّهُمْ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ} يتناول الدنيا والآخرة وقوله: {وَعَنْ أَيْمَانِهِمْ وَعَنْ شَمَائِلِهِمْ} [الأعراف: 17]، فإن كاتب الحسنات عن اليمين يَستحِثُّ صاحبه على فعل الخير، فيأتيه الشيطان من هذه الجهة يُثبّطه عنه، وكاتب السيئات عن الشمال ينهاه عنها، فيأتيه [32 أ] الشيطان من تلك الجهة يُحرّضه عليها؛ وهذا تفصيل ما أجمله في قوله: {فَبِعِزَّتِكَ لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ} [ص: 82]. وقال تعالى: {إِنْ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ إِلَّا إِنَاثًا وَإِنْ يَدْعُونَ إِلَّا شَيْطَانًا مَرِيدًا (117) لَعَنَهُ اللهُ وَقَالَ لَأَتَّخِذَنَّ مِنْ عِبَادِكَ نَصِيبًا مَفْرُوضًا (118) وَلَأُضِلَّنَّهُمْ وَلَأُمَنِّيَنَّهُمْ وَلَآمُرَنَّهُمْ فَلَيُبَتِّكُنَّ آذَانَ الْأَنْعَامِ وَلَآمُرَنَّهُمْ فَلَيُغَيِّرُنَّ خَلْقَ اللَّهِ وَمَنْ يَتَّخِذِ الشَّيْطَانَ وَلِيًّا مِنْ دُونِ اللَّهِ فَقَدْ خَسِرَ خُسْرَانًا مُبِينًا (119) يَعِدُهُمْ وَيُمَنِّيهِمْ وَمَا يَعِدُهُمُ الشَّيْطَانُ إِلَّا غُرُورًا} [النساء: 117، 120]. قال الضحاك: "مفروضاً أي: معلوماً" (¬1). وقال الزجاج: "أي: نصيباً أفترِضُه على نفسي" (¬2). قال الفراء: "يعني ما جُعل له عليه السبيلُ من الناس فهو كالمفروض" (¬3). ¬

_ (¬1) رواه ابن جرير في تفسيره (9/ 212) من طريق جويبر عنه. (¬2) معاني القرآن له (2/ 109)، وزاد المسير (2/ 205). (¬3) انظر: معاني القرآن له (1/ 289)، وتفسير الخازن (1/ 599).

قوله تعالى: {ولأضلنهم ولأمنينهم ولآمرنهم فليبتكن آذان الأنعام}

قلت: حقيقة الفَرض هو التقدير، والمعنى: أن من أتَّبع الشيطانَ وأطاعه فهو من نصيبه المفروض، وحظه المقسوم، فكل من أطاع عدو الله فهو من مفروضه، فالناس قسمان: نصيب الشيطان ومفروضه، وأولياء الله وحزبه وخاصته. وقوله: {وَلَأُضِلَّنَّهُمْ}، يعني: عن الحق، {وَلَأُمَنِّيَنَّهُمْ}، قال ابن عباس: "يريد: تسويف التوبة وتأخيرها" (¬1). وقال الكلبي: "أُمنيّهم أنه لا جنة، ولا نار، ولا بعث" (¬2). وقال الزجاج: "أَجمع لهم مع الإضلال أن أُوهِمَهم أنهم ينالون مع ذلك حظّهم من الآخرة" (¬3). وقيل: لأمنّينهم ركوب الأهواء الداعية إلي العصيان والبدع. وقيل: أمنّيهم طولَ البقاء في نعيم الدنيا، فأُطِيل لهم الأمل فيها؛ ليُؤْثِرُوها على الآخرة. وقوله: {وَلَآمُرَنَّهُمْ فَلَيُبَتِّكُنَّ آذَانَ الْأَنْعَامِ}، البَتْك: القطع؛ وهو في هذا الموضع: قطع آذان البَحِيرة؛ عند جميع المفسرين (¬4). ومن ها هنا كره جمهور أهل العلم تثقيب أذني الطفل للحَلَقِ، ورخّص ¬

_ (¬1) انظر: زاد المسير (2/ 205) وتفسير الخازن (1/ 599). (¬2) انظر: تفسير الخازن (1/ 599). (¬3) معاني القرآن (2/ 109). (¬4) انظر: البسيط للواحدي (7/ 102). وفيه أغلب الأقوال المذكورة هنا في تفسير الآية.

بعضهم في ذلك للأنثى دون الذكر؛ لحاجتها إلي "الحلية" واحتجوا بحديث أمّ زَزعٍ، وقيس: "أنَاسَ مِنْ حُلِيٍّ أُذُنىَّ"، وقال النبي - صلى الله عليه وسلم - "كنتُ لك كأبي زَرْعٍ لأمّ زَرْع" (¬1). ونصَّ أحمد على جواز ذلك في حق البنت؛ وكراهته في حق الصبي. وقوله: {وَلَآمُرَنَّهُمْ فَلَيُغَيِّرُنَّ خَلْقَ اللَّهِ}: قال ابن عباس: "يريد: دين الله" (¬2). وهو قول إبراهيم (¬3)، ومجاهد (¬4)، والحسن (¬5)، والضحاك (¬6)، ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري (5189)، ومسلم (2448) عن عائشة. (¬2) رواه ابن جرير في تفسيره (9/ 218) من طريق علي بن أبي طلحة عنه، ورواه ابن أبي حاتم في تفسيره (5985) من طريق مطرف عن رجل عنه، وعزاه في الدر المنثور (2/ 690) لابن المنذر. (¬3) رواه عبد الرزاق في تفسيره (1/ 173)، وعلي بن الجعد في مسنده (2505)، وابن جرير في تفسيره (9/ 218، 220)، والبيهقي في الكبرى (10/ 25) من طريقين عنه، ومن طريق ابن الجعد رواه الهروي في ذم الكلام (823)، وعزاه في الدر المنثور (2/ 690) لسعيد بن منصور وعبد بن حميد وابن المنذر. (¬4) رواه عبد الرزاق في تفسيره (1/ 173)، وفي المصنف (4/ 457)، وابن جرير في تفسيره (9/ 218، 219)، والبيهقي في الكبرى (10/ 25) من طرق عن مجاهد، وعزاه في الدر المنثور (2/ 690) لآدم وعبد بن حميد وابن المنذر. (¬5) انظر: تفسير ابن أبي حاتم (4/ 1069)، وتفسير الثعلبي (3/ 388)، والسنن الكبرى للبيهقي (10/ 25)، وتفسير البغوي (2/ 289)، وتفسير الرازي (11/ 39). (¬6) رواه ابن جرير في تفسيره (9/ 220) من طريق عبيد بن سليمان وعيسى بن هلال - فرقهما - عن الضحاك.

تغيير الفطرة

وقتادة (¬1)، والسدّي (¬2)، وسعيد بن المسيّب (¬3)، وسعيد بن جُبير (¬4). ومعنى ذلك هو أن الله تعالى فَطَر عباده على الفِطْرة المستقيمة، وهي ملّة الإسلام، كما قال تعالى: {فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ (30) مُنِيبِينَ إِلَيْهِ وَاتَّقُوهُ} [الروم: 30، 31]. ولهذا قال - صلى الله عليه وسلم -: "ما من مولود إلا يُولَد على الفِطرة، فأبواه يُهوّدانه، ويُنصّرانه، ويُمجّسانه، كما تُنْتَجُ البهيمةُ بَهيمةً جَمْعاءَ، هل تُحِسُّون فيها من جَدْعاء؟! حتى تكونوا أنتم تجدعونها"، ثم قرأ أبو هريرة: {فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا} الآية [الروم: 30]، متفق عليه (¬5). فجمع النبىّ - صلى الله عليه وسلم - بين الأمرين: تغيير الفطرة بالتهويد والتنصير، وتغيير الخِلقة بالجدْع، وهما الأمران اللذان أخبر إبليس أنه لا بد أن يُغيّرهما؛ فغيَّر فطرة الله بالكفر، وهو تغيير الخلقة التي خُلِقُوا عليها، وغير الصورة بالجَدع والبَتْك، فغير الفطرة إلي الشرك، والخِلقة إلي البتك والقطع، فهذا تغيير خلقة الروح، وهذا تغيير خلقة الصورة. ¬

_ (¬1) رواه عبد الرزاق في تفسيره (1/ 173) - ومن طريقه ابن جرير في تفسيره (9/ 219) - عن معمر عن قتادة، ورواه ابن جرير أيضًا من طريق سعيد عن قتادة. (¬2) رواه ابن جرير في تفسيره (9/ 220) من طريق أحمد بن مفضل عن أسباط عنه. (¬3) انظر: تفسير البغوي (2/ 289)، وتفسير الرازي (11/ 39). (¬4) رواه سعيد بن منصور في سننه (691) عن سفيان عن حميد الأعرج عنه، وعزاه في الدر المنثور (2/ 690) لابن المنذر. (¬5) البخاري (1358)، ومسلم (2658).

{يَعِدُهُمْ وَيُمَنِّيهِمْ} ثم قال:، فوَعْدُه ما يصل إلى قلب الإنسان، نحو: سيطول عمرُك، وتنال من الدنيا لذّتك، وستعلو على أقرانك، وتظفر بأعدائك، والدنيا دُوَلٌ، ستكون لك كما كانت لغيرك، ويُطوِّل أملَه، ويَعِدُه بالحُسْنى على شِركه ومعاصيه، ويُمنّيه الأمانيَّ الكاذبة على اختلاف وجوهها. والفرق بين وعده وتمنيته (¬1): أن الوعد في الخبر، والتمنية في الطلب والإرادة؛ فيعده الباطل الذي لا حقيقة له وهو الغرور ويُمنَيه المحال الذي لا حاصل له. ومن تأمَّل أحوال أكثر الناس وجدهم متعلّقين بوعده وتمنيته وهم لا يشعرون؛ يَعِدُ الباطل، ويمنّي المحال، والنفس المهينة التي لا قَدْر لها تغتذي بوعده وتمنيته، كما قال القائل: مُنىً إنْ تكُنْ حَقًّا تَكُنْ أحْسَنَ المُنَى ... وَإِلّا فَقَدْ عِشْنَا بِهَا زَمَناً رَغْدَا (¬2) فالنفس المبطلة الخسيسة تلتذ بالأمانيّ الباطلة والوعود الكاذبة، وتفرح بها كما يفرح بها النساء والصبيان ويتحركون لها، فالأقوال الباطلة مصدرها وعد الشيطان وتمنيته؛ فإنه يُمنِّي (¬3) أصحابها الظَّفر بالحق ¬

_ (¬1) في أغلب النسخ: "تمني". (¬2) البيت لرجل من بني الحارث في حماسة أبي تمام (2/ 144)، وذيل أمالي القالي (ص 102)، ومجموعة المعاني (ص 141)، ولبعض الأعراب في عيون الأخبار (1/ 261)، وبلا نسبة في الصناعتين (ص 77)، وزهر الآداب (1/ 352). (¬3) م: "فإنها تمني".

قوله تعالى: {الشيطان يعدكم الفقر ويأمركم بالفحشاء} الآية

وإدراكه، ويَعدُهم الوصول إليه من غير طريقه، فكل مُبطِلٍ فله نصيبٌ من قوله: {يَعِدُهُمْ وَيُمَنِّيهِمْ وَمَا يَعِدُهُمُ الشَّيْطَانُ إِلَّا غُرُورًا} [النساء: 120]. ومن ذلك قوله تعالي: {الشَّيْطَانُ يَعِدُكُمُ الْفَقْرَ وَيَأْمُرُكُمْ بِالْفَحْشَاءِ وَاللَّهُ يَعِدُكُمْ مَغْفِرَةً مِنْهُ وَفَضْلًا} [البقرة: 268]. قيل: {يَعِدُكُمُ الْفَقْرَ}، يخوّفكم به، يقول: إن أنفقتم أموالكم افتقرتم. {وَيَأْمُرُكُمْ بِالْفَحْشَاءِ}، قالوا: هي البخل في هذا الموضع خاصة. ويُذكر عن مقاتل (¬1) والكلبي (¬2): "كل فحشاء في القرآن فهي الزنى إلا في هذا الموضع؛ فإنها البخل". والصواب أن الفحشاء على بابها، وهي كل فاحشة، فهي صفة لموصوف محذوفٍ، فحذف موصوفها إرادةً للعموم؛ أي بالفَعْلة الفحشاء، والخُلّة الفحشاء، ومن جملتها البخل. فذكر سبحانه وعد الشيطان وأمره، يأمر بالشر، ويُخوِّف من فعل الخير، وهذان الأمران هما جماع ما يطلبه الشيطان من الإنسان؛ فإنه إذا خوّفه من فعل الخير تركه، وإذا أمره بالفحشاء وزيّنها له ارتكبها. وسمَّى سبحانه تخويفه وَعْدًا؛ لانتظار الذي خوَّفه إياه كما ينتظر الموعود ما وُعد به. ثم ذكر سبحانه وعده على طاعته، وامتثال أوامره واجتناب نواهيه، وهى المغفرة والفضل، فالمغفرة: وقاية الشر، والفضل: إعطاء الخير. ¬

_ (¬1) انظر: تفسير الثعلبي (2/ 39، 270)، وتفسير القرطبي (2/ 210). (¬2) انظر: تفسير البغوي (1/ 333). والبسيط للواحدي (4/ 429).

وفى الحديث المشهور: "إن للملَك بقلب ابن آدم لمّةً، وللشيطان لمّةً، فلمّةُ الملك: إيعاد بالخير، وتصديق بالوعد، ولمّةُ الشيطان: إيعاد بالشر، وتكذيبٌ بالوعد"، ثم قرأ: {الشَّيْطَانُ يَعِدُكُمُ الْفَقْرَ} الآية (¬1). ¬

_ (¬1) رواه الترمذي (2988)، والنسائي في الكبرى (11051)، وأبو يعلى (4999)، وغيرهم من طريق هناد، والبزار (2027)، والبيهقي في الشعب (4/ 120) من طريق الحسن بن الربيع، كلاهما عن أبي الأحوص عن عطاء بن السائب عن مرة عن ابن مسعود مرفوعًا، قال الترمذي: "هذا حديث حسن غريب، وهو حديث أبي الأحوص، لا نعلمه مرفوعًا إلا من حديث أبي الأحوص"، وصححه ابن حبان (997)، وأحمد شاكر في تحقيقه لتفسير الطبري (5/ 572). قال البزار: "رواه غير أبي الأحوص موقوفًا"، فرواه عمرو وجرير وحماد بن سلمة عند ابن جرير (5/ 572 - 575)، وحماد بن زيد عند الطبراني في الكبير (9/ 101)، أربعتهم عن عطاء به موقوفًا، قال أبو حاتم كما في العلل (2/ 244): "هذا من عطاء بن السائب، كان يرفع الحديث مرة ويوقفه أخرى"، ورجح أبو زرعة وقفه، وقال ابن تيمية كما في المجموع (4/ 31 - 32): "هو محفوظ عن ابن مسعود، وربما رفعه بعضهم إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - ". وورد من وجه آخر عن عطاء موقوفًا، فرواه مسعر -كما في تفسير ابن كثير (1/ 700) - عن عطاء عن عوف بن مالك عن ابن مسعود، ورواه ابن علية - عند ابن جرير (5/ 572) - عن عطاء عن مرة أو عوف عن ابن مسعود. وقد توبع عطاء على الرفع وعلى الوقف، فرواه ابن مردويه. كما في تفسير ابن كثير (1/ 700) - من طريق أبي ضمرة عن الزهري، والبيهقي في الشعب (4/ 120) من طريق إبراهيم بن سعد عن صالح بن كيسان، كلاهما عن عبيد الله بن عبد الله عن ابن مسعود مرفوعًا، ورواه ابن المبارك في الزهد (1435)، وأحمد في الزهد (ص 157) من طريق المسيب بن رافع عن عامر بن عبدة عن ابن مسعود موقوفًا، ورواه عبد الرزاق في التفسير (1/ 109)، وأبو داود في الزهد (174) عن معمر عن الزهري عن عبيد الله بن عبد الله عن ابن مسعود موقوفًا.

فصل: الشيطان يزين للإنسان المعصية ثم يتبرأ منه

فالملك والشيطان يتعاقبان على القلب تعاقب الليل والنهار، فمن الناس من يكون ليله أطول من نهاره، وآخر بضده، ومنهم من يكون زمنه نهاراً كله، وآخر بضده. فصل ومن كيده للإنسان: أنه يُورِده المواردَ التي يُخيَّل إليه أن فيها منفعته، ثم يُصْدِرُهُ المصادر التي فيها عطبه، ويتخلىّ عنه ويُسلِمه ويقف يشمتُ به، ويضحك منه، فيأمره بالسرقة والزنى والقتل، ويدل عليه ويفضحه، قال تعالى: {وَإِذْ زَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ وَقَالَ لَا غَالِبَ لَكُمُ الْيَوْمَ مِنَ النَّاسِ وَإِنِّي جَارٌ لَكُمْ فَلَمَّا تَرَاءَتِ الْفِئَتَانِ نَكَصَ عَلَى عَقِبَيْهِ وَقَالَ إِنِّي بَرِيءٌ مِنْكُمْ إِنِّي أَرَى مَا لَا تَرَوْنَ إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ وَاللَّهُ شَدِيدُ الْعِقَابِ} [الأنفال: 48]، فإنه تراءى للمشركين عند خروجهم إلى بدرٍ في صورة سُراقة بن مالك، وقال: إني جارٌ لكم من بني كِنانة أن يقصدوا أهلكم وذراريكم بسوء، فلما رأى عدوُّ الله جنودَ الله من الملائكة نزلت لنصر رسوله فرَّ عنهم وأسلمهم، كما قال حسان: دَلّاهُمُ بِغُرُورٍ ثُمَّ أَسْلَمَهُمْ ... إِنَّ الخبِيثَ لمنْ وَالاهُ غَرّارُ (¬1) وكذلك فعل بالراهب الذي قتل المرأة وولدها، أمره بالزنى بها ثم بقتلها، ثم دلّ أهلها عليه، وكشف [33]، أمره لهم، ثم أمره بالسجود له، فلما فعل فر عنه وتركه، وفيه أنزل الله سبحانه: {كَمَثَلِ الشَّيْطَانِ إِذْ قَالَ لِلْإِنْسَانِ اكْفُرْ فَلَمَّا كَفَرَ ¬

_ (¬1) البيت في ديوانه (ص 476)، وسيرة ابن هشام (1/ 664).

قَالَ إِنِّي بَرِيءٌ مِنْكَ إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ} [الحشر: 16]، وهذا السياق لا يختص بالذي ذُكرت عنه هذه القصة (¬1)، بل هو عامّ في كل من أطاع الشيطان في أمره له بالكفر، لينصره ويقضي حاجته؛ فإنه يتبرأ منه ويُسْلمه كما يتبرأ من أوليائه جملةً في النار، ويقول لهم: {إِنِّي كَفَرْتُ بِمَا أَشْرَكْتُمُونِ مِنْ قَبْلُ} [إبراهيم: 22]، فأوردهم شرَّ الموارد، وتبرأ منهم كلَّ البراءة. وتكلَّم الناس في قول عدو الله: {إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ} (¬2): فقال قتادة (¬3)، وابن إسحاق (¬4): "صدق عدو الله في قوله: {إِنِّي أَرَى مَا ¬

_ (¬1) هذه القصة وردت في حديث مرفوع رواه ابن أبي الدنيا في مكايد الشيطان (61)، والبيهقي في الشعب (4/ 372) عن عبيد بن رفاعة يبلغ به النبي - صلى الله عليه وسلم -، وعبيد ولد على عهد النبي - صلى الله عليه وسلم - ولا يصحّ سماعه، ولذا حكم العراقي في تخريج الإحياء (2/ 719) على الحديث بالإرسال. ووردت عن عددٍ من الصحابة: فرواها عبد الرزاق في تفسيره (3/ 285)، وابن جرير في تفسيره (23/ 294 - 295) وغيرهم عن علي رضي الله عنه، وعن عبد الرزاق رواه ابن راهويه -كما في إتحاف الخيرة (5857) -، والبيهقي في الشعب (4/ 373)، وصححه الحاكم (3801)، ورواها ابن جرير أيضًا (23/ 295) عن ابن مسعود رضي الله عنه، ورواها ابن جرير (23/ 295 - 296)، والثعلبي في تفسيره (9/ 284, 285) من طرق عن ابن عباس رضي الله عنهما. ووردت أيضًا عن بعض التابعين. (¬2) أكثر الأقوال المذكورة هنا في البسيط للواحدي (10/ 191 - 192). (¬3) رواه ابن جرير في تفسيره (13/ 9)، وابن أبي حاتم في تفسيره (9164) من طريق يزيد بن زريع عن سعيد عنه، وعزاه في الدر المنثور (4/ 79) لأبي الشيخ. (¬4) سيرة ابن هشام (3/ 285)، ورواه ابن جرير في تفسيره (13/ 8) عن ابن حميد عن سلمة عنه.

لَا تَرَوْنَ}، وكذب في قوله: {إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ}، والله ما به مخافة الله، ولكن علم أنه لا قوة له ولا مَنَعَة، فأوردهم وأسلمهم، وكذلك عادة عدو الله بمن أطاعه". وقالت طائفة: "إنما خاف بَطْشة الله به في الدنيا، كما يخاف الكافر والفاجر أن يُقتل أو يُؤخذ بجرمه، لا أنه خاف عقابه في الآخرة". وهذا أصحُّ، وهذا الخوف لا يستلزم إيمانًا ولا نجاةً. قال الكلبي (¬1): "خاف أن يأخذه جبريل، فيُعرِّفهم حاله، فلا يطيعونه". وهذا فاسد؛ فإنه إنما قال لهم ذلك بعد أن فرّ ونكصَ على عقبيه؛ إلا أن يريد أنه إذا عرف المشركون (¬2) أن الذي أجارهم وأوردهم إبليس لم يطيعوه فيما بعد ذلك، وقد أبعد النُّجْعَة إن أراد ذلك، وتكلّف غير المراد. وقال عطاء (¬3): "إني أخاف الله أن يهُلكني فيمن يهُلك". وهذا خوف هلاك الدنيا، فلا ينفعه. وقال الزجَّاج (¬4)، وابن الأنباري: "ظن أن الوقت الذي أُنظر إليه قد حضر. زاد ابن الأنباري، قال: أخاف أن يكون الوقت المعلوم الذي يزول معه إنظاري قد حضر؛ فيقع بي العذاب، فإنه لما عاين الملائكة خاف أن يكون وقت الإنظار قد انقضى، فقال ما قال إشفاقًا على نفسه". ¬

_ (¬1) انظر: تفسير الثعلبي (4/ 366)، وتفسير البغوي (3/ 367). (¬2) في الأصل وأكثر النسخ: "المشركين". والمثبت من ح. (¬3) انظر: تفسير الثعلبي (4/ 366)، وتفسير البغوي (3/ 366)، وزاد المسير (3/ 367). (¬4) معاني القرآن (2/ 421).

معنى قول إبليس لعنه الله: {إني أخاف الله رب العالمين}

فصل ومن كيد عدو الله: أنه يخوِّف المؤمنين من جنده وأوليائه، فلا يجاهدونهم، ولا يأمرونهم بالمعروف، ولا ينهونهم عن المنكر؛ وهذا من أعظم كيده بأهل الإيمان، وقد أخبرنا الله سبحانه عنه بهذا؛ فقال: {إِنَّمَا ذَلِكُمُ الشَّيْطَانُ يُخَوِّفُ أَوْلِيَاءَهُ فَلَا تَخَافُوهُمْ وَخَافُونِ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} [آل عمران: 175]. المعنى عند جميع المفسرين: يُخوِّفكم بأوليائه. قال قتادة: "يُعظِمهم في صدوركم" (¬1). ولهذا قال: {فَلَا تَخَافُوهُمْ وَخَافُونِ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ}، فكلما قوي إيمان العبد زال من قلبه خوف أولياء الشيطان، وكلما ضعف إيمان قوي خوفه منهم. ومن مكايده: أنه يسحر العقل دائمًا حتى يكيده، ولا يَسْلَم من سحره إلا من شاء الله، فيزيّن له الفعل الذي يضره، حتى يخيَّل إليه أنه من أنفع الأشياء له، ويُنفّره من الفعل الذي هو أنفع الأشياء له، حتى يخيَّل له أنه يضره. فلا إله إلا الله! كم فُتن بهذا السحر من إنسان! وكم حال به بين القلب وبين الإسلام والإيمان والإحسان! وكم جمَّل (¬2) الباطل وأبرزه في صورة ¬

_ (¬1) لم أقف عليه من تفسير قتادة، وورد نحوه عن السدي عند ابن جرير في تفسيره (7/ 417)، وابن أبي حاتم فىِ تفسيره (4535) من طريق أحمد بن مفضّل عن أسباط عنه، وعن أبي مالك عند ابن أبي حاتم (4534) من طريق سليمان بن كثير عن حصين عنه قال: "يعظِّم أولياءَه في أعينكم". (¬2) ح: "حلا". م: "جلا".

مستحسنة، وبشّع الحق وأخرجه في صورة مستهجنة! وكم بَهْرَج من الزُّيوف على الناقدين، وكم روّج من الزَّغل على العارفين! فهو الذي سحر العقول حتى ألقى أربابها في الأهواء المختلفة والآراء المتشعّبة؛ وسلك بهم من سبل الضلال كل مسلك، وألقاهم من المهالك في مهلك بعد مهلك، وزيَّن لهم من عبادة الأصنام، وقطيعة الأرحام، ووأد البنات، ونكاح الأمهات، ووعدهم الفوز بالجِنَان مع الكفر والفسوق والعصيان، وأبرز لهم الشرك في صورة التعظيم، والكفر بصفات الرب تعالى وعلوّه على عرشه وتكلمه بكتبه في قالب التنزيه، [33 ب] وترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر في قالب التودّد إلى الناس، وحسن الخلق معهم، والعمل بقوله: {عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ} [المائدة: 105]، والإعراض عما جاء به الرسول - صلى الله عليه وسلم - في قالب التقليد، والاكتفاء بقول من هو أعلم منهم، والنفاق والإدْهان في دين الله في قالب العقل المعيشيّ الذي يندرج به العبد بين الناس. فهو صاحب الأبوين حين (¬1) أخرجهما من الجنة، وصاحب قابيل حين قتل أخاه، وصاحب قوم نوح حين أُغرِقوا، وقومِ عاد حين أُهلِكوا بالريح العقيم، وصاحب قوم صالح حين أُهلكوا بالصيحة، وصاحب الأُمّة اللوطية حين خُسِفَ بهم وأُتبعوا بالرجم بالحجارة، وصاحب فرعون وقومه حين أُخذوا الأخذَة الرّابية، وصاحب عُبّاد العجل حين جرى عليهم ما جرى، وصاحب قريش حين دعوا يوم بدر، وصاحب كل هالك ومفتون. ¬

_ (¬1) م: "حتى".

فصل: كيده لآدم وحواء

فصل وأول كيده ومكره: أنه كاد الأبوين بالأيمان الكاذبة أنه ناصح لهما، وأنه إنما يريد خلودهما في الجنة، قال تعالى: {فَوَسْوَسَ لَهُمَا الشَّيْطَانُ لِيُبْدِيَ لَهُمَا مَا وُورِيَ عَنْهُمَا مِنْ سَوْآتِهِمَا وَقَالَ مَا نَهَاكُمَا رَبُّكُمَا عَنْ هَذِهِ الشَّجَرَةِ إِلَّا أَنْ تَكُونَا مَلَكَيْنِ أَوْ تَكُونَا مِنَ الْخَالِدِينَ (20) وَقَاسَمَهُمَا إِنِّي لَكُمَا لَمِنَ النَّاصِحِينَ (21) فَدَلَّاهُمَا بِغُرُورٍ} [الأعراف: 20 - 22]. فالوسوسة: حديث النّفس والصوت الخفي، وبه سُمِّي صوت الحُليِّ وسواسًا، ورجل موسوِس بكسر الواو، ولا يفتح فإنه لحن، وإنما قيل له: مُوَسوسٌ؛ لأن نفسه تُوسوِس إليه، قال تعالى: {وَنَعْلَمُ مَا تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ} [ق: 16]. وعلم عدوُّ الله أنهما إذا أكلا من الشجرة بدت لهما عوراتهما؛ فإنها معصية، والمعصية تهَتِكُ ستر ما بين الله وبين العبد، فلما عصيا انْهتَك ذلك الستر، فبدت لهما سوآتهما (¬1)، فالمعصية تُبدي السوأة الباطنة والظاهرة، ولهذا رأى النبي - صلى الله عليه وسلم - في رؤياه الزناة والزواني عراةً باديةً سوآتُهم (¬2). وهكذا إذا رُئيَ الرجل أو المرأة في منامه مكشوف السوأة، فإنه يدل على فساد دينه، قال الشاعر: إِني كَأَنيِّ أَرَى مَنْ لاحَيَاءَ لَهُ ... وَلَا أمَانَةَ وَسْطَ النَّاسِ عُرْيَانا (¬3) ¬

_ (¬1) في غير الأصل وح: "عوراتهما". (¬2) أخرجه البخاري (1386، 7047) عن سمرة بن جندب ضمن حديث طويل. (¬3) البيت ضمن مقطوعة لسوار بن المضرب في حماسة أبي تمام بشرح المرزوقي =

الطريقة التي دخل بها الشيطان على آدم وحواء

فإن الله سبحانه أنزل لباسين: لباسًا ظاهرًا يواري العورة ويسترها، ولباسًا باطنًا من التقوى، يُجَمِّلُ العبد ويستره، فإذا زال عنه هذا اللباس انكشفت عورته الباطنة، كما تنكشف عورته الظاهرة بنزع ما يسترها. ثم قال: {مَا نَهَاكُمَا رَبُّكُمَا عَنْ هَذِهِ الشَّجَرَةِ إِلَّا أَنْ تَكُونَا مَلَكَيْنِ} أي: إلا كراهة أن تكونا ملكين، وكراهة أن تخلدا في الجنة، ومن هاهنا دخل عليهما؛ لما عرف أنهما يريدان الخلود فيها. وهذا باب كيدِه الأعظم الذي يدخل منه على ابن آدم؛ فإنه يجري منه مجرى الدم (¬1)، حتى يصادق نفسه ويخالطها، ويسألها عما تحبه وتُؤْثِرُه، فإذا عرفه استعان بها على العبد، ودخل عليه من هذا الباب. وكذلك علَّم إخوانه وأولياءه من الإنس إذا أرادوا أغراضهم الفاسدة من بعضهم بعضًا؛ أن يدخلوا عليهم من الباب الذي يحبونه ويهوَونه، فإنه باب لا يُخْذَلُ عن حاجته من دخل منه، ومن رام الدخول من غيره فالباب عليه مسدودٌ، وهو عن طريق مقصده مصدود. فشامّ عدوُّ الله الأبوين، فأحسّ منهما إيناسًا وركونًا إلى الخلد في تلك الدار في النعيم المقيم، فعلم أنه لا يدخل عليهما من غير هذا الباب، فقاسمهما بالله إنه لهما لمن الناصحين، وقال: {مَا نَهَاكُمَا رَبُّكُمَا عَنْ هَذِهِ الشَّجَرَةِ إِلَّا أَنْ تَكُونَا مَلَكَيْنِ أَوْ تَكُونَا مِنَ الْخَالِدِينَ}. ¬

_ = (3/ 1361)، والزهرة (1/ 12)، وهو له في لسان العرب (وسط) والنوادر لأبي زيد (ص 45). (¬1) كما في الحديث الذي أخرجه البخاري (2038)، ومسلم (2175) عن صفية.

كيف أطمع عدو الله إبليس آدم أن يكون بأكله من الشجرة من الملائكة

وكان [34]، عبد الله بن عباس يقرؤها "مَلِكَيْن" بكسر اللام (¬1)، ويقول: "لم يطمعا أن يكونا من الملائكة، ولكن استشرفا أن يكونا ملِكين، فأتاهما من جهة المُلْك" (¬2). ويدل على هذه القراءة قوله في الآية الأُخرى: {قَالَ يَاآدَمُ هَلْ أَدُلُّكَ عَلَى شَجَرَةِ الْخُلْدِ وَمُلْكٍ لَا يَبْلَى}. وأما على القراءة المشهورة فيقال: كيف أطمع عدوُّ الله آدم أن يكون بأكله من الشجرة من الملائكة، وهو يرى الملائكة لا تأكل ولا تشرب، وكان آدم أعلم بالله وبنفسه وبالملائكة من أن يطمع أن يكون منهم بأكله، ولاسيّما مما نهاه الله عنه؟ فالجواب: أن آدم وحواء لم يطمعا في ذلك أصلًا، وإنما كذبهما عدو الله، وغرّهما، وخدعهما؛ بأن سمّى تلك الشجرة شجرة الخلد، فهذا أول المكر والكيد، ومنه وَرِثَ أتباعه تسمية الأمور المحرمة بالأسماء التي تحبُّ النفوسُ مسمَّياتها، فسمَّوا الخمر أمَّ الأفراح، وسمَّوا أخاها بلُقَيْمة الراحة، وسمَّوا الربا بالمعاملة، وسمَّوا المُكُوسَ بالحقوق السلطانية، وسمَّوا أقبح الظلم وأفحشه شرع الديوان، وسمَّوا أبلغ الكفر -وهو جحد صفات الرب- تنزيهًا، وسمَّوا مجالس الفسوق مجالس الطَّيبة! فلما سمَّاها شجرة الخلد قال: ما نهاكما ربكما عن هذه الشجرة إلا كراهة أن تأكلا منها فتخلدا في ¬

_ (¬1) رواه ابن جرير في تفسيره (12/ 348) من طريق عيسى الأعمى عن السدّي عنه. (¬2) نقله الواحدي عن ابن عباس، انظر: تفسير الرازي (14/ 40)، وتفسير القرطبي (7/ 179).

الجنة ولا تموتا؛ فتكونان مثل الملائكة الذين لا يموتون. ولم يكن آدم قد علم أنه يموت بعد، واشتهى الخلود في الجنة، وحصلت الشُّبهة من قول العدو وإقسامه بالله جهد أيمانه أنه ناصح لهما، فاجتمعت الشبهة والشهوة، وساعد القدر لما قد فرغ الله سبحانه مِن تقديره، فأخذتهما سِنةُ الغَفْلة، واستيقظ لهما العدو، كما قيل: وًاسْتَيْقَظُوا وَأَرَادَ اللهُ غَفْلَتَهُمْ ... لِيَنْفُذَ القَدَرُ المَحْتُومُ فِي الأزَلِ (¬1) إلا أن هذا الجواب يَعترض عليه قولُهُ: {أَوْ تَكُونَا مِنَ الْخَالِدِينَ}. فيقال: الماكر المخادع لابد أن يكون فيما يمكر به ويكيد من التناقض والباطل ما يدل على مكره وكيده، ولا حاجة بنا إلى تصحيح كلام عدوِّ الله، والاعتذار عنه، وإنما نعتذر عن الأب في كون ذلك رَاجَ عليه وولج سمعه، فهو لم يجزم لهما بأنهما إن أكلا منها صارا مَلَكين، وإنما ردّد الأمر بين أمرين: أحدهما ممتنع، والآخر ممكن، وهذا من أبلغ أنواع الكيد والمكر، ولهذا لما أطمعه في الأمر الممكن جزم له به ولم يُردِّده، فقال: {يَاآدَمُ هَلْ أَدُلُّكَ عَلَى شَجَرَةِ الْخُلْدِ وَمُلْكٍ لَا يَبْلَى}، فلم يُدْخِل أداة الشك هاهنا كما أدخلها في قوله: {إِلَّا أَنْ تَكُونَا مَلَكَيْنِ أَوْ تَكُونَا مِنَ الْخَالِدِينَ}، فتأمله. ثم قال تعالى: {وَقَاسَمَهُمَا إِنِّي لَكُمَا لَمِنَ النَّاصِحِينَ}، فتضمن هذا الخبر أنواعًا من التأكيد: أحدهما: تأكيده بالقسم. ¬

_ (¬1) البيت ضمن قصيدة لعبيد الله بن أسعد الموصلي في الروضتين (1: 1/ 320).

معنى قوله تعالى: {فدلاهما بغرور}

الثاني: تأكيده بـ (إنّ). الئالث: تقديم المعمول على العامل إيذانًا بالاختصاص، أي: نصيحتي مختصة بكما، وفائدتها إليكما لا إليّ. الرابع: إتيانه (¬1) باسم الفاعل الدّال على الثبوت واللزوم، دون الفعل الدال على التجدد، أي: النصح صفتي وسجيَّتي، ليس أمرًا عارضًا لي. الخامس: إتيانه (¬2) بلام التأكيد في جواب القسم. السادس: أنه صوّر نفسه لهما ناصحًا من جملة الناصحين، وكأنّه قال لهما: الناصحون لكما في ذلك كثير، وأنا واحد منهم، كما تقول لمن تأمره بشيء: كلُّ أحد معي على هذا، وأنا من جملة من يشير عليك به. سَعَى نَحْوَها حَتَّى تجَاوَزَ حَدَّهُ ... وَكَثَّرَ فَارْتَابَتْ وَلَوْ شَاءَ قَلَّلَا (¬3) وورّث عدوُّ الله هذا المكرَ لأوليائه وحزبه عند خداعهم للمؤمنين، كما كان المنافقون [34 ب] يقولون لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا جاءوه: {نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللَّهِ} [المنافقون: 1]، فأكدوا خبرهم بالشهادة وبـ (إنَّ) وبلام التأكيد، وكذلك قوله سبحانه: {وَيَحْلِفُونَ بِاللَّهِ إِنَّهُمْ لَمِنْكُمْ وَمَا هُمْ مِنْكُمْ} [التوبة: 56]. ثم قال تعالى: {فَدَلَّاهُمَا بِغُرُورٍ} [الأعراف: 22]. ¬

_ (¬1) م، ش: "إثباته". (¬2) م، ش: "إثباته" مثل السابق. (¬3) البيت لمهيار الديلمي في ديوانه (3/ 194)، والمثل السائر (3/ 130). والشطر الأول ساقط من بعض النسخ. وفي الأصل: "لكن تجاوز حدّها".

قال أبو عبيدة (¬1): خذلهما وخلّاهما، من تَدْلِيةِ الدلو، وهو إرسالها في البئر. وذكر الأزهري (¬2) لهذه اللفظة أصلين: أحدهما؛ قال: أصله الرجل العطشان يتدلى في البئر ليروَى من الماء، فلا يجد فيها ماءً، فيكون قد تدلى فيها بالغرور، فوُضِعَت التدلية موضع الإطماع فيما لا يجُدي نفعًا، فيقال: دَلّاه، إذا أطمعه، ومنه قول أبى جندب الهذلي: أَحُصُّ فَلَا أُجِيرُ وَمَنْ أُجِرْهُ ... فَلَيْسَ كَمَنْ تَدَلَّى بِالْغُرُورِ (¬3) أحُصُّ أي: أقطع. الثاني: فدلَّاهما بغرور؛ أي: جرّأهما على أكل الشجرة، وأصله: دلَّلهما من الدلال والدالَّة، وهى الجراءة. قال شَمرٌ: يقال: ما دلَّك عليّ، أي: ما جرّأك علي، وأنشد لقيس بن زهير: أَظن الحِلْمَ دَلَّ عَلَيَّ قَوْمِي ... وَقَدْ يُسْتَجْهَلُ الرَّجُلُ الحَلِيمُ (¬4) ¬

_ (¬1) لم أجد قوله في مجاز القرآن. والمؤلف نقله من البسيط للواحدي (9/ 66) كما نقل منه الأقوال الأخرى. (¬2) تهذيب اللغة (14/ 172). (¬3) البيت له في شرح أشعار الهذليين (1/ 355)، ومجمل اللغة (2/ 14)، ولسان العرب (دلا). وفيها: "يُدلىَّ". (¬4) البيت لقيس في الحماسة (1/ 240)، والنقائض (1/ 97)، والفاخر (ص 227)، والعقد الفريد (5/ 157)، والأغاني (17/ 206)، والموفقيات (ص 198)، وأمالي القالي (1/ 261)، وشرح المفضليات (ص 694)، واللسان (دلل)، وهو للربيع بن زياد في خزانة الأدب (3/ 538).

قلت: أصل التدلية في اللغة: الإرسال والتعليق، يقال: دلىّ الشيء في مهْوَاة؛ إذا أرسله بتعليق، وتدلى الشيء بنفسه، ومنه قوله تعالى: {فَأَرْسَلُوا وَارِدَهُمْ فَأَدْلَى دَلْوَهُ} [يوسف: 19]. قال عامة أهل اللغة: يقال: أدلى دلوه؛ إذا أرسلها في البئر، ودَلَاها بالتخفيف: إذا نزعها من البئر، فأدلى دلوه يُدلِيه إدلاءً: إذا أرسلها، ودَلًاها يَدْلوها دلوًا: إذا نزعها وأخرجها، ومنه الإدلاء، وهو التوصل إلى الرجل برحمٍ منه. ويشاركه في الاشتقاق الأكبر: الدلالة، وهي التوصل إلى الشيء بإبانته وكشفه، ومنه الدَّلُّ، وهو ما يدل على العبد من أفعاله، وكان عبد الله بن مسعود يُشبَّه بالنبي - صلى الله عليه وسلم - في هَديه ودلِّه وسمْتِه (¬1)، فالهدي: الطريقة التي عليها العبد من أخلاقه وأقواله وأعماله، والدلّ: ما يدل من ظاهره على باطنه، والسّمت: هيأته ووقاره ورزانته. والمقصود ذكر كيد عدوّ الله ومكره بالأبوين. قال مُطرِّف بن عبد الله (¬2): قال لهما: إني خُلِقتُ قبلكما، وأنا أعلم منكما، فاتَّبعاني أُرشدكما، وحلف لهما، وإنما يُخدَع المؤمن بالله. قال قتادة (¬3): "وكان بعض أهل العلم يقول: من خادَعَنا بالله خُدِعْنا"، ¬

_ (¬1) أخرجه الحاكم في المستدرك (3/ 320) عن علقمة. (¬2) رواه ابن أبي حاتم في تفسيره (8296) من طريق سعيد بن أبي عروبة عن قتادة عنه. (¬3) رواه ابن جرير في تفسيره (12/ 351)، وابن أبي حاتم في تفسيره (8296) من طريقين عن سعيد عنه، وعزاه في الدر المنثور (3/ 431) لعبد بن حميد وابن المنذر وأبي الشيخ.

فصل: من مكايد الشيطان: الغلو والتقصير

فالمؤمن غِرٌّ كريم، والفاجر خِبٌّ لئيم. وفى "الصحيح" (¬1): "أن عيسى ابن مريم رأى رجلًا يسرق، فقال: سرقتَ؟ فقال: لا والله الذي لا إله إلا هو! فقال المسيح: آمنتُ بالله وكذّبتُ بصري". وقد تأوَّله بعضهم على أنه لما حلف له جَوّز أن يكون قد أخذ ماله، فظنه المسيح سرقه. وهذا تكلُّف، وإنما كان الله سبحانه في قلب المسيح أجلّ وأعظم من أن يحلف به أحد كاذبًا، فلما حلف له السارق دار الأمر بين تهمته وتهمة بصره، فردّ التهمة إلى بصره لمّا اجتهد له في اليمين بالله، كما ظنَّ آدم صدقَ إبليس لما حلف له بالله، وقال: ما ظننت أحدًا يحلف بالله كاذبًا. فصل ومن كيده العجيب: أنه يُشامُّ النفس، حتى يعلم أي القوتين تغلب عليها: قوة الإقدام والشجاعة، أم قوة الانكفاف والإحجام والمهانة؟ فإنْ رأى الغالبَ على النفس المهانةَ والإحجام؛ أخذ في تثبيطه وإضعاف همته وإرادته عن المأمور به، وثقّله عليه، وهوّن عليه تركه، حتى يتركه جملة، أو يُقصِّر فيه ويتهاون يه. وإن رأى الغالبَ عليه قوةَ الإقدام وعلوّ الهمة؛ أخذ يُقلّل [35 أ]، عنده المأمور به، ويُوهِمه أنه لا يكفيه، وأنه يحتاج معه إلى مبالغة وزيادة. ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري (3444)، ومسلم (2368) من حديث أبي هريرة.

صور من التقصير والغلو الذي أوقع الشيطان فيه الناس

فيقصِّر بالأول ويتجاوز بالثاني، كما قال بعض السلف: "ما أمر الله سبحانه بأمر إلا وللشّيطان فيه نزعتان: إما إلى تفريط وتقصير، وإما إلى مجاوزة وغلو، ولا يبالي بأيهما ظفر" (¬1). وقد اقتطع أكثرُ الناس إلا أقلَّ القليل في هذين الواديين: وادي التقصير، ووادي المجاوزة والتعدي، والقليل منهم جدًّا الثابتُ على الصراط الذي كان عليه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه. فقوم قصّر بهم عن الإتيان بواجبات الطهارة، وقوم تجاوز بهم إلى مجاوزة الحدّ بالوسواس. وقوم قصّر بهم عن إخراج الواجب منٍ المال، وقوم تجاوز بهم حتى أخرجوا جميع ما في أيديهم، وقعدوا كَلًّا على الناس، مستشرفين إلى ما بأيديهم. وقوم قصّر بهم عن تناول ما يحتاجون إليه من الطعام والشراب واللباس، حتى أضرُّوا بأبدانهم وقلوبهم، وقوم تجاوز بهم حتى أخذوا فوق الحاجة، فأضروا بقلوبهم وأبدانهم. وكذلك قصّر بقوم في حق الأنبياء وورثتهم حتى قتلوهم، وتجاوز بآخرين حتى عبدوهم. وقصّر بقوم في خُلطة الناس حتى اعتزلوهم في الطاعات، كالجمعة والجماعات والجهاد وتعلُّم العلم، وتجاوز بقوم حتى خالطوهم في الظلم والمعاصي والآثام. ¬

_ (¬1) رواه الخطابي في العزلة (ص 97) عن إبراهيم بن عبد الرحمن العنبري عن ابن أبي قماش عن ابن عائشة قوله.

وقصر بقوم حتى امتنعوا من ذبح عصفورٍ أو شاةٍ ليأكله، وتجاوز بآخرين حتى جرّأهم على الدماء المعصومة. وكذلك قصّر بقوم حتى منعهم من الاشتغال بالعلم الذي ينفعهم، وتجاوز بآخرين حتى جعلوا العلم وحده هو غايتهم، دون العمل به. وقصّر بقوم حتى أطعمهم من العشب ونبات البرية دون غذاء بني آدم، وتجاوز بآخرين حتى أطعمهم الحرام الخالص. وقصّر بقوم حتى زيّن لهم ترك سنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من النكاح، فرغبوا عنه بالكُلِّيّة، وتجاوز بآخرين حتى ارتكبوا ما وصلوا إليه من الحرام. وقصّر بقوم حتى جَفَوا الشيوخَ من أهل الدين والصلاح، وأعرضوا عنهم، ولم يقوموا بحقهم، وتجاوز بآخرين حتى عبدوهم مع الله. وكذلك قصّر بقوم حتى منعهم قبولَ أقوالِ أهل العلم والالتفات إليها بالكلية، وتجاوز بآخرين حتى جعلوا الحلال ما حلّلوه والحرام ما حرّموه، وقدموا أقوالهم على سنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الصحيحة الصريحة. وقصّر بقوم حتى قالوا: إن الله سبحانه لا يقدر على أفعال عباده ولا شاءها منهم، ولكنهم يعملونها بدون مشيئته وقدرته، وتجاوز بآخرين حتى قالوا: إنهم لا يفعلون شيئًا البتة، وإنما الله سبحانه هو فاعل تلك الأفعال حقيقة، فهي نفس فعله لا أفعالهم، والعبيد ليس لهم قدرة ولا فعلٌ البتةَ. وقصّر بقوم حتى قالوا: إن رب العالمين ليس داخلًا في خلقه ولا بائنًا عنهم، ولا هو فوقهم ولا تحتهم، ولا خلفهم ولا أمامهم، ولا عن أيمانهم ولا عن شمائلهم، وتجاوز بآخرين حتى قالوا: هو في كل مكان بذاته، كالهواء الذي هو داخل في كل مكان.

وقصّر بقوم حتى قالوا: لم يتكلم الرب سبحانه بكلمة واحدة البتة، وتجاوز بآخرين حتى قالوا: لم يزل أزلًا وأبدًا يقول: {يًاإِبْلِيسُ مًا مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ لِمًا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ} [ص: 75]، ويقول لموسى: {اذْهَبْ إِلَى فِرْعَوْنَ} [النازعات: 17]؛ فلا يزال هذا الخطاب قائمًا به ومسموعًا منه، كقيام صفة الحياة به. وقصّر بقوم حتى قالوا: إن الله سبحانه لا يُشَفِّع أحدًا في أحد البتة، ولا يرحم أحدًا بشفاعة أحدٍ، وتجاوز بآخرين حتى زعموا أن المخلوق يشفع عنده [35 ب] بغير إذنه، كما يشفع ذو الجاه عند الملوك ونحوهم. وقصّر بقوم حتى قالوا: إيمان أفسق الناس وأظلمهم كإيمان جبريل وميكائيل، فضلًا عن أبى بكر وعمر، وتجاوز بآخرين حتى أخرجوا من الإسلام بالكبيرة الواحدة. وقصّر بقوم حتى نَفَوا حقائق أسماء الرب تعالى وصفاته وعطّلوه منها، وتجاوز بآخرين حتى شبَّهوه بخلقه ومَثّلوه بهم. وقصّر بقوم حتى عادَوا أهل بيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وقاتلوهم، واستحلُّوا من حرمتهم، وتجاوز بقوم حتى ادَّعَوا فيهم خصائص النبوة من العصمة وغيرها، وربما ادعوا فيهم الإلهية. كذا قصّر باليهود في المسيح حتى كذَّبوه، ورمَوه وأمَّه بما برأهما الله منه، وتجاوز بالنصارى حتى جعلوه ابن الله، وجعلوه إلهًا يُعبَد مع الله. وقصّر بقوم حتى نَفَوا الأسباب والقُوى والطبائع والغرائز، وتجاوز بآخرين حتى جعلوها أمرًا لازمًا لا يمكن تغييره ولا تبديله، وربما جعلها بعضهم مستقلة بالتأثير.

فصل: من كيده: الاعتماد على الآراء والأهواء

وقصّر بقوم حتى تعبَّدوا بالنجاسات، وهم النصارى وأشباهُهم، وتجاوز بقوم حتى أفضى بهم الوسواس إلى الآصار والأغلال، وهم أشباه اليهود. وقصّر بقوم حتى تزيّنوا للناس وأظهروا لهم من الأعمال والعبادات ما يحمدونهم عليه، وتجاوز بقوم حتى أظهروا لهم من القبائح ومن الأعمال السيئة ما يُسقطون به جاهَهم عندهم، وسَمَّوْا أنفسهم الملامتية. وقصّر بقوم حتى أهملوا أعمال القلوب ولم يلتفتوا إليها، وعدُّوها فضلًا أو فضولًا، وتجاوز بآخرين حتى قَصَرُوا نظرهم وعملهم (¬1) عليها، ولم يلتفتوا إلى كثير من أعمال الجوارح، وقالوا: العارف لا يُسْقِطُ وَارِدَهُ لوِرْدِهِ. وهذا بابٌ واسعٌ جدًا، لو تتبعناه لبلغ مبلغًا كثيرًا، وإنما أشرنا إليه أدنى إشارة. فصل ومن جملة مكايده: الكلام الباطل، والآراء المتهافتة، والخيالات المتناقضة، التي هي زبالة الأذهان، ونُحاتة الأفكار، والزَّبَدُ الذي تقذف به القلوب المظلمة المتحيرة، التي تَعدِل الحق بالباطل، والخطأ بالصواب، قد تقاذفت بها أمواج الشبهات، ورانَتْ عليها غيومُ الخيالات، فمركبها القِيل والقال، والشك والتشكيك وكثرة الجدال، ليس لها حاصل من اليقين يُعوَّل عليه، ولا معتقد مطابق للحق يُرجع إليه؛ {يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُورًا} [الأنعام: 112]، فقد اتخذوا لأجل ذلك القرآن مهجورًا، وقالوا من عند أنفسهم فقالوا مُنكرًا من القول وزورًا. ¬

_ (¬1) م: "علمهم".

فصل: من كيده: تزيين الأدلة العقلية

فهم في شكّهِم يَعْمَهُون، وفى حَيْرتهِم يتردَّدون، نبذوا كتاب الله وراء ظهورهم كأنهم لا يعلمون، واتبعوا ما تَلَتْه (¬1) الشياطين على ألسنة أسلافهم من أهل الضلال، فهم إليه يتحاكمون، وبه يتخاصمون، فارقوا الدليل، واتبعوا {أَهْوَاءَ قَوْمٍ قَدْ ضَلُّوا مِنْ قَبْلُ وَأَضَلُّوا كَثِيرًا وَضَلُّوا عَنْ سَوَاءِ السَّبِيلِ} [المائدة: 77]. فصل ومن كيده بهم وتحيُّله على إخراجهم من العلم والدين: أن ألقى على ألسنتهم أن كلام الله ورسوله ظواهر لفظية لا تفيد اليقين، وأوحى إليهم أن القواطع العقلية والبراهين اليقينية في المناهج الفلسفية والطرق الكلامية، فحال بينهم وبين اقتباس الهدى واليقين من مِشْكاة القرآن، وأحالهم على منطق اليونان، وعلى ما عندهم من الدعاوى الكاذبة العَرِيَّة عن البرهان، وقال لهم: تلك علوم قديمة صَقَلتها العقول والأذهان، ومَرّتْ عليها القرون والأزمان. فانظر كيف تلطَّف بكيده ومكره حتى أخرجهم من الإيمان والدين، كإخراج الشعرة من العجين! [36 أ] فصل ومن كيده: ما ألقاه إلى جُهَّال المتصوفة من الشَّطح والطامَّات، وأبرزه لهم في قالب الكشف من الخيالات، فأوقعهم في أنواع الأباطيل والتُّرَّهات، وفتح لهم أبواب الدعاوى الهائلات، وأوحى إليهم أن وراء العلم طريقًا إن سلكوه أفضى بهم إلى كشف العِيان، وأغناهم عن التقيُّد بالسنة والقرآن. ¬

_ (¬1) ح، ش: "تتلو"، م: "تمليه".

فصل: من أنواع كيده: تحسين المنكر وتقبيح الحسن

فحسَّن لهم رياضة النفوس وتهذيبها، وتصفية الأخلاق، والتجافي عما عليه أهل الدنيا، وأهل الرياسة والفقهاء، وأرباب العلوم، والعمل على تفريغ القلب وخُلُوِّه من كل شيء، حتى ينتقش فيه الحق بلا واسطة تعلَّم. فلما خلا من صورة العلم الذي جاء به الرسول نَقَش فيه الشيطان بحسب ما هو مستعدٌّ له من أنواع الباطل، وخَيّله للنفس حتى جعله كالمشاهَد كشفًا وعيانًا، فإذا أنكره عليهم ورثة الرسل قالوا: لكم العلم الظاهر ولنا الكشف الباطن، ولكم ظاهر الشريعة وعندنا باطن الحقيقة، ولكم القشور ولنا اللباب. فلما تمكّن هذا من قلوبهم سلَخَها من الكتاب والسنة والآثار، كما يُسلَخ الليل من النهار، ثم أحالهم في سلوكهم على تلك الخيالات، وأوهمهم أنها من الآيات البينات، وأنها من قِبَل الله سبحانه إلهامات وتعريفات، فلا تُعْرَضُ على السنة والقرآن، ولا تُعامَل إلا بالقبول والإذعان. فلغير الله -لا له- سبحانه ما يفتحه عليهم الشيطان: من الخيالات والشطحات وأنواع الهذيان! وكلما ازدادوا بُعْدًا وإعراضًا عن القرآن وما جاء به الرسول كان هذا الفتح على قلوبهم أعظم. فصل ومن أنواع مكايده ومكره: أنه يدعو العبد -بحسن خلقه وطلاقته وبِشْره -إلى أنواع من الآثام والفجور، فيلقاه مَنْ لا يخُلِّصُه من شره إلا تجهُّمُه والتعبيس في وجهه والإعراض عنه، فيحسِّن له العدوُّ أن يلقاه ببِشْره، وطلاقة وجهه، وحسن كلامه، فيتعلق به، فيروم التخلص منه فيعجِز، فلا يزال العدو يسعى بينهما حتى يصيب حاجته، فيدخل على العبد بكيده من

فصل: من مكايده ما يكون من طريق عرة النفس

باب حسن الخلق وطلاقة الوجه. ومن هاهنا وصّى أطباء القلوب بالإعراض عن أهل البدع، وأن لا يسلِّم عليهم، ولا يُرِيهَم طلاقةَ وجهه، ولا يلقاهم إلا بالعبوس والإعراض. وكذلك أوصَوْا عند لقاء من يخاف الفتنة بلقائه من النساء والمردان، وقالوا: متى كَشفتَ للمرأة أو الصبي بياض أسنانك كشفا لك عما هنالك، ومتى لقيتهما بوجه عابسٍ وُقِيتَ شرَّهما. ومن مكايده: أنه يأمرك أن تلقى المساكين وذوي الحاجات بوجه عبوس، ولا تُرِيهم بشرًا ولا طلاقة، فيطمعوا فيك، ويتجرأوا عليك، وتسقط هيبتك من قلوبهم، فيحرمك صالح أدعيتهم، وميل قلوبهم إليك، ومحبتهم لك؛ فيأمرك بسوء الخلق، ومنع البِشر والطلاقة مع هؤلاء، وبحسن الخلق والبِشْر مع أولئك، ليفتح لك باب الشر، ويغلق عنك باب الخير. فصل ومن مكايده: أنه يأمرك بإعزاز نفسك وصَوْنها حيث يكون رضا الرب تعالى في إذلالها وابتذالها، كجهاد الكفار والمنافقين، وأمر الفجار والظلمة بالمعروف ونهيهم عن المنكر، فيخيِّل إليك أن ذلك تعريض لنفسك إلى مواطن الذل، وتسليط الأعداء، وطعنهم فيك، فيزول جاهك؛ فلا يُقبل منك بعد ذلك ولا يُسمَع منك. ويأمرك بإذلالها وامتهانها حيث يكون الخير في إعزازها وصيانتها، كما يأمرك بالتبذل لذوي [36 ب] الرياسات، وإهانة نفسك لهم، ويخيِّل إليك أنك تُعِزُّها بهم، وترفع قدرها بالذل لهم، ويُذكِّرك قولَ الشاعر:

فصل: من كيده: الدعوة إلى عزلة الناس والتكبر عليهم

أُهِينُ لهمْ نَفْسِي لأرْفَعهَا بهِمْ ... وَلَنْ تُكْرَمَ النَّفْسُ الَّتِي لا تُهِينُهَا (¬1) وغَلِط هذا القائلُ؛ فإن ذلك لا يصلح إلا لله وحده؛ فإنه كلما أهان العبد نفسه له أكرمه وأعزَّه، بخلاف المخلوق، فإنك كلما أهنت نفسك له ذَلَلْتَ عند الله وعند أوليائه، وهُنْتَ عليه. فصل ومن كيده وخداعه: أنه يأمر الرجل بانقطاعه في مسجد، أو رباط، أو زاوية، أو تربة، ويحبسه هناك، وينهاه عن الخروج، ويقول له: متى خرجتَ تبذّلت للناس، وسقطت من أعينهم، وذهبتْ هيبتُك من قلوبهم، وربما ترى في طريقك منكرًا. وللعدو في ذلك مقاصد خفية يريدها منه، منها: الكبر، واحتقار الناس، وحفظ الناموس، وقيام الرياسة. ومخالطةُ الناس تُذهِب ذلك، وهو يريد أن يُزار ولا يزور، ويقصده الناس ولا يقصدهم، ويفرح بمجيء الأمراء إليه، واجتماع الناس عنده، وتقبيل يده، فيترك من الواجبات والمستحبات والقُرُبات ما يُقرِّبه إلى الله، ويتعوّض عنه بما يُقرِّب الناسَ إليه. وقد كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يخرج إلى السوق (¬2). ¬

_ (¬1) البيت بلا نسبة في البيان والتبيين (2/ 189)، وعيون الأخبار (1/ 91)، والعقد الفريد (1/ 70)، وبهجة المجالس (1/ 265)، وقد تمثل به الشافعي كما في آداب الشافعي لابن أبي حاتم (ص 127)، وحلية الأولياء (9/ 148)، وجامع بيان العلم (1/ 117)، والانتقاء (ص 91)، ووفيات الأعيان (7/ 64)، وطبقات الشافعية للسبكي (2/ 165). (¬2) ورد ذلك في أحاديث كثيرة.

قال بعض الحفّاظ: "وكان يشتري حاجته ويحملها بنفسه"، ذكره أبو الفرج ابن الجوزي وغيره. وكان أبو بكر يخرج إلى السوق يحمل الثياب، فيبيع ويشتري (¬1). ومرَّ عبد الله بن سلام وعلى رأسه حُزْمة حطب، فقيل له: ما يحملك على هذا وقد أغناك الله؟ فقال: أردت أن أدفع به الكِبْرَ، فإني سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: "لا يدخل الجنة عبد في قلبه مثقال ذرة من كِبرٍ" (¬2). وكان أبو هريرة يحمل الحطب وغيره من حوائجه بنفسه وهو أمير على المدينة، ويقول: "افسحوا لأميركم، افسحوا لأميركم" (¬3). وخرج عمر بن الخطاب يومًا وهو خليفة في حاجة له ماشيًا، فأعيا، فرأى غلامًا على حمار له، فقال: يا غلام! احملني فقد أعييتُ، فنزل الغلام عن الدابة، وقال: اركب يا أمير المؤمنين! فقال: لا، اركب أنت وأنا خلفك، ¬

_ (¬1) لم أقف عليه بهذا اللفظ، وروى البيهقي في الكبرى (6/ 353) عن الحسن أن أبا بكر الصديق رضي الله عنه غدا إلى السوق، فقال له عمر رضي الله عنه: أين تريد؟ قال: السوق، قال: قد جاءك ما يشغلك عن السوق، قال: سبحان الله! يشغلني عن عيالي؟! وهذا إسناد منقطع. (¬2) رواه عبد الله بن أحمد في زوائد الزهد (ص 182)، وأبو يعلى كما في المطالب العالية (3226)، والطبراني في الكبير (13/ 147)، والبيهقي في الشعب (6/ 291)، وابن عساكر في تاريخ دمشق (29/ 132، 133)، والضياء في المختارة (9/ 452، 454)، وصححه الحاكم (5757)، والبوصيري في إتحاف الخيرة (7993)، وحسنه المنذري في الترغيب (3/ 355)، والهيثمي في المجمع (1/ 284)، والألباني في صحيح الترغيب (2910). (¬3) انظر: إحياء علوم الدين (2/ 241).

فصل: من كيده: إغراء الإنسان بالتعرز والتكبر

فركب خلف الغلام، حتى دخل المدينة والناس يرونه (¬1). فصل ومن كيده: أنه يُغرِي الناس بتقبيل يده، والتمسُّح به، والثناء عليه، وسؤاله الدعاء، ونحو ذلك، حتى يرى نفسه، ويعجبه شأنهُا، فلو قيل له: إنك من أوتاد الأرض، وبك يُدفَع البلاءُ عن (¬2) الخلق ظن ذلك حقًّا، وربما قيل له: إنه يُتوَسَّل به إلى الله، ويُسأل الله به وبحرمته، فيقضي حاجتهم، فيقع ذلك في قلبه، ويفرح به، ويظنه حقًّا. وذلك كلُّ الهلاك، فإذا رأى من أحد من الناس تجافيًا عنه، أو قلة خضوع له، تذمّر لذلك ووجد في باطنه، وهذا شرٌّ من أرباب الكبائر المصرِّين عليها، وهم أقرب إلى السلامة منه. فصل ومن كيده: أنه يُحسِّن إلى أرباب التخليّ والزهد والرياضة العملَ بهاجِسهم وواقعهم، دون تحكيم أمر الشارع، ويقولون: القلب إذا كان محفوظًا مع الله كانت هواجسه وخواطره معصومة من الخطأ! وهذا من أبلغ كيد العدوفيهم، فإن الخواطر والهواجس ثلاثة أنواع: رحمانية، وشيطانية، ونفسانية، كالرؤيا، فلو بلغ العبد من الزهد والعبادة ما ¬

_ (¬1) رواه ابن أبي الدنيا في ذم الدنيا (288)، والدينوري في المجالسة (1401) من طريق الحسن عن عمر، وهذا إسناد منقطع، ومن طريق الدينوري رواه ابن عساكر في تاريخ دمشق (44/ 318 - 319). (¬2) من هنا إلى قوله: "لا يقتدى به" (ص 238) ساقطة من م.

بلغ فمعه شيطانه ونفسه، لا يفارقانه إلى الموت، والشيطان يجري منه مجرى الدم، والعصمة [37 أ] إنما هي للرسل صلوات الله وسلامه عليهم، الذين هم وسائط بين الله وبين خلقه في تبليغ أمره ونهيه ووعده ووعيده، ومن عداهم يصيب ويخطئ، وليس بحجة على الخلق. وقد كان سيِّد المحدَّثين المُلهَمِين عمر بن الخطاب، يقول الشيء، فيردُّه عليه من هو دونه، فيتبين له الخطأ، فيرجع إليه. وكان يَعرِض هواجسَه وخواطره على الكتاب والسنة، ولا يلتفت إليها، ولا يحكم بها، ولا يعمل بها. وهؤلاء الجُهَّال يرى أحدهم أدنى شيء، فيُحكّم هواجسه وخواطره على الكتاب والسنة، ولا يلتفت إليهما، ويقول: حدَّثني قلبي عن ربي، ونحن أخذنا عن الحي الذي لا يموت، وأنتم أخذتم عن الوسائط، ونحن أخذنا با لحقائق، وأنتم أخذتم (¬1) الرسوم، وأمثال ذلك من الكلام الذي هو كفر وإلحاد، وغاية صاحبه أن يكون جاهلًا يُعذَر بجهله، حتى قيل لبعض هؤلاء: ألا تذهب فتسمع الحديث من عبد الرزاق؟ فقال: ما يَصْنَع بالسماع من عبد الرزاق مَنْ يسمع من الملك الخلّاق؟! وهذا غاية الجهل؛ فإن الذي سمع من الملك الخلاق موسى بن عمران كليم الرحمن، وأما هذا وأمثاله فلم يحصل لهم السماع من بعض ورثة الرسول، وهو يدعي أنه يسمع الخطاب من مُرْسله، فيستغني به عن ظاهر العلم، ولعل الذي يخاطبه هو الشيطان، أو نفسه الجاهلة، أو هما مجتمعين ومنفردين. ¬

_ (¬1) في بعض النسخ: "اتبعتم".

ومن ظن أنه يستغنى عما جاء به الرسول، بما يُلْقَى في قلبه من الخواطر والهواجس؛ فهو من أعظم الماس كفرًا، وكذلك إن ظن أنه يكتفي بهذا تارة وبهذا تارة. فما يُلقى في القلوب لا عبرة به ولا التفات إليه؛ إن لم يُعرض على ما جاء به الرسول ويشهد له بالموافقة؛ وإلا فهو من إلقاء النفس والشيطان. وقد سُئل عبد الله بن مسعود عن مسألة المُفَوّضة شهرًا، فقال بعد الشهر: "أقول فيها برأي؛ فإن يكن صوابًا فمن الله، وإن يكن خطًا فمني ومن الشيطان، والله بريء منه ورسوله" (¬1). وكتب كاتب لعمر بين يديه: "هذا ما أرى اللهُ عمرَ"، فقال: "لا، امْحُه واكتب: هذا ما رأى عمر" (¬2). وقال عمر أيضًا: "أيها الناس! اتهموا الرأي على الدّين؛ فلقد رأيتُني يوم ¬

_ (¬1) رواه عبد الرزاق (6/ 294، 479)، وابن أبي شيبة (3/ 556 , 6/ 10)، وأحمد (1/ 447، 4/ 279)، وأبو داود (2118)، والنسائي (3354، 3358)، والطبراني في الكبير (20/ 231، 232)، وغيرهم بأسانيد اختُلف فيها، وصححه ابن الجارود (718)، والطحاوي في شرح المشكل (9/ 215، 13/ 344)، وابن حبان (4100، 4101)، والحاكم (2737)، وابن حزم كما في التلخيص الحبير (3/ 405)، والبيهقي في الكبرى (7/ 246)، وابن القيم في إعلام الموقعين (1/ 57)، وابن الملقن في البدر المنير (7/ 680)، وهو مخرج في الإرواء (1939). (¬2) رواه الطحاوي في شرح المشكل (9/ 214، 215) وصححه، والبيهقي في الكبرى (15/ 116)، وابن حزم في الإحكام (2/ 1025). قال ابن القيم في إعلام الموقعين (1/ 55): "إسناده في غاية الصحة"، وقال ابن حجر في التلخيص الحبير (4/ 472): "إسناده صحيح".

أبي جَنْدَل؛ ولو أستطيع أن أردّ أمر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لرددته" (¬1). واتهام الصحابة لآرائهم كثير مشهور، وهم أبَرّ الأمة قلوبًا، وأعمقها علمًا، وأبعدها من الشيطان، فكانوا أتبع الأمة للسنة، وأشدهم اتهامًا لآرائهم، وهؤلاء ضد ذلك. وأهل الاستقامة منهم سلكوا على الجادة، ولم يلتفتوا إلى شيء من الخواطر والهواجس والإلهامات، حتى يقوم عليها شاهدان. قال الجُنيد بن محمد: قال أبو سليمان الدَّارانيُّ: "ربما يقع في قلبي النُكتة من نكت القوم أيامًا؛ فلا أقبلها إلا بشاهدين عدلين من الكتاب والسنة" (¬2). وقال أبو يزيد: "لو نظرتم إلى رجل أُعِطي من الكرامات حتى يترفّع في الهواء فلا تغتروا به حتى تنظروا كيف تجدونه عند الأمر والنهي وحفظ الحدود؟ " (¬3). ¬

_ (¬1) رواه البزار (148)، والدولابي في الكنى (1517)، وابن المنذر في الأوسط (3323)، والطحاوي في شرح المشكل (13/ 37)، والطبراني في الكبير (1/ 72)، واللالكائي في اعتقاد أهل السنة (208)، والضياء في المختارة (219)، وغيرهم من طريق مبارك بن فضالة عن عبيد الله عن نافع عن ابن عمر عن عمر، وحسنه ابن كثير في مسند الفاروق (2/ 497)، وقال الهيثمي في المجمع (1/ 431): "رواه أبو يعلى، ورجاله موثقون وإن كان فيهم مبارك بن فضالة"، وقال في موضع آخر (6/ 212): "رواه البزار، ورجاله رجال الصحيح". (¬2) رواه السلمي في طبقات الصوفية (ص 77)، وعنه القشيري في الرسالة القشيرية (ص 41)، ومن طريق القشيري رواه ابن عساكر في تاريخ دمشق (34/ 127). (¬3) رواه أبو نعيم في الحلية (10/ 40)، والبيهقي في الشعب (2/ 300)، والقشيري في الرسالة القشيرية (ص 38 - 39).

وقال أيضًا: "من ترك قراءة القرآن، ولزوم الجماعات، وحضور الجنائز، وعيادة المرضى، وادّعى بهذا الشأن؛ فهو مُدّعٍ" (¬1). وقال سَرِيٌّ السَّقطيُّ: "من ادعى باطن علمٍ ينقضه ظاهرُ حكيمٍ فهو غالط" (¬2). وقال الجنيد: "مذهبنا هذا مقيَّد بالأصول بالكتاب والسنة، فمن لم يحفظ الكتاب ويكتب الحديث ويتفقه لا يُقتدى به" (¬3). وقال أبو بكر الدّقاق: "من ضيّع حدود الأمر والنهي في الظاهر حُرِم مشاهدةَ القلب في الباطن". وقال أبو الحسين [37 ب] النوري: "من رأيتَهُ يدّعي مع الله حالةً تُخرجه عن حد العلم الشرعي فلا تَقْرَبْه، ومن رأيته يَدّعي حالة لا يشهد لها حفظُ ظاهر فاتهِمْه على دينه" (¬4). وقال أبو سعيد الخراز: "كل باطن يخالفه ظاهر فهو باطل" (¬5). ¬

_ (¬1) رواه البيهقي في الشعب (2/ 301). (¬2) رواه أبو نعيم في الحلية (10/ 121). (¬3) رواه أبو نعيم في الحلية (10/ 255)، والقشيري في الرسالة القشيرية (ص 51)، والخطيب في تاريخ بغداد (7/ 243، 14/ 401)، ومن طريق أبي نعيم رواه السبكي في طبقات الشافعية (2/ 273)، (¬4) رواه أبو نعيم في الحلية (10/ 252)، والقشيري في الرسالة القشيرية (ص 53) بنحوه. (¬5) رواه السلمي في طبقات الصوفية (ص 185)، وأبو نعيم في الحلية (10/ 247)، وانظر: الرسالة القشيرية (ص 61)، وهذا السطر ساقط من م، ش.

فصل: من كيده بهم: إلزامهم أشياء لم يلزمهم الشرع بها

وقال الجريري: "أمرنا هذا كله مجموع على فَصْل واحد: أن تُلزم قلبك المراقبة، ويكون العلم على ظاهرك قائمًا" (¬1). وقال أبو حفص الكبير الشأن: "من لم يَزِنْ أفعاله وأحواله بالكتاب والسنة، ولم يَتّهم خواطره؛ فلا تَعُدّوه في ديوان الرجال" (¬2). وما أحسنَ ما قال أبو أحمد الشيرازي: "كان الصوفية يَسْخَرون من الشيطان، والآن الشيطان يسخر منهم" (¬3). ونظير هذا ما قاله بعض أهل العلم: "كان الشيطان فيما مضى ينهب من الناس، واليوم الرجل الذي ينهب من الشيطان". فصل ومن كيده: أمرُهم بلزوم زيٍّ واحد، ولِبْسَة واحدة، وهيئة ومِشْية معيّنة، وشيخ معينٍ، وطريقة مخترعة، ويفرض عليهم لزوم ذلك؛ بحيث يلزمونه كلزوم الفرائض، فلا يخرجون عنه، ويقدحون فيمن خرج عنه ويذمُّونه، وربما يلزم أحدهم موضعًا مُعَيَّنًا للصلاة لا يصلي إلا فيه، وقد نهى رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: أن يُوطِّنَ الرجل المكانَ للصلاة كما يوطّن البعير (¬4). ¬

_ (¬1) رواه القشيري في الرسالة القشيرية (ص 226). (¬2) رواه أبو نعيم في الحلية (10/ 230)، والقشيري في الرسالة القشيرية (ص 45). (¬3) رواه القشيري في الرسالة القشيرية (ص 82)، ومن طريقه ابن عساكر في تاريخ دمشق (52/ 409)، وكنيته عندهما أبو عبد الله، وهو محمد بن خفيف الشيرازي. وفي م: "أحمد الشيرازي". (¬4) رواه ابن أبي شيبة (1/ 432)، وأحمد (3/ 428، 444)، والدارمي (1323)، وأبو داود (862)، والنسائي (1112)، وابن ماجه (1429)، وغيرهم من طريق تميم بن محمود عن عبد الرحمن بن شبل رضي الله عنه، وصححه ابن خزيمة (662، =

وكذلك ترى أحدَهم لا يصلي إلا على سجادة، ولم يُصلّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على سجادة قط، ولا كانت السجادة تُفرش بين يديه، بل كان يصلي على الأرض، وربما سجد في الطين، وكان يصلي على الحصير، فيصلي على ما اتفق بَسْطُهُ، فإن لم يكن ثمة شيء صلى على الأرض. وهؤلاء اشتغلوا بحفظ الرسوم عن الشريعة والحقيقة، فصاروا واقفين مع الرسوم المبتدعة، ليسوا مع أهل الفقه، ولا مع أهل الحقائق، فصاحب الحقيقة أشد شيء عليه التقيُّدُ بالرسوم الوضعية، وهي من أعظم الحُجُب بين قلبه وبين الله، فمتى تقيَّد بها حبس بها قلبه عن سيره، وكان أحسن أحواله الوقوف معها، ولا وقوف في السير، بل إما تقدُّمٌ وإما تأخُّرٌ، كما قال تعالى: {لِمَنْ شَاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَتَقَدَّمَ أَوْ يَتَأَخَّرَ} [المدثر: 37]، فلا وقوف في الطريق؛ إنما هو ذهاب وتقدم، أو رجوع وتأخر. ومن تأمّل هدي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وسيرته وجده مناقضًا لهدي هؤلاء؛ فإنه كان يلبس القميص تارة، والقَباء تارة، والجُبَّة تارة، والإزار والرداء تارة، ويركب البعير وحده، ومُرْدفًا لغيره، ويركب الفرس مُسْرَجًا وعُرْيانًا، ويركب الحمار، ويأكل ما حضر، ويجلس على الأرض تارة، وعلى الحصير تارة، وعلى البساط تارة، ويمشي وحده تارة، ومع أصحابه تارة. وهَدْيه عدمُ التكلّفِ وعدمُ التقيد بغير ما أمره به ربه، فبين هديه وهدي هؤلاء بَوْن بعيد. ¬

_ = 1319)، وابن حبان (2277)، والحاكم (833)، قال ابن رجب في الفتح (2/ 647): "في إسناده اختلاف كثير، تميم بن محمود قال البخاري: في حديثه نظر"، وله شاهد من حديث عبد الحميد بن سلمة عن أبيه، به حسّنه الألباني في السلسلة الصحيحة (1168).

فصل: من كيده: الوسواس في الطهارة

فصل ومن كيده الذي بلغ به من الجهَّال ما بلغ: الوسواس الذي كادهم به في أمر الطهارة والصلاة عند عقد النية، حتى ألقاهم في الآصار والأغلال، وأخرجهم عن اتباع سنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وخَيّل إلى أحدهم أن ما جاءت به السنة لا يكفي، حتى يضم إليه غيره، فجمع لهم بين هذا الظن الفاسد، والتعب الحاضر، وبطلان الأجر أو تنقيصه. ولا ريب أن الشيطان هو الداعي إلى الوسواس، فأهله قد أطاعوا الشيطان، ولبَّوا دعوته، واتبعوا أمره، ورغبوا عن اتباع سنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وطريقته، حتى إن أحدهم ليرى أنه إذا توضأ وضوء رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، أو اغتسل كاغتساله؛ لم يطهُر ولم يرتفع حَدَثه. ولولا العذر بالجهل لكان هذا مشاقَّةً للرسول؛ فقد كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم -[38 أ] يتوضأ بالمُدّ، وهو قريب من ثُلثِ رطل بالدّمَشْقي، ويغتسل بالصّاع (¬1) وهو نحو رطل وثلث. والموسوس يرى أن ذلك القدر لا يكفيه لغسل يديه. وصحَ عنه أنه توضأ مرة مرة (¬2)، ولم يزد على ثلاث، بل أخبر أن "من زاد عليها فقد أساء وتعدى وظلم" (¬3). ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري (201)، ومسلم (325) عن أنس. (¬2) أخرجه البخاري (157) من حديث ابن عباس. (¬3) رواه أبو عبيد في الطهور (81)، وابن أبي شيبة (1/ 16)، وأحمد (2/ 185)، وأبو داود (135)، والنسائي (140)، وابن ماجه (422)، وغيرهم من طريق عمرو بن =

فالموسوس مسيء مُتَعدٍّ ظالم بشهادة رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فكيف يتقرب إلى الله بما هو مسيء به، متعدٍّ فيه لحدوده؟ وصحّ عنه أنه كان يغتسل هو وعائشة من قصعة بينهما، فيها أثر العجين (¬1). ولو رأى الموسوس من يفعل هذا لأنكر عليه غاية الإنكار، وقال: ما يكفي هذا القدر لغسل اثنين، كيف والعجين يحلِّلُه الماء فيغيره؟ هذا والرشاش ينزل في الماء فينجسه عند بعضهم، ويفسده عند آخرين، فلا تصح به الطهارة. ¬

_ = شعيب عن أبيه عن جده قال: جاء أعرابي إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - يسأله عن الوضوء، فأراه الوضوء ثلاثًا ثلاثًا، ثم قال: "هكذا الوضوء، فمن زاد على هذا فقد أساء وتعدّى وظلم"، وصححه ابن الجارود (75)، وابن خزيمة (174)، والنووي في المجموع (1/ 419) وفي غيره، وابن الملقن في البدر المنير (2/ 143)، وقال ابن دقيق العيد في الإلمام (1/ 66 - 67): "إسناده صحيح إلى عمرو، فمن يحتج بنسخة عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده فهو عنده صحيح"، وكذا قال ابن عبد الهادي في المحرر (1/ 101)، وقال ابن حجر في الفتح (1/ 233): "إسناده جيد"، وهو في السلسلة الصحيحة (2980). وفي الباب عن ابن عباس وعائشة رضي الله عنهما. (¬1) التي نُقِل اغتسالها مع النبي - صلى الله عليه وسلم - من إناء واحد فيه أثر العجين هي ميمونة رضي الله عنها، روى ذلك أحمد (6/ 342)، والنسائي (240)، وابن ماجه (378)، والطبراني في الكبير (24/ 430)، وغيرهم من طرق عن إبراهيم بن نافع عن ابن أبي نجيح عن مجاهد عن أم هانئ رضي الله عنها، وصححه ابن خزيمة (240)، وابن حبان (1245)، والنووي في الخلاصة (1/ 67)، وأشار البيهقي في الكبرى (1/ 8) إلى انقطاعه بين مجاهد وأم هانئ وقال: "وهذا مع إرساله أصح".

وكان - صلى لله عليه وسلم - يفعل ذلك مع غير عائشة، مثل ميمونة وأم سلمة. وهذا كله في "الصحيح" (¬1). وثبت أيضًا في "الصحيح" (¬2) عن ابن عمر، أنه قال: "كان الرجال والنساء على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يتوضَّأون من إناء واحد". والآنية التي كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأزواجه وأصحابه ونساؤهم يغتسلون منها لم تكن من كبار الآنية، ولا كانت لها مادة تمدُّها، كأنبوب الحمام ونحوه، ولم يكونوا يراعون فيضانها حتى يجري الماء من حافاتها، كما يراعيه جهال الناس ممن بُلي بالوسواس في جُرْن الحمام. فهدي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الذي من رغب عنه فقد رغب عن سنته: جواز الاغتسال من الحياض والآنية، وإن كانت ناقصة غير فائضة. ومن انتظر الحوض حتى يفيض ثم استعمله وحده، ولم يُمكِّن أحدًا أن يشاركه في استعماله، فهو مبتدع مخالف للشريعة. قال شيخُنا: ويستحق التعزير البليغ، الذي يزجره وأمثالَه عن أن يشرعوا في الدين ما لم يأذن به الله، ويعبدوا الله بالبدع لا بالاتباع. ودلَّت هذه السنن الصحيحة على أن النبي - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه لم يكونوا يُكثِرون صبّ الماء، ومضى على هذا التابعون لهم بإحسان. قال سعيد بن المسيّب: "إني لأستنجي من كوز الحُبِّ، وأتوضأ، وأُفْضِلُ منه لأهلي" (¬3). ¬

_ (¬1) البخاري (250، 253)، ومسلم (321، 322، 324). (¬2) البخاري (193). (¬3) لم أقف عليه بهذا اللفظ، وسيأتي بمعناه فيما رواه الأثرم عن عبد الرحمن بن عطاء =

وقال الإمام أحمد: "مِنْ فقهِ الرجل قِلَّة وَلُوعِهِ بالماء". وقال المرُّوذي: "وضّأْتُ أبا عبد الله بالعسكر، فسترته من الناس، لئلا يقولوا: إنه لا يحسن الوضوء؛ لقلة صَبّه الماء". وكان أحمد يتوضأ فلا يكاد يَبُلّ الثَّرى. وثبت عنه - صلى الله عليه وسلم - في "الصحيح" (¬1): أنه توضأ من إناء، فأدخل يده فيه، ثم تمضمض واستنشق. وكذلك كان في غُسْلِه يُدْخِلُ يده في الإناء، ويتناول الماء منه. والموسوس لا يُجوِّز ذلك، ولعله أن يحكم بنجاسة الماء، أو يَسْلُبَهُ طَهوريَّته بذلك. وبالجملة فلا تطاوعه نفسه لاتباع رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وأن يأتي بمثل (¬2) ما أتى به أبدًا، وكيف يطاوع الموسوس نفسه أن يغتسل هو وامرأته من إناء واحد قدر الفَرَق، قريبًا من خمسة أرطال بالدمشقيّ، يَغمِسان أيديَهما فيه، ويُفْرِغان عليهما؟ فالمُوَسْوِسُ يشمئزّ من ذلك كما يشمئز المشرك إذا ذُكِر الله وحده. ¬

_ = أنه سمع سعيد بن المسيب ورجلًا من أهل العراق يسأله عما يكفي الإنسان في غسل الجنابة، فقال سعيد: "إنّ لي تورًا يسع مدَّين من ماء أو نحوهما، فأغتسل به ويكفيني ويفضل منه فضلٌ" ... قال: وقال سعيد: "إن لي ركوة أو قدحًا ما يسع إلا نصف المد أو نحوه، ثم أبول ثم أتوضأ وأفضل منه فضلًا". (¬1) أخرجه البخاري (145) عن ابن عباس. (¬2) الأصل: "على".

بعض شبهات أهل الوسواس

قال أصحاب الوسواس: إنما حملنا على ذلك الاحتياط لديننا، والعمل بقوله - صلى الله عليه وسلم -: "دع ما يَرِيْبك إلى ما لا يَرِيْبك" (¬1)، وقوله: "من اتقى الشبهات استبرأ لدينه وعِرضه" (¬2)، وقوله: "الإثم ما حاك في الصدر" (¬3). [38 ب] وقال بعض السلف: الإثم حَوَازُّ القلوب (¬4). ¬

_ (¬1) رواه الطيالسي (1178)، وعبد الرزاق (3/ 117)، وأحمد (1/ 200)، والدرامي (2532)، والترمذي (2518)، والنسائي (5711)، وأبو يعلى (6762) وغيرهم من حديث الحسن بن علي رضي الله عنهما، قال الترمذي: "حديث حسن صحيح"، وصححه ابن خزيمة (2348)، وابن حبان (722)، والحاكم (2169، 2170، 7046)، وابن حجر في تغليق التعليق (3/ 211)، والعجلوني في كشف الخفاء (1/ 72)، وحسنه ابن الجوزي في العلل المتناهية (1368)، والنووي في المجموع (1/ 182)، وقال الذهبي: "سنده قوي"، وهو مخرج في الإرواء (12، 2074). وفي الباب عن عمر وابن عمر وأبي هريرة وواثلة وأنس ووابصة بن معبد وعن عطاء الخراساني مرسلًا. (¬2) أخرجه البخاري (52)، ومسلم (1599) عن النعمان بن بشير. (¬3) أخرجه مسلم (2553) عن النواس بن سمعان. (¬4) ت: "جوار". ش: "حزاز". ح: "حوك". وكله تحريف. وهو من قول عبد الله بن مسعود رضي الله عنه، رواه هناد في الزهد (934)، وأبو داود في الزهد (125)، والطبراني في الكبير (9/ 149) من طريق الأعمش عن محمد بن عبد الرحمن بن يزيد عن أبي الأحوص عنه، ورواه العدني -كما في المطالب العالية (1590) - والطبراني في الكبير (9/ 149) من طريق منصور عن محمد بن عبد الرحمن بن يزيد عن أبيه عنه، ورواه الطبراني أيضًا (9/ 150) من طريق منصور عن إبراهيم عنه بلفظ: "إياكم وأحواز الصدور"، ورواه البيهقي في الشعب (5/ 458) من طريق حبيب بن سنان الأسدي عن أبي وائل عنه، وصححه ابن رجب في جامع العلوم والحكم (ص 251)، وقال: "احتج به الإمام أحمد"، وقال الهيثمي في المجمع =

وقد وَجدَ النبي - صلى الله عليه وسلم - تمرةً، فقال: "لولا أني أخشى أن تكون من الصدقة لأكلتها" (¬1)، أفلا تَرى أنه ترك أكلها احتياطًا؟ قد أفتى مالك من طلق امرأته وشَك هل هي واحدة أم ثلاث: بأنها ثلاث؛ احتياطًا للفروج. وأفتى من حلف بالطلاق أن في هذه اللوزة حبَّتين، وهو لا يعلم ذلك، فبان الأمر كما حلف عليه: أنه حانث؛ لأنه حلف على ما لا يعلم. وقال فيمن طلَّق واحدة من نسائه ثم أُنسيَها: تُطلَّق عليه جميع نسائه احتياطًا، وقطعًا للشك. وقال أصحاب مالك فيمن حلف بيمين ثم نسيها: إنه يلزمه جميع ما يُحلَف به عادة، فيلزمه الطلاق، والعتاق، والصدقة بثلث المال، وكفارة الظهار، وكفارة اليمين بالله، والحج ماشيًا، ويقع الطلاق في جميع نسائه، ويعتق عليه جميع عبيده وإمائه، وهذا أحد القولين عندهم. ومذهب مالك أيضًا: أنه إذا حلف ليفعلنّ كذا، أنه على حنث حتى يفعله، فيحال بينه وبين امرأته إذا كان حالفا بالطلاق حتى يفعل، فإذا فعل خُلِّيَ بينه وبين امرأته. ¬

_ = (1/ 424): "رواه الطبراني كله بأسانيد رجالها ثقات"، وهو في السلسلة الصحيحة (2613). وجاء عن ابن مسعود مرفوعًا عند البيهقى في الشعب (4/ 367)، قال المنذري في الترغيب (3/ 25): "رواته لا أعلم فيهم مجروحًا، لكن قيل: صوابه الوقف". (¬1) أخرجه البخاري (2055)، ومسلم (1071) عن أنس بن مالك.

ومذهبه أيضًا: إذا قال: إذا جاء رأس الحَوْل فأنت طالق ثلاثًا: أنها تُطلَّق في الحال. وهذا كله احتياط. وقال الفقهاء: من خفي عليه موضع النجاسة من الثوب وجب عليه غسله كله. وقالوا: إذا كان معه ثياب طاهرة وتنجّس منها ثياب، وشكَّ فيها، صلى في ثوب بعد ثوب بعدد النجس، وزاد صلاة ليتيقَّن براءة ذمته. وقالوا: إذا اشتبهت الأواني الطاهرة بالنجسة أراق الجميع وتيمم. وكذلك إذا اشتبهت عليه القبلة، فلا يدري في أي جهة، فإنه يصلي أربع صلوات عند بعض الأئمة؛ لتبرأ ذمته بيقين. وقالوا: من ترك صلاة من يوم ثم نسيها وجب عليه أن يصلي خمس صلوات. وقد أمر النبي - صلى الله عليه وسلم - من شك في صلاته أن يبني على اليقين (¬1). وحرَّم أكل الصيد إذا شك صاحبه: هل مات بسهمه أو بغيره (¬2)، كما إذا وقع في الماء. وحرَّم أكله إذا خالط كلبه كلبًا آخر؛ للشك في تسمية صاحبه عليه. وهذا باب يطول تتبُّعه. فالاحتياط والأخذ باليقين غير مُستنكر في الشرع، وإن سمَّيتموه وسواسًا. ¬

_ (¬1) أخرجه مسلم (571) عن أبي سعيد الخدري. (¬2) كما في حديث عدي بن حاتم الذي أخرجه البخاري (175)، ومسلم (1929).

وقد كان عبد الله بن عمر يغسل داخل عينيه في الطهارة حتى عمي (¬1). وكان أبو هريرة إذا توضأ أشرع في العَضُد، وإذا غسل رجليه أشرع في الساقين (¬2). فنحن إذا احتطنا لأنفسنا وأخذنا باليقين، وتركنا ما يَريب إلى ما لا يريب، وتركنا المشكوك (¬3) فيه للمتيقَّن المعلوم، وتجنبنا محلّ الاشتباه، لم نكن بذلك عن الشريعة خارجين، ولا في البدعة والجِينَ، وهل هذا إلا خير من التسهيل والاسترسال؟ حتى لا يبالي العبد بدينه، ولا يحتاط له، بل يُسهِّل الأشياء ويُمَشّي حالها، ولا يبالي كيف توضأ؟ ولا بأيّ ماءٍ توضأ؟ ولا بأيّ مكان صلى؟ ولا يبالي ما أصاب ذيله وثوبه، ولا يسأل عما عهد، بل يتغافل، ويحسّن ظنه، فهو مهمل لدينه لا يبالي ما شك فيه؛ ويحمل الأمور على الطهارة، وربما كانت أفحش النجاسة، ويدخل بالشك ويخرج بالشك، فأين هذا ممن استقصى في فعل ما أُمر به، واجتهد فيه، حتى لا يُخِلّ بشيء منه، وإن زاد على المأمور فإنما قصده بالزيادة تكميل المأمور، وأن لا ينقص منه شيئًا! ¬

_ (¬1) روى مالك (100) عن نافع أن ابن عمر كان إذا اغتسل من الجنابة بدأ فأفرغ على يده اليمنى فغسلها، ثم غسل فرجه، ثم مضمض واستنثر، ثم غسل وجهه ونضَح في عينيه ... ورواه عبد الرزاق (1/ 259) ومسدد -كما في المطالب العالية (166) - والبيهقي في الكبرى (1/ 177، 201) من طرق عن نافع عن ابن عمر قال: كان إذا اغتسل من الجنابة نضَح الماء في عينيه، وصححه ابن حجر، وليس عند أحدٍ منهم أنه عمي بسبب ذلك. (¬2) أخرجه مسلم (246) عنه. (¬3) م: "السلوك" تحريف.

رد أهل السنة على هذه الشبهات

قالوا: وجِماعُ ما ينكرونه علينا: احتياط [39 أ] في فعل مأمور، أو احتياط في تجنب محظور، وذلك خير وأحسن عاقبةً من التهاون بهذين؛ فإنه يُفضِي غالبًا إلى النقص من الواجب، والدخول في المحرَّم، وإذا وازنّا بين هذه المفسدة ومفسدة الوسواس كانت مفسدة الوسواس أخفّ، هذا إن ساعدناكم على تسميته وسواسًا، وإنما نسميه احتياطًا واستظهارًا، فلستم بأسعد منا بالسنة، ونحن حَولها نُدَنْدِن، وتكميلها نريد. قال أهلُ الاقتصاد والاتباع: قال الله سبحانه: {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ} [الأحزاب: 21]، وقال تعالى: {قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ} [آل عمران: 31]، وقال تعالى: {وَاتَّبِعُوهُ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ} [الأعراف: 158]، وقال تعالى: {وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلَا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} [الأنعام: 153]. وهذا الصراط المستقيم الذي وصّانا باتباعه: هو الصراط الذي كان عليه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه، وهو قَصْد السبيل، وما خرج عنه فهو من السُّبُل الجائرة، قاله من قاله. لكن الجَوْر قد يكون جَوْرًا عظيمًا عن الصراط، وقد يكون يسيرًا، وبين ذلك مراتب لا يحصيها إلا الله، وهذا كالطريق الحسيّ (¬1)، فإن السالك قد يعدل عنه ويجور جورًا فاحشًا، وقد يجور دون ذلك، فالميزان الذي يُعرف به الاستقامة على الطريق والجور عنه: هو ما كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه ¬

_ (¬1) م، ظ: "الحسن".

عليه، والجائر عنهُ إما مُفرط ظالم، أو مجتهد متأوّل، أو مقلد جاهل، فمنهم المستحق للعقوبة (¬1)، ومنهم المغفور له، ومنهم المأجور أجرًا واحدًا، بحسب نيَّاتهم ومقاصدهم، واجتهادهم في طاعة الله ورسوله، أو تفريطهم. ونحن نسوق من هَدْي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهدي أصحابه ما يبين أيّ الفريقين أولى باتباعه، ثم نجيب عما احتجوا به، بعون الله وتوفيقه. ونقدِّم قبل ذلك ذكر النهى عن الغلوّ، وتعدِّي الحدود، والإسراف، وأن الاقتصاد والاعتصام بالسنة عليهما مدار الدين. قال تعالى: {يَاأَهْلَ الْكِتَابِ لَا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ} [النساء: 171]، وقال تعالى: {وَلَا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ} [الأنعام: 141]، وقال تعالى: {تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلَا تَعْتَدُوهَا} [البقرة: 229]، وقال تعالى: {ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ} [الأعراف: 55]، وقال تعالى: {وَلَا تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ} [البقرة: 190]. وقال ابن عباس: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - غَدَاة العَقَبَة وهو على ناقته: "الْقُطْ لي حَصًى"، فلقطتُ له سبع حصياتٍ من حمى الخَذْف، فجعل ينفُضُهُنّ في كَفّه ويقول: "أمثال هؤلاء فارْموا"، ثم قال: "أيها الناس! إياكم والغلوَّ في الدين؛ فإنما أهلك الذين من قبلكم الغلوُّ في الدين"، رواه الإمام أحمد، والنسائي (¬2). ¬

_ (¬1) في الأصل: "للمغفرة". والمثبت من النسخ الأخرى. (¬2) مسند أحمد (1/ 215، 347)، سنن النسائي (3057، 3059)، ورواه أيضًا ابن سعد في الطبقات (2/ 180 - 181)، وابن أبي شيبة (3/ 203، 248)، وابن ماجه =

وقال أنس: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "لا تُشدّدوا على أنفسكم فيشدِّد الله عليكم؛ فإن قومًا شددوا على أنفسهم؛ فشدد الله عليهم، فتلك بقاياهم في الصوامع والديار، {وَرَهْبَانِيَّةً ابْتَدَعُوهَا مَا كَتَبْنَاهَا عَلَيْهِمْ} " (¬1). فنهى - صلى الله عليه وسلم - عن التشدُّد في الدين، وذلك بالزيادة على المشروع، وأخبر أن تشديد العبد على نفسه هو السبب لتشديد الله عليه؛ إما بالقَدَر، وإما بالشرع. فالتشديد بالشرع: كما يشدد على نفسه بالنذر الثقيل، فيلزمه الوفاء به. ¬

_ = (3029)، وأبو يعلى (2427، 2472)، والطبراني في الكبير (12/ 156)، وغيرهم، وصححه ابن الجارود (473)، وابن خزيمة (2867)، وابن حبان (3871)، والحاكم (1711)، والنووي في المجموع (8/ 171)، وابن تيمية في الاقتضاء (ص 106)، وابن القيم في إعلام الموقعين (4/ 407)، وهو في السلسلة الصحيحة (1283). (¬1) رواه أبو داود (4906)، وأبو يعلى (3694) عن سعيد بن عبد الرحمن عن سهل بن أبي أمامة عن أنس، ومن طريق أبي يعلى رواه الضياء في المختارة (6/ 173 - 174)، وحسنه هو وابن مفلح في الآداب الشرعية (2/ 175)، وقال الهيثمي في المجمع (6/ 390): "رجاله رجال الصحيح غير سعيد بن عبد الرحمن بن أبي العمياء وهو ثقة"، وصحح إسناده البوصيري في الإتحاف (3520)، قال ابن القيم في كتاب الصلاة (ص 222): "تفرد به ابن أبي العمياء، وهو شبه المجهول"، وقال ابن حجر: "مقبول"؛ ولذا أورد الألباني حديثه هذا في السلسلة الضعيفة (3468). وورد من وجه آخر عن سهل بن أبي أمامة بن سهل بن حنيف عن أبيه عن جده بنحوه ليس فيه ذكر الآية، رواه البخاري في التاريخ الكبير (4/ 97)، والطبراني في الكبير (6/ 73)، والأوسط (3078)، والبيهقي في الشعب (3/ 401)، قال الهيثمي في المجمع (1/ 230): "فيه عبد الله بن صالح كاتب الليث، وثقه جماعة وضعفه آخرون"، وأورده الألباني في السلسلة الصحيحة (3124). وفي الباب عن أبي هريرة وعن أبي قلابة مرسلًا.

وبالقَدر: كفعل أهل الوسواس، فإنهم شددوا على أنفسهم؛ فشدد عليهم القَدر، حتى استحكم ذلك، وصار صفة لازمة لهم. قال البخاري (¬1): "وكره أهل العلم الإسراف فيه، يعني الوضوء [39 ب]، وأن يجاوزوا فعل النبي - صلى الله عليه وسلم - ". وقال ابن عمر: "إسباغ الوضوء: الإنقاء" (¬2)، فالفقه كلُّ الفقه: الاقتصاد في الدين، والاعتصام بالسّنّة. قال أُبيِّ بن كَعْب: "عليكم بالسبيل والسنة؛ فإنه ما من عبد على السبيل والسنة، ذكر الله فاقشعرَّ جلدُه من خشية الله؛ إلا تحاتَّتْ عنه خطاياه كما يَتحاتُ عن الشجرة اليابسة وَرَقُها، وإنَّ اقتصادًا في سبيلٍ وسنةٍ خيرٌ من اجتهادٍ في خلاف سبيل وسنة، فاحرصوا إذا كانت أعمالكم اقتصادًا أن تكون على منهاج الأنبياء وسنتهم" (¬3). ¬

_ (¬1) صحيحه مع الفتح (1/ 232). (¬2) علقه البخاري عنه بصيغة الجزم في كتاب الوضوء، باب: إسباغ الوضوء، قال ابن حجر في الفتح (1/ 240) والعيني في العمدة (2/ 258): "وصله عبد الرزاق في مصنفه بإسناد صحيح". (¬3) رواه ابن المبارك في الزهد (87) عن الربيع بن أنس عن أبي داود عن أبيّ، وعن ابن المبارك رواه كلّمن ابن أبي شيبة (7/ 224)، وأبي داود في الزهد (189)، وعبد الله ابن أحمد في زوائد الزهد (ص 196 - 197)، وابن بطة في الإبانة (1/ 259)، واللالكائي في أصول الاعتقاد (10)، وأبي نعيم في الحلية (1/ 252 - 253)، ووقع عند عبد الله: عن أبي قتادة عن أبيّ، وعند أبي نعيم: عن أبي العالية عن أبيّ، وهو كذلك عند ابن الجوزي في تلبيس إبليس (ص 10) حيث رواه من طريق أبي نعيم.

كلام الإمام ابن قدامة المقدسي في ذم الموسوسين

قال الشيخ أبو محمد المقدسي في كتابه "ذم الوسواس" (¬1): الحمد لله الذي هدانا بنعمته، وشرَّفنا بمحمد - صلى الله عليه وسلم - وبرسالته، ووفَّقنا للاقتداء به والتمسك بسنّته، ومَنّ علينا باتِّباعه الذي جعله عَلَمًا على محبته ومغفرته، وسببًا لكتابة رحمته وحصول هدايته، فقال سبحانه: {قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فًاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ} [آل عمران: 31]، وقال تعالى: {وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ فَسَأَكْتُبُهًا لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ} إلى قوله: {النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ}، ثم قال: {فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ النَّبِيِّ الْأُمِّيِّ الَّذِي يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَكَلِمًاتِهِ وًاتَّبِعُوهُ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ} [الأعراف: 158]. أما بعد، فإن الله سبحانه جعل الشيطان عدوًّا للإنسان، يقعد له الصراط المستقيم، ويأتيه من كل جهة وسبيل، كما أخبر الله تعالى عنه أنه قال: {لَأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِرًاطَكَ الْمُسْتَقِيمَ (16) ثُمَّ لَآتِيَنَّهُمْ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ وَعَنْ أَيْمَانِهِمْ وَعَنْ شَمَائِلِهِمْ وَلَا تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شَاكِرِينَ} [الأعراف: 16، 17]، وحذَّرنا الله تعالى من متابعته، وأمرنا بمعاداته ومخالفته، فقال سبحانه: {إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمْ عَدُوٌّ فَاتَّخِذُوهُ عَدُوًّا} [فاطر: 6]، وقال: {يَابَنِي آدَمَ لَا يَفْتِنَنَّكُمُ الشَّيْطَانُ كَمَا أَخْرَجَ أَبَوَيْكُمْ مِنَ الْجَنَّةِ} [الأعراف: 27]، وأخبرنا بما صنع بأبوينا تحذيرًا لنا من طاعته، وقطعًا للعذر في متابعته، وأمرنا الله باتباع صراطه المستقيم، ونهانا عن اتباع السُّبل، فقال سبحانه: {وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلَا ¬

_ (¬1) طبع بمصر سنة 1343، ثم نشره عبد الله الطريقي سنة 1411، ولم يعرف أن ابن القيم نقل هنا معظمه مع التعليق عليه وزيادات كثيرة، إلى صفحة 299.

فصل: طاعة الموسوسين للشيطان

{وَلَا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ} [الأنعام: 153]. وسبيل الله وصراطه المستقيم: هو الذي كان عليه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وصحابته، بدليل قوله عز وجل: {يس (1) وَالْقُرْآنِ الْحَكِيمِ (2) إِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ (3) عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} [يس: 1 - 6]، وقال: {إِنَّكَ لَعَلَى هُدًى مُسْتَقِيمٍ} [الحج: 67]، وقال: {وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} [الشورى: 52]. فمن اتَّبع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في قوله وفعله فهو على صراط الله المستقيم، وهو ممن يحبه الله ويغفر له ذنوبه، ومن خالفه في قوله أو فعله فهو مبتدع، متبع لسبيل الشيطان، غير داخل فيمن وعد الله بالمحبة والمغفرة والإحسان. فصل ثم إن طائفة الموسوسين قد تحقق منهم طاعة الشيطان، حتى اتصفوا بوسوسته، وقبِلوا قوله وأطاعوه، ورغبو اعن اتباع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وصحابته، حتى إن أحدهم ليرى أنه إذا توضأ وضوء رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، أو صلى كصلاته، فوضوؤه باطل، وصلاته غير صحيحة، ويرى أنه إذا فعل مثل فعل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في مؤاكلة الصبيان، وأكل طعام عامة المسلمين: أنه قد صار نجسًا، يجب عليه تسبيع يده وفيه، كما لو ولَغ فيهما كلب، أو بال عليهما هِرّ. ثم إنه بلغ من استيلاء إبليس عليهم أنهم أجابوه إلى ما يشبه الجنون، ويقارب مذهب السوفسطائية [40 أ] الذين ينكرون حقائق الموجودات، والأمور المحسوسات، وعلم الإنسان بحال نفسه من الأمور الضروريات اليقينيات، وهؤلاء يغسل أحدهم عضوه غَسْلًا يشاهده ببصره، ويكبِّر (¬1) ¬

_ (¬1) الأصل: "ويكثره". والمثبت من كتاب ابن قدامة.

ما يلقاه الموسوس من الأذى والعنت

ويقرأ بلسانه، بحيث تسمعه أذناه ويعلمه بقلبه، بل يعلمه غيره منه ويتيقنه، ثم يشك هل فعل ذلك أم لا؟ وكذلك يشككه الشيطان في نيته وقصده التي يعلمها من نفسه يقينًا، بل يعلمها غيره منه بقرائن أحواله، ومع هذا يقبل قول إبليس في أنه ما نوى الصلاة ولا أرادها؛ مكابرةً منه لعِيانه، وجحدًا ليقين نفسه، حتى تراه متلدِّدًا متحيرًا؛ كأنه يعالج شيئًا يجتذبه، أو يجد شيئًا في باطنه يستخرجه؛ كل ذلك مبالغة في طاعة إبليس، وقبول من وسوسته، ومن انتهت طاعته لإبليس إلى هذا الحد فقد بلغ النهاية في طاعته. ثم إنه يقبل قوله في تعذيب نفسه، ويطيعه في الإضرار بجسده، تارة بالغوص في الماء البارد، وتارة بكثرة استعماله وإطالة العَرْك، وربما فتح عينيه في الماء البارد، وغسل داخلهما حتى يضر ببصره، وربما أفضى إلى كشف عورته للناس، وربما صار إلى حال يسخر منه الصبيان، ويستهزئ به من يراه. قلت: ذكر أبو الفرج ابن الجوزي (¬1) عن أبى الوفاء ابن عقيل أن رجلًا قال له: أَنغَمِسُ في الماء مرارًا كثيرة، وأشكّ هل صح الغسل أم لا؟ فما ترى في ذلك؟ فقال له الشيخ: اذهب؛ فقد سقطت عنك الصلاة، قال: وكيف؟ قال: لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "رُفع القلم عن ثلاثة: المجنون حتى يُفِيق، والنائم حتى يستيقظ، والصبيّ حتى يبلغ" (¬2)، ومن ينغمس في الماء مرارًا ويشك ¬

_ (¬1) في "تلبيس إبليس" (ص 138). (¬2) رواه ابن أبي شيبة (4/ 194)، وابن راهويه (1713)، وأحمد (6/ 100، 101، 144)، والدارمي (2296)، وأبو داود (4400)، والنسائي (3432)، وابن ماجه (2041)، وأبو يعلى (4400)، وغيرهم عن عائشة رضي الله عنها، وصححه ابن =

هل أصابه الماء أم لا؟ فهو مجنون. قال (¬1): وربما شغله بوسواسه حتى تفوته الجماعة، وربما فاته الوقت، ويشغله بوسوسته في النية حتى تفوته التكبيرة الأولى، وربما فَوّت عليه رَكعة أو أكثر، ومنهم من يحلف أنه لا يزيد على هذا، ويكذب. قلت: وحكى لي من أثق به عن موسوس عظيم: رأيته أنا يكرر عقد النية مرازا عديدة، فيشق على المأمومين مشقة كبيرة، فعرض له أن حلف بالطلاق أنه لا يزيد على تلك المرة، فلم يدعه إبليس حتى زاد، ففرق بينه وبين امرأته، فأصابه لذلك غمّ شديد، وأقاما متفرقين دهرًا طويلًا، حتى تزوجت تلك المرأة برجل آخر، وجاءه منها ولد، ثم إنه حنث في يمين حلفها، ففرق بينهما، ورُدَّتْ الأول بعد أن كاد يَتْلَف لمفارقتها. وبلغني عن آخر: أنَّه كان شديد التنطع في التلفظ بالنية، والتقعُّر في ذلك، فاشتد به التنطع والتقعر يومًا إلى أن قال: أصلي، أصلي -مرارًا- صلاة كذا وكذا، وأراد أن يقول: أداء، فأعجم الدال، وقال: أذاءً لله، فقطع الصلاة ¬

_ = الجارود (148، 808)، وابن حبان (142)، والحاكم (2350)، وابن العربي في العارضة (3/ 392)، وابن دقيق العيد في الإلمام (1324)، وابن كثير في إرشاد الفقيه (1/ 89)، وحسنه النووي في المجموع (6/ 253)، وابن تيمية في شرح العمدة (2/ 118)، وابن القيم في أحكام أهل الذمة (2/ 902)، وقال السبكي في إبراز الحِكم (ص 3): "حديث متصل حسن ورجاله كلّهم علماء"، وكذا قال ابن الملقن في البدر المنير (3/ 226)، وهو مخرج في الإرواء (297). وفي الباب عن عمر وعلي وابن عباس وأبي قتادة وشداد بن أوس وثوبان وأبي هريرة وعن الحسن مرسلًا. (¬1) أي ابن قدامة في الكتاب المذكور (ص 50).

علاج الموسوس باستشعار أن الحق في اتباع السنة

رجل إلى جانبه، فقال: ولرسوله وملائكته وجماعة المصلين. قال (¬1): ومنهم من يتوسوس في إخراج الحرف، حتى يكرره مرارًا. قال: فرأيت منهم من يقول: الله أكككبر. قال: وقال لي إنسان منهم: قد عجزتُ عن قول: "السلام عليكم"، فقلت له: قل مثل ما قد قلت الآن، وقد استرحتَ. وقد بلغ الشيطان منهم أنْ عَذَّبهم في الدنيا والآخرة، وأخرجهم عن اتباع الرسول، وأدخلهم في جملة أهل التنطع والغلو، وهم يحسبون أنهم يحُسِنون صنعًا. فمن أراد التخلص من هذه البلية فليستشعر أن الحق في اتباع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في قوله وفعله، وليعزِمْ على سلوك طريقته عزيمة من لا يشك أنه على الصراط المستقيم، وأن ما خالفه من تسويل إبليس ووسوسته، ويوقن أنه عدوّ له لا يدعوه إلى خير: {إِنَّمَا يَدْعُو حِزْبَهُ لِيَكُونُوا مِنْ أَصْحَابِ السَّعِيرِ} [فاطر: 6]، وليترك [40 ب] التعريج على كل ما خالف طريقة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كائنًا ما كان؛ فإنه لا يُشَكّ أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان على الصراط المستقيم، ومن شك في هذا فليس بمسلم. ومَنْ عَلِمَهُ قال: فإلى أين العدول عن سنته؟ وأيّ شيء ينبغي للعبد غير طريقته (¬2)؟ ويقول لنفسه: ألستِ تعلمين أن طريقة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - هي الصراط المستقيم؟ فإذا قالت: بلى؛ قال لها: فهل كان يفعل هذا؟ فستقول: ¬

_ (¬1) أي ابن قدامة. وجميع هذه النصوص من كتابه المذكور. (¬2) في بعض النسخ: "يبتغي العبد غير طريقته".

صور من أحوال السلف في متابعتهم لرسول الله - صلى الله عليه وسلم -

لا، فقل لها: فماذا بعد الحق إلا الضلال؟ وهل بعد طريق الجنة إلا طريق النار؟ وهل بعد سبيل الله وسبيل رسوله إلا سبيل الشيطان؟ فإن اتبعتِ سبيله كنت قرينه، وستقولين: {يَالَيْتَ بَيْنِي وَبَيْنَكَ بُعْدَ الْمَشْرِقَيْنِ فَبِئْسَ الْقَرِينُ} [الزخرف: 38]، ولينظر أحوال السلف في متابعتهم لرسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فليقْتَدِ بهم، وليحتَذِ (¬1) طريقتهم؛ فقد رُوِّينا عن بعضهم أنه قال: "لقد تقدمني قوم؛ لو لم يتجاوزوا بالوضوء الظفر ما تجاوزته". قلت: هو إبراهيم النَّخَعيُّ (¬2). وقال زين العابدين يومًا لابنه: "يا بني! اتخذ لي ثوبًا ألبسه عند قضاء الحاجة؛ فإني رأيت الذباب يسقط على الشيء، ثم يقع على الثوب". ثم انتبَه (¬3) فقال: "ما كان للنبي - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه إلا ثوب واحد". فتركه (¬4). وكان عمر رضي الله تعالى عنه يَهُمّ بالأمر ويَعزِم عليه، فإذا قيل له: لم يفعله رسول الله - صلى الله عليه وسلم - انتهى، حتى إنه قال: "لقد هممتُ أن أنهى عن لبس هذه الثياب؛ فإنه بلغني أنها تُصبَغ ببول العجائز"، فقال له أُبيٌّ: "ما لك أن تنهى؛ فإن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قد لبسها، ولُبِستْ في زمانه، ولو علم الله أن لبسها حرام لبينه لرسوله". فقال عمر: "صدقت" (¬5). ¬

_ (¬1) م: "وليتخذ". (¬2) رواه الدارمي (218) من طريق شريك عن أبي حمزة عن إبراهيم النخعي بمعناه. (¬3) م: "ثم أتيته فقلت". (¬4) رواه ابن سعد في الطبقات (5/ 218 - 219)، وأبو نعيم في الحلية (3/ 133). (¬5) رواه عبد الرزاق (1/ 383)، وأحمد (5/ 142)، وابن حزم في حجة الوداع (397) من طريق الحسن البصري عن عمر، قال الهيثمي في المجمع (1/ 633، 5/ 225): =

ثم ليُعْلَم أن الصحابة ما كان فيهم موسوس، ولو كانت الوسوسة فضيلة لما ادّخرها الله عن رسوله وصحابته، وهم خير الخلق وأفضلهم، ولو أدرك رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الموسوسين لمقتهم، ولو أدركهم عمر لضربهم وأدبهم، ولو أدركهم (¬1) الصَّحابة لبدَّعوهم. وها أنا أذكرُ ما جاء في خلافِ مذهبهم؛ على ما يسَّره الله تعالى مُفصَّلًا (¬2): ¬

_ = "رجاله رجال الصحيح، إلا أن الحسن لم يسمع من عمر ولا من أُبيّ". ورواه ابن أبي عاصم في كتاب اللباس -كما في فتح الباري لابن رجب (2/ 161) - من طريق قبيصة بن جابر عن عمر، وفيه أن الرجل المعترض هو عبد الرحمن بن عوف. ورواه عبد الرزاق (1/ 382) عن معمر عن قتادة عن عمر، ولم يسمّ الرجل المعترضَ. ورواه عبد الرزاق أيضًا (1/ 383)، وأبو بكر الخلال -كما في فتح الباري لابن رجب (2/ 161) - من طريق ابن سيرين قال: همّ عمر أن ينهى عن ثياب حبرة لصبغ البول ثم قال: "كان نُهينا عن التعمّق". (¬1) "ولو أدركهم ... مفصلا" ساقطة من م. (¬2) هذا كله كلام ابن قدامة في كتابه، وكذا ما سيأتي من فصول.

النية: قصد فعل الشيء

الفصل الأول في النية في الطهارة والصلاة النية: هي القصد والعزم على فعل الشيء، ومحلُّها القلب، لا تعلُّق لها باللسان أصلًا، ولذلك لم ينقل عن النبي - صلى الله عليه وسلم - ولا عن أصحابه في النية لفظ بحال، ولا سمعنا عنهم ذكر ذلك. وهذه العبارات التي أُحدِثتْ عند افتتاح الطهارة والصلاة قد جعلها الشيطان معتركًا لأهل الوسواس، يحبسهم عندها، ويعذّبهم فيها، ويوقعهم في طلب تصحيحها؛ فترى أحدهم يكررها ويجهد نفسه في التلفظ بها، وليست من الصلاة في شيء، وإنما النية قصد فعل الشيء، فكل عازم على فعل فهو ناويه، لا يُتصور انفكاك ذلك عن النية؛ فإنه حقيقتها، فلا يمكن عدمها في حال وجودها، ومن قعد ليتوضأ فقد نوى الوضوء، ومن قام ليصلي فقد نوى الصلاة، ولا يكاد العاقل يفعل شيئًا من العبادات ولا غيرها بغير نية؛ فالنية أمر لازم لأفعال الإنسان المقصودة، لا يحتاج إلى تعب ولا تحصيل، ولو أراد إخلاء أفعاله الاختيارية عن نيته لعجز عن ذلك، ولو كلَّفه الله تعالى الصلاة والوضوء بغير نية لكلَّفه ما لا يطيق، ولا يدخل تحت وسعه، وما كان هكذا فما وجه التعب في تحصيله؟ وإن شك في حصول نيّته فهو نوع جنون، فإن عِلْمَ الإنسان بحال نفسه أمر يقيني، فكيف يشك فيه عاقل من نفسه؟ ومن قام ليصلي صلاة الظهر خلف الإمام فكيف يشك في ذلك؟ ولو دعاه داعٍ إلى شغل في تلك الحال لقال: إني [41 أ] مشتغل أريد صلاة الظهر، ولو قال له قائل في وقت خروجه

إلى الصلاة: أين تمضي؟ لقال: أريد أصلي صلاة الظهر مع الإمام، فكيف يشك عاقل في هذا من نفسه وهو يعلمه يقينًا؟ بل أعجب من هذا كله: أن غيْرَه يعلم بنيته بقرائن الأحوال؛ فإنه إذا رأى إنسانًا جالسًا في الصف في وقت الصلاة عند اجتماع الناس علم أنه ينتظر الصلاة، وإذا رآه قد قام عند إقامتها ونهوض الناس إليها علم أنه إنما قام ليصلي، فإن تقدم بين يدي المأمومين علم أنه يريد إمامتهم، فإن رآه في الصف علم أنه يريد الائتمام. قال (¬1): فإذا كان غيره يعلم نيته الباطنة بما ظهر من قرائن الأحوال، فكيف يجهلها من نفسه مع اطّلاعه هو على باطنه؟ فقَبوله من الشيطان أنه ما نوى: تصديقٌ له في جحد العِيان، وإنكار الحقائق المعلومة يقينًا، ومخالفة للشرع، ورغبة عن السنة وعن طريق الصحابة. ثم إن النية الحاصلة لا يمكن تحصيلها، والموجودة لا يمكن إيجادها؛ لأن من شرط إيجاد الشئ كونه معدومًا، فإن إيجاد الموجود محال، وإذا كان كذلك فما يحصل له بوقوفه شيءٌ، ولو وقف ألف عام. قال (¬2): ومن العجب أنه يتوسوس حالَ قيامه حتى يركع الإمام، فإذا خشي فوات الركوع كبر سريعًا وأدركه، فمن لم يُحصل النيةَ في الوقوف الطويل حال فراغ باله كيف يُحصِّلها في الوقت الضيق مع شغل باله بفوات الركعة؟ ¬

(¬1) أي ابن قدامة (ص 58). (¬2) ابن قدامة (ص 59).

البدع العشر التي أحدثها الموسوسون في النية عند الصلاة

ثم ما يطلبه: إما أن يكون سهلًا أو عسيرًا، فإن كان سهلًا فكيف يُعسِّره؟ وإن كان عسيرًا فكيف تيسّر عند ركوع الإمام سواءً؟ وكيف خفي ذلك على النبي - صلى الله عليه وسلم - وصحابته من أولهم إلى آخرهم، والتابعين ومن بعدهم؟ وكيف لم ينتبه له سوى من استحوذ عليه الشيطان؟ أفيظن بجهله أن الشيطان ناصح له؟ أما علم أنه لا يدعو إلى هدى، ولا يهدي إلي خير؟ وكيف يقول في صلاة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وسائر المسلمين الذين لم يفعلوا فعل هذا الموسوس؟ أهي ناقصة عنده مفضولة، أم هي التامة الفاضلة؟ فما دعاه إلي مخالفتهم والرغبة عن طريقهم؟ فإن قال: هذا مرض بُلِيتُ به، قلنا: نعم؛ سببه قبولك من الشيطان، ولم يَعْذِر اللهُ أحدًا بذلك. ألا ترى أن آدم وحواء لما وسوس لهما الشيطان فقبلا منه أُخرجا من الجنة، ونودي عليهما بما سمعت؟ وهما أقرب إلي العذر؛ لأنهما لم يتقدم قبلهما من يَعتبرانِ به، وأنت فقد سمعت، وحذَّرك الله من فتنته، وبيَّن لك عداوته، وأوضح لك الطريق، فمالك عذر ولا حجة في ترك السنة، والقبول من الشيطان. قلت: قال شيخنا: ومن هؤلاء من يأتي بِعَشْر بدع لم يفعل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ولا أحد من أصحابه واحدةً منها، فيقول: أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، نويت أصلي صلاة الظهر فريضةَ الوقت، أداءً لله تعالى، إمامًا أو مأمومًا، أربعَ ركعات، مستقبل القبلة، ثم يُزعج أعضاءه، ويحني جبهته، ويقيم عروق عنقه (¬1)، ¬

_ (¬1) ت، ظ، ح: "عينيه".

من الوساوس ما يفسد الصلاة

ويصرخ بالتكبير كأنه يكبِّر على العدو. ولو مكث أحدهم عُمُرَ نوح يُفتِّش: هل فعل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أو أحدٌ من أصحابه شيئًا من ذلك لما ظفر به؛ إلا أن يجاهر بالكذب البحت! فلو كان في هذا خير لسبقونا إليه، ولدلُّونا عليه فإن كان هذا هُدًى فقد ضلوا عنه، وإن كان الذي كانوا عليه هو الهدى والحق فماذا بعد الحق إلا الضلال؟ قال (¬1): ومن أصناف الوسواس ما يفسد الصلاة، مثل تكرير بعض الكلمة، كقوله في التحيات: أت أت، التحيّ التحيّ، وفى السلام: أَسْ أَسْ، [41 ب] وقوله في التكبير: أكككبر ... ونحو ذلك، فهذا؛ الظاهر بطلان الصلاة به، وربما كان إمامًا فأفسد صلاة المأمومين، وصارت الصلاة التي هي من أكبر الطاعات أعظمَ إبعادًا له عن الله من الكبائر، وما لم يُبطل الصلاة من ذلك فمكروه وعدول عن السنة، ورغبة عن طريقة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهديِه، وما كان عليه أصحابه. وربما رفع صوته بذلك؛ فآذى سامعيه، وأغرى الناسَ بذمِّه والوقيعة فيه، فجمع على نفسه طاعة إبليس، ومخالفة السنة، وارتكاب شر الأمور ومحدثاتها، وتعذيب نفسه (¬2)، وإضاعة الوقت، والاشتغال بما ينقص أجره، وفوات ما هو أنفع له، وتعريض نفسه لطعن الناس فيه، وتغرير الجاهل بالاقتداء به؛ فإنه يقول: لولا أن ذلك أفضل لما اختاره لنفسه، وأساء الظن بما جاءت به السنة، وأنه لا يكفي وحده، وانفعال النفس وضعفها للشيطان حتى يشتدَّ طمعُه فيه، وتعريضُه نفسه للتشديد عليه بالقَدَر عقوبةً له، وإقامته ¬

_ (¬1) ابن قدامة في كتابه (ص 63). (¬2) بعدها إلي بداية الفصل الآتي زيادة من المؤلف على كلام ابن قدامة.

الوسوسة إما جهل بالشرع وإما خبل في العقل

على الجهل، ورضاه بالخبَل في العقل، كما قال أبو حامد الغزالي وغيره: الوسوسة سببها إما جهل بالشرع، وإما خَبَلٌ في العقل، وكلاهما من أعظم النقائص والعيوب. فهذه نحو خمسَ (¬1) عشرةَ مفسدةً في الوسواس، ومفاسده أضعاف ذلك بكثير. وقد روى مسلم في "صحيحه" (¬2) من حديث عثمان بن أبى العاص، قال: قلت: يا رسول الله! إن الشيطان قد حال بيني وبين صلاتي، يَلْبِسُهَا عليّ، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "ذاك شيطان يقال له خِنْزَب، فإذا أحسسته فتعوذ بالله منه، واتفُل عن يسارك ثلاثًا"، ففعلتُ ذلك، فأذهبه الله عني. فأهل الوسواس قُرّةُ عين خِنزب وأصحابه، نعوذ بالله منه. فصل ومن ذلك: الإسراف في ماء الوضوء والغُسل. وقد روى أحمد في "مسنده " (¬3) من حديث عبد الله بن عمرو: أن ¬

_ (¬1) في أكثر النسخ: " خمسة". (¬2) رقم (2203). (¬3) مسند أحمد (2/ 221) من طريق عبد الله بن لهيعة عن حيي بن عبد الله عن أبي عبد الرحمن الحبلى عن عبد الله بن عمرو، وبهذا الإسناد رواه ابن ماجه (425)، والبيهقي في الشعب (3/ 30)، وليس عند أحد منهم لفظة: "لا تسرف"، وإنما قال: "ما هذا السرف ياسعد؟ "، وضعفه النووي في الخلاصة (212)، ومغلطاي في الإعلام (1/ 304)، والبوصيري في المصباح (1/ 62)، وابن حجر في التلخيص الحبير (1/ 387)، وقال في الفتح (1/ 234): "إسناده لين"، وكذا قال العيني في العمدة =

رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مرَّ بسعدٍ وهو يتوضأ، فقال: "لا تُسرِفْ"، فقال: يا رسول الله! أفي الماء إسراف؟ قال: "نعم؟ وإن كنت على نهر جارٍ". وفى "جامع الترمذي" (¬1) من حديث أُبيّ بن كعب، أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: ¬

_ = (2/ 243)، وحسّن إسناده علي القاري في المرقاة (2/ 122)، والألباني في السلسلة الصحيحة (3292). وفي الباب عن ابن عمر وأبي سلام وعن الزهري مرسلاً. (¬1) سنن الترمذي (57) عن خارجة بن مصعب عن يونس بن عبيد عن الحسن عن عتيّ السعدي عن أبيّ، ورواه أيضا الطيالسي (547)، وابن ماجه (421)، وعبد الله في زوائد المسند (5/ 136)، وابن عدي في الكامل (3/ 54)، والحاكم (578)، وغيرهم، قال أبو زرعة كما في علل ابن أبي حاتم (1/ 53. 60): "رفعُيه "إلي النبي - صلى الله عليه وسلم - منكر"، وقال أبو حاتم: "كذا رواه خارجة وأخطأ فيه"، وقال الترمذي: "حديث غريب، وليس إسناده بالقوي عند أهل الحديث؛ لأنا لا نعلم أحدا أسنده غير خارجة، وقد روي هذا الحديث من غير وجه عن الحسن قولَه، ولا يصحّ في هذا الباب عن النبيّ - صلى الله عليه وسلم - شيء، وخارجة ليس بالقوي عند أصحابنا، وضعفه ابن المبارك"، وقال الحاكم: "ينفرد به خارجة، وأنا أذكره محتسبًا؛ لما أشاهده من كثرة وسواس الناس في صبّ الماء"، أما ابن خزيمة فصحّحه (122)، قال ابن الملقن في البدر المنير (2/ 600): "هو عجيبٌ منه، فكلّهم ضعّف خارجة "، وضعّف الحديثَ البيهقي في الكبرى (1/ 197)، والبغوي في شرح السنة (2/ 53)، وابن الجوزي في العلل المتناهية (567، 572)، والنووي في الخلاصة (211)، وابن حجر في التلخيص الحبير (1/ 387)، وابن عراق في تنزيه الشريعة (2/ 72). لكن رواه غير خارجة مسندًا، فرواه الخطيب في الموضح (2/ 426) من طريق داود بن إبراهيم عن عباد ابن العوام عن سفيان بن حسين، والهيثم بن كليب في مسنده -كما في الإعلام لمغلطاي (1/ 297) - عن ابن أبي خيثمة عن موسى بن إسماعيل عن محمد بن دينار، كلاهما عن يونس بن عبيد بهع مرفوعًا، وصحح مغلطاي إسناده. وفي الباب عن عمران بن حصين وابن عباس رضي الله عنهما.

"للوضوء شيطانٌ يقال له الوَلهَان؛ فاتقوا وسواس الماء". وفى "المسند" و"السنن " (¬1) من حديث عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جده، قال: جاء أعرابي إلي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يسأله عن الوضوء؟ فأراه ثلاثًا ثلاثًا، وقال: "هذا الوضوء، فمن زاد على هذا فقد أساء وتعدّى وظلم". وفى كتاب "الشافي " لأبى بكر عبد العزيز، من حديث أم سعد، قالت: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "يُجزِئ من الوضوء مُدّ، والغسل صاع، وسيأتي قوم يستقلُّون ذلك، فأولئك خلاف أهل سنتي، والآخذ بسنتي في حظيرة القُدُس مُتنزَّه أهل الجنة" (¬2). ¬

_ (¬1) تقدم تخريجه. (¬2) هوفي مسند الفردوس (7235)، ورواه ابن منده -كما في الإصابة (8/ 216) - والسمعاني في أثناء الجزء الثاني من كتابه الانتصار لأصحاب الحديث -كما في البدر المنير (2/ 598) _ من طريق عنبسة بن عبد الرحمن عن محمد بن زاذان عن أم سعد، قال ابن الملقن: "هذا الحديث غريب، لا أعلم من خرّجه من أصحاب الكتب المعتمدة ولا غيرها، وعنبسة هذا متَّهم متروك، ومحمّد قال البخاري: لا يكتب حديثه"، وقال العراقي في طرح التثريب (2/ 85): "لا أصل له"، وقال ابن حجر في التلخيص الحبير (1/ 386): "فيه عنبسة وهو متروك"، وذكره السيوطي في الزيادات على الموضوعات، والفتني في تذكرة الموضوعات (ص 32)، قال ابن عراق في تنزيه الشريعة (2/ 72): "في إدخال هذا في الموضوعات نظر؛ وعنبسة على ضعفه واتهامه روى له الترمذي وابن ماجه، ورأيت البيهقي وغيره من الحفاظ يقتصرون على وصف حديثه بالضعف"، وقال الشوكاني في الفوائد المجموعة (ص 13): "ولا يخفاك أنه لا تلازم بين مجرّد الجرح والوضع، وإن كان في لفظه ما يخالف الكلامَ النبويّ عند من له ممارسة".

وفي "سنن الأثرم" من حديث سالم بن أبي الجَعْد، عن جابر بن عبد الله قال: "يُجزِئ من الوضوء المُدُّ، ومن الغسل من الجنابة الصاعُ، فقال رجل: ما يكفيني! فغضب جابر حتى ترَبّد وجهه، ثم قال: قد كفى من هو خير منك وأكثر شعرًا" (¬1). وقد رواه الإمام أحمد في "مسنده" (¬2) مرفوعًا، ولفظه: عن جابر قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "يُجزِئ من الغسل الصاعُ، ومن الوضوء المدُّ". ¬

_ (¬1) أشار ابن رجب في الفتح (1/ 251) إلي هذه الرواية فقال: "رُوي أوّله موقوفًا من حديث سالم بن أبي الجعد عن جابر"، ولم أقف عليها، وعزاه المجد في المنتقى (1/ 316 - نيل الأوطار_) وابن تيمية في شرح العمدة (1/ 398) وغيرهما للأثرم مرفوعًا، وورد أوّله موقوفا أيضا عند البخاري (249) من طريق أبي جعفر محمد بن عليّ أنه كان عند جابر بن عبد الله هو وأبوه وعنده قوم، فسألوه عن الغسل، فقال: يكفيك صاع، فقال رجلٌ: ما يكفيني، فقال جابر: كان يكفي من هو أوفى منك شعرًا وخيرٌ منك. (¬2) مسند أحمد (3/ 370) من طريق سالم بن أبي الجعد عن جابر، ورواه أيضًا أبو عبيد في الطهور (104)، وابن أبي شيبة (1/ 66)، وعبد بن حميد (1114)، وأبو داود (93)، وابن السكن كما في بيان الوهم والإيهام (5/ 270)، والبيهقي في الكبرى (1/ 195)، ولفظ أبي داود: "كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يغتسل بالصاع ويتوضّأ بالمد"، وصححه ابن خزيمة (117)، والحاكم (575) وقال: "لم يخرجاه بهذا اللفظ"، وحسنه ابن القطان وقال: "هذا إسناد صحيح على مذهب أبي محمد"، وقال ابن رجب في فتح الباري (1/ 251): "ففي رواية سالم رفعُ أوّلِ الحديث، مع أنّه روِي أولُه موقوفا أيضا من حديثه، كما في رواية أبي جعفر، ولعل وقف أوّلِه أشبه، وأمّا آخره فمرفوع"، وصححه الألباني في السلسلة الصحيحة (4/ 644، 5/ 575). وفي الباب عن أنس بن مالك وابن عمر وابن عباس وعقيل بن أبي طالب وعائشة وأم سعد رضي الله عنهم.

وفي "صحيح مسلم" (¬1) عن عائشة: "أنها كانت تغتسل هي والنبي - صلى الله عليه وسلم - من إناء واحد؟ يسع ثلاثة أمداد، أو قريبًا من ذلك". وفي "سنن النسائي" (¬2) [42 أ] عن عُبيد بن عُمير: أن عائشة قالت: لقد رأيتُني أغتسل أنا ورسول الله - صلى الله عليه وسلم - من هذا، فإذا تَوْرٌ موضوع مثل الصاع أو دونه؛ نَشرع فيه جميعًا، فأُفيض بيدي على رأسي ثلاث مرات، وما أنقض لي شعرًا. وفي "سنن أبى داود" و"النسائي" (¬3) عن عَبّاد بن تميم، عن أم عُمارة ¬

_ (¬1) برقم (321). (¬2) سنن النسائي (416) من طريق إبراهيم بن طهمان عن أبي الزبير عن عبيد بن عمير به، وهو عند مسلم (331) من طريق أيوب عن أبي الزبير عن عبيد بن عمير قال: بلغ عائشةَ أن عبد الله بن عمرو يأمر النساء إذا اغتسلن أن ينقضنَ رؤوسهن، فقالت: "يا عجبا لابن عمرو هذا! يأمر النساءَ إذا اغتسلن أن ينقضن رؤوسهن! أفلا يأمرهنّ أن يحلقن رؤوسهن؟! لقد كنتُ أغتسل أنا ورسول الله - صلى الله عليه وسلم - من إناء واحد، ولا أزيد على أن أفرغ على رأسي ثلاث إفراغات". (¬3) سنن أبي داود (94)، وسنن النسائي (74) من طريق غندر عن شعبة عن حبيب بن زيد عن عبّاد به، ورواه البيهقي (1/ 196) من طريق أبي داود، وحسن إسناده النووي في المجموع (2/ 190) وفي غيره، وابن الملقن في البدر المنير (2/ 602)، والعراقي في طرح التثريب (2/ 84)، والصنعاني في سبل السلام (1/ 49)، وصححه مغلطاي في الإعلام (1/ 25)، والألباني في الإرواء (142). وخولف غندر في إسناده، فرواه يحيى بن سعيد ومعاذ بن معاذ ويحيى بن أبي زائدة وأبو خالد الأحمر وأبو داود الطيالسي عن شعبة عن حبيب عن عباد عن عبد الله بن زيد رضي الله عنه، قال أبو زرعة كما في علل ابن أبي حاتم (1/ 25): "الصحيح عندي حديث غندر".

بنت كعب أن النبي - صلى الله عليه وسلم - توضأ، فأُتي بماء في إناء قَدْرَ ثُلُثي المد. وقال عبد الرحمن بن عطاء: سمعت سعيد بن المسيب يقول: إن لي رِكوةً أو قدحًا ما يسع إلا نصف المد أو نحوه، أبول ثم أتوضأ منه، وأُفْضِل منه فضلًا"، قال عبد الرحمن: فذكرت ذلك لسليمان بن يَسار فقال: "وأنا يكفيني مثل ذلك"، قال عبد الرحمن: فذكرت ذلك لأبى عبيدة بن محمد ابن عمّار بن ياسر، فقال: وهكذا سمعنا من أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. رواه الأثرم في "سننه" (¬1). وقال إبراهيم النخعي: "كانوا أشدَّ استيفاءً للماءِ منكم، وكانوا يرون أن ربع المد يجزئ من الوضوء" (¬2). وهذا مبالغة عظيمة (¬3)؛ فإن ربع المد لا يبلغ أوقية ونصفًا بالدمشقي. وفى "الصحيحين" (¬4) عن أنس: "كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يتوضأ بالمد، ويغتسل بالصاع إلي خمسة أمداد". وفى "صحيح مسلم" (¬5) عن سَفِينة، قال: "كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يُغسِّله ¬

_ (¬1) رواه أبو بكر الأثرم -كما في المغني (1/ 254) - عن القعنبي عن سليمان بن بلال عن عبد الرحمن بن عطاء، ومن طريق الأثرم رواه ابن عبد البر في التمهيد (8/ 106)، ورواه أبو عبيد في الطهور (105) عن ابن أبي مريم عن سليمان بن بلال به. (¬2) عزاه ابن تيمية في شرح العمدة (1/ 399) والمتقي الهندي في كنز العمال (9/ 473) لسعيد بن منصور، ووقع عندهما: "كانوا أشدَّ استبقاءً للماء". (¬3) "عظيمة" ساقطة من م. (¬4) البخاري (201)، ومسلم (325). (¬5) برقم (3265).

الصاعُ من الجنابة، ويُوضّئه المد". وقال إبراهيم النخعي: "إني لأتوضأ من كوز الحُبّ مرتين" (¬1). وتوضأ القاسم بن محمد بن أبي بكر الصديق بقدر نصف المد، أو أزيد بقليل (¬2). وقال محمد بن عجلان: "الفقه في دين الله: إسباغ الوضوء، وقلة إهراق الماء" (¬3). وقال الإمام أحمد: "كان يقال: من قلة فقه الرجل وَلَعُهُ بالماء". وقال الميموني: "كنت أتوضأ بماء كثير، فقال لي أحمد: يا أبا الحسن، أترضى أن تكون كذا؟ فتركته". وقال عبد الله بن أحمد: "قلت لأبي: إني لأُكثر الوضوء، فنهاني عن ذلك، وقال: يا بُني، يقال: إن للوضوء شيطانًا يقال له الولهَان، قال لي ذلك في غير مرةٍ، ينهاني عن كثرة صبّ الماء، وقال لي: أقْلِلْ من هذا الماء يا بني! ". ¬

_ (¬1) رواه أبو عبيد في الطهور (109) وابن أبي شيبة (1/ 67) من طريق الأعمش، والعقيلي في الضعفاء (1/ 231) من طريق المغيرة، كلاهما عن إبراهيم النخعي به. (¬2) رواه ابن عبد البر في التمهيد (8/ 107) من طريق الأثرم عن أبي حذيفة عن عكرمة ابن عمار قال: كنت مع القاسم بن محمد، فدعا بوضوء، فأتي بقدر نصف مدّ وزيادة قليل، فتوضأ به. وانظر: شرح صحيح البخاري لابن بطال (1/ 303). (¬3) رواه ابن منده في مسند إبراهيم بن أدهم (38) من طريق بقية عن إبراهيم بن أدهم عن ابن عجلان.

وقال إسحاق بن منصور: "قلت لأحمد: نزيد على ثلاث في الوضوء؟ فقال: لا والله، إلا رجلًا مُبْتَلىً". وقال أسود بن سالم -الرجلُ الصالح شيخ الإمام أحمد-: "كنت مبتلًى بالوضوء، فنزلتُ دِجْلَة أتوضأ، فسمعت هاتفًا يقول: يا أسود! يحيى، عن سعيد: "الوضوء ثلاث، ما كان أكثر لم يُرْفَع"، فالتفتُّ فلم أر أحدًا" (¬1). وقد روى أبو داود في "سننه" (¬2) من حديث عبد الله بن المُغَفَّل، قال: ¬

_ (¬1) رواه الخطيب في تاريخ بغداد (7/ 36) ومن طريقه ابن الجوزي في المنتظم (10/ 252 - 253) عن أبي يوسف القاضي قال: كنّا عند أسود بن سالم، وقد كان يستعمل من الماء شيئًا كثيرا، ثم ترك ذاك، فجاء رجل فسأله عن ذلك، فقال: هيهات، ذهب ذاك، كنت ليلةً باردة قد قمتُ في السحر، فأنا أستعمل ما كنت أستعمِله، فإذا هاتف هتف بي فقال: يا أسود، ما هذا؟! يحيى بن سعيد الأنصاري حدثنا عن سعيد ابن المسيب: "إذا جاوز الوضوء ثلاثًا لم يرتفع إلي السماء"، قال: قلت: أجنّيٌّ؟ ويحك، مَن تكون؟ قال: ما هو إلا ما تسمَع، فقلت: مَن أنتَ عافاك الله؟ قال: يحيى ابن سعيد الأنصاري قال: حدثنا عن سعيد بن المسيب: "إذا جاوز الوضوء ثلاثًا لم يرتفع إلي السماء"، قال: قلت: لا أعود، لا أعود، فأنا اليوم يكفيني كفٌّ من ماء. وانظر: الوافي بالوفيات للصفدي (9/ 149). (¬2) سنن أبي داود (96)، ورواه أيضًا ابن أبي شيبة (6/ 53) - وعنه ابن ماجه (3864) -، وأحمد (4/ 87، 5/ 55)، والبيهقي في الكبرى (1/ 196)، وغيرهم من طرقٍ عن حماد بن سلمة عن الجريري عن أبي نعامة عن عبد الله بن مغفل رضي الله عنه به، وليس في رواية ابن أبي شيبة ذكر الطهور، وفي إسناده اختلاف كثير، وصححه ابن حبان (6764)، والحاكم (579، 1979)، والنووي في المجموع (2/ 190)، ومغلطاي في الإعلام (ص 305)، وابن الملقن في البدر المنير (2/ 599)، وابن حجر في التلخيص الحبير (1/ 387)، والهيتمي في الفتاوى الفقهية (1/ 177)، =

فصل: الوسواس في انتقاض الطهارة

سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: "سيكون في هذه الأمة قوم يعتدون في الطهور والدعاء". فإذا قرنت هذا الحديث بقوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ} [الأعراف: 55]، وعلمت أن الله يحب عبادته، أنتج لك من هذا أن وضوء الموسوس ليس بعبادة يقبلها الله، وإن أسقطت الفرض عنه؛ فلا تُفتح أبواب الجنة الثمانية لوضوئه يدخل من أيها شاء! ومن مفاسد الوسواس: أنه يَشغلُ ذمته بالزائد على حاجته، إذا كان الماء مملوكًا لغيره كماء الحمَّام، فيخرج منه وهو مرتهن الذمة بما زاد على حاجته، ويتطاول عليه الدَّين، حتى يرتهن من ذلك بشيء كثير جدًا، يتضرّر به في البرزخ ويوم القيامة. فصل ومن ذلك: الوسواس في انتقاض الطهارة؛ لا يُلتفتُ إليه. وفي "صحيح مسلم" (¬1) عن أبي هريرة، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "إذا وجد أحدكم في بطنه شيئًا، فأشكل عليه: أخرج منه شيء أم لا؟ فلا يخرج من المسجد؛ حتى يسمع صوتًا أو يجد ريحًا". [42 ب] وفي "الصحيحين" (¬2) عن عبد الله بن زيد، قال: شُكي إلى ¬

_ = وحسنه ابن كثير في تفسيره (3/ 429)، وابن حجر في الأمالي المطلقة (ص 17)، وهو في صحيح سنن أبي داود (86). (¬1) برقم (362). (¬2) البخاري (137)، ومسلم (361).

رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: الرجلُ يُخيَّلُ إليه أنه يجد الشيء في الصلاة؟ قال: "لا ينصرف حتى يسمع صوتًا أو يجدَ ريحًا". وفي "المسند"، و"سنن أبي داود" (¬1) عن أبي سعيد الخدري، أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "إن الشيطان يأتي أحدَكم وهو في الصلاة، فيأخذ شعرة من دُبره، فيَمُدُّها، فيُرى أنه قد أحدث، فلا ينصرِفْ حتى يسمع صوتًا أو يجد ريحًا". ولفظ أبي داود (¬2): "إذا أتى الشيطان أحدكم فقال له: إنك قد أحدثت؛ فليقل له: كذبت؛ إلا ما وجد ريحًا بأنفه، أو سمع صوتًا بأذنه". فأمر النبي - صلى الله عليه وسلم - بتكذيب الشيطان فيما يحتمل صدقه فيه، فكيف إذا كان كذبه معلومًا متيقنًا، كقوله للموسوس: لم تفعل كذا، وقد فعله! قال الشيخ أبو محمد (¬3): ويستحب للإنسان أن ينضح فرجه وسراويله بالماء إذا بال؛ ليدفع عن نفسه الوسوسة، فمتى وجد بللًا قال: هذا من الماء ¬

_ (¬1) مسند أحمد (3/ 96)، ورواه أيضا ابن أبي أسامة (84 - بغية الباحث-)، وأبو يعلى (1249)، وابن عدي في الكامل (5/ 199)، قال الهيثمي في المجمع (1/ 552): "فيه علي بن زيد، واختلف في الاحتجاج به "، وحسن إسناده المناوي في التيسير (1/ 289)، وانظر: السلسلة الصحيحة (3526). وفي الباب عن ابن عباس وأبي هريرة وعبد الله بن زيد وأنس والسائب بن خباب، وعن ابن مسعود موقوفًا. (¬2) سنن أبي داود (1029)، ورواه أيضًا عبد الرزاق (1/ 140، 2/ 304)، وأحمد (3/ 12، 37، 50، 51، 53، 54)، وأبو يعلى (1141)، وصححه ابن خزيمة (29)، وابن حبان (2666)، والحاكم (464 - 467، 1210)، وهو في ضعيف سنن أبي داود (188). (¬3) ابن قدامة في الكتاب المذكور (ص 80).

الذي نضحتُه؛ لما روى أبو داود (¬1) بإسناده عن سفيان بن الحكم الثقفي -أو الحكم بن سفيان- قال: "كان النبي - صلى الله عليه وسلم - إذا بال توضأ وينتضح". وفي رواية (¬2): "رأيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بال، ثم نضح فرجه"، وكان ابن عمر ينضح فرجه؛ حتى يَبُلَّ سراويله (¬3). ¬

_ (¬1) سنن أبي داود (166)، ورواه أيضا عبد الرزاق (1/ 152)، وأحمد (3/ 410، 4/ 179، 212، 5/ 408، 409)، وابن المنذر في الأوسط (150)، والطبراني في الكبير (3/ 216، 7/ 67)، والبيهقي في الكبرى (1/ 161)، وغيرهم عن سفيان الثوري عن منصور عن مجاهد عن سفيان بن الحكم الثقفي أو الحكم بن سفيان، وصححه الحاكم (608)، لكن راويه مختلَفٌ في صحبته، وأُعلّ إسناده بالاضطراب الشديد، ومتنُه بتهافت لفظِه، بيّن ذلك كلَّه ابن القطان في بيان الوهم والإيهام (5/ 129 - 137)، وأَوصل المزي في تهذيب الكمال (7/ 95 - 96) أوجهَ الاختلاف فيه إلي عشرة أقوال، قال الألباني في صحيح سنن أبي داود (1/ 296): "اضطرابُه شديد محيِّر، لا يمكن ترجيح وجه منها على آخر"، وقال ابن عبد الهادي في تعليقه على العلل (ص 31): "هذا الحديث وإن كثُر اضطرابه فله أصل في الجملة"، فله ما يشهد له من حديث زيد بن حارثة وابن عباس رضي الله عنهما، وبهما صحّحه الألباني في صحيح سنن أبي داود. وفي الباب عن أبي هريرة وجابر وأنس رضي الله عنهم. (¬2) سنن أبي داود (167)، ورواه أيضا أحمد (4/ 69، 5/ 380)، والحاكم (609)، والبيهقي في الكبرى (1/ 161)، وغيرهم عن سفيان عن ابن أبي نجيح عن مجاهد عن رجل من ثقيف عن أبيه، وهو حديث مضطرب، تقدّم بيان ذلك في تخريج اللفظ الذي قبله. (¬3) رواه عبد الرزاق (1/ 153) عن الثوري وابن عيينة -فرَّقهما - عن الحسن بن عبيد الله عن أبي الضحى قال: "رأيت ابن عمر توضّأ ثم نضح حتى رأيتُ البلل من خلفه في ثيابه" لفظ الثّوري. ورواه ابن أبي شيبة (1/ 167) عن علي بن مسهر عن عبيد الله بن عمر عن نافع قال: "كان ابن عمر إذا توضّأ نضح فرجَه".

فصل: وسوسة ما بعد البول، وهي عشرة أشياء

وشكا إلى الإمام أحمد بعضُ أصحابه أنه يجد البلل بعد الوضوء، فأمره أن ينضح فرجه إذا بال، قال: ولا تجعل ذلك من هِمَّتك، والْهُ عنه. وسئل الحسن أو غيره عن مثل هذا، فقال: "الْهُ عنه"؛ فأعاد عليه المسألة، فقال: "أتَسْتَدِرُّه لا أبا لك؟! الْهُ عنه" (¬1). فصل. ومن هذا: ما يفعله كثير من الموسوسين بعد البول؛ وهو عشرة أشياء: السَّلْت، والنَّتْر، والنحْنَحَة، والمشي، والقفز، والحَبْل، والتفقد، والوجور، والحشو، والعصابة، والدَّرَجة. أما السلت فيسلُته من أصله إلي رأسه، على أنه قد روي في ذلك حديث غريب لا يثبت، ففي "المسند" و"سنن ابن ماجه" (¬2) عن عيسي بن يَزْداد، ¬

_ (¬1) رواه أبو عبيد في غريب الحديث (4/ 303 - 304) عن هشيم عن حميد الطويل عن الحسن. ونحوه عن غيره في مصنف ابن أبي شيبة (1/ 167) والسنن الكبرى (1/ 162). (¬2) مسند أحمد (4/ 347)، سنن ابن ماجه (326)، ورواه أيضًا ابن أبي شيبة (1/ 149)، وأبو داود في المراسيل (4)، والعقيلي في الضعفاء (3/ 381)، وابن عدي في الكامل (5/ 254)، ومن طريقه البيهقي في الكبرى (1/ 113)، وغيرهم، ولفظه عندهم: "فلينتر ذكره"، وهو عند بعضهم حكايةٌ لفعل النبيّ - صلى الله عليه وسلم -، قال البخاري في التاريخ الكبير (6/ 392): "عيسى بن يزداد عن أبيه: مرسل، روى عنه زمعة، لا يصحّ"، وقال أبو حاتم كما في علل ابنه (1/ 42): "عيسى بن يزداد ليس لأبيه صحبة، ومن الناس من يدخله في المسند على المجاز، وهو وأبوه مجهولان"، ثم تتابع العلماء على تضعيف هذا الحديث وإعلاله بالإرسال، حتى قال النووي في المجموع (2/ 91): "اتفقوا على أنه ضعيف، وقال الأكثرون: هو مرسل، ولا صحبة ليزداذ". وانظر: البدر المنير (2/ 344 - 345)، والسلسلة الضعيفة (1621).

عن أبيه، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "إذا بال أحدكم فليمسح ذكره ثلاث مرات". وقال جابر بن زيد: "إذا بُلْتَ فامسح أسفل ذكرك؛ فإنه ينقطع" رواه سعيد عنه (¬1). قالوا: ولأنه بالسلت والنتر يُستخرج ما يُخشى عَوْدُه بعد الاستنجاء. قالوا: وإن احتاج إلى مشي خطوات لذلك ففعل فقد أحسن. والنحنحة ليستخرج الفضلة، وكذلك القفز؛ يرتفع عن الأرض شيئًا، ثم يجلس بسرعة. والحبل يتخذ بعضهم حبلًا يتعلق به، حتى يكاد يرتفع، ثم ينخرط فيه حتى يقعد. والتفقد: يمسك الذكر ثم ينظر في المخرج: هل بقي فيه شيء أم لا؟ والوجور: يمسكه ثم يفتح الثقب، ويصب فيه الماء. والحشو يكون معه مِيل وقطن يحشوه به؛ كما يحشو الذُّمَّل بعد فتحها. والعصابة: يعصبه بخرقة. والدَّرَجةُ: يصعد في سُلَّم قليلًا، ثم ينزل بسرعة. والمشيُ: يمشي خطوات، ثم يعيد الاستجمار. قال شيخنا: وذلك كله وسواس وبدعة. فراجعته في السلت والنتر؛ فلم يره، وقال: لم يصحَّ الحديث، قال: والبول كاللبن في الضَّرع، إن تركته قَرّ، وإن حلبته دَرّ. قال: ومن اعتاد ذلك ابتُلي به (¬2) بما عوفي منه مَن لها عنه. ¬

_ (¬1) رواه ابن أبي شيبة (1/ 149) عن ابن عيينة عن عمرو عنه، وذكره ابن المنذر في الأوسط (1/ 343 - 344)، وجعل قوله: "فإنه ينقطع عنك" من كلام ابن عيينة. (¬2) في بعض النسخ: "منه".

فصل: تشدد الموسوسين

قال: ولو كان هذا سنة؛ لكان أولى الناس به رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه؛ وقد قال اليهودي لسلمان: "لقد علَّمكم نبيُّكم كل شيء حتى الخِرَاءة، فقال: أجل" (¬1). فأين علَّمنا نبيُّنا - صلى الله عليه وسلم - ذلك أو شيئًا منه؟ بلى؛ علّم المستحاضة أن تتلجّم (¬2)، وعلى قياسها من به سَلَس [43 أ] البول؛ أن يتحفّظ، ويشدَّ عليه خِرقة. فصل (¬3) ومن ذلك: أشياء سهَّل فيها المبعوثُ بالحنيفية السمحة؛ فشدّد فيها هؤلاء. فمن ذلك: المشي حافيًا في الطرقات، ثم يصلي ولا يغسل رجليه، فقد روى أبو داود في "سننه" (¬4): عن امرأة من بني عبد الأشهل، قالت: قلت: يا ¬

_ (¬1) أخرجه مسلم (262). (¬2) كما في حديث حمنة بنت جحش الذي أخرجه أبو داود (287)، والترمذي (128)، وابن ماجه (627)، وأحمد (6/ 439). (¬3) من كتاب ابن قدامة (ص 83 وما بعدها). (¬4) سنن أبي داود (384)، ورواه أيضا عبد الرزاق (1/ 33)، وابن أبي شيبة (1/ 59)، وأحمد (6/ 435)، وابن ماجه (533)، والطبراني في الكبير (25/ 184)، والبيهقي في الكبرى (2/ 434)، وغيرهم، قال الخطابي في معالم السنن: "في إسناده مقال؛ لأنه عن امرأة من بني عبد الأشهل، والمجهول لا تقوم به الحجة في الحديث"، وتعقبه المنذري في مختصر السنن (1/ 227) بقوله: "جهالة اسمِ الصحابي غير مؤثرة في صحة الحديث"، وصححه ابن الجارود (143)، ومغلطاي في الإعلام (2/ 577)، وهو في صحيح سنن أبي داود (410). وفي الباب عن أم سلمة وأبي هريرة رضي الله عنهما.

رسول الله! إن لنا طريقًا إلى المسجد مُنْتِنَة، فكيف نفعل إذا تطهَّرنا؟ قال: "أليس بعدها طريق أطيب منها؟ "، قالت: قلت: بلى، قال: "فهذه بهذه". وقال عبد الله بن مسعود: "كنا لا نتوضأ من مَوْطئ" (¬1). وعن علي رضي الله عنه: أنه خاض في طين المطر، ثم دخل المسجد فصلى، ولم يغسل رجليه (¬2). وسئل ابن عباس عن الرجل يطأ العَذِرةَ، قال: "إن كانت يابسة فليس بشيء، وإن كانت رطبة غسل ما أصابه" (¬3). ¬

_ (¬1) رواه عبد الرزاق (1/ 32)، وابن أبي شيبة (1/ 59، 2/ 195)، وأبو داود (204)، وابن ماجه (1041)، وابن خزيمة (37)، وابن المنذر في الأوسط (737)، والطبراني في الكبير (10/ 200)، والبيهقي في الكبرى (1/ 139)، وغيرهم من طرق عن الأعمش عن أبي وائل عن ابن مسعود، واختلِف فيه على الأعمش، وصححه الحاكم (483 - 485، 610)، وقال الهيثمي في المجمع (1/ 633): "رجاله ثقات"، وصححه الألباني في الإرواء (183). ورواه ابن عدي في الكامل (5/ 147) من طريق عمرو بن عبد الغفار الفقيمي عن الحسن بن عمرو عن أبي وائل به. ورواه عبد الرزاق (1/ 32) عن ابن جريج قال: أُخبِرت عن مسلم بن أبي عمران عن ابن مسعود به. (¬2) رواه وكيع -كما في المدونة (1/ 127) - وابن المنذر في الأوسط (738، 739) عن عيسى بن يونس عن محمد بن مجاشع التغلبي عن أبيه عن كهيل -زاد ابن المنذر: أو كميل- قال: "رأيت عليّا يخوض طين المطر، ثم دخل المسجد فصلى ولم يغسل رجليه". ورواه ابن أبي شيبة (1/ 177) عن حفص بن غياث عن حجاج عن الحكم قال: "كان علي يخوض طين المطر ويدخل المسجد فيصلي ولا يتوضأ". وروى معناه البيهقي في الكبرى (2/ 434) من طريق معاذ بن العلاء عن أبيه عن جده. (¬3) رواه ابن أبي شيبة (1/ 58) عن حفص بن غياث عن الأعمش عن يحيى بن وثاب قال: سئل ابن عباس ... وذكره بنحوه.

وقال حفص: "أقبلت مع عبد الله بن عمر عامدَينِ إلي المسجد، فلما انتهينا عدلتُ إلي المطهرة لأغسل قدمي من شيء أصابها، فقال عبد الله: لا تفعل؟ فإنك تطأ الموطأ الرديء، ثم تطأ بعده الموطئ الطيب -أو قال: النظيف- فيكون ذلك طهورًا، فدخلنا المسجد جميعًا فصلينا" (¬1). وقال أبو الشّعْثاء: "كان ابن عمر يمثي بمنًى في الفروث (¬2) والدماء اليابسة حافيًا، ثم يدخل المسجد فيصلي فيه، ولا يغسل قدميه" (¬3). وقال عمران بن حُدير: "كنت أمشي مع أبي مِجْلز إلي الجمعة، وفي الطريق عَذِراتٌ يابسة، فجعل يتخطاهن ويقول: ما هذه إلا سَوْدات، ثم جاء حافيًا إلي المسجد؛ فصلى ولم يغسل قدميه" (¬4). وقال عاصم الأحول: "أتينا أبا العالية، فدعونا بوضوء فقال: ما لكم؟ ألستم متوضئين؟ قلنا: بلى، ولكن هذه الأقذار التي مررنا بها، قال: هل وطئتم على شيء رطْبٍ تعلّق بأرجلكم؟ قلنا: لا. فقال: فكيف بأشد من هذه الأقذار؛ تجفّ فينسفها الريح في رؤوسكم ولحاكم؟ " (¬5). ¬

_ (¬1) لم أقف عليه. (¬2) في م: "الروث". (¬3) لم أقف على هذه الرواية، وروى عبد الرزاق (1/ 31) عن ابن التيمي عن أبيه عن بكر ابن عبد الله المزني قال: "رأيت ابن عمر بمنى يتوضأ ثم يخرج وهو حاف، فيطأ ما يطأ ثم يدخل المسجد فيصلي ولا يتوضأ"، ومن طريق عبد الرزاق رواه ابن المنذر في الأوسط (741). (¬4) ذكره الخطابي في غريب الحديث (3/ 109) وقال: يرويه حجاج بن منهال عن حماد بن سلمة عن عمران. (¬5) انظر نحوه في مصنف عبد الرزاق (1/ 29).

فصل: طهارة الخف والنعل

فصل ومن ذلك: أن الخُفّ والحذاء إذا أصابت النجاسة أسفلَه أجزأ دَلْكُه بالأرض مطلقًا، وجازت الصلاة فيه بالسنة الثابتة. نصَّ عليه أحمد، واختاره المحققون من أصحابه. قال أبو البركات: ورواية إجزاء الدّلك مطلقًا هي الصحيحة عندي؛ لما روى أبو هريرة أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "إذا وطئ أحدكم بنعله الأذى فإن التراب له طهور" (¬1)، وفي لفظ: "إذا وطئ أحدكم الأذى بِخُفّيه فطهورهما التراب" رواهما أبو داود (¬2). ¬

_ (¬1) سنن أبي داود (385) من طريق أبي المغيرة والوليد بن مزيد وعمر بن عبد الواحد عن الأوزاعي قال: أنبئتُ أن سعيدًا لمقبري حدّث عن أبيه عن أبي هريرة، ورواه أيضًا الحاكم (591) والبيهقي في الكبرى (2/ 430) من طريق الوليد به، ورواه ابن المنذر في الأوسط (734) وابن حبان (1403) من طريق الوليد عن الأوزاعي عن سعيد المقبري به، من غير واسطة بينهما، ثم ترجم ابن حبان بما يفيد أن الأوزاعي سمع هذا الخبر من سعيد. (¬2) سنن أبي داود (386) من طريق محمد بن كثير عن الأوزاعي عن ابن عجلان عن سعيد المقبري عن أبيه عن أبي هريرة، ورواه من هذه الطريق البزار (8435)، والعقيلي في الضعفاء (2/ 257)، وابن حبان (1404)، والبيهقي في الكبرى (2/ 430)، وصححه ابن خزيمة (292)، والحاكم (590). ورواه الطحاوي في معاني الآثار (280) والبيهقي في المعرفة (1280) من طريق محمد بن كثير عن الأوزاعي عن ابن عجلان عن سعيد المقبري عن أبي هريرة، ورواه أبو داود (387) من طريق يحيى بن حمزة عن الأوزاعي عن محمد بن الوليد عن سعيد المقبري عن القعقاع بن حكيم عن عائشة بمعناه، ورواه أبو يعلى (4869) من طريق عبد الله بن =

وروى أبو سعيد الخدري أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فخلع نعليه، فخلع الناس نعالهم، فلما انصرف قال: "لمَ خلعتم؟ "، قالوا: يا رسول الله! رأيناك خلعت فخلعنا، فقال: "إن جبريل أتاني فأخبرني أن بهما خبثًا، فإذا جاء أحدكم المسجد فليقْلِبْ نعليه، ثم لينظر؛ فإن رأى خبثًا فليمسحه بالأرض، ثم لِيُصلِّ فيهما". رواه الإمام أحمد (¬1). ¬

_ = سمعان عن سعيد المقبري عن القعقاع عن عائشة، ورواه العقيلي في الضعفاء (2/ 256 - 257) والطبرا ني في الأوسط (2759) وابن عدي في الكامل (4/ 126) من طريق ابن سمعان عن المقبري عن القعقاع عن أبيه عن عائشة، ورواه غير المقبري عن القعقاع، وفي إسناد الحديث اختلاف كثير غير ما تقدّم انظره في علل الدارقطني (8/ 159 - 160، 14/ 337 - 338)، قال البزار: "هذا الحديث قد رواه غير الأوزاعي عن ابن عجلان عن المقبري عن رجل، فالحديث لا يثبت"، وأعله البيهقي في الخلافيات (1/ 126 - المختصر-)، وقال في المعرفة (2/ 253): "كأنّ الشافعي رغب عن هذه الروايات في الجديد لما فيها من الاختلاف"، وقال ابن عبد البر في التمهيد (13/ 107): "هو حديث مضطرب الإسناد لا يثبت، اختُلف في إسناده على الأوزاعي وعلى سعيد بن أبي سعيد اختلافَا يُسقط الاحتجاجَ به"، وضعفه ابن العربي في العارضة (1/ 204)، وابن القطان في بيان الوهم والإيهام (5/ 126)، والنووي في المجموع (1/ 97، 2/ 599)، وابن حجر في التلخيص الحبير (435)، وقال ابن تيمية كما في المجموع (22/ 167): "تعدُّده مع عدَم التهمة وعدم الشذوذ يقتضي أنه حسن". (¬1) مسند أحمد (3/ 20)، ورواه أيضًا الطيالسي (2154)، وابن أبي شيبة (2/ 181)، وعبد بن حميد (880)، والدارمي (1378)، وأبو داود (650)، وأبو يعلى (1194)، وغيرهم من طرق عن حماد بن سلمة عن أبي نعامة عن أبي نضرة عن أبي سعيد، ولفظ الطيالسي: "فإن رأى في نعليه أذًى فليخلعهما، وإلا فليصلِّ فيهما"، ولفظ الدارمي: "فليمطه وليصلِّ فيهما"، وفي إسناده اختلافٌ ذكر بعضَه ابن عبد البر في =

وتأويل ذلك على ما يُستقذر من مُخاطٍ أو نحوه من الطاهرات؛ لا يصح لوجوه: أحدها: أن ذلك لا يسمي خبثًا. الثاني: أن ذلك لا يؤمر بمسحه عند الصلاة؛ فإنه لا يبطلها. الثالث: أنه لا يخلع النعل لذلك في الصلاة؛ فإنه عملٌ لغير حاجة، فأقل أحواله الكراهة. الرابع: أن الدارقطني روى في "سننه" (¬1) في حديث الخلع من رواية ابن عباس: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "إن جبريل أتاني، فأخبرني أن فيهما دَمَ حَلَمة". والحَلَمُ: كبار القُراد. ولأنه محلٌّ يتكرر ملاقاته النجاسة غالبًا، فأجزأ مسحه بالجامد، كمحل الاستجمار، [43 ب] بل أولى؛ فإن محل الاستجمار يلاقي النجاسة في اليوم مرتين أو ثلاثًا. ¬

_ = التمهيد (22/ 242)، وصححه ابن خزيمة (786، 1017)، وابن حبان (2185)، والحاكم (955)، والنووي في المجموع (2/ 179، 3/ 132، 156)، وابن كثير في تحفة الطالب (23)، وحسنه ابن مفلح في الآداب الشرعية (3/ 388)، وتكلّم البيهقي في الكبرى (2/ 403) في رجاله بما لا يقدح في ثبوته، وهو مخرّج في الإرواء (284). وفي الباب عن عطاء عمّن حدثه، وعن الحسن وقتادة مرسلاً. (¬1) سنن الدارقطني (1/ 399) من طريق صالح بن بيان عن فرات بن السائب عن ميمون ابن مهران عن ابن عباس، قال ابن الملقن في البدر المنير (4/ 137): "هذا إسناد ضعيف؛ صالح بن بيان يروي المناكير عن الثقات، قال الدارقطني: متروك، وفرات ابن السائب متروك، قال البخاري: منكر الحديث تركوه"، والحديث ضعَّفه ابن حجر في التلخيص الحبير (1/ 663).

فصل: طهارة ثوب المرأة

فصل وكذلك ذيل المرأة على الصحيح، وقالت امرأة لأم سلمة: إني أطيل ذيلي وأمشي في المكان القذر؟ فقالت: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "يُطهّره ما بعده". رواه أحمد، وأبو داود (¬1). وقد رخّص النبي - صلى الله عليه وسلم - للمرأة أن تُرخِي ذيلها ذراعًا (¬2)، ومعلوم أنه ¬

_ (¬1) مسند أحمد (6/ 290)، سنن أبي داود (383)، ورواه أيضًا مالك (45)، وابن أبي شيبة (1/ 58)، والدارمي (742)، والترمذي (143)، وابن ماجه (531)، وأبو يعلى (6925، 6981)، وغيرهم من طريق محمد بن إبراهيم عن أم ولدٍ لإبراهيم بن عبد الرحمن بن عوف أنها سألت أم سلمة الحديث، وصححه ابن الجارود (142)، قال ابن المنذر في الأوسط (2/ 170): "في إسناده مقال؛ وذلك أنه عن امرأة مجهولة، أمّ ولد إبراهيم بن عبد الرحمن بن عوف غير معروفة برواية الحديث"، وقال الخطابي في معالم السنن: "لا يعرَف حالها في الثقة والعدالة"، وتبعه المنذري في مختصر السنن (1/ 227)، والنووي في المجموع (1/ 96)، والذهبي في المهذّب (2/ 830)، وقال العقيلي في الضعفاء (2/ 257): "هذا إسناد صالح جيد"، وصححه ابن العربي في العارضة (1/ 203)، وله شاهدان عن أبي هريرة وعن امرأة من بني عبد الأشهل بهما صحّحه الألباني في صحيح سنن أبي داود (409). (¬2) رواه مالك (1632)، وابن راهويه (1842) والدارمي (2644) وأبو داود (4117) والنسائي (5338) وأبو يعلى (6891، 6977) والطبراني في الكبير (23/ 416، 417) وغيرهم من طرق عن نافع عن صفية بنت أبي عبيد أنها أخبرته عن أم سلمة أنها قالت حين ذكر الإزارَ: فالمرأة يا رسول الله؟! قال: "ترخيه شبرًا"، قالت أم سلمة: إذًا ينكشف عنها، قال: "فذراعًا، لا تزيد عليه"، اللفظ لمالك، وصححه ابن حبان (5451)، وابن دقيق العيد في الاقتراح (ص 116). ورواه عبد الرزاق =

فصل: الصلاة في النعال

يصيب القذر ولم يأمرها بغسل ذلك، بل أفتاهن بأنه تُطهِّره الأرضُ. فصل ومما لا تَطيب به قلوبُ الموسوسين: الصلاة في النعال، وهي سنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه، فعلًا منه وأمرًا. فروى أنس بن مالك أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يصلي في نعليه. متفق عليه (¬1). وعن شدّاد بن أوْسٍ، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "خالفوا اليهود؛ فإنهم لا يصلون في خِفافهم ولا نعالهم". رواه أبو داود (¬2). وقيل للإمام أحمد: أيصلي الرجل في نعليه؟ فقال: "إي والله". ¬

_ = (11/ 82) وأحمد (2/ 24) والترمذي (1731) والنسائي (5336) والطبراني في الأوسط (8393) من طرق عن نافع عن ابن عمر قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "الذي يجر ثوبه من الخيلاء لاينظر الله إليه"، قالت اْم سلمة: فكيف بنا؟! قال: "شبرَا"، قالت: إذًا تبدو أقدامنا، قال: "فذراع، لا تزدن عليه"، قال الترمذي: "حديث حسن صحيح"، وصححه ابن دقيق العيد في الإلمام (226)، والمناوي في الفيض (6/ 146)، وللحديث طرق أخرى، انظر: السلسلة الصحيحة (460، 1864). وفي الباب عن أنس وعمر وأبي هريرة رضي الله عنهم. (¬1) أخرجه البخاري (386)، ومسلم (555). (¬2) سنن أبي داود (652)، ورواه أيضًا البزار (3480)، والطبراني في الكبير (7/ 290)، والبيهقي في الكبرى (2/ 432)، كلهم من طريق يعلى بن شداد عن أبيه، وصححه ابن حبان (2186)، والحاكم (956)، ورمز له السيوطي بالصحة، وصححه الشوكاني في الفوائد المجموعة (ص 24)، وحسن إسناده العراقي كما في فيض القدير (3/ 573)، وهو في صحيح سنن أبي داود (659). وفي الباب عن جماعة من الصحابة رضي الله عنهم.

فصل: الصلاة حيث كان وفي أي مكان إلا المقبرة والحمام وأعطان الإبل

وترى أهل الوسواس إذا بُلي أحدهم بصلاة الجنازة في نعليه، قام على عقبيهما كأنه واقف على الجمر، حتى لا يصلي فيهما. وفي حديث أبي سعيد الخدرى: "إذا جاء أحدكم المسجد فلينظر؛ فإن رأى على نعليه قذرًا فليمسحه، وليصلِّ فيهما" (¬1). فصل ومن ذلك: أن سنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الصلاة حيث كان، وفي أيّ مكان اتفق، سوى ما نهى عنه من المقبرة والحمّام وأعطان الإبل، فصح عنه - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: "جُعِلتْ لي الأرضُ مسجدًا وطهورًا؛ فحيثما أدركتْ رجلاً من أمتي الصلاةُ فليصلِّ" (¬2). وكان يصلي في مرابض الغنم؛ وأمر بذلك، ولم يشترط حائلًا. قال ابن المنذر (¬3): أجمع كل من يُحفَظ عنه من أهل العلم على إباحة الصلاة في مرابض الغنم؛ إلا الشافعي، فإنه قال: أكره ذلك؛ إلا إذا كان سليمًا من أبعارها. وقال أبو هريرة: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "صلُّوا في مرابض الغنم، ولا تصلُّوا في أعطان الإبل". رواه الترمذي، وقال: "حديث صحيح" (¬4). ¬

_ (¬1) تقدم تخريجه. (¬2) أخرجه البخاري (335)، ومسلم (521) عن جابر. (¬3) الأوسط (2/ 187، 188). (¬4) ح: "حسن صحيح"، وكذا في سنن الترمذي (348)، ورواه أيضا ابن أبي شيبة (1/ 338. 7/ 277)، وأحمد (2/ 451، 491، 559)، والدارمي (1391)، وابن =

وروى الإمام أحمد (¬1) من حديث عُقبة بن عامر، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "صلُّوا في مرابض الغنم، ولا تُصلُّوا في أعطان الإبل أو مَبارِك الإبل". وفي "المسند" (¬2) أيضًا، من حديث عبد الله بن المغَفّل، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "صلُّوا في مرابض الغنم، ولا تصلُّوا في أعطان الإبل؛ فإنها خُلِقَتْ من الشياطين". ¬

_ = ماجه (768)، وأبو عوانة (1194)، وغيرهم، وصححه ابن خزيمة (795، 796)، وابن حبان (1384، 1700، 1701، 2314، 2317)، والبغوي في شرح السنة (2/ 404)، وحسنه ابن عبد البر في التمهيد (22/ 333)، وقال ابن رجب في الفتح (2/ 419): "إسناده كلهم ثقات، إلا أنه اختلف على ابن سيرين في رفعه ووقفه"، وصححه الألباني في الثمر المستطاب (ص 382). وفي الباب -عن غير من ذكرهم المصنف- عن سبرة بن معبد وابن عمر وأنس وطلحة بن عبيد الله وعبد الله بن عمرو وسليك الغطفاني ونوفل بن الحارث والمغيرة بن نوفل وعن شيخ من بني هاشم وعن رجل من قريش وعن رجل بالمدينة وعن الحسن وقتادة مرسلًا. (¬1) مسند أحمد (4/ 150)، ورواه أيضا الطبراني في الكبير (17/ 340) والأوسط (6537، 8574)، وحسنه ابن رجب في الفتح (2/ 421)، والعيني في العمدة (3/ 157)، وقال الهيثمي في المجمع (2/ 142): "رجال أحمد ثقات"، وحسنه الألباني في الثمر المستطاب (ص 383). (¬2) مسند أحمد (4/ 86، 5/ 55، 57)، ورواه أيضًا الطيالسي (913)، وعبد الرزاق (1/ 409)، وابن الجعد في مسنده (3180)، وابن أبي شيبة (1/ 337، 7/ 277)، وابن ماجه (769)، والبيهقي في الكبرى (2/ 449)، وغيرهم من طرق عن الحسن عن عبد الله بن مغفل، وصححه ابن حبان (1702)، وحسنه ابن عبد البر في التمهيد (22/ 333) وقال: إسماع الحسن من عبد الله بن مغفل صحيح "، وحسنه النووي في المجموع (3/ 160) وفي غيره، وقال مغلطاي في الإعلام (1/ 1281): "إسناده صحيح متصل"، وصححه الألباني في الثمر المستطاب (ص 386).

وفي الباب عن جابر بن سَمُرة (¬1)، والبراء بن عازب (¬2)، وأُسيد بن حُضير (¬3)، وذي الغُرّة (¬4)، كلهم رووا عن النبي - صلى الله عليه وسلم -: "صلُّوا في مرابض الغنم"، وفي بعض ألفاظ (¬5) الحديث: "صلُّوا في مرابض الغنم؛ فإن فيها بَرَكة". وقال: "الأرض كلّها مسجد إلا المقبرة والحمّام". رواه أهل "السنن" ¬

_ (¬1) رواه مسلم (360). (¬2) رواه الطيالي (734، 735)، وعبد الرزاق (1/ 407)، وابن أبي شيبة (1/ 337، 338، 7/ 277)، وأحمد (4/ 288)، وأبو داود (184، 493)، وغيرهم، وصححه ابن راهويه كما في سنن الترمذي (1/ 122)، وأحمد كما في الكبرى للبيهقي (1/ 159)، وابن الجارود (26)، وابن حبان (1128)، وقال ابن خزيمة (32): "لم نر خلافًا بين علماء أهل الحديث أن هذا الخبر صحيح من جهة النقل لعدالة ناقليه"، وحسنه ابن عبد البر في التمهيد (22/ 333)، وصححه ابن تيمية في شرح العمدة (4/ 429)، وهو في صحيح سنن أبي داود (178). (¬3) رواه أحمد (4/ 352)، وابن أبي أسامة (98 - بغية الباحث-)، والطحاوي في معاني الآثار (2099)، وابن قانع في معجم الصحابة (1/ 39)، والطبراني في الكبير (1/ 206) والأوسط (7407)، وضعفه البيهقي في الكبرى (1/ 159)، ومغلطاي في الإعلام (1/ 483)، وقال الهيثمي في المجمع (1/ 567): "فيه الحجاج بن أرطاة، وفي الاحتجاج به اختلاف"، وقال البوصيري في المصباح (1/ 72): "هذا إسناد ضعيف لضعف حجاج بن أرطاة وتدليسه، لا سيما وقد خالف غيره، والمحفوظ في هذا الحديث: الأعمش عن عبد الله الرازي عن عبد الرحمن بن أبي ليلى عن البراء، وقيل: عن ابن أبي ليلى عن ذي الغرة، وقيل غير ذلك". (¬4) رواه عبد الله بن أحمد في زوائد المسند (4/ 67، 5/ 112)، والطبراني في الكبير (22/ 276)، وهو حديث معَلّ، ضعفه البيهقي في الكبرى (1/ 159). (¬5) م: "روايات".

كلهم إلا النسائي (¬1). فأين هذا الهدي من فِعْل مَنْ لا يصلي إلا على سجادة، تُفرش فوق البساط فوق الحصير، ويوضع عليها المنديل، ولا يمشي على الحصير، ولا على البساط، بل يمشي عليها قفزًا (¬2) كالعصفور؟ ¬

_ (¬1) سنن أبي داود (492)، سنن الترمذي (317)، سنن ابن ماجه (745)، ورواه أيضا أحمد (3/ 83، 96)، والدارمي (1390)، وأبو يعلى (1350)، والبيهقي في الكبرى (2/ 434، 435)، وغيرهم من حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه، وأعلّه الترمذي بالاضطراب، ورجّح إرساله هو والدارقطني في العلل (11/ 320)، وصححه ابن خزيمة (791)، وابن حبان (1699، 2316، 2321)، والحاكم (919، 920)، وابن حزم في المحلى (4/ 26)، وضغفه ابن عبد البر في التمهيد (5/ 221)، والنوويّ في الخلاصة (938)، وتعقبه ابن الملقن في البدر المنير (4/ 126) بأنّ هذا الاضطراب غير قادح، وأنّ من ضعّفه لم يطعن في رجاله، ونقل تصحيحه عن الرافعي وابن دقيق العيد وابن الجوزي، قال ابن المنذر في الأوسط (758): "لا يوهن الحديثَ تخلّفُ من تخلّفَ عن إيصاله"، وقال ابن القطان في بيان الوهم والإيهام (2/ 283): "ينبغي اْن لا يضرَّه الاختلاف إذا كان الذي أسنده ثقة"، وصححه ابن تيمية في شرح العمدة (4/ 425) وقال في الاقتضاء (ص 232): "أسانيده جيدة، ومن تكلّم فيه فما استوفى طرقه"، وقال ابن كثير في الآداب والأحكام المتعلقة بدخول الحمام (76، 80 - 81): "له طرق جيدة ... حاصله أنه قد اختلف في وصله وإرساله، فوصله ثقات وأرسله آخرون، وعلى طريقة كثير من الفقهاء يجب الحكم به، وهو اختيار شيخنا الحافظ أبي الحجاج المزي بعد أن سألته عنه وعرضتُ عليه طرقه وعِلله، فصمّم عليَّ بصحّته، وأمّا طوائف من أهل الحديث فيحكمون بإرساله إلا أنه من أحسنها"، وهو في صحيح سنن أبي داود (507). وفي الباب عن ابن عمر وعلي رضي الله عنهما. (¬2) ت، ش: "نقرا".

فما أحقَّ هؤلاء بقول ابن مسعود: "لأنتم أهدى من أصحاب محمدٍ، أو على شعبةِ ضلالةٍ" (¬1). ¬

_ (¬1) قول ابن مسعود هذا قاله لقوم كانوا يذكرون الله تعالى بطريقة محدثةٍ، وقد روى خبرَه معهم وإنكارَه عليهم غيرُ واحد بألفاظ متقاربة يَزيد بعضهم على بعض: فرواه عبد الرزاق (3/ 221) - ومن طريقه الطبراني في الكبير (9/ 125) - عن قيس بن أبي حازم عنه، صححه الهيثمي في المجمع (1/ 435). ورواه الدارمي (204) والطبراني (9/ 127) عن عمرو بن سلمة عنه، وهو في السلسلة الصحيحة (2005). ورواه البخاري في التاريخ الكبير (6/ 331) والطبراني (9/ 127) عن أبي إسحاق عن عمرو بن زرارة عنه، قال المنذري في التركيب (1/ 47): "أحد إسناديه صحيح"، وقال الهيثمي (1/ 450): "أحد إسناديه رجاله رجال الصحيح"، وصححه الهيتمي في الزواجر (1/ 191)، وهو في صحيح الترغيب (60). ورواه البخاري في التاريخ الكبير (5/ 42، 6/ 331) والطبراني (9/ 128) وابن عساكر في تاريخ دمشق (46/ 15 - 16) عن أبي إسحاق عن عبد الله بن أغر عنه. ورواه عبد الرزاق (3/ 221 - 222) - ومن طريقه الطبراني (9/ 125) - وعبد الله في زوائد الزهد (ص 358) وأبو نعيم في الحلية (4/ 380 - ا 38) من طرقٍ عن عطاء بن السائب عن أبي البختري عنه، قال الهيثمي (1/ 435): "عطاء بن السائب ثقة ولكنه اختلط"، ورواه الطبراني (9/ 126) عن حماد بن سلمة عن عطاء عن أبي عبد الرحمن السلمي عنه، ورواه عبد الرزاق (3/ 222) عن معمر عن عطاء عنه. ورواه ابن وضاح في البدع (23) والطبراني (9/ 125) وأبو نعيم في الحلية (4/ 381) عن سفيان عن سلمة بن كهيل عن أبي الزعراء عنه. ورواه ابن وضاح (52) والطبراني (9/ 128) عن إسرائيل عن أشعث بن أبي الشعثاء عن الأسود بن هلال عنه. ورواه ابن أبي عمر -كما في المطالب العالية (2983) - عن هشام بن سليمان عن أبي رافع عن صالح بن جبير عنه. ورواه ابن وضاح (9، 17، 18، 19، 20، 22) عن عبد الواحد بن صبرة وسيّار أبي الحكم وابن سمعان وبعض أصحاب الأعمش وعبدة بن أبي لبابة والصلت بن بهرام عنه، ولا تخلو أسانيدهم من مقال.

فصل: الصلاة بأثر الطين وغيره على القدمين

وقد صلى النبي - صلى الله عليه وسلم - على حصير قد اسْوَدّ من طول ما لُبِس، فنُضح له بالماء وصلىَّ عليه (¬1)، ولم يُفْرَش له فوقه سجادة ولا منديل. وكان يسجد على التراب تارة، وعلى الحمى تارة، وفي الطين [44 أ] تارة، حتى يُرى أثره على جبهته وأنفه. وقال ابن عمر: "كانت الكلاب تُقبلُ وتُدبِر وتبول في المسجد، ولم يكونوا يرشُّون شيئًا من ذلك". رواه البخاري، ولم يقل: "وتبول"، وهو عند أبي داود بإسناد صحيح بهذه الزيادة (¬2). فصل ومن ذلك: أن الناس في عصر الصحابة والتابعين ومَن بعدهم كانوا يأتون المساجد حُفاةً في الطين وغيره. قال يحيى بن وَثّاب: قلت لابن عباس: الرجل يتوضأ، يخرج إلي المسجد حافيًا؟ قال: لا بأس به (¬3). ¬

_ (¬1) كما في حديث أنس الذي أخرجه البخاري (380)، ومسلم (658). (¬2) سنن أبي داود (382)، ورواه بالزيادة المذكورة البيهقي في الكبرى (1/ 243، 2/ 429)، وصححه ابن خزيمة (300)، وابن حبان (1656)، وابن تيمية كما في المجموع (21/ 510)، وأما البخاري فعلقه بصيغة الجزم (172) عن شيخه أحمد ابن شبيب، قال البيهقي: "رواه البخاري ولم يذكر قوله: تبول"، وقال في الموضع الثاني: "رواه البخاري، وليس في بعض النسخ عنه كلمة البول"، قال ابن حجر في تغليق التعليق (2/ 109): "هذه اللفظة الزائدة ليست في شيء من نسخ الصحيح، لكن ذكر الأصيلي أنهّا في رواية إبراهيم بن معقل النسفي عن البخاري". (¬3) رواه وكيع -كما في فتح الباري لابن رجب (2/ 336) - عن إسرائيل، والبيهقي في =

وقال كُمَيْلُ بن زياد: "رأيت عليًا يخوض طين المطر، ثم دخل المسجد، فصلىَّ ولم يغسل رجليه" (¬1). وقال إبراهيم النخعي: "كانوا يخوضون الماء والطين إلى المسجد، فيصلون" (¬2). وقال يحيى بن وثَّاب: "كانوا يمشون في ماء المطر، وينتضح عليهم" (¬3). رواها سعيد بن منصور في "سننه". وقال ابن المنذر (¬4): "وطئ ابن عمر بمنًى وهو حافٍ في ماء وطين، ثم صلى ولم يتوضأ". قال: "وممن رأى ذلك: علقمة، والأسود، وعبد الله بن مَعقِل (¬5)، وسعيد ابن المسيب، والشعبي، والإمام أحمد، وأبو حنيفة، ومالك، وأحد الوجهين للشافعية". ¬

_ = الكبرى (2/ 434) من طريق شعبة، كلاهما عن أبي إسحاق عن يحيى بن وثاب به، وزاد وكيع في آخره: "إلا أن يصيبك نتن رطب فتغسله". (¬1) رواه ابن المنذر في الأوسط (738، 739)، وقد تقدّم. (¬2) رواه ابن أبي شيبة (1/ 177) عن هشيم عن مغيرة عنه، ولفظه: "كان أصحابنا يخوضون". (¬3) لم أقف عليه، وقد عزاه المصنف لسنن سعيد بن منصور، ولا يوجد في المطبوع منه. (¬4) الأوسط (2/ 172). (¬5) في الأصل: "مغفل" تصحيف. ومعقل هو ابن مقرن كما في الأوسط.

قال: "وهو قول عامة أهل العلم، ولأن تنجيسها فيه مشقة عظيمة منتفية بالشرع، كما في أطعمة الكفار وثيابهم، وثياب الفسَّاق شَرَبة الخمر (¬1) وغيرهم". قال أبو البركات ابن تيمية: "وهذا كله يُقوَّي طهارة الأرض بالجفاف؛ لأن الإنسان في العادة لا يزال يشاهد النجاسات في بقعة بقعة من طرقاته، التي يكثر فيها تردده إلي سوقه ومسجده وغيرهما، فلو لم تطهر إذا أذهب الجفاف أثرها، للزمه تجنب ما شاهده من بقاع النجاسة بعد ذهاب أثرها، ولمَا جاز له التحفّي بعد ذلك، وقد عُلم أن السلف الصالح لم يحترزوا من ذلك، ويَعضده أمرُه - صلى الله عليه وسلم - بمسح النعلين بالأرض لمن أتى المسجد ورأى فيهما خَبَثًا. ولو نجست الأرضُ بذلك نجاسةً لا تطهر بالجفاف لأمر بصيانة طريق المسجد عن ذلك؛ لأنه يسلكه الحافي وغيره". قلت: وهذا اختيار شيخنا رحمه الله. وقال أبو قِلابة: "جفاف الأرض طهورها" (¬2). ¬

_ (¬1) ت، ش، ظ: "المسكر". (¬2) رواه عبد الرزاق (3/ 158) عن معمر، وابن أبي شيبة (1/ 59) من طريق الحارث بن عمير، كلاهما عن أيوب عن أبي قلابة به، ولفظ ابن أبي شيبة: "إذا جفّت الأرض فقد زكت". ورواه الدولابي في الكنى (1675) من طريق ابن عيينة عن أيوب عن أبي قلابة، قيل لابن عيينة: يا أبا محمّد، سمعتَه من أيوب؟ فقال: اكتبوا: الحارث بن عمير عن أيوب، فقالوا له: أنت سمعتَه من الحارث؟ فقال: اكتبوا: حدّثني حمزة بن الحارث بن عمير عن أبيه عن أيوب عن أبي قلابة.

فصل: حكم المذي الذي يصيب الثوب

فصل ومن ذلك: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - بالوضوء منه، فقال: كيف ترى بما أصاب ثوبي منه؟ قال: "تاْخذ كفًّا من ماء فتنضحُ به حيث ترى أنه أصابه". رواه أحمد، والترمذي، والنسائي (¬1). فجوّز نضح ما أصابه المذي، كما أمر بنضح بول الغلام (¬2). قال شيخنا: وهذا هو الصواب؛ لأن هذه نجاسة يشق الاحتراز منها؛ لكثرة ما تصيب ثياب العزَبَ، فهي أولى بالتخفيف من بول الغلام، ومن أسفل الخف والحذاء. ومن ذلك: إجماع المسلمين على ما سنّه لهم النبي - صلى الله عليه وسلم - من جواز الاستجمار بالأحجار في زمن الشتاء والصيف، مع أن المحلّ يعرَق، فينضح إلى الثوب، ولم يأمر بغسله. ومن ذلك: أنه يُعفى عن يسير أرواث البغال والحمير والسباع، في إحدى الروايتين عن أحمد، اختارها شيخنا لمشقة الاحتراز. ¬

_ (¬1) مسند أحمد (3/ 485)، سنن الترمذي (115)، ولم أقف عليه عند النسائي، ورواه أيضًا ابن أبي شيبة (1/ 88، 7/ 230)، وعبد بن حميد (468)، والدارمي (723)، وأبو داود (210)، وابن ماجه (506)، وابن المنذر في الأوسط (696)، والطبراني في الكبير (6/ 87) والأوسط (4196)، وغيرهم من حديث سهل بن حنيف رضي الله عنه، قال الترمذي: "هذا حديث حسن صحيح"، وصححه ابن خزيمة (291)، وابن حبان (1103)، وابن قدامة في الكافي (1/ 104)، وحسنه الألباني في صحيح سنن أبي داود (205). (¬2) كما في حديث أبي السمح الذي أخرجه أبو داود (376)، والنسائي (1/ 158).

قال الوليد بن مسلم: قلت للأوزاعي: فأبوال الدواب مما لا يؤكل لحمه، كالبغل والحمار والفرس؟ فقال: قد كانوا يُبتلون بذلك في مغازيهم، فلا يغسلونه من جسد ولا ثوب (¬1). ومن ذلك: نصُّ أحمد على أن الوَدْيَ يُعفى عن يسيره كالمذي، وكذلك يُعفى عن يسير القيء، نص عليه أحمد. وقال شيخنا: لا يجب غسل الثوب ولا الجسد من المِدّة والقَيْح والصديد، قال: ولم يَقُمْ دليل على نجاسته. وذهب بعض أهل العلم إلي أنه طاهر، حكاها أبو البركات. وكان ابن عمر لا ينصرف منه في الصلاة (¬2)، وينصرف من الدم (¬3). ¬

_ (¬1) لم أقف عليه. (¬2) روى عبد الرزاق (1/ 145) وابن أبي شيبة (1/ 128) - ومن طريقه البيهقي في الكبرى (1/ 141) - وابن المنذر في الأوسط (1/ 172) عن بكر بن عبد الله المزني أنه رأى ابن عمر عصر بثرة بين عينيه، فخرج منها شيء، ففتَّه بين إصبعيه ثم صلى ولم يتوضأ، وصححه ابن حزم في المحلى (1/ 260)، وتقي الدين في الإمام كما في البدر المنير (4/ 211)، وابن حجر في الفتح (1/ 282)، والعيني في العمدة (4/ 327)، والألباني في السلسلة الضعيفة (1/ 683). (¬3) روى عبد الرزاق (2/ 359) وأبو عبيد في الطهور (404، 405) من طريق الزهري عن سالم عن ابن عمر قال: "إذا رأى الإنسان في ثوبه دمًا وهو في الصلاة فانصرفَ يغسلُه أتمَّ ما بقي على ما مضى ما لم يتكلَّم"، وروى عبد الرزاق (1/ 372) بالإسناد نفسه أن ابن عمر كان ينصرف لقليله وكثيره، ثم يبني على ما قد صلى إلا أن يتكلَّم فيعيد، وصححه ابن المنذر في الأوسط (713). وروى مالك (77) وأبو عبيد (402، 403) عن نافع عن ابن عمر أنه رعف في صلاته فخرج فتوضّا، ثم لم يتكلّم واعتدّ بما صلى.

[44 ب]، وعن الحسن نحوه (¬1). وسئل أبو مِجْلَز عن القَيْح يصيب البدن والثوب؟ فقال: "ليس بشيء، إنما ذكر الله الدمَ، ولم يذكر القيح" (¬2). وقال إسحاق بن راهويه: "كل ما كان سوى الدم فهو عندي مثل العَرَق المنتن وشبهه، ولا يوجب وضوءًا" (¬3). وسئل أحمد: الدم والقيح عندك سواء؟ فقال: "لا، الدم لم يختلف الناس فيه، والقيح قد اختلف الناس فيه". وقال مرةً: "القيح والصديد والمِدَّةُ عندي أسهل من الدم". ومن ذلك: ما قاله أبو حنيفة: أنه لو وقع بَعْرُ الفأر في حِنطة فطُحنت، أو في دُهن مائع؛ جاز أكله ما لم يتغير؛ لأنه لا يمكن صونه عنه، قال: فلو وقع في الماء نجَّسه. ¬

_ (¬1) روى عبد الرزاق (1/ 144) عن معمر عمّن سمع الحسن أنه كان لا يرى القيحَ مثل الدم، وروى أيضًا (1/ 376) عن معمر قال: كان الحسن ينصرف إذا رأى في ثوبه الدم، وروى ابن أبي شيبة (1/ 110) عن هشيم عن يونس عن الحسن قال: "القيح والصديد ليس فيه وضوء"، وروى أيضًا (1/ 127) عن هشيم عن يونس عن الحسن أنه كان لا يرى الوضوء من الدم إلا ما كان سائلا، وصححه العيني في العمدة (4/ 325)، وقال ابن حزم في المحلى (1/ 259): "صحَّ عن الحسن الفرق بين الدم والقيح". (¬2) رواه ابن أبي شيبة (1/ 110) عن وكيع عن عمران بن حدير عن أبي مجلز، وصححه ابن حزم في المحلى (1/ 259). (¬3) رواه إسحاق الكوسج عنه في مسائله (2/ 364)، وانظر: الأوسط لابن المنذر (1/ 183).

فصل: حمل الأطفال في الصلاة

وذهب بعض أصحاب الشافعي إلي جواز أكل الحنطة التي أصابها بول الحمير عند الدِّيَاس من غير غسل، قال: لأن السلف لم يحترزوا من ذلك. وقالت عائشة: "كنا نأكل اللحم، والدمُ خطوطٌ على القِدر" (¬1). وقد أباح الله سبحانه صيد الكلب وأطلق، ولم يأمر بغسل موضع فيه من الصيد ومَعَضّه (¬2) ولا تقويره، ولا أمر به رسوله، ولا أفتى به أحدٌ من الصحابة. ومن ذلك: ما أفتى به عبد الله بن عمر، وعطاء بن أبي رباح، وسعيد بن المسيب، وطاوس، وسالم، ومجاهد، والشعبي، وإبراهيم النخعي، والزهري، ويحيى بن سعيد الأنصاري، والحكم، والأوزاعي، ومالك، وإسحاق بن راهويه، وأبو ثور، والإمام أحمد في أصح الروايتين، وغيرهم: أن الرجل إذا رأى على بدنه أو ثوبه نجاسة بعد الصلاة، لم يكن عالمًا بها، أو كان يعلمها لكنه نسيها، أو لم ينسها لكنه عجز عن إزالتها: أن صلاته صحيحة، ولا إعادة عليه. ومن ذلك: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يصلي وهو حامل أمامة بنت ابنته زينب، فإذا ركع وضعها، وإذا قام حملها. متفق عليه (¬3). ولأبي داود (¬4): أن ذلك كان في إحدى صلاتي العَشِيّ. ¬

_ (¬1) قال النووي في المجموع (2/ 557): "حكاه أصحاب أحمد عن عائشة"، وقال ابن تيمية كما في المجموع (21/ 524): "ثبت أن الصحابة كانوا يضعون اللحم بالقدر، فيبقى الدم في الماء خطوطَا". (¬2) خ، ظ: "مضغه". (¬3) البخاري (516)، ومسلم (543). (¬4) سنن أبي داود (925) من طريق عبد الأعلى عن ابن إسحاق عن سعيد المقبري عن =

وهو دليلٌ على جواز الصلاة في ثياب المربِّية والمرضع والحائض والصبي، ما لم يتحقّق نجاستها. وقال أبو هريرة: "كنا مع النبي - صلى الله عليه وسلم - في صلاة العشاء؛ فلما سجد وثب الحسن والحسين على ظهره، فلما رفع رأسه أخذهما بيديه من خلفه أخذًا رفيقًا، ووضعهما على الأرض، فإذا عاد عادا، حتى قضى صلاته". رواه الإمام أحمد (¬1). ¬

_ = عمرو بن سليم عن أبي قتادة قال: بينما نحن ننتظر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - للصلاة في الظهر أو العصر ... الحديث، ورواه أبو بكر الشافعي في الغيلانيات (424) من طريق يزيد بن هارون عن ابن إسحاق عن سعيد المقبري عن عبد الله بن أبي قتادة عن أبيه قال: خرج علينا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في صلاة الظهر أو العصر -شكَّ يزيد-، ومن طريق أبي بكر رواه الذهبي في السير (7/ 54)، قال ابن عبد البر في التمهيد (25/ 95): "ذكر فيه محمد بن إسحاق أنه كان في صلاة الفريضة، فمن قبِل زيادته وتفسيرَه جعل حديثه هذا أصلا في جواز العمل في الصلاة، ولعمري لقد عوَّل عليه المصنفون للحديث في هذا الباب، إلا أن الفقهاء على ما وصفتُ لك"، ويؤيّد هذه الزيادةَ لفظٌ لمسلم (543): رأيت النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - يؤمّ الناس وأمامةُ على عاتقه .. قال النووي في شرحه (5/ 32): "قوله: "يؤمّ الناس" صريحٌ أو كالصريح في أنه كان في الفريضة"، وصحّح هذه الزيادةَ ابن دقيق العيد في الإحكام (1/ 162)، وقال الألباني في الإرواء (2/ 108): "إسناده جيد لولا أن ابن إسحاق عنعنه"، إلا أن هذه الزيادة لم ينفرد بها ابن إسحاق، فقد روى ابن أبي الدنيا في العيال (227) عن خالد بن خداش عن عبد الرزاق عن ابن جريج عن عامر بن عبد الله بن الزبير عن عمرو بن سليم عن أبي قتادة أن النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - فعل ذلك في صلاة العصر. (¬1) مسند أحمد (2/ 513)، ورواه أيضًا ابن أبي الدنيا في العيال (220)، والعقيلي في الضعفاء (4/ 9)، والطبراني في الكبير (3/ 51)، والآجري في الشريعة (1650)، وابن عدي في الكامل (6/ 81)، والبيهقي في دلائل النبوة (6/ 76)، وصحّحه الحاكم =

وقال شداد بن الهاد، عن أبيه: خرج علينا رسول الله - صلى الله عليه وسلم -وهو حاملٌ الحسن أو الحسين، فوضعه، ثم كبر للصلاة، فصلى، فسجد بين ظهراني صلاته سجدة أطالها، فلما قضى الصلاة قال: "إن ابني ارتحلني؛ فكرهت أن أُعْجِله". رواه أحمد، والنسائي (¬1). وقالت عائشة: "كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يصلي بالليل؛ وأنا إلي جنبه، وأنا حائض، وعليّ مِرْط وعليه بعضه". رواه أبو داود (¬2). وقالت: "كنت أنا ورسول الله - صلى الله عليه وسلم - نَبيتُ في الشّعار الواحد، وأنا طامِث حائض؛ فإن أصابه منّي شيء غسل مكانه، ولم يَعْدُهُ، وصلى فيه". رواه أبو داود (¬3). ¬

_ = (4782)، قال الهيثمي في المجمع (9/ 290): "رواه أحمد والبزار باختصار، ورجال أحمد ثقاث"، وهو في السلسلة الصحيحة (3325). وفي الباب عن ابن مسعود وأبي بكرة وأبي سعيد وأنس والبراء بن عازب وابن عباس والزبير وعبد الله بن الزبير وعن عطاء وعمرو بن دينار ومحمد بن عمر بن علي وجعفر بن محمد مرسلًا. (¬1) مسند أحمد (3/ 493، 6/ 467)، سنن النسائي (1141)، ورواه أيضًا ابن أبي شيبة (6/ 379)، وابن أبي عاصم في الأحاد والمثاني (934)، والطحاوي في شرح المشكل (5580)، والطبراني في الكبير (7/ 275)، والبيهقي في الكبرى (2/ 263)، وصححه الحاكم (4775، 6631)، وهو في صحيح سنن النسائي. ورواه ابن أبي الدنيا في العيال (219) عن عبد الله بن شداد مرسلًا. (¬2) سنن أبي داود (370)، وهو في صحيح مسلم (514). (¬3) سنن أبي داود (269، 2168)، ورواه أيضًا أحمد (6/ 44)، والدارمي (1013)، والنسائي (284، 372، 773)، وأبو يعلى (4802)، والدولابي في الكنى (13) مختصرًا، والبيهقي في الكبرى (1/ 313)، وحسنه المنذري في مختصر السنن (1/ 176)، وهو في صحيح سنن أبي داود (262).

فصل: أثواب المشركين

ومن ذلك: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يلبس الثياب التي نسجها المشركون ويصلي فيها (¬1). وتقدم قول عمر بن الخطاب رضي الله عنه، وَهَمُّه أن ينهى عن ثياب بلغه أنها تُصبغ بالبول، وقول أُبيٍّ له: "ما لك أن تنهى عنها؛ فإن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لبسها، ولُبست في زمانه، ولو علم الله أنها حرام لبيّنه لرسوله". قال: صدقت (¬2). قلت: وعلى قياس ذلك: الجُوخ، بل أولى بعدم النجاسة من هذه الثياب، فتجنبه من باب الوسواس. ولما قدم عمر بن الخطاب رضي الله عنه الجابيةَ استعار ثوبًا من نصراني فلبسه، حتى خاطوا له قميصه وغسلوه (¬3)، وتوضأ من جَرَّة ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري (363)، ومسلم (274) عن المغيرة بن شعبة. (¬2) تقدم تخريجه. (¬3) روى ابن شبّة في تاريخ المدينة (3/ 824 - 825) من طريق المعافى بن عمران، وابن أبي الدنيا في الزهد (115) من طريق أبي إسماعيل المؤدب، كلاهما عن عبد الله بن مسلم بن هرمز المكي، عن أبي العالية الشامي قال: قدِم عمر بن الخطاب الجابية ... فقال: ادعوا لي رأس القرية، فدعَوه له، فقال: اغسلوا قميصي وخيطوه، وأعيروني قميصًا أو ثوبًا، فأتي بقميص كتّان، فقال: ما هذا؟ قالوا: كتّان، قال: وما الكتان؟ فأخبروه، فنزع قميصه، فغسل ورقع وأتي به، فنزع قميصَهم ولبس قميصه. هذا لفظ ابن أبي الدنيا، ولفظ ابن شبة مختصر. ورواه الدينوري في المجالسة (986) عن ابن أبي الدنيا، ومن طريق الدينوري رواه ابن عساكر في تاريخ دمشق (44/ 305 - 306). وفي إسناده عبد الله بن مسلم المكي، قال في التقريب: "ضعيف".

فصل: ما أفضلت السباع

نصرانية (¬1). وصلّى سلمان وأبو الدرداء رضي الله عنهما في بيت نصرانية، فقال [45 أ] لها أبو الدرداء: هل في بيتك مكان طاهر نصلِّي فيه؟ فقالت: طهِّرا قلوبكما، ثم صليا أين أحببتما. فقال له سلمان: خذها من غير فقيه (¬2). ومن ذلك: أن الصحابة والتابعين كانوا يتوضأون من الحياض والأواني المكشوفة، ولا يسألون: هل أصابتها نجاسة، أو وردَها كلب أو سبع؟ ففي "الموطأ" (¬3) عن يحمى بن سعيد: "أن عمر رضي الله عنه خرج في ¬

_ (¬1) رواه الشافعي في الأم (1/ 8) وعبد الرزاق (1/ 78) والدارقطني (1/ 32) عن سفيان عن زيد بن أسلم عن أبيه عن عمر، وهذا لفظ الشافعي، ومن طريقه رواه ابن المنذر في الأوسط (1/ 314) والبيهقي في الكبرى (1/ 32)، ولم يسمعه ابن عيينة من زيد. وعلقه البخاري في كتاب الوضوء، باب: وضوء الرجل مع امرأته، ولفظه: توضَأ عمر من بيت نصرانية، قال ابن حجر في الفتح (1/ 299): "ورواه الإسماعيلي من وجه آخر عن ابن عيينة بإثبات الواسطة، فقال: عن ابن زيد بن أسلم عن أبيه به، وأولاد زيد هم: عبد الله وأسامة وعبد الرحمن، وأوثقهم وأكبرهم عبد الله، وأظنه هو الذي سمع ابن عيينة منه ذلك؛ ولهذا جزم به البخاري"، وقال في تغليق التعليق (2/ 129): "وأولاد زيد بن أسلم ضعفاء، وأمثلهم عبد الله، والله أعلم من عنى ابنُ عيينة منهم"، والأثر صححه النووي في المجموع (1/ 263) وفي غيره، وابن تيمية كما في المجموع (57/ 21). (¬2) لم أقف عليه. (¬3) موطأ مالك (43) عن يحيى بن سعيد عن محمد بن إبراهيم التيمي عن يحيى بن عبد الرحمن بن حاطب عن عمر، وعن مالك رواه عبد الرزاق (1/ 76) والبيهقي في الكبرى (1/ 250)، قال النووي في المجموع (1/ 174): "إسناده صحيح إلى =

ركب فيهم عمرو بن العاص، حتى وردوا حوضًا، فقال عمرو: يا صاحب الحوض، هل تَرِدُ حوضك السباع؟ فقال عمر: لا تخبرنا؟ فإنا نَرِدُ على السباع، وترد علينا". وفي "سنن ابن ماجه" (¬1): أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - سئل: أنتوضأ بما أفضلت ¬

_ = يحيى ابن عبد الرحمن، لكنه مرسل منقطع؛ فإن يحيى وإن كان ثقة فلم يدرك عمر، بل ولد في خلافة عثمان ... إلا أنَّ له شواهد تقوّيه"، وضعفه الألباني في تمام المنة (ص 49). ورواه ابن المنذر في الأوسط (1/ 310) والدارقطني (1/ 32) من طريق حماد بن زيد عن يحيى بن سعيد عن محمد بن إبراهيم عن أبي سلمة ويحيى بن عبد الرحمن عن عمر، وأبو سلمة أيضًا لم يدرك عمر. وله طريق أخرى، فرواه أبو عبيد في الطهور (210) عن حسان بن عبد الله عن عبد الرحمن بن زيد بن أسلم عن أبيه قال: أصابت عمر جنابة وهو على راحلته ومعه عمرو بن العاص، فأسرعوا حتى أتوا الماء ... وذكره، وعبد الرحمن بن زيد ضعيف. (¬1) لم أقف عليه عند ابن ماجه، ورواه الشافعي في الأم (1/ 6)، وعبد الرزاق (1/ 77)، وابن عدي في الكامل (2/ 396) عن إبراهيم بن أبي يحيى عن داود بن الحصين عن أبيه عن جابر به، ولفظ عبد الرزاق: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - توضّأ بما أفضلت السباع، ومن طريق عبد الرزاق رواه الدارقطني (1/ 62) وقال: (إبراهيم بن أبي يحيى ضعيف، وتابعه إبراهيم بن إسماعيل بن أبي حبيبة، وليس بالقوي في الحديث .. ضعيف أيضًا"، وقال البيهقي في الكبرى (1/ 249): "إبراهيم الأسلمي مختلف في ثقته، وضعفه أكثر أهل العلم بالحديث وطعنوا فيه، وكان الشافعي يُبعِده عن الكذب"، ومتابعة ابن أبي حبيبة أخرجها الدارقطني (1/ 62) والبيهقي في الكبرى (1/ 250)، وقال في المعرفة (1/ 313): "إذا ضممنا هذه الأسانيد بعضها إلى بعض اْخذت قوة، وفي معناه حديث أبي قتادة، وإسناده صحيح، والاعتماد عليه"، قال النووي في المجموع (1/ 173): "هذا الحديث ضعيف لأن الإبراهيمين ضعيفان جدًّا عند أهل الحديث، لا يحتجّ بهما، وإنّما ذكرته وإن كان ضعيفًا لكونه =

فصل: يسير الدم

الحُمُر؟ قال: "نعم، وبما أفضلت السباع ". ومن ذلك: أنه لو سقط عليه شيء من ميزاب، لا يدري: هل هو ماء أو بول؟ لم يجب عليه أن يسأل عنه، فلو سأل لم يجب على المسؤول أن يجيبه -ولو علم أنه نجس-، ولا يجب عليه غسل ذلك. ومرّ عمر بن الخطاب رضي الله عنه يومًا، فسقط عليه شيء من ميزاب، ومعه صاحب له، فقال: يا صاحب الميزاب! ماؤك طاهر أو نجس؟ فقال عمر: يا صاحب الميزاب! لا تخبرنا، ومضى. ذكره أحمد (¬1). قال شيخنا: وكذلك إذا أصاب رِجلَه أو ذيلَه بالليل شيءٌ رطبٌ لا يعلم ما هو، لم يجَبْ عليه أن يَشَمّه ويتعرف ما هو، واحتج بقصة عمر رضي الله عنه في الميزاب. وهذا هو الفقه؛ فإن الأحكام إنما تترتب علي المكلّف بعد علمه بأسبابها، وقبل ذلك هي على العفو، فما عفا الله عنه فلا ينبغي البحث عنه. ومن ذلك: الصلاة مع يسير الدم، ولا يعيد. ¬

_ = مشهورًا في كتب الأصحاب، وربما اعتمده بعضهم فنبهت عليه"، وضغفه ابن الجوزي في التحقيق (48)، وابن التركماني في الجوهر النقي، وابن حجر في الدراية (1/ 62). وانظر: البدر المنير (1/ 468)، وتمام المنة (ص 47). وفي الباب عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه. (¬1) لم أقف عليه، وذكره ابن تيمية في مواضع من المجموع (21/ 57، 521. 607) من غير عزو، وقال (22/ 184): "قد ثبت عن عمر رضي الله عنه أنه مرّ هو وصاحب له" وذكر القصة.

قال البخاري (¬1): قال الحسن رحمه الله: "مازال المسلمون يصلون في جراحاتهم". قال: "وعصَر ابن عمر رضي الله عنهما بَثرة، فخرج منها دم؛ فلم يتوضأ (¬2)، وبصق ابن أبي أوفى دمًا، ومضى في صلاته (¬3)، وصلى عمر بن ¬

_ (¬1) صحيح البخاري: كتاب الوضوء، باب: من لم ير الوضوء إلا من المخرجين، ولم أقف على من وصله بهذا اللفظ، وروى ابن أبي شيبة (1/ 344) عن هشيم عن يونس عن الحسن قال: "ما في نضحاتٍ من دمِ ما يفسد على رجلِ صلاته". (¬2) صحيح البخاري: كتاب الوضوء، باب: من لم ير الوضوء إلا من المخرجين، ووصله عبد الرزاق (1/ 145)، وابن أبي شيبة (1/ 128)، والأثرم كما في التمهيد (22/ 321)، وابن المنذر في الأوسط (1/ 172)، والبيهقي في الكبرى (1/ 141) من طريق ابن أبي شيبة، وصححه ابن حزم في المحلى (1/ 260)، وتقي الدين في الإمام كما في البدر المنير (4/ 211)، وابن حجر في الفتح (1/ 282)، والعيني في العمدة (4/ 327)، والألباني في السلسلة الضعيفة (1/ 683). (¬3) صحيح البخاري: كتاب الوضوء، باب: من لم ير الوضوء إلا من المخرجين، قال ابن حجر في الفتح (1/ 282): "وصله سفيان الثوري في جامعه عن عطاء بن السائب أنه رآه فعل ذلك، وسفيان سمع من عطاء قبل اختلاطه، فالإسناد صحيح"، ومن طريق سفيان رواه الأثرم كما في التمهيد (22/ 231)، وابن المنذر في الأوسط (1/ 172)، ولفظه عنده: رأيت ابن أبي أوفى بزق دما ثم قام فصلى، ورواه عبد الرزاق (1/ 148) عن الثوري وابن عيينة عن عطاء، ورواه ابن أبي شيبة (1/ 117) عن عبد الوهاب الثقفي عن عطاء قال: رأيت ابن أبي أوفى بزق وهو يصلي ثم مضى في صلاته، وحسنه العيني في العمدة (4/ 328)، ورواه الحربي في غريب الحديث (3/ 1216) عن الوليد بن صالح عن شريك عن عطاء: رأيت ابن أبي أوفى بزق علقة ثم مضى في صلاته. وقد صحّح هذا الأثر الألباني في السلسلة الضعيفة (1/ 683).

سؤر الهرة

الخطاب رضي الله عنه وجُرحه يَثْعَبُ دما" (¬1). ومن ذلك: أن المراضع مازلن من عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وإلي الآن يُصلِّين في ثيابهن، والرُّضعاء يتقيّاون، ويسيل لعابهم على ثياب المرضعة وبدنها، فلا يغسلن شيئًا من ذلك؛ لأن ريق الرضيع مُطهَر لفمه، لأجل الحاجة، كما أن ريق الهر مُطهِّر لفمها؛ وقد قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "إنها ليست بنجس؛ إنها من الطوافين عليكم والطوافات" (¬2)، وكان يصغي لها الإناء ¬

_ (¬1) رواه عبد الرزاق (1/ 150)، وابن أبي شيبة (2/ 226، 7/ 438)، والدارقطني (1/ 406، 2/ 52) من طرق عن هشام بن عروة عن أبيه، وابن سعد في الطبقات (3/ 351) والمروزي في تعظيم قدر الصلاة (923) والدارقطني (1/ 224) عن الزهري، كلاهما عن سليمان بن يسار عن المسور بن مخرمة به، واختلف فيه على هشام، فرواه مالك (82) - ومن طريقه البيهقي في الكبرى (1/ 357) - وابن سعد في الطبقات (3/ 350) عنه عن أبيه عن المسور، وقيل غير ذلك. ورواه المروزي (928) والطبراني في الأوسط (8181) عن جابر بن سمرة، وابن سعد (3/ 350) والدارقطني (1/ 224) عن ابن أبي مليكة، وابن سعد (3/ 351) والمروزي (929) عن أم بكر بنت المسور، ثلاثتهم عن المسور به، قال الهيثمي في المجمع (2/ 27): "رجال الطبراني رجال الصحيح". ورواه عبد الرزاق (1/ 150) - ومن طريقه المروزي (924) واللالكائي في أصول الاعتقاد (1529) - عن عيد الله بن عبد الله عن ابن عباس به. ورواه ابن أبي شيبة (7/ 439) عن أبي سلمة ويحيى بن عبد الرحمن بن حاطب وأشياخ عن عمر. والأثر صححه ابن المنذر في الأوسط (1/ 166)، وابن تيمية كما في المجموع (21/ 221)، وابن حجر في الفتح (1/ 281)، والألباني في الإرواء (209)، وانظر: علل الدارقطني (2/ 209 - 211). (¬2) رواه مالك (42)، وعبد الرزاق (1/ 100)، وأبو عبيد في الطهور (194، 195)، والحميدي (430)، وابن أبي شيبة (1/ 37)، وأحمد (5/ 296، 303، 309)، وغيرهم من حديث أبي قتادة، ومن طريق مالك رواه أبو داود (75) والترمذي (92) =

حتى تشرب (¬1)، وكذلك فعل أبو قتادة (¬2)؛ مع العلم اليقيني أنها تأكل الفأر ¬

_ = والنسائي (68، 340) وابن ماجه (367)، قال الترمذي: "هذا حديث حسن صحيح"، وصحّحه ابن الجارود (60)، وابن خزيمة (104)، وابن المنذر في الأوسط (1/ 303، 312)، والعقيلي في الضعفاء (2/ 142)، وابن حبان (1299)، والدارقطني في العلل (6/ 163)، والحاكم (567) وقال: "هذا الحديث مما صحّحه مالك واحتج به في الموطأ، ومع ذلك فإن له شاهدًا بإسناد صحيح"، وصحّحه ابن حزم كما في الإعلام (1/ 197)، والبيهقي في المعرفة (1/ 313)، وابن عبد البر في التمهيد (1/ 324)، والبغوي في شرح السنة (286)، والنووي في المجموع (1/ 118، 171)، وابن دقيق في الإلمام (10)، وابن تيمية كما في المجموع (21/ 42)، وابن الملقن في البدر المنير (1/ 552)، وابن حجر في المطالب العالية (20)، وهو في صحيح سنن أبي داود (68). وفي الباب عن عائشة وأنس وجابر رضي الله عنهم. (¬1) روى البيهقي في الكبرى (1/ 246) عن عبد الله بن أبي قتادة قال: كان أبو قتادة يصغي الإناء للهرّ فيشرب ثم يتوضأ به، فقيل له في ذلك فقال: ما صنعتُ إلا ما رأيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يصنع، ورواه الطحاوي في معاني الآثار (43) عن كعب بن عبد الرحمن عن أبي قتادة نحوه. وروى ابن شاهين في الناسخ والمنسوخ (145) عن ابن إسحاق عن صالح عن جابر قال: كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يضع الإناء للسنور فيلغ فيه ثم يتوضأ من فضله. وروى ابن منيع -كما في إتحاف الخيرة (546) - وأبو يعلى (4951) والطحاوي في معاني الآثار (46) والطبراني في الأوسط (7949) وابن عدي في الكامل (7/ 145) والدارقطني (1/ 66، 70) وابن شاهين (141) وأبو نعيم في الحلية (9/ 308) من طرق عن عائشة أن النبيّ - صلى الله عليه وسلم - كان يصغي إلى الهرة الإناء حتى تشرب ثم يتوضأ بفضلها، ولا تخلو أسانيدها من مقال، قال ابن عبد البر في الاستذكار (1/ 164): "هو حديث لا بأس به". (¬2) انظر تخريج حديث أبي قتادة رضي الله عنه السابق، وروى عبد الرزاق (1/ 99)، وأبو عبيد في الطهور (197)، وابن أبي شيبة (7/ 308) عن عكرمة أنه رأى أبا قتادة =

والحشرات، والعلم القطعي أنه لم يكن بالمدينة حياض فوق القلتين تردُها السّنانير؛ وكلاهما معلوم قطعًا. ومن ذلك: أن الصحابة ومَن بعدهم كانوا يصلُّون وهم حاملو سيوفهم، وقد أصابها الدم، وكانوا يمسحونها، ويجتزئون (¬1) بذلك. وعلى قياس هذا: مسح المرآة الصَّقِيلة إذا أصابتها النجاسة؛ فإنه يُطهِّرها. وقد نصَّ أحمد على طهارة سكين الجزّار بمسحها. ومن ذلك: أنه نصَّ على حَبْل الغسال أنه يُنشر عليه الثوب النجس، ثم تُجَفِّفه الشمس، فينشر عليه الثوب الطاهر، فقال: لا بأس به. وهذا كقول أبي حنيفة: إن الأرض النجسة تُطهِّرها الريح والشمس، وهو وجه لأصحاب أحمد، حتى إنه يجوز التيمم بها. وحديث ابن عمر رضي الله عنهما كالنص في ذلك، وهو قوله: كانت الكلاب تُقبِل وتُدْبر وتبول في المسجد، ولم يكونوا يَرشّون شيئًا من ذلك (¬2). وهذا لا يتوجه إلا على القول بطهارة الأرض بالريح والشمس. ¬

_ = الأنصاري يصغي الإناء للهرّ فتشرب منه ثم يتوضأ بفضلها، وروى ابن أبي شيبة (1/ 36) عن أبي قلابة قال: كان أبو قتادة يدني الإناء من السنور فيلغ فيه، فيتوضأ بسؤره ويقول: إنما هو من متاع البيت، وروى ابن الجعد (2756) عن صالح مولى التوأمة قال: رأيت أبا قتادة يصغي الإناء إلى الهر ثم يتوضأ منه. (¬1) م، ظ: "يحتزمون". ش: "يجزون". (¬2) تقدم تخريجه.

الماء لا ينجس إلا بالتغير بنجاسة

ومن ذلك: أن الذي دلّت عليه سنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وآثار أصحابه: أن الماء لا ينجُس إلا بالتغير، وإن كان يسيرًا. وهذا قول أهل المدينة وجمهور السلف، وأكثر أهل الحديث، وبه أفتى عطاء بن أبي رباح، [45 ب]، وسعيد بن المسيَّب، وجابر بن زيد، والأوزاعي، وسفيان الثوري، ومالك بن أنس، وعبد الرحمن بن مَهدي، واختاره ابن المنذر، وبه قال أهل الظاهر، ونص عليه أحمد في إحدى رواياته (¬1)، واختاره جماعة من أصحابنا، منهم ابن عَقِيل في "مفرداته"، وشيخنا أبو العباس، وشيخه ابن أبي عمر. وقال ابن عباس رضي الله عنهما: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "الماء لا ينجِّسه شيء". رواه الإمام أحمد (¬2). ¬

_ (¬1) ح: "روايتيه". ظ: "الروايتين". (¬2) مسند أحمد (1/ 235، 284، 308)، ورواه أيضًا عبدالرزاق (1/ 109)، وابن أبي شيبة (1/ 38)، وأبو داود (68)، والترمذي (65)، والنسائي (325)، وا بن ماجه (370)، وأبو يعلى (2411)، وابن المنذر في الأوسط (1/ 268، 296)، والطحاوي في معاني الآثار (101)، وغيرهم من طريق سماك عن عكرمة عن ابن عباس، ولفظه عند بعضهم: "الماء لا يجنب"، وقيل: عن ابن عباس عن ميمونة، وقيل: عنه عن بعض أزواج النبي - صلى الله عليه وسلم -، وأعلّ بالإرسال، قال الترمذي: "حسن صحيح"، وصححه ابن الجارود (48، 49)، والطبري في تهذيب الآثار (2/ 693، 736)، وابن خزيمة (91، 159)، وابن حبان (1241، 1248، 1242، 1261، 1269)، والحاكم (564، 565)، وابن عبد البر في الاستذكار (1/ 162)، والنووي في المجموع (2/ 190)، قال مغلطاي في الإعلام (1/ 207): "قول من صحّحه راجح على قول من ضعفه، بل هو الصواب"، وصححه ابن حجر في الفتح (1/ 342)، وهو في صحيح سنن أبي داود (61). وفي الباب عن عائشة وجابر وسلمة بن المحبق رضي الله عنهم.

وفي "المسند" و"السنن" (¬1) عن أبي سعيد قال. قيل: يا رسول الله! أنتوضأ من بئر بُضاعة، وهي بئر يُلقى فيها الحِيَضُ (¬2) ولُحوم الكلاب والنَّتْنُ؟ فقال: "الماء طهورٌ، لا ينجِّسه شيء". قال الترمذي: "هذا حديث حسن". وقال الإمام أحمد: "حديث بئر بضاعة صحيح" (¬3). وفي لفظ للإمام أحمد (¬4): إنه يُسْتَقى لك من بئر بُضاعة، وهي بئر يُطرح ¬

_ (¬1) مسند أحمد (3/ 15، 31، 86)، سنن أبي داود (66، 67)، سنن الترمذي (66)، سنن النسائي (326، 327)، ورواه أيضًا الطيالسي (2199)، وأبو عبيد في الطهور (135، 136)، وابن أبي شيبة (1/ 131، 7/ 281)، وأبو يعلى (1304)، وابن المنذر في الأوسط (1/ 269)، والطحاوي في معاني الآثار (1، 2، 3)، وغيرهم، وفي إسناده اختلاف، لكن صحّحه ابن معين كما في البدر المنير (1/ 383)، وابن الجارود (47)، وابن حزم كما في البدر المنير (1/ 388)، وابن عبد البر في الاستذكار (1/ 162)، والبغوي في شرح السنة (283)، وابن العربي في العارضة (1/ 88)، والنووي في المجموع (1/ 82، 110) وفي غيره، وابن تيمية كما في المجموع (21/ 32، 37، 41، 65)، وابن القيم في تهذيب السنن (1/ 67)، وابن الملقن في البدر المنير (1/ 381)، وحسنه ابن حجر في موافقة الخبر الخبر (1/ 485)، وهو في صحيح سنن أبي داود (59، 60). وفي الباب عن سهل بن سعد وأبي هريرة رضي الله عنهما. (¬2) ش: "محايض النساء". ح: "خرق الحبض". (¬3) انظر: التحقيق لابن الجوزي (1/ 42)، والمغني لابن قدامة (1/ 52)، ومختصر السنن للمنذري (1/ 74)، ومجموع الفتاوى (21/ 33، 60)، وتهذيب الكمال (19/ 83). (¬4) مسند أحمد (3/ 86).

فيها محايض النساء، ولحم الكلاب، وعَذِر الناس؟ فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "إن الماء طهور، لا ينجِّسه شيء". وفي "سنن ابن ماجه" (¬1) من حديث أبي أمامة مرفوعًا: "الماء لا ينجّسه شيء؛ إلا ما غلب على ريحه، وطعمه، ولونه". وفيها (¬2) من حديث أبي سعيد: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - سئل عن الحياض ¬

_ (¬1) سنن ابن ماجه (521) من طريق رشدين بن سعد عن معاوية بن صالح عن راشد بن سعد عن أبي أمامة، وبهذا الإسناد رواه الطبري في تهذيب الآثار (1576، 1077)، والطبراني في الكبير (8/ 104)، وابن عدي في الكامل (3/ 156)، وغيرهم، وضعفه الخلال كما في المغني (1/ 52)، والزيلعي في نصب الراية (1/ 94)، ومغلطاي في الإعلام (1/ 550)، والهيثمي في المجمع (1/ 501)، والبوصيري في المصباح (1/ 76). ورواه ابن عدي (2/ 389) والبيهقي في الكبرى (1/ 259، 260) من طريق ثور بن يزيد عن راشد به. ورواه عبد الرزاق (1/ 80) والطحاوي في شرح المعاني (28) وابن عدي (3/ 156) والدارقطني (1/ 28، 29) من طرق عن الأحوص بن حكيم عن راشد مرسلًا. وقيل: عن راشد عن ثوبان. وقيل: عن راشد قوله. ورجّح أبو حاتم إرساله كما في العلل لابنه (1/ 44)، وضعفه الدارقطني في العلل (12/ 274)، وقال في السنن: "الصواب من قول راشد"، وضغفه البيهقي ونقل عن الشافعي قوله: "يُروى من وجه لا يُثبِت أهل الحديث مثلَه" وقال النووي في المجموع (1/ 110): 9 اتفقوا على ضعفه"، وكذا قال العراقي في طرح التثريب (2/ 130)، وضعفه ابن الملقن في البدر المنير (1/ 401)، وقال ابن حجر في الفتح (1/ 342): "إسناده ضعيف، وفيه اضطراب"، وهو في السلسلة الضعيفة (2644). وفي الباب عن معاذ بن جبل رضي الله عنه. (¬2) سنن ابن ماجه (519) من طريق عبد الرحمن بن زيد بن أسلم عن أبيه عن عطاء بن يسار عن أبي سعيد، وبهذا الإسناد رواه الطبري في تهذيب الآثار (1058)، وقيل: =

التي بين مكة والمدينة، تردها السباع والكلاب والحُمُر، وعن الطهارة بها، فقال: "لها ما حملت في بطونها، ولنا ما غَبَر طهور". وإن كان في إسناد هذين الحديثين مقال، فإنّا ذكرناهما للاستشهاد لا للاعتماد. وقال البخاري (¬1): قال الزهري: "لا بأس بالماء؛ ما لم يتغير منه طعم أو ريح أو لون". وقال الزهري أيضًا: "إذا ولغ الكلب في الإناء، ليس له وَضوء غيره؛ يتوضأ به ثم يتيمم" (¬2). ¬

_ = عن عبد الرحمن بن زيد عن أبيه عن عطاء عن أبي هريرة، قال الطحاوي في شرح المشكل (7/ 67): "حديث عبد الرحمن بن زيد عند أهل العلم بالحديث في النهاية من الضعف"، وضعفه البيهقي في الكبرى (1/ 258)، والنووي في الخلاصة (441)، والبوصيري في المصباح (1/ 75)، وهو في السلسلة الضعيفة (1609). وفي الباب عن ابن عمر وواثلة بن الأسقع رضي الله عنهما وعن ابن جريج بلاغًا. (¬1) صحيح البخاري: كتاب الوضوء، باب: ما يقع من النجاسات في السمن والماء، قال ابن حجر في الفتح (1/ 342): "وصله ابن وهب في جامعه عن يونس عنه"، ولفظه: "كلُّ ماءٍ فيه قوّةٌ عما يصيبه من الأذى حتى لا يغيّر ذلك طعمَه ولا ريحه ولا لونه فهو طاهر"، ورواه الطبري في تهذيب الآثار (1116) من طريق ابن وهب، ولفظه عنده: "كلّ ماءٍ فيه فضلٌ عما يصيبه من الأذى .. ". وروى البيهقي في الكبرى (1/ 259) من طريق أبي عمرو عن الزهري في الغدير تقع فيه الدابة فتموت قال: "الماء طهور ما لم يقلَّ فتنجّسه الميتة طعمَه أو ريحَه". (¬2) علّقه البخاري في كتاب الوضوء، باب: الماء الذي يغسل به شعر الإنسان، وليس في كلام الزهري: "ثم يتيمّم"، قال ابن حجر في الفتح (1/ 273): "رواه الوليد بن مسلم في مصنفه عن الأوزاعي وغيره عنه"، ورواية الوليد هذه ذكرها ابن عبد البر =

فصل: طعام أهل الكتاب

قال سفيان: "هذا الفقه بعينه "، يقول الله تعالى: {فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا} [المائدة: 6]، وهذا ماء، وفي النفس منه شيء؛ يتوضأ به ويتيمم" (¬1). ونصّ الإمام أحمد في حُبِّ زيت ولغ فيه كلب، فقال: "يؤكل". فصل (¬2) ومن ذلك: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يجيب من دعاه، فيأكل من طعامه؛ وأضافه يهودي بخبز شعير وإهالة سَنِخَة (¬3). وكان المسلمون يأكلون من أطعمة أهل الكتاب. وشرط عمر عليهم ضيافة من يمرُّ بهم من المسلمين (¬4)، وقال: ¬

_ = في التمهيد (18/ 274) عنه عن الأوزاعي وعبد الرحمن بن نمر أنهما سمعا الزهري يقول في إناء قوم ولغ فيه الكلب فلم يجدوا ماء غيره قال: يتوضأ به، قال: فقلت للأوزاعي: ما تقول في ذلك؟ فقال: أرى أن يتوضأ به ويتيمّم، قال الوليد: فذكرته لسفيان الثوري فقال: هذا والله الفقه بعينه ... وصحّح إسناده ابن حجر في الفتح (1/ 273)، والعيني في العمدة (4/ 284). فالذي أفتى بالجمع بين الوضوء والتيمم هو الأوزاعي، أما الزهري فاكتفى بالوضوء، والله أعلم. (¬1) في الأصل: "نتوضأ به ونتيمم". (¬2) انظر كتاب ابن قدامة (ص 97). (¬3) أخرجه البخاري (2569، 2508) عن أنس. (¬4) ورد عنه أنه اشترط عليهم ضيافَة المسلمين ثلاثةَ أيام، رواه مالك (617) - وعنه الشافعي في الأم (4/ 180)، وأبو عبيد في الأموال (100، 393) - وعبد الرزاق (10090، 10096، 19267، 19273)، وابن زنجويه في الأموال (133، 134، 463)، وابن عبد الحكم في فتوح مصر (ص 167)، والبيهقي في الكبرى (9/ 195) كلهم عن نافع عن أسلم عن عمر، وصححه الألباني في الإرواء (5/ 101). ورواه ابن أبي شيبة (6/ 519) عن حفص عن عاصم عن أبي عثمان عن =

"أطعموهم مما تأكلون" (¬1)، وقد أحلّ الله ذلك في كتابه. ولما قدم عمر رضي الله عنه الشام صنع له أهل الكتاب طعامًا، فدعوه، فقال: أين هو؟ قالوا: في الكنيسة، فكره دخولها، وقال لعلي رضي الله عنه: اذهب بالناس، فذهب عليّ بالمسلمين، فدخلوا وأكلوا، وجعل عليّ ينظر إلى الصُّوَرِ، وقال: "ما على أمير المؤمنين لو دخل وأكل؟ " (¬2). ¬

_ = عمر. ورواه ابن عائذ -كما في تاريخ دمشق (2/ 183) - من طريق مولى لآل الزبير عن عبد الله بن عمر عن عمر. وروى أبو عبيد (394، 395، 396) وابن أبي شيبة (6/ 519) وابن زنجويه (466، 468، 464) من طرقٍ عن أبي إسحاق عن حارثة بن مضرب، وعن قتادة عن الحسن عن الأحنف بن قيس، أنه اشترط عليهم ضيافة يوم وليلة، وحسنه الألباني في الإرواء (1262)، وكذلك رواه ابن أبي شيبة (6/ 519)، وابن زنجويه (465) من طريق قيس بن مسلم عن عبد الرحمن بن أبي ليلى عن عمر، ورواه ابن أبي شيبة (6/ 519) من طريق سعيد بن وهب عن رجل من الأنصار عن عمر. (¬1) رواه عبد الرزاق (19266)، وابن زنجويه في الأموال (467) من طريق موسى بن عقبة عن نافع قال: سمعت أسلم يحدّث ابنَ عمر أن أهل الجزية من أهل الشام أتوا عمر فقالوا: إن المسلمين إذا نزلوا بنا كلّفونا الغنم والدجاج، فقال عمر: "أطعموهم من طعامكم الذي تأكلون ولا تزيدوهم على ذلك"، ورواه عبد الرزاق (10096، 19267) وابن زنجويه (134) من طريق أيوب عن نافع بنحوه، ومن طريق ابن زنجويه الثانية رواه ابن عساكر في تاريخ دمشق (2/ 184). (¬2) عزاه ابن قدامة في المغني (8/ 113) لابن عائذ في فتوح الشام، ورواه ابن عساكر في تاريخ دمشق (42/ 6) من طريق ابن عائذ عن الوليد قال: حدثنا عبد الله بن زياد بن سمعان وهشام بن سعد يسمع أنّ نافعا حدثه ... وذكر القصة بنحوها، وعبد الله بن زياد متروك متهم بالكذب. لكن امتناع عمر من إجابة الدعوة لأجل ما في الكنائس من التماثيل ثابتٌ، علقه البخاري عنه بصيغة الجزم في المساجد، باب: =

لعاب الصبيان وبولهم

وكان النبي - صلى الله عليه وسلم - يُقَبِّل ابنيْ ابنته في أفواههما (¬1)، ويشرب من موضع فِي عائشة، ويتعرّق العَرْقَ، فيضع فاهُ على موضع فِيها، وهي حائض (¬2). وحمل أبو بكر رضي الله عنه الحسن على عاتقه؛ ولعابُه يسيل عليه (¬3). ¬

_ = الصلاة في البيعة، ووصله وكيع -كما في فتح الباري لابن رجب (2/ 436) - عن عبد الله بن نافع، وعبد الرزاق (1611، 19486) وابن أبي شيبة (5/ 198، 7/ 10) من طريق أيوب، وابن عائذ. كما في تاريخ دمشق (42/ 6) - من طريق هشام بن سعد، والبخاري في الأدب المفرد (1248) من طريق محمد بن إسحاق، أربعتهم عن نافع عن أسلم عن عمر. ومن طريق عبد الرزاق رواه ابن المنذر في الأوسط (2/ 193)، والبيهقي في الكبرى (7/ 268). (¬1) روى الطبراني في الكبير (3/ 49) عن سعيد المقبري عن أبيه عن أبي هريرة قال: اْخذ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بأقفية الحسن والحسين حتى وضع أفواههما على فيه ثم قال: "اللهم إني أحبّهما، فأحبَّهما، وأحبَّ من يحبهما"، قال الهيثمي في المجمع (9/ 288): "فيه من لم أعرفهم"، ورواه ابن أبي شيبة (6/ 380) والبخاري في الأدب المفرد (249) والطبراني (3/ 49) وابن عساكر في تاريخه (13/ 194) عن أبي مُزرّد عن أبي هريرة أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال للحسن أو الحسين: "افتح فاك"، ثم قبّله، ثم قال: "اللهم أحبَّه فإني أحبّه"، قال الهيثمي (9/ 281): "أبو مزرّد لم أجد من وثقه، وبقية رجاله رجال الصحيح"، وهو في السلسلة الضعيفة (3486). وروى ابن أبي شيبة (6/ 380) وأحمد (4/ 172) - ومن طريقه ابن عساكر (14/ 148) - وابن أبي الدنيا في العيال (221) عن سعيد بن أبي راشد عن يعلى العامري قال: جعل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يضاحك الحسين حتى أخذه، فوضع إحدى يديه تحت قفاه، والأخرى تحت ذقنه، فوضع فاه على فيه فقبّله ... صححه ابن حبان (6971)، والحاكم (4825)، وابن أبي راشد قال عنه ابن حجر: "مقبول". (¬2) أخرجه مسلم (300) عن عائشة. (¬3) هكذا ذكره ابن قدامة في المغني (1/ 99)، ولم أقف على من أخرجه بهذا اللفظ، =

بعث النبي - صلى الله عليه وسلم - بالحنيفية السمحة

وأُتي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بصبي، فوضعه في حِجره، فبال عليه؛ فدعا بماء، فنضحه ولم يغسله (¬1). وكان يؤتى بالصبيان، فيضعهم في حِجره يُبرِّك عليهم، ويدعو لهم (¬2). وهذا الذي ذكرناه قليل من كثير من السنة، ومن له اطِّلاع على ما كان عليه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه لا تخفي عليه حقيقة الحال. وقد روى الإمام أحمد في "مسنده" (¬3) عنه - صلى الله عليه وسلم -: "بُعثتُ بالحنيفيّة ¬

_ = والذي في البخاري (3349) وغيره من المصادر أنه حمله على عاتقه وقال: "بأبي شبيه بالنبيّ لا شبيه بعلي"، وليس فيه ذكر اللعاب، فالله أعلم. (¬1) أخرجه مسلم (286) عن عائشة. (¬2) أخرجه مسلم (286) أيضًا. (¬3) مسند أحمد (5/ 266) من طريق معان بن رفاعة عن علي بن يزيد عن القاسم عن أبي أمامة به في قصة الرجل الذي مرّ بغار فحدثته نفسه أن يقيم فيه ويتخلىّ من الدنيا، وبهذا الإسناد رواه الطبراني في الكبير (8/ 216)، ومن طريق أحمد رواه الخطيب في الفقيه والمتفقه (2/ 430) وابن عساكر في الأربعون في الحث على الجهاد (15)، وضعفه ابن رجب في الفتح (1/ 136)، والعراقي في المغني (3841)، وقال الهيثمي في المجمع (5/ 508): "فيه علي بن يزيد الألهاني وهو ضعيف"، وقواه الألباني بشواهده في السلسلة الصحيحة (2924). ورواه الطبراني (8/ 222) من طريق عثمان بن أبي العاتكة عن علي بن يزيد به وذكر قصّة ابن مظعون مع امرأته، وعثمان ضعفوه في روايته عن الألهاني. ورواه الروياني (1279)، والطبراني (8/ 170) من طريق عفير بن معدان عن سليم بن عامر عن أبي أمامة به وذكر قصة ابن مظعون، قال الهيثمي (4/ 555): "فيه عفير وهو ضعيف". وفي الباب عن ابن عباس وجابر وعائشة وأبي هريرة وابن عمر وأسعد بن عبد الله الخزاعي وعن أبي قلابة وحبيب بن أبي ثابت مرسلًا.

الشرك وتحريم الحلال قرينان

السمحة". فجمع بين كونها حنيفية وكونها سمحة، فهي حنيفية في التوحيد، سَمحة في العمل. وضد الأمرين: الشرك وتحريم الحلال، وهما اللَّذانِ ذكرهما النبي - صلى الله عليه وسلم - فيما يروي عن ربه تبارك وتعالى أنه قال: "إني خلقت عِبادي حُنفاء، وإنهم أتتهم الشياطين فاجتالتهم عن دينهم، وحرّمت عليهم ما أحللتُ لهم، وأمرتهم أن يشركوا بي ما لم [46 أ] أنزل به سلطانًا" (¬1). فالشرك وتحريم الحلال قرينان. وهما اللذان عابهما الله في كتابه على المشركين في سورة الأنعام (¬2) والأعراف (¬3). وقد ذم النبي - صلى الله عليه وسلم - المتنطِّعين في الدِّين، وأخبر بهلكَتهم حيث يقول: "ألا هلك المتنطِّعون، ألا هلك المتنطِّعون، ألا هلك المتنطِّعون" (¬4). وقال ابن أبي شيبة (¬5): حدثنا أبو أسامة، عن مِسْعر، قال: أخرج إليّ ¬

_ (¬1) أخرجه مسلم (2865) عن عياض بن حمار المجاشعي. (¬2) الآية 148. (¬3) الآية 33. (¬4) أخرجه مسلم (2670) عن ابن مسعود. (¬5) مسند ابن أبي شيبة (428)، وعنه أبو يعلى (5022)، ورواه ابن راهويه في مسنده. كما في المطالب العالية (3265) - عن أبي أسامة به، ورواه الدارمي (138) عن محمد بن قدامة، والطبراني في الكبير (15/ 174) - بالمرفوع فقط- والهروي في ذم الكلام (522) من طريق عثمان بن أبي شيبة، كلاهما عن أبي أسامة به، قال البوصيري في إتحاف الخيرة (7317)، والهيثمي في المجمع (10/ 440): "رواته =

مَعْنُ بن عبد الرحمن كتابًا، وحلف بالله أنه خَطُّ أبيه، فإذا فيه: قال عبد الله: والله الذي لا إله غيره، ما رأيت أحدًا كان أشد على المتنطعين من رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، ولا رأيت بعده أشدَّ خوفًا عليهم من أبي بكر، وإني لأظن عمر كان أشد أهل الأرض خوفًا عليهم. وكان - صلى الله عليه وسلم - يبغض المتعمِّقين، حتى إنه لمَّا واصل بهم ورأى الهلال قال: "لو تأخر الهلال لواصلتُ وِصالًا يدعُ المتعمّقون تعمقهم"؛ كالمنكِّل بهم (¬1). وكان الصحابة أقل الأمة تكلفًا، اقتداءً بنبيهم - صلى الله عليه وسلم -، قال الله تعالى: {قُلْ مَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُتَكَلِّفِينَ} [ص: 86]. وقال عبد الله بن مسعود رضي الله عنه: "من كان منكم مُستنًّا؛ فليستنّ بمن قد مات؛ فإن الحيّ لا تؤمن عليه الفتنة، أولئك أصحاب محمد، كانوا أفضل هذه الأمة: أبرها قلوبًا، وأعمقها علمًا، وأقلها تكلُّفًا، اختارهم الله لصحبة نبيه - صلى الله عليه وسلم -، ولإقامة دينه، فاعْرفوا لهم فضلهم، واتبعوهم على أثرهم وسيرتهم، فإنهم كانوا على الهَدْي المستقيم" (¬2). ¬

_ = ثقات "، وهم من رجال الشيخين، لكن في سماع عبد الرحمن بن عبد الله بن مسعود من أبيه خلاف. (¬1) أخرجه البخاري (7299)، ومسلم (1103) عن أبي هريرة. (¬2) رواه ابن بطة. كما في منهاج السنة (2/ 39) - وابن عبد البر في جامع بيان العلم (926) والهروي في ذم الكلام (746) من طريق قتادة عنه، وقتادة لم يدرك ابنَ مسعود. وروى أبو نعيم في الحلية (1/ 305، 306) نحوَه عن ابن عمر. وروي عن الحسن البصري بعضُه أو قريب منه.

وقال أنس رضي الله عنه: "كنا عند عمر، فسمعته يقول: نُهِينا عن التكلف" (¬1). وقال مالك: قال عمر بن عبد العزيز: "سنّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وولاة الأمور بعده سُننًا، الأخذ بها تصديق لكتاب الله، واستكمال لطاعة الله، وقوة على دين الله، ليس لأحد تبديلها ولا تغييرها، ولا النظر فيما خالفها، من اقتدى بها فهو مهتدٍ، ومن استنصر بها فهو منصور، ومن خالفها واتّبع غير سبيل المؤمنين ولّاه الله ما تولىّ، وأصْلاه جهنم، وساءت مصيرًا" (¬2). وقال مالك: بلغني أن عمر بن الخطاب كان يقول: "سُنّتْ لكم السنن، وفُرِضت لكم الفرائض؛ وتُرِكتُم على الواضحة؛ إلا أن تميلوا بالناس يمينًا وشمالًا" (¬3). ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري (7293). (¬2) رواه عبد الله بن أحمد في السنة (766)، وابن عبد البر في جامع بيان العلم وفضله (1218) من طريق عبد الرحمن بن مهدي، وابن أبي حاتم في تفسيره (5969) من طريق ابن وهب، والآجري في الشريعة (92، 139، 698) وأبو نعيم في الحلية (6/ 324) من طريق مطرف بن عبد الله، ثلاثتهم عن مالك به. ورواه اللالكائي في أصول الاعتقاد (134) والخطيب في الفقيه والمتفقه (1/ 435، 436) من طريق رشدين بن سعد عن عقيل عن ابن شهاب عن عمر. (¬3) رواه مالك (1506)، ومسدد -كما في إتحاف الخيرة (3551) - وابن سعد في الطبقات (3/ 334) وابن شئة في أخبار المدينة (1477) والحاكم (4513) وابن عبد البر في جامع بيان العلم (1220) وابن الجوزي في نواسخ القرآن (ص 35) عن يحيى بن سعيد عن سعيد بن المسيب عن عمر، وهذا إسناد رجاله رجال الصحيح، لكن في سماع ابن المسيب من عمر خلاف، قال ابن عبد البر في التمهيد =

فساد هذا الدين من تحريف الغالي، وانتحال المبطل، وتأويل الجاهل

وقال - صلى الله عليه وسلم -: "يَحمِل هذا العلمَ من كل خَلَفٍ عُدُولُهُ، يَنفون عنه تحريف الغالين، وانتحال المبطلين، وتأويل الجاهلين" (¬1). فأخبر أن الغالين يُحرفون ما جاء به، والمبطلين ينتحلون أن باطلهم هو ما كان عليه، والجاهلون يتأوّلونه علي غير تأويله. وفساد الإسلام من هؤلاء الطوائف الثلاثة، فلولا أن الله سبحانه يقيم لدينه من ينفي عنه ذلك، لجرى عليه ما جرى على أديان الأنبياء قبله من هؤلاء. ¬

_ = (12/ 116): "رواية سعيد عن عمر تجري مجرى المتصل، وجائز الاحتجاج بها عندهم؛ لأنه قد رآه، وقد صحّح بعض العلماء سماعه منه"، وصحّح هذا الأثر الشاطبي في الاعتصام (1/ 77). (¬1) رواه ابن وضاح في البدع (1)، والعقيلي في الضعفاء (4/ 256)، وابن أبي حاتم في الجرح والتعديل (2/ 17)، وابن حبان في الثقات (4/ 10)، والآجري في الشريعة (1، 2)، وابن عدي في الكامل (1/ 118، 146 - 147، 2/ 79)، وغيرهم من طرق عن معان بن رفاعة عن إبراهيم بن عبد الرحمن العذري مرفوعَا، وهذا مرسل أو معضل، ووقع في سنده اضطراب، ومُعان ليّن الحديث كثير الإرسال؛ ولذا ضعَّفه ابن القطان في بيان الوهم (3/ 40)، والأبناسي في الشذا الفياح (1/ 239)، وقال ابن كثير في الباعث الحثيث (1/ 238): "في صحته نظر قوي، والأغلب عدم صحته"، وفي الباب عن ابن عباس وابن عمرو وأبي هريرة وجابر بن سمرة وعلي وابن عمر وأنس وأبي أمامة وأبي الدرداء ومعاذ وابن مسعود، قال العراقي في التقييد والإيضاح (ص 139): "كلها ضعيفة، لا يثبت منها شيء، وليس فيها شيء يقوّي المرسل"، وروى الخلال في العلل -كما في مفتاح دار السعادة (1/ 164) - عن مهنا قال: سألت أحمد عن حديث معان عن إبراهيم العذري فقلت لأحمد: كأنه موضوع! قال: لا هو صحيح. وممن ذهب إلى تقويته بتعدّد طرقه ابن القيم في طريق الهجرتين (ص 522)، والزركشي في النكت (3/ 334)، وقال القاسمي في قواعد التحديث (ص 49): "تعدد طرقه يقضي بحسنه كما جزم به العلائي".

فصل: الوسوسة في مخارج الحروف

فصل ومن ذلك: الوسوسةُ في مخارج الحروف، والتنطُّعُ فيها. ونحن نذكر ما ذكره العلماء بألفاظهم: قال أبو الفرج بن الجوزي (¬1): "قد لَبّس إبليس على بعض المصلين في مخارج الحروف، فتراه يقول: الحمد، الحمد، فيخرج بإعادة الكلمة عن قانون أدب الصلاة، وتارة يُلبِّس عليه في تحقيق التشديد في إخراج ضاد {المغضوب}. قال: ولقد رأيت من يخرج بُصاقه مع إخراج الضاد لقوة تشديده، والمراد تحقيق الحرف حسْبُ، وإبليس يُخْرِج هؤلاء بالزيادة عن حد التحقيق، ويَشْغلهم بالمبالغة في الحروف عن فهم التلاوة، وكل هذه الوساوس من إبليس". وقال أبو محمد بن قُتيبة في "مشكل القرآن" (¬2): "وقد كان الناس يقرأون القرآن بلغاتهم، ثم خَلَف من بعدهم قوم من أهل الأمصار وأبناء العجم، ليس لهم طبع اللغة، ولا علمُ التكلف، فهفَوا في كثير من الحروف، وزلُّوا وأخلُّوا، ومنهم رجل ستر الله عليه عند العوام بالصلاح، [46 ب] وقرّبه من القلوب بالدين، فلم أرَ فيمن تتبعت (¬3) في وجوه قراءته أكثر تخليطًا ولا أشد اضطرابًا منه؛ لأنه يستعمل في الحرف ما يدعه في نظيره، ثم يؤصّل أصلًا ويخالفه إلى غيره بغير عِلَّةٍ، ويختار في كثير من الحروف ما لا مخرج ¬

_ (¬1) تلبيس إبليس (ص 140). (¬2) ص 58 - 60. (¬3) في الأصل: "ينعبث"، وفي بعض النسخ: "يتعنت". والتصويب من المصدر الذي نقل عنه المؤلف.

له إلا على طلب الحيلة الضعيفة. هذا إلى نَبْذِه في قراءته مذاهب العرب وأهل الحجاز، بإفراطه في المدّ والهمز والإشباع، وإفحاشه في الإضجاع والإدغام، وحمَلِه المتعلِّمين على المذهب الصّعْب، وتَعْسيره على الأمة ما يَسّره الله تعالى، وتضييقه ما فَسَحه. ومن العجب أنه يُقرِئ الناس بهذه المذاهب، ويكره الصلاة بها! ففي أيّ موضع تُستعمل هذه القراءة، إن كانت الصلاة لا تجوز بها؟ وكان ابن عُيَينة يرى لمن قرأ في صلاته بحرفه، أو ائتمّ بإمام يقرأ بقراءته: أن يعيد، ووافقه على ذلك كثير من خيار المسلمين، منهم بِشر بن الحارث، وأحمد بن حنبل. وقد شُغف بقراءته عوامُّ الناس وسُوقتُهم، وليس ذلك إلا لما يرونه من مَشقّتها وصعوبتها، وطول اختلاف المتعلم إلى المقرئ فيها، فإذا رأوه قد اختلف في أمّ الكتاب عشرَا، وفي مئة آية شهرًا، وفي السبع الطّول حَولًا، ورأوه عند قراءته مائِلَ الشِّدْقين، دارَّ الوَريديْن، راشحَ الجبينيَن: توهموا أن ذلك لفضلِه في القراءة، وحِذْقِه بها، وليس هكذا كانت قراءة رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، ولا خِيارِ السلف ولا التابعين، ولا القُرّاء (¬1) العالمِين، بل كانت سهلة رَسْلَة". وقال الخلّال في "الجامع": عن أبي عبد الله، أنه قال: "لا أحب قراءة فلان"، يعني هذا الذي أشار إليه ابن قتيبة، وكرهها كراهية شديدة، وجعل يَعْجب من قراءته، وقال: "لا تعجبني، فإن كان رجلٌ يقبلُ منك فانْهَه". وحُكي عن ابن المبارك، عن الرّبيع بن أنس: أنه نهاه عنها. وقال الفضلُ بن زياد: إن رجلًا قال لأبى عبد الله: فما أتركُ من قراءته؟ قال: "الإدغام والكسر، ليس يُعرف في لغة من لغات العرب". ¬

_ (¬1) في الأصل: "القرأة".

وسأله عبد الله ابنُه عنها، فقال: "أكره الكسر الشديد والإضجاع". وقال في موضع آخر: "إن لم يُدْغم ولم يُضْجع ذلك الإضجاع فلا بأس". وسأله الحسن بن محمد بن الحارث: أتكره أن يتعلم الرجل تلك القراءة؟ قال: "أكرهه أشدَّ كراهة، إنما هي قراءة محدَثة"؛ وكرهها شديدًا حتى غضب. وروى عنه ابن سِنْدِي أنه سئل عنها، فقال: "أكرهها أشد الكراهية"، قيل له: ما تكره منها؟ قال: "هي قراءة مُحْدَثة، ما قرأ بها أحد". وروى جعفر بن محمد عنه، أنه سئل عنها فكرهها، وقال: "كرهها ابن إدريس"، وأُراه قال: "وعبد الرحمن بن مهدي"، وقال: "ما أدري، أيشٍ هذه القراءة؟ "، ثم قال: "وقراءتهم ليس تشبه كلام العرب". وقال عبد الرحمن بن مهدي: "لو صليتُ خلف من يقرأ بها لأعدتُ الصلاة". ونص أحمد على أنه يُعيد، وعنه رواية أخرى: أنه لا يعيد. والمقصود: أن الأئمة (¬1) كرهوا التنطّع والغُلُوّ في النطق بالحرف. ومن تأمّل هَدْي رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وإقراره أهل كل لسان على قراءتهم، تبيّن له أن التنطع والتشدّق والوسوسة في إخراج الحرف ليس من سنّته. ¬

_ (¬1) م، ظ، ت: "الأمة".

فصل: في الجواب عما احتج به الموسوسون

فصل في الجواب عما احتج به أهل الوسواس أما قولهم: إن ما نفعله احتياط لا وسواس. قلنا: سمُّوه ما شئتم، فنحن نسألكم: هل هو موافق لفعل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأمره وما كان عليه أصحابه؛ أو مخالف؟ فإن زعمتم أنه موافق فبَهْتٌ وكذب صريح، فإِذَنْ لا بد من الإقرار بعدم موافقته، وأنه مخالف له، فلا ينفعكم تسمية ذلك [47 أ] احتياطًا، وهذا نظير مَن ارتكب محظورًا وسماه بغير اسمه، كما تُسمَّى الخمر بغير اسمها، والربا: معاملة، والتحليل الذي لعن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فاعله (¬1): نكاحًا، ونَقْرَ الصلاة الذي (¬2) أخبر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن فاعله لم يصل (¬3)، وأنه لا تُجزئه صلاته ولا يقبلها الله منه: تخفيفًا! فهكذا تسمية الغُلُوِّ في الدين والتنطُّع احتياطًا. وينبغي أن يُعلم أن الاحتياط الذي ينفع صاحبه ويُثيبه الله عليه: الاحتياطُ في موافقةِ السنة، وترك مخالفتها، والاحتياط كلُّ الاحتياط في ذلك؛ وإلا فما احتاط لنفسه مَنْ خرج عن السنة، بل ترك حقيقة الاحتياط في ذلك. ¬

_ (¬1) كما في حديث ابن مسعود الذي أخرجه أحمد (1/ 448)، والترمذي (1120)، والنسائي (6/ 149) وغيرهم. وإسناده صحيح. (¬2) في الأصل: "التي". والتصويب من النسخ الأخرى. (¬3) أخرجه البخاري (793)، ومسلم (397) عن أبي هريرة في حديث المسيئ صلاته.

وكذلك المتسرعون إلى وقوع الطلاق في موارد النزاع الذي اختلف فيه الأئمة، كطلاق المكره، وطلاق السكران، والبَتّة، وجمع الثلاث، والطلاق بمجرد النية، والطلاق المؤجل المعلوم مجيءُ أجله، واليمين بالطلاق، وغير ذلك مما تنازع فيه العلماء إذا أوقعه المفتي تقليدًا بغير برهان، وقال: ذلك احتياط للفروج؛ فقد ترك معنى الاحتياط؛ فإنه يُحرِّم الفرج على هذا، ويبيحه لغيره، فأين الاحتياط ها هنا؟ بل لو أبقاه على حاله حتى تجُمع الأمة على تحريمه وإخراجه عمن هو حلال له، أو يأتي برهان من الله ورسوله على ذلك؛ لكان قد عمل بالاحتياط. ونص على مثل ذلك الإمامُ أحمد في طلاق السكران. فقال في رواية أبى طالب: والذي لا يأمر بالطلاق فإنما أتى خَصْلة واحدة، والذي يأمر بالطلاق قد أتى خصلتين: حرمها عليه، وأحلها لغيره، فهذا خير من هذا. فلا يمكن الاحتياط في وقوع الطلاق إلا حيث أجمعت الأمة، أو كان هناك نص عن الله ورسوله يجب المصير إليه. قال شيخنا: والاحتياط حسن ما لم يُفْضِ بصاحبه إلى مخالفة السُّنة، فإذا أفضى إلى ذلك فالاحتياط ترك هذا الاحتياط. وبهذا خرج الجواب عن احتجاجهم بقوله - صلى الله عليه وسلم -: "من ترك الشبهات فقد اسْتَبرأ لدينه وعِرْضه"، وقوله: "دَعْ ما يَريْبُك إلى ما لا يريبك"، وقوله: "الإثم ما حاك في الصدر" (¬1)، فهذا كله من أقوى الحجج على بطلان الوسواس. ¬

_ (¬1) تقدم تخريج هذه الأحاديث. وفي م: "النفس" مكان "الصدر".

الشبهات ما يشتبه فيه الحق بالباطل والحلال بالحرام

فإن الشبهات ما يشتبه فيه الحق والباطل، والحلال والحرام، على وجه لا يكون فيه دليلٌ على أحد الجانبين، أو تتعارض الأمارتان عنده، فلا تترجح في ظنه إحداها، فيشتبه عليه هذا بهذا، فأرشده النبي - صلى الله عليه وسلم - إلى ترك المشتبه، والعدول إلى الواضح الجلي. ومعلوم أن غاية الوسواس أن يشتبه على صاحبه: هل هو طاعة وقربة، أم معصية وبدعة؟ هذا أحسن أحواله، والواضح الجلي هو اجتماع طريق رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وما سنّهُ للأمة قولًا وعملًا، فمن أراد ترك الشبهات عدل عن ذلك المشتبه إلى هذا الواضح، فكيف ولا شبهة بحمد الله هناك؟ إذ قد بينت (¬1) بالسنة أنه تَنَطّع وغلو، فالمصير إليه تركٌ للسنة، وأخذ بالبدعة، ترك لما يحبه الله ويرضاه، وأخذٌ بما يكرهه ويبغضه، ولا يُتقَرّب به إليه البتة، فإنه لا يُتَقرّب إليه إلا بما شرع، لا بما يهواه العبد ويفعله من تلقاء نفسه، فهذا هو الذي يحيك في الصدر، ويتردد في القلب، وهو حَوَازُّ القلوب. وأما التمرة التي ترك رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أكلها، وقال: "أخشى أن تكون من الصدقة"، فذلك من باب اتقاء الشبهات، وترك ما اشتبه فيه الحلال بالحرام؛ فإن التمرة كانت قد وجدها في بيته، وكان يؤتَى بتَمْر الصدقة، يقسمه على من تحل له الصدقة، ويدخل بيتَه تمرٌ [47 ب] يقتات منه أهله، فكان في بيته النوعان، فلما وجد تلك التمرة لم يدرِ - صلى الله عليه وسلم - من أيّ النوعين هي؟ فأمسك عن أكلها، فهذا الحديث أصل في الورع واتقاء الشبهات، فما لأهل الوسواس وما لَه؟ وأما قولُكم: إن مالكًا أفتى فيمن طلق ولم يَدْرِ أواحدةً طلّق أم ثلاثًا؟ ¬

_ (¬1) م: "ثبت".

أنها ثلاث احتياطًا، فنعم هذا قول مالك، فكان ماذا؟ أفحُجّةٌ هو على الشافعي، وأبى حنيفة، وأحمد، وعلى كُلّ من خالفه في هذه المسألة؟ حتى يجب عليهم أن يتركوا قولهم لقوله. وهذا القول مما يُحتج له، لا (¬1) مما يحتج به. على أن هذا ليس من باب الوسواس في شيء، وإنما حجة هذا القول أن الطلاق يوجب تحريم الزوجة، والرّجْعَةُ ترفع ذلك التحريم، فهو يقول: قد تيفن سبب التحريم، وهو الطلاق، وشكّ في رَفْعِه بالرجعة، فإنه يحتمل أن يكون رجعيًّا فترفَعُهُ الرجعة، ويحتمل أن يكون ثلاثًا فلا ترفعه الرجعة، فقد تيقّن سبب التحريم، وشكَّ فيما يرفعه. والجمهور يقولون: النكاح متيقن، والقاطع له المزيل لحِلّ الفرج مشكوك فيه، فإنه يحتمل أن يكون المَأْتى به رجعيًا فلا يزيل النكاح، ويحتمل أن يكون بائنًا فيزيله، فقد تيقنَّا يقين النكاح، وشككنا فيما يزيله، فالأصل بقاء النكاح حتى يُتَيقّن ما يرفعه. فإن قلتم: فقد تيقن التحريم وشكَّ في التحليل. قلنا: الرجعية ليست بحرام عندكم، ولهذا تجوّزون وطأها، ويكون رجعةً إذا نوى به الرجعة. فإن قلتم: بل هي حرام، والرجعة حصلت بالنية حال الوطء. قلنا: لا ينفعكم ذلك أيضًا؛ فإنه إنما تيقن تحريفا يزول بالرجعة، لم يتيقن تحريفا لا تؤثر فيه الرجعة. ¬

_ (¬1) "مما يحتج له لا"ساقطة من م.

فصل: من حلف بالطلاق على شيء ثم تبين كما قال، أو خلافه

وليس المقصود تقرير هذه المسألة، والمقصود أنه لا راحة في ذلك لأهل الوسواس. فصل وأما من حلف بالطلاق أن في هذه اللَّوْزة حَبّتين، ونحو ذلك مما لا يتيقنه الحالف، فبان (¬1) كما حلف عليه: فهذا لا يحنث عند الأكثرين. وكذلك لو لم يتبين الحال واستمر مجهولًا؛ فإن النكاح ثابت بيقين، فلا يزيله بالشك. ولمالك رحمه الله أصلٌ نازعه فيه غيره، وهو إيقاع الطلاق بالشك في الحنث، وإيقاعه بالشك في عدده كما تقدم، وإيقاعه بالشك في المطلقة، كما لو طلق واحدة من نسائه ثم أُنْسِيها، ووقف الحال مدة الإيلاء ولم يتبين، طُلِّقَ عليه الجميع. وكما لو حلف أن هذا فلان أو حيوان، وهو غير متيقّن له، بل هو شاكٌّ حال الحَلفِ، فتبين أن الأمر كما حلف عليه؛ فإنه يحنث عنده، وتطلق امرأته. فمن حلف على رجل أنه زيد، فتبيّن أنه غيره، أو لم يتبين أهو المحلوف عليه أم لا؟ حنث عنده، وإن تبين أنه المحلوف عليه، وكان حال اليمين لا يعلم حقيقته، ولا يغلب على ظنه، ولا طريق له إلى العلم به في العادة، فإنه يحنث عنده؛ لشكِّه حال الحلف. فالحالف يحنث بالمخالفة لما حلف عليه: أما فى الطلب فبأن يفعل ما حلف على تركه، وأما في الخبر فبأن يتبين كذبه. ¬

_ (¬1) في الأصل: "فان كان". والمثبت من النسخ الأخرى.

وعند مالك يحنث بأمر آخر، وهو الشك حال اليمين، سواءٌ تبين صدقه أم لا. وأبلغ من هذا أنه يحنِّث من حلف بالطلاق على إنسانٍ إلى جانبه أنه إنسان أو حجرٍ أنه حجر، ونحو ذلك مما لا شك فيه. وعمدته في الموضعين: أن الحالف هازل؛ فإن من قال: أنت طالق إن لم تكوني امرأة، أو إن لم أكن رجلًا، لا معنى لكلامه إلا الهَزْلُ، فإن هذا مما لا غرض للعقلاء فيه. قالوا: وإن لم يكن هذا هزلًا فإن الهزل لا حقيقة له. وربما عللوا الحنث بأنه أراد أن يجزم الطلاق، ثم ندم، فوصله بما لا يفيد ليرفعه. وأما في القسم الأول: فأصله فيه تغليب [48 أ] الحنث بالشك، كمن حلف ثم شك: هل حنث أم لا، فإنهم يأمرونه بفراق زوجته، وهل هو للوجوب أم للاستحباب؟ على قولين: الأول لابن القاسم، والثاني لمالك. فمالك يراعي بقاء النكاح، وقد شككنا في زواله، والأصل البقاء. وابن القاسم يقول: قد صار حلّ الوطء مشكوكًا فيه، فيجب عليه مفارقتها. والأكثرون يقولون: لا يجب عليه مفارقتها، ولا يستحب له؛ فإن قاعدة الشريعة أن الشك لا يقوى على إزالة الأصل المعلوم، ولا يزول اليقين إلا بيقين أقوى منه أو مساوٍ له.

فصل: من طلق واحدة فنسيها، أو واحدة مبهمة

فصل وأما مَن طلّق واحدة من نسائه ثم أُنسيها، أو طلق واحدة مبهمة ولم يُعيِّنها؛ فقد اختلف الفقهاء في حكم هذه المسألة على أقوال: فقال أبو حنيفة، والشافعي، والثوري، وحماد: يختار أيتهن شاء، فيوقع (¬1) عليها الطلاق في المبهمة، وأما في المنسيّة فيُمسك عنهن، وينفق عليهن، حتى ينكشف الأمر. فإن مات الزوج قبل أن يُقْرعَ: فقال أبو حنيفة: يقسم بينهن كلهن ميراث امرأة. وقال الشافعي: يوقف ميراث امرأة حتى يصطلحن. وقالت المالكية: إذا طلق واحدة منهن غير معلومة عنده، بأن قال: أنت طالق، ولا يدري مَنْ هي؟ طلق الجميع، وإن طلق واحدة معلومة، ثم أُنْسِيَهَا، وقف عنهن حتى يتذكر، فإن طال ذلك ضُرب له مدة المُوليِ، فإن تذكر فيها وإلا طَلُق عليه الجميع، ولو قال: إحداكن طالق، ولم يعينها بالنية؛ طلق الجميع. وقال أحمد: يُقرع بينهن في الصورتين، نص على ذلك في رواية جماعة من أصحابه، وحكاه عن علي، وابن عباس. وظاهر المذهب الذي عليه جُلُّ الأصحاب: أنه لا فرق بين المبهمة والمنسية. وقال صاحب "المغنى" (¬2): يخرج المبهمة بالقرعة؛ وأما المنسية فإنه ¬

_ (¬1) في الأصل: "فوقع". (¬2) المغني (10/ 519 وما بعدها).

يحرم عليه الجميع حتى تتبين المطلقة، ويؤخذ بنفقة الجميع، فإن مات أقرع بينهن للميراث. قال: وقد روى إسماعيل بن سعيد، عن أحمد ما يدل على أن القرعة لا تستعمل في المنسية لمعرفة الحِلّ، وإنما تستعمل لمعرفة الميراث، فإنه قال: سألت أحمد عن الرجل يطلق امرأة من نسائه ولا يعلم أيتَهن طلَّق؟ قال: أكره أن أقول في الطلاق بالقرعة. قلت: أرأيت إن مات هذا؟ قال: أقول بالقرعة؛ وذلك لأنه تصير القرعة على المال. قال: وجماعة من روى عنه القرعة في المطلقة المنسية؛ إنما هو في التوريث، وأما في الحل فلا ينبغي أن تثبت بالقرعة، قال: وهذا قول أكثر أهل العلم. واحتج الشيخ لصحة قوله بأنه اشتبهت عليه زوجته بأجنبية، فلم تحلّ له إحداهما بالقرعة؛ كما لو اشتبهت عليه بأجنبية لم يكن له عليها عقد، ولأن القرعة لا تزيل التحريم من المطلقة، فلا ترفع الطلاق عمن وقع عليها (¬1)، ولاحتمال كون المطلقة غير من خرجت عليها القرعة، ولهذا لو ذكر أن المطلقة غيرها حرمت عليه، ولو ارتفع التحريم أو زال بالطلاق لما عاد بالذِّكْرِ، فيجب بقاء التحريم بعد القرعة كما كان قبلها. قال: وقد قال الخِرَقي فيمن طلق امرأته؛ فلم يَدْرِ، أواحدة طلق أم ثلاثًا؟ ومن حلف بالطلاق لا يأكل تمرة، فوقعت في تمر، فأكل منه واحدة: لا تحل له امرأته، حتى يعلم أنها ليست التي وقعت اليمين عليها. ¬

_ (¬1) الأصل: "عليه".

فحرّمها، مع أن الأصل بقاء النكاح، ولم يعارضه يقين (¬1) التحريم، فهاهنا أولى. قال: وهكذا الحكم في كل موضع وقع الطلاق على امرأة بعينها، ثم اشتبهت بغيرها، مثل أن يرى [48 ب] امرأةً في رَوْزَنة، أو مُوَلِّيةً، فيقول: أنت طالق، ولا يعلم عينها من نسائه. وكذلك إذا وقع الطلاق على امرأة من نسائه في مسألة الطائر وشبهها؛ فإنه يحرم عليه جميع نسائه حتى تتبين المطلقة، ويؤخذ بنفقة الجميع؛ لأنهن محبوسات عليه، وإن أقرع بينهن لم تُفِدِ القرعة شيئًا. ولا يحل لمن وقعت عليها القرعة التزويج؛ لأنها يجوز أن تكون غير المطلقة، ولا يحل للزوج غيرها لاحتمال أن تكون المطلقة. وقال أصحابنا: إذا أقرع بينهن، فخرجت القرعة على إحداهن، ثبت حكم الطلاق فيها، فحل لها النكاح بعد قضاء عدتها، وحلّ للزوج مَنْ سواها، كما لو كان الطلاق في واحدة غير معينة. وقال شيخنا: الصحيح استعمال القرعة في الصورتين. قلت: وهو منصوص أحمد في رواية الجماعة. وأما رواية الشالَنْجِي فإنه توقّف، وكره أن يقول في الطلاق بالقرعة، ولم يعين المنسية ولا المبهمة، وأكثر نصوصه على القرعة في الصورتين. قال في رواية الميموني فيمن له أربع نسوة؛ طلّق واحدة منهن، ولم يَدْرِ: يقرع بينهن، وكذلك في الأعْبُد، فإن أقرع بينهن، فوقعت القرعة على ¬

_ (¬1) م: "نفس".

واحدة، ثم ذكر التي طلق؛ رجعت هذه التي وقعت عليها القرعة، ويقع الطلاق على التي ذكر، فإن تزوجت فذاك شيء قد مَرّ. وكذلك نقل أبو الحارث عنه في رجل له أربع نسوة، طلق إحداهن، ولم يكن له نِيّة في واحدة بعينها: يقرع بينهن، فأيتهن أصابتها القرعة فهي المطلقة، وكذلك إن قصد إلى واحدة بعينها ونَسِيها. فنصَّ على القرعة في الصورتين، مُسَوِّيًا بينهما. والذي أفتى به علي هو في المنسية، وبه احتج أحمد. قال وَكيع: سمعت عبد الله (¬1)، قال: سألت أبا جعفر عن رجل كان له أربع نسوة وطلق إحداهن، لا يدرى أيتهن طلق؟ قال علي: "يقرع بينهن" (¬2). والأدلة الدالة على القرعة تتناول الصورتين، والمنسية قد صارت كالمجهولة شرعًا، فلا فرق بينها وبين المبهمة المجهولة، ولأن في الإيقاف والإمساك حتى يتذكر، وتحريم الجميع عليه، وإيجاب النفقة على الجميع: عدَّة مفاسد له وللزوجات، مندفعة شرعًا، ولأن القرعة أقرب إلى مقاصد الشرع ومصلحة الزوج والزوجات، مِنْ تركهن معلقاتٍ، لا ذوات أزواج ولا أيامَى، وتركه هو معلقًا، لا ذا زوج ولا عَزَبًا. ¬

_ (¬1) في الأصل: "أبا عبد الله". والتصويب من النسخ الأخرى والمغني. (¬2) قال ابن قدامة في المغني (10/ 522): روى عبد الله بن حميد قال: سألت أبا جعفر عن رجل قدم من خراسان وله أربع نسوة، قدم البصرة فطلّق إحداهن ونكح ثمّ مات، لا يدري الشهود أيّتهنّ طلّق، فقال: قال علي رضي الله عنه: "أقرع بين الأربع، وأنذر منهنّ واحدة، وقسم بينهنّ الميراث"، وصحّحه ابن القيم في بدائع الفوائد (3/ 783).

وليس في الشريعة نظير ذلك، بل ليس فيها وقف الأحكام، بل الفصل وقطع الخصومات بأقرب الطرق، فإذا ضاقت الطرق، ولم يَبْقَ إلا القرعة، تعينت طريقًا، كما عينها الشارع في عدة قضايا، حيث لم يكن هناك غيرها، ولم يوقف الأمر إلى وقت الانكشاف؛ فإنه إذا علم أنه لا سبيل له إلا انكشاف الحال، كان إيقاف الأمر إلى آخر العمر مِنْ أعظم المفاسد التي لا تأتي بها الشريعة. وغاية ما يقدّر أن القرعة تصيب التي لم يقع عليها الطلاق وتخطئ المطلقة، وهذا لا يضرها هاهنا؛ فإنه لما جُهِل كونها هي التي وقع عليها الطلاق صار المجهولُ كالمعدوم، وكل ما يقدّر من المفسدة في ذلك فمثلها في العتق سواءً، وقد دلت سنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الصحيحة الصريحة على إخراج المعتق من غيره بالقرعة (¬1). وقد نص أحمد على حِلّ البُضْع بالقرعة. فقال في رواية ابن منصور وحنبل: "إذا زوّجها الوليان من رجلين، ولم يُعلم السابق منهما؛ أقرع بينهما، فمن خرجت له القرعة حُكم أنه الأول". فإذا قويت القرعة [49 أ] على تعيين الزوج في حِلِّ البُضع له، فلأن تقوى على تعيين المطلقة في تحريم بُضْعها عنه أولى، فإن الطلاق مبنيٌّ على التغليب والسّراية، وهو أسرع نفوذًا وثبوتًا من النكاح من وجوه كثيرة. وقول الشيخ أبي محمد قدس الله روحه: إنه اشتبهت عليه زوجته بأجنبية، فلم تحلَّ له إحداهما بالقرعة، كما لو اشتبهت بأجنبية لم يكن عليها عَقْدٌ. ¬

_ (¬1) كما في حديث عمران بن حصين الذي أخرجه مسلم (1668).

جوابه بالفرق بين حالتي الدوام والابتداء؛ فإنه هناك شكّ في هذه الأجنبية، هل حصل عليها عقد أم لا؟ والأصل فيها التحريم، فإذا اشتبهت بها الزوجة لم يُقْدِمْ على واحدة منهما، وهاهنا ثبت الحل والنكاح، وحصل الشك بعده، هل نزل التحريم في هذه أوفي هذه؟ فإما أن يحرّما جميعًا، أو يحلا جميعًا، أو يقال له: اختر من ينزل عليه التحريم، أو يوقف الأمر أبدًا، أو تستعمل القرعة؟ والأقسام الأربعة الأُول باطلة، لا أصل لها في السنة، ولم يعتبرها الشارع، بخلاف القرعة. وبالجملة فلا يصح إلحاق إحدى الصورتين بالأُخرى؛ إذ هناك تحريم متيفن، ونحن نشك في حله، وهنا حل متيقَّن، نشك في تحريمه بالنسبة إلى كل واحدة. قوله: ولأن القرعة لا تزيل التحريم في المطلَّقة، ولا ترفع (¬1) الطلاق على من وقع عليه. فيقال: إذا جُهِلت المطلَّقة، ولم يكن له سبيل إلى تعيينها، قامت القرعة مقام الشاهد والمخبر بأنها المطلقة للضرورة، حيث تعينت طريقًا، فالمطلقة المجهولة قد صار طلاقها بعينها كالمعدوم، ولو كانت مطلقة في نفس الأمر؛ فإن الشارع لم يكلفنا بما في نفس الأمر، بل بما ظهر وبدا. ولهذا لو نسي الطلاق بالكلية، وأقام على وطئها حتى تُوفي، كانت أحكامه أحكام الزوج، والنسب لاحقٌ به، والميراث ثابت، وهى مطلّقة في ¬

_ (¬1) الأصل: "ولا يرتفع".

نفس الأمر، ولكن ليست مطلقة في حكم الله، كما لو طلع الهلال في نفس الأمر، ولم يَرهُ أحد من الناس، أو كان تحت الغَيم؛ فإنه لا يترتب عليه حكم الشهر، ولا يكون طالعًا في حكم الله، وإن كان طالعًا في نفس الأمر. ونظائر هذا كثيرة جدًا. فغاية الأمر أن هذه مطلَّقة في نفس الأمر، ولا علم له بطلاقها، فلا تكون مطلَّقة في الحكم، كما لو نسي طلاقها. قوله: ولهذا لو ذكر أن المطلقة غيرها حرمت عليه، ولو ارتفع التحريم أو زال الطلاق لما عاد بالذِّكْرِ. جوابه: أن القرعة إنما عملت في (¬1) استمرار النسيان، فإذا زال النسيان بطل عمل القرعة، كما أن المتيمم إذا قدر على استعمال الماء بطل حكم تيممه؛ فإن التراب إنما يُعمَل عند العجز عن الماء، فإذا قدر عليه بطل حكمه، ونظائر ذلك كثيرة. منها: أن (¬2) الاجتهاد إنما يُعمل عند عدم النص فإذا تبين النص؛ فلا اجتهاد إلا في إبطال ما خالفه. قوله: وقد قال الخرقي فيمن طلق امرأته ولم يَدرِ واحدةً طلَّق أم ثلاثًا: يلزمه الثلاث، ومن حلف بالطلاق أن لا يأكل تمرة، فوقعت في تمر، فأكل منه واحدة: لا تحل له امرأته حتى يعلم أنها ليست التي وقعت اليمين عليها، فحرمها، مع أن الأصل بقاء النكاح، ولم يعارضه يقين التحريم، فهاهنا أولى. ¬

_ (¬1) م: "مع". (¬2) "أن" ساقطة من م.

فيقال: الخرقي نَصَّ على المسألتين مفرِّقًا بينهما في "مختصره"، فقال: وإذا طلق واحدة من نسائه وأنْسِيها أخرجت بالقرعة، وقال ما حكاه الشيخ عنه في الموضعين. فأما من شك هل طلق واحدة أم ثلاثًا؟ فأكثر النصوص أنه إنما يلزمه واحدة، وهو ظاهر المذهب. والخِرَقي اختار الرواية الأخرى، وهي مذهب مالك، وقد تقدم مأخذ القولين، وبيان الراجح منهما. وعلى القول بلزوم الثلاث؛ فالفرق بين ذلك وبين [49 ب] إخراج المنسيَّة بالقرعة: أن المجهول في الشرع كالمعدوم، فقد جهلنا وقوع الطلاق بأي الزوجتين، فلم يتحقق تحريم إحداهما، ولم يكن لنا سبيل إلى تحريمهما ولا إباحتهما، والوقف مفسدة ظاهرة؛ فتعينت القرعة، بخلاف من أوقع على زوجته طلاقًا وشك في عدده، فإنه قد شك: هل يرتفع ذلك الطلاق بالرجعة أولا يرتفع بها؛ فألزمه بالثلاث، فظهر الفرق بينهما على هذا القول، وأما على المشهور من المذهب فلا إشكال. وأما من حلف بالطلاق: لا يأكل تمرة، فوقعت في تمر، فأكل منه واحدة؛ فقد قال الخرقي: إنه يُمنع من وطء زوجته حتى يتيقن، وهذا يحتمل الكراهة والتحريم. ومذهب الشافعي وأبي حنيفة: أنه لا يحنث، ولا يحرم عليه وطء زوجته، واختيار أبى الخطاب، وهو الصحيح. وإن أراد به التحريم؛ فهو يشبه ما قاله هو ومالك فيمن طلَّق وشكَّ هل طلق واحدة أو ثلاثًا؟

فصل: من حلف على يمين ثم نسيها

فصل وأما من حلف على يمين ثم نسيها، وقوله: يلزمه جميع (¬1) ما يحلف به، فقول شاذ جدًّا، وليس عن مالك؛ إنما (¬2) قاله بعض أصحابه، وسائر أهل العلم على خلافه، وأنه لا يلزمه شيء حتى يتيقن، كما لو شك: هل حلف أو لا؟ فإن قيل: ينبغي أن يلزمه كفارة يمين؛ لأنها الأقل. قيل: موجَب الأيمان مختلف، فما من يمين إلا وهي مشكوك فيها، هل حلف بها أم لا؟ وعلى قول شيخنا: يلزمه كفارة يمينٍ حَسْبُ؛ لأن ذلك موجَبُ الأيمان كلها عنده. فصل وأما مَن حلف: ليفعلنّ كذا، ولم يُعَيِّن وقتًا، فعند الجمهور هو على التراخي إلى آخر عمره؛ إلا أن يعيِّن بنيّته وقتًا، فيتقيَّد به، فإن عزم على الترك بالكلية حنث حالة عَزْمه. نصّ عليه أحمد. وقال مالك: هو على حنثٍ حتى يفعل، فيُحالُ بينه وبين امرأته إلى أن يأتي بالمحلوف عليه. ¬

_ (¬1) ش: "كفارات جميع". (¬2) "إنما" ساقطة من الأصل.

فصل: حكم تعليق الطلاق بوقت يجئ لا محالة

وهذا صحيح على أصله في سدِّ الذرائع؛ فإنه إذا كان على التراخي إلى وقت الموت لم يكن لليمين فائدة، وصار لا فرق بين الحَلف وعدمه، والحملُ في ذلك على القرينة والعرف إن لم تكن نية، ولا يكاد اليمين يتجرّد عن هذه الثلاثة. وأما تعليق الطلاق بوقت يجيء لا محالة، كرأس الشهر والسنة، وآخر النهار ونحوه؛ فللفقهاء في ذلك أربعة أقوالٍ: أحدها: أنها لا تطلق بحال، وهذا مذهب ابن حزم، واختيار أبى عبد الرحمن الشافعي، وهو من أجَلِّ (¬1) أصحاب الوجوه. وحجتهم: أن الطلاق لا يقبل التعليق بالشرط، كما لا يقبله النكاح، والبيع، والإجارة، والإبراء. قالوا: والطلاق لا يقع في الحال، ولا عند مجيء الوقت. أما في الحال فلأنه لم يوقعه مُنَجَّزًا، وأما عند مجيء الوقت فلأنه لم يصدر منه طلاق حينئذٍ، ولم يتجدد سوى مجيء الزمان، ومجيء الزمان لا يكون طلاقًا. وقابل هذا القول آحْرون، وقالوا: يقع الطلاق في الحال، وهذا مذهب مالك، وجماعة من التابعين. وحجتهم: أن قالوا: لو لم يقع في الحال لحصل منه استباحة وطء موقّت، وذلك غير جائز في الشرع؛ لأن استباحة الوطء فيه لا تكون إلا مُطلقًا غير موقّت، ولهذا حَرُم نكاح المتعة؛ لدخول الأجل فيه، وكذلك وطء المكاتبة. ألا ترى أنه لو عُزي من الأجل، بأن يقول: إن جئتني بألف درهم فأنت حُرّة، لم يمنع ذلك الوطء. ¬

_ (¬1) الأصل: "وهو أجل من".

قال المُوقِعون عند الأجل: لا يجوز أن يؤخذ حكم الدوام من حكم الابتداء؛ فإن الشريعة فرّقت بينهما في مواضع كثيرة؛ فإن ابتداء عقد النكاح في الإحرام فاسد دون دوامه، وابتداء عقده على المعتدة فاسد دون دوامه، وابتداء عقده على الأمة مع الطَّوْلِ وعدم خوف العَنَت فاسد دون دوامه، وابتداء عقده على الزانية فاسد -عند أحمد ومن وافقه- دون دوامه. ونظائر ذلك [50 أ] كثيرة جدًا. قالوا: والمعنى الذي حَرُمَ لأجله نكاح المتعة: كون العقد موقّتًا من أصله، وهذا العقد مطلق، وإنما عرض له ما يبطله ويقطعه، فلا يبطل، كما لو علّق الطلاق بشرط، وهو يعلم أنها تفعله أو يفعله هو ولا بد؛ ولكن يجوز تخلفه. والقول الثالث: أنه إن كان الطلاق المعلق بمجيء الوقت المعلوم ثلاثًا وقع في الحال، وإن كان رجعيًا لم يقع قبل مجيئه. وهذا إحدى الروايتين عن الإمام أحمد، نص عليها (¬1) في رواية مُهَنَا: إذا قال: أنت طالق ثلاثًا قبل موتي بشهر: هي طالقٌ الساعةَ، كان سعيد بن المسيب والزُّهري لا يوقِّتون في الطلاق، قال مهنا: فقلت له: أفتتزوج هذه التي قال لها: أنت طالق قبل موتي بشهر؟ قال: لا؛ ولكن يمسك عن الوطء أبدًا حتى يموت، هذا لفظه. وهو في غاية الإشكال، فإنه قد أوقع عليها الطلاق منجَّزًا، فكيف يمنعها من التزويج؟ ¬

_ (¬1) كذا في الأصل، وفي بقية النسخ: "عليه".

وقوله: "يمسك عن الوطء أبدًا" يدل على أنها زوجة؛ إلا أنه لا يطؤُها، وهذا لا يكون مع وقوع الطلاق؛ فإن الطلاق إذا وقع زالت أحكام الزوجية كلها. فقد يقال: أخذ بالاحتياط فأوقع (¬1) الطلاق، ومنعها من التزويج للخلاف في ذلك، فحرَّم وطأها وهو أثر الطلاق، ومنعها من التزويج؛ لأن النكاح لم ينقطع بإجماع ولا نص. ووجه هذا: أنه إذا كان الطلاق ثلاثًا لم يحلَّ وطؤها بعد الأجل، فيصير حِلُّ الوطء موقّتًا، وإن كان رجعيًا جاز له وطؤها بعد الأجل، فلا يصير الحِلُّ موقّتًا، وهذا أفقه من القول الأول. والقول الرابع: أنها لا تطلق إلا عند مجيء الأجل، وهو قول الجمهور، وإنما تنازعوا: هل هو مُطَلِّق في الحال، ومجيء الوقت شرط لنفوذ الطلاق، كما لو وكّله في الحال، وقال: لا تتصرف إلى رأس الشهر، فمجيء رأس الشهر شرط لنفوذ تصرفه، لا لحصول الوكالة، بخلاف ما إذا قال: إذا جاء رأس الشهر فقد وكَّلتك، ولهذا يفرّق الشافعي بينهما، فيصحح الأولى، ويبطل الثانية. أو يقال: ليس مطلِّقًا في الحال، وإنما هو مطلِّق عند مجيء الأجل، فيقدَّر حينئذٍ أنه قال: أنت طالق، فيكون حصول الشرط وتقدير حصول "أنت طالق "معًا. فعلى التقدير الأول: السبب تقدم، وتأخر شرط تأثيره، وعلى التقدير ¬

_ (¬1) الأصل: "فإذا دفع" تحريف.

فصل: الرد على استدلال الموسوسين بأن من شك هل انتقض وضوؤه أم لا أنه وجب عليه الوضوء احتياطا

الثانى: نفس السبب تأخر تقديرًا إلى مجيء الوقت، وكأنه قال: إذا جاء رأس الشهر فحينئذٍ أنا قائل لك: أنت طالق، فإذا جاء رأس الشهر قُدِّر قائلًا لذلك اللفظ المتقدم. فمذهب الحنفية: أن الشرط يمتنع به وجود العلة، فإذا وجد الشرط وجدت العلة، فيصير وجودها مضافًا إلى الشرط، وقبل تحققه لم يكن المعلق عليه علة، بخلاف الوجوب؛ فإنه ثابت قبل مجيء الشرط، فإذا قال: إن دخلت الدار فأنت طالق، فالعلة للوقوع: التلفظ بالطلاق، والشرط الدخول، وتأثيره في امتناع وجود العلة قبله، فإذا وُجِدَ وُجِدَتْ. وأصحاب الشافعي يقولون: أثر الشرط في تراخي الحكم، والعلة قد وُجدت، وإنما تراخى تأثيرها إلى وقت مجيء الشرط، فالمتقدم علة قد تأخر تأثيرها إلى مجيء الشرط. فصل وأما ما أفتى به الحسن وإبراهيم ومالك -في إحدى الروايتين عنه-: أن من شكّ هل انتقض وضوؤه أم لا؟ وجب عليه أن يتوضأ احتياطًا، ولا يدخل في الصلاة بطهارة مشكوك فيها. فهذه مسألة (¬1) نزاع بين الفقهاء. وقد قال الجمهور -منهم الشافعي، وأحمد، وأبو حنيفة، وأصحابهم، ومالك في الرواية الأخرى عنه-: إنه لا يجب عليه الوضوء، وله أن يصلي بذلك الوضوء الذي تيقنه، وشك في انتقاضه. ¬

_ (¬1) م، ت: "منزلة".

واحتجوا بما رواه مسلم في "صحيحه" (¬1) عن أبى هريرة رضي الله عنه، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "إذا وجد أحدكم في بطنه شيئًا، فأشكل عليه: أخَرجَ [50 ب] منه شيء أم لا؟ فلا يخرج من المسجد، حتى يسمع صوتًا أو يجد ريحًا". وهذا يَعُمُّ المصلي وغيره. وأصحاب القول الأول يقولون: الصلاة ثابتة في ذمَّته بيقين، وهو يشك في براءة الذمة منها بهذا الوضوء، فإنه على تقدير بقائه هي صحيحة، وعلى تقدير انتقاضه باطلة، فلم يتيقن براءة ذمته، ولأنه شك في شرط الصلاة: هل هو ثابت أم لا؟ فلا يدخل فيها بالشك. والآخرون يجيبون عن هذا؛ بأنها صلاة مستندة إلى طهارة معلومة قد شك في بطلانها، فلا يلتفت إلى الشك، ولا يزيل اليقين به، كما لو شكّ: هل أصاب ثوبَه أو بدنَه نجاسة؛ فإنه لا يجب عليه غَسْلُهُ، وقد دخل في الصلاة بالشك. ففرَّقوا بينهما بفرقين: أحدهما: أن اجتناب النجاسة ليس بشرط، ولهذا لا يجب نيَّته، وإنما هو مانع، والأصل عدمه، بخلاف الوضوء، فإنه شرط، وقد شك في ثبوته، فأين هذا من هذا؟ الثاني: أنه قد كان قبل الوضوء مُحْدِثًا، وهو الأصل فيه، فإذا شك في بقائه كان ذلك رجوعًا إلى الأصل، وليس الأصل فيه النجاسة، حتى نقول: إذا شك في حصولها رجعنا إلى أصل النجاسة، فهنا يرجع إلى أصل الطهارة، وهناك يرجع إلى أصل الحدث. ¬

_ (¬1) رقم (362). وقد تقدم.

فصل: من خفي عليه موضع النجاسة

قال الآخرون: أصل الحدث قد زال بيقين الطهارة، فصارت هي الأصل، فإذا شككنا في الحدث رجعنا إليه، فأين هذا من الوسواس المذموم شرعًا وعقلًا وعرفًا؟ فصل وأما قولكم: إن من خفي عليه موضع النجاسة من الثوب وجب عليه غَسْلُهُ كله! فليس هذا من باب الوسواس، وإنما ذلك من باب ما لا يتم الواجب إلا به؛ فإنه قد وجب عليه غسل جزء من ثوبه، ولا يعلمه بعينه، ولا سبيل إلى العلم بأداء هذا الواجب إلا بغسل جميعه. فصل وأما مسألة الثياب التي اشتبه الطاهر منها بالنجس؛ فهذه مسألة نزاع: فذهب مالك في رواية عنه وأحمد إلى أنه يصلي في ثوب بعد ثوب، حتى يتيقن أنه صلى في ثوب طاهر. وقال الجمهور -ومنهم أبو حنيفة، والشافعي، ومالك في الرواية الأخرى-: يتحرّى فيصلي في واحد منها صلاة واحدة، كما يتحرى في القِبلة. وقال المُزني، وأبو ثَوْر: بل يصلي عُريانًا ولا يصلي في شيء منها؛ لأن الثوب النجس في الشرع كالمعدوم، والصلاة فيه حرام، وقد عَجَزَ عن السّتْرَة بثوب طاهر، فيسقط فرض السترة. وهذا أضعف الأقوال.

فصل: اشتباه الأواني النجسة بالطاهرة

والقول بالتحرِّي هو الراجح، سواء كثر عدد الثياب الطاهرة أو قَلَّ، وهو اختيار شيخنا. وابن عقيل يُفَصّل، فيقول: إن كثر عدد الثياب تحرّى دفعًا للمشقة، وإن قلّ عمل باليقين. قال شيخنا: اجتناب النجاسة من باب المحظور، فإذا تحرّى وغلب على ظنه طهارة ثوب منها، فصلىّ فيه، لم يُحْكَم ببطلان صلاته بالشك؛ فإن الأصل عدم النجاسة، وقد شكّ فيها في هذا الثوب، فيصلي فيه، كما لو استعار ثوبًا أو اشتراه ولا يعلم حاله. وقول أبي ثور في غاية الفساد؛ فإنه لو تَيقّن نجاسة الثوب لكانت صلاته فيه خيرًا وأحبَّ إلى الله من صلاته مُتجرِّدًا، بادِيَ السوءَة للناظرين. وبكل حال فليس هذا من الوسواس المذموم. فصل وأما مسألة اشتباه الأواني؛ فكذلك ليست من باب الوسواس. وقد اختلف فيها الفقهاءُ اختلافًا متباينًا. فقال أحمد: يتيمم ويتركها، وقال مَرّةً: يريقها ويتيمم؛ ليكون عادمًا للماء الطَّهور بيقين. وقال أبو حنيفة: إن كان عدد الأواني الطاهرة أكثر تحرّى، وإن تساوت أو كثرت النجسة لم يتحرَّ. وهذا اختيار أبي بكر، وابن شاقْلا، والنّجّاد من أصحاب أحمد. وقال الشافعي، وبعض المالكية: يتحرى بكل حال.

فصل: إذا اشتبهت القبلة على المصلي

وقال عبد الملك بن الماجِشُون: يتوضأ بكل واحد منها وضوءًا ويصلي. وقال محمد بن مَسْلَمة من المالكية: يتوضأ من أحدها ويصلي، ثم يغسل ما [51 أ] أصابه منه، ثم يتوضأ من الآخر ويصلي. وقالت طائفة - منهم شيخنا -: يتوضأ من أيها شاء، بناءً على أن الماء لا ينجُس إلا بالتغير، فتستحيل المسألة. وليس هذا موضع ذكر حُجج هذه الأقوال وترجيح راجحها. فصل وأما إذا اشتبهت عليه القِبْلة؛ فالذي عليه أهل العلم كلهم: أنه يجتهد ويصلي صلاة واحدة. وشذّ بعض الناس، فقال: يصلي أربع صلوات إلى أربع جهات، وهذا قول شاذ مخالف للسنة، وإنما التزمه قائله في مسألة اشتباه الثياب، وهذا ونحوه من وجوه الالتزامات (¬1) عند المضايق طردًا لدليل المستدل: مما لا يُلتفت إليها، ولا يُعوَّل عليها. ونظيره التزام من التزم اشتراط النية لإزالة النجاسة، لمّا ألزمهم أصحاب أبى حنيفة بذلك، قال بعضهم: نقول به. ونظيره إدراك الجمعة وا لجماعة بإدراك تكبيرة مع الإمام، لمّا ألزمت الحنفية من نازعها في ذلك بالتسوية بين الجمعة والجماعة التزمه بعضهم، وقال: نقول به. ¬

_ (¬1) م: "الالزامات".

فصل: من نسي صلاة لا يعلم عينها

فصل وأما من ترك صلاةً من يومٍ لا يعلم عينَها؛ فاختلف الفقهاء في هذه المسألة على أقوال: أحدها: أنه يلزمه خمس صلوات، نص عليه أحمد، وهو قول مالك والشافعي وأبي حنيفة وإسحاق -؛ لأنه لا سبيل له إلى العلم ببراءة ذمته يقينًا إلا بذلك. القول الثاني: أنه يصلي رباعية، ينوي بها ما عليه، ويجلس عَقِيبَ الثانية والثالثة والرابعة، وهذا قول الأوزاعي، وزُفَر بن الهُذَيل، ومحمد بن مقاتل من الحنفية؛ بناء على أنه يخرج من الصلاة بدون الصلاة على النبي - صلى الله عليه وسلم -، وبدون السلام، وأن نية الفرضيّة تكفي من غير تعيين، كما في الزكاة (¬1)، ولا يضرّ جلوسه عَقِيبَ الثالثة إن كانت المنسية رباعية؛ لأنه زيادة من جنس الصلاة، لا على وجه العَمْدِ. القول الثالث: أنه يجزئه أن يصلي فجرًا ومغربًا، ورباعية ينوي ما عليه؛ وهذا قول سفيان الثوري، ومحمد بن الحسن. ويُخَرَّج على المذهب إذا قلنا بأن نية المكتوبة تكفي من غير تعيين. وقد قال عبد الله بن أحمد: سمعت أبي يُسأل: ما تقول في رجل ذكر أن عليه صلاة لم يعيِّنها، فصلى ركعتين وجلس فتشهد، ونوى بها الغَداة ولم يسلِّم، ثم قام فأتى بركعة وجلس وتشهد ونوى بها المغرب، وقام ولم يسلِّم، وأتى برابعة ثم جلس، فتشهد ونوى بها ظهرًا أو عصرًا أو عشاء الآخرة، ثم ¬

_ (¬1) م: "الصلاة"، وهو خطأ.

سلَّم؟ فقال له أبي: "هذا يجزئه، ويقضي عنه على مذهب العراقيين؛ لأنهم اعتمدوا في التشهُّد على خبر ابن مسعود: "إذا قلت هذا فقد تمت صلاتك" (¬1)، وأما على مذهب صاحبنا أبي عبد الله الشافعي ومذهبنا؛ لا يجزئ عنه؛ لأنا نذهب إلى قوله: "تحريمها التكبير، وتحليلها التسليم" (¬2)، ¬

_ (¬1) رواه الطيالسي (275)، وابن الجعد (2593)، وأحمد (1/ 422)، والدارمي (1341)، وأبو داود (972)، والطحاوي في معاني الآثار (1519)، وغيرهم عن ابن مسعود أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أخذ بيده وعلمه التشهد وقال: "إذا قلت هذا فقد قضيت صلاتك، إن شئت أن تقوم فقم، وإن شئت أن تقعد فاقعد"، وصححه ابن راهويه كما في فتح الباري لابن رجب (5/ 188)، وبيَّن ابن حبان (1962) والدارقطني (1/ 354 - 352) والبيهقي في الكبرى (2/ 174 - 175) أن هذا من كلام ابن مسعود أدرجه بعض الرواة في كلام النبي - صلى الله عليه وسلم -، وكذلك قاله أبو علي النيسابوري وأبو بكر الخطيب وغيرهم من الحفاظ كما في فتح الباري (5/ 188)، وقال النووي في المجموع (3/ 481): "زيادة مدرجة ليست من كلام النبي - صلى الله عليه وسلم - باتفاق الحفاظ"، وقال ابن القيم في جلاء الأفهام (ص 58): "الموقوف أشبه وأصحّ"، وهو مخرج في صحيح سنن أبي داود (891). (¬2) رواه الشافعي في الأم (1/ 100)، وعبد الرزاق (2/ 72)، وابن أبي شيبة (1/ 208)، وأحمد (1/ 123، 129)، والدارمي (687)، وأبو داود (61، 618)، والتزمذي (3)، وابن ماجه (275)، والبزار (633)، وأبو يعلى (616)، وغيرهم من طرق عن الثوري عن عبد الله بن محمد بن عقيل عن ابن الحنفية عن علي مرفوعًا، قال الترمذي: "هذا الحديث أصح شيء في هذا الباب وأحسن، وعبد الله بن محمد بن عقيل صدوق، وقد تكلم فيه بعض أهل العلم من قبل حفظه"، وقال العقيلي في الضعفاء (2/ 137، 230): "في إسناده لين"، وصححه ابن السكن كما في البدر المنير (3/ 449)، وابن العربي في العارضة (1/ 36)، وحسنه البغوي في شرح السنة (558)، والضياء في المختارة (718، 719)، والنووي في الخلاصة =

فصل: من شك في صلاته، ومن شك في حل صيده

ونذهب إلى الصلاة على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فيها. هذا لفظه. قال أبو البركات: فهذا من أحمد يبيِّن (¬1) أن قضاء الواحدة لا يجزئه؛ لتعذُّر التحليل المعتبر، لا لفَوْت نية التعيين، فإذا قضى ثلاثًا -كما قال الثوري- اندفع المفسد. وبكل حالٍ؛ فليس في هذا راحة للموسوسين. فصل وأما من شك في صلاته فإنه يبني على اليقين؛ لأنه لا تبرأ ذمته منه بالشك. وأما تحريم أكل الصيد إذا شك صاحبه: هل مات بالجرح أو بالماء؟ وتحريم أكله إذا خالط كلابه كلبًا من غيره؛ فهو الذي أمر به رسول الله - صلى الله عليه وسلم -؛ لأنه قد شك في سبب الحلّ، والأصلُ في الحيوان التحريم، فلا يُستباح بالشك في شرط حله، بخلاف ما إذا كان الأصل فيه الحل؛ فإنه لا يحرم بالشك في سبب تحريمه، كما لو اشترى ماءً أو طعامًا أو ثوبًا لا يعلم حاله جاز شربه وأكله ولبسه، وإن شك هل ينجس أم لا؟ فإن الشرط متى شقّ اعتباره، أو كان الأصل عدم المانع، لم يُلتفت إلى ذلك. فالأول: كما إذا أُتي بلحم لا يعلم هل سَمّى عليه ذابحه أم لا؟ وهل ذكّاه في الحلق واللَّبّة، واستوفى شروط الذكاة أم لا؟ لم يحرم أكله؛ لمشقة ¬

_ = (1551)، وابن حجر في نتائج الأفكار (2/ 230)، وزكريا الأنصاري في أسنى المطالب (1/ 166)، وهو في صحيح سنن أبي داود (55). وفي الباب عن أبي سعيد الخدري وعبد الله بن زيد وابن عباس وأنس رضي الله عنهم. (¬1) م: "تلوه".

فصل: الرد على ما استدل به الموسوسون من غسل ابن عمر وأبي هريرة داخل العينين

التفتيش عن ذلك. وقد قالت عائشة رضي الله عنها: يا رسول الله! إن ناسًا من الأعراب يأتوننا باللحم، لا ندري أذكروا اسم الله عليه أم لا؟ فقال: "سمُّوا أنتم وكلوا" (¬1)، مع أنه قد نُهي عن أكل ما لم يُذكر عليه اسم الله. والثاني: كما ذكرنا من الماء والطعام واللباس؛ فإن الأصل فيها الطهارة، وقد شك في وجود المنجِّس، فلا يلتفت إليه. فصل وأما ما ذكرتموه عن ابن عمر وأبى هريرة رضي الله عنهما: فشيء تفرَّدا به، دون الصحابة، ولم يوافق ابنَ عمر على ذلك أحدٌ منهم، وكان ابن عمر يقول: "إن بي وسواسًا فلا تقتدوا بي" (¬2). وظاهر مذهب الشافعي وأحمد: أن غسل داخل العينين في الوضوء لا يُستحب، وإن أمِنَ الضررَ؛ لأنه لم يُنقل عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أنه فعله قط، ولا أمر به، وقد نقل وضوءه جماعة كعثمان (¬3)، وعلي (¬4)، وعبد الله بن زيد (¬5)، ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري (2557) عن عائشة. (¬2) لم أقف عليه بهذا اللفظ، وروى ابن المنذر في الأوسط (1/ 440) عنه أنه قال: "إني لمولع بغسل قدمي، فلا تقتدوا بي". وروى ابن أبي شيبة (7/ 117) - ومن طريقه أبو نعيم في الحلية (1/ 310) - عن عبد الله بن نمير عن عاصم عمَّن حدَّثه قال: كان ابن عمر إذا رآه أحدٌ ظن أن به شيئًا من تتبُّعه آثار النبي - صلى الله عليه وسلم -. (¬3) أخرجه البخاري (159)، ومسلم (226). (¬4) أخرجه البخاري (5616)، (¬5) أخرجه البخاري (185)، ومسلم (235).

ذكر الخلاف في الغرة والتحجيل

والرُّبيع بنت مُعَوِّذ (¬1)، وغيرهم، فلم يقل أحد منهم: إنه غسل داخل عينيه. وفى وجوبه في الجنابة روايتان عن أحمد، أصحهما أنه لا يجب، وهو قول الجمهور. وعلى هذا فلا يجب غسلهما من النجاسة وأولى؛ لأن المضرَّة به أغلب؛ لزيادة التكرار والمعالجة. وقالت الشافعية والحنفية: يجب؛ لأن إصابة النجاسة لهما تَنْدُر، فلا يشق غسلهما منها. وغلا بعض الفقهاء من أصحاب أحمد، فأوجب غسلهما في الوضوء، وهو قولٌ لا يُلتفت إليه، ولا يُعرَّج عليه. والصحيح أنه لا يجب غسلهما في وضوء، ولا جنابة، ولا نجاسة. وأما فعل أبى هريرة رضي الله عنه: فهو شيء تأوّله، وخالفه فيه غيره، وكانوا ينكرونه عليه، وهذه المسألة تُلقّب بمسألة "إطالة الغرة"، وإن كانت الغُرَّة في الوجه خاصة. وقد اختلف الفقهاء في ذلك، وفيها روايتان عن الإمام أحمد: إحداهما: تُستحب إطالتها، وبها قال أبو حنيفة، والشافعي، واختارها أبو البركات ابن تيمية وغيره. والثانية: لا تُستحب، وهي مذهب مالك، وهى اختيار شيخنا أبي العباس. ¬

_ (¬1) أخرجه أبو داود (126)، والترمذي (33)، وابن ماجه (390).

والمستحبون يحتجون بحديث أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "أنتم الغُرّ المحَجّلون يوم القيامة من أثر الوضوء، فمن استطاع منكم فليُطِلْ غُرّته وتَحْجيله". متفق عليه (¬1)، ولأن الحِلْية تبلغ من المؤمن حيث يبلغ الوضوء (¬2). قال النافون للاستحباب: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "إن الله حَدَّ حدودًا فلا تعتدوها" (¬3)، والله سبحانه قد حدّ المرفقين والكعبين، فلا ينبغي تعدِّيهما، ولأن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لم يَنقُل مَنْ نقل عنه وضوءه أنه تعدّاهما، ولأن ذلك أصل الوسواس ومادّته، ولأن فاعله إنما يفعله قُربةً وعبادةً، والعبادات مبناها ¬

_ (¬1) البخاري (136)، ومسلم (246). وقوله: "فمن استطاع منكم فليطل غرته وتحجيله" ليس مرفوعًا، بل هو مدرج من قولي أبي هريرة، وسيأتي كلام المؤلف عليه. (¬2) أخرجه مسلم (250) عن أبي هريرة. (¬3) جزء من حديث رواه مسدّد وابن أبي شيبة كما في إتحاف الخيرة (778)، والطبراني في الكبير (22/ 221)، والدارقطني (4/ 183)، والحاكم (7114)، وأبو نعيم في الحلية (9/ 17)، والبيهقي في الكبرى (10/ 12)، وغيرهم من طريق مكحول عن أبي ثعلبة الخشني رضي الله عنه، وحسنه أبو بكر السمعاني كما في جامع العلوم والحكم (ص 276)، والنووي في الأربعين (30) وفي غيره، وصححه ابن القيم في الإعلام (1/ 249)، وابن كثير في تفسيره (1/ 621)، والبوصيري، والهيتمي في الزواجر (1/ 21)، لكن أعِلَّ بالوقف والقطع والانقطاع، قال ابن عساكر في معجمه (2/ 85): "هذا حديث غريب، ومكحول لم يسمع من أبي ثعلبة"، وقال الذهبي في المهذب (8/ 3976): "موقوف ومنقطع؛ لم يلق مكحول أبا ثعلبة"، وقال ابن حجر في المطالب العالية (2934): "رجاله ثقات إلا أنه منقطع". وفي الباب عن أبي الدرداء وابن عباس وسلمان رضي الله عنهم.

فصل: الرد على قول الموسوسين: الوسواس خير من تمشية الأمر والحال

على الاتباع، ولأن ذلك ذريعة إلى الغَسْلِ إلى الفخذ، وإلى الكتف، وهذا مما يُعلم أن النبي - صلى الله عليه وسلم - وأصحابَه لم يفعلوه ولا مرة واحدة، ولأن هذا من الغلُوِّ، وقد قال - صلى الله عليه وسلم -: "إياكم والغلوّ في الدين" (¬1)، ولأنه تعمُّق، وهو منهي عنه، ولأنه عضو من أعضاء الطهارة، فكُرِهَ مجاوزته كالوجه. وأما الحديث فراويه عن أبي هريرة عنه نُعَيْمٌ المُجْمِرُ، وقد قال: "لا أدري؛ قوله: "فمن استطاع منكم أن يطيل غرَّته فليفعل" من قول رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، أو من قول أبي هريرة؟ ". روى ذلك عنه الإمام أحمد في "المسند" (¬2). وأما حديث الحلية، فالحلية (¬3) المزيِّنة ما كان في مَحَلِّهِ، فإذا جاوز محلَّه لم يكن زينة. فصل وأما قولكم: إن الوسواس خير مما عليه أهل التفريط والاسترسال، وتمشية الأمر كيف اتفق، إلى آخره. فلعمر الله إنهما لطرفا إفراطٍ وتفريطٍ، وغلو وتقصير، وزيادة [52 أ] ونقصان، وقد نهى الله سبحانه عن الأمرين في غير موضع؛ كقوله: {وَلَا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَى عُنُقِكَ وَلَا تَبْسُطْهَا كُلَّ الْبَسْطِ} [الإسراء: 29]، وقوله: {وَآتِ ذَا الْقُرْبَى حَقَّهُ وَالْمِسْكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَلَا تُبَذِّرْ تَبْذِيرًا} [الإسراء: 26]، وقوله: ¬

_ (¬1) تقدم تخريجه. (¬2) مسند أحمد (2/ 334، 523) من طريق فليح بن سليمان عن نعيم المجمر. (¬3) "فالحلية" ساقطة من م.

فصل: من مكايد الشيطان: الفتنة بالقبور وأهلها

{وَالَّذِينَ إِذَا أَنْفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَامًا} [الفرقان: 67]، وقوله: {وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلَا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ} [الأعراف: 31]. فدين الله بين الغالي فيه والجافي عنه، وخير الناس النّمَط الأوسط، الذين ارتفعوا عن تقصير المفرِّطين، ولم يلحقوا بغُلُوّ المعتدين، وقد جعل الله سبحانه هذه الأمة وَسَطًا، وهى الخيار العدل، لتوسطها بين الطرفين المذمومين، والعدلُ هو الوسط بين طرفي الجَوْرِ والتفريط، والآفاتُ إنما تتطرّق إلى الأطراف، والأوساط مَحْميَّة بأطرافها، فخيار الأمور أوساطها. قال الشاعر: كانَتْ هِيَ الوَسَط المَحْمِيَّ فَاكْتَنَفَتْ ... بِهَا الحَوَادِثُ حَتَّى أَصبَحَتْ طَرَفَا (¬1) فصل ومن أعظم مكايده التي كاد بها أكثر الناس، وما نجا منها إلا من لم يُرد الله فتنته: ما أوحاه قديمًا وحديثا إلى حزبه وأوليائه من الفتنة بالقبور، حتى آل الأمر فيها إلى أن عبد أربابهُا من دون الله، وعُبِدتْ قبورهم، واتُخِذت أوثانا، وبُنيت عليها الهياكل، وصُوّرت صورُ أربابها فيها، ثم جعلت تلك الصور أجسادًا لها ظلٌّ، ثم جُعلت أصنامًا، وعُبدت مع الله. وكان أول هذا الداء العظيم في قوم نوح، كما أخبر سبحانه عنهم في كتابه، حيث يقول: {قَالَ نُوحٌ رَبِّ إِنَّهُمْ عَصَوْنِي وَاتَّبَعُوا مَنْ لَمْ يَزِدْهُ مَالُهُ وَوَلَدُهُ إِلَّا خَسَارًا (21) وَمَكَرُوا مَكْرًا كُبَّارًا (22) وَقَالُوا لَا تَذَرُنَّ آلِهَتَكُمْ وَلَا تَذَرُنَّ وَدًّا وَلَا سُوَاعًا وَلَا ¬

_ (¬1) كذا ورد البيت في كتاب "الصلاة" للمؤلف (ص 396). وهو لأبي تمام في ديوانه (2/ 374) مع اختلاف في الرواية.

أصل الشرك الغلو في الصالحين وآثارهم وقبورهم

{يَغُوثَ وَيَعُوقَ وَنَسْرًا (23) وَقَدْ أَضَلُّوا كَثِيرًا} [نوح: 21 - 24]. قال ابن جرير (¬1): "وكان من خبر هؤلاء فيما بلغنا: ما حدثنا به ابن حُميد، حدثنا مِهران، عن سفيان، عن موسى، عن محمد بن قيس: أن يَغوثَ ويَعوق ونسرًا كانوا قومًا صالحين من بني آدم، وكان لهم أتباع يقتدون بهم، فلما ماتوا قال أصحابهم الذين كانوا يقتدون بهم: لو صوّرناهم كان أشوقَ لنا إلى العبادة إذا ذكرْناهم، فصوّروهم، فلما ماتوا وجاء آخرون دبَّ إليهم إبليس، فقال: إنما كانوا يعبدونهم، وبهم يُسقَون المطرَ، فعبدوهم". قال سفيان، عن أبيه، عن عِكْرمة قال: "كان بين آدم ونوح عليهما السلام عشرة قرون، كلُّهم على الإسلام" (¬2). حدثنا ابن عبد الأعلى، حدثنا عبد الرزاق (¬3)، عن مَعْمر، عن قتادة؛ في هذه الآية، قال: "كانت آلهةً يعبدها قوم نوح، ثم عبدتها العرب بعد ذلك، فكان وَدٌّ لكلبٍ بدُوْمَة الجَنْدَل، وكان سُواعٌ لهُذَيل، وكان يَغوث لبني غُطَيف من مُراد، وكان يَعوقُ لهَمْدَان، وكان نَسر لذي الكَلاع من حِمْيَر" (¬4). ¬

_ (¬1) تفسير الطبري (23/ 639)، وفي سنده محمد بن حميد حافظٌ ضعيف، ومهران بن أبي عمر عنده غلط كثير في حديث سفيان الثوري. (¬2) تفسير الطبري (23/ 639) عن ابن حميد عن مهران عن سفيان به، ورواه أيضًا ابن سعد في الطبقات (1/ 42، 53) وابن عساكر في تاريخ دمشق (1/ 32، 62/ 242) عن قبيصة بن عقبة عن سفيان الثوري به. (¬3) "حدثنا عبد الرزاق" ساقطة من الأصل. (¬4) لم أقف عليه بهذا الإسناد عند الطبري، وهو إنما يروي تفسير عبد الرزاق في كتابه عن الحسن بن يحيى، وكثيرًا ما يقول: "حدثنا محمد بن عبد الأعلى حدثنا محمد بن ثور عن معمر - وحدثنا الحسن بن يحيى حدثنا عبد الرزاق أخبرنا معمر- =

وقال الوالِبي، عن ابن عباس: "هذه أصنام كانت تُعْبَدُ في زمان نوح" (¬1). وقال البخاري (¬2): حدثنا إبراهيم بن موسى: حدثنا هشام، عن ابن جُريج قال: قال عطاء، عن ابن عباس: "صارت الأوثان التي كانت في قوم نوح في العرب بَعْدُ، أما وَدٌّ فكانت لكَلْبٍ بدومة الجندل، وأما سُواع فكانت لهُذَيل، وأما يَغُوث فكانت لمراد، ثم لبني غُطيف بالجُرْف عند سبأ، وأما يعوق فكانت لهَمْدان، وأما نَسْر فكانت لحِمْيَر لآل ذي الكَلاع؛ أسماء رجال صالحين من قوم نوح، فلما هلكوا أوحى الشيطانُ إلى قومهم: أن انصبُوا إلى مجالسهم التي كانوا يجلسون أنصابًا، وسمُّوها بأسمائهم، ففعلوا، فلم تُعَبد (¬3)، حتى إذا هلك أولئك ونُسي العلمُ عُبِدت". وقال غير واحد من السلف (¬4): "كان هؤلاء قومًا صالحين في قوم نوح عليه السلام، فلما ماتوا عكفوا على قبورهم،. ثم صوّروا تماثيلهم، ثم طال عليهم الأمَدُ فعبدوهم". ¬

_ = عن قتادة". وقد روى هذا الأثر في تفسيره (23/ 640) عن ابن عبد الأعلى عن ابن ثور عن معمر عن قتادة، ورواه أيضًا (23/ 639) عن بشر عن يزيد عن سعيد عن قتادة، ورواه عبد الرزاق في تفسيره (3/ 320) عن معمر عن قتادة. (¬1) لم أقف عليه من هذا الطريق، ورواه ابن جرير في تفسيره (23/ 640) من طريق معاوية بن صالح عن علي بن أبي طلحة عن ابن عباس، وعزاه في الدر المنثور (8/ 293) لابن المنذر. (¬2) برقم (4920). (¬3) الأصل: "يعبدوا". (¬4) انظر: الدر المنثور (14/ 713) ط. التركي.

فهؤلاء جمعوا بين الفتنتين: فتنة القبور، وفتنة التماثيل، [52 ب] وهما الفتنتان اللتان أشار إليهما رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في الحديث المتفق على صحته (¬1) عن عائشة رضي الله عنها: أن أمّ سَلَمَة رضي الله عنها ذكرت لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - كَنِيسة رأتها بأرضِ الحبشة يقال لها: ماريةُ، فذكرتْ له ما رأت فيها من الصور، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "أولئك قوم إذا مات فيهم العبد الصالح أو الرجل الصالح؛ بَنَوْا على قَبره مسْجدًا، وصوّروا فيه تلك الصور، أولئك شرار الخلق عند الله". وفى لفظ آخر في "الصحيحين" (¬2): أن أم حبيبة وأم سَلمة ذكرتا كنيسة رأينها. فجمع في هذا الحديث بين التماثيل والقبور. وهذا كان سبب عبادة اللات. فروى ابن جرير بإسناده عن سفيان، عن منصور، عن مجاهد: {أَفَرَأَيْتُمُ اللَّاتَ وَالْعُزَّى} [النجم: 19]، قال: "كان يَلُتّ لهم السّويق، فمات، فعكفوا على قبره" (¬3). وكذلك قال أبو الجَوْزاء عن ابن عباس: "كان يلتّ السويق للحاجّ" (¬4). ¬

_ (¬1) البخاري (434)، ومسلم (528). (¬2) البخاري (3873)، ومسلم (528). (¬3) تفسير الطبري (22/ 523) عن عبد الر حمن ومؤمّل ومهران -فرَّقهم- عن سفيان به، ورواه عبد بن حميد في تفسيره -كما في مجموع الفتاوى (27/ 357) - عن قبيصة عن سفيان به ولفظه: "فمات فاتخذ قبره مصلى"، وعزاه في الدر المنثور (7/ 653) لابن المنذر. (¬4) رواه البخاري (4859).

فقد رأيتَ أن سبب عبادة يغوث ويعوق ونَسْر واللات إنما كانت من تعظيم قبورهم، ثم اتخذوا لها التماثيل وعبدوها كما أشار إليه النبي - صلى الله عليه وسلم -. قال شيخنا (¬1): وهذه العلة التي لأجلها نهى الشارع عن اتخاذ المساجد على القبور؛ هي التي أوقعت كثيرًا من الأُمم إما في الشرك الأكبر، أو فيما دونه من الشرك؛ فإن النفوس قد أشركت بتماثيل القوم الصالحين، وتماثيل يزعمون أنه طلاسم للكواكب ونحو ذلك، فإن الشّرك بقبر الرجل الذي يُعتقد صلاحه أقربُ إلى النفوس من الشرك بخشَبة أو حَجَر، ولهذا تجَد أهل الشرك كثيرًا يتضرعون عندها، ويخشعون ويخضعون، ويعبدونهم بقلوبهم عبادةً لا يفعلونها في بيوت الله، ولا وقت السَّحَر، ومنهم من يسجد لها، وأكثرهم يرجون من بركة الصلاة عندها والدعاء ما لا يرجونه في المساجد. فلأجل هذه المفسدة حَسَم النبي - صلى الله عليه وسلم - مادتها، حتى نهى عن الصلاة في المقبرة مطلقًا، وإن لم يقصد المصلي بَرَكة البقعة بصلاته، كما يقصد بصلاته بَرَكة المساجد، كما نهى عن الصلاة وقت طلوع الشمس وغروبها؛ لأنها أوقات يقصد المشركون الصلاة فيها للشمس، فنهى أمته عن الصلاة حينئذٍ، وإن لم يقصد المصلي ما قصده المشركون، سدًّا للذريعة. قال: وأما إذا قصد الرجل الصلاة عند القبور، متبرِّكًا بالصلاة في تلك البُقعة، فهذا عين المحادّة لله ورسوله، والمخالفةِ لدينه، وابتداع دينٍ لم يأذن به الله؛ فإن المسلمين قد أجمعوا على ما علموه بالاضطرار من دين رسول ¬

_ (¬1) انظر: اقتضاء الصراط المستقيم (2/ 192 وما بعدها).

نهي النبي - صلى الله عليه وسلم - عن اتخاذ القبور مساجد، وذكر الأحاديث في ذلك

الله - صلى الله عليه وسلم -: أن الصلاة عند القبور منهيّ عنها، وأنه لَعن من اتخذها مساجد، فمِنْ أعظم المحدثات وأسباب الشّرك: الصلاةُ عندها، واتخاذها مساجد، وبناء المساجد عليها، فقد تواترت النصوص عن النبي - صلى الله عليه وسلم - بالنهي عن ذلك والتغليظ فيه، فقد صرّح عامة الطوائف بالنهي عن بناء المساجد عليها، متابعةً منهم للسنة الصحيحة الصريحة. وصرَّح أصحاب أحمد وغيرهم من أصحاب مالك والشافعي بتحريم ذلك، وطائفة أطلقت الكراهة، والذي ينبغي أن يحمل على كراهة التحريم؛ إحسانًا للظن بالعلماء، وأن لا يُظَنّ بهم أن يجُوّزوا فعل ما تواتر عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لعنُ فاعله، والنهي عنه. ففي "صحيح مسلم" (¬1) عن جُندَب بن عبد الله البَجلي، قال: سمعت النبي - صلى الله عليه وسلم - قبل أن يموت بخمس وهو يقول: "إني أبرأُ إلى الله أن يكون لي منكم خليل؛ فإن الله قد اتخذني خليلًا كما اتخذ إبراهيم خليلًا، ولو كنت مُتخذًا من أمتي خليلًا لاتخذتُ أبا بكر خليلًا، ألا وإن مَنْ كان قبلكم كانوا يتخذون قبور أنبيائهم مساجد؛ [53 أ] ألا فلا تتخذوا القبور مساجد؛ فإني أنهاكم عن ذلك". وعن عائشة وعبد الله بن عباس، قالا: لما نُزِل برسول الله - صلى الله عليه وسلم - طَفِقَ يَطرحُ خَمِيصةً له على وجهه، فإذا اغْتَمّ كشفها، فقال وهو كذلك: "لعنةُ الله على اليهود والنصارى، اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد"؛ يُحذّر ما صنعوا. متفق عليه (¬2). ¬

_ (¬1) برقم (532). (¬2) البخاري (435)، ومسلم (531).

وفى "الصحيحين" (¬1) أيضا عن أبي هريرة رضي الله عنه: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "قاتَل الله اليهود! اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد". وفى رواية مسلم (¬2): "لعن الله اليهود والنصارى! اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد". فقد نهى عن اتخاذ القبور مساجد في آخر حياته، ثم إنه لعن وهو في السياق مَنْ فعل ذلك من أهل الكتاب؛ ليُحذِّر أمته أن يفعلوا ذلك. قالت عائشة رضي الله عنها: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في مرضه الذي لم يَقُمْ منه: "لعن الله اليهود والنصارى! اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد"، ولولا ذلك لأُبْرِزَ قبرهُ؛ غير أنه خُشي أن يُتخذ مسجدًا. متفق عليه (¬3). وقولها: "خُشيَ" هو بضم الخاء؛ تعليلًا لمنع إبراز قبره. وروى الإمام أحمد في "مسنده" (¬4) بإسناد جيد عن عبد الله بن مسعود ¬

_ (¬1) البخاري (437)، ومسلم (530). (¬2) مسلم (530). (¬3) البخاري (1330)، ومسلم (529). (¬4) مسند أحمد (1/ 405، 435) من طريق زائدة عن عاصم بن أبي النجود عن شقيق عن ابن مسعود، وبهذا السند رواه ابن أبي شيبة (3/ 30)، والبزار (1724)، وأبو يعلى (5316)، والشاشي (528)، والطبراني في الكبير (10/ 188)، وغيرهم، وصححه ابن خزيمة (789)، وابن حبان (2325، 6847)، وابن تيمية في شرح العمدة (4/ 428)، وحسنه في الاقتضاء (ص 330)، وقال الذهبي في السير (9/ 401): "هذا حديث حسن قوي الإسناد"، وحسنه الهيثمي في المجمع (2/ 143) وقال (8/ 26): "عاصم ثقة وفيه ضعف، وبقية رجاله رجال الصحيح"، وحسنه الشوكاني في شرح الصدور (ص 53)، والشنقيطي في الأضواء (2/ 296). =

رضي الله عنه، أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "إن من شِرار الناس من تُدرِكهم الساعة وهم أحياءٌ، والذين يتخذون القبور مساجد". وعن زيد بن ثابت، أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "لعن الله اليهود! اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد". رواه الإمام أحمد (¬1). وعن ابن عباس، قال: "لعن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - زائرات القبور، والمتخذين عليها المساجد والسُّرُج". رواه الإمام أحمد، وأهل "السنن" (¬2). ¬

_ = وله طريق أخرى، فرواه أحمد (1/ 454) والبزار (1781) من طريق الأعمش عن إبراهيم عن عبيدة السلماني عن ابن مسعود، وبمجموع الطريقين صححه الألباني في تحذير الساجد (ص 23). وفي الباب عن أبي عبيدة بن الجراح وعلي وعمران بن حصين رضي الله عنهم. (¬1) مسند أحمد (5/ 184، 186) من طريق عقبة بن عبد الرحمن عن محمد بن عبد الرحمن بن ثوبان عن زيد به، وبهذا الإسناد رواه عبد بن حميد (244)، والطبراني في الكبير (5/ 150)، قال الهيثمي في المجمع (2/ 143): "رجاله موثقون"؛ وذلك لأن عقبة شيخ مجهول ذكره ابن حبان في الثقات، إلا أنّ الحديث صحيح لشواهده الكثيرة، ففي الباب عن ابن عباس وعائشة وأبي هريرة وأسامة وعلي وأبي بكر وعن عمر بن عبد العزيز والحسن بن الحسن وعيد الله بن عبد الله وعمرو بن دينار مرسلًا. (¬2) مسند أحمد (1/ 229، 287، 324، 337)، سنن أبي داود (3238)، سنن الترمذي (320)، سنن النسائي (2043)، سنن ابن ماجه (1575) مقتصِرا على لعن زوارات القبور، ورواه أيضا الطيالسي (2733)، وابن الجعد (1500)، وابن أبي شيبة (2/ 151، 3/ 35)، وغيرهم من طريق محمد بن جحادة عن أبي صالح عن ابن عباس، قال الترمذي: "حديث حسن"، وصححه ابن السكن كما في تحفة المحتاج (2/ 32)، وابن حبان (3179، 3185)، والحاكم (1384)، وابن دقيق العيد في الإلمام (574)، وحسنه البغوي في شرح السنة (510)، وقد اختُلف في أبي صالح =

وفي "صحيح البخاري" (¬1): أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه رأى أنس بن مالك يصلي عند قبر، فقال: القبرَ، القبرَ. وهذا يدل على أنه كان من المُسْتَقرِّ عند الصحابة رضي الله عنهم: ما نهاهم عنه نبيهم من الصلاة عند القبور، وفعلُ أنس لا يدل على اعتقاد جوازه؛ فإنه لعله لم يَرَهُ، أو لم يعلم أنه قبر، أو ذَهل عنه، فلما نبَّهه عمر تنبَّه. وقال أبو سعيد الخدري رضي الله تعالى عنه: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - "الأرضُ كلها مسجد إلا المقبرة والحمَّام" رواه الإمام أحمد، وأهل "السنن الأربعة"، وصححه أبو حاتم بن حبان (¬2). ¬

_ = من هو؟ فقيل: هو السمان، قال ابن رجب في الفتح (2/ 403): "وفيه بُعد"، وأغرب ابن حبان فقال: "اسمه ميزان بصريّ ثقة"، والجمهور على أنه باذان أو باذام مولى أم هانئ، قال ابن رجب: "ضعفه الإمام أحمد وقال: لم يصح عندي حديثه هذا، وقال مسلم في كتاب التفصيل: هذا الحديث ليس بثابت، وأبو صالح باذام قد اتقى الناس حديثه، ولا يثبت له سماع من ابن عباس"، وهو في السلسلة الضعيفة (225). وفي الباب عن حسان بن ثابت وأبي هريرة رضي الله عنهما. (¬1) هذا الأثر معلّق في أبواب المساجد من صحيح البخاري، باب: هل تُنبش قبور مشركي الجاهلية ويُتخذ مكانها مساجد؟ ورواه عبد الرزاق (1/ 404) - ومن طريقه ابن المنذر في الأوسط (2/ 186) - عن معمر عن ثابت عن أنس، صححه الألباني في تحذير الساجد (ص 35). ورواه أيضًا ابن أبي شيبة (2/ 153) وابن منيع -كما في المطالب العالية (3/ 417) - والبيهقي في الكبرى (2/ 435) من طرق عن حميد عن أنس قال: قصت يوما أصلي وبين يديّ قبر لا أشعر به، فناداني عمر: القبر القبر. ورواه ابن أبي شيبة وابن منيع -كما في المطالب العالية - عن هشيم عن منصور عن الحسن عن أنس عن عمر، قال ابن حجر: "هذا خبر صحيح". (¬2) تقدم تخريجه، وقد قال المصنف في عزوه فيما تقدّم: "رواه أهل السنن كلهم إلا =

الحكمة من نهي النبي - صلى الله عليه وسلم - من اتخاذ القبور مساجد والصلاة فيها وعندها

وأبلغ من هذا: أنه نهى عن الصلاة إلى القبر، فلا يكون القبر بين المصلي وبين القِبلة. فروى مسلم في "صحيحه" (¬1) عن أبي مَرْثَد الغَنَويّ، أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "لا تجلسوا على القبور، ولا تصلُّوا إليها". وفى هذا إبطالُ قول من زعم أن النهي عن الصلاة فيها لأجل النجاسة، فهذا أبعد شيء عن مقاصد الرسول - صلى الله عليه وسلم -، وهو باطل من عِدّة أوجه: منها: أن الأحاديث كلَّها ليس فيها فرق بين المقبرة الحديثة والمنبوشة، كما يقوله المعلِّلون بالنجاسة. ومنها: أنه - صلى الله عليه وسلم - لعن اليهود والنصارى على اتخاذ قبور أنبيائهم مساجد، ومعلوم قطعًا أن هذا ليس لأجل النجاسة؛ فإن ذلك لا يختص بقبور الأنبياء، ولأن قبور الأنبياء من أطهر البقاع، ليس للنجاسة عليها طريق البتة، فإن الله حرَّم على الأرض أن تأكل أجسادهم، فهم في قبورهم طرِيُّون. ومنها: أنه نهى عن الصلاة إليها. ومنها: أنه أخبر أن الأرض كلها مسجد إلا المقبرةَ والحمامَ، ولو كان ذلك لأجل النجاسة لكان ذكر (¬2) الحُشوش والمجازر ونحوها (¬3) أولى من ذكر القبور. ¬

_ = النسائي"، وهو أدقّ؛ فإن النسائي لم يخرجه. (¬1) برقم (972). (¬2) م: "ذلك". (¬3) "ونحوها" ساقطة من الأصل.

ومنها: أن موضع مسجده - صلى الله عليه وسلم - كان مقبرة للمشركين، فنَبَش قبورَهم وسَوّاها واتخذه مسجدًا، ولم ينقل ذلك الترابَ، بل سوى الأرض ومهّدها وصلى فيه. كما ثبت في "الصحيحين" (¬1) عن أنس بن مالك رضي الله عنه، قال: لما قدم النبي - صلى الله عليه وسلم - المدينة، فنزل بأعلى المدينة في حَيٍّ يقال [53 ب] لهم: بنو عمرو بن عَوْف، فأقام النبي - صلى الله عليه وسلم - فيهم أربع عشرة ليلة، ثم أرسل إلى ملأ بني النجار، فجاءوا مُتَقَلِّدين السيوفَ، وكأني أنظر إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - على راحلته، وأبو بكر دونه (¬2)، وملأُ بَنِي النجار حوله، حتى ألْقى بفناء أبي أيوب، وكان يحُبّ أن يصلِّي حيث أدركته الصلاة، ويصلي في مَرابِض الغنم، وإنه أمَر ببناء المسجد، فأرسل إلى ملأ بني النجار، فقال: "يا بني النجار! ثامِنُوني بحائطكم هذا"، قالوا: لا والله، لا نطلبُ ثمنه إلا إلى الله، فكان فيه ما أقول لكم: قبور المشركين، وفيه خَرِب، وفيه نخل، فأمر النبي - صلى الله عليه وسلم - بقبور المشركين فنُبِشت، ثم بالخَرب فسُوِّيت، وبالنخل فقُطع، فصفّوا النخل قِبْلَة المسجد، وجعلوا عِضادَتيه الحجارة، وجعلوا ينقلون الصخر وهم يَرْتجَزون. وذكر الحديث. ومنها: أن فتنة الشرك بالصلاة في القبور ومشابهة عُبّاد الأوثان أعظم بكثير من مفسدة الصلاة بعد العصر والفجر، فإذا نهى عن ذلك سدًّا لذريعة التشبه الذي لا يكاد يخطر ببال المصلي؛ فكيف بهذه الذريعة القريبة التي كثيرًا ما تدعو صاحبها إلى الشرك، ودعاء الموتى، واستيجابهم، وطلب ¬

_ (¬1) البخاري (428)، ومسلم (524). (¬2) ح، ظ: "ردفه".

كل ما لعن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فهو من الكبائر

الحوائج منهم، واعتقاد أن الصلاة عند قبورهم أفضل منها في المساجد، وغير ذلك، مما هو محادّة ظاهرة لله ورسوله؟ فأين التعليل بنجاسة البقعة من هذه المفسدة مما يدل على أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قصد منع الأمة من الفتنة بالقبور؛ كما افتتن بها قوم نوح ومن بعدهم؟ ومنها: أنه لعن المتخذين عليها المساجد، ولو كان ذلك لأجل النجاسة لأمكن أن يتخذ عليها المسجد مع تطيينها بطين طاهر، فتزول اللعنة، وهو باطل قطعًا. ومنها: أنه قرن في اللعنة بين متخذي المساجد عليها، وموقدي السُّرُج عليها، فهما في اللعنة قرينان، وفى ارتكاب الكبيرة صِنوان؛ فإن كل ما لَعَن عليه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فهو من الكبائر، ومعلوم أن إيقاد السُّرج عليها إنما لُعن فاعله لكونه وسيلة إلى تعظيمها، وجعلها نُصُبًا يُوفِضُ إليه المشركون، كما هو الواقع، فهكذا اتخاذ المساجد عليها، ولهذا قرن بينهما؛ فإن اتخاذ المساجد عليها تعظيم لها، وتعريض للفتنة بها، ولهذا حكى الله سبحانه عن المتغلِّبين على أمر أصحاب الكهف، أنهم قالوا: {لَنَتَّخِذَنَّ عَلَيْهِمْ مَسْجِدًا} [الكهف: 21]. ومنها: أنه - صلى الله عليه وسلم - قال: "اللهم لا تجعل قبري وثنًا يُعبد، اشتد غضب الله على قوم اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد" (¬1)، فذِكْرُهُ ذلك عَقيبَ قوله: "اللهم ¬

_ (¬1) رواه مالك (414) - ومن طريقه ابن سعد في الطبقات الكبرى (2/ 240) - عن زيد ابن أسلم عن عطاء بن يسار به مرسلا، ورُوي موصولا من طريق أخرى عن زيد عن عطاء عن أبي سعيد. ورواه الحميدي (1025) - ومن طريقه أبو نعيم في الحلية (7/ 317) - وابن سعد (2/ 241) وأحمد (2/ 246) والبخاري في التاريخ الكبير (3/ 47) والمفضل الجندي في فضائل المدينة (51) وأبو يعلى (6681) وغيرهم =

لا تجعل قبري وثنًا يعبد" تنبيه منه على سبب لحوق اللعن بهم، وهو توسُّلهم بذلك إلى أن تصير أوثانًا تُعبد. وبالجملة؛ فمن له معرفة بالشرك وأسبابه وذرائعه، وفَهِمَ عن الرسول - صلى الله عليه وسلم - مقاصده، جزم جزمًا لا يحتمل النقيض أن هذه المبالغة منه واللعن والنهي بصيغتيه - صيغة "لا تفعلوا"، وصيغة "إني أنهاكم" - ليس لأجل النجاسة، بل هو لأجل نجاسة الشرك اللاحقة بمن عصاه، وارتكب ما عنه نهاه، واتبع هواه، ولم يخش ربَّه ومولاه، وقلّ نصيبه أو عُدِمَ من تحقيق شهادة أن لا إله إلا الله؛ فإن هذا وأمثاله من النبي - صلى الله عليه وسلم - صيانةٌ لحِمَى التوحيد أن يلحقه الشرك ويغشاه، وتجريدٌ له وغضب لربِّه أن يُعدَل به سواه. فأبى المشركون إلا معصية لأمره، وارتكابًا لنهيه، وغَرّهم الشيطان بأن هذا تعظيم لقبور المشايخ والصالحين، وكلما كنتم أشدَّ لها تعظيمًا، وأشدَّ فيهم غلوًّا كنتم بقربهم أسعد، ومن أعدائهم أبعد. ولعَمْرُ الله مِنْ هذا [54 أ] الباب بعينه دُخِلَ على عُبَّاد يغوث ويعوق ونسر، ومنه دُخِلَ على عبَّاد الأصنام منذ كانوا إلى يوم القيامة، فجمع المشركون بين الغلوفيهم والطعن في طريقتهم، وهَدَى الله أهل التوحيد لسلوك طريقهم، وإنزالهمْ منازَلهُمْ التي أنزلهم الله إياها، من العبودية وسلب خصائص الإلهية عنهم، وهذا غاية تعظيمهم وطاعتهم. وأمّا المشركون فعصوا أمرهم، وتنقَّصوهم في صورة التعظيم لهم. ¬

_ = عن ابن عيينة عن حمزة بن المغيرة عن سهيل بن أبى صالح عن أبيه عن أبى هريرة مرفوعا، قالى البوصيري في إتحاف الخيرة (3/ 260): "رجاله ثقات"، وصححه الألباني في أحكام الجنائز (ص 217). وفي الباب عن عمر وعن سعيد بن أبي سعيد مولى المهري.

قال الشافعي (¬1) رحمة الله عليه: "أكره أن يُعظَّم مخلوق حتى يُجعَل قبره مسجدًا، مخافة الفتنة عليه وعلى من بعده من الناس". وممَّن علل بالشرك ومشابهة اليهود والنصارى: الأثرَم في كتاب "ناسخ الحديث ومنسوخه"؛ فقال بعد أن ذكر حديث أبي سعيد: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "جُعلت لي الأرض مسجدًا إلا المقبرة والحمام" (¬2)، وحديث زيد بن جَبِيرَة (¬3)، عن داود بن الحُصين، عن نافع، عن ابن عمر: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - نهى عن الصلاة في سبع مواطن (¬4)، وذكر منها المقبرة؛ قال الأثرم: "إنما كُرِهت الصلاة في المقبرة للتشبه بأهل الكتاب؛ لأنهم يتخذون قبور أنبيائهم وصالحيهم مساجد". ¬

_ (¬1) نقله النووي في المجموع (5/ 314). (¬2) تقدم تخريجه. (¬3) في الأصل وبقية النسخ: "جبير". والتصويب من مصادر التخريج. (¬4) رواه عبد بن حميد (765)، والترمذي (346، 347)، وابن ماجه (746)، والروياني (1431)، والطحاوي في شرح المعاني (2098)، والعقيلي في الضعفاء (2/ 71)، وابن حبان في المجروحين (1/ 310)، وغيرهم، قال الترمذي: "إسناده ليس بذاك القويّ، وقد تُكلِّم في زيد بن جبيرة من قبل حفظه"، وضعّفه أبو حاتم كما في العلل لابنه (1/ 148)، وابن المنذر في الأوسط (2/ 190)، وابن عدي في الكامل (3/ 203)، وابن عبد البر في التمهيد (5/ 226)، وابن الجوزي في العلل المتناهية (1/ 399)، وابن دحية في تنويره كما في البدر المنير (3/ 443)، والنووي في الخلاصة (941)، وابن الملقن، والشنقيطي في الأضواء (2/ 294)، والألباني في الإرواء (287). وروِي الحديث أيضًا من طريق أبي صالح عن الليث حدثني نافع عن ابن عمر عن عمر، ومن طريق الليث عن عبد الله بن عمر العمري عن نافع عن ابن عمر عن عمر، ومال إلى تقويته ابن تيمية في شرح العمدة (4/ 432).

فصل: فتنة اتخاذ القبور أعيادا وموالد

فصل ومن ذلك اتخاذها عيدًا. والعيد ما يُعتاد مجيئه وقصده من زمان ومكان: فأما الزمان فكقوله - صلى الله عليه وسلم -: "يومُ عرفة ويوم النحر وأيامُ مِنى عيدنا أهل الإسلام". رواه أبو داود وغيره (¬1). وأما المكان فكما روى أبو داود في "سننه" (¬2) أن رجلًا قال: يا رسول ¬

_ (¬1) سنن أبي داود (2421)، ورواه أيضًا ابن أبي شيبة (3/ 394)، وأحمد (4/ 152)، والدارمي (1764)، والترمذي (773)، والنسائي (3004)، والروياني (200، 203)، والطحاوي في معاني الآثار (3016)، والطبراني في الكبير (17/ 291) والأوسط (3185)، وغيرهم من طرق عن موسى بن علي عن أبيه عن عقبة بن عامر رضي الله عنه مرفوعًا، وصححه الترمذي، والطبري في تهذيب الآثار (1/ 351)، وابن خزيمة (2100)، وابن حبان (3603)، والحاكم (1586)، وأعلّه ابن عبد البر في التمهيد (21/ 163) بالتفرّد فقال: "انفرد به موسى بن علي عن أبيه، وما انفرد به فليس بالقويّ، وذِكرُ يوم عرفة في هذا الحديث غير محفوظ"، وصححه ابن حجر في تغليق التعليق (2/ 385)، وهو في صحيح سنن أبي داود (2090). (¬2) سنن أبي داود (3315) عن ثابت بن الضحاك، ورواه أيضًا الطبراني في الكبير (2/ 75)، والبيهقي في الكبرى (10/ 83) من طريق أبي داود، وصححه النووي في المجموع (8/ 467)، وابن تيمية في الاقتضاء (ص 186)، وابن دقيق العيد في الإلمام (873)، وابن عبد الهادي في الصارم المنكي (ص 309)، وابن كثير في إرشاد الفقيه (1/ 375)، وابن الملقن في البدر المنير (9/ 518)، وابن حجر في التلخيص الحبير (4/ 439) وفي غيره، والصنعاني في السبل (4/ 114)، وابن عبد الوهاب في كتاب التوحيد، وحسنه سليمان آل الشيخ في التيسير (ص 165)، =

الله! إني نذرت أن أنْحَر (¬1) بِبُوانَةَ؟ فقال: "أبهِا وثَنٌ من أوثان المشركين، أو عيد من أعيادهم؟ "، قال: لا، قال: "فأوفِ بنذرك". وكقوله: "لا تجعلوا قبري عيدًا" (¬2). والعيد: مأخوذ من المعاودة والاعتياد، فإذا كان اسمًا للمكان فهو المكان الذي يُقصد الاجتماع فيه وانْتِيابُه للعبادة أو لغيرها، كما أن المسجد الحرام ومنًى ومُزْدلِفَة وعرفة والمشاعِرَ جعلها الله عيدًا للحُنفاء ومثابةً، كما جعل أيام التعبُّد فيها عيدًا. وكان للمشركين أعياد زمانية ومكانية، فلما جاء الله بالإسلام أبطلها، وعوّض الحنفاء منها: عيد الفطر، وعيد النحر، وأيام منًى، كما عوّضهم عن أعياد المشركين المكانية: بالكعبة البيت الحرام، وعرفة، ومنى، والمشاعر. فاتخاذ القبور عيدًا هو من أعياد المشركين التي كانوا عليها قبل الإسلام، وقد نهى عنه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في سَيّدِ القبور، منَبِّهًا به على غيره. فقال أبو داود (¬3): حدثنا أحمد بن صالح قال: قرأت على عبد الله بن نافع، ¬

_ = وهو في السلسلة الصحيحة (2872). وفي الباب عن ابن عباس وعبد الله بن عمرو وكردم ابن سفيان وميمونة بنت كردم وعن عكرمة بن خالد وابن جريج مرسلًا. (¬1) ح: "أنحر إبلاً". (¬2) سيأتي تخريجه. (¬3) سنن أبي داود (2044)، ومن طريقه البيهقي في الشعب (3/ 491)، ورواه أيضًا أحمد (2/ 367) عن سريج، والطبراني في الأوسط (8030) من طريق مسلم بن عمرو الحذاء، كلاهما عن عبد الله بن نافع به، قال ابن تيمية في الاقتضاء (ص 321): "إسناده حسن، رواته كلهم ثقات مشاهير، لكن عبد الله بن نافع الفقيه =

أخبرني ابن أبي ذِئْب، عن سعيد المقبريِّ، عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "لا تجعلوا بيوتكم قبورًا، ولا تجعلوا قبري عيدًا، وصلوا عليّ؛ فإن صلاتكم تبلغني حيث كنتم" صلى الله عليه وسلم. وهذا إسناد حسن، رواته كلهم ثقات مشاهير. وقال أبو يَعْلى الموصليُّ في "مسنده" (¬1): حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة، ¬

_ = المدني صاحب مالك فيه لين لا يقدح في حديثه ... ثم إن هذا الحديث مما يعرف من حفظه ليس مما ينكر؛ لأنه سنة مدنية، وهو محتاج إليها في فقهه، ومثل هذا يضبطه الفقيه، وللحديث شواهد من غير طريقه، فإن هذا الحديث يُروى من جهات أخرى، فما بقي منكرا"، وصححه النووي في الأذكار (ص 115) وفي غيره، وابن حجر في الفتح (6/ 488)، وحسنه ابن عبد الهادي في الصارم المنكي (ص 121)، وابن عبد الوهاب في كتاب التوحيد، وهو في صحيح سنن أبي داود (1780). ورواه أبو يعلى (6761) من طريق أبي بكر الحنفي عن عبد الله بن نافع عن العلاء بن عبد الرحمن عن الحسن بن علي بن أبي طالب به مرفوعًا، قال ابن القيم في جلاء الأفهام (ص 88): "رواية مسلم ابن عمرو أشبه". (¬1) مسند أبي يعلى (469)، وهو في مصنف ابن أبي شيبة (2/ 150)، وعن ابن أبي شيبة أيضًا رواه البخاري في التاريخ الكبير (2/ 186)، ورواه الخطيب في الموضح (2/ 25) من طريق ابن أبي أويس عن جعفر به، وحسنه ابن تيمية في الرد على الأخنائي (ص 133)، وقال الهيثمي في المجمع (3/ 668): "فيه جعفر بن إبراهيم الجعفري، ذكره ابن أبي حاتم ولم يذكر فيه جرحًا، وبقية رجاله ثقات"، وقال ابن عبد الهادي في الصارم المنكي (ص 294): "خبر محفوظ مشهور، وشواهده كثيرة"، وحسنه السخاوي في القول البديع (ص 161). ورواه إسماعيل القاضي في فضل الصلاة على النبي - صلى الله عليه وسلم - (20) عن ابن أبي أويس عن جعفر عمّن أخبره من أهل بيته عن علي بن الحسين به. ورواه البزار (559) من طريق ابن أبي أويس عن عيسى بن جعفر بن إبراهيم الطالبي عن علي بن عمر بن علي بن الحسين عن أبيه =

حدثنا زيد بن الحُباب، حدثنا جعفر بن إبراهيم من ولَد ذي الجناحين، حدثنا [علي بن عمر، عن أبيه، عن] (¬1) علي بن الحسين: أنه رأى رجلًا يجيء إلى فُرْجةٍ كانت عند قبر النبي - صلى الله عليه وسلم -، فيدخل فيها، فيدعو، فنهاه، وقال: ألا أحدثكم حديثًا سمعته من أبي، عن جدي، عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -؟ قال: "لا تتخذوا قبري عيدًا، ولا بيوتكم قبورًا؛ فإن تسليمكم يبلغني أينما كنتم". رواه أبو عبد الله محمد بن عبد الواحد المقدسي في "مختارته" (¬2). وقال سعيد بن منصور [54 ب] في "السنن": حدثنا حِبّان بن علي: حدثني محمد بن عجلان، عن أبي سعيد مولى المَهْري، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "لا تتخذوا قبري عيدًا، ولا بيوتكم قبورًا، وصلُّوا عليَّ حيثما كنتم؛ فإن صلاتكم تبلغني" (¬3). وقال سعيد: حدثنا عبد العزيز بن محمد، أخبرنا سهيل بن أبي سهيل، قال: رآني الحسن بن الحسن بن على بن أبي طالب (¬4) عند القبر، فناداني ¬

_ = عن جده علي بن أبي طالب مرفوعا، وقال: "هذا الحديث لا نعلمه يروى عن علي إلا من هذا الوجه بهذا الإسناد، وقد روي بهذا الإسناد أحاديث صالحة فيها مناكير، فذكرنا هذا الحديث لأنه غير منكر". (¬1) "علي بن عمر عن أبيه عن" ساقطة من النسخ، والمثبت من مصدر التخريج. (¬2) المختارة للضياء المقدسي (1/ 154) من طريق أبي يعلى. (¬3) هذا الحديث مرسل، ورواه ابن عساكر في تاريخ دمشق (13/ 61، 62) من طريق عبد الملك بن شعيب بن الليث عن أبيه عن جده عن ابن عجلان عن سهيل وسعيد ابن أبي سعيد مولى المهري عن الحسن به، وذكر قصة الرجل الذي كان يأتي القبر، قال الذهبي في السير (4/ 484): "هذا مرسل". (¬4) ح: "علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب".

وهو في بيت فاطمة يتعشّى، فقال: هَلُمّ إلى العشاء، فقلت: لا أريده، فقال: ما لي رأيتك عند القبر؟ فقلت: سلمت على النبي - صلى الله عليه وسلم -، فقال: إذا دخلت المسجد فسلِّمْ، ثم قال: إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "لا تتخذوا بيتي عيدًا، ولا تتخذوا بيوتكم مقابر، لعن الله اليهود اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد، وصلوا عليّ؛ فإن صلاتكم تبلغني حيثما كنتم". ما أنتم ومن بالأندلس إلا سواءٌ (¬1). فهذان المرسلان - من هذين الوجهين المختلفين - يدلَّان على ثبوت الحديث؛ لا سيما وقد احتج من أرسله به، وذلك يقتضي ثبوته عنده، هذا لو لم يكن رُويَ من وجوه مسندة غير هذين، فكيف وقد تقدّم مسندًا؟ قال شيخ الإسلام (¬2) قدَّس الله روحه: ووجه الدلالة: أن قبر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أفضل قبر على وجه الأرض، وقد نهَى عن اتخاذه عيدًا، فقبر غيره أولى بالنهي، كائنًا من كان، ثم إنه قرن ذلك بقوله: "ولا تتخذوا بيوتكم قبورًا" أي: لا تعطلوها من الصلاة فيها والدعاء والقراءة، فتكون بمنزلة القبور، فأمر بتحرّي النافلة في البيوت، ونهى عن تحرّي العبادة عند القبور، وهذا ضد ما عليه المشركون من النصارى وأشباههم، ثم إنه عقّب النهي عن اتخاذه عيدًا ¬

_ (¬1) رواه إسماعيل القاضي في فضل الصلاة على النبي - صلى الله عليه وسلم - (30) عن إبراهيم بن حمزة عن عبد العزيز بن محمد به، ورواه عبد الرزاق (3/ 577) عن الثوري، وابن أبي شيبة (2/ 150، 3/ 30) عن أبي خالد الأحمر، كلاهما عن ابن عجلان عن سهيل به مختصرًا، ورواه ابن عساكر في تاريخ دمشق (13/ 61، 62) من طريق ابن عجلان عن سهيل وسعيد بن أبي سعيد مولى المهري عن الحسن به، ورواه ابن خزيمة في حديث علي بن حجر عن إسماعيل عن سهيل به نحوه، قالى الألباني في أحكام الجنائز (ص 220): "مرسل إسناده قوي". (¬2) في اقتضاء الصراط المستقيم (2/ 172).

بقوله: "وصلوا عليّ؛ فإن صلاتكم تبلغني حيثما كنتم"، يشير بذلك إلى أن ما ينالني منكم من الصلاة والسلام، يحصل مع قربكم من قبري وبُعدكم، فلا حاجة بكم إلى اتخاذه عيدًا. وقد حرّف هذه الأحاديث بعضُ من أخذ شبهًا من النصارى بالشرك، وشبها من اليهود بالتحريف، فقال: هذا أمرٌ بملازمة قبره، والعُكوف عنده، واعتياد قصده وانتيابه، ونهي أن يجُعل كالعيد الذي إنما يكون في العام مرةً أو مرتين، فكأنه قال: لا تجعلوه بمنزلة العيد الذي يكون من الحوْل إلى الحول، واقصدوه كلّ ساعة وكلّ وقت! وهذا مراغمة ومحادّة لله، ومناقضة لما قصده الرسول - صلى الله عليه وسلم -، وقَلْبٌ للحقائق، ونسبة الرسول - صلى الله عليه وسلم - إلى التدليس والتلبيس بعد التناقض، فقاتل الله أهلَ الباطل أنّى يُؤفكون! ولا ريب أن مَنْ أمَرَ الناسَ باعتياد أمرٍ وملازمته وكثرة انتيابه بقوله: "لا تجعلوا عيدًا"؛ فهو إلى التلبيس وضدِّ البيان أقربُ منه إلى الدلالة والبيان، فإن لم يكن هذا تنقيصًا فليس للتنقيص حقيقة فينا، كمن يرمي أنصار الرسول - صلى الله عليه وسلم - وحزبه بدائِه ومُصابه ويَنْسَلُّ كأنه بريء. ولا ريب أن ارتكاب كل كبيرة بعد الشرك أسهل إثمًا، وأخف عقوبةً من تعاطي مثل ذلك في دينه وسنته، وهكذا غُيّرت دياناتُ الرسل عليهم السلام، ولولا أن الله أقام لدينه الأنصارَ والأعوان الذابّين عنه لجَرى عليه ما جرى على الأديان قبله. ولو أراد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ما قاله هؤلاء الضُّلّال لم يَنْه عن اتخاذ قبور الأنبياء مساجد، ويلعنْ فاعلَ ذلك؛ فإنه إذا لعن من اتخذها مساجد يُعبدُ الله

فصل: المفاسد الناشئة عن اتخاذ القبور أعيادا

فيها، فكيف يأمر بملازمتها والعكوف عندها، وأن يُعتاد قصدُها وانتيابها، ولا تجُعل كالعيد الذي يجيء من الحَوْل إلى الحول؟ وكيف يسأل ربَّه سبحانه [55 أ] أن لا يجعل قبره وثنًا يعبد؟ وكيف يقول أعلم الخلق بذلك: ولولا ذلك لأُبرز قبرُه، ولكن خُشي أن يُتخذ مسجدًا؟ وكيف يقول: "لا تجعلوا قبري عيدًا، وصلُّوا عليّ حيثما كنتم"؟ وكيف لم يفهم أصحابه وأهل بيته من ذلك ما فهمه هؤلاء الضُّلال، الذين جمعوا بين الشرك والتحريف؟ وهذا أفضل التابعين من أهل بيته علي بن الحسين رضي الله عنهما نهى ذلك الرجلَ أن يتحرّى الدعاء عند قبره - صلى الله عليه وسلم -، واستدل بالحديث، وهو الذي رواه وسمعه من أبيه الحسين، عن جده علي رضي الله عنه، وهو أعلم بمعناه من هؤلاء الضلال. وكذلك ابن عمه الحسن بن الحسن (¬1) شيخُ أهل بيته، كَرِه أن يقصد الرجلُ القبرَ إذا لم يكن يريد المسجد، ورأى أن ذلك من اتخاذه عيدًا. قال شيخنا (¬2): فانظر هذه السنّة، كيف مخرجُها من أهل المدينة وأهل البيت، الذين لهم من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قُربُ النسب، وقرب الدار! لأنهم إلى ذلك أحوج من غيرهم، وكانوا له أضبط. فصل ثم إن في اتخاذ القبور أعيادًا من المفاسد العظيمة التي لا يعلمها إلا الله ما يغضبُ لأجله كلُّ مَنْ في قلبه وقارٌ لله، وغَيْرة على التوحيد، وتهجين ¬

_ (¬1) ح: "الحسن بن الحسين". (¬2) في اقتضاء الصراط المستقيم (2/ 176).

ما يفعله غلاة المتخذين لأعياد القبور عندها

وتقبيح للشرك، ولكن ما لِجُرْحٍ بميِّتٍ إيلامُ (¬1) فمن مفاسد اتخاذها أعيادًا: الصلاة إليها، والطواف بها، وتقبيلها واستلامها، وتعفير الخدود على تُرابها، وعبادة أصحابها، والاستعانة (¬2) بهم، وسؤالهُم النصر والرزق والعافية، وقضاء الديون، وتفريج الكربات، وإغاثة اللهفات، وغير ذلك من أنواع الطلبات، التي كان عُبّاد الأوثان يسألونها أوثانهَم. فلو رأيت غُلاة المتخذين لها عيدًا، وقد نزلوا عن الأكوار والدواب إذا رأوها من مكان بعيد، فوضعوا لها الجِباه، وقَبّلوا الأرض، وكشفوا الرؤوس، وارتفعت أصواتهم بالضجيج، وتباكَوْا حتى يُسمع لهم النشيج، ورأوا أنهم قد أربوْا في الربح على الحجيج، فاستغاثوا بمن لا يُبدئ ولا يُعيد، ونادَوا ولكن من مكان بعيد، حتى إذا دنَوا منها صلَّوا عند القبر ركعتين، ورأوا أنهم قد أحرزوا من الأجر ولا أجر من صلى إلى القبلتين، فتراهم حول القبر رُكّعًا سُجّدًا يبتغون فضلاً من الميت ورضوانًا، وقد ملأوا أكُفَّهم خيبة وخسرانًا، فَلِغَيْر الله بل للشيطان ما يُراق هناك من العَبَرات، ويرتفع من الأصوات، ويُطلب من الميت من الحاجات، ويُسأل من تفريج الكُربات، وإغناء ذوي الفاقات، ومعافاة أو لي العاهات والبليَّات، ثم انثنوا بعد ذلك حول القبر طائفين، تشبيهًا له بالبيت الحرام الذي جعله الله مباركًا وهُدًى للعالمين، ثم أخذوا في التقبيل والاستلام، أرأيت الحجر الأسود وما ¬

_ (¬1) سبق ذكر صدر البيت وتخريجه. (¬2) ح، ت: "الاستغاثة".

كلام ابن عقيل رحمه الله تعالى في القبوريين

يفعل به وفْدُ البيت الحرام؟ ثم عَفّروا لَدَيْه تلك الجباه والخدود، التي يعلم الله أنها لم تُعفَّر كذلك بين يديه في السجود، ثم كمّلوا مناسك حج القبر بالتقصير هناك والحِلاق، واستمتعوا بخَلاقهم من ذلك الوثن؛ إذ لم يكن لهم عند الله من خَلاق، وقربوا لذلك الوثن القرابين، وكانت صلاتهُم ونُسكهم وقُربانهم لغير الله رب العالمين، فلو رأيتهم يهُنِّئ بعضهم بعضًا، ويقول: أجزل الله لنا ولكم أجرًا وافرًا وحظًّا، فإذا رجعوا سألهم غلاة المتخلِّفين أن يبيع أحدهم ثواب حجة القبر بحجة المتخلف إلى البيت الحرام، فيقول: لا، ولو بحجِّك كل عام. هذا؛ ولم نتجاوز فيما حكينا عنهم، ولا [55 ب] استقصينا جميع بِدَعهم وضلالهم؛ إذ هي فوق ما يخطر بالبال، أو يدور في الخيال، وهذا كان مبدأ عبادة الأصنام في قوم نوح كما تقدم، وكل من شَمَّ أدنى رائحة من العلم والفقه يعلم أن من أهمّ الأمور: سَدّ الذريعة إلى هذا المحظور، وأن صاحب الشرع أعلم بعاقبة ما نهى عنه وما يؤول إليه، وأحكمُ في نهَيْه عنه وتوعُّده عليه، وأن الخير والهُدَى في اتباعه وطاعته، والشرّ والضلال في معصيته ومخالفته. ورأيتُ لأبي الوفاء بن عَقيل في ذلك فصْلًا حسنًا (¬1)، فذكرته بلفظه، قال: لما صعُبت التكاليف على الجهّال والطَّغام عدلوا عن أوضاع الشرع إلى تعظيم أوضاعٍ وضعوها لأنفسهم، فسهلت عليهم، إذ لم يدخلوا بها تحت أمر غيرهم. قال: وهم عندي كفار بهذه الأوضاع، مثل تعظيم القبور ¬

_ (¬1) انظر: تلبيس إبليس (ص 402).

بيان سنة النبي - صلى الله عليه وسلم - في القبور، ومخالفة القبوريين لها

وإكرامها (¬1) بما نهى عنه الشرع، من إيقاد النيران وتقبيلها وتخليقها، وخطاب الموتى بالحوائج، وكَتْب الرّقاع فيها: يا مولاي! افعل بي كذا وكذا، وأخذ تربتها تبرُّكًا، وإفاضة الطِّيب على القبور، وشد الرحال إليها، وإلقاء الخِرَق على الشجر، اقتداءً بمن عبد اللّات والعزّى، والويلُ عندهم لمن لم يُقَبِّل مَشهد الكفّ، ولم يتمسّح بآجُرّة مسجد الملموسة يوم الأربعاء، ولم يقل الحمالون على جنازته: الصديق أبو بكر أو محمد أو علي، أو لم يعقد على قبر أبيه أزجًا بالجِصّ والآجرّ، ولم يخرق ثيابه إلى الذيل، ولم يُرِق ماء الورد على القبر". انتهى. ومن جمع بين سُنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في القبور، وما أمر به ونهى عنه، وما كان عليه أصحابه، وبين ما عليه أكثر الناس اليوم: رأى أحدهما مضادًّا للآخر، مناقضًا له، بحيث لا يجتمعان أبدًا. فنهى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن الصلاة إلى القبور، وهؤلاء يصلون عندها. ونهى عن اتخاذها مساجد، وهؤلاء يبنون عليها المساجد، ويسمونها مَشاهد؛ مضاهاةً لبيوت الله. ونهى عن إيقاد السُّرج عليها، وهؤلاء يوقفون الوقوف على إيقاد القناديل عليها. ونهى أن تُتخذ عيدًا، وهؤلاء يتخذونها أعيادًا ومناسك، ويجتمعون لها كاجتماعهم للعيد أو أكثر. وأمر بتسويتها، كما روى مسلم في "صحيحه" (¬2) عن أبي الهَيّاج ¬

_ (¬1) م: "إلزامها". (¬2) برقم (969).

الأسدي، قال: قال علي بن أبي طالب رضي الله عنه: ألا أبعثُك على ما بعثني عليه رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: أن لا أدعَ تمثالًا إلا طَمَسْتُه، ولا قبرًا مُشرفًا إلا سَوّيْتُه. وفى "صحيحه" (¬1) أيضًا عن ثُمامة بن شفَيٍّ، قال: كنا مع فضالة بن عُبيد بأرض الروم بِرُودِس، فتوفي صاحب لنا، فأمر فَضالة بقبره فسوي، ثم قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يأمر بتسويتها. وهؤلاء يبالغون في مخالفة هذين الحديثين، ويرفعونها من الأرض كالبيت، ويعقدون عليها القِباب. ونهى عن تجْصيص القبر والبناء عليه، كما روى مسلم في "صحيحه" (¬2) عن جابر قال: نهى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن تجصيص القبر، وأن يُقعد عليه، وأن يُبنى عليه. ونهى عن الكتابة عليها، كما روى أبو داود في "سننه" (¬3)، عن جابر رضي الله عنه: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - نهى أن تجصّص القبور، وأن يكتب عليها. قال الترمذي: "حديث حسن صحيح". ¬

_ (¬1) برقم (968). (¬2) برقم (970). (¬3) سنن أبي داود (3228)، سنن الترمذي (1052)، ورواه أيضا النسائي (2027)، وابن ماجه (1562، 1563)، والطحاوي في معاني الآثار (2712)، والبيهقي في الكبرى (4/ 4) من طريق أبي داود، وصححه ابن حبان (3164)، وقال الحاكم (1/ 525): "هذا حديث على شرط مسلم، وقد خرج بإسناده غير الكتابة فإنها لفظة صحيحة غريبة"، وصححه النووي في الخلاصة (2/ 1026)، وابن الملقن في البدر المنير (5/ 320)، والألباني في الإرواء (757). وهو في صحيح مسلم (975) لكن ليس فيه النهي عن الكتابة.

وهؤلاء يتخذون عليها الألواح، ويكتبون عليها القرآن وغيره. ونهى أن يُزاد عليها غير ترابها، كما روى أبو داود (¬1) من حديث جابر أيضًا: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - نهى أن يُجصَّص القبر، أو يكتب [56 أ] عليه، أو يزاد عليه. وهؤلاء يزيدون عليه - سوى التراب - الآجُرّ والأحجار والمجصّ. ونهى عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه أن يُبنى القبر بآجر، وأوصى أن لا يُفعل ذلك بقبره (¬2). وأوصى الأسود بن يزيد أن لا تجعلوا على قبري آجرًّا (¬3). وقال إبراهيم النخعي: كانوا يكرهون الآجُرّ على قبورهم (¬4). وأوصى أبو هريرة رضي الله عنه حين حضرته الوفاةُ: أن لا تضربوا عليّ فسطاطًا (¬5). ¬

_ (¬1) سنن أبي داود (3228)، ورواه أيضا النسائي (2027)، والبيهقي في الكبرى (3/ 410)، وصححه النووي في المجموع (5/ 296)، والألباني في أحكام الجنائز (ص 204). وانظر: تخريج الحديث السابق. (¬2) لم أقف عليه، وذكره ابن قدامة في المغني (2/ 382). (¬3) رواه ابن سعد في الطبقات (6/ 75) وابن أبي شيبة (2/ 446) من طرق عن ابن عون عن إبراهيم عن الأسود به. (¬4) رواه عبد الرزاق (3/ 477) وابن أبي شيبة (3/ 25) عن الثوري عن مغيرة عن إبراهيم به، ورواه ابن أبي شيبة (3/ 25) أيضًا عن ابن مهدي عن سفيان عن منصور عن إبراهيم به. (¬5) رواه الطيالسي (2336)، وابن سعد (4/ 338)، وابن أبي شيبة (3/ 23)، وأحمد =

وكره الإمام أحمد أن يُضرب على القبر فسطاط. والمقصود أن هؤلاء المعظمين للقبور، والمتخذينها (¬1) أعيادًا، الموقدين عليها السرج، الذين يبنون عليها المساجد والقباب: مناقضون لما أمر به رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، محادُّون لما جاء به. وأعظم ذلك اتخاذها مساجد، وإيقاد السرج عليها، وهو من الكبائر، وقد صرّح الفقهاء من أصحاب أحمد وغيرهم بتحريمه. قال أبو محمد المقدسي (¬2): ولو أبيح اتخاذ السرج عليها لم يُلْعَن مَنْ فعله، ولأن فيه تضييعًا للمال في غير فائدة، وإفراطًا في تعظيم القبور أشبَه تعظيمَ الأصنام. قال: ولا يجوز اتخاذ المساجد على القبور لهذا الخبر؛ لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "لعن الله اليهود اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد"، يحُذّر ما صنعوا متفق عليه (¬3). ولأن تخصيص (¬4) القبور بالصلاة عندها يشبه تعظيم الأصنام بالسجود لها، والتقرب إليها، وقد رُوِّينا أن ابتداء عبادة الأصنام ¬

_ = (2/ 292، 474)، وابن زبر في وصايا العلماء (ص 57، 58)، والبيهقي في الكبرى (4/ 21) عن ابن أبي ذئب عن سعيد المقبري عن عبد الرحمن بن مهران عن أبي هريرة، وصحح إسناده ابن حجر في الإصابة (7/ 443)، وهو في السلسلة الصحيحة (444). ورواه عبد الرزاق (3/ 418) - ومن طريقه ابن المنذر في الأوسط - عن معمر عن ابن أبي ذئب، وابن سعد (4/ 338) من طريق أبي معشر، كلاهما عن سعيد المقبري عن أبي هريرة. (¬1) كذا في النسخ بإثبات النون. (¬2) هو ابن قدامة، انظر كلامه في: المغني (3/ 440، 441). (¬3) البخاري (4443)، ومسلم (531). (¬4) ح: "تجصيص" تصحيف.

تعظيمُ الأموات باتخاذ صورهم، والتمسح بها، والصلاة عندها". انتهى. وقد آل الأمر بهؤلاء الضُّلال المشركين إلى أن شرعوا للقبور حَجًّا، ووضعوا له مناسك، حتى صنّف بعض غُلاتهم (¬1) في ذلك كتابًا وسماه "مناسك حج المشاهد"؛ مضاهاةً منه بالقبور للبيت الحرام، ولا يخفى أن هذا مفارقة لدين الإسلام، ودخول في دين عُبّاد الأصنام. فانظر إلى هذا التباين العظيم بين ما شرعه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وقصده من النهي عمَّا تقدم ذكره في القبور، وبين ما شرعه هؤلاء وقصدوه، ولا ريب أن في ذلك من المفاسد ما يعجز العبد عن حَصْره: فمنها: تعظيمها المُوقِع في الافتتان بها. ومنها: اتخاذها عيدًا. ومنها: السفر إليها. ومنها: مشابهة عبادة الأصنام بما يفعل عندها من العكوف عليها، والمجاورة عندها، وتعليق الستور عليها وسدانتها، وعُبّادُها يُرجّحون المجاورة عندها على المجاورة عند المسجد الحرام، ويرون سدانتها أفضلَ من خدمة المساجد، والويل عندهم لقيّمها ليلة يُطفأ القنديلَ المعلَّق عليها. ومنها: النذر لها ولسدنتها. ومنها: اعتقاد المشركين أن بها يُكشف البلاء، ويُنصر على الأعداء، ويُستنزل غيث السماء، وتُفرج الكرب، وتُقضى الحوائج، ويُنصر المظلوم، ويُجار الخائف، إلى غير ذلك. ¬

_ (¬1) هو ابن النعمان الملقب عند الرافضة بالمفيد.

ومنها: الدخول في لعنة الله تعالى ورسوله باتخاذ المساجد عليها، وإيقاد السُّرج عليها. ومنها: الشرك الأكبر الذي يُفعل عندها. ومنها: إيذاء أصحابها بما يفعله المشركون بقبورهم؛ فإنهم يؤذيهم ما يُفعل عند قبورهم، ويكرهونه غاية الكراهة، كما أن المسيح يكره ما يفعل النصارى عند قبورهم (¬1)، وكذلك غيره من الأنبياء والأولياء والمشايخ؛ يؤذيهم ما يفعله أشباه النصارى عند قبورهم، ويوم القيامة يتبرؤون منهم، كما قال تعالى: {وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ فَيَقُولُ أَأَنْتُمْ أَضْلَلْتُمْ عِبَادِي هَؤُلَاءِ أَمْ هُمْ ضَلُّوا السَّبِيلَ (17) قَالُوا سُبْحَانَكَ مَا كَانَ يَنْبَغِي لَنَا أَنْ نَتَّخِذَ مِنْ دُونِكَ مِنْ أَوْلِيَاءَ وَلَكِنْ مَتَّعْتَهُمْ وَآبَاءَهُمْ حَتَّى نَسُوا الذِّكْرَ وَكَانُوا قَوْمًا بُورًا} [الفرقان: 17، 18]، قال الله للمشركين: {فَقَدْ كَذَّبُوكُمْ بِمَا تَقُولُونَ} [الفرقان: 19] الآية، وقال تعالى [56 ب]: {وَإِذْ قَالَ اللَّهُ يَاعِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّيَ إِلَهَيْنِ مِنْ دُونِ اللَّهِ قَالَ سُبْحَانَكَ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أَقُولَ مَا لَيْسَ لِي بِحَقٍّ} الآية [المائدة: 116]، وقال تعالى: {وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ جَمِيعًا ثُمَّ يَقُولُ لِلْمَلَائِكَةِ أَهَؤُلَاءِ إِيَّاكُمْ كَانُوا يَعْبُدُونَ (40) قَالُوا سُبْحَانَكَ أَنْتَ وَلِيُّنَا مِنْ دُونِهِمْ بَلْ كَانُوا يَعْبُدُونَ الْجِنَّ أَكْثَرُهُمْ بِهِمْ مُؤْمِنُونَ} [سبأ: 40، 41]. ومنها: مشابهة اليهود والنصارى في اتخاذ المساجد والسرج عليها. ومنها: محادة الله ورسوله، ومناقضة ما شرعه فيها. ومنها: التعب العظيم مع الوزر الكثير، والإثم العظيم. ¬

_ (¬1) كذا في الأصل. في بعض النسخ: "قبره". والمسيح رفعه الله إليه ولم يقبر بعدُ.

الحكمة التي شرعت لأجلها زيارة القبور، ومخالفة القبوريين لذلك

ومنها: إماتة السنن، وإحياء البدع. ومنها: تفضيلها على خير البقاع وأحبِّها إلى الله؛ فإن عُبّاد القبور يقصدونها من (¬1) التعظيم والاحترام والخشوع ورِقَّة القلب والعكوف بالهمة على الموتى ما لا يفعلونه في المساجد، ولا يحصل لهم فيها نظيره، ولا قريب منه. ومنها: أن ذلك يتضمن عمارة المشاهد وخراب المساجد، ودينُ الله الذي بعث به رسوله - صلى الله عليه وسلم - بضد ذلك، ولهذا لما كانت الرافضة من أبعد الناس عن العلم والدين عَمروا المشاهد، وأخربوا المساجد. ومنها: أن الذي شرعه الرسول - صلى الله عليه وسلم - عند زيارة القبور إنما هو تذكر الآخرة، والإحسان إلى المَزُورِ بالدعاء له، والترحّم عليه، والاستغفار له، وسؤال العافية له، فيكون الزائر محسنًا إلى نفسه وإلى الميت، فقلَبَ هؤلاء المشركون الأمر، وعكسوا الدين، وجعلوا المقصود بالزيارة الشرك بالميت، ودعاءه والدعاء به، وسؤاله حوائجهم، واستنزال البركات منه، ونصره لهم على الأعداء، ونحو ذلك، فصاروا مسيئين إلى نفوسهم وإلى الميت، ولو لم يكن إلا بحرمانه بَركة ما شرعه الله من الدعاء له والترحم عليه والاستغفار له. فاسمع الآن زيارة أهل الإيمان، التي شرعها الله على لسان رسوله - صلى الله عليه وسلم -، ثم وازِنْ بينها وبين زيارة أهل الإشراك، التي شرعها لهم الشيطان، واختر لنفسك. ¬

_ (¬1) ت، ش، ظ: "مع".

قالت عائشة رضي الله عنها: كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا كان ليلتي منه؛ يخرج من آخر الليل إلى البَقيع، فيقول: "السلام عليكم دار قوم مؤمنين! وأتاكم ما تُوعدون؛ غدًا مؤجَّلون، وإنا إن شاء الله بكم لاحقون، اللهم اغفر لأهل بَقيع الغَرْقد". رواه مسلم (¬1). وفى "صحيحه" (¬2) عنها أيضًا: أن جبريل عليه السلام أتاه، فقال: إن ربك يأمرك أن تأتي أهل البقيع، فتستغفرَ لهم، قالت: قلت: كيف أقول يا رسول الله؟ قال: "قولي: السلام على أهل الديار من المؤمنين والمسلمين! ويرحم الله المستقدمين منا والمستأخرين، وإنا إن شاء الله بكم (¬3) للاحقون". وفى "صحيحه" (¬4) أيضًا عن سليمان بن بُريدة، عن أبيه، قال: كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يُعلِّمهم إذا خرجوا إلى المقابر أن يقولوا: "السلام على أهل الديار - وفي لفظ: السلام عليكم أهل الديار - من المؤمنين والمسلمين، وإنا إن شاء الله بكم للاحقون، نسأل الله لنا ولكم العافية". وعن بُريدة قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "كنتُ نهيتكم عن زيارة القبور، فمن أراد أن يزور فليَزُرْ، ولا تقولوا هُجْرًا" رواه أحمد، والنسائي (¬5). ¬

_ (¬1) برقم (974/ 102). (¬2) برقم (974/ 103). (¬3) "بكم" ساقطة من الأصل. (¬4) برقم (975). (¬5) مسند أحمد (5/ 361)، سنن النسائي (2033)، ورواه أيضا الطبراني في الأوسط (238، 2966)، والإسماعيلي في معجمه (192)، وصححه النووي في الخلاصة =

من زار القبور على غير الوجه المشروع فإن زيارته غير مأذون فيها

وكان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قد نهى الرجال عن زيارة القبور، سدًّا للذريعة، فلما تمكّن التوحيدُ في قلوبهم أذن لهم في زيارتها على الوجه الذي شرعه، ونهاهم أن يقولوا هُجْرًا، فمن زارها على غير الوجه المشروع الذي يحبه الله ورسوله - صلى الله عليه وسلم - فإن زيارته غير مأذون فيها. ومن أعظم الهُجْر: الشرك عندها قولًا وفعلًا. وفى "صحيح مسلم" (¬1)، عن أبى هريرة [57 أ] رضي الله عنه، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "زوروا القبور؛ فإنها تُذكّر الموت". وعن علي بن أبي طالب رضي الله تعالى عنه، أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "إني كنتُ نهيتكم عن زيارة القبور؛ فزوروها؛ فإنها تذكركم الآخرة". رواه الإمام أحمد (¬2). ¬

_ = (2/ 1060)، والألباني في الإرواء (3/ 226). وهو عند مسلم (977) لكن ليس فيه النهي عن قول الهجر. وفي الباب عن أنس وابن عباس وابن عمر وأبي هريرة وثوبان وزيد بن ثابت وعبد الله بن عمرو وأبي ذر وزيد بن الخطاب وجابر بن عبد الله وحيان الأنصاري وعائشة وأم سلمة رضي الله عنهم. (¬1) برقم (976). (¬2) مسند أحمد (1/ 145) من طريق ابن جدعان عن ربيعة بن النابغة عن أبيه عن علي به، وبهذا الإسناد رواه ابن أبي شيبة (3/ 29)، وأبو يعلى (278)، وعنه ابن عدي في الكامل (3/ 160)، قال الهيثمي في المجمع (4/ 26): "فيه النابغة، ذكره ابن أبي حاتم ولم يوثقه ولم يجرحه"، وقال في موضع آخر (3/ 186): "فيه ربيعة بن النابغة، قال البخاري: لم يصح حديثه عن علي في الأضاحي"، وهو هذا الحديث. ورواه مسدد -كما في إتحاف الخيرة (4/ 359) - من طريق ابن جدعان عن النابغة بن مخارق عن أبيه عن علي، قال البوصيري: "مدارها على علي بن زيد بن جدعان وهو ضعيف".

وعن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما، قال: مر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بقبور المدينة، فأقبل عليهم بوجهه، فقال: "السلام عليكم يا أهل القبور! يغفر الله لنا ولكم، ونحن بالأثر". رواه أحمد، والترمذي وحسنه (¬1). وعن ابن مسعود رضي الله تعالى عنه، أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "كنت نهيتكم عن زيارة القبور؛ فزوروا القبور؛ فإنها تُزهّد في الدنيا، وتُذكّر الآخرة". رواه ابن ماجه (¬2). ¬

_ (¬1) لم أقف عليه عند أحمد، وهو في سنن الترمذي (1053) من طريق قابوس بن أبي ظبيان عن أبيه عن ابن عباس به، وبهذا الإسناد رواه الطبراني في الكبير (12/ 107)، ومن طريقه الضياء في المختارة (532)، وحسنه ابن حجر كما في الفتوحات الربانية (4/ 220) وقال: "رجاله رجال الصحيح غير قابوس فمختلف فيه"، وقال الألباني في أحكام الجنائز (ص 197): "لعل تحسين الترمذي لحديثه هذا إنما هو باعتبار شواهده، فإن معناه ثابت في الأحاديث الصحيحة". (¬2) سنن ابن ماجه (1571) من طريق ابن جريج عن ابن هانئ عن مسروق عن ابن مسعود به، وبهذا الإسناد رواه الشاشي (397)، والحاكم (1387)، وعنه البيهقي في الكبرى (4/ 77)، وصححه ابن حبان (981)، والمنذري في الترغيب (4/ 189)، وقال البوصيري في المصباح (2/ 42): "إسناد حسن، أيوب بن هانئ مختلف فيه، وباقي رجاله على شرط مسلم". ورواه عبد الرزاق (3/ 572) عن ابن جريج قال: حدِّثت عن مسروق به. ورواه ابن أبي شيبة (3/ 29) وأحمد (1/ 452) وأبو يعلى (5299) والدارقطني (4/ 259) من طريق فرقد السبخي عن جابر بن يزيد عن مسروق به نحوه، قال الدارقطني: "فرقد وجابر ضعيفان، ولا يصح"، وضعفه الهيثمي في المجمع (4/ 28)، والبوصيري في إتحاف الخيرة (5/ 326) وقال: "لكن له شواهد".

لن يصلح آخر هذه الأمة إلا ما أصلح أولها

وروى الإمام أحمد (¬1)، عن أبي سعيد رضي الله عنه، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "كنت نهيتكم عن زيارة القبور، فزوروها؛ فإن فيها عِبْرة". فهذه الزيارة التي شرعها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لأُمته، وعلّمهم إياها، هل تجد فيها شيئًا مما يعتمده أهل الشرك والبدع؟ أم تجدها مُضادّة لما هم عليه من كل وجه؟ وما أحسنَ ما قال مالكُ بن أنس رحمه الله: "لن يُصلح آخر هذه الأمة إلا ما أصلح أوّلهَا". ولكن كلما ضعُف تمسُّك الأمم بعهود أنبيائهم، ونقص إيمانهم، عُوّضوا عن ذلك بما أحدثوه من البدع والشرك. ولقد جَرّد السلف الصالحُ التوحيدَ، وحَمَوْا جانبه، حتى كان أحدُهم إذا سلّم على النبي - صلى الله عليه وسلم -، ثم أراد الدعاء، استقبل القبلة، وجعل ظهره إلى جدار ¬

_ (¬1) مسند أحمد (3/ 38) من طريق أسامة بن زيد عن محمد بن يحيى بن حبان عن عمّه عن أبي سعيد، وبهذا الإسناد رواه عبد بن حميد (985)، والبيهقي في الكبرى (4/ 77)، وصححه الحاكم (1386)، وقال المنذري في الترغيب (4/ 189): "رواته محتج بهم في الصحيح"، وتبعه الهيثمي في المجمع (3/ 184)، وحسنه الذهبي في المهذب (3/ 1426)، وصححه الألباني في أحكام الجنائز (ص 179). وروي عن محمد بن يحيى بن حبان مرسلًا. ورواه أحمد (3/ 63، 66) من طريق محمد بن عمرو بن ثابت عن أبيه عن أبي سعيد بنحوه. ورواه مالك (1031) - ومن طريقه البيهقي في الكبرى (4/ 77) - عن ربيعة بن أبي عبد الرحمن عن أبي سعيد، قال البيهقي: "ربيعة لم يدرك أبا سعيد"، وقال ابن عبد البر في التمهيد (3/ 214): "لم يسمع ربيعة من أبي سعيد، وهذا الحديث يتصل من غير حديث ربيعة ويستند إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - من طرق حسان ... وهو حديث صحيح".

القبر، ثم دعا. فقال سلمة بن وَرْدان: رأيتُ أنس بن مالك رضي الله عنه يُسلّم على النبي - صلى الله عليه وسلم - ثم يُسندِ ظهره إلى جِدار القبر، ثم يدعو (¬1). ونص على ذلك الأئمةُ الأربعةُ: أنه يستقبل القِبْلة وقت الدعاء، حتى لا يدعو عند القبر؛ فإن الدعاء عبادة. وفي "الترمذي" (¬2) وغيره مرفوعًا: "الدعاء هو العبادة". ¬

_ (¬1) رواه ابن زبالة في أخبار المدينة -كما في الاقتضاء (ص 372) - عن عمر بن هارون عن سلمة بن وردان به، قال ابن تيمية: "محمد بن الحسن بن زبالة صاحبُ أخبار، وهو مضعَّف عند أهل الحديث؛ كالواقدي ونحوه، لكن يُستأنس بما يرويه ويُعتبر به"، وعمر بن هارون البلخي واهٍ اتهَّمه بعضهم، وسلمة بن وردان ضعيف. وروى البيهقي في الشعب (3/ 491) من طريق ابن أبي الدنيا عن الحسن بن الصباح عن معن عن عبد الله بن منيب بن عبد الله بن أبي أمامة عن أبيه قال: رأيت أنس بن مالك أتى قبر النبي - صلى الله عليه وسلم - فوقف فرفع يديه حتى ظننت أنه افتتح الصلاة، فسلم على النبي - صلى الله عليه وسلم - ثم انصرف. ولم يذكر الدعاء، ومنيب قال عنه ابن حجر: "مقبول". (¬2) سنن الترمذي (2969، 3247، 3372) من حديث النعمان بن بشير رضي الله عنه، ورواه أيضًا ابن المبارك في الزهد (1298، 1299)، والطيالسي (801)، وعبد الرزاق في التفسير (3/ 182)، وابن أبي شيبة (6/ 21)، وأحمد (4/ 267، 271، 276)، والبخاري في الأدب المفرد (714)، وأبو داود (1481)، والنسائي في الكبرى (11464)، وابن ماجه (3828)، وغيرهم، قال الترمذي: "هذا حديث حسن صحيح"، وصححه ابن حبان (890)، والحاكم (1802، 1803، 1804)، والنووي في الأذكار (1161)، والشوكاني في تفسيره (1/ 284)، وحسنه ابن حجر في الفتح (1/ 49)، وصححه الألباني في أحكام الجنائز (ص 194). وفي الباب عن البراء وأنس رضي الله عنهما.

الميت محتاج إلى من يدعو له ويشفع له

فجرَّد السلفُ العبادة لله، ولم يفعلوا عند القبور منها إلا ما أَذِن فيه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من السلام على أصحابها، والاستغفار لهم، والترحّم عليهم. وبالجملة فالميت قد انقطع عمله، فهو محتاج إلى من يدعو له ويشفع له، ولهذا شُرع في الصلاة عليه من الدعاء له وجوبًا واستحبابًا ما لم يشرع مثله في الدعاء للحي. قال عوف بن مالك: صلّى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على جنازة، فحفظتُ من دعائه وهو يقول: "اللهم اغفر له وارحمه، وعافِه واعفُ عنه، وأكرِمْ نُزُله، ووسّع مُدْخَله، واغسله بالماء والثلج والبَرَد، ونَقّه من الخطايا كما نقّيت الثوب الأبيض من الدّنَس، وأبْدِلْه دارًا خيرًا من داره، وأهلاً خيرًا من أهله، وزوجًا خيرًا من زوجه، وأدخله الجنة، وأعِذْه من عذاب القبر - أو من عذاب النار- "؛ حتى تمنيتُ أن أكون أنا الميت، لدعاء رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على ذلك الميت. رواه مسلم (¬1). وقال أبو هريرة رضي الله تعالى عنه: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول في صلاته على الجنازة: "اللهم أنت ربّها، وأنت خلقتها، وأنت هديتَها للإسلام، وأنت قبضت روحها، وأنت أعلم بِسرها وعلانيتها، جئنا شُفعاء؛ فاغفر له". رواه الإمام أحمد (¬2). ¬

_ (¬1) برقم (963). (¬2) مسند أحمد (2/ 256، 345، 363، 458)، ورواه أيضا ابن أبي شيبة (2/ 488، 6/ 98)، وابن راهويه (287، 463)، وعبد بن حميد (1450)، وأبو داود (3202)، والنسائي في الكبرى (10915، 10916، 10917)، والطبراني في الدعاء (1179، 1180، 1181، 1183، 1184، 1185، 1186) وفي غيره، والبيهقي في الكبرى =

وفي "سنن أبي داود" (¬1) عن أبي هريرة رضي الله عنه، أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "إذا صليتم على الميت فأخْلِصوا له الدعاء". وقالت عائشة وأنس عن النبي - صلى الله عليه وسلم -: "ما من ميت يصلي عليه أُمةٌ من المسلمين يبلُغون مئةً كُلُّهم يشفعون له؛ إلا شُفِّعوا فيه" رواه مسلم (¬2). وعن ابن عباس رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: "ما مِنْ رجل مسلم يموت، فيقوم على جنارته أربعون رجلاً، لا يُشركون [57 ب] بالله شيئًا؛ إلا شفّعهم الله فيه". رواه مسلم (¬3). فهذا مقصود الصلاة على الميت، وهو الدعاء له، والاستغفار، والشفاعة فيه. ومعلوم أنه في قبره أشدّ حاجة منه على نَعْشِه؛ فإنه حينئذٍ مُعرَّض للسؤال وغيره. ¬

_ = (4/ 42)، وغيرهم، وصححه النووي في الخلاصة (2/ 979)، وحسنه ابن حجر كما في الفتوحات الربانية (4/ 176)، مع أنّ في سنده اختلافًا كثيرًا، ورواه الطبري في تهذيب الآثار (292 - الجزء المفقود -) والفسوي في المعرفة (3/ 202) عن أبي هريرة موقوفًا. وفي الباب عن أنس وعلي وعن رجل من مزينة. (¬1) سنن أبي داود (3201)، ومن طريقه البيهقي في الكبرى (4/ 40)، ورواه أيضًا ابن ماجه (1497)، والطبري في تهذيب الآثار (305، 306 - الجزء المفقود-)، والطبراني في الدعاء (1205، 1206)، وصححه ابن حبان (3076، 3077)، وفي سنده ابن إسحاق، وقد صرّح بالتحديث عند الطبري وابن حبان؛ ولذا حسَّنه الألباني في الإرواء (732). (¬2) برقم (947). (¬3) برقم (948).

من المحال أن يكون دعاء الموتى أو الدعاء بهم أو عندهم مشروعا وعملا صالحا ثم يصرف عنه القرون الثلاثة المفضلة

وقد كان - صلى الله عليه وسلم - يقف على القبر بعد الدفن فيقول: "سلوا له التثبيت، فإنه الآن يُسأل" (¬1). فعُلم أنه أحوج إلى الدعاء له بعد الدفن، فإذا كنا على جنازته ندعو له، لا نَدعو به، ونشفع له، لا نستشفع به، فبَعد الدفن أولى وأحرى، فبدّل أهل البدع والشرك قولًا غير الذي قيل لهم، بدَّلوا الدعاءَ له بدعائه نفسه، والشفاعةَ له بالاستشفاع به، وقصدوا بالزيارة - التي شرعها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إحسانًا إلى الميت وإحسانًا إلى الزائر، وتذكيرًا بالآخرة - سؤال الميت، والإقسام به على الله، وتخصيص تلك البقعة بالدعاء الذي هو مُخّ العبادة، وحضور القلب عندها وخشوعه أعظم منه في المساجد، وأوقات الأسحار. ومن المُحال أن يكون دعاء الموتى أو الدعاء بهم أو الدعاء عندهم مشروعًا وعملًا صالحًا، ويُصرف عنه القرونُ الثلاثة المفضّلة بنص رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، ثم يُرْزَقَه الخُلوف الذين يقولون ما لا يفعلون، ويفعلون ما لا يؤمرون. فهذه سُنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في أهل القبور بِضْعًا وعشرين سَنةً، حتى توفاه الله، وهذه سُنّة خلفائه الراشدين، وهذه طريقة جميع الصحابة والتابعين لهم بإحسان، هل يُمكنُ بَشرًا على وجه الأرض أن يأتي عن أحد منهم بنقل ¬

_ (¬1) رواه أبو داود (3223)، وعبد الله بن أحمد في فضائل الصحابة (773)، وابن السني في عمل اليوم والليلة (585)، والبيهقي في الكبرى (4/ 56)، والضياء في المختارة (388) من حديث عثمان بن عفان رضي الله عنه، وصححه الحاكم (1372)، وحسنه المنذري كما في البدر المنير (5/ 331)، والنووي في المجموع (5/ 292) وفي غيره، وابن القيم في الروح (ص 13)، وهو في صحيح الترغيب (3511).

صحيح، أو حسن، أو ضعيف، أو منقطع: أنهم كانوا إذا كان لهم حاجة قصدوا القبور فَدَعَوْا عندها، وتمسّحوا بها، فضلًا أن يُصلّوا عندها، أو يسألوا الله بأصحابها، أو يسألوهم حوائجهم؟ فَلْيُوقِفونا على أثر واحد، أو حرف واحد في ذلك. بلى؛ يمكنهم أن يأتوا عن الخُلوف التي خلفت بعدهم بكثير من ذلك، وكلما تأخر الزمان وطال العهد كان ذلك أكثر، حتى لقد وُجد في ذلك عدَّة مصنَّفات ليس فيها عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ولا عن خلفائه الراشدين ولا عن أصحابه حرف واحد من ذلك، بلى؛ فيها من خلاف ذلك كثير، كما قدمناه من الأحاديث المرفوعة. وأما آثار الصحابة فأكثر من أن يُحاط بها، وقد ذكرنا إنكار عمر على أنس صلاته عند القبر، وقوله له: "القبر القبر" (¬1). وقد ذكر محمد بن إسحاق في "مغازيه" (¬2) من زيادات يونس بن ¬

_ (¬1) تقدم تخريجه. (¬2) السيرة لابن إسحاق (1/ 43 - 44)، ومن طريق ابن بكير رواه البيهقي في الدلائل (1/ 381)، قال ابن كثير في البداية والنهاية (2/ 49): "هذا إسناد صحيح إلى أبي العالية". ورواه نعيم في الفتن (37) عن محمد بن يزيد عن أبي خلدة بنحوه مقتصرًا على شأن المصحف. ويقوّيه ما رواه ابن أبي شيبة (7/ 4) عن شاذان عن حماد بن سلمة عن أبي عمران الجوني عن أنس أنهم لما فتحوا تستر قال: فوجد رجلاً أنفه ذراع في التابوت، كانوا يستظهرون أو يستمطرون به، فكتب أبو موسى إلى عمر بن الخطاب بذلك، فكتب عمر: إن هذا نبيّ من الأنبياء، والنار لا تأكل الأنبياء، والأرض لا تأكل الأنبياء، فكتب إليه أن انظر أنت وأصحابك فادفنوه في مكان لا يعلمه أحد غيركما، قال: فذهبتُ أنا وأبو موسى فدفنّاه. ولقصّة دفن دانيال طرق أخرى.

ذكر ما فعله الصحابة بدانيال، والعبرة من ذلك

بكير (¬1)، عن أبي خَلدة خالد بن دينار، قال: حدثنا أبو العالية، قال: لما فتحنا تُسْتَر وجدنا في بيتِ مال الهُرْمُزان سريرًا عليه رجل ميت، عند رأسه مصحف له، فأخذنا المصحف، فحملناه إلى عمر بن الخطاب رضي الله عنه، فدعا له كَعبًا، فنسخه بالعربية، فأنا أولُ رجل من العرب قرأه، قرأته مثل ما أقرأ القرآن، فقلت لأبي العالية: ما كان فيه؟ قال: سيرتُكم وأموركم ولحُون (¬2) كلامكم، وما هو كائن بعدُ، قلت: فما صنعتم بالرجل؟ قال: حفرنا بالنهار ثلاثة عشر قبرًا متفرقة، فلما كان الليلُ دفنّاه وسوينا القبور كلها، لنُعَمِّيَه على الناس لا يَنْبشونه، فقلت: وما يرجون منه؟ قال: كانت السماء إذا حُبست عنهم أبرزوا السرير فيُمْطَرون، فقلت: من كنتم تظنون الرجل؟ قال: رجل يقال له: دانيال، فقلت: مُنذْ كَمْ وجدتموه مات؟ قال: منذ ثلاث مئة سنة، قلت: ما كان تغير منه شيء؟ قال: لا؛ إلا شُعيرات من قَفاه، إن لحوم الأنبياء لا تُبليها الأرض، ولا تأكلها السباع. ففي هذه القصة ما فعله المهاجرون والأنصار من تعمية قبره؛ لئلا يفتتن به الناس، ولم يُبْرزوه للدعاء عنده والتبرك به، ولو ظفر به المتأخرون [58 أ] لجالدوا عليه بالسيوف، ولعبدوه من دون الله، فهم قد اتخذوا من القبور أوثانًا مَنْ لا يُداني هذا ولا يقاربه، وأقاموا لها سَدنَة، وجعلوها معابد أعظم من المساجد. فلو كان الدعاء عند القبور، والصلاة عندها، والتبرك بها فضيلةً أو سنة أو مباحًا، لنصب المهاجرون والأنصار هذا القبر عَلَمًا لذلك، ودعوا عنده، ¬

_ (¬1) م: "بكر" تحريف. (¬2) م: "لحوف". ح: "لحوت" تحريف.

إنكار الصحابة رضي الله عنهم لما هو أدنى من دعاء القبور

وسنُّوا ذلك لمن بعدهم، ولكن كانوا أعلم بالله ورسوله ودينه من الخُلوف التي خلفت بعدهم. وكذلك التابعون لهم بإحسان راحوا على هذا السبيل، وقد كان عندهم من قبور أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بالأمصار عدد كثير، وهم متوافرون، فما منهم من استغاث عند قبر صاحب، ولا دعاه، ولا دعا به، ولا دعا عنده، ولا استسقى به، ولا استنصر به، ومن المعلوم أن مثل هذا مما تتوفَّر الهمم والدّواعي على نقله، بل على نقل ما هو دونه. وحينئذٍ فلا يخلو: إما أن يكون الدعاء عندها والدعاء بأربابها أفضل منه في غير تلك البقعة، أولا يكون: فإن كان أفضل فكيف خفي علمًا وعملًا على الصحابة والتابعين وتابعيهم؟ فتكون القرون الثلاثة الفاضلة جاهلةً بهذا الفضل العظيم، وتظفر به الخُلوف علمًا وعملًا؟ ولا يجوز أن يعلموه ويزهدوا فيه، مع حرصهم على كل خير، لا سيما الدعاء؛ فإن المضطر يتشبّثُ بكل سبب، وإن كان فيه كراهةٌ ما، فكيف يكونون مضطرين في كثير من الدعاء، وهم يعلمون فضل الدعاء عند القبور، ثم لا يقصدونه؟ هذا محال طبعًا وشرعًا. فتعيّن القسم الآخر، وهو أنه لا فضل للدعاء عندها، ولا هو مشروع، ولا مأذون فيه بقصد الخصوص، بل تخصيصها بالدعاء عندها ذَريعة إلى ما تقدم من المفاسد، ومثل هذا مما لا يشرعه الله ورسوله البتة، بل استحبابُ الدعاء عندها شرعُ عبادةٍ لم يشرعها الله، ولم يُنزّل بها سلطانًا. وقد أنكر الصحابة ما هو دون هذا بكثير.

فروى غير واحد عن المَعْرُور بن سُوَيد، قال: صليتُ مع عمر بن الخطاب رضي الله عنه في طريق مكة صلاة الصبح، فقرأ فيها: {أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِأَصْحَابِ الْفِيلِ} [الفيل: 1]، و {لِإِيلَافِ قُرَيْشٍ} [قريش: 1]، ثم رأى الناس يذهبون مذاهب، فقال: أين يذهب هؤلاء؟ فقيل: يا أمير المؤمنين! مسجدٌ صلى فيه النبي - صلى الله عليه وسلم - فهم يصلّون فيه، فقال: إنما هَلَك مَنْ كان قبلكم بمثل هذا، كانوا يتّبعون آثار أنبيائهم، ويتخذونها كنائس وبِيَعًا. فمن أدْرَكته الصلاة منكم في هذه المساجد فليُصَلّ، ومَنْ لا فَليَمْضِ ولا يتعمّدها (¬1). وكذلك أرسل عمر رضي الله تعالى عنه أيضًا؛ فقطَع الشجرة التي بايع تحتها أصحابُ النبي - صلى الله عليه وسلم - (¬2). بل قد أنكر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على الصحابة لمّا سألوه أن يجعل لهم شَجَرة يُعلّقون عليها أسلحتهم ومتاعَهم بخصوصها. فروى البخاري في "صحيحه" (¬3) عن أبي واقِد اللَّيثي، قال: خرجنا مع ¬

_ (¬1) رواه عبد الرزاق (2/ 118)، وابن أبي شيبة (2/ 151)، والطحاوي في شرح المشكل (12/ 544 - 545) وغيرهم من طرق عن الأعمش عن المعرور به نحوه، وصححه ابن تيمية كما في المجموع (1/ 281، 27/ 33، 134، 171) وفي مواضع أخرى، وابن كثير في مسند الفاروق (1/ 142)، وابن حجر في الفتح (1/ 569)، والألباني في تحذير الساجد (ص 82). (¬2) سيأتي تخريجه. (¬3) ليس هو في صحيح البخاري، وقد نبَّه على ذلك في هامش ح. وسيعزوه فيما يأتي للترمذي، وهو في سننه (2180)، ورواه أيضا الطيالسي (1346)، وعبد الرزاق (11/ 369)، والحميدي (848)، وابن أبي شيبة (7/ 479)، وأحمد (5/ 218)، =

بيان الفرق الشاسع بين منهج السلف ومنهج الخلوف الذين جاءوا بعدهم، وذكر أقوالهم في ذلك

رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قِبَلَ حُنَين، ونحن حَديثُو عَهدٍ بكفر، وللمشركين سِدْرَةٌ، يَعْكُفون حولها ويَنُوطون بها أسلحتهم، يقال لها: ذاتُ أنواطٍ، فمررنا بسِدْرةٍ، فقلنا: يا رسول الله! اجعل لنا ذاتَ أنواطٍ، كما لهم ذاتُ أنواط، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: "الله أكبر! هذا كما قالت بنو إسرائيل: {اجْعَلْ لَنَا إِلَهًا كَمَا لَهُمْ آلِهَةٌ قَالَ إِنَّكُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ} [الأعراف: 138]! لتركبنَّ سَنَنَ من كان قبلكم". فإذا كان اتخاذُ هذه الشجرة لتعليق الأسلحة والعكوف حولها اتخاذَ إله مع الله، مع أنهم لا يعبدونها، ولا يسألونها؛ فما الظن بالعكوف حول القبر، والدعاء به [58 ب] ودعائه، والدعاء عنده؟ فأيّ نِسبَةٍ للفتنة بشجرة إلى الفتنة بالقبر؟ لو كان أهل الشرك والبدعة يعلمون! قال بعض أهل العلم من أصحاب مالك (¬1): فانظروا رحمكم الله أينما وجدتم سِدْرة أو شجرة يقصدها الناس، ويعظمونها، ويَرجُون البُرءَ والشفاء من قِبَلها، ويَضْربُون بها المسامير والخِرَق؛ فهي ذاتُ أنواط، فاقطعوها. ومن له خِبرة بما بعث الله به رسوله، وبما عليه أهل الشرك والبدع اليوم في هذا الباب وغيره، عَلِمَ أن بين السلف وبين هؤلاء الخُلوف من البُعْد أبعد ما بين المشرق والمغرب، وأنهم على شيء والسلف على شيء، كما قيل: ¬

_ = وابن أبي عاصم في السنة (76)، والنسائي في الكبرى (11185) من طريق عبد الرزاق، وأبو يعلى (1441) عن ابن أبي شيبة، وغيرُهم، قال الترمذي: "هذا حديث حسن صحيح"، وصححه ابن حبان (6702)، وابن القيم في هذا الكتاب، وابن باز كما في مجموع فتاويه (3/ 337، 355)، والألباني في ظلال الجنة (76). وفي الباب عن ابن عباس وعمرو بن عوف المزني. (¬1) هو الطرطوشي، انظر كلامه في الحوادث والبدع (ص 105) ط. عبد المجيد تركي.

سَارَتْ مُشَرّقَةً وَسِرْتَ مُغَرِّبًا ... شَتَّانَ بَيْنَ مُشَرِّقٍ ومُغرِّبِ (¬1) والأمر والله أعظم مما ذكرنا. وقد ذكر البخاري في "الصحيح" (¬2) عن أمّ الدرداء رضي الله عنها، قالت: دخل عليَّ أبو الدرداء مُغضَبًا، فقلت له: ما لَك؟ فقال: والله ما أعرف فيهم شيئًا من أمر محمد - صلى الله عليه وسلم - إلا أنهم يصلون جميعًا! وروى مالك في "الموطأ" (¬3) عن عمه أبي سُهيل بن مالك، عن أبيه، أنه قال: ما أعرف شيئًا مما أدركتُ عليه الناس إلا النّداء بالصلاة؛ يعني الصحابة رضي الله عنهم. وقال الزهريّ: دخلت على أنس بن مالك بدمشق، وهو يبكي، فقلت له: ما يُبكيك؟ فقال: ما أعرف شيئًا مما أدركتُ إلا هذه الصلاة، وهذه الصلاة قد ضُيّعت، ذكره البخاري (¬4). وفي لفظ آخر: ما كنت أعرف شيئًا على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلا قد أنكرته اليوم (¬5). ¬

_ (¬1) البيت بلا نسبة في تاج العروس (شرق). وكان ينشده أبو إسحاق الشيرازي كما في الوافي بالوفيات (6/ 64)، والروض المعطار (ص 444). (¬2) برقم (650). (¬3) الموطأ (155)، ومن طريق مالك رواه ابن وضاح في البدع والنهي عنها (174). (¬4) صحيح البخاري (530). (¬5) أقرب ما وقفتُ عليه إلى هذا اللفظ ما ذكره ابن رجب في الفتح (3/ 56) قال: "ورواه حماد بن سلمة أن ثابتًا أخبره قال: قال أنس: ما شيء شهدته على عهد رسول الله إلا وقد أنكرته اليوم" الأثر.

وقال الحسن البصري: سأل رجل أبا الدرداء رضي الله عنه فقال: رحمك الله! لو أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بين أظهرنا هل كان ينكر شيئًا مما نحن عليه؟ فغضب، واشتد غضبه، وقال: وهل كان يعرف شيئًا مما أنتم عليه؟ (¬1). وقال المبارك بن فَضَالة: صلى الحسنُ الجمعة وجلس، فبكى، فقيل له: ما يبكيك يا أبا سعيد؟ فقال: تلومونني على البكاء، ولو أن رجلًا من المهاجرين اطّلع من باب مسجدكم ما عرف شيئًا مما كان عليه على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أنتم اليوم عليه؛ إلا قِبْلَتكم هذه! (¬2). وهذه هي الفتنة العظمى التي قال فيها عبد الله بن مسعود رضي الله عنه: "كيف أنتم إذا لَبِستكم فتنة، يَهْرَم فيها الكبير، وينشأ فيها الصغير، تجري على الناس، يتخذونها سُنة؛ إذا غُيّرت قيل: غُيّرت السنة، أو هذا منكر" (¬3). ¬

_ (¬1) لم أقف على هذه الرواية، وروى البخاري (622) عن أم الدرداء قالت: دخل عليَّ أبو الدرداء وهو مغضَب، فقلت: ما أغضبك؟ فقال: والله، ما أعرف من أمّة محمد - صلى الله عليه وسلم - شيئًا إلا أنهم يصلّون جميعًا. (¬2) ذكره الحكيم الترمذي في نوادر الأصول (4/ 1)، ورواه ابن وضاح في البدع والنهي عنها (176) من طريق ابن عيينة عن ابن فضالة عن الحسن قال: لو أنّ رجلا أدرك السلف الأوّل ثم بعِث اليوم ما عرف من الإسلام شيئا، قال: ووضع يده على خدّه ثم قال: إلا هذه الصلاة. (¬3) رواه ابن أبي شيبة (7/ 452)، والدارمي (185)، والشاشي (613)، والحاكم (8570)، والبيهقي في الشعب (5/ 361) من طرق عن الأعمش عن شقيق عن ابن مسعود. ورواه معمر في جامعه (11/ 359) - ومن طريقه الخطابي في العزلة (ص 84) - عن قتادة عن ابن مسعود. ورواه الدارمي (186) وابن وضاح في البدع =

فصل: من أعظم مكايد الشيطان: الأنصاب والأزلام

وهذا مما يدل على أن العمل إذا جرى على خلاف السنة فلا عبرة به، ولا التفات إليه؛ فإن العمل قد جرى على خلاف السنة منذ زمن أبي الدرداء، وأنس، كما تقدم. وذكر أبو العباس أحمد بن يحيى: حدثني محمد بن عُبيد بن ميمون، حدثني عبد الله بن إسحق الجعفري، قال: كان عبد الله بن الحسن يُكْثِرُ الجلوس إلى ربيعة، قال: فتذاكروا يومًا السّنن، فقال رجل كان في المجلس: ليس العمل على هذا، فقال عبد الله: أرأيت إن كثر الجهّال، حتى يكونوا هم الحكّام، فهم الحجة على السنة؟ فقال ربيعة: أشهد أن هذا كلام أبناء الأنبياء (¬1). فصل ومن أعظم مكايده: ما نصبَهُ للناس من الأنصاب والأزلام التي هي مِنْ عمله، وقد أمر الله تعالى باجتناب ذلك، وعَلّق الفلاح باجتنابه، فقال: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصَابُ وَالْأَزْلَامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} [المائدة: 90]. فالأنصاب: كل ما نُصِب يُعْبد من دون الله من حجر، أو شجر، أو وثنٍ، أو قبرٍ، وهي [59 أ] جمع، واحدها نُصْب، كطنْب وأطناب. ¬

_ = (261) وابن حزم في الإحكام (6/ 315) من طريق علقمة، ونعيم في الفتن (69) من طريق عمرو بن ميمون، وابن وضاح في البدع (78) من طريق زبيد اليامي، ثلاثتهم عن ابن مسعود. وهو في صحيح الترغيب (111). ورُوِي مرفوعًا. (¬1) رواه الخطيب في الفقيه والمتفقه (1/ 380)، وابن عساكر في تاريخ دمشق (27/ 372) من طريق أحمد بن يحيى به.

قال مجاهد (¬1)، وقتادة (¬2)، وابن جريج (¬3): كانت حول البيت أحجار كان أهل الجاهلية يذبحون عليها، وُيشرِّحون اللحم عليها، وكانوا يعظمون هذه الحجارة ويعبدونها، قالوا: وليست بأصنام، إنما الصنم ما يُصَوَّر ويُنقش. وقال ابن عباس (¬4): هي الأصنام التي تُعَبد من دون الله. وقال الزّجاج (¬5): حجارة كانت لهم يعبدونها، وهي الأوثان. ¬

_ (¬1) أقوال هؤلاء المفسرين منقولة من البسيط للواحدي (7/ 248 - 249). وقول مجاهد: "النصُب: حجارة حول الكعبة، يذبح عليها أهل الجاهلية، ويبدِّلونها إذا شاؤوا بحجارة أعجب إليهم منها" رواه ابن جرير في تفسيره (11049، 11050، 11051، 11055) من طريق ابن أبي نجيح والقاسم بن أبي بزة عن مجاهد به، وعزاه في الدر المنثور (3/ 15) لعبد بن حميد وابن المنذر. (¬2) قول قتادة: "النصب: حجارةٌ كان أهل الجاهلية يعبدونها ويذبحون لها، فنهى الله عن ذلك" رواه ابن جرير في تفسيره (11052). (¬3) قول ابن جريج: "النصُب ليست بأصنام، الصنم يصوَّر وينقش، وهذه حجارة تنصَب، ثلثمائة وستون حجرًا، فكانوا إذا ذبحوا نضحوا الدم على ما أقبَل من البيت، وشرَّحوا اللحم وجعلوه على الحجارة" رواه ابن جرير في تفسيره (11048)، وعزاه في الدر المنثور (6/ 56) لابن المنذر. (¬4) تفسير ابن عباس للنّصُب بالأصنام رواه البيهقي في الكبرى (9/ 249) من طريق ابن أبي طلحة عنه. وروى الطستي في مسائله -كما في الدر المنثور (3/ 14) - عن ابن عاس قال: "الأنصاب: الحجارة التي كانت العرب تعبدها من دون الله وتذبح لها"، ورواه ابن أبي حاتم في تفسيره (6754) عن عطاء عنه. وروى ابن جرير في تفسيره (11054) عن علي بن أبي طلحة عنه قال: "النصب: أنصاب كانوا يذبحون ويهُلُّون عليها"، وعزاه في الدر المنثور (3/ 14) لابن المنذر. (¬5) معاني القرآن (2/ 146).

معنى الأزلام

وقال الفرّاء (¬1): هي الآلهة التي كانت تُعَبد، من أحجار (¬2) وغيرها. وأصل اللفظة: الشيء المنصوب الذي يقصده من رآه، ومنه قوله تعالى: {يَوْمَ يَخْرُجُونَ مِنَ الْأَجْدَاثِ سِرَاعًا كَأَنَّهُمْ إِلَى نُصُبٍ يُوفِضُونَ} [المعارج: 43] قال ابن عباس (¬3): إلى غاية أو عَلَمٍ يُسرعون. وهو قول أكثر المفسرين. وقال الحسن (¬4): يعني: إلى أنصابهم، أيُّهم يستلمها أولًا. قال الزجاج (¬5): وهذا على قراءة من قرأ {نُصُب} بضمتين، كقوله: {وَمَا ذُبِحَ عَلَى النُّصُبِ} [المائدة: 3]، قال: ومعناه: أصنام لهم. والمقصود أن النُصُب كل شيء نُصِبَ، من خشبة أو حجر أو عَلَم. والإيفاض: الإسراع. وأما الأزلام: فقال ابن عباس (¬6): هي قداح كانوا يَستقسمون بها في ¬

_ (¬1) لم أجد قوله في معاني القرآن له. وهو في تهذيب اللغة (12/ 210)، والنقل هنا من البسيط. (¬2) م: "أشجار". (¬3) هذه الأقوال منقولة من البسيط (22/ 238)، وقول ابن عباس رواه ابن جرير في تفسيره (23/ 625) من طريق عطية العوفي عنه قال: "كأنهم إلى عَلَم يسعون". (¬4) رواه ابن أبي الدنيا في الأهوال (74)، وابن جرير في تفسيره (23/ 625)، وابن أبي حاتم كما في فتح الباري (3/ 226)، وعزاه في الدر المنثور (8/ 287) لعبد بن حميد. (¬5) معاني القرآن (5/ 224). (¬6) رواه ابن جرير في تفسيره (11073) والبيهقي في الكبرى (9/ 249) من طريق علي =

قول العرافين والمنجمين افعل كذا لأجل كذا والعكس من الاستقسام بالأزلام

الأُمور؛ أي يطلبون بها عِلْمَ ما قُسِم لهم. وقال سعيد بن جُبير (¬1): كانت لهم حَصَيات، إذا أراد أحدهم أن يغزو أو يجلس استقسم بها. وقال أيضًا (¬2): هي القِدْحان (¬3) اللذان كان يستقسم بهما أهل الجاهلية في أمورهم، أحدهما: عليه مكتوب أمرني ربي، والآخر: نهاني ربي، فإذا أرادوا أمرًا ضربوا بها، فإن خرج الذي عليه "أمرني" فعلوا ما همّوا به، وإن خرج الذي عليه: "نهاني" تركوه. قال أبو عُبيد (¬4): الاستقسام: طلبُ القسمة. وقال المبرد: الاستقسام: أخذُ كلِّ واحدٍ قَسْمَه. وقيل: الاستقسام: إلزام أنفسهم بما تأمرهم به القداح، كقسم اليمين. وقال الأزهري: {وَأَنْ تَسْتَقْسِمُوا بِالْأَزْلَامِ} [المائدة: 3]؛ أي: تطلبوا من جهة الأزلام ما قُسِم لكم من أحد الأمرين. ¬

_ = ابن أبي طلحة، وابن أبي حاتم في تفسيره (6755) من طريق عطاء، كلاهما عن ابن عباس به، وعزاه في الدر المنثور (3/ 14) لابن المنذر والطستي في مسائله. (¬1) رواه ابن جرير في تفسيره (11059) وابن أبي حاتم في تفسيره (6756) من طريقين عن أبي حصين عنه. (¬2) رواه ابن أبي حاتم في تفسيره (6757) من طريق ابن لهيعة عن عطاء بن دينار عنه، ورواه ابن جرير في تفسيره (11058) من طريق أبي حصين عنه بمعناه. (¬3) في أكثر النسخ: "القدحين". والتصويب من ح. (¬4) قول أبي عبيد ومَن بعده منقول من البسيط (7/ 250). وانظر: تهذيب اللغة (8/ 420).

وقال أبو إسحاق الزّجاج (¬1) وغيره: الاستقسام بالأزلام حرام. ولا فرق بين ذلك وبين قول المنجِّم: لا تخرجْ من أجل نجم كذا، واخرُجْ من أجل طلوع نجم كذا؛ لأن الله تعالى يقول: {وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ مَاذَا تَكْسِبُ غَدًا} [لقمان: 34]، وذلك دخول في علم الله عز وجل الذي هو غيب عنا، فهو حرام كالأزلام التي ذكرها الله. والمقصود أن الناس قد ابتُلوا بالأنصاب والأزلام، فالأنصاب للشرك والعبادة، والأزلام للتكهُّن، وطلب عِلْم ما استأثر الله به، هذه للعلم، وتلك للعمل، ودين الله سبحانه مضادّ لهذا وهذا، والذي جاء به رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إبطالهما، وكسرُ الأنصاب والأزلام. فمن الأنصاب ما قد نصبه الشيطان للمشركين، من شجرة، أو عمود، أو وثن، أو قبر، أو خشبة، أو غير ذلك، والواجب هدم ذلك كله، ومَحْوُ أثره، كما أمر النبي - صلى الله عليه وسلم - عليًّا رضي الله عنه بهدم القبور المشرفة وتسويتها بالأرض، كما روى مسلم في "صحيحه" (¬2) عن أبي الهَيّاج الأسدي، قال: قال لي علي رضي الله عنه: ألا أبعثك على ما بعثني عليه رسول الله - صلى الله عليه وسلم -؟ أن لا أدع تمثالًا إلا طمستُه، ولا قبرًا مشرفًا إلا سوّيتُه. وعمّى الصحابة بأمر عمر بن الخطاب قبرَ دانيال، وأخفاه عن الناس (¬3). ¬

_ (¬1) معاني القرآن (2/ 147). وانظر: البسيط (7/ 253). (¬2) برقم (969). وقد سبق. (¬3) تقدم تخريجه.

ولما بلغه أن الناس ينتابون الشجرة التي بايع تحتها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أصحابه أرسل فقطعها. رواه ابن وضّاح في كتابه (¬1)، فقال: سمعت عيسى بن يونس يقول: أمر عمر بن الخطاب رضي الله عنه بقطع الشجرة التي بُويعَ تحتها النبي - صلى الله عليه وسلم -[59 ب] فقطعها؛ لأن الناس كانوا يذهبون فيصلُّون تحتها، فخاف عليهم الفتنة. قال عيسى بن يونس: وهو عندنا من حديث ابن عون، عن نافع: أن الناس كانوا يأتون الشجرة، فقطعها عمر رضي الله عنه. فإذا كان هذا فعل عمر رضي الله عنه بالشجرة التي ذكرها الله في القرآن، وبايع تحتها الصحابةُ رسول الله - صلى الله عليه وسلم -؟ فماذا حكمه فيما عداها من هذه الأنصاب والأوثان، التي قد عظمت الفتنة بها، واشتدت البَلِيّة بها؟ وأبلغ من ذلك: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - هَدَم مسجد الضِّرار، ففي هذا دليل على هدم ما هو أعظم فسادًا منه، كالمساجد المبنية على القبور؛ فإن حكم الإسلام فيها أن تُهدَم كلُّها، حتى تُسوَّى بالأرض، وهي أولى بالهدم من مسجد الضّرار، وكذلك القباب التي على القبور يجب هدمها كلها؛ لأنها أُسِّست على معصية الرسول، لأنه قد نهى عن البناء على القبور كما تقدم؛ فبناءٌ أُسِّس على معصيته ومخالفته بناءٌ محرّمٌ، وهو أولى بالهدم من بناء الغاصب قطعًا. ¬

_ (¬1) البدع والنهي عنها (100). ورواه ابن سعد في الطبقات (2/ 100) عن عبد الوهاب ابن عطاء، وابن أبي شيبة (2/ 150) عن معاذ بن معاذ، كلاهما عن عبد الله بن عون عن نافع قال: كان الناس يأتون الشجرة التي يقال لها شجرة الرضوان فيصلون عندها، قال: فبلغ ذلك عمر بن الخطاب فأوعدهم فيها وأمر بها فقطعت. صحح ابن حجر في الفتح (7/ 448) إسناده عن نافع، وقال الألباني في تحذير الساجد (ص 83): "رجاله ثقات كلهم، لكنه منقطع بين نافع وعمر، فلعل الواسطة بينهما عبد الله بن عمر رضي الله عنهما".

حكم المساجد والقباب المبنية على القبور

وقد أمر النبي - صلى الله عليه وسلم - بهدم القبور المشرفة كما تقدم. فهدم القباب والبناء والمساجد التي بُنيتْ عليها أولى وأحرى؛ لأنه لَعَن مُتخذي المساجد عليها، ونهى عن البناء عليها، فيجب المبادرة والمساعدة إلى هدم ما لعن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فاعله، ونهى عنه، والله يُقيم لدينه وسُنّة رسوله من ينصرهما، ويَذُبّ عنهما، فهو أشد غيرةً وأسرع تغييرًا. وكذلك يجب إزالة كل قنديل أو سراج على قبر وطَفْيُه؛ فإن فاعل ذلك ملعون بلعنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، ولا يصحُّ هذا الوقف، ولا يحل إثباته وتنفيذه. قال الإمام أبو بكر الطرطوشي (¬1): انظروا رحمكم الله أينما وجدتم سدرة أو شجرة يقصدها الناس ويعظمونها، ويرجون البُرْءَ والشفاء من قِبَلها، ويضربون بها المسامير والخِرَق؛ فهي ذات أنواط، فاقطعوها. وقال الحافظ أبو محمد عبد الرحمن بن إسماعيل المعروف بأبي شامة في كتاب "الحوادث والبدع" (¬2): ومن هذا القسم أيضًا: ما قد عَمَّ به الابتلاء، من تزيين الشيطان للعامّة تخليق الحيطان والعُمُد، وسرج مواضع مخصوصة من كل بلد، يحكي لهم حاكٍ أنه رأى في منامه بها أحدًا ممن شُهِرَ بالصلاح والولاية، فيفعلون ذلك (¬3)، ويحافظون عليه، مع تضييعهم فرائض الله وسننه، ويظنون أنهم متقربون بذلك، ثم يتجاوزون هذا إلى أن يعظم وقع تلك الأماكن في قلوبهم فيعظمونها، ويرجون الشفاء لمرضاهم، وقضاء حوائجهم بالنذر لها، وهي من بين عيون، وشجر، وحائط، وحجر. ¬

_ (¬1) في كتابه "الحوادث والبدع" (ص 155). (¬2) هو "الباعث على إنكار البدع والحوادث" (ص 34 وما بعدها). (¬3) "ذلك" ساقطة من م.

ذكر بعض ما في مدينة دمشق من المواضع التي صارت أنصابا

وفي مدينة دمشق من ذلك مواضع متعددة، كعُوينة الحمى خارج باب تُوماء (¬1)، والعمود المخلّق داخل باب الصغير، والشجرة الملعونة اليابسة خارج باب النصر، في نفس قارعة الطريق، سهّل الله تعالى قطْعها واجتثاثَها من أصلها! فما أشبهها بذات أنواط التي في الحديث. ثم ساق حديث أبي واقدٍ: أنهم مَرّوا مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بشجرة عظيمة خضراء، يقال لها: ذات أنواط، وأنهم قالوا لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - اجعلْ لنا ذاتَ أنواط كما لهم ذاتُ أنواط، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: "الله أكبر! هذا كما قال قوم موسى: {اجْعَلْ لَنَا إِلَهًا كَمَا لَهُمْ آلِهَةٌ قَالَ إِنَّكُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ} [الأعراف: 138]؛ لترْكَبُنَّ سَنَنَ من كان قبلكم"، قال الترمذي: "هذا حديث حسن صحيح" (¬2). ثم ذكر ما صنعه بعض أهل العلم ببلاد إفريقية، أنه كان إلى جانبه عين تُسمى عين العافية، كان [60 أ] العامة قد افتتنوا بها، يأتونها من الآفاق، فمن تعذّر عليه نكاحٌ أو ولد قال: امضُوا بي إلى العافية، فتعرف فيها الفتنة (¬3)، فخرج في السَّحَر فهدمها، وأذّن للصبح عليها، ثم قال: اللهم إني هدمتها لك، فلا ترفع لها رأسًا، قال: فما رفع لها رأس إلى الآن. وقد كان بدمشق كثير من هذه الأنصاب، فيسّر الله سبحانه كسرها على يد شيخ الإسلام وحزب الله الموحِّدين، كالعامود المخَلّق، والنُّصْب الذي كان بمسجد النارنج عند المصلى يعبده الجهال، والنُّصْب الذي كان تحت الطاحون، الذي عند مقابر النصارى، ينتابه الناس للتبرك به، وكان صورة ¬

_ (¬1) في الأصل: "توما"، وهي ممدودة كما في معجم البلدان (2/ 59). (¬2) تقدم تخريجه. (¬3) ح: "الفقيه".

صنم في نهر القَلّوط ينذرون له ويتبركون به، وقطع الله سبحانه النُصْب الذي كان عند الرّحَبة يُسْرَج عنده، ويتبرك به المشركون، وكان عمودًا طويلاً على رأسه حجر كالكُرة، وعند مسجد درب الحجر نُصْب قد بُني عليه مسجد صغير، يعبده المشركون، يسَّر الله كَسْرَهُ. فما أسرع أهل الشرك إلى اتخاذ الأوثان من دون الله، ولو كانت ما كانت! ويقولون: إن هذا الحجر، وهذه الشجرة، وهذه العين تقبل النذر؛ أي: تقبل العبادة من دون الله تعالى، فإن النذر عبادة وقربة يتقرب بها الناذر إلى المنذور له، ويتمسُحون بذلك النُّصُب، ويستلمونه. ولقد أنكر السَّلف التمسُّح بحجر المقام الذي أمر الله أن يُتخذ منه مُصلىّ، كما ذكر الأزرقي في كتاب مكة (¬1) عن قتادة، في قوله تعالى: {وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى} [البقرة: 125]، قال: "إنما أمروا أن يصلوا عنده، ولم يؤمروا بمسحه، ولقد تكلفت هذه الأمة شيئًا ما تكلفته الأمم قبلها (¬2)؛ ذُكر لنا من رأى أثره وأصابعه، فما زالت هذه الأمة تمسحه حتى اخْلَوْلَق". وأعظم الفتنة بهذه الأنصاب: فتنة أنصاب (¬3) القبور، وهي أصل فتنة ¬

_ (¬1) أخبار مكة للأزرقي (2/ 27) من طريق عمر بن سهل بن مروان عن يزيد بن زُريع عن سعيد بن أبي عروبة عن قتادة، ورواه أيضًا الطبري في تفسيره (2/ 35) عن بشر بن معاذ عن يزيد به، وعزاه في الدر المنثور (1/ 292) لعبد بن حميد وابن المنذر. (¬2) "قبلها" ساقطة من الأصل. (¬3) ح، ت، ظ: "أصحاب".

من كيد الشيطان ما يزينه لأهل القبور من أن من نهى عن عبادته واتخاذه عيدا فقد تنقصه وهضم حقه، فيسعون لقتله وعقوبته

عبادة الأصنام، كما قاله السلف من الصحابة والتابعين، وقد تقدم. ومن أعظم كيد الشيطان: أنه يَنْصِب لأهل الشرك قبر معظَّمٍ يُعظِّمه الناس، ثم يجعله وثنًا يُعبد من دون الله، ثم يُوحِي إلى أوليائه: أن مَنْ نهى عن عبادته واتخاذه عيدًا وجَعْلِه وثنًا؛ فقد تنقّصَه، وهضمه حقّه، فيسعى الجاهلون المشركون في قَتْله وعقوبته ويكفِّرونه؛ وذَنْبُه عند أهل الإشراك: أمْرُهُ بما أمر الله به ورسوله، ونهيُه عما نهى الله عنه ورسوله، مِن جَعْلِه وثنًا وعيدًا، وإيقاد السّرُج عليه، وبناء المساجد والقباب عليه، وتجصيصه، وإشادته، وتقبيله، واستلامه، ودعائه، أو الدعاء به، أو السفر إليه، أو الاستغاثة به من دون الله، مما قد عُلم بالاضطرار من دين الإسلام أنه مضادّ لما بعث الله به رسوله من تجريد التوحيد لله، وأن لا يُعبدَ إلا الله. فإذا نهى الموحّدُ عن ذلك غضب المشركون، واشمأزّت قلوبهم، وقالوا: قد تنقَّص أهلَ الرُّتَب العالية، وزعم أنهم لا حُرمة لهم ولا قَدْر، وسَرَى ذلك في نفوس الجهال والطّغام، وكثيرٍ ممن يُنسَب إلى العلم والدّين؛ حتى عادَوا أهل التوحيد، ورَمَوْهم بالعظائم، ونفّروا الناس عنهم، ووَالَوا أهل الشركِ وعظَّموهم، وزعموا أنهم هم أولياء الله، وأنصارُ دينه ورسوله! ويأبى الله ذلك، فما كانوا أولياءه، إنْ أولياؤهُ إلا المتقون، المتبعون له، الموافقون له، العارفون بما جاء به، الدَّاعون إليه، لا المتشَبّعون بما لم يُعْطَوا، لابِسُو ثياب الزّور، الذين يصدّون الناس عن سُنة نبيهم، ويَبْغُونهم عِوَجًا، وهم يَحْسبون أنهم يُحسِنون صُنْعًا!

فصل: هدم المساجد والقباب التي على القبور تعظيم وإكرام لأهلها

[60 ب] فصل ولا تحسبْ أيّهُا المُنْعَمُ عليه باتباع صراط الله المستقيم، صراط أهل نعمته ورحمته (¬1) وكرامته! أن النهي عن اتخاذ القبور أوثانًا وأعيادًا وأنصابًا، والنهي عن اتخاذها مساجد، وبناء المساجد عليها، وإيقاد السُّرج عليها، والسفر إليها، والنذر إليها، واستلامها، وتقبيلها، وتعْفِير الجِباه في عَرَصاتها غَضٌّ من أصحابها، ولا تنقيصٌ لهم (¬2)، كما يحسبه أهل الإشراك والضلال؛ بل ذلك من إكرامهم، وتعظيمهم، واحترامهم، ومتابعتهم فيما يُحبونه، وتجنُّب ما يكرهونه، فأنت والله وليُّهم ومُحِبّهم، وناصر طريقتهم وسنتهم، وعلى هَدْيهم ومنهاجهم، وهؤلاء المشركون أعصَى الناس لهم، وأبعدهم من هَدْيهم ومتابعتهم، كالنصارى مع المسيح عليه السلام، واليهود مع موسى عليه السلام، والرافضة مع علي رضي الله عنه. فأهل الحق أوْلىَ بأهل الحق من أهل الباطل، {وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ} [التوبة: 71]، و {الْمُنَافِقُونَ وَالْمُنَافِقَاتُ بَعْضُهُمْ مِنْ بَعْضٍ} [التوبة: 67]. فاعلم أن القلوب إذا اشتغلت بالبدع أعرضَتْ عن السّنَن، فتجد أكثر هؤلاء العاكفين على القبور مُعرضين عن طريقة مَنْ فيهَا وهَدْيِه وسُنته، مشتغلين بقبره عمّا أمرَ به ودَعا إليه! وتعظيمُ الأنبياء والصالحين ومحبَّتُهم إنما هو باتباع ما دَعوا إليه من العلم النافع والعمل الصالح، واقتفاء آثارهم، وسلوك طريقتهم، دون عبادة قبورهم، والعكوف عليها، واتخاذها أعيادًا. ¬

_ (¬1) "ورحمته" ساقطة من م. (¬2) في ح، ت، ش زيادة "ولا تنقص".

فإن من اقتفى آثارهم كان متسبِّبًا (¬1) إلى تكثير أجورهم؛ باتباعه لهم، ودعوته الناس إلى اتّباعهم، فإذا أعرض عمَّا دعوا إليه، واشتغل بضدّه، حَرَمَ نفسَه وحَرَمَهم ذلك الأجرَ، فأيّ تعظيم لهم واحترام في هذا؟ وإنما اشتغل كثير من الناس بأنواع من العبادات المُبتدَعَة، التي يكرهها الله ورسوله؛ لإعراضهم عن المشروع أو بعضه، وإن قاموا بصورته الظاهرة فقد هَجروا حقيقته المقصودة منه؛ وإلا فَمَن (¬2) أقْبَلَ على الصلوات الخمس بوجهه وقلبه، عارفًا بما اشتملت عليه من الكلِم الطيب والعمل الصالح، مُهتمًّا بها كل الاهتمام، أغْنَتْه عن الشرك، وكلُّ من قَصّر فيها أوفي بعضها تجد فيه من الشرك بحسب ذلك. ومن أصغى إلى كلام الله (¬3) بقلبه، وتدبّره وتفهّمه، أغناه عن السّماع الشيطاني الذي يصُدّ عن ذكر الله وعن الصلاة، ويُنبت النفاق في القلب، وكذلك من أصغى إليه وإلى حديث الرسول - صلى الله عليه وسلم - بكلّيته، وحدّث نفسه باقتباس الهدَى والعلم منه لا من غيره، أغناه عن البدع والآراء والتخرّصات والشطَحات والخيالات، التي هي وساوس النفوس وتخيلاتها. ومن بَعُدَ عن ذلك فلا بدّ له أن يتعوض عنه بما لا ينفعه، كما أن من عَمَرَ قلبه بمحبّة الله وذِكْرِه، وخشيته، والتوكل عليه، والإنابة إليه، أغناه ذلك عن محبة غيره وخشيته والتوكل عليه، وأغناه أيضًا عن عِشْق الصور، وإذا خلا من ذلك صار عبد هواه، أيُّ شيء استحسنه ملكه واستعبده. ¬

_ (¬1) الأصل، م، ش: "منتسبا". والمثبت من بقية النسخ. (¬2) الأصل: "فمتى". (¬3) زاد في ح: "ورسوله".

فصل: الأسباب التي دعت إلى عبادة القبور

فالمُعْرِض عن التوحيد مشركٌ شاء أم أبى، والمُعْرض عن السنة مبتدع ضالٌّ شاء أم أبى، والمُعْرِض عن محبة الله وذكره عبد الصّورِ شاء أم أبى، والله المستعان، وعليه التُّكلان، ولا حول ولا قوة إلا بالله. فصل فإن قيل: فما الذي أوقع عُبّاد القبور في الافتتان بها، مع العلم بأن ساكنيها أموات، لا يملكون لهم ضرًّا ولا نفعًا، ولا موتًا [61 أ] ولا حياة ولا نشورًا؟ قيل: أوقعهم في ذلك أمور: منها: الجهل بحقيقة ما بعث اللهُ به رسولَه بل جميعَ الرسل من تحقيق التوحيد، وقَطْع أسباب الشرك، فقلّ نصيبُهم جدًّا من ذلك، ودعاهم الشيطانُ إلى الفتنة، ولم يكن عندهم من العلم ما يُبطل دعوته، فاستجابوا له بحسب ما عندهم من الجهل، وعُصموا بقدر ما معهم من العلم. ومنها: أحاديث مكذوبة مُختلَقة، وضعها أشباه عُباد الأصنام من المقابرية على رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، تُناقض دينَه وما جاء به، كحديث: "إذا أعْيَتكُم الأمور فعليكم بأصحاب القبور" (¬1)، وحديث: "لو أحسَنَ أحدُكم ظنَّه بحجرٍ نفعه" (¬2)، وأمثال هذه الأحاديث التي هي مناقِضةٌ لدين الإسلام، ¬

_ (¬1) قال ابن تيمية كما في المجموع (1/ 356): "هذا الحديث كذب مفترى على النبي - صلى الله عليه وسلم - بإجماع العارفين بحديثه، لم يروه أحد من العلماء بذلك، ولا يوجد في شيء من كتب الحديث المعتمدة"، وقال (11/ 293): "هو كذب باتفاق أهل المعرفة، وإنما هذا وَضعُ مَن فتح باب الشرك". (¬2) قال ابن تيمية كما في المجموع (24/ 335): "هذا من المكذوبات التي لم يروها =

وضعَها المشركون، وراجت على أشباههم من الجهال الضُّلال، والله بعث رسوله بقتل من حَسَّن ظنَّه بالأحجار، وجَنّب أمّتَه الفتنةَ بالقبور، بكل طريق كما تقدم. ومنها: حكايات حُكِيَتْ لهم عن تلك القبور: أن فلانًا استغاث بالقبر الفلاني في شِدة، فخلص منها، وفلان دعاه أو دعا به في حاجة، فقُضِيَتْ له، وفلان نزل به ضُرٌّ فاسترجى صاحبَ ذلك القبر، فكُشِفَ ضرُّه. وعند السّدنة والمقابرية من ذلك شيء كثير يطول ذكره، وهم من أكذب خلق الله على الأحياء والأموات، والنفوسُ مُولَعةٌ بقضاء حوائجها، وإزالة ضروراتها، وتسمع بأن قبر فلان تِريْاق مُجرّب، والشيطان له تلطُّفٌ في الدعوة، فيدعوهم أولاً إلى الدعاء عنده، فيدعو العبدُ عنده بحُرْقَةٍ وانكسار وذِلّة، فيجيب الله دعوته لما قام بقلبه لا لأجل القبر، فإنه لو دعاه كذلك في الحانة والخمارة والحمام والسوق أجابه، فيظن الجاهل أن للقبر تأثيرًا في إجابة تلك الدعوة، والله سبحانه يجيب دعوة المضطرِّ ولو كان كافرًا، وقد قال تعالى: {كُلًّا نُمِدُّ هَؤُلَاءِ وَهَؤُلَاءِ مِنْ عَطَاءِ رَبِّكَ وَمَا كَانَ عَطَاءُ رَبِّكَ ¬

_ = أحد من علماء المسلمين، ولا هو في شيء من كتب الحديث"، وقال (11/ 513): "هو من كلام أهل الشرك والبهتان"، وقال ابن القيم في المنار المنيف (319): "هو من وضع المشركين عباد الأوثان"، وقال ابن حجر -كما في المقاصد الحسنة (ص 542) - والغزي في الجد الحثيث (391)، والعجلوني في كشف الخفاء (2462)، ومحمد الأمير المالكي في النخبة البهية (269): "لا أصل له"، وأورده الفتني في تذكرة الموضوعات (ص 28)، والقاري في الأسرار المرفوعة (376)، والكرمي في الفوائد الموضوعة (188)، والقاوقجي في اللؤلؤ المرصوع (445).

إنكار أئمة الإسلام للدعاء عند القبور والدعاء به

مَحْظُورًا} [الإسراء: 20] , وقد قال الخليل: {وَارْزُقْ أَهْلَهُ مِنَ الثَّمَرَاتِ مَنْ آمَنَ مِنْهُمْ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ}، فقال الله سبحانه وتعالى: {وَمَنْ كَفَرَ فَأُمَتِّعُهُ قَلِيلًا ثُمَّ أَضْطَرُّهُ إِلَى عَذَابِ النَّارِ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ} [البقرة: 126]. فليس كلُّ من أجاب الله دعاءه يكون راضيًا عنه، ولا محبًّا له، ولا راضيًا بفعله، فإنه يجيب البَرَّ والفاجر، والمؤمن والكافر. وكثير من الناس يدعو دعاءً يَعْتدي فيه، أو يُشرك في دعائه، أو يكون مما لا يجوز أن يُسأل، فيحصل له ذلك أو بعضه، فيظن أن عمله صالح مُرضٍ لله، ويكون بمنزلة من أُمْلِيَ له، وأُمِدّ بالمال والبنين، وهو يظن أن الله يُسارع له في الخيرات، وقد قال تعالى: {فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ} [الأنعام: 44]. فالدعاء قد يكون عبادة، فيثاب عليه الداعي، وقد يكون دعاءَ مسألةٍ تُقضى به حاجته، ويكون مضرةً عليه، إما أن يعاقب بما يحصل له، أو تنقص به درجته، فتُقضى حاجتُه، ويعاقبه على ما جرى عليه من إضاعة حقوقه، وارتكاب حدوده. والمقصود أن الشيطان بلُطف كيده يُحسِّن الدعاء عند القبر، وأنه أرجح منه في بيته ومسجده وأوقات الأسحار، فإذا تقرر ذلك عنده نقله درجةً أخرى، من الدعاء عنده إلى الدعاء به، والإقسام على الله به، وهذا أعظم من الذي قبله؛ فإن شأن الله أعظم من أن يُقسَم عليه، أو يُسألَ بأحدٍ من خلقه، وقد أنكر أئمة الإسلام ذلك.

فقال أبو الحسين القُدُورى في شرح "كتاب الكَرْخي" (¬1): قال بشر بن الوليد: سمعت أبا يوسف يقول: قال أبو حنيفة: "لا ينبغي لأحد أن يدعو الله إلا به، قال: وأكره أن يقول: أسألك بمَعْقِد العزِّ من عرشك، وأكره أن يقول: بحق فلان، وبحق أنبيائك ورسلك، وبحق البيت الحرام". قال أبو الحسين: أما المسألة بغير الله فمنكرة في قولهم؛ لأنه لا حقَّ لغير الله عليه، وإنما الحق لله على خلقه. وأما قوله: "بمعْقد العِزِّ من عرشك" فكرهه أبو حنيفة، ورخّص فيه أبو يوسف. قال: وروي أن النبي - صلى الله عليه وسلم - دعا بذلك (¬2). قال: ولأن مَعْقد العزّ من العرش إنما يراد به القدرة التي خلق الله بها العرش، مع عظمته، فكأنه سأله بأوصافه. ¬

_ (¬1) شرح مختصر الكرخي مخطوط. والمسألة مذكورة في الهداية للمرغيناني (4/ 96)، ونتائج الأفكار لقاضي زاده أفندي (10/ 64)، والفتاوى الهندية (5/ 318)، وحاشية ابن عابدين (6/ 395 - 397). وفي نسخة ح: "أبو الحسن" وهو تصحيف. (¬2) رواه الحاكم في المائة له -كما في القول البديع (ص 329) - والبيهقي في الدعوات الكبير (392) والديلمي في مسند الفردوس (1845) من حديث ابن مسعود رضي الله عنه، ومن طريق الحاكم رواه ابن الجوزي في الموضوعات (2/ 142) وقال: "هذا حديث موضوع بلا شك"، ونقل ابن عرّاق في تنزيه الشريعة (2/ 133) عن العراقي أنه ضعف إسناده في شرح الترمذي وأنه قال: "ومع ذلك فهو شاذ مخالف للأحاديث الصحيحة"، وقال السخاوي: "سنده واه بمرة، وأصح أسانيده ما رواه هشيم بن أبي ساسان عن ابن جريج عن عطاء قولَه"، وحكم عليه بالوضع الشوكاني في تحفة الذاكرين (ص 211)، وابن باز في فتاويه (26/ 270، 354)، والألباني في ضعيف الترغيب (418). وفي الباب عن أبي هريرة وأبي بكر رضي الله عنهما ولا يثبتان. وانظر: التنبيه على مشكلات الهداية لابن أبي العز (5/ 804).

الأمور المبتدعة عند القبور مراتب

وقال ابن بَلْدَجِىٍّ في "شرح المختار" (¬1): ويُكره أن يدعو الله تعالى إلا به، فلا يقول: أسألك بفلان، أو بملائكتك، أو بأنبيائك ونحو ذلك؛ لأنه لا حقَّ للمخلوق على خالقه، أو يقول في دعائه: أسألك بمعقد العزّ من عرشك. وعن أبى يوسف جوازه. وما يقول فيه أبو حنيفة وأصحابه: "أكره كذا"، هو عند محمد حرام، وعند أبى حنيفة وأبى يوسف هو إلى الحرام أقرب، وجانب التحريم عليه أغلب. وفى "فتاوى أبى محمد بن عبد السلام" (¬2): أنه لا يجوز سؤال الله سبحانه بشيء من مخلوقاته: لا الأنبياء، ولا غيرهم، وتوقف في نبينا - صلى الله عليه وسلم -، لاعتقاده أن ذلك جاء في حديث، وإن (¬3) لم يعرف صحة الحديث. فإذا قرّر الشيطان عنده أن الإقسام على الله به، والدعاء به أبلغ في تعظيمه واحترامه، وأنجَعُ في قضاء حاجته، نقله درجة أخرى إلى دعائه نفسه من دون الله. ثم ينقله بعد ذلك درجة أخرى إلى أن يتخذ قبرَه وثنًا، يعكُف عليه، ويوقد عليه القنديل، ويعلّق عليه الستور، ويبني عليه المسجد، ويعبده بالسجود له، والطواف به، وتقبيله، واستلامه، والحج إليه، والذّبح عنده. ثم ينقله درجة أخرى إلى دعاء الناس إلى عبادته، واتخاذه عيدًا ومَنْسكًا، وأن ذلك أنفع لهم في دنياهم وآخرتهم. قال شيخنا قدَّس الله روحه: وهذه الأمور المبتدعة عند القبور مراتب: ¬

_ (¬1) الاختيار لتعليل المختار (4/ 175). (¬2) ص 83. (¬3) كذا في الأصل، وفي بعض النسخ: "وأنه".

حكاية الشافعي رحمه الله وأنه كان يقصد قبر أبي حنيفة رحمه الله للدعاء عنده كذب ظاهر

أبعدها عن الشرع: أن يسأل الميت حاجته، ويستغيث به فيها، كما يفعله كثير من الناس، قال: وهؤلاء من جنس عُبّاد الأصنام، ولهذا قد يمتثل لهم الشيطان في صورة الميت أو الغائب، كما يتمثل لعبّاد الأصنام، وهذا يحصل للكفار من المشركين وأهل الكتاب، يدعو أحدُهم مَنْ يعظِّمه، فيتمثّل له الشيطان أحيانًا، وقد يخاطبهم ببعض الأمور الغائبة. وكذلك السجود للقبر، والتمسح به وتقبيله. المرتبة الثانية: أن يسأل اللهَ به، وهذا يفعله كثير من المتأخرين، وهو بدعة باتفاق المسلمين. الثالثة: أن يسأله نفسه. الرابعة: أن يظن أن الدعاء عند قبره مستجاب، أو أنه أفضل من الدعاء في المسجد، فيقصد زيارته والصلاة عنده؛ لأجل طلب حوائجه. فهذا أيضًا من المنكرات المبتدعة باتفاق المسلمين، وهى محرمة، وما علمتُ في ذلك نزاعًا بين أئمة الدين، وإن كان كثير من المتأخرين يفعل ذلك، ويقول بعضهم: قبرُ فلان تِرْياقٌ مجُرّب. والحكاية المنقولة عن الشافعي -أنه كان يقصد الدعاء عند قبر أبى حنيفة- من الكذب الظاهر. فصل في الفرق بين زيارة الموحِّدين للقبور، وزيارة المشركين: أما زيارة الموحدين فمقصودها ثلاثة أشياء:

أحدها: تذكّر الآخرة، والاعتبار والاتعاظ، وقد أشار النبي - صلى الله عليه وسلم - إلى ذلك بقوله: "زوروا القبور؛ فإنها تُذكِّركم الآخرة" (¬1). الثاني: الإحسان إلى الميت، وأن لا يطول عَهْده به، فيهجره، ويتناساه، كما إذا ترك زيارة الحيّ مدة طويلةً تناساه، فإذا زار الحيّ فرح بزيارته وسُرَّ بذلك، فالميت أولى؛ لأنه قد صار في دار قد هَجر أهلَها إخوانهُم وأهلُهم ومعارفُهم، فإذا زاره وأهدى إليه هديةً من دعاءٍ، أو صدقة، أو أهدى قربةً، ازداد بذلك سروره وفرحه، كما يُسرّ الحيُّ بمن يزوره ويهدي له. ولهذا شرع النبي - صلى الله عليه وسلم - للزائر أن يدعو لأهل القبور بالرحمة والمغفرة، وسؤال العافية فقط، ولم يشرع أن يدعوهم، ولا يدعو بهم، ولا يُصليِّ عندهم. الثالث: إحسان الزائر إلى نفسه باتّباع السنة، والوقوف عند ما شرعه الرسول - صلى الله عليه وسلم -، فيحسن إلى نفسه وإلى المزور. وأما الزيارة الشركية: فأصلها مأخوذ عن عُبّاد الأصنام. قالوا: الميت المعظّم الذي لروحه قربٌ ومزيَّة عند الله، لا تزال تأتيه الألطاف من الله، وتفيض على روحه الخيرات، فإذا علّق الزائرُ روحه به، وأدناها منه، فاضَ من روح المزور على روح الزائر من تلك الألطاف بواسطتها، كما ينعكس الشعاع من المرآة الصافية والماء ونحوه على الجسم المقابل له. قالوا: فتمامُ الزيارة: أن يتوجّه الزائر بروحه وقلْبه إلى الميت، ويعكُف ¬

_ (¬1) تقدم تخريجه.

السر الذي لأجله عبدت الكواكب واتخذت لها الهيأكل

بهمَّته عليه، ويُوجِّه قصده كله وإقباله عليه، بحيث لا يبقى فيه التفاتٌ إلى غيره، وكلما كان جمعُ الهمة والقلب عليه أعظم كان أقرب إلى انتفاعه به. وقد ذكر هذه الزيارة على هذا الوجه: ابن سينا والفارابي وغيرهما. وصرح بها عُبّاد الكواكب في عبادتها، وقالوا: إذا تعلقت النفس الناطقة بالأرواح العلوية فاض عليها منها النور. وبهذا السر عُبدت الكواكب، واتُّخذت لها الهياكل، وصُنّفت لها الدعوات، واتخذت الأصنام المجسدة لها، وهذا بعينه هو الذي أوجب لعبّاد القبور اتخاذها أعيادًا، وتعليق الستور عليها، وإيقاد السّرج عليها، وبناء المساجد عليها، وهو الذي قصد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إبطاله ومحوه بالكُلِّيَّة، وسدّ الذرائع المفْضية إليه، فوقف المشركون في طريقه، وناقضُوه في قصده، وكان - صلى الله عليه وسلم - في شِقٍّ، وهؤلاء في شِقٍّ. وهذا الذي ذكره هؤلاء المشركون في زيارة القبور هو الشفاعة التي ظنُوا أن آلهتهم تنفعهم بها، وتشفع لهم عند الله. قالوا: فإن العبد إذا تعلَّقت روحه بروح الوجيه المقرّب عند الله، وتوجَّه بهمَّته إليه، وعكف بقلبه عليه؛ صار بينه وبينه اتصال، يفيض به عليه منه نصيب مما يحصل له من الله، وشبَّهوا ذلك بمن يخدُم ذا جاهٍ وحظوة وقُرْبٍ من السلطان، فهو شديد التعلق به، فما يحصل لذلك من السلطان من الإنعام والإفضال، ينال ذلك المتعلق به بحسب تعلُّقه به. فهذا سرُّ عبادة الأصنام، وهو الذي بعث الله رسله وأنزل كتبه بإبطاله، وتكفير أصحابه، ولعنهم، وأباح دماءهم وأموالهم، وسَبَى ذراريهم، وأوجب لهم النار.

القرآن مملوء بالرد على هؤلاء، وذكر بعض الآيات في ذلك

والقرآن من أوله إلى آخره مملوء من الرد على أهله، وإبطال مذهبهم. قال تعالى: {أَمِ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ شُفَعَاءَ قُلْ أَوَلَوْ كَانُوا لَا يَمْلِكُونَ شَيْئًا وَلَا يَعْقِلُونَ (43) قُلْ لِلَّهِ الشَّفَاعَةُ جَمِيعًا لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} [الزمر: 43, 44]. فأخبر أن الشفاعة لمن له ملك السماوات والأرض، وهو الله وحده، فهو الذي يَشْفَع بنفسه إلى نفسه، ليرحم عبده، فيأذن هو لمن يشاء أن يشفع فيه، فصارت الشفاعة في الحقيقة إنما هي له، والذي يشفع عنده إنما يشفع بإذنه له وأمره، بعد شفاعته سبحانه إلى نفسه، وهى إرادته من نفسه أن يرحم عبده. وهذا ضد الشفاعة الشركية التي أثبتها هؤلاء المشركون ومَنْ وافقهم، وهى التي أبطلها الله سبحانه في كتابه، بقوله: {وَاتَّقُوا يَوْمًا لَا تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئًا وَلَا يُقْبَلُ مِنْهَا عَدْلٌ وَلَا تَنْفَعُهَا شَفَاعَةٌ} [البقرة: 123]، وقوله: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنْفِقُوا مِمَّا رَزَقْنَاكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لَا بَيْعٌ فِيهِ وَلَا خُلَّةٌ وَلَا شَفَاعَةٌ} [البقرة: 254]، وقال تعالى: {وَأَنْذِرْ بِهِ الَّذِينَ يَخَافُونَ أَنْ يُحْشَرُوا إِلَى رَبِّهِمْ لَيْسَ لَهُمْ مِنْ دُونِهِ وَلِيٌّ وَلَا شَفِيعٌ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ} [الأنعام: 51]، وقال: {اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ مَا لَكُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا شَفِيعٍ} [السجدة: 4]. فأخبر سبحانه أنه ليس للعباد شفيعٌ من دونه، بل إذا أراد الله سبحانه رحمة عبده أذِنَ هو لمن يشفعُ فيه، كما قال تعالى: {مَا مِنْ شَفِيعٍ إِلَّا مِنْ بَعْدِ إِذْنِهِ} [يونس: 3]، وقال: {مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ} [البقرة: 255].

الشفاعة الحقيقية والشفاعة الشركية

فالشفاعة بإذنه ليست شفاعة من دونه، ولا الشافع شفيع من دونه، بل شفيع بإذنه. والفرق بين الشفيعين كالفرق بين الشريك والعبد المأمور. فالشفاعة التي أبطلها شفاعة الشريك؛ فإنه لا شريك له، والتي أثبتها شفاعة العبد المأمور، الذي لا يشفع ولا يتقدم بين يدي مالكه حتى يأذن له، ويقول: اشفع في فلان، ولهذا كان أسعدُ الناس بشفاعة سيد الشفعاء يوم القيامة أهل التوحيد، الذين جرّدُوا التوحيد وخلّصوه من تعلّقات الشرك وشوائبه، وهم الذين ارتضى الله سبحانه. قال تعالى: {وَلَا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضَى} [الأنبياء: 28]، وقال: {يَوْمَئِذٍ لَا تَنْفَعُ الشَّفَاعَةُ إِلَّا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمَنُ وَرَضِيَ لَهُ قَوْلًا} [طه: 109]. فأخبر أنه لا يحصل يومئذٍ شفاعة تنفع؛ إلا بعد رضاهُ قول المشفوع له، وإذنه للشافع. فأما المشرك فإنه لا يرتضيه، ولا يرضى قوله، فلا يأذن للشفعاء أن يشفعوا فيه؛ فإنه سبحانه علّقها بأمرين: رضاه عن المشفوع له، وإذنه للشافع، فما لم يوجد مجموع الأمرين لم توجد الشفاعة. وسِرُّ ذلك أن الأمر كله لله وحده، فليس لأحد معه من الأمر شيء، وأعلى الخلق وأفضلهم وأكرمهم عنده هم الرسل والملائكة المقربون، وهم عبيد محضٌ، لا يسبقونه بالقول، ولا يتقدمون بين يديه، ولا يفعلون شيئًا إلا بعد إذنه لهم وأمرهم، ولاسيما يوم لا تملك نفس لنفس شيئًا، فهم مملوكون مربوبون، أفعالهم مقيدة بأمره وإذنه، فإذا أشرك بهم المشرك، واتخذهم شفعاء من دونه، ظنّا منه أنه إذا فعل ذلك تقدَّموا وشفعوا له عند الله؛ فهو من أجهل الناس بحق الرب سبحانه، وما يجب له، ويمتنع عليه،

فإن هذا محال ممتنع، سببُه قياس الرب تعالى على الملوك والكبراء، حيث يتخذ الرجل من خواصهم وأوليائهم من يشفع له عندهم في الحوائج، وبهذا القياس الفاسد عُبدت الأصنام، واتخذ المشركون من دون الله الشفيعَ والوليَّ. والفرق بينهما هو الفرق بين الخالق والمخلوق، والرب والعبد، والمالك والمملوك، والغني والفقير، والذي لا حاجة به إلى أحد قط، والمحتاج من كل وجه إلى غيره. فالشفعاء عند المخلوقين هم شركاؤهم؛ فإن قيام مصالحهم بهم، وهم أعوانهم وأنصارهم، الذين قيام أمر الملوك والكبراء بهم، ولولاهم لما انبسطت أيديهم وألسنتهم في الناس، فلِحاجتهم إليهم يحتاجون إلى قَبول شفاعتهم، وإن لم يأذنوا فيها ولم يرضوا عن الشافع؛ لأنهم يخافون أن يردّوا شفاعتهم، فتنتقض طاعتهم لهم، ويذهبون إلى غيرهم، فلا يجدون بُدًّا من قبول شفاعتهم على الكره والرضا. فأما الغنيّ الذي غناه من لوازم ذاته، وكل ما سواه فقير إليه بذاته، وكل من في السماوات والأرض عبيدٌ (¬1) له، مقهورون بقهره، مصرَّفون بمشيئته، لو أهلكهم جميعًا لم ينقص من عِزّه وسلطانه ومُلكه وربوبيته وإلهيته مثقال ذرةٍ. قال تعالى: {لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ قُلْ فَمَنْ يَمْلِكُ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا إِنْ أَرَادَ أَنْ يُهْلِكَ الْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَأُمَّهُ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} [المائدة: 17]. ¬

_ (¬1) الأصل: "عبد".

وقال سبحانه في سيدة آي القرآن آية الكرسي: {لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ} [البقرة: 255]، وقال: {قُلْ لِلَّهِ الشَّفَاعَةُ جَمِيعًا لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} [الزمر: 44]. فأخبر أن حال ملكه للسموات والأرض يوجب أن تكون الشفاعة كلها له وحده، وأن أحدًا لا يشفع عنده إلا بإذنه، فإنه ليس بشريك، بل مملوك محض، بخلاف شفاعة أهل الدنيا بعضهم عند بعض. فتبين أن الشفاعة التي نفاها الله سبحانه في القرآن هي هذه الشفاعة الشركية التي يعرفها الناس، ويفعلها بعضهم مع بعض، ولهذا يُطلق نفيها تارة بناءً على أنها هي المعروفة المتعاهدة (¬1) عند الناس، ويُقيِّدُها تارة بأنها لا تنفع إلا بعد إذنه، وهذه الشفاعة في الحقيقة هي منه؛ فإنه الذي أَذِنَ، والذي قَبِل، والذي رضي عن المشفوع، والذي وفّقه لفعل ما يستحق به الشفاعة وقوله. فمتخذ الشفيع مشركٌ لا تنفعه شفاعته، ولا يُشَفَّع فيه، ومتخذُ الرب وحده إلهه ومعبوده، ومحبوبه، ومرجُوَّه، ومخوفه، الذي يتقرب إليه وحده، ويطلب رضاه، ويتباعد من سَخَطه: هو الذي يأذن الله سبحانه للشفيع أن يشفع فيه. قال تعالى: {أَمِ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ شُفَعَاءَ} [الزمر: 43] إلى قوله: {قُلْ لِلَّهِ الشَّفَاعَةُ جَمِيعًا} [الزمر: 44] وقال تعالى: {وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَضُرُّهُمْ وَلَا يَنْفَعُهُمْ وَيَقُولُونَ هَؤُلَاءِ شُفَعَاؤُنَا عِنْدَ اللَّهِ قُلْ أَتُنَبِّئُونَ اللَّهَ ¬

_ (¬1) ح: "المشاهدة".

بِمَا لَا يَعْلَمُ فِي السَّمَاوَاتِ وَلَا فِي الْأَرْضِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ} [يونس: 18]. فبين سبحانه أن المتخذين شفعاءَ مشركون، وأن الشفاعة لا تحصل باتخاذهم هم، وإنما تحصل بإذنه للشافع، ورضاه عن المشفوع له. وسر الفرق بين الشفاعتين: أن شفاعة المخلوق للمخلوق، وسؤاله للمشفوع عنده، لا يفتقر فيها إلى المشفوع عنده، لا خَلْقًا ولا أمرًا ولا إذنًا، بل هو سبب مُحَرِّكٌ له من خارج، كسائر الأسباب التي تُحرّك الأسباب، وهذا السبب المحرك قد يكون عند المتحرك لأجله ما يوافقه، كمن شُفِع عنده في أمر يُحبه ويرضاه، وقد يكون عنده ما يُخالفه، كمن يُشْفَعُ إليه في أمر يكرهه، ثم قد يكون سؤاله وشفاعتُه أقوَى من المعارض، فيقبل شفاعة الشافع، وقد يكون المعارض الذي عنده أقوى من شفاعة الشافع، فيردها ولا يقبلها، وقد يتعارض عنده الأمران، فيبقى مترددًا بين ذلك المعارض الذي يوجب الرد، وبين الشفاعة التي تقتضي القبول، فيتوقف إلى أن يترجح عنده أحدُ الأمرين بمرجِّح. فشفاعة الإنسان عند المخلوق مِثْلِه هي سعيٌ في سبب منفصل عن المشفوع إليه، يُحرِّكه به، ولو على كُرْهٍ منه، فمنزلة الشفاعة عنده منزلة من يأمر غيره أو يُكْرِهه على الفعل، إما بقوةٍ وسلطان، وإما بما يرغِّبه، فلا بد أن يحصل للمشفوع إليه من الشافع: إما رغبة ينتفع بها، وإما رهبة منه تندفع عنه بشفاعته. وهذا بخلاف الشفاعة عند الرب سبحانه؛ فإنه ما لم يخلق شفاعة الشافع، ويأذن له فيها، ويحبها منه، ويَرْضَ عن الشافع، لم يمكن أن توجد،

فصل: من مكايد الشيطان: الرقص والغناء والمعازف

والشافع لا يشفع عنده لحاجة الربّ إليه، ولا لرهبته منه، ولا لرغبته فيما لديه، وإنما يشفع عنده مُجرَّد امتثالٍ لأمره وطاعةٍ له، فهو مأمور بالشفاعة، مطيع بامتثال الأمر؛ فإن أحدًا من الأنبياء والملائكة وجميع المخلوقات لا يتحرك بشفاعةٍ ولا غيرها إلا بمشيئة الله وخَلْقه، فالرب تعالى هو الذي يحرِّك الشفيع حتى يشفع. والشفيع عند المخلوق هو الذي يحرك المشفوع إليه حتى يقبل، والشافع عند المخلوق مستغنٍ عنه في أكثر أموره، وهو في الحقيقة شريكه، ولو كان مملوكه وعبده، فالمشفوع عنده محتاج إليه فيما يناله منه من النفع بالنصر والمعاونة وغير ذلك، كما أن الشافع محتاج إليه فيما يناله منه من رزق أو نصر أو غيره، فكلٌّ منهما محتاج إلى الآخر. ومن وفقه الله لفهم هذا الموضع ومعرفته تبيَّن له حقيقة التوحيد والشرك، والفرق بين ما أثبته الله من الشفاعة وبين ما نفاه وأبطله، {وَمَنْ لَمْ يَجْعَلِ اللَّهُ لَهُ نُورًا فَمَا لَهُ مِنْ نُورٍ} [النور: 40]. فصل ومن مكايد عدوّ الله ومصايده، التي كاد بها من قلَّ نصيبه من العلم والعقل والدِّين، وصاد بها قلوب الجاهلين والمبطلين: سماعُ المُكاء والتصدية، والغناء بالآلات المحرّمة، الذي (¬1) يصدُّ القلوب عن القرآن، ويجعلها عاكفةً على الفسوق والعصيان، فهو قرآن الشيطان، والحجاب الكثيف عن الرحمن، وهو رُقية اللواط والزِّنى، وبه ينال العاشق الفاسق من ¬

_ (¬1) الأصل: "التي".

معشوقه غاية المنى، كاد به الشيطان النفوس المبطلة، وحَسّنه لها مكرًا منه وغرورًا، وأوحى إليها الشُّبَه الباطلة على حُسْنه؛ فقبلت وحْيَه واتخذت لأجله القرآن مهجورًا، فلو رأيتهم عند ذيَّاك السماع وقد خشعت منهم الأصوات، وهدأت منهم الحركات، وعكفت قلوبهم بكُلِّيَّتها عليه، وانصبَّت انصبابة واحدة إليه، فتمايلوا له ولا كتمايل النَّشوان، وتكسَّروا في حركاتهم ورقصهم، أرأيت تكسُّر المخانيث والنّسوان؟ ويحق لهم ذلك، وقد خالط خمُارُه النفوس، ففعل فيها أعظم ما تفعله حُمَيَّا الكؤوس. فلغير الله بل للشيطان قلوبٌ هناك تُمزَّقُ، وأثوابٌ تُشقَّق، وأموالٌ في غير طاعة الله تُنفق، حتى إذا عمل السُّكْرُ فيهم عمله، وبلغ الشيطان منهم أمنيته وأمله، واستفزَّهم بصوته وحِيَلِه، وأجلب عليهم بخَيْله ورَجِلِه، وخَزَ في صدورهم وخرًا، وأزَّهم إلى ضرب الأرض بالأقدام أزًّا، فطوْرًا يجعلهم كالحمير حول المدار، وتارة كالذباب ترقص وسطَ الديار، فيا رحمتا للسقوف والأرض من دكّ تلك الأقدام، ويا سوأتا من أشباه الحمير والأنعام، وياشماتة أعداء الإسلام بالذين يزعمون أنهم خواص الإسلام، قضوا حياتهم لذةً وطربًا، واتخذوا دينهم لهوًا ولعبًا، مزامير الشيطان أحب إليهم من استماع سور القرآن، لو سمع أحدهم القرآن من أوله إلى آخره لما حرّك له ساكنًا، ولا أزعج له قاطنًا، ولا أثار فيه وَجدًا، ولا قدح فيه من لواعج الشوق إلى الله زَنْدًا، حتى إذا تُلي عليهم قرآن الشيطان وولَجَ مزموره سَمْعَه، تفجَّرت ينابيع الوَجد من قلبه على عينيه فجَرَت، وعلى أقدامه فرقَصَت، وعلى يديه فصفّقت، وعلى سائر أعضائه فاهتزت وطربت، وعلى أنفاسه فتصاعدت، وعلى زفراته فتزايدت، وعلى نيران أشواقه

فاشتعلت. فيا أيها الفاتن المفتون! والبائع حظَّه من الله بنصيبه من الشيطان صفقة خاسرٍ مغبون! هلَّا كانت هذه الأشجان عند سماع القرآن؟ وهذه الأذواق والمواجيد عند قراءة القرآن المجيد؟ وهذه الأحوال السَّنِيَّات عند تلاوة السور والآيات؟ ولكن كل امرئ يصبو إلى ما يناسبه، ويميل إلى ما يشاكله، والجِنسِيّة علَّة الضم قدرًا وشرعًا، والمشاكلة سبب الميل عقلاً وطبعًا، فمن أين هذا الإخاء والنسب لولا التعلُّق من الشيطان بأقوى سبب؟ ومن أين هذه المصالحة التي أوقعت في عقد الإيمان وعهد الرحمن خللاً؟ {أَفَتَتَّخِذُونَهُ وَذُرِّيَّتَهُ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِي وَهُمْ لَكُمْ عَدُوٌّ بِئْسَ لِلظَّالِمِينَ بَدَلًا} [الكهف: 50]. ولقد أحسن القائل (¬1): تُلِيَ الكتَابُ فأطْرَقُوا لا خِيفَةً ... لكِنَّهُ إِطْرَاقُ سَاهٍ لاهِي وأتى الغِنَاءُ فكالحَميرِ تَنَاهَقُوا ... وَالله مَا رَقَصوا لأجْلِ اللهِ دُفٌّ وَمِزْمَارٌ وَنغْمَةُ شَادِنٍ ... فمتى رَأَيتَ عِبَادَةً بملاهي ثَقُلَ الكِتَابُ عليهمُ لمَّا رَأوْا ... تَقْيِيدَهُ بأَوَامِرٍ وَنَوَاهِي سَمِعُوا له رَعْدًا وبَرْقًا إِذْ حَوَى ... زَجْرًا وتخوِيفًا بِفِعْلِ مَنَاهِي وَرَأَوْهُ أَعْظمَ قاطعٍ لِلنَّفسِ عَنْ ... شهَوَاتِها يَا ذَبْحَهَا (¬2) المُتَنَاهِي وَأتى السماعُ مُوافِقًا أَغْرَاضَها ... فَلأَجْلِ ذاكَ غَدَا عَظِيمَ الجاهِ أيْنَ المُسَاعِدُ لِلْهَوَى مِنْ قاطعٍ ... أَسْبَابَهُ عِنْدَ الجَهُولِ السَّاهي ¬

_ (¬1) أوردها المؤلف في مدارج السالكين (1/ 487، 488)، ومنها أربعة أبيات في جامع المسائل (1/ 91). ولعل البقية من نظم المؤلف. (¬2) ح: "ياويحها".

إنْ لم يَكُنْ خَمْرَ الجُسُومِ فإنَّهُ ... خَمْرَ العُقولِ ممُاثِلٌ وَمُضَاهِي فانْظُرْ إِلى النَّشْوَان عِنْدَ شَرَابَه ... وانْظُرْ إلى النِّسْوَانِ عِنْدَ مَلاهِي وانظُرْ إِلى تمْزِيقِ ذَا أَثوَابَهُ ... مِن بَعْدِ تمزيقِ الفُؤَادِ اللاهِي واحْكُمْ بأيّ الخَمْرَتَيْن أحَقّ بالـ ... ـتحريمِ والتَأْثِيمِ عِنْدَ اللهِ وقال آخر (¬1): برِئْنَا إِلىَ الله منْ مَعْشَرٍ ... بهِمْ مَرَضٌ مِنْ سَمَاعِ الغِنَا وكم قلْتُ يَاَ قَوْمِ أَنْتُمْ عَلىَ ... شَفَا جُرُفٍ مَا بِهِ مِنْ بِنَا شَفَا جُرُفٍ تحْتَهُ هُوَّةٌ ... إِلى دَرَكٍ كَمْ بِهِ مِنْ عَنا وتِكْرَارُ ذَا النُّصْحِ مِنّا لهمْ ... لنُعْذِرَ فِيهِمْ إِلى ربَّنا فَلمَّا اسْتَهانُوا بَتَنْبِيهنَا ... رَجَعْنَا إِلى الله في أَمْرِنا فعِشْنَا عَلىَ سُنَةِ المُصطَفَى ... وَمَاتوُا عَلىَ تَاتَنَا تَنْتَنَا ولم يزل أنصارُ الإسلام وأئمة الهُدى تصيح بهؤلاء من أقطار الأرض، وتُحذِّر من سلوك سبيلهم، واقتفاء آثارهم من جميع طوائف الملة. ¬

_ (¬1) لعل الأبيات للمؤلف، وقد نظر فيها إلى ما أنشده القاضي أبو بكر ابن العربي في كتاب "الشفا" لابن سينا: برِئْنَا إِلىَ الله منْ مَعْشَرٍ ... بهِمْ مَرَضٌ مِنْ كتاب الشفا وكم قلْتُ يَا قَوْم أَنْتُمْ عَلىَ ... شَفَا جُرُفٍ من كتاب الشفا فَلمَّا اسْتَهانُوا بَتَنْبِيهنَا ... رَجَعْنَا إِلى الله حتى كفَى فماتوا على دين رسطالسٍ ... وعشنا على مِلَّة المصطفى انظر: الرد على المنطقيين (ص 510، 511).

ذكر مذاهب وأقوال العلماء في الغناء

قال الإمام أبو بكر الطرطوشى في خطبة كتابه في تحريم السماع (¬1): الحمد لله رب العالمين، والعاقبة للمتقين، ولا عُدوان إلا على الظالمين، ونسأل الله أن يُرِينا الحق حقًّا فنتبعه، والباطل باطلاً فنجتنبه، وقد كان الناس فيما مضى يستسرُّ أحدهم بالمعصية إذا واقعها، ثم يستغفر الله ويتوب إليه منها، ثم كثر الجهل، وقلّ العلم، وتناقص الأمر، حتى صار أحدهم يأتي المعصية جِهارًا، ثم ازداد الأمر إدبارًا، حتى بلغنا أن طائفة من إخواننا المسلمين -وفقنا الله وإياهم- استزَلهُّم الشيطان، واستغوى عقولهم في حب الأغاني واللهو، وسماع الطّقْطَقَة والنقير، واعتقدتْه (¬2) من الدين الذي يُقرِّبهم إلى الله، وجاهرت به جماعة المسلمين، وشاقَّت سبيل المؤمنين، وخالفت الفقهاء والعلماء وحملةَ الدين، {وَمَنْ يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيرًا} [النساء: 115]، فرأيت أن أُوضح الحقّ، وأكشف عن شُبه أهل الباطل، بالحجج التي تضمّنها كتاب الله وسنة رسوله، وأبدأ بذكر أقاويل العلماء الذين تدور الفُتيا عليهم في قاصي الأرض ودانيها، حتى تعلم هذه الطائفة أنها قد خالفت علماء المسلمين في بدعتها، والله ولي التوفيق. ثم قال: أما مالك فإنه نهى عن الغناء، وعن استماعه وقال: "إذا اشترى جارية فوجدها مُغنية كان له أن يردَّها بالعيب". وسئل مالك عما يُرخّص فيه أهل المدينة من الغِناء، فقال: "إنما يفعله عندنا الفُسّاق". ¬

_ (¬1) "تحريم الغناء والسماع" (ص 159 - 162). (¬2) م: "واعتقد أنه".

مذهب الإمام أبي حنيفة رحمه الله تعالى

قال: وأما أبو حنيفة فإنه يكره الغناء، ويجعله من الذنوب. وكذلك مذهب أهل الكوفة: سفيان، وحماد، وإبراهيم، والشعبي، وغيرهم، لا اختلاف بينهم في ذلك، ولا نعلم خلافًا أيضًا بين أهل البصرة في المنع منه. قلت: مذهب أبى حنيفة في ذلك من أشد المذاهب، وقوله فيه أغلظُ الأقوال. وقد صرح أصحابه بتحريم سماع الملاهي كلها، كالمِزْمار، والدّف، حتى الضرب بالقَضيب، وصرحوا بأنه معصية، يوجب الفسق، وتُرَدُّ به الشهادة. وأبلغ من ذلك أنهم قالوا: إن السماع فسقٌ، والتلذذ به كفرٌ. هذا لفظهم، ورووا في ذلك حديثًا لا يصح رفعه (¬1). قالوا: ويجب عليه أن يجتهد في أن لا يسمعه إذا مرّ به، أو كان في جواره. وقال أبو يوسف -في دار يُسْمَعُ منها صوتُ المعازف والملاهي-: ادْخُل عليهم بغير إذنهم؛ لأن النهى عن المنكر فرض، فلو لم يجز الدخول بغير إذنٍ لامتنع الناس من إقامة الفرض. قالوا: ويتقدم إليه الإمام إذا سمع ذلك من داره، فإن أصَرَّ حبسه أو ¬

_ (¬1) ونصُّه: "استماع الملاهي معصية، والجلوس عليها فسق، والتلذّذ بها من الكفر"، ذكره غير واحد من الحنفية، منهم الكمال بن الهمام في شرح فتح القدير (8/ 452)، وعزاه العراقي في المغني (1/ 566) لأبي الشيخ من حديث مكحول مرسلاً، وعزاه الشوكاني في نيل الأوطار (8/ 179) لأبي يعقوب محمد بن إسحاق النيسابوري من حديث أبي هريرة رضي الله عنه وقال: "ضعفه بعض أهل العلم".

مذهب الإمام الشافعي رحمه الله

ضربه سياطًا، وإن شاء أزْعجه عن داره. وأما الشافعي فقال في كتاب "أدب القضاء" (¬1): "إن الغناء لهوٌ مكروه، يُشبِه الباطل والمحال، ومن استكثر منه فهو سفيه تُردّ شهادته". وصرَّح أصحابه العارفون بمذهبه بتحريمه، وأنكروا على من نسب إليه حِله، كالقاضي أبى الطيب الطبري، والشيخ أبى إسحاق، وابن الصباغ. قال الشيخ أبو إسحاق في "التنبيه" (¬2): ولا تصح -يعني الإجارة- على منفعة محرَّمة، كالغناء، والزّمْر، وحمل الخمر، ولم يذكر فيه خلافًا. وقال في "المهذب" (¬3): ولا يجوز على المنافع المحرمة؛ لأنه محرم، فلا يجوز أخذ العوض عنه كالميتة والدم. فقد تضمن كلام الشيخ أمورًا: أحدها: أن منفعة الغناء بمجرده منفعة محرمة. الثاني: أن الاستئجار عليها باطل. الثالث: أن أكل المال به أكل مال باطل، بمنزلة أكله عوضًا عن الميتة والدم. الرابع: أنه لا يجوز للرجل بَذْل ماله للمغنِّي، ويحرم عليه ذلك، فإنه بذل مالٍ في مقابلة محرم، وأن بَذْلَه في ذلك كبذله في مقابلة الدم والميتة. ¬

_ (¬1) من كتاب الأم (7/ 518). (¬2) ص 123 (ط. عالم الكتب). (¬3) 15/ 3 (مع تكملة المجموع شرح المهذب).

لا ينبغي لمن شم رائحة العلم أن يتوقف في تحريمه

الخامس: أن الزمر حرام. وإذا كان الزمر -الذي هو أخفّ آلات اللهو- حرامًا، فكيف بما هو أشدّ منه؛ كالعود، والطّنْبور، واليرَاع؟ ولا ينبغي لمن شَمّ رائحة العلم أن يتوقّف في تحريم ذلك، فأقل ما فيه: أنه من شِعار الفُسّاق وشاربي الخمور. وكذلك قال أبو زكريا النواوي في "روضته" (¬1): "القسم الثاني: أن يغُنِّي ببعض آلات الغناء، مما هو من شعار شاربي الخمر، وهو مُطْرِبٌ، كالطنبور والعود والصّنْج، وسائر المعازف والأوتار - يحرم استماعه واستعماله". قال: وفي اليَراع وجهان، صحّح البغويُّ التحريم. ثم ذكر عن الغزالي الجواز. قال: والصحيح تحريم اليراع، وهو الشّبّابة. وقد صنف أبو القاسم الدَّوْلَعي كتابًا في تحريم اليراع. وقد حكى أبو عمرو بن الصلاح الإجماع على تحريم السماع الذي جمع الدّفّ والشّبّابة، فقال في "فتاويه" (¬2): "وأما إباحةُ هذا السماع وتحليله فليُعْلَم أن الدُفّ والشّبّابة والغناء إذا اجتمعت، فاستماع ذلك حرام، عند أئمة المذاهب وغيرهم من علماء المسلمين، ولم يثبت عن أحد ممن يُعتدّ بقوله في الإجماع والاختلاف أنه أباح هذا السماع، والخلاف المنقول عن بعض أصحاب الشافعي إنما نُقل في الشّبّابة مفردة، والدف مفردًا، فمن لا يُحَصِّلُ أو لا يتأملُ ربما اعتقد خلافا بين الشافعيين في هذا السماع ¬

_ (¬1) روضة الطالبين (11/ 228). (¬2) (2/ 500).

الجامع هذه الملاهي، وذلك وَهم بَيِّنٌ من الصَّائر إليه، تُنادي عليه أدلة الشرع والعقل. مع أنه ليس كل خلاف يُسْتَرْوَحُ إليه، ويعتمد عليه، ومن تَتبَّع ما اختلف فيه العلماء، وأخذ بالرخص من أقاويلهم، تزندق أو كاد. قال: وقولهم في السماع المذكور: إنه من القُربات والطاعات؛ قول مخالف لإجماع المسلمين، ومن خالف إجماعهم فعليه ما في قوله تعالى: {وَمَنْ يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيرًا} [النساء: 115] ". وأطال الكلام في الرد على هاتين الطائفتين اللتين بَلاءُ الإسلام منهم: المحلِّلون لما حَرّم الله، والمتقربون إلى الله بما يباعدهم عنه. والشافعي وقُدماء أصحابه والعارفون بمذهبه من أغلظ الناس قولاً في ذلك. وقد تواتر عن الشافعي أنه قال: "خلَّفتُ ببغداد شيئًا أحدثَتْه الزّنادقة، يُسَمّونه التغْبير، يصدُّون به الناس عن القرآن" (¬1). فإذا كان هذا قولَه في التغبير، وتعليله أنه يصدّ عن القرآن، وهو شِعْرٌ يُزهِّد في الدنيا، يغنِّي به مُغنٍّ، فيضرب بعض الحاضرين بقضيب على نِطْع أو مَخَدّة على توقيع غنائه؛ فليت شِعري ما يقول في سماعٍ التغبيرُ عنده كتَفْلةٍ (¬2) في بحر؛ قد اشتمل على كل مفسدة، وجمع كل محرّمٍ؟ فالله بيْن ¬

_ (¬1) انظر: الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر للخلال (ص 168) وتلبيس إبليس (ص 230). (¬2) في بعض النسخ: "كنقطة".

فصل: مذهب الإمام أحمد رحمه الله

دينه وبين كل متعلم مفتون، وعابد جاهل. قال سفيان بن عيينة: "كان يقال: احذروا فتنة العالم الفاجر والعابد الجاهل، فإن فتنتهما فتنةٌ لكل مفتون" (¬1). ومن تأمل الفساد الداخل على الأمة وجده من هذين المفتونين. فصل وأما مذهب الإمام أحمد فقال عبد الله ابنه (¬2): سألت أبي عن الغناء، فقال: الغناء يُنْبِتُ النفاق في القلب، لا يعجبني، ثم ذكر قول مالك: إنما يفعله عندنا الفُسَّاق. قال عبد الله: وسمعت أبي يقول: سمعت يحيى القطان يقول: لو أن رجلاً عمل بكل رُخصةٍ -بقول أهل الكوفة في النبيذ، وأهل المدينة في السماع، وأهل مكة في المتعة- لكان فاسقًا. قال أحمد: وقال سليمان التّيْميّ: لو أخذتَ برخصةِ كل عالم أو زَلّة كل ¬

_ (¬1) لم أقف عليه من كلام ابن عيينة، وورد من كلام الثوري، فقال ابن المبارك في الزهد (75): سمعت سفيان الثوري يقول: يقال: تعوّذوا بالله من فتنة العابد الجاهل ... وذكره، ومن طريق ابن المبارك رواه الآجري في أخلاق العلماء (131) والبيهقي في المدخل (544). ورواه أحمد في العلل (4501) - ومن طريقه أبو نعيم في الحلية (7/ 36) - عن أبي أحمد الزبيري، وأبو نعيم (6/ 376) من طريق حفص بن عمرو، والبيهقي في الشعب (2/ 308) من طريق قبيصة بن عقبة، ثلاثتهم عن الثوري به. وورد عن الثوري قال: قال عمر بن عبد العزيز .. وذكره. (¬2) مسائل أحمد رواية ابنه عبد الله (1632)، وعن عبد الله رواه أبو بكر الخلال في الأمر بالمعروف (171).

فصل: سماع الغناء من المرأة الأجنبية أو الأمرد

عالم اجتمع فيك الشر كله (¬1). ونصَّ على كسر آلات اللهو كالطنبور وغيره، إذا رآها مكشوفة، وأمكنه كسرها. وعنه في كسرها -إذا كانت مُغَطَّاةً تحت ثيابه وعَلِمَ بها- روايتان منصوصتان. ونصَّ في أيتام ورثوا جاريةً مُغَنية، وأرادوا بيعها، فقال: لا تباع إلا على أنها ساذجةٌ، فقالوا: إذا بيعت مُغَنيةً ساوت عشرين ألفًا أو نحوها، وإذا بيعت ساذجةً لا تساوي ألفين، فقال: لا تباع إلا على أنها ساذجة. ولو كانت منفعة الغناء مباحة لما فَوّت هذا المال على الأيتام. فصل وأما سماعه من المرأة الأجنبية أو الأمْرَدِ: فمن أعظم المحرمات، وأشدها فسادًا للدين. قال الشافعي رحمه الله: وصاحبُ الجارية إذا جمع الناس لسماعها فهو سفيه تُرد شهادته، وغَلَّظ القول فيه، وقال: هو دِياثة، فمن فعل ذلك كان ديُّوثًا. قال القاضي أبو الطيِّب: وإنما جعل صاحبها سفيهًا لأنه دعا الناس إلى الباطل، ومن دعا الناس إلى الباطل كان سفيهًا فاسقًا. ¬

_ (¬1) رواه ابن الجعد في مسنده (1319)، والخلال في الأمر بالمعروف (172)، وأبو نعيم في الحلية (3/ 32)، وابن حزم في الإحكام (6/ 317)، وابن عبد البر في جامع بيان العلم (901) من طريق خالد بن الحارث عن سليمان التيمي به.

قال: وكان الشافعي يكره التغبير، وهو الطقطقة بالقضيب، ويقول: وضَعَتْهُ الزنادقة ليَشْغَلُوا به عن القرآن. قال: وأما العود والطنبور وسائر الملاهي فحرام، ومُستمعه فاسق، واتباع الجماعة أولى من اتباع رجلين مطعونٍ عليهما. قلت: يريد بهما إبراهيم بن سعد وعبيد الله بن الحسن (¬1)؛ فإنه قال: وما خالف في الغناء إلا رجلان: إبراهيم بن سعد؛ فإن الساجي حكى عنه أنه كان لا يرى به بأسًا، والثاني: عبيد الله بن الحسن العَنْبري قاضي البصرة، وهو مطعون فيه. فصل قال أبو بكر الطرطوشي (¬2): وهذه الطائفة مخالفة لجماعة المسلمين؛ لأنهم جعلوا الغناء دينًا وطاعة، ورأت إعلانه في المساجد والجوامع، وسائر البقاع الشريفة، والمشاهد الكريمة، وليس (¬3) في الأُمة من رأى هذا الرأي. قلت: ومن أعظم المنكرات تمكينهم من إقامة هذا الشعار الملعون هو وأهله في المسجد الأقصى عَشِيّة عَرَفة، ويقيمونه أيضًا في مسجد الخَيْف أيام مِنًى؛ وقد أخرجناهم منه بالضرب والنفي مرارًا، ورأيتهم يقيمونه بالمسجد الحرام نفسه، والناس في الطواف، فاستدعيت حِزْب الله، وفَرّقنا ¬

_ (¬1) انظر: تلبيس إبليس (ص 330)، والاستقامة (1/ 272). وكلام أبي الطيب الطبري في رسالة الرد على من يحب السماع (ص 28، 31). (¬2) في تحريم الغناء والسماع (ص 166). (¬3) "وليس" ساقطة من م.

ذكر قصيدة في النهي عن السماع وحال أهله

شملهم، ورأيتهم يقيمونه بعرفات، والناس في الدعاء والتضرّع والابتهال والضجيج إلى الله، وهم في هذا السماع الملعون باليراع والدف والغناء! فإقرار هذه الطائفة على ذلك فِسقٌ يَقْدحُ في عدالة مَنْ أقرّهم ومنصبِه الديني. وما أحسن ما قال بعض العلماء (¬1) وقد شاهد هذا وأفعالهم: أَلا قُلْ لهمْ قَوْلَ عبد نَصوحٍ ... وَحَقُّ النَّصِيحَةِ أَنْ تُسْتَمعْ مَتَى عُلِّمَ الناسُ في دِينِنا ... بأَنّ الغِنَا سنّةٌ تُتّبَع وأَنْ يأكلَ المَرْءُ أَكْلَ الحِمارِ ... وَيَرْقُصَ في الجَمْعِ حَتَّى يقَعْ وقَالُوا سَكِرْنَا بِحُبِّ الإِلهِ ... وَمَا أسكَرَ القَوْمَ إلا القِصَعْ كَذَاكَ البَهَائمُ إِنْ أُشْبِعَت ... يُرَقِّصُهَا رِيهُّا والشِّبَعْ ويُسْكِرُهُ النَّايُ ثُمَّ الغِنا ... و {يس} لَوْ تُلِيَتْ ما انْصَدَعْ فيَا لَلْعقُولِ وَيَا لَلنُّهَى ... أَلا مُنْكِرٌ مِنْكُمُ لِلبِدَعْ تهانُ مَسَاجِدُنَا بَالسَّماعِ ... وَتُكْرَمُ عَنْ مِثْلِ ذَاكَ البِيَعْ وقال آخر، وأحسن ما شاء (¬2) (¬3): ذَهَبَ الرِّجَالُ وحال دُونَ مجَالهمْ ... زُمَرٌ مِنَ الأوْبَاشِ وَالأَنذَالِ زَعَمُوا بأَنّهُمُ عَلىَ آثَارِهِمْ ... سَارُوا ولكِنْ سِيَرةَ البَطّالِ ¬

_ (¬1) الأبيات لظهير الدين ابن عسكر الموصلي في وفيات الأعيان (1/ 38)، وتاريخ إربل (1/ 395)، والبداية والنهاية (17/ 38). (¬2) "وأحسن ما شاء" ساقطة من م. (¬3) القصيدة للمؤلف، كما يظهر من أسلوبها وموضوعاتها.

لَبِسُوا الدُّلُوقَ مُرقَّعًا وَتَقَشّفُوا ... كَتَقَشُّفِ الأَقْطَابِ وَالأَبْدَالِ قَطَعُوا طَرِيقَ السَّالِكِينَ وَغَوَّرُوا ... سُبُل الْهُدَى بجَهَالةٍ وَضَلالِ عَمَرُوا ظَوَاهِرَهُمْ بأَثوَابِ التُّقى ... وَحَشَوْا بَوَاطِنَهُمْ مِنَ الأدْغالِ إِنْ قُلتَ قَالَ اللهُ قَالَ رَسُولُهُ ... هَمزُوكَ هَمْزَ المُنْكِر المُتعَالي أَوْ قُلْتَ قَدْ قَالَ الصَّحَابَةُ والأُلى ... تَبِعُوهُمُ في القَوْلِ وَالأَعْمَالِ أوْ قُلْتَ قَالَ الآلُ آلُ المُصْطَفى ... صَلىّ عَليهِ اللهُ أَفْضَلُ آلِ أوْ قُلْتَ قَالَ الشّافِعِىُّ وأَحْمَدٌ ... وأَبو حَنِيفَةَ وَالإِمَامُ العَاليِ أَوْ قُلْتَ قَالَ صِحَابُهُمْ مِنْ بَعْدِهِمْ ... فَالكُلُّ عِنْدَهُمُ كَشِبْهِ خَيَالِ وَيَقُولُ قَلْبي قَالَ لي عَنْ سرِّهِ ... عَنْ سرِّ سرِّي عَنْ صَفَا أَحْوَاليِ عَنْ حَضْرَتي عَنِ فِكْرَتي عَنْ خَلْوَتي ... عَنْ شَاهِدِي عَنْ وَارِدِي عَنْ حَاليِ عَنْ صَفْوِ وَقْتي عَنْ حَقِيقِة مَشهدي ... عَنْ سرِّ ذاتي عَنْ صِفَاتِ فِعَاليِ دَعْوَى إذَا حقَّقْتَهَا ألفَيْتَهَا ... أَلْقَابَ زُورٍ لُفِّقتْ بِمُحالِ تَركُوا الحَقَائِقَ وَالشّرائِعَ وَاقْتدَوْا ... بِظَوَاهِرِ الجُهَّالِ وَالضُّلالِ جَعَلُوا المِرا فَتْحًا وألْفَاظَ الخطا ... شَطْحًا وَصَالُوا صَوْلَةَ الإذلال نبَذُوا كِتَابَ الله خَلْفَ ظُهُورِهْم ... نَبْذَ المُسَافرِ فَضْلَةَ الأَكَّالِ جَعَلُوا السَّماعَ مَطِيّة لهَوَاهُمُ ... وغَلَوْا فَقَالُوا فيهِ كُلَّ مُحَالِ هُوَ طَاعَةٌ هُوَ قُرْبةٌ هُوَ سُنةٌ ... صَدَقُوا لِذَاكَ الشَّيْخِ ذِى الإضلالِ شَيْخٌ قَديِمٌ صَادَهُمْ بَتَحَيُّل ... حَتَى أَجَابُوا دَعوةَ المُحْتَالِ هَجَرُوا لَهُ القُرْآنَ وَالأَخْبَارَ وَالْـ ... آثارَ إذ شهِدَتْ لهمْ بِضَلالِ وَرَأَوْا سَمَاعَ الشِّعْر أنْفَعَ للفَتى ... مِنْ أَوْجُهٍ سَبْعٍ لهُمْ بِتَواليِ تَاللهِ مَا ظَفِرَ العَدُوُّ بِمثْلِهَا ... مِنْ مِثْلهِمْ وَاخَيْبَةَ الآمالِ

نَصَبَ الحِبَال لهُمْ فَلمْ يَقَعُوا بِهَا ... فأَتى بِذَا الشّرَكِ المُحِيطِ العاليِ فإذا بِهِمْ وَسَطَ العَرِينِ ممُزَّقي الْـ ... أَثْوابِ والأدْيَانِ والأحْوَالِ لا يَسْمَعُونَ سِوَى الذي يهوَونهُ ... شُغْلاً بِهِ عنْ سائرِ الأشْغَالِ ودُعُوا إِلى ذاتِ الْيَمين فأَعْرَضوا ... عَنْهَا وسَارَ القَوْمُ ذاتَ شِمَالِ خَرُّوا عَلىَ القُرْآنِ عِنْدَ سمَاعه ... صُمًّا وعُميَانًا ذَوِي إِهمَالِ وإذَا تلاَ القَارِي عَلَيْهِمْ سُورَةً ... فأطَالهَا عَدُّوهُ في الأثْقَالِ وَيَقُولُ قَائِلُهُمْ أَطَلتَ، وَلَيسَ ذَا ... عَشْرًا، فَخَفِّفْ أَنْتَ ذُو إِملالِ هذَا وَكَمْ لَغْوٍ وَكم صَخَبٍ وَكَمْ ... ضَحِكٍ بِلاَ أَدَبٍ وَلا إجْمَالِ حَتَّى إذَا قَامَ السَّماعُ لَدَيْهِمُ ... خَشَعَتْ لهُ الأصْواتُ بالإجْلالِ وَامْتَدَّتِ الأعْنَاقُ تَسْمعُ وَحْيَ ذَا ... كَ الشّيخِ مِنْ مُتَرنِّمٍ قَوَّالِ وَتحَرَّكَتْ تِلكَ الرُّؤوسُ وهَزَّهَا ... طَرَبٌ وأشْوَاقٌ لِنيلِ وِصَالِ فَهُنَالِكَ الأشْوَاقُ وَالأشْجَانُ والْـ ... أَحوَالُ لا أهلاً بِذِي الأحوَالِ تَالله لو كانوا صُحاةً أبْصَرْوا ... مَاذا دَهَاهُمْ مِنْ قَبِيحِ فِعَالِ لَكِنَّمَا سُكْرُ السَّمَاعِ أَشدُّ مِنْ ... سُكرِ المُدامِ وذَا بِلَا إِشكَالِ فإذا هُمَا اجتمعَا لِنَفْسٍ مَرَّةً ... نَالَتْ مِنَ الخُسْرَانِ كُلَّ مَنَالِ يَا أُمَّةَّ لَعبتْ بِدِينِ نَبِيِّهَا ... كَتَلاعُبِ الصِّبْيَانِ في الأوْحَالِ أَشْمتُّمُ أَهْلَ الكتابِ بدينكمْ ... والله لن يَرضَوا بذي الأفعالِ كم ذا نُعَيَّر منهمُ بفريقكم ... سِرًّا وجهرًا عندَ كل جدالِ قالوا لنا دينٌ عبادةُ أهله ... هذا السَّماع، فذاك دينُ محالِ بل لا تجيءُ شريعةٌ بجوازِه ... فسَلُوا الشَّرائع تَكْتفُوا بسؤالِ لو قُلتمُ فِسقٌ ومعصيةٌ وتزْ ... يينٌ مِن الشيطان للأنذالِ

ليصُدَّ عن وحي الإلهِ ودينهِ ... وينالَ فيهِ حِيلةَ المحتالِ كُنّا شهدنا أنَّ ذا دِينٌ أتَى ... بالحقِّ دينُ الرُّسلِ لا بضلالِ والله مِنهُم قَدْ سمعنا ذَا إلى الْـ ... آذانِ مِنْ أفوَاهِهِمْ بمَقَالِ وَتمامُ ذَاكَ الْقَوْلِ بالحِيَلِ التي ... فَسَخَتْ عقُودَ الدينِ فَسْخَ فِصَالِ جَعَلَتْه كالثَّوْبِ المُهَلْهَلِ نَسْجُهُ (¬1) ... فِيهِ تُفَصّلُهُ مِنْ الأوصَالِ مَا شئت مِنْ مَكْرٍ وَمِنْ خِدَعٍ وَمنْ ... حِيَلٍ وَتَلْبِيسٍ بِلاَ إقلالِ (¬2) فَاحْتَلْ عَلىَ إسْقَاطِ كُلِّ فرِيضةٍ ... وَعَلىَ حَرَامِ الله بِالإِحْلالِ واحتَلْ عَلىَ المَظْلُوم يُقْلَبُ ظالمًا ... وَعَلىَ الظَّلومِ بِضدِّ تِلكَ الحَالِ وَاقلِبْ وَحَوِّلْ فَالتَّحَيُّل كُلُّهُ ... في الْقَلْبِ وَالتَّحْوِيلُ ذُو إِعمالِ إِنْ كُنْتَ تَفْهَمُ ذَا ظَفِرْتَ بِكُلِّ مَا ... تَبْغِي مِنَ الأفْعَالِ وَالأَقوَالِ فاحتَلْ على شُربِ المُدام وسَمِّها ... غيرَ اسْمِها واللفظُ ذو إجمالِ وَاحْتَلْ عَلىَ أكْلِ الربَا واهْجُرْ شَنا ... عَةَ لَفْظهِ وَاحْتَلْ عَلىَ الإبْدالِ (¬3) وَاحْتَلْ عَلىَ الْوَطْءِ الحَرَامِ وَلا تَقُلْ ... هذَا زِنًى وَانْكِحْ رَخِيَّ البَالِ وَاحْتَلْ عَلىَ حَلِّ العقُودِ وفَسْخِهَا ... بَعْدَ اللزُوم وَذَاكَ ذُو إِشْكَالِ إِلا عَلىَ المُحْتَالِ فَهْوَ طَبِيبُهَا ... يَا مِحْنَةَ الأَدْيَانِ بِالمُحْتَالِ وَاحْتَلْ عَلىَ نَقْضِ الْوُقُوفِ وَعَوْدِهَا ... طِلْقًا ولا تَسْتَحْي مِنْ إِبطَالِ فكِّرْ وقَدِّرْ ثُمَّ فَصِّلْ بَعدَ ذَا ... فإِذَا غُلِبْتَ فَلِجَّ في الإِشْكالِ واحتَلْ على الميراث فانزعْه من الْـ ... ـوُرَّاث ثم ابْلَعْ جَمِيعَ المَالِ قد أثبتوا نسبًا وحَصْرًا فيكم ... حتى تحوزوا الإرث للأموالِ ¬

_ (¬1) الأصل وبقية النسخ: "فضحه"، م: "نفحة". ولعل المثبت هو الصواب. (¬2) م: "إملال". (¬3) الأصل: "الأنذال". والمثبت من بقية النسخ.

واعْمِدْ إلى تلك الشهادةِ واجعلِ الْـ ... إبطالَ همَّك تحظَ بالإبطالِ فالحصر إثباتٌ ونفيٌ غيرُ مَعْـ ... ـلومٍ وهذا موضعُ الإشكالِ واحْتَلْ عَلىَ مَالِ اليَتيمِ فإِنهُ ... رِزْقٌ هَنِيٌّ مِنْ ضَعِيفِ الحالِ لا سَوْطَهُ تَخْشَى وَلا مِنْ سَيْفه ... والقَولُ قولُكَ في نَفَاذِ المالِ وَاحْتَلْ عَلىَ أكْلِ الوُقُوفِ فإِنهَا ... مِثْلُ السَّوَائِبِ رَبّةِ الإِهمالِ فَأبُو حَنِيفَةَ عِنْدَهُ هي بَاطِلٌ ... في الأَصَلِ لم تَحْتَجْ إلى إِبْطَالِ فالمَالُ مَالٌ ضَائِعٌ أَرْبابُهُ ... هَلَكُوا فَخُذْ مِنْهُ بِلا مِكْيَالِ وإذَا تَصِحُّ بحُكْم قاضٍ عَادِلٍ ... فَشُرُوطُهَا صارَتْ إِلى اضْمِحْلاَلِ قد عَطّلَ النَّاسُ الشُّرُوطَ وَأَهْملوا ... مَقْصُودَهَا فَالكُلُّ في إهْمال وَتمَامُ ذَاكَ قُضَاتُنَا وشُهُودُنا ... فَاسْأَلْ بهِمْ ذَا خِبْرَةٍ بالحَالِ أمَّا الشُهودُ فَهُمْ عُدُولٌ عن طريـ ... ـقِ العَدْلِ في الأَقوَال والأفعالِ زُورًا وتتميمًا وكِتْمَانًا وَتَلْـ ... بيسًا وَإِسْرَافًا بِأَخْذِ نَوَالِ يَنْسَى شَهَادَتَهُ وَيحلِفُ أنهُ ... ناسٍ لهَا والقَلْبُ ذو إِغْفالِ فإِذَا رَأَى المنقُوشَ قال ذَكَرْتها ... يَا لَلمُذَكِّرِ جِئْتَ بالآمالِ ويقُول قَائِلُهُمْ أَخوضُ النَّارَ في ... نَزْرٍ يَسِيرٍ ذاكَ عَيْنُ خَبَالِ ثَقلْ ليِ المِيزَانَ إِنيِّ خَائِضٌ ... لِلمَنْكِبَيْن أجَرُّ بالأغْلالِ أَمَّا القُضَاةُ فَقَدْ تَوَاتَرَ عَنُهمُ ... مَا قَدْ سَمِعْتَ فَلا تَفُهْ بمَقَالِ ماذا تقول لمن يقول حكمتُ أنـ ... ـك فاسقٌ أو كافرٌ في الحالِ فإِذَا اسْتَغَثْتَ أُغِثْتَ بالجَلْدِ الذي ... قَدْ طَرَّقُوهُ كَمِثْلِ طَرْقِ نِعَالِ فَيقُولُ طَقْ، فتقُولُ قَطْ فتعَارَضَا ... وَيكُونُ قَوْلُ الجَلدِ ذَا إِعْمالِ فأجَارَكَ الرَّحْمنُ مِنْ ضَرْبٍ وَمنْ ... عَرْضٍ وَمِنْ كَذِبٍ وَسُوءِ مَقَالِ هذَا وَنِسْبَةُ ذَاكَ أَجْمَعِهِ إِلى ... دِينِ الرَّسولِ وَذَا مِنَ الأَهْوَالِ

حَاشَا رَسُولُ اللهِ يَحْكُمُ بالهوَى ... والْجَهْلِ، تِلْكَ حُكُومَةُ الضُّلالِ وَاللهِ لَوْ عُرِضَتْ عَلَيْهِ كُلُّهَا ... لاجْتَثَّهَا بالنَّقْضِ وَالإِبطَالِ إِلا الَّتى مِنْهَا يُوافِقُ حُكْمَه ... فَهُوَ الَّذِى يَلقَاهُ بالإِقبال أَحْكَامُه عَدْلٌ وحَقٌّ كُلُّهَا ... فى رَحْمَةٍ ومَصالِحٍ وجَلالِ شَهِدَتْ عُقُولُ الْخَلْقِ قاطبةً بَما ... فى حُكْمِهِ مِنْ صِحَّةٍ وَكَمالِ فإِذَا أتَتْ أَحْكَامُهُ أَلْفَيْتَهَا ... وَفْقَ العقولِ تُزِيلُ كُلَّ عِقَالِ حَتَّى يَقُولَ السَّامِعُونَ لِحُكْمِه ... مَا بَعْدَ هذَا الحْقِّ غَيْرُ ضَلالِ للهِ أَحْكامُ الرَّسُولِ وَعَدْلَهُا ... بَيْنَ العِبَادِ وَنَورُهَا المُتَلالى كَانَتْ بهم فى الأرْضِ أعْظَمُ رَحمَةٍ ... والنَّاسُ فى سَعْدٍ وَفى إِقبَالِ أَحْكامُهُمْ تجْرِى عَلَى وَجْهِ السَّدَا ... دِ وَحَالُهُمْ فى ذَاكَ أحْسَنُ حَالِ أَمْناً وعزًّا فى هُدًى وَتَرَاحُمٍ ... وَتَوَاصُلٍ وَمَحَبّةٍ وَجلالِ فَتَغَيَّرَتْ أَوْضَاعُهَا حَتَّى غَدَتْ ... مَنْكُورةً مسلُوبَة الأعمالِ فَتَغَيَّرَتْ أَعمالُهُمْ وَتَبدَّلَتْ ... أَحْوَالُهُمْ بالنَّقْصِ بَعْدَ كمَالِ لَوْ كانَ دِينُ اللهِ فيهِمْ قائماً ... لَرَأَيْتَهُمْ فى أَحْسَنِ الأحْوَالِ وإِذا هُمُوا حَكَمُوا بحُكْمٍ جَائرٍ ... حَكَمُوا لمُنْكِرِهِ بِكُلِّ وَبَالِ قُالوا أتُنْكِرُ حُكمَ شَرْعِ مُحَمدٍ ... حَاشَا لِذَا الشّرْعِ الشَّرِيفِ العَالِي عَجَّتْ فُرُوجُ النَّاسِ ثُمَّ حُقُوقُهُم ... للهِ بِالبُكُرَاتِ والآصَالِ كمْ تُسْتَحَلُّ بكل حُكْمٍ بَاطِلٍ ... لا يَرْتَضِيهِ رَبُّنَا المُتَعَالِي والكلُّ فى قَعْرِ الجَحِيمِ سِوَى الَّذِى ... يَقْضِى بِدينِ اللهِ لا لِنَوَالِ أَوَ مَا سَمِعْتَ بأَنّ ثُلْثَيْهِمْ غَدا ... فى النَّار فى ذَاكَ الزَّمَانِ الَخْالي وَزَمَانُنَا هذَا فَرَبُّكَ عَالِمٌ ... هَلْ فيهِ ذَاكَ الثُّلْثُ أَمْ هُوَ خَالِي

يا بَاغِىَ الإِحْسَانِ يَطْلُبُ رَبَّهُ ... لِيَفُوزَ مِنْهُ بِغَايَةِ الآمَالِ انْظُرْ إلى هدْىِ الصَّحَابَةِ وَالذِى ... كانُوا عَلَيْهِ فى الزَّمَانِ الَخْالِي واسْلُكْ طَرِيقَ القَوْمِ أَيْنَ تَيَمَّمُوا ... خُذْ يَمْنَةً ما الدَّرْبُ ذَاتَ شِمَالِ تَاللهِ مَا اخْتَارُوا لأَنْفُسِهمْ سِوَى ... سُبُلِ الهُدَى فى القَوْلِ وَالأفعالِ دَرَجُوا عَلَى نَهْجٍ الرَّسُولِ وَهَدْيه ... وَبِهِ اقْتَدَوْا فى سَائرِ الأحوالِ نِعْمَ الرَّفِيقُ لِطَالِبٍ يَبْغِى الْهُدى ... فمآلُهُ فى الَحْشْرِ خَيْرُ مآلِ القَانِتِينَ المُخْبِتينَ لِرَبهِمْ ... النَّاطِقِينَ بأَصْدَقِ الأقوَالِ التَّارِكِينَ لكل فِعْلٍ سيِّئٍ ... وَالعَامِلينَ بأَحْسَنِ الأعمَالِ أَهوَاؤُهُمْ تَبَعٌ لِدينِ نَبِيِّهمْ ... وَسِوَاهُمُ بِالضِّدِّ فى ذِى الحْالِ مَا شَابَهُمْ فى دِينْهِمْ نَقْصٌ وَلا ... فى قَوْلِهمْ شَطْحُ الَجْهُولِ الْغالِي عَمِلُوا بمَا عَلِمُوا وَلم يَتَكَلّفُوا ... فَلِذَاكَ مَا شَابُوا الْهُدَى بِضَلالِ وَسوَاهم بالضدِّ حتَّى إنّهم ... تَرَكُوا الْهُدَى وَدَعَوْا إلى الإضْلالِ فَهُمُ الأدِلَّةُ لِلْحَيارَى مَنْ يَسرْ ... بهُدَاهُمُ لَمْ يَخْشَ مِنْ إضْلالِ وَهُمُ النُّجُومُ هِدَايَةً وإِضاءَةً ... وعُلوَّ مَنْزِلةٍ وبُعْدَ مَنالِ يمْشُونَ بَيْنَ النَّاسِ هَوْناً نُطْقُهمْ ... بالَحْقِّ لا بجَهَالَةِ الْجُهَّال حِلماً وَعِلْمًا مَعْ تُقًى وَتَوَاضُعٍ ... ونَصِيحَةٍ مْعَ رُتبةِ الإفضَالِ يُحْيُونَ لَيْلَهُمُ بِطَاعَةِ رَبهِمْ ... بِتِلاوَةٍ وَتَضَرُّعٍ وَسُؤَالِ وعُيُونُهُمْ تجْرِى بِفَيْضِ دُمُوعِهِمْ ... مِثْلِ انْهِمَالِ الوَابلِ الهَطَّالِ فى الَّليْلِ رُهبَانٌ وَعِنْدَ جِهَادِهِمْ ... لِعَدُوهِمْ مِنْ أَشْجَعِ الأبطالِ وَإِذَا بَدَا عَلَمُ الرِّهَانِ رأَيتَهُمْ ... يَتَسَابَقُونَ بِصَالِح الأعمالِ بِوُجُوهِهِمْ أَثَرُ السُّجُودِ لِرَبهمْ ... وَبهَا أَشِعَّةُ نُورِهِ المُتَلالي

فصل: أسماء السماع الشيطاني

ولَقدْ أبانَ لك الكِتَابُ صِفَاتهِمْ ... في سُورةِ الفَتْحِ (¬1) المبِين العَاليِ وَبِرَابِع السبع (¬2) الطوَالِ صِفَاتهُم ... قَوْمٌ يُحِبُّهُمُ ذَوُو إِذْلالِ وَ {بَرَاءَةٌ} (¬3) والحْشْرُ (¬4) فيهَا وَصْفُهُمْ ... و {هَلْ أَتَى} (¬5) وَبسُورةِ الأنفالِ (¬6) فصل هذا السماع الشيطاني المضادّ للسماع الرحماني له في الشرع بضعة عشر اسمًا: اللهو، واللغو، والباطل، والزور، والمُكاء، والتصدية، ورُقية الزنى، وقرآن الشيطان، ومُنبت النفاق في القلب، والصوتُ الأحمق، والصوت الفاجر، وصوتُ الشيطان، ومزمور الشيطان، والسمودُ. أسْمَاؤُهُ دَلّتْ عَلىَ أَوْصَافِهِ ... تَبًّا لِذي الأَسْمَاءِ والأَوْصَافِ (¬7) فنذكر مجاري هذه الأسماء، ووقوعها عليه في كلام الله تعالى ورسوله - صلى الله عليه وسلم - والصحابة؛ ليعلم أصحابُهُ وأهلُه بما به ظفروا، وأيَّ تجارةٍ رابحةٍ خسروا! ¬

_ (¬1) الآية 29. (¬2) أي سورة المائدة: 54. (¬3) هي سورة التوبة: 71. (¬4) الآيات 8 - 10. (¬5) هي سورة الإنسان: 7 - 10. (¬6) الآيتين 74، 75. (¬7) لعل البيت للمؤلف، وله في نونيته: أسماؤه دلت على أوصافه ... مشتقة منها اشتقاق معانِ

فصل: الأسم الأول: اللهو، ولهو الحديث

فدعْ صاحبَ المزمارِ والدفِّ والغنا ... وما اختاره عن طاعةِ الله مَذهبا ودَعْه يَعِشْ في غَيِّه وضلاله ... على تانَنا يحيا ويُبعَثُ أشيَبا وفي تَنتنَا يومَ المعادِ نجاتُه ... إلى الجنة الحمراء يُدعَى مقرَّبا سيعلمُ يومَ العرضِ أىَّ بِضاعةٍ ... أضاع وعند الوزن ما خفَّ أو رَبَا ويعلمُ ما قد كان فيه حياتُه ... إذا حُصِّلتْ أعمالُه كلُّها هَبَا دَعاه الهدى والغيُّ مَن ذا يُجِيبُه ... فقال لداعي الغيِّ أهلاً ومرحبا وأعرضَ عن داعي الهدى قائلاً له ... هواي إلى صوت المعازف قد صبا يَراعٌ ودُفٌّ بالصُّنوجِ وشاهدٌ ... وصوتُ مغنٍّ صوتُه يَقْنِص الظِّبا إذا ما تغنَّى فالظِّباء مُجِيبةٌ ... إلى أن يراها حولَه تُشبِه الدّبا فما شئتَ من صيدٍ بغير تطاردٍ ... ووصلِ حبيبٍ كان بالهجرِ عذَّبا فيا آمرِيْ بالرشدِ لو كنتَ حاضرًا ... لكان إلى المنْهيِّ عندك أقربا (¬1) فصل فالاسم الأول: اللهو ولهو الحديث. قال تعالى: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَيَتَّخِذَهَا هُزُوًا أُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ (6) وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِ آيَاتُنَا وَلَّى مُسْتَكْبِرًا كَأَنْ لَمْ يَسْمَعْهَا كَأَنَّ فِي أُذُنَيْهِ وَقْرًا فَبَشِّرْهُ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ} [لقمان: 6, 7]. قال الواحدي (¬2) وغيره: أكثر المفسرين على أن المراد بلهو الحديث: الغناء. ¬

_ (¬1) لعل الأبيات للمؤلف. (¬2) في البسبط (18/ 94 - 95).

قاله ابن عباس في رواية سعيد بن جبير (¬1) ومقسم (¬2) عنه. وقاله عبد الله بن مسعود في رواية أبى الصهباء عنه (¬3). وهو قول مجاهد (¬4)، وعكرمة (¬5). وروى ثور بن أبي فاختة، عن أبيه، عن ابن عباس في قوله: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ}، قال: "هُوَ الرَّجُلُ يَشْتَرِي الجَارِيَةَ، تُغَنِّيهِ ليْلاً وَنهَارًا" (¬6). ¬

_ (¬1) رواها ابن أبي شيبة (4/ 368) والبخاري في الأدب المفرد (786، 1265) وابن أبي الدنيا في ذم الملاهي (27) والطبري في تفسيره (20/ 127، 128) والبيهقي في الكبرى (10/ 221، 223) من طرق عن عطاء بن السائب عن سعيد بن جبير عن ابن عباس. (¬2) رواها ابن أبي شيبة (4/ 368) والطبري في تفسيره (20/ 128) من طريق ابن أبي ليلى عن الحكم عن مقسم عن ابن عباس. وصحح الأثر ابن القيم فيما يأتي، والألباني في تحريم آلات الطرب (ص 142). (¬3) رواها ابن أبي شيبة (4/ 368)، وابن أبي الدنيا في ذم الملاهي (26)، والطبري في تفسيره (20/ 127)، والبيهقي في الكبرى (10/ 223) وفي الشعب (4/ 278)، وصححها الحاكم (3542)، وابن القيم فيما يأتي، وابن حجر في التلخيص الحبير (4/ 482)، والشوكاني في نيل الأوطار (8/ 179)، والألباني في تحريم آلات الطرب (ص 143). (¬4) رواه عبد الرزاق في تفسيره (3/ 105) وابن أبي شيبة (4/ 368) وابن أبي الدنيا في ذم الملاهي (32، 45) والطبري في تفسيره (20/ 128، 129) وأبو نعيم في الحلية (3/ 286) من طرق عن مجاهد، وعزاه في الدر المنثور (6/ 505) للفريابي وسعيد ابن منصور وابن المنذر، وصححه الألباني في تحريم آلات الطرب (ص 145). (¬5) رواه ابن أبي شيبة (4/ 368)، وابن أبي الدنيا في ذم الملاهي (28)، والطبري في تفسيره (20/ 129)، وصححه الألباني في تحريم آلات الطرب (ص 145). (¬6) لم أقف على هذه الطريق موصولةً، وذكرها الثعلبي في تفسيره (7/ 310)، =

وقال ابن أبي نجيح، عن مجاهد: "هو اشتراء المغنِّي والمغنية بالمال الكثير، والاستماع إليه وإلى مثله من الباطل" (¬1). وهذا قول مكحول (¬2). وهذا اختيار أبي إسحاق أيضًا، وقال (¬3): أكثر ما جاء في التفسير أن لهو الحديث هاهنا هو الغناء؛ لأنه يُلهي عن ذكر الله. قال الواحدي (¬4): قال أهل المعاني: ويدخل في هذا كل من اختار اللهو والغناء والمزامير والمعازف على القرآن، وإن كان اللفظ قد ورد بالشِّراي، فلفظ الشِّراي يُذكَرُ في الاستبدال والاختيار، وهو كثير في القرآن. قال: ويدل على هذا ما قاله قتادة في هذه الآية: "لعله أن لا يكون أنفق مالاً"، قال: "وبحسب المرء من الضلالة أن يختار حديث الباطل على حديث الحق" (¬5). ¬

_ = والواحدي في أسباب النزول (ص 233)، وذكره النحاس في تفسيره (5/ 278) من طريق سعيد بن جبير عن ابن عباس مثله. وروى الطبري في تفسيره (20/ 130) من طريق عطية العوفي عن ابن عباس قال: "هو رجل من قريش اشترى جارية مغنية". (¬1) رواه الطبري في تفسيره (20/ 129)، والبيهقي في الكبرى (10/ 225)، وعزاه في الدر المنثور (6/ 507) لآدم بن أبي إياس. (¬2) روى عنه ابن عساكر في تاريخ دمشق (18/ 146) أنه قال في تفسير الآية: "الجواري الضاربات". (¬3) أي أبو إسحاق وهو الزجاج في كتابه معاني القرآن (4/ 194). (¬4) البسيط (95/ 18 - 96). (¬5) رواه عبد الرزاق في تفسيره (3/ 105) عن معمر، والطبري في تفسيره (20/ 126، 131) من طريق سعيد، كلاهما عن قتادة به، وعزاه في الدر المنثور (6/ 554) لابن أبي حاتم.

قال الواحدي: وهذه الآية على هذا التفسير تدلُّ على تحريم الغناء. ثم ذكر كلام الشافعي في رد الشهادة بإعلان الغناء. قال: وأما غِناء القَيْنَاتِ فذلك أشدّ ما في الباب، وذلك لكثرة الوعيد الوارد فيه، وهو ما روي أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "من استمع إلى قَيْنقٍ صُبَّ في أذنيه الآنُك يوم القيامة" (¬1). الآنُك: الرّصَاص المذاب. وقد جاء تفسير لهو الحديث بالغناء مرفوعًا إلى النبي - صلى الله عليه وسلم -. ففي "مسند الإمام أحمد"، و"مسند عبد الله بن الزبير الحميدي"، و"جامع الترمذي" (¬2) من حديث أبي أمامة -والسياق للترمذي- أن النبي ¬

_ (¬1) رواه الدارقطني في غرائب مالك -كما في اللسان (5/ 348) - وابن حزم في المحلى (9/ 57) وابن عساكر في تاريخ دمشق (51/ 263) من طرق عن أبي نعيم الحلبي عن ابن المبارك عن مالك عن محمد بن المنكدر عن أنس به مرفوعًا، قال أحمد في العلل رواية المروذي (255): "باطل"، وقال الدارقطني: "تفرد به أبو نعيم عن ابن المبارك، ولا يثبت هذا عن مالك، ولا عن ابن المنكدر"، وحكم عليه ابن حزم بالوضع، وقال ابن طاهر في كتاب السماع (ص 84): "الحديث عن مالك منكر جدًّا، وإنما يروى عن ابن المنكدر مرسلاً "، ووهّاه ابن العربي في أحكام القرآن (3/ 525)، والذهبي في السير (16/ 79)، وهو في السلسلة الضعيفة (4549). (¬2) مسند الحميدي (910) عن عبيد الله بن زحر عن القاسم عن أبي أمامة بنحوه مرفوعا، ورواه أحمد (5/ 252، 264) والترمذي (1282، 3195) عن ابن زحر عن علي بن يزيد عن القاسم به، وبهذا الإسناد رواه الروياني (1196) والطبري في تفسيره (20/ 126) والطبراني في الكبير (8/ 212، 213، 214) والبيهقي في الكبرى (6/ 14) وغيرهم، ورواه ابن ماجه (2168) عن ابن زحر عن أبي أمامة به، وله طرق أخرى لا تخلو من مقال، وليس عند بعضهم ذكر الآية، وأعلّه البخاري -كما في العلل الكبير (ص 190) - بعلي بن يزيد، وقال الترمذي: "هذا حديث =

- صلى الله عليه وسلم - قال: "لا تَبيعوا القَيناتِ، ولا تشتروهنَّ، ولا تُعلِّموهن، ولا خيرَ في تجارةٍ فيهنَّ، وثمنهن حرام"، في مثل هذا نزلت هذه الآية: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ} [لقمان: 6]. وهذا الحديث وإن كان مداره على عبيد الله بن زَحْرٍ عن علي بن يزيد عن القاسم، فعبيد الله بن زحر ثقة، والقاسم ثقة، وعلي ضعيف؛ إلا أن للحديث شواهد ومتابعات، سنذكرها إن شاء الله. ويكفي تفسير الصحابة والتابعين للهو الحديث بأنه الغناء، فقد صحَّ ذلك عن ابن عباس (¬1) وابن مسعود. قال أبو الصهباء: سألت ابن مسعود عن قوله تعالى: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ}؟ فقال: والله الذي لا إله غيره؛ هو الغناء، يُردِّدها ثلاث مرات (¬2). وصح عن ابن عمر رضي الله عنهما أيضًا: أنه الغناء (¬3). ¬

_ = غريب، إنما يروى من حديث القاسم عن أبي أمامة، وعلي بن يزيد يضعَّف في الحديث"، وقال النووي في المجموع (9/ 255): "اتفق الحفاظ على أنه ضعيف؛ لأن مداره على علي بن يزيد وهو ضعيف عند أهل الحديث"، وضعفه ابن حزم في المحلى (9/ 58)، وابن طاهر في كتاب السماع (ص 80)، وابن العربي في العارضة (6/ 280)، وابن الجوزي في العلل المتناهية (2/ 785)، وابن كثير في تفسيره (6/ 331)، وابن حجر في الفتح (11/ 91)، والألباني في السلسلة الصحيحة (2922). وفي الباب عن عمر وعلي وعائشة رضي الله عنهم وفيها ضعف. (¬1) تقدم تخريجه. (¬2) تقدم تخريجه. (¬3) لم أقف على تفسيره موصولا، وذكره النحاس في معاني القرآن (5/ 278)، =

قال الحاكم أبو عبد الله في "التفسير"، من كتابه "المستدرك" (¬1): "ليعلم طالب هذا العلم أن تفسير الصحابي الذي شهد الوحي والتنزيل -عند الشيخين- حديثٌ مسند". وقال في موضع آخر من كتابه: "هو عندنا في حكم المرفوع". وهذا -وإن كان فيه نظر- فلا ريب أنه أولى بالقبول من تفسير مَنْ بَعدهم؛ فهم أعلم الأمة بمراد الله من كتابه، فعليهم نزل، وهم أولُ من خُوطِبَ (¬2) به من الأمّة، وقد شاهدوا تفسيره من الرسول - صلى الله عليه وسلم - علمًا وعملاً، وهم العرب الفُصحاء على الحقيقة، فلا مَعدلَ عن تفسيرهم ما وُجد إليه سبيل. ولا تعارض بين تفسير لهو الحديث بالغناء، وتفسيرها بأخبار الأعاجم وملوكها وملوك الروم، ونحو ذلك مما كان النضر بن الحارث يُحدِّث به أهل مكة، ليشغلهم به عن القرآن، فكلاهما لهو الحديث. ولهذا قال ابن عباس: "لهو الحديث: الباطل والغناء" (¬3). فمن الصحابة مَن ذكر هذا، ومنهم من ذكر الآخر، ومنهم من جمعهما. ¬

_ = والقرطبي في تفسيره (14/ 52). (¬1) (2/ 258). (¬2) م: "حفظ". (¬3) روى الطبري (20/ 128) عن ابن عباس في تفسير لهو الحديث قال: "باطل الحديث؛ هو الغناء ونحوه"، وعزاه في الدر المنثور (6/ 504) للفريابي وابن مردويه. وورد تفسير لهو الحديث بالباطل والغناء مجموعَين عن عطاء الخراساني، رواه عنه ابن أبي حاتم والحاكم في الكنى كما في الدر المنثور (6/ 505، 507).

لا تجد أحدا عني بالغناء وسماع آلاته إلا وفيه ضلال عن طريق الهدى

والغناء أشد لهوًا، وأعظم ضررًا من أحاديث الملوك وأخبارهم، فإنه رُقْية الزنى، ومُنبِتُ النفاق، وشَرَك الشيطان، وخَمْرة العقل، وصدُّه عن القرآن أعظم من صدِّ غيره من الكلام الباطل؛ لشدة ميل النفوس إليه، ورغبتها فيه. إذا عُرف هذا فأهل الغناء ومُستمعوه لهم نصيب من هذا الذم، بحسب اشتغالهم بالغناء عن القرآن، وإن لم ينالوا جميعه؛ فإن الآيات تضمنت ذمّ من استبدل لهو الحديث بالقرآن؛ ليُضل عن سبيل الله بغير علم ويتخذها هزوًا، وإذا تُلي عليه القرآن ولَّى مستكبرًا كأن لم يسمعه (¬1)، كأن في أذنيه وقرًا، وهو الثقل والصمم، وإذا علم منه شيئًا استهزأ به. فمجموع هذا لا يقع إلا من أعظم الناس كفرًا، وإن وقع بعضه للمغنين ومُستمعيهم؛ فلهم حصة ونصيب من هذا الذم. يُوضحه: أنك لا تجد أحدًا عُني بالغناء وسماع آلاته إلا وفيه ضلال عن طريق الهدى علمًا وعملاً، وفيه رغبةٌ عن استماع القرآن إلى استماع الغناء، بحيث إذا عرض له سماع الغناء وسماع القرآن عَدَلَ عن هذا إلى ذاك، وثقل عليه سماع القرآن، وربما حمله الحالُ على أن يُسْكِتَ القارئ ويستطيل قراءته، ويستزيد المغنِّي ويستقصر نوبته، وأقل ما في هذا أن يناله نصيبٌ وافر من هذا الذم، إن لم يحُطْ به جميعه. والكلام في هذا مع مَنْ في قلبه بعض حياة يُحِسّ بها، فأما من مات قلبُهُ، ¬

_ (¬1) الأصل: "يسمعها".

فصل: الاسم الثاني والثالث: الزور واللغو

وعظمت فتنته، فقد سَدّ على نفسه طريق النصيحة: {وَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ فِتْنَتَهُ فَلَنْ تَمْلِكَ لَهُ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا أُولَئِكَ الَّذِينَ لَمْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يُطَهِّرَ قُلُوبَهُمْ لَهُمْ فِي الدُّنْيَا خِزْيٌ وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ} [المائدة: 41]. فصل الاسم الثاني والثالث: الزور، واللغو. قال تعالى: {وَالَّذِينَ لَا يَشْهَدُونَ الزُّورَ وَإِذَا مَرُّوا بِاللَّغْوِ مَرُّوا كِرَامًا} [الفرقان: 72]. قال محمد بن الحنفية (¬1): "الزور هاهنا الغناء". وقاله ليثٌ عن مجاهد (¬2). وقال الكلبيُّ: لا يحضرون مجالس الباطل (¬3). واللغوفي اللغة: كل ما يُلغَى ويُطرح. والمعنى: لا يحضرون مجالس الباطل، وإذا مرّوا بكل ما يلغى من قول وعمل أكرموا أنفسهم أن يقفوا عليه أو يميلوا إليه. ويدخل في هذا أعيادُ المشركين، كما فسرها به السلف، والغناء، وأنواع الباطل كلها. ¬

_ (¬1) انظر أقوال المفسرين في البسيط (16/ 602 - 603). وقول ابن الحنفية رواه ابن أبي حاتم في تفسيره (15450)، وعزاه في الدر المنثور (6/ 283) للفريابي وعبد بن حميد. (¬2) رواه الطبري في تفسيره (19/ 313). (¬3) تفسير البغوي (3/ 378).

قال الزجاج (¬1): "لا يُجالسون أهل المعاصي، ولا يُمالِئونهم عليها (¬2)، ومروا مرَّ الكرام الذين لا يرضون باللغو؛ لأنهم يُكرمون أنفسهم عن الدخول فيه، والاختلاط بأهله". وقد رُويَ أن عبد الله بن مسعود مَرَّ بلهو، فأعرض عنه، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "إنْ أصْبحَ ابنُ مسعودٍ لكريمًا" (¬3). وقد أثنى الله سبحانه على من أعرض عن اللغو إذا سمعه؛ فقال: {وَإِذَا سَمِعُوا اللَّغْوَ أَعْرَضُوا عَنْهُ وَقَالُوا لَنَا أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ} [القصص: 55]. وهذه الآية، وإن كان سبب نزولها خاصًّا فمعناها عام متناول لكل من سمع لغوًا فأعرض عنه، وقال بلسانه أو بقلبه لأصحابه: لنا أعمالنا ولكم أعمالكم. وتأمل كيف قال سبحانه: {لَا يَشْهَدُونَ الزُّورَ} ولم يقل: بالزور؛ لأن {يَشْهَدُونَ} بمعنى: يحضُرون، فمدحهم على ترك حضور مجالس الزور، فكيف بالتكلم به وفعله؟ والغِناءُ من أعظم الزور. ¬

_ (¬1) معاني القرآن (4/ 77). ونقله في البسيط (16/ 604). (¬2) في ش بعدها: "بالدخول فيه". (¬3) رواه الطبري في تفسيره (19/ 316) وابن أبي حاتم في تفسيره (15463، 15464) وابن عساكر في تاريخ دمشق (33/ 128) من طرق عن محمد بن مسلم عن إبراهيم ابن ميسرة قال: بلغني أن ابن مسعود مرَّ بلهو معرضًا .. وذكره، وهو في السلسلة الضعيفة (1167).

فصل: الاسم الرابع: الباطل

والزور: يُقال على الكلام الباطل، وعلى العمل الباطل، وعلى العين نفسها، كما في حديث معاوية لما أخذ قُصَّةً من شَعَرٍ يُوصل به، فقال: "هذا الزور" (¬1). فالزور: القول والفعل والمحل. وأصل اللفظة من الميل، ومنه الزَّوْر بالفتح. ومنه: زُرتُ فلانًا، إذا مِلتَ إليه، وعَدلتَ إليه. فالزُّور: مَيلٌ عن الحق الثابت إلى الباطل الذي لا حقيقة له، قولًا وفعلًا. فصل الاسم الرابع: الباطل. والباطلُ: ضد الحق، يُراد به المعدوم الذي لا وجود له، والموجود الذي مَضَرّة وجوده أكثر (¬2) من منفعته. فمن الأول قول الموحِّد: كلُّ إله سوى الله باطلٌ، ومن الثاني قوله: السحر باطلٌ، والكفر باطل، قال تعالى: {وَقُلْ جَاءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْبَاطِلُ إِنَّ الْبَاطِلَ كَانَ زَهُوقًا} [الإسراء: 81]. فالباطل إما معدوم لا وجود له، وإما موجود لا نفع لَه. فالكفرُ، والفسوق، والعصيان والسِّحْر، والغناء، واستماع الملاهي؛ كله من النوع الثاني. ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري (3488)، ومسلم (2127). (¬2) الأصل: "أكبر".

قال ابن وهب (¬1): أخبرني سليمان بن بلال، عن كثير بن زيد، أنه سمع عبيد الله يقول للقاسم بن محمد: كيف ترى في الغناء؟ فقال له القاسم: هو باطل، فقال: قد عرفتُ أنه باطل، فكيف ترى فيه؟ فقال القاسم: أرأيت الباطل، أين هو؟ قال: في النار، قال: فهو ذاك. وقال رجل لابن عباس: ما تقول في الغناء أحلال هو أم حرام؟ فقال: لا أقول حرامًا إلا ما في كتاب الله، فقال: أفحلالٌ هو؟ فقال: ولا أقول ذلك، ثم قال له: أرأيت الحقّ والباطل، إذا جاءا يوم القيامة فأين يكون الغناء؟ فقال الرجل: يكون مع الباطل، فقال له ابن عباس: اذهبْ فقد أفتيتَ نفسَك (¬2). فهذا جوابُ ابن عباس عن غناء الأعراب، الذي ليس فيه مدح الخمر والزنى واللواط، والتشبيب بالأجنبيَّات، وأصوات المعازف والآلات المطربات؛ فإن غناء القوم لم يكن فيه شيءٌ من ذلك، ولو شاهدوا هذا الغناء لقالوا فيه أعظم قول، فإن مضرّته وفتنته فوق مضرة شرب الخمر بكثير، وأعظم من فتنته؛ فمن أبطل الباطل أن تأتي شريعة بإباحته. فمن قاس هذا على غناء القوم فقياسه من جنس قياس الربا على البيع، ¬

_ (¬1) ذكره بهذا الإسناد ابن عبد البر في التمهيد (22/ 199). ورواه ابن أبي الدنيا في ذم الملاهي (46) من طريق يحيى بن سليم عن عبيد الله بن عمر قال: سأل إنسان القاسم ابن محمد عن الغناء، قال: أنهاك عنه وأكرهه لك، قال: أحرام هو؟ قال: انظر يا ابن أخي، إذا ميز الله الحق من الباطل في أيهما يجعل الغناء؟! ومن طريق ابن أبي الدنيا رواه البيهقي في الكبرى (10/ 224) وابن عساكر في تاريخ دمشق (49/ 185). وذكره ابن رجب في جامع العلوم والحكم (ص 280) من طريق جعفر بن محمد عن القاسم بن محمد به. (¬2) لم أقف عليه.

فصل: تسميته بالمكاء والتصدية

والميتة على المُذَكَّاة، والتحليل الملعون فاعلُهُ على النكاح الذي هو سنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وهو أفضل من التخلي لنوافِل العبادة، فلو كان نكاحُ التحليل جائزًا في الشرع؛ لكان أفضل من قيام الليل وصيام التطوع، فضلًا أن يلعن فاعله. فصل وأما اسم المكاء والتصدية: فقال تعالى عن الكفار: {وَمَا كَانَ صَلَاتُهُمْ عِنْدَ الْبَيْتِ إِلَّا مُكَاءً وَتَصْدِيَةً} [الأنفال: 35]. قال ابن عباس (¬1)، وابن عمر (¬2)، وعطية (¬3)، ومجاهد (¬4)، والضحاك (¬5)، والحسن (¬6)، وقتادة (¬7): المُكاء: الصّفير، والتّصديةُ: التصفيق. ¬

_ (¬1) نقل المؤلف أقوال المفسرين وأهل اللغة من البسيط للواحدي (10/ 135، 139، 140، 141). وقول ابن عباس رواه الطبري في تفسيره (16023، 16024، 16029) وابن أبي حاتم في تفسيره (9045) والضياء في المختارة (10/ 117) من طرق عن ابن عباس، وعزاه في الدر المنثور (4/ 62) للفريابي وعبد بن حميد وابن المنذر. (¬2) رواه الطبري في تفسيره (16026، 16027، 16028، 16029، 16032، 16033) وابن أبي حاتم في تفسيره (9040) من طريق عطية عن ابن عمر، وعزاه في الدر المنثور (4/ 62) لابن أبي شيبة وعبد بن حميد وابن المنذر وأبي الشيخ وابن مردويه. (¬3) رواه الطبري في تفسيره (16025). (¬4) رواه الطبري في تفسيره (16036، 16037، 16038، 16039) بمعناه. (¬5) رواه الطبري في تفسيره (16043، 16044). (¬6) انظر: تفسير ابن أبي زمنين (2/ 176)، والنكت والعيون (2/ 315)، وتفسير السمعاني (2/ 263)، ومعالم التنزيل (3/ 354). (¬7) رواه عبد الرزاق في تفسيره (4/ 62) والطبري في تفسيره (16046) عن معمر عنه.

وكذلك قال أهل اللغة: المكاء: الصفير، يقال: مكا يمكو مُكاءً: إذا جمع يديه ثم صفَّر فيهما، ومنه: مَكَتِ اسْتُ الدابة، إذا خرجت منها الريح بصوت، ولهذا جاء على بناء الأصوات، كالرُّغاء والعُواء والثُّغاء. قال ابن السكيت (¬1): الأصوات كلها مضمومة إلا حرفين: النِّداء، والغِناء. وأما التصدية ففي اللغة: التصفيق، يقال: صَدَّى، يُصَدِّي، تَصْدِيةً: إذا صفّق بيديه. قال حسان بن ثابت، يعيب المشركين بصفيرهم وتصفيقهم: إِذَا قامَ المَلائِكَةُ انْبَعَثْتُمْ ... صَلاتُكُمُ التَّصدِّي وَالمُكاءُ (¬2) وهكذا الأشباه؛ يكون المسلمون في الصلوات الفرض والتطوع، وهم في التصفير والتصفيق. قال ابن عباس (¬3): كانت قريش يطوفون بالبيت عُراةً، ويُصَفِّرون ويُصفِّقون. وقال مجاهد (¬4): كانوا يعارضون النبي - صلى الله عليه وسلم - في الطواف، ويصفِّرون ويُصفِّقون، يَخْلطون عليه طوافه وصلاته (¬5). ¬

_ (¬1) انظر: تهذيب اللغة (مكا) والبسيط (10/ 135). (¬2) البيت بهذه الرواية في البسيط (10/ 140). وأخرجه الطستى -كما فى الدر المنثور (4/ 61) - عن ابن عباس عن حسان برواية أخرى. (¬3) رواه الطبري في تفسيره (16034)، وابن أبي حاتم في تفسيره (9045)، والضياء في المختارة (10/ 117) من طريق سعيد بن جبير عن ابن عباس، وعزاه في الدر المنثور (4/ 61) لأبي الشيخ وابن مردويه. (¬4) رواه الطبري في تفسيره (16037، 16038، 16039) بنحوه، وانظر: الكشف والبيان (4/ 353)، ومعالم التنزيل (3/ 355). (¬5) "وصلاته" ساقطة من م.

فصل: تسميته: رقية الزنى

ونحوه عن مقاتل (¬1). ولا ريب أنهم كانوا يفعلون هذا وهذا. فالمتقرِّبون إلى الله بالصفير والتصفيق: أشباهُ النوع الأول، وإخوانهم المخلِّطون به على أهل الصلاة والذكر والقراءة: أشباه النوع الثانى. قال ابن عرفة، وابن الأنباري: المُكاء والتصدية ليسا بصلاة، ولكن الله تعالى أخبر أنهم جعلوا مكان الصلاة التي أُمروا بها: المكاء والتصدية، فألزمهم ذلك عظيم الأوزار، وهذا كقولك: زُرْته، فجعل جفائي صِلَتي، أي: أقام الجفاء مقام الصلة. والمقصود أن المصفقين والصفارين في يَراع أو مِزْمار ونحوه فيهم شَبَهٌ من هؤلاء، ولو أنه مجرد الشَّبه الظاهر، فلهم قِسْط من الذم، بحسب تشبُّههم بهم، وإن لم يتشبهوا بهم في جميع مُكائهم وتصديتهم. والله سبحانه لم يَشرع التصفيق للرجال وقت الحاجة إليه في الصلاة إذا نابهم أمرٌ؛ بل أُمروا بالعدول عنه إلى التسبيح؛ لئلا يتشبَّهوا بالنساء، فكيف إذا فعلوه لا لحاجة، وقرنوا به أنواعًا من المعاصي قولًا وفعلًا؟ فصل أما تسميته (¬2) رُقية الزنى: فهو اسمٌ موافقٌ لمسمَّاه، ولفظٌ مطابق لمعناه، فليس في رُقى الزنى أنجعُ منه، وهذه التسمية معروفة عن الفُضيل بن عِياض. ¬

_ (¬1) تفسير مقاتل (2/ 16). (¬2) "تسميته" ساقطة من م.

قال ابن أبى الدنيا (¬1): أخبرنا الحسين بن عبد الرحمن، قال: قال فُضيل بن عياض: الغناء رُقْية الزنى. قال (¬2): وأخبرنا إبراهيم بن محمد المروزي، عن أبى عثمان الليثي، قال: قال يزيد بن الوليد: يا بني أُمية! إياكم والغِناء، فإنه ينقُص الحياء، ويزيد في الشهوة، ويهدم المروءة، وإنه لينوب عن الخمر، ويفعل ما يفعل السكر، فإن كنتم - لابُدَّ فاعلين، فجنِّبوه النساء، فإن الغناء داعيةُ الزنى. قال (¬3): وأخبرني محمد بن الفضل الأزدي، قال: نزل الحُطَيْئَةُ برجل من العرب، ومعه ابنته مُلَيْكة، فلما جَنَّه الليلُ سمع غناء، فقال لصاحب المنزل: كُفَّ هذا عني، فقال: وما تكره من ذلك؟ فقال: إن الغناء رائدٌ من رَادَةِ الفجور، ولا أُحب أن تُسمِعَه هذه -يعني ابنته-، فإن كففته وإلا خرجتُ عنك. ثم ذكر (¬4) عن خالد بن عبد الرحمن، قال: كُنّا في عسكر سليمان بن ¬

_ (¬1) ذم الملاهي (57)، ومن طريق ابن أبي الدنيا رواه البيهقي في الشعب (4/ 280). وفي ح، ظ، ش: "أخبر الحسن ... ". (¬2) ذم الملاهي (52)، ومن طريق ابن أبي الدنيا رواه البيهقي في الشعب (4/ 280)، ورواه أبو الفرج في الأغاني (7/ 82) من طريق عمر بن شبة عن إبراهيم بن الوليد الحمصي عن هارون بن الحسن العنبري عن الوليد به. (¬3) ذم الملاهي (53)، ومن طريق ابن أبي الدنيا رواه البيهقي في الشعب (4/ 280). (¬4) ذم الملاهي (54) من طريق أبي إسحاق الطالقاني عن الفضل بن موسى عن داود بن عبد الرحمن عن خالد به، ومن طريق ابن أبي الدنيا رواه البيهقي في الشعب (4/ 280)، وابن عساكر في تاريخ دمشق (16/ 166)، وابن العديم في بغية الطلب (7/ 3088)، ورواه الحكيم الترمذي في المنهيات (ص 107) عن الجارود عن =

عبد الملك، فسمِع غناءً من الليل، فأرسل إليهم بُكرةً، فجيء بهم، فقال: إن الفرس ليصهل؛ فتَسْتَوْدِقُ له الرَّمَكَة، وإن الفحل ليهدِرُ فتَضْبَع له الناقة، وإن التيس ليَنِبُّ فتستحرم له العنز، وإن الرجل ليتغنى فتشتاق إليه المرأة! ثم قال: اخصوهم، فقال عمر بن عبد العزيز: هذه مُثلة، فلا تحِلُّ؛ فخلِّ قال (¬1): فخلىَّ سبيلَهم. قال (¬2): وأخبرنا الحسين بن عبد الرحمن، قال: قال أبو عُبيدة معمر بن المثنى: جاور الحُطيئة قومًا من بني كُلَيْب (¬3)، فمشى ذَوُو النُّهى (¬4) منهم بعضهم إلى بعض، وقالوا: يا قوم! إنكم قد رُميتُم بداهيةٍ، هذا الرجل شاعر، والشاعر يَظنُّ فيُحقِّق، ولا يستأني فيتَثبَّت، ولا يأخذ الفضل فيعفو، فأتوه وهو في فناء خبائه، فقالوا: يا أبا مُليكة! إنه قد عَظُم حقك علينا؛ بتخطِّيك القبائل إلينا، وقد أتيناك لنسألك عما تحُب فنأتيه، وعما تكره فنزدجر عنه، فقال: جنّبوني نَدِيّ مجلسكم، ولا تُسمِعُوني أغاني شبيبتكم؛ فإن الغناء رُقية الزنى. ¬

_ = الفضل به، ورواه الخطابي في غريب الحديث (1/ 410 - 411) من طريق أحمد بن مصعب المروزي عن الفضل عن داود بن عبد الرحمن عن سليمان بن عبد الملك به. (¬1) "فخلىّ سبيلهم قال" ساقطة من م، ش، ظ. (¬2) ذم الملاهي (61)، ورواه أبو الفرج في الأغاني (2/ 171) من طريق ابن الأعرابي عن المفضل أن الحطيئة أقحمته السّنة فنزل ببني مقلد بن يربوع .. وذكر القصة بمعناها. (¬3) ح، ظ: "كلاب". (¬4) م: "الدين".

فإذا كان هذا الشاعر المفتوقُ اللسان، الذي هابت العرب هجاءه خاف عاقبة الغناء، وأن تصل رُقيته إلى حُرمته، فما الظن بغيره؟ ولا ريب أن كل غَيور يُجنِّب أهله سماع الغناء، كما يُجنِّبهن أسباب الريب. ومن طَرَّق أهله إلى سماع رُقية الزنى فهو أعلمُ بالاسم الذي يستحقه. ومن الأمر المعلوم عند القوم: أن المرأة إذا استعصت على الرجل اجتهد على أن يُسمعها صوت الغناء، فحينئذ تُعطِي اللَّيان. وهذا لأن المرأة سريعة الانفعال للأصوات جدًّا، فإذا كان الصوت بالغناء صار انفعالها من وجهين: من جهة الصوت، ومن جهة معناه، ولهذا قال النبي - صلى الله عليه وسلم - لأنجشةَ حاديهِ: "يا أنجشة! رويدًا رفقًا بالقوارير" (¬1). يعني النساء. فأما إذا اجتمع إلى هذه الرقية: الدف، والشبابة، والرقص بالتخنث والتكسر؛ فلو حبلت المرأة من غناء لحبلت من هذا الغناء. فلعمرُ الله كم من حُرة صارت بالغناء من البغايا! وكم من حُرٍّ أصبح به عبدًا للصبيان أو الصبايا! وكم من غيور تبدّل به اسمًا قبيحًا بين البرايا! وكم من ذي غِنى وثروةٍ أصبح بسببه على الأرض بعد المطارف والحشايا! وكم من مُعافىً تعرّض له، فأمسى وقد حلّت به أنواعُ البلايا! وكم أهدى للمشغوف به من أشجان وأحزان، فلم يجد بُدًّا (¬2) من قبول تلك الهدايا! ¬

_ (¬1) رواه البخاري (6149، 6161) ومسلم (2323) عن أنس بن مالك. (¬2) م: "تجديدًا".

فصل: تسميته: منبت النفاق

وكم جَرّع من غُصّةٍ، وأزال من نعمة، وجلب من نقمةٍ! وذلك منه من إحدى العطايا! وكم خَبَّأ لأهله من آلام مُنتظرة، وغموم مُتوقّعة، وهمومٍ مستقبلة! فَسَلْ ذا خِبْرَةٍ يُنْبِيكَ عَنْهُ ... لِتَعْلَم كَمْ خَبَايا في الزَّوَايَا (¬1) وَحاذِرْ إنْ شُغِفْت بِه سِهَامًا ... مُرَيَّشَةً بأَهْدَابِ المَنَايَا إِذا مَا خَالَطَتْ قَلْبًا كَئِيبًا ... تمزَّقَ بَينَ أطباقِ الرَّزَايَا وَيُصْبحُ بَعْدَ أن قَدْ كانَ حُرًّا ... عَفِيفَ الفَرْجِ: عَبْدًا لِلصّبايَا وَيُعْطِي مَنْ بهِ يُعْنى غِنَاءً ... وذلِكَ مِنْهُ مِنْ شَرِّ العَطَايَا فصل وأما تسميته مُنبت النفاق: فقال علي بن الجعد (¬2): حدثنا محمد بن طلحة، عن سعيد بن كَعب المروزي، عن محمد بن عبد الرحمن بن يزيد، عن ابن مسعود رضي الله تعالى عنه، قال: "الغناء يُنْبِت النفاق في القلب كما يُنْبِت الماءُ الزرع، والذكر يُنبت الإيمانَ في القلب كما يُنبت الماءُ الزرعَ". ¬

_ (¬1) لعل الأبيات للمؤلف. (¬2) رواه ابن أبي الدنيا في ذم الملاهي (30) عن ابن الجعد به، ومن طريق ابن أبي الدنيا رواه البيهقي في الكبرى (10/ 223)، قال ابن الملقن في البدر المنير (9/ 633): "سعيد هذا مجهول، وما أعرف روى عنه غير محمد بن طلحة، ويغلب على ظني أنه منقطع أيضًا"، وحكم بانقطاعه الذهبي في المهذب (8/ 4236)، والألباني في تحريم آلات الطرب (ص 147). وورد -كما في كتاب السماع (ص 88) - عن جرير ابن عبد الحميد عن ليث بن أبي سليم عن محمد بن عبد الرحمن بن يزيد عن أبيه عن ابن مسعود. ورواه ابن أبي الدنيا (40) من طريق محمد بن فضيل عن ليث عن طلحة ابن مصرف عن ابن مسعود.

وقال شُعبة (¬1): حدثنا الحكَم، عن حمادٍ، عن إبراهيم، قال: قال عبد الله بن مسعود: "الغناء يُنبت النفاق في القلب". وهو صحيح عن ابن مسعود من قوله. وقد روي عن ابن مسعود مرفوعًا، رواه ابن أبى الدنيا في كتاب "ذم الملاهي" (¬2): أخبرنا عصمة بن الفضل، حدثنا حَرَميّ بن عُمارة، حدثنا سلّام بن مِسكين، حدثنا شيخ، عن أبى وائل، عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "الغناء يُنبت النفاق في القلب كما يُنبت الماء البَقلَ". وقد تابع حرميَّ بن عمارة عليه بهذا الإسناد والمتن مُسلمُ بن إبراهيم: قال أبو الحسين بن المنادي في كتاب "أحكام الملاهي" (¬3): حدثنا ¬

_ (¬1) رواه ابن أبي الدنيا (31، 34، 36) - وعنه البيهقي في الكبرى (10/ 223) والشعب (4/ 278) -، والمروزي في تعظيم قدر الصلاة (680). ورواه ابن أبي الدنيا (35) - وعنه البيهقي في الشعب (4/ 279) - من طريق منصور عن حماد به. ورواه ابن أبي الدنيا (39) من طريق العوام عن حماد عن ابن مسعود به. وصححه الألباني في تحريم آلات الطرب (ص 145). قال ابن طاهر في كتاب السماع (ص 88): "أصح الأسانيد فيه أنه من قول إبراهيم". (¬2) ذم الملاهي (41)، ومن طريق ابن أبي الدنيا رواه البيهقي في الكبرى (10/ 223). (¬3) رواه أبو داود (4929) عن مسلم بن إبراهيم به، وضعّفه ابن حزم في المحلى (9/ 57)، وابن الملقن في البدر المنير (9/ 633)، والعراقي في المغني (2206)، وهو في السلسلة الضعيفة (2430)، ورجّح ابن قدامة في المغني (12/ 42) وابن رجب في نزهة الأسماع (ص 37) وقفَه. وفي الباب عن جابر بن عبد الله وأبي هريرة وأنس رضي الله عنهم ولا تصحّ.

محمد بن على بن عبد الله بن حمدان المعروف بحمدان الوَرَّاق، حدثنا مسلم بن إبراهيم، حدثنا سلّام بن مسكين، فذكر الحديث. فمداره على هذا الشيخ المجهول، وفي رفعه نظر، والموقوف أصح. فإن قيل: فما وجه إنباتِه للنفاق في القلب من بين سائر المعاصي؟ قيل: هذا من أدلِّ شيء على فقه الصحابة في أحوال القلوب وأعمالها، ومعرفتهم بأدويتها وأدوائها، وأنهم هم أطباء القلوب، دون المنحرفين عن طريقتهم، الذين داوَوا أمراض القلوب بأعظم أدوائها، فكانوا كالمداوي من السّقم بالسُّم القاتل، وهكذا والله فعلوا بكثير من الأدوية التي ركَّبوها، أو بأكثرها، فاتفق قِلّةُ الأطباء، وكثرة المرضى، وحدوث أمراض مُزمنةٍ لم تكن في السلف، والعدولُ عن الدواء النافع الذي ركّبه الشارع، وميل المريض إلى ما يقوِّي مادة المرض، فاشتد البلاء، وتفاقم الأمر، وامتلأت الدور والطرقات والأسواق من المرضى، وقام كل جهول يَطُبُّ الناس. فاعلم أن للغناء خواص لها تأثير في صبغ القلب بالنفاق، ونباته فيه كنبات الزرع بالماء. فمن خواصِّه: أنه يُلهي القلب ويصدُّه عن فهم القرآن وتدبُّره، والعمل بما فيه؛ فإن القرآن والغناء لا يجتمعان في القلب أبدًا؛ لما بينهما من التضادّ؛ فإن القرآن ينهى عن اتباع الهوى، ويأمر بالعِفَّة، ومُجانبة شهوات النفوس وأسباب الغيّ، وينهى عن اتباع خُطُوات الشيطان. والغناء يأمر بضد ذلك كلِّه، ويُحسِّنه، ويُهيِّج النفوس إلى شهوات الغيِّ، فيُثير كامِنَها، ويُزعجُ قاطنها، ويُحرِّكها إلى كل [71 أ] قبيح، ويسوقها إلى وصل كل مليحة ومليح، فهو والخمرُ رضيعا لبانٍ، وفي تهييجهما على القبائح فرسا رهان، فإنه صِنوُ

الخمر ورضيعه (¬1)، ونائبه وحليفه، وخَدينُه وصديقه، عَقَدَ الشيطانُ بينهما عقد الإخاء الذي لا يُفْسَخ، وأحكم بينهما شريعة الوفاء التي لا تُنسخ، وهو جاسوس القلوب، وسارق المروءة، وسُوس العقل، يتغلغل في مكامن القلوب، ويطّلع على سرائر الأفئدة، ويَدِبُّ إلى محل التخييل، فيُثير ما فيه من الهوى والشهوة والسخافة والرّقاعة والرعونة والحماقة. فبينا ترى الرجل وعليه سمة الوقار، وبهاء العقل، وبهَجة الإيمان، ووقار الإسلام، وحلاوة القرآن، فإذا استمع الغناء ومال إليه نقص عقلُه، وقَلّ حياؤه، وذهبت مروءته، وفارقه بهَاؤه، وتخلىّ عنه وقاره، وفرح به شيطانه، وشكا إلى الله تعالى إيمانُه، وثَقُل عليه قرآنه، وقال: يا رب! لا تجمع بيني وبين قرآن عدوِّك في صدرٍ واحدٍ. فاستحسنَ ما كان قبل السَّماع يستقبحه، وأبدى من سِرِّه ما كان يكتمه، وانتقل من الوقار والسكينة إلى كثرة الكلام والكذب، والزهزهة والفرقعة بالأصابع، فيميل برأسه، ويهزُّ منكبيه، ويضرب الأرض برجليه، ويدقّ على أُمِّ رأسه بيديه، ويَثبُ وثباتِ الدِّبابِ، ويدور دوران الحمار حول الدولاب، ويصفِّق بيديه تصفيق النسوان، ويخور من الوَجْد كخُوار الثيران، وتارةً يتأوّه تأوّه الحزين، وتارةً يزعق زعقات المجانين، ولقد صدق الخبيرُ به من أهله حيث يقول: أتذْكُرُ لَيْلَةً وَقَدِ اجْتَمعْنَا ... عَلىَ طِيبِ السَّماعِ إلى الصَّبَاحِ (¬2) وَدَارَتْ بَيْننَا كأْسُ الأغَاني ... فأَسْكَرَتِ النُّفُوسَ بِغَيْرِ رَاحِ فَلمْ تَرَ فيهِمُ إِلا نَشَاوَى ... سُرُورًا وَالسُّرُورُ هُنَاك صَاحِي ¬

_ (¬1) ح: "وصيفه". (¬2) الأبيات بلا نسبة في "نهاية الأرب" (4/ 136).

إذَا نَادَى أَخُو الّلذّاتِ فِيهِ ... أَجابَ الّلهْوُ حَيَّ عَلىَ السَّماحِ وَلم نَملِكْ سِوَى المُهَجَاتِ شَيْئًا ... أَرَقْنَاهَا لأَلْحَاظِ مِلاَحِ وقال بعض العارفين: السماع يورث النفاق في قومٍ، والعناد في قومٍ، والتكذيب في قوم، والفجور في قوم، والرعونة في قوم. وأكثر ما يورث: عشق الصور، واستحسان الفواحش، وإدمانُه يثقِّل القرآن على القلب، ويُكَرِّهه إلى سماعه بالخاصية، وإن لم يكن هذا نفاقًا فما للنفاق حقيقة! وسرُّ المسألة: أنه قرآن الشيطان كما سيأتي، فلا يجتمع هو وقرآن الرحمن في قلب أبدًا. وأيضًا فإن أساس النفاق أن يخالف الظاهرُ الباطنَ، وصاحبُ الغناء بين أمرين: إما أن يتهتّك فيكون فاجرًا، أو يُظهر النُّسُك فيكون منافقًا، فإنه يُظهر الرغبة في الله والدار الآخرة؛ وقلبه يَغْلي بالشهوات، ومحبة ما يكرهه الله ورسوله من أصوات المعازف، وآلات اللَّهو، وما يدعو إليه الغناء ويُهَيِّجُه فقلبُه بذلك معْمور، وهو من محبة ما يحبُّه الله ورسوله وكراهة ما يكرهه قَفر، وهذا محض النفاق. وأيضًا فإن الإيمان قول وعمل: قولٌ بالحق، وعمل بالطَّاعة، وهذا ينبُتُ على الذكر، وتلاوة القرآن. والنفاقُ قول الباطل، وعملُ الغيِّ، وهذا ينبُت على الغناء. وأيضًا فمن علامات النفاق: قِلّة ذِكر الله، والكسلُ عند القيام إلى الصلاة، ونقرُ الصلاة، وقَلَّ أن تجد مفتونًا بالغناء إلا وهذا وصفه. وأيضًا فإن النفاق مُؤَسَّس على الكذب، والغِنَاء من أكذب الشِّعر؛ فإنه

يحُسِّن القبيح ويزينه، ويأمر به، ويُقبِّح الحسن ويُزَهِّد فيه، وذلك عين النفاق. [71 ب] وأيضًا فإن النفاق غِشٌّ ومكر وخداع، والغناء مؤسَّسٌ على ذلك. وأيضًا فإن المنافق يُفسد من حيث يظنُّ أنه يُصلح، كما أخبر الله سبحانه بذلك عن المنافقين، وصاحب السماع يفسد قلبه وحاله من حيث يظن أنه يُصلِحه، والمغنِّي يدعو القلوب إلى فتنة الشهوات، والمنافق يدعوها إلى فتنة الشبهات. قال الضحاك: "الغناء مفسدة للقلب، مسخطة للرب" (¬1). وكتب عمر بن عبد العزيز إلى مؤدِّب ولده: "ليكن أوّل ما يعتقدون من أدبك بغض الملاهي، التي بَدْؤُها من الشيطان، وعاقبتُها سخطُ الرحمن؛ فإنه بلغني عن الثقات من أهل العلم: أن صوت المعازف واستماع الأغاني واللَّهج بها، يُنبِتُ النفاقَ في القلب كما يَنْبُتُ العُشبُ على الماء" (¬2). فالغناء يفسد القلب، وإذا فسد القلب هاج فيه النفاق. وبا لجملة فإذا تأمَّل البصير حالَ أهل الغناء، وحال أهل الذكر والقرآن، تبيَّن له حذق (¬3) الصحابة ومعرفتهم بأدواء القلوب وأدويتها، وبالله التوفيق. ¬

_ (¬1) رواه ابن أبي الدنيا في ذم الملاهي (60). وانظر: معاني القرآن للنحاس (5/ 279)، وتفسير الثعلبي (7/ 310)، وتلبيس إبليس (ص 210). (¬2) رواه ابن أبي الدنيا في ذم الملاهي (51)، ومن طريقه ابن الجوزي في تلبيس إبليس (ص 209). (¬3) م: "صدق".

فصل: تسميته: قرآن الشيطان

فصل وأما تسميته قرآن الشيطان: فمأثورٌ عن التابعين، وقد رُوِي فيه حديث مرفوع. قال قتادة: لما أُهبط إبليس قال: يا رب! لعنتني، فما عملي؟ قال: السحر، قال فما قرآني؟ قال: الشعرُ، قال: فما كتابي؟ قال: الوَشْم، قال: فما طعامي؟ قال: كل ميتة، وما لم يُذكر اسم الله عليه، قال: فما شرابي؟ قال: كل مُسْكر، قال: فأين مسكني؟ قال: الأسواق، قال: فما صوتي؟ قال: المزامير، قال: فما مصايدي؟ قال: النساء (¬1). هذا هو المعروف في هذا، وَقْفُه. وقد رواه الطبراني في "معجمه" (¬2) من حديث أبى أمامة مرفوعًا إلى النبى - صلى الله عليه وسلم -. وقال ابن أبى الدنيا في كتاب "مكايد الشيطان وحِيَله" (¬3): حدثنا أبو بكر التميمي، حدثنا ابن أبى مريم، حدثنا يحيى بن أيوب، قال: حدثنا ابن زَحر، عن عليٍّ بن يزيد، عن القاسم عن أبي أمامة، عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: ¬

_ (¬1) رواه عبد الرزاق (11/ 268) عن معمر عن قتادة به، ومن طريقه البيهقي في الشعب (4/ 277) والخطيب في الموضح (1/ 553). (¬2) المعجم الكبير (8/ 207)، وسيأتي تخريجه. (¬3) مكايد الشيطان (43)، وبهذا الإسناد رواه الطبري في تهذيب الآثار (953)، والطبراني في الكبير (8/ 207)، وضعفه العراقي في المغني (2639)، وقال الهيثمي في المجمع (8/ 221): "فيه علي بن يزيد الألهاني وهو ضعيف"، وهو في السلسلة الضعيفة (6054). وفي الباب عن ابن عباس رضي الله عنهما ولا يصح.

"إن إبليس لما أُنزل إلى الأرض قال: يا رب! أنزلتني إلى الأرض، وجعلتني رجيمًا، فاجعل لي بيتًا، قال: الحمَّامُ، قال: فاجعل لي مجلسًا، قال: الأسواق ومجامع الطرق، قال: فاجعل لي طعامًا، قال: كل ما لم يذكر اسم الله عليه، قال: اجعل لي شرابًا، قال: كل مسكر، قال: فاجعل لي مؤذنًا، قال: المزمار، قال: اجعل لي قرآنًا، قال: الشِّعْر، قال: اجعل لي كتابًا، قال: الوشم، قال: اجعل لي حديثًا، قال: الكذب، قال: اجعل لي رسلًا، قال: الكهنة، قال: اجعل لي مصايد، قال: النِّساء". وشواهد هذا الأثر كثيرة، فكل جملة منه لها شاهد من السنة أو من القرآن: فكون السِّحر من عمل الشيطان؛ شاهده قوله تعالى: {وَاتَّبَعُوا مَا تَتْلُو الشَّيَاطِينُ عَلَى مُلْكِ سُلَيْمَانَ وَمَا كَفَرَ سُلَيْمَانُ وَلَكِنَّ الشَّيَاطِينَ كَفَرُوا يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ} [البقرة: 102]، وأما كون الشعر قرآنه فشاهده: ما رواه أبو داود في "سننه" (¬1) من ¬

_ (¬1) سنن أبي داود (764) من طريق شعبة عن عمرو بن مرة عن عاصم العنزي عن ابن جبير عن أبيه به، وبهذا الإسناد رواه ابن الجعد (105)، وأحمد (4/ 85)، وابن ماجه (807)، وأبو يعلى (7398)، وابن الجارود (180)، وابن حبان (1780، 2601)، والطبراني في الكبير (2/ 134)، إلا أن التفسير عندهم جميعًا وعند غيرهم أيضًا من قول عمرو بن مرة، وفي إسناد الحديث اختلاف، وقد ضعفه ابن خزيمة في صحيحه (1/ 239)، وابن المنذر في الأوسط، وهو مخرج في الإرواء (2/ 54). وورد هذا التفسير أيضًا عن رجل من جهينة مرفوعًا، وعن أبي سلمة والحسن مرسلا، ومن كلام ابن مسعود وجعفر بن سليمان وعطاء بن السائب وغيرهم، وقد تقدم بيان ذلك.

حديث جُبير بن مُطعم: أنه رأى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يُصلي، فقال: "الله أكبر كبيرًا، الله أكبر كبيرًا، الله أكبر كبيرًا، الحمد لله كثيرًا، الحمد لله كثيرًا، الحمد لله كثيرًا، وسبحان الله بُكرةً وأصيلًا -ثلاثًا-، أعوذ بالله من الشيطان الرجيم من نفخه ونفثه وهمزه". قال: نفثه: الشعر، ونفخه: الكِبْر، وهمزه: المُوتة. ولما عَلّم الله رسوله القرآن وهو كلامه؛ صانه عن تعليم قرآن الشيطان، وأخبر أنه لا ينبغي له، فقال: {وَمَا عَلَّمْنَاهُ الشِّعْرَ وَمَا يَنْبَغِي لَهُ} [يس: 69]. وأما كون الوشم كتابَهُ؛ فإنه من عمله وتزيينه، ولهذا لعن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الواشمة والمستوشمة؛ فلعن الكاتبة والمكتوب عليها. وأما كون الميتةِ ومتروك التسمية طعامه؛ فإن الشيطان يستحلُّ الطعامَ إذا لم يُذكر اسم الله عليه، ويشارك آكله، والميتة لا يُذكر اسم الله عليها، فهي وكلّ طعام لم يُذكر عليه اسم الله: من طعامه، ولهذا لما سأل الجن الذين آمنوا برسول الله - صلى الله عليه وسلم - الزاد، قال: "لكم كلُّ عَظْمٍ ذُكر اسم الله عليه" (¬1). فلم يُبح لهم طعام الشياطين، وهو متروك التسمية. وأما كون المُسكِرَ شرابه؛ فقال تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصَابُ وَالْأَزْلَامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ} [المائدة: 90]، فهو شَرِبَ من الشراب الذي عمله أولياؤه بأمره، وشاركهم في عمله، فيشاركهم في عمله وشربه، وإثمه وعقوبته. وأما كون الأسواق مجلسه؛ ففي الحديث الآخر: "أنه يَرْكُز رايته ¬

_ (¬1) أخرجه مسلم (450) عن ابن مسعود.

بالسُّوق" (¬1). ولهذا يَحْضره اللغو واللغط والصخب والخيانة والغش، وكثيرٌ من عمله، وفي صفة النبي - صلى الله عليه وسلم - في الكتب المتقدِّمة: "أنه ليس صخّابًا بالأسواق" (¬2). أما كون الحمَّام بيته؛ فشاهده كونه غير محلٍّ للصلاة، وفي حديث أبي سعيد: "الأرض كلها مسجد إلا المقبرة والحمّام" (¬3)؛ ولأنه محل كشف العورات، وهو بيت مؤَسَّس على النار، وهى مادة الشيطان التي خُلق منها. وأما كون المزمار مؤذِّنَه ففي غاية المناسبة؛ فإن الغناء قرآنُه، والرقص والتصفيق -اللذين هما المُكاء والتصدية- صلاته، فلا بدَّ لهذه الصلاة من مؤذن وإمامٍ ومأموم: فالمؤذن المزمار، والإمامُ المغنِّي، والمأمومُ الحاضرون. وأما كون الكذب حديثه؛ فهو الكاذبُ الآمر بالكذب، المزيِّن له، فكل كذب يقع في العالم؛ فهو تعليمه وحديثه. وأما كون الكهنة رسُلَه؛ فلأن المشركين يُهْرَعون إليهم، ويفزعون إليهم في أمورهم العظام، ويُصدِّقونهم، ويتحاكمون إليهم، ويرضون بحكمهم، كما يفعل أتباع الرسل بالرسل؛ فإنهم يعتقدون أنهم يعلمون الغيب، ويخبرون عن المغيَّبات التي لا يعرفها غيرهم، فهم عند المشركين بهم ¬

_ (¬1) روى مسلم (2451) عن سلمان الفارسي رضي الله عنه قال: "لا تكوننّ إن استطعتَ أوّل من يدخل السوق، ولا آخر من يخرج منها؛ فإنها معركة الشيطان، وبها ينصب رايته"، وروِي عن سلمان مرفوعًا. (¬2) أخرجه البخاري (4838) عن عبد الله بن عمرو. (¬3) تقدم تخريجه.

بمنزلة الرسل، فالكهنةُ رسل الشيطان حقيقة، أرسلهم إلى حِزْبه من المشركين، وشبّههم بالرُّسل الصادقين، حتى استجاب لهم حزبُه، ومثّل رُسُل الله بهم ليُنفِّرَ عنهم، ويجعل رسُله هم الصادقين العالمين بالغيب. ولمّا كان بين النوعين أعظمُ التضاد قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "من أتى كاهنًا فصدَّقهُ بما يقول فقد كفر بما أُنزل على محمدٍ" (¬1). فإن الناس قسمان: أتباعُ الكهنة، وأتباع رسل الله، فلا يجتمع في العبد أن يكون من هؤلاء وهؤلاء، بل يَبْعُد عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بقدر قُرْبِه من الكاهن، ويُكَذِّبُ الرَّسُولَ بقدر تصديقه للكاهن. وقوله: "اجعل لي مصايد، قال: مصايدك النساء"، فالنساء أعظم شبكةٍ له، يصطاد بهنّ الرجال، كما سيأتي إن شاء الله في الفصل الذي بعد هذا. والمقصود أن الغناء المحرم قرآن الشيطان. ولما أراد عدو الله أن يجمع عليه نفوس المُبْطلين قرنه بما يُزَيِّنه من الألحان المُطربة، وآلات الملاهي والمعازف، وأن يكون من امرأةٍ جميلةٍ، أو صبي جميل؛ ليكون ذلك أدَعى إلى قبول النفوس لقرآنه، وتَعَوُّضها به عن القرآن المجيد. ¬

_ (¬1) رواه البزّار (9045 - كشف الأستار-) من حديث جابر رضي الله عنه، وحسنه المنذري في الترغيب (4/ 17)، وابن حجر في الفتح (10/ 217)، وقال الهيثمي في المجمع (5/ 202): "رجاله رجال الصحيح خلا عقبة بن سنان وهو ضعيف"، وتُعُقّب، وهو في السلسلة الصحيحة (3387). وفي الباب عن أبي هريرة وأنس وابن مسعود وابن عمر وعمران بن حصين وواثلة بن الأسقع ووالد أبي العشراء، وعن حبان بن أبي جبلة مرسلًا.

فصل: تسميته: بالصوت الأحمق والصوت الفاجر

فصل وأما تسميته بالصوت الأحمق، والصوت الفاجر: فهي تسميةُ الصادق المصدوق، الذي لا ينطق عن الهوى. فروى الترمذي (¬1) من حديث ابن أبي ليلى، عن عطاءٍ، عن جابر رضي الله عنه قال: خرج النبي - صلى الله عليه وسلم - مع عبد الرحمن بن عوف إلى النّخْل، فإذا ابنه إبراهيم يجودُ بنفسه، فوضعه في حِجره، ففاضت عيناه، فقال عبد الرحمن: أتبكي، وأنت تَنْهَى الناسَ؟ قال: "إني لم أنْهَ عن البكاء؛ وإنما نهيتُ عن صوتين أحمقين فاجرين: صوت عند نعمة لهوٍ ولعب ومزامير شيطان، وصوتٍ عند مصيبة: خَمْش وُجوه، وشَقّ جيوب، ورنّةٍ، وهذا هو رحمة، ¬

_ (¬1) سنن الترمذي (1005) بنحوه، وبهذا الإسناد رواه الطيالسي (1683) مختصرًا، وابن أبي شيبة (3/ 62)، وعبد بن حميد (1006)، والبيهقي في الكبرى (4/ 69)، ورواه ابن سعد في الطبقات (1/ 138) وابن أبي الدنيا في ذم الملاهي (64) - مختصرًا- والبزار (1001) والطحاوي في شرح المعاني (6468) والحاكم (6825) وغيرهم عن ابن أبي ليلى عن عطاء عن جابر عن عبد الرحمن بن عوف، وقيل: عن ابن أبي ليلى عن عطاء عن ابن عوف، وقيل: عنه عن عطاء عن ابن عمر، وروي عن مكحول مرسلًا وليس فيه النهي عن صوت النعمة، قال الدارقطني في العلل (12/ 448): "اضطرب فيه ابن أبي ليلى"، وقال محمد بن إسحاق السعدي كما في المجروحين لابن حبان (2/ 246): "لو لم يرو ابن أبى ليلى غير هذا الحديث لكان يستحقّ أن يُترك حديثُه"، وضعفه ابن طاهر في كتاب السماع (ص 85)، وحسنه البغوي في شرح السنة (1530)، وقال النوويّ في الخلاصة (2/ 1057): "حسّنه الترمذي، وهو من رِواية ابن أبي لَيلى وهو ضعيف، فلعلّه اعتضد"، وهو في السلسلة الصحيحة (2157). وفي الباب عن أنس رضي الله عنه.

ومن لا يرحم لا يُرحم، لولا أنه أمرٌ حق، ووعدٌ صِدق، وأن آخرنا سيلحق أوّلنا؛ لحزنَّا عليك حُزنًا هو أشدّ من هذا، وإنا بك لمحزونون، تبكي العينُ ويحزنُ القلبُ، ولا نقول ما يُسخط الرب". قال الترمذي: "هذا حديث حسن". فانظر إلى هذا النهي المؤكّد، بتسميته صوت الغناء صوتًا أحمق، ولم يقتصر على ذلك، حتى وصفه بالفجور، ولم يقتصر على ذلك، حتى سمَّاه من مزامير الشيطان، وقد أقرَّ النبي - صلى الله عليه وسلم - أبا بكر الصديق على تسمية الغناء مَزمور الشيطان في الحديث الصحيح كما سيأتي، فإن لم يستفد التحريم من هذا لم نستفده من نهْيٍ أبدا. وقد اختُلف في قوله: "لا تفعلْ"، وقوله: "نهيتُ عن كذا"؛ أيهما أبلغُ في التحريم؟ والصواب بلا ريب: أن صيغة "نهيتُ" أبلغ في التحريم؛ لأن "لا تفعلْ" يحتمل النهي وغيره، بخلاف الفعل الصريح. فكيف يستجيز العارف (¬1) إباحةَ ما نهى عنه رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وسمَّاه صوتًا أحمق فاجرًا، ومزمور الشيطان، وجعلَه والنياحة التي لعن فاعلها أخوين؟ وأخرج النهي عنهما مخرجًا واحدًا، ووصفهما بالحُمق والفجور وصفًا واحدًا؟ وقال الحسن (¬2): "صوتان ملعونان: مِزمارٌ عند نِعْمة، ورَنّة عند مصيبة". ¬

_ (¬1) م: "المعازف". (¬2) رواه ابن أبي الدنيا في ذم الملاهي (65) من طريق صالح المري عن الحسن به، ورواه عبد الرزاق (11/ 6) عن معمر عن رجل عن الحسن.

فصل: تسميته: صوت الشيطان

وقال أبو بكر الهُذَلي (¬1): قلت للحسن: أكان نساءُ المهاجرات يصنعنَ ما يصنعُ النساء اليوم؟ قال: لا، ولكن هاهنا خمش وجوه، وشقُّ جيوب، ونتفُ أشعار، ولطمُ خدود، ومزامير شيطان، صوتان قبيحان فاحشان: عند نعْمة إن حدثَتْ (¬2)، وعند مصيبة إن نزلت، ذكر الله المؤمنين فقال: {وَالَّذِينَ فِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ مَعْلُومٌ (24) لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ} [المعارج: 24، 25]، وجعلتم أنتم في أموالكم حقًا معلومًا للمغنية عند النعْمة، والنائحة عند المصيبة. فصل وأما تسميته صوت الشيطان: فقد قال تعالى للشيطان وحِزْبه: {اذْهَبْ فَمَنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ فَإِنَّ جَهَنَّمَ جَزَاؤُكُمْ جَزَاءً مَوْفُورًا (63) وَاسْتَفْزِزْ مَنِ اسْتَطَعْتَ مِنْهُمْ بِصَوْتِكَ وَأَجْلِبْ عَلَيْهِمْ بِخَيْلِكَ وَرَجِلِكَ وَشَارِكْهُمْ فِي الْأَمْوَالِ وَالْأَوْلَادِ وَعِدْهُمْ وَمَا يَعِدُهُمُ الشَّيْطَانُ إِلَّا غُرُورًا} [الإسراء: 63، 64]. قال ابن أبى حاتم في "تفسيره" (¬3): حدثنا أبي، أخبرنا أبو صالح، كاتب ¬

_ (¬1) رواه ابن أبي الدنيا في ذم الملاهي (66) من طريق صفوان بن هبيرة، وابن أبي أسامة (265 - بغية الباحث-) من طريق حجاج الأعور، كلاهما عن أبي بكر الهذلي به، قال البوصيري في إتحاف الخيرة (2/ 502): "سند ضعيف؛ لضعف أبي بكر الهذلي". (¬2) م، ت، ظ: "خدمت". ش: "حرمت". (¬3) ورواه الطبري في تفسيره (17/ 491) عن علي عن عبد الله عن معاوية به، وعزاه في الدر المنثور (5/ 312) لابن المنذر.

الليث، حدثنا معاوية بن صالح، عن علي بن أبى طلحة، عن ابن عباس رضي الله عنهما: {وَاسْتَفْزِزْ مَنِ اسْتَطَعْتَ مِنْهُمْ بِصَوْتِكَ} كل داعٍ إلى معصية. ومن المعلوم أن الغناء من أعظم الدواعي إلى المعصية، ولهذا فُسِّر صوت الشيطان به. قال ابن أبى حاتم (¬1): حدثنا أبي، أخبرنا يحيى بن المغيرة، أخبرنا جرير، عن ليث، عن مجاهد: {وَاسْتَفْزِزْ مَنِ اسْتَطَعْتَ مِنْهُمْ بِصَوْتِكَ}، قال: "استزِلَّ (¬2) منهم من استطعت" قال: "وصوتُه الغناء والباطل". وبهذا الإسناد إلى جرير، عن منصور، عن مجاهد، قال (¬3): "صوته المزامير". ثم روى بإسناده عن الحسن البصري، قال (¬4): "صوته: هو الدف". وهذه الإضافة إضافة تخصيص، كما أن إضافة الخيل والرَّجِل إليه كذلك، فكل متكلم بغير طاعة الله، وبصوت يَراع أو مزمار، أو دُفّ حرام، أو طبل؛ فذلك صوت الشيطان، وكل ساعٍ في معصية الله على قدميه فهو من رَجِله، وكل راكب في معصية الله فهو من خَيَّالته، كذلك قال السلف. ¬

_ (¬1) ورواه الطبري في تفسيره (17/ 490، 491) من طريق ابن إدريس عن ليث به، وعزاه في الدر المنثور (5/ 312) لسعيد بن منصور وابن المنذر. (¬2) الأصل: "استنزل". (¬3) ورواه أبو نعيم في الحلية (3/ 298) من طريق الثوري عن منصور به، ورواه ابن أبي الدنيا في ذم الملاهي (73) من طريق ابن أبى نجيح عن مجاهد به. (¬4) انظر: تفسير ابن أبي زمنين (3/ 30)، وتفسير السمعاني (3/ 258).

فصل: تسميته: مزمور الشيطان

كما ذكر ابن أبى حاتم عن ابن عباس (¬1)، قال: "رَجِلُه: كل رِجْلٍ مشت في معصية الله". وقال مجاهد (¬2): "كل رِجْلٍ تُقاتل في غير طاعة الله فهو من رَجِله". وقال قتادة (¬3): "إن له خيلًا ورَجِلًا من الجن والإنس". فصل وأما تسميته مزمورَ الشيطان: ففي "الصحيحين" (¬4) عن عائشة رضي الله عنها، قالت: دخل عليّ النبي - صلى الله عليه وسلم - وعندي جاريتان تُغنِّيان بغناء بُعَاث، فاضطجع على الفِراش، وحَوَّل وجهه، ودخل أبو بكر رضي الله عنه، فانتهرني، وقال: مزمار الشيطان عند النبي - صلى الله عليه وسلم -؟ فأقبلَ عليه رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فقال: "دعهما"، فلما غفل غمزتُهما، فخرجتا. فلم ينكر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على أبى بكر تَسميته الغناء مزمار الشيطان، وأقرَّهما؛ لأنهما جاريتان غيرُ مكلَّفتين، تُغنيان بغناء الأعراب، الذي قيل في يوم حرب بُعاثٍ من الشجاعة والحرب، وكان اليوم يوم عيد. ¬

_ (¬1) ورواه الطبري في تفسيره (17/ 492) من طريق معاوية عن علي بن أبي طلحة عن ابن عباس، وعزاه في الدر المنثور (5/ 312) للفريابي وابن المنذر وابن مردويه. (¬2) رواه الطبري في تفسيره (17/ 492) من طريق جرير عن منصور عن مجاهد. (¬3) رواه عبد الرزاق في تفسيره (2/ 381)، والطبري في تفسيره (17/ 491) عن معمر عن قتادة. (¬4) البخاري (949، 2906)، ومسلم (892/ 19).

فصل: تسميته بالسمود

فتوسّع حزب الشيطان في ذلك إلى صوت امرأةٍ جميلة أجنبية، أو صبيٍّ أمْرَد، صوتُه فتنة، وصورته فتنة، يُغنِّي بما يدعو إلى الزنى والفجور، وشرب الخمر، مع آلات اللهو التي حرمها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في عِدّة أحاديث كما سيأتي، مع التصفيق والرقص، وتلك الهيئةِ المنكرة التي لا يستحلها أحد من أهل الأديان (¬1)، فضلًا عن أهل العلم والإيمان، ويحتجون بغناء جُوَيْريتين غير مكلفتين بنشيد الأعراب، في الشجاعة ونحوها، في يوم عيدٍ، بغير شَبّابةٍ ولا دُفًّ، ولا رقص ولا تصفيق، ويدعون المحكم الصريح لهذا المتشابه، وهذا شأن كل مبطل. نعم؛ نحن لا نحرِّم ولا نكره مثل ما كان في بيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على ذلك الوجه، وإنما نحرِّم نحن وسائر أهل العلم والإيمان السماعَ المخالف لذلك، وبالله التوفيق. فصل وأما تسميته بالسُّمود: فقد قال تعالى: {أَفَمِنْ هَذَا الْحَدِيثِ تَعْجَبُونَ (59) وَتَضْحَكُونَ وَلَا تَبْكُونَ (60) وَأَنْتُمْ سَامِدُونَ} [النجم: 59 - 61]. قال عكرمة، عن ابن عباس (¬2): "السّمود: الغناء في لغة حِمْيَر"، يقال: ¬

_ (¬1) في بقية النسخ: "الأوثان". (¬2) أقوال المفسرين منقولة من البسيط للواحدي (21/ 84 - 86). وقول ابن عباس رواه عبد الرزاق في تفسيره (3/ 255) وأبو عبيد في فضائل القرآن (ص 342) وابن أبي الدنيا في ذم الملاهي (33) - ومن طريقه البيهقي في الكبرى (10/ 223) - =

اسمُدي لنا، أي: غنِّي لنا؛ قال أبو زبيد: وكَأَنَّ العَزِيفَ فِيهَا غِنَاءٌ ... لِلنَّدَامَى مِنْ شَارِبٍ مَسْمُودِ (¬1) قال أبو عبيدة (¬2): المسمود: الذي غُنِّي له. وقال عكرمة (¬3): كانوا إذا سمعوا القرآن تغنَّوا، فنزلت هذه الآية. وهذا لا يناقض ما قيل في هذه الآية من أن السّمود: الغفلة والسهو عن الشيء. قال المبرِّد: هو الاشتغال عن الشيء لهَمٍّ أو فرح، يتشاغل به، وأنشد: رَمَى الْحَدَثَانُ نِسْوَةَ آلِ حرْبٍ ... بمِقْدارٍ سَمَدْنَ لهُ سُمُودًا (¬4) ¬

_ = والحربي في غريب الحديث (2/ 521) والبزار (4724) والطبري في تفسيره (22/ 559، 560، 561) من طرق عن عكرمة به، وعزاه في الدر المنثور (7/ 667) للفريابي وعبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم، قال الهيثمي في المجمع (7/ 252): "رواه البزار ورجاله رجال الصحيح". (¬1) أمالي اليزيدي (ص 12) وفيه: "مشهود"، وجمهرة أشعار العرب (ص 264) وفيه: "غِرِّيد"، والأضداد للسجستاني (ص 144) كما هنا. وكذا في أضداد ابن الأنباري (ص 44). (¬2) لم أجده في كتابه "مجاز القرآن". وليس من كلامه كما يظهر بمراجعة البسيط (21/ 85). (¬3) روى ابن أبي شيبة (6/ 121) عن ابن عيينة عن ابن أبي نجيح عن عكرمة قال: "هو الغناء بالحميرية"، ورواه الفريابي -كما في فتح الباري (8/ 605) - والطبري في تفسيره (22/ 560) من طريق ابن أبي نجيح عن مجاهد عن عكرِمة، وعزاه في الدر المنثور (7/ 667) لسعيد بن منصور وعبد بن حميد. (¬4) البيت لعبد الله بن الزبير الأسدي في حماسة أبي تمام (1/ 464)، ولأيمن بن خريم الأسدي في مقطعات مراثٍ عن ابن الأعربي (ص 111)، والوصايا لأبي حاتم =

وقال ابن الأنباري (¬1): السامد: اللاهي، والسَّامد: الغافل، والسامد: الساهي، والسامد: المتكبِّر، والسامد: القائم. وقال ابن عباس (¬2) في الآية: "وأنتم مستكبرون". وقال الضحاك (¬3): "أَشِرونَ بَطِرُون". وقال مجاهد (¬4): "غِضَابٌ مُبَرْطِمُون". وقال غيره: لاهون غافلون معرضون". فالغناء يجمع هذا كلَّه ويوجبه. فهذه أربعة عشر اسمًا، سوى اسم الغناء. ¬

_ = (ص 156)، ولفضالة بن شريك في عيون الأخبار (3/ 76)، ومعجم الشعراء (ص 309)، وللكميت بن معروف في ذيل أمالي القالي (ص 115)، وانظر: ذيل اللآلي للميمني (ص 54). (¬1) ذكر هذه المعاني ثعلب عن ابن الأعرابي، انظر: تهذيب اللغة (12/ 378)، والبسيط (21/ 84)، ولعل المؤلف وهِم في ذكر ابن الأنباري. (¬2) روى أبو يعلي (2685) والطبري في تفسيره (22/ 559) والدولابي في الكنى (830) من طريق الضحاك عن ابن عباس قال: "كانوا يمرّون على النبي - صلى الله عليه وسلم - شامخين"، وهو بمعنى الاستكبار، وعزاه في الدر المنثور (7/ 667) للفريابي وابن أبى حاتم وابن مردويه، قال الهيثمي في المجمع (7/ 252): "الضحاك بن مزاحم وثِّق، وفيه ضعف، وبقية رجاله ثقات، لكنه لم يسمع من ابن عباس". (¬3) انظر: الكشف والبيان (9/ 158)، وتفسير البغوي (7/ 421)، وزاد المسير (8/ 86)، وروى الطبري (22/ 560) عنه أنه قال: "السّمود: اللهو واللعب". (¬4) رواه الحربي في غريب الحديث (2/ 521) والطبري في تفسيره (22/ 559، 560، 561) من طرق عن مجاهد، وعزاه في الدر المنثور (7/ 667) لعبد بن حميد وابن المنذر.

فصل: الأدلة على تحريم الغناء واللهو والمعازف

فصل في بيان تحريم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الصريح لآلات اللهو والمعازف، وسياق الأحاديث في ذلك: عن عبد الرحمن بن غَنْم، قال: حدثني أبو عامر أو أبو مالك الأشعري، سمع النبي - صلى الله عليه وسلم - يقول: "ليكوننّ من أمتي قوم يستحلّون الحِرَ والحَريرَ والخمر والمعازف". هذا حديث صحيح، أخرجه البخاري في "صحيحه" (¬1) مُحتجًّا به، وعلَّقه تعليقًا مجزومًا به، فقال: "باب ما جاء فيمن يستحل الخمر ويُسمِّيه بغير اسمه، وقال هشام بن عمّارٍ: حدثنا صدقة بن خالد، حدثنا عبد الرحمن بن يزيد بن جابر، حدثنا عطية بن قيس الكلابي، حدثني عبد الرحمن بن غنمٍ الأشعري، قال: حدثني أبو عامر أو أبو مالك الأشعري - والله ما كذبني-، سمع النبي - صلى الله عليه وسلم - يقول: "ليكوننّ من أمتي قوم يستحلّون الحِرَ والحَريرَ والخمر والمعازف، ولينزلنّ أقوم إلى جنب عَلَم، يَروح عليهم بسارحة لهم، يأتيهم لحاجة، فيقولوا: ارجع إلينا غدًا، فيبيِّتُهم الله، ويضعُ العَلَم، ويمسخ آخرين قردةً وخنازير إلى يوم القيامة". ولم يصنع من قَدَح في صحة هذا الحديث شيئًا، كابن حزم؛ نُصْرةً لمذهبه الباطل في إباحة الملاهي، وزعم أنه منقطع؛ لأن البخاري لم يصل سنده به (¬2). ¬

_ (¬1) برقم (5590). (¬2) انظر "المحلى" (9/ 59) و"نقد حديثين وردا في الصحيحين" (المنشور في مجلة عالم الكتب.

وجواب هذا الوهم من وجوه (¬1): أحدها: أن البخاري قد لقي هشام بن عمار، وسمع منه، فإذا قال: قال هشام، فهو بمنزلة قوله: عن هشام. الثاني: أنه لو لم يسْمَعْه منه فهو لم يستجز الجزم به عنه إلا وقد صحَّ عنه أنه حدَّث به، وهذا كثيرًا ما يكون: لكثرة مَنْ رواه عن ذلك الشيخ وشهرته؛ فالبخاري أبعدُ خلق الله من التدليس. الثالث: أنه أدخله في كتابه المسمى بـ "الصحيح" محتجًّا به، فلولا صِحَّتُهُ عنده لما فعل (¬2) ذلك. الرابع: أنه علَّقه بصيغة الجزم، دون صيغة التمريض؛ فإذا توقف في الحديث أو لم يكن على شرطه يقول: ويُروى عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ويُذكر عنه، نحو ذلك، فإذا قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -؛ فقد جزم وقطع بإضافته إليه. الخامس: أنا لو أضربنا عن هذا كله صفحًا؛ فالحديث صحيح متصل عند غيره: قال أبو داود في كتاب اللباس (¬3): حدثنا عبد الوهاب بن نَجْدَة، حدثنا بشر بن بكر (¬4)، عن عبد الرحمن بن يزيد بن جابر، حدثنا عطية بن قَيْس، ¬

_ (¬1) انظر نحوها في تهذيب السنن (4/ 1801 - 1803). (¬2) م: "نقل". (¬3) سنن أبي داود (4041)، ولفظه: "ليكوننّ من أمّتي أقوام يستحلّون الخزّ والحرير"، قال: وذكر كلامًا قال: "يمسخ منهم آخرون قردة وخنازير إلى يوم القيامة". (¬4) الأصل: "بكير". وهو تصحيف.

قال: سمعت عبد الرحمن بن غَنْم الأشعري، قال: حدثنا أبو عامر أو أبو مالك، فذكره مختصرًا. ورواه أبو بكر الإسماعيلي (¬1) في كتابه "الصحيح" مسندًا، فقال: أبو عامر، ولم يشكّ. ووجه الدلالة منه: أن المعازف هي آلات اللهو كلُّها، لا خلاف بين أهل اللغة في ذلك، ولو كانت حلالًا لما ذَمّهم على استحلالها، ولما قَرَن استحلالها باستحلال الخمر والحِرِ، فإن كان بالحاء والراء المهملتين فهو استحلال الفروج الحرام، وإن كان بالخاء والزاي المعجمتين فهو نوع من الحرير غير الذي صحَّ عن الصحابة لبسه، إذ الخَزّ نوعان (¬2)؛ أحدهما: من حرير، والثاني: من صوف؛ وقد رُوي هذا الحديث بالوجهين. وقال ابن ماجه في "سننه" (¬3): حدثنا عبد الله بن سعيد حدثنا معن بن ¬

_ (¬1) رواه البيهقي في الكبرى (3/ 272، 10/ 221) من طريق الإسماعيلي أخبرني الحسن بن سفيان ثنا هشام بن عمار به، ورواه أيضًا من طريقه عن الحسن ثنا عبد الرحمن بن إبراهيم ثنا بشر بن بكر به، وهو عنده من كلا الطريقين بالشكّ. (¬2) يراجع في هذا: مسائل الكوسج (9/ 4297). (¬3) سنن ابن ماجه (4020)، ورواه أيضًا ابن أبي شيبة (5/ 68)، وأحمد (5/ 342)، والبخاري في التاريخ الكبير (1/ 305، 7/ 222)، وأبو داود (3690)، والطبراني في الكبير (3/ 283)، والبيهقي في الكبرى (8/ 295، 10/ 221)، وغيرهم من طرق عن معاوية بن صالح به، وليس عند أحمد وأبي داود ذكر العزف والخسف والمسخ، وصحّحه ابن حبان (6758)، وحسن إسناده ابن تيمية كما في الفتاوى الكبرى (6/ 37)، وأعلّه ابن القطان في بيان الوهم والإيهام (3/ 245) بجهالة مالك ابن أبي مريم وبالرّاوي عنه، لكن له شواهد كثيرة؛ ولذا صحّحه الألباني في السلسلة =

ذكر ما في هذا المعنى من أحاديث

عيسى عن معاوية بن صالح، عن حاتم بن حُرَيْثٍ، عن ابن أبى مريم، عن عبد الرحمن بن غَنْم الأشعري، عن أبى مالكٍ الأشعري، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "ليشربَنّ ناسٌ من أمتي الخمر، يُسمُّونها بغير اسمها، يُعزَفُ على رؤوسهم بالمعازف والمغنيات، يخسف الله بهم الأرض، ويجعل منهم القردةَ والخنازير". وهذا إسناد صحيح. وقد توعَّد مستحلَّ المعازف فيه بأن يخسف الله به الأرض، ويمسخهم قردةً وخنازير، وإن كان الوعيد على جميع هذه الأفعال فلِكلِّ واحد قِسطٌ من الذم والوعيد. وفي الباب: عن سَهل بن سعدٍ السَّاعدي، وعِمران بن حُصين، وعبد الله بن عمرو، وعبد الله بن عباسٍ، وأبى هريرة، وأبي أُمامة الباهلي، وعائشة أم المؤمنين، وعلي بن أبى طالب، وأنس بن مالك، وعبد الرحمن بن سابط، والغاز بن ربيعة. ونحن نسوقها لتقرَّ بها عيونُ أهل القرآن، وتَشجَى بها حُلوقُ أهل سماع الشيطان: فأما حديث سهل بن سعد: فقال ابن أبى الدنيا (¬1): أخبرنا الهيثم بن ¬

_ = الصحيحة (1/ 138)، ففي الباب عن عبادة بن الصامت وأبي أمامة وابن عباس وكيسان أو نافع بن كيسان وعائشة، وسيأتي تخريج بعضها. (¬1) ذم الملاهي (1)، ورواه أيضًا عبد بن حميد (452)، وابن ماجه مختصرًا (4060)، والروياني (1043)، والطبراني في الكبير (6/ 150)، والخطيب في تاريخه (10/ 272)، كلّهم من طريق عبد الرحمن بن زيد به، وعبد الرحمن ضعيف.

حديث عمران بن حصين رضي الله عنه

خارجة، حدثنا عبد الرحمن بن زيد بن أسلم، عن أبى حازم، عن سهل بن سعد الساعدي، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "يكون في أمتي خسفٌ وقذفٌ ومسخ"، قيل: يا رسول الله! متى؟ قال: "إذا ظهرت المعازف والقينات، واستُحلّت الخمر". وأما حديث عمران بن حصين: فرواه الترمذي (¬1) من حديث الأعمش، عن هلال بن يساف، عن عمران بن حصين، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "يكون في أمتي قذف وخسفٌ ومسخ"، فقال رجل من المسلمين: متى ذاك يا رسول الله؟ قال: "إذا ظهرت القيان والمعازف، وشُربت الخمور"، قال الترمذي: "هذا حديث غريب". وأما حديث عبد الله بن عمرو: فروى أحمد في "مسنده"، وأبو داود (¬2) عنه أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "إن الله حَرّم الخمر، والميسر، والكُوبة، والغُبَيْراء، ¬

_ (¬1) سنن الترمذي (2212) من طريق عبد الله بن عبد القدوس عن الأعمش به، وبهذا الإسناد رواه ابن أبي الدنيا في ذمّ الملاهي (2)، والروياني (142)، والداني في السنن الواردة في الفتن (340)، وابن عبد القدوس متكلَّم فيه، وقال البخاري كما في العلل الكبير (602): "يروى هذا عن الأعمش من حديث عبد الرحمن بن سابط عن النبى - صلى الله عليه وسلم - مرسلًا". (¬2) مسند أحمد (2/ 158، 171) من طريق ابن لهيعة وعبد الحميد بن جعفر -فرّقهما- عن يزيد بن أبي حبيب عن عمرو بن الوليد عن عبد الله بن عمرو به. سنن أبي داود (3687) من طريق ابن إسحاق عن يزيد بن أبي حبيب عن الوليد بن عبدة عن ابن عمرو به. ورواه الفسوي في المعرفة (2/ 301)، والبيهقي في الكبرى (10/ 221) من طريق عبد الحميد به، والبيهقي (10/ 222) من طريق ابن لهيعة به. ورواه الفسوي (2/ 297)، والبزار (2454)، والطحاوي في شرح المعاني (5973) وغيرهم من طريق ابن إسحاق به. وأعلّ الطريقين ابن الملقن في البدر المنير (9/ 649).

حديث ابن عباس رضي الله عنه

وكلُّ مسكر حرام". وفي لفظ آخر لأحمد (¬1): "إن الله حرَّم على أمتي الخمر، والميسر، والمِزْر، والكُوبة، والقِنين". وأما حديث ابن عباس: ففي "المسند" (¬2) أيضًا عنه أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "إن الله حرّم الخمر والميسر والكوبة، وكل مسكر حرام". والكوبة: الطبل، قاله سفيان (¬3). ¬

_ (¬1) المسند (2/ 165، 167) من طريق فرج بن فضالة عن إبراهيم بن عبد الرحمن بن رافع عن أبيه عن عبد الله بن عمرو به. ورواه أيضًا (2/ 172) من طريق ابن لهيعة عن عبد الله بن هبيرة عن أبي هبيرة عن ابن عمرو بلفظ: "إن ربي حرّم عليّ الخمر .. " وذكره. وهو في السلسلة الصحيحة (1708). (¬2) المسند (1/ 274، 289، 350) من طريق عبد الكريم الجزري وعلي بن بَذيمة -فرقهما- عن قيس بن حبتر عن ابن عباس به، ورواه أبو داود (3698)، وأبو يعلى (2729)، والطحاوي في شرح المعاني (5967)، والطبراني في الكبير (12/ 101، 102)، والبيهقي في الكبرى (8/ 303، 10/ 213، 221)، وصححه ابن حبان (5365)، وابن الملقن في البدر المنير (9/ 649)، قال الذهبي في المهذب (8/ 4234): "إسناده مقارب"، وحسنه ابن باز كما في مجموع فتاويه (3/ 530)، وهو في السلسلة الصحيحة (1806، 2425). ورواه الطبراني في الأوسط (7388) من طريق شيبة بن مساور عن ابن عباس أن النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - حرم ستة: الخمر والميسر والمعازف والمزامير والدف والكوبة. وهذا منقطع، وقال الهيثمي في المجمع (5/ 76): "فيه حفص بن عمر الإمام وهو ضعيف جدًّا". وروِي من طريق أبي هاشم عن ابن عباس موقوفًا عليه بنحوه. وفي الباب عن قيس بن سعد بن عبادة. (¬3) جاء في المسند وسنن أبي داود وغيرهما: قال سفيان: قلت لعلي بن بَذِيمة: ما الكوبة؟ قال: الطبل.

حديث أبي هريرة رضي الله عنه

وقيل: البربط. والقِنِّين: هو الطنبور بالحبشية. والتقنين: الضرب به، قاله ابن الأعرابي. وأما حديث أبي هريرة رضي الله عنه: فرواه الترمذي (¬1) عنه، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "إذا اتخذ الفيء دُوَلًا، والأمانة مغنمًا، والزكاةُ مَغرمًا، وتُعلِّم لغير الدين، وأطاع الرجل امرأته، وعقَّ أمّه، وأدنى صديقه، وأقصى أباه، وظهرت الأصوات في المساجد، وساد القبيلةَ فاسقُهم، وكان زعيم القوم أرذلهم، وأُكرِمَ الرجلُ مخافةَ شرِّه، وظهرت القينات والمعازف، وشُربت الخمر، ولعن آخر هذه الأمة أوّلها؛ فليرتقبوا عند ذلك ريحًا حمراء، وزلزلة، وخسفًا، ومسخًا، وقذفًا، وآياتٍ تتابع كنظامٍ بالٍ قُطع سِلْكُه فتتابع". قال الترمذي: "هذا حديث حسن غريب". وقال ابن أبى الدنيا (¬2): حدثنا عبد الله بن عمر الجُشميُّ، ثنا سليمان بن سالم أبو داود، ثنا حسان بن أبي سنان، عن رجل، عن أبي هريرة رضي الله عنه، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "يُمسخ قومٌ من هذه الأمة في آخر الزمان قردةً وخنازير"، قالوا: يا رسول الله! أليس يشهدون أن لا إله إلا الله، وأن محمدًا ¬

_ (¬1) سنن الترمذي (2211)، ومن طريقه ابن الجوزي في تلبيس إبليس (ص 208)، وفي إسناده رميح الجذامي مجهول، قال ابن باز كما في فتاويه (26/ 245): "هذا حديث ضعيف جدًّا"، وهو في السلسلة الضعيفة (1727). (¬2) ذم الملاهي (8)، قال ابن حزم في المحلى (9/ 58): "هذا عن رجل لم يسمَّ ولم يُدر من هو". ورواه أبو نعيم في الحلية (3/ 119 - 120) من طريق يونس بن محمد عن سليمان بن سالم عن حسان بن أبي سنان عن أبي هريرة، وقال: "كذا رواه حسان عن أبي هريرة مرسلًا، ورواه غيره عن الحسن عن أبي هريرة متّصلًا".

حديث أبي أمامة الباهلي رضي الله عنه

رسول الله؟ قال: "بلى، ويصومون، ويصلُّون، ويحجون"، قيل: فما بالهُم؟ قال: "اتخذوا المعازف والدفوف والقينات، فباتوا على شُربهم ولهُوهم، فأصبحوا وقد مُسخوا قِردةً وخنازير". وأما حديث أبي أمامة الباهلي: فهوفي "مسند أحمد"، و"الترمذي" (¬1) عنه، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "يَبيتُ طائفةٌ من أمتي على أكل وشرب، ولهو ولعب، ثم يُصبحون قِردةً وخنازير، ويُبعث على أحياءٍ من أحيائهم ريحٌ، فتنسفهم كما نُسفَ من كان قبلكم، باستحلالهم الخمر، وضربهم بالدفوف، واتخاذهم القينات". في إسناده فرقد السبخي، وهو من كبار الصالحين، ولكنه ليس بقويٍّ في الحديث، وقال الترمذي: "تكلم فيه يحيى بن سعيد، وقد روى عنه الناس". ¬

_ (¬1) لم أقف عليه عند الترمذي، ورواه أحمد (5/ 259) من طريق فرقد السبخي عن عاصم بن عمرو عن أبي أمامة، وبهذا الإسناد رواه الطيالسي (1137)، وعبد الله في زوائد المسند (5/ 329)، والطبراني في الكبير (8/ 256) مختصرًا، وأبو نعيم في الحلية (6/ 295 - 296)، والبيهقي في الشعب (5/ 16)، وغيرهم بألفاظ متقاربة، وصحّحه الحاكم (8572)، لكن مداره على فرقد وتكلّموا في حفظه، وقد اضطرب في إسناده، وقيل: عنه عن قتادة عن ابن المسيّب مرسلًا، وعنه عن قتادة عن ابن المسيّب عن ابن عباس، وعنه عن سعيد بن المسيب أو حدِّث عن سعيد عن ابن عباس، وعنه عن إبراهيم النخعي عن النبي - صلى الله عليه وسلم -، وعنه عن أبي منيب الشامي عن أبي عطاء عن عبادة بن الصامت، وعنه عن شهر بن حوشب عن عبد الرحمن بن غنم، وعنه عن أبي أمامة موقوفًا عليه، ومرّة جعل ذلك مما قرأه في التوراة، وقد حسّن الألباني هذا الحديث في السلسلة الصحيحة (1604).

وقال ابن أبي الدنيا (¬1): حدثنا عبد الله بن عمر الجُشَمي، حدثنا جعفر بن سليمان، حدثنا فرقد السَّبخي، حدثنا قتادة، عن سعيد بن المسيب، عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: وحدثني عاصم بن عمرو البجليُّ، عن أبي أمامة، عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "يبيت قوم من هذه الأمة على طُعْم وشُرب ولهو، فيصبحون وقد مُسِخُوا قِردةً وخنازِيرَ، وليُصيبنَّهم خسفٌ وقذف، حتى يصبح الناس فيقولون: خُسِفَ الليلةَ بدار فلان، خُسِفَ الليلةَ ببني فلان، ولتُرسَلَنّ عليهم حجارة من السماء، كلما أُرسلت على قوم لوط، على قبائل فيها، وعلى دُورٍ فيها، ولتُرسَلَنّ عليهم الريح العقيم التي أهلكت عادًا؛ بشربهم الخمر، وأكلهم الربا، واتخاذهم القينات، وقطيعتهم الرحم". وفي "مسند أحمد" (¬2) من حديث عبيد الله بن زَحْر، عن علي بن يزيد، عن القاسم، عن أبي أمامة، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "إن الله بعثني رحمةً وهُدًى للعالمين، وأمرني أن أمحق المزامير والكِنَّارات -يعني البرابط- ¬

_ (¬1) ذم الملاهي (3)، وقد أشار المنذري إلى ضعفه في الترغيب (2866، 3554). (¬2) المسند (5/ 257، 268) لكن من طريق فرج بن فضالة عن علي بن يزيد أبي عبد الملك به في حديث طويل، وبهذا الإسناد رواه الطيالسي (1134)، والعقيلي في الضعفاء (3/ 255)، والطبراني في الكبير (8/ 196)، وغيرهم. ورواه الروياني (1230) والطبراني (8/ 197، 211) والآجري في تحريم النرد (59، 60) وغيرهم من طريق عبيد الله بن زحر عن علي به. وضعفه ابن الجوزي في العلل المتناهية (1308)، والعراقي في المغني (2178)، قال الهيثمي في المجمع (5/ 107): "فيه علي بن يزيد وهو ضعيف". ورواه ابن أبي الدنيا في ذم الملاهي (71) من طريق حشرج بن نباتة عن أبي عبد الملك عن عبد الله بن أنيس عن جده عن أبي أمامة به. وفي الباب عن أنس وابن عباس وعلي وعائشة.

حديث عائشة رضي الله عنها

والمعازف، والأوثان التي كانت تُعبد في الجاهلية". قال البخاري: عبيد الله بن زحر: ثقة، وعلي بن يزيد: ضعيف، والقاسم بن عبد الرحمن أبو عبد الرحمن: ثقة. وفي "الترمذي" و"مسند أحمد" (¬1) بهذا الإسناد بعينه، أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "لا تبيعوا القَيناتِ، ولا تشتروهنّ، ولا تُعلّموهن، ولا خيرَ في تجارة فيهن، وثمنهن حرام، وفي مثل هذا نزلت هذه الآية: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ ...} [لقمان: 6] ". وأما حديث عائشة رضي الله عنها: فقال ابن أبي الدنيا (¬2): حدثنا الحسن بن محبوب، حدثنا أبو النَّضر هاشم بن القاسم، حدثنا أبو مَعْشَر، عن محمد بن المنْكدر، عن عائشة رضي الله عنها قالت: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "يكون في أمَّتي خسفٌ ومسخ وقذفٌ"، قالت عائشة: يا رسول الله! وهم يقولون: لا إله إلا الله؟ فقال: "إذا ظهرت القِيَانُ، وظهر الزِّنى، وشُربت الخمر، ولُبس الحرير، كان ذا عند ذا". وقال ابن أبي الدنيا (¬3) أيضا: حدثنا محمد بن ناصح، حدثنا بقية بن ¬

_ (¬1) تقدَّم تخريجه. (¬2) ذم الملاهي (4)، وفي إسناده أبو معشر نجيح بن عبد الرحمن السندي ضعيف. (¬3) العقوبات لابن أبي الدنيا (17)، ورواه نعيم بن حماد في الفتن (1729) عن بقية عن يزيد الجهني عن أبي العالية عن أنس، وصحّحه الحاكم (8575)، وتعقّبه الذهبي بقوله: "بل أحسبه موضوعًا على أنس، ونعيم منكر الحديث إلى الغاية مع أن البخاري روى عنه"، وبقية يدلّس ويسوّي وقد عنعن، وقد وهّاه الألباني في السلسلة الضعيفة تحت حديث (6043).

حديث علي رضي الله عنه

الوليد، عن يزيد بن عبد الله الجُهَني، حدثني أبو العلاء، عن أنس بن مالك: أنه دخل على عائشة رضي الله عنها ورجل معه، فقال لها الرجل: يا أم المؤمنين! حدِّثينا عن الزلزلة، فقالت: إذا استباحوا الزنى، وشربوا الخمر، وضربوا بالمعازف، غار الله في سمائه، فقال: تَزلْزلي بهم، فإن تابوا ونزعوا وإلا هدمتُها عليهم. قال: قلت: يا أم المؤمنين! أعذاب لهم؟ قالت: بل موعظةٌ ورحمةٌ وبركةٌ للمؤمنين، ونكالٌ وعذاب وسخط على الكافرين، قال أنس: ما سمعت حديثًا بعد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أنا أشدُّ به فرحًا مني بهذا الحديث. وأما حديث علي: فقال ابن أبي الدنيا (¬1) أيضًا: حدثنا الربيع بن تغلب، حدثنا فرج بن فضالة، عن يحيى بن سعيد، عن محمد بن علي، عن علي رضي الله عنه، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "إذا عملتْ أمتي خمسَ عشرةَ خصلةً حلَّ بها البلاء" قيل: يا رسول الله! وما هُنّ؟ قال: "إذا كان المغنم دُوَلًا، والأمانة مغنمًا، والزكاة مغرمًا، وأطاع الرجل زوجته وعَقَّ أمه، وبَرَّ صديقه ¬

_ (¬1) ذم الملاهي (5)، ورواه أيضًا الترمذي (2210)، وابن حبان في المجروحين (2/ 207)، والطبراني في الأوسط (469)، والداني في الفتن (320)، والخطيب في تاريخه (3/ 158)، وغيرهم من طريق ابن فضالة به، إلا أنه في السنن: "عن محمد بن عمرو بن علي"، وعند بعضهم: "عن محمد بن الحنفية"، قال الترمذي: "هذا حديث غريب، لا نعرفه من حديث علي إلا من هذا الوجه، ولا نعلم أحدًا رواه عن يحيى الأنصاري غير الفرج بن فضالة، والفرج قد تكلّم فيه بعض أهل الحديث وضعّفه من قبل حفظه"، وبه أعلّه الدارقطني كما في تاريخ بغداد (12/ 396) وقال: "هذا باطل"، وضعّفه ابن حزم في المحلى (9/ 56)، وابن الجوزي في العلل (2/ 850)، والعلائي في جامع التحصيل (ص 267)، والمنذري والذهبي والعراقي كما في الفيض (1/ 526)، وغيرهم، وهو في السلسلة الضعيفة (1170).

حذيث أنس بن مالك رضي الله عنه

وجَفا أباه، وارتفعت الأصوات في المساجد، وكان زعيم القوم أرذلهم، وأُكْرِم الرجل مخافةَ شرِّه، وشُربت الخمور، ولُبس الحرير، واتخذت القيان، ولعن آخر هذه الآمة أوَّلها، فليترقَّبوا عند ذلك ريحًا حمراء وخسفًا ومسخًا". حدثنا (¬1) عبد الجبار بن عاصم أبو طالب، ثنا إسماعيل بن عياش، عن عبد الرحمن التميمي، عن عبّاد بن أبي علي، عن عليٍّ رضي الله عنه، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: "تُمسَخ طائفة من أمتي قردةً، وطائفة خنازير، ويُخسَف بطائفة، ويُرسَل على طائفةٍ الريحُ العقيم؛ بأنهم شربوا الخمر، ولبسوا الحرير، واتخذوا القيان، وضربوا بالدفوف". وأما حديث أنس رضي الله عنه، فقال ابن أبي الدنيا (¬2): حدثنا أبو عمرو هارون بن عمر القرشي، حدثنا الخصيب بن كثير، عن أبي بكر الهُذليُّ، عن قتادة، عن أنس رضي الله عنه قال: قال رسول - صلى الله عليه وسلم -: "ليكوننَّ في هذه الأمة خسفٌ وقذفٌ ومسخ، ذلك إذا شربوا الخمور، واتخذوا القينات، وضربوا بالمعازف". ¬

_ (¬1) ذم الملاهي (6)، وفيه إسماعيل بن عياش مختلف في توثيقه، وأشار بعضهم إلى أنه كان يدلس، وقد عنعن، ويبقى النظر في شيخه وشيخ شيخه. (¬2) ذم الملاهي (7)، وفي إسناده أبو بكر الهذلي متروك واتهمه بعضهم. ورواه البزار (6397) وأبو يعلى (3945) والداني في السنن الواردة في الفتن (338) من طريق مبارك بن سحيم عن عبد العزيز بن صهيب عن أنس بالشطر الأول دون التعليل، ومبارك متروك، قال البزار: "حدّث عن عبد العزيز بحديث كثير، فيها أحاديث مناكير لم يتابع عليها". وانظر: السلسلة الصحيحة (2203).

حديث عبد الرحمن بن سابط رحمه الله

قال (¬1): وأخبرنا أبو إسحاق الأزدي، حدثنا إسماعيل بن أبي أويس، حدثني عبد الرحمن بن زيد بن أسلم، عن أحدِ وَلَدِ أنس بن مالك، وعن غيره، عن أنس بن مالك، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "ليبيتنَّ رجالٌ على أكلٍ وشرب وعَزف، فيصبحون على أرائكهم ممسوخين قردةً وخنازير". وأما حديث عبد الرحمن بن سابط، فقال ابن أبي الدنيا (¬2): أنا إسحاق بن إسماعيل، حدثنا جرير، عن أبان بن تَغلِب، عن عمرو بن مُرَّة، عن عبد الرحمن بن سابط، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "يكون في أمتي خَسف وقذف ومسخ"، قالوا: فمتى ذاك يا رسول الله؟ قال: "إذا أظهروا المعازف، واستحلُّوا الخمور". وأما حديث الغاز بن ربيعة، فقال ابن أبي الدنيا (¬3): حدثنا ¬

_ (¬1) ذم الملاهي (15)، وفيه عبد الرحمن بن زيد ضعيف، ومن روى عنهم مبهمون. (¬2) ذم الملاهي (9)، ورواه ابن أبي شيبة (7/ 501) من طريق عبد الله بن عمرو بن مرة، والداني في السنن الواردة في الفتن (347) من طريق الأعمش، كلاهما عن عمرو بن مرة به، قال الألباني في تحريم آلات الطرب (ص 64): "وهذا إسناد مرسل صحيح". ورواه نعيم في الفتن (1716) والداني (339) من طريق ليث بن أبي سليم عن ابن سابط بنحوه. (¬3) ذم الملاهي (10)، ومن طريقه ابن عساكر في تاريخ دمشق (43/ 312)، وهذا مرسل. ورواه الدولابي في الكنى (307) والطبراني في الكبير (3/ 279) وابن عساكر (48/ 51، 67/ 190) من طرق عن علي بن بحر عن قتادة بن الفضيل عن هشام بن الغاز عن أبيه عن جده عن أبي مالك بنحوه مرفوعًا. ورواه ابن عساكر (48/ 50) من طريق ابن خيثمة عن علي بن بحر عن قتادة عن هشام بن الغاز عن أبيه عن جده به، فجعله من مسند ربيعة.

حديث صالح بن خالد رحمه الله

عبد الجبار بن عاصم، حدثنا إسماعيل بن عياش، عن عبيد الله بن عبيد، عن أبي العباس الهمداني، عن عمارة (¬1) بن راشد، عن الغاز بن ربيعة رفع الحديث، قال: "ليُمسخنّ قوم وهم على أريكتهم قردةً وخنازيرَ؛ بشربهم الخمر، وضربهم بالبرابط والقيان". قال ابن أبي الدنيا (¬2): وحدثنا عبد الجبار بن عاصم، قال: حدثني المغيرة بن المغيرة، عن صالح بن خالد رفع ذلك إلى النبي - صلى الله عليه وسلم -، أنه قال: "ليستحلَّنّ ناسٌ من أمتي الحرير والخمر والمعازف، وليأتينَّ الله على أهل حاضرٍ منهم عظيمٍ بجبلٍ حتى يَنْبِذَه عليهم، ويُمسَخ آخرون قِردةً وخنازير". قال ابن أبي الدنيا (¬3): أنا هارون بن عبيد الله، حدثنا يزيد بن هارون، حدثنا أشرس أبو شيبان الهذلي، قال: قلت لفَرْقَدٍ السَّبخي: أخبرني يا أبا يعقوب من تلك الغرائب التي قرأت في التوراة، فقال: يا أبا شيبان، والله ما أكذب على ربي، مرتين أو ثلاثًا؛ لقد قرأت في التوراة: "ليكونن مسخ وقذف وخسف في أمة محمدٍ - صلى الله عليه وسلم - في أهل القبلة"، قال: قلت: يا أبا يعقوب ما أعمالهم؟ قال: باتخاذهم القينات، وضربهم بالدفوف، ولباسهم الحرير ¬

_ (¬1) ح: "عمار". (¬2) ذم الملاهي (12)، والمغيرة بن المغيرة هو أبو هارون الربعي الرملي، ذكَره الأزدي فيمن وافق اسمه اسمَ أبيه (79)، وله ترجمة في تاريخ دمشق (60/ 85)، روى فيه عن أبي حاتم أنه قال: "لا بأس به"، وهو في الجرح والتعديل (8/ 230) لكن سماه المغيرة بن أبي المغيرة، يروي عمّن دون الصحابة، وعليه فهذا الحديث مرسل أو معضل، على أنّ صالح بن خالد لا يُدرى من هو، وقد سمّى ابن عساكر في شيوخ المغيرةِ صالحَ بن مخلد، والله أعلم. (¬3) ذم الملاهي (17).

تظاهر الأخبار بوقوع المسخ في هذه الأمة، وذكر بعض الآثار في ذلك

والذهب، ولئن بقيتَ حتى ترى أعمالًا ثلاثة، فاستيقنْ واستعدَّ واحذرْ، قال: قلت: ما هي؟ قال: إذا تكافأ الرجال بالرجال، والنساء بالنساء، ورغبت العرب في آنية العجم؛ فعند ذلك. قلت له: العرب خاصة؟ قال: لا؛ بل أهل القبلة، ثم قال: والله ليُقذفنَّ رجال من السَّماء بحجارةٍ، يُشدَخون بها في طُرقهم وقبائلهم، كما فُعل بقوم لوطٍ، وليُمسخنَّ آخرون قردةً وخنازير، كما فُعل ببني إسرائيل، وليُخسفن بقوم كما خُسف بقارون. وقد تظاهرت الأخبار بوقوع المسخ في هذه الأمة، وهو مقيَّد في أكثر الأحاديث بأصحاب الغناء، وشُرَّاب الخمر، وفي بعضها مطلق (¬1). قال سالم بن أبي الجعد (¬2): ليأتينَّ على الناس زمان، يجتمعون فيه على باب رجل، ينتظرون أن يخرج إليهم، فيطلبوا إليه حاجة، فيخرج إليهم؛ وقد مُسِخ قِردًا أو خنزيرًا، وليَمُرَّنَّ الرجل على الرجل في حانوته يبيع، فيرجع إليه، وقد مُسخ قردًا أو خنزيرًا. وقال أبو الزاهرية (¬3) رضي الله عنه: لا تقوم الساعة حتى يمشي الرجلان إلى الأمر يعملانه، فيُمسخ أحدهما قردًا أو خنزيرًا، فلا يمنع الذي نجا منهما ¬

_ (¬1) من ذلك ممّا لم يذكره المصنف عن أبي سعيد الخدري وابن عباس وحذيفة وابن عمر وسعيد الأنصاري، وعن قبيصة بن ذؤيب مرسلًا. (¬2) رواه ابن أبي الدنيا في ذم الملاهي (18) من طريق جرير عن ليث عن رجل من أشجع عن سالم به. (¬3) في الأصل: "أبو هريرة" تحريف. ورواه ابن أبي الدنيا في ذم الملاهي (19) من طريق المغيرة بن المغيرة عن صالح بن خالد عن أبي الزاهرية به، وصالح بن خالد لا يُدرى من هو.

إذا انصبغت النفس بالأخلاق الفاسدة ظهر ذلك على الصورة الجسمية

ما رأى بصاحبه أن يمضي إلى شأنه ذلك حتى يقضي شهوته، وحتى يمشي الرجلان إلى الأمر يعملانه، فيُخسف بأحدهما، فلا يمنع الذي نجا منهما ما رأى بصاحبه أن يمشي لشأنه ذلك، حتى يقضي شهوته منه. وقال عبد الرحمن بن غَنْم (¬1): سيكون حَيَّان متجاورين، فيَشُقُّ بينهما نهر، فيستقيان منه، قَبَسُهم واحد، يَقْبِسُ بعضهم من بعضه، فيُصبحان يومًا من الأيام قد خُسف بأحدهما والآخر حَيٌّ. وقال عبد الرحمن بن غَنْم (¬2) أيضًا: يوشك أن يقعد اثنان على رَحًى يطحنان، فيُمسَخ أحدهما والآخر ينظر. وقال مالك بن دينار (¬3): بلغني أن ريحًا تكون في آخر الزمان وظُلَم، فيفزع الناس إلى علمائهم، فيجدونهم قد مُسِخُوا. قال بعض أهل العلم: إذا اتَّصف القلب بالمكر والخديعة والفسق، وانصبغ بذلك صبغةً تامةً، صار صاحبه على خُلُق الحيوان الموصوف بذلك من القردة والخنازير وغيرهما، ثم لا يزال يتزايد ذلك الوصف فيه، حتى ¬

_ (¬1) رواه ابن أبي الدنيا في ذم الملاهي (21) عن علي بن الجعد عن عبد الحميد بن بهرام عن شهر بن حوشب عن عبد الرحمن به. (¬2) رواه ابن أبي الدنيا في ذمّ الملاهي (20) عن ابن الجعد عن عبد الحميد عن شهر عن عبد الرحمن به. (¬3) رواه ابن أبي الدنيا في ذمّ الملاهي (22) من طريق المؤمّل بن إهاب، وأبو نعيم في الحلية (2/ 382) من طريق أحمد بن حنبل، كلاهما عن سيار بن حاتم عن جعفر بن سليمان عن مالك به، ومن طريق ابن أبي الدنيا رواه الخطيب في تاريخ بغداد (13/ 181)، ومن طريق الخطيب رواه ابن عساكر في تاريخ دمشق (61/ 255).

يبدو على صفحات وجهه بُدُوًّا خفيًّا، ثم يقوَى ويتزايد، حتى يصير ظاهرًا على الوجه، ثم يقوى حتى يَقلِبَ الصورة الظاهرة كما قلب الهيئة الباطنة، ومَنْ له فراسة تامة يرى على صور الناس مسخًا من صور الحيوانات التي تخلَّقوا بأخلاقها في الباطن، فقلّ أن ترى مُختالًا مكارًا مخادعًا خَتَّارًا إلا وعلى وجهه مِسْخة قرد، وقلَّ أن ترى رافضيًّا إلا وعلى وجهه مِسخة خنزير، وقلَّ أن ترى شَرِهًا نهِمًا نفسه نفسٌ كَلْبِيَّةٌ إلا وعلى وجهه مِسخة كلب. فالظاهر مرتبط بالباطن أتمَّ ارتباطٍ، فإذا استحكمت الصفات المذمومة في النفس قويت على قلب الصورة الظاهرة. ولهذا خوّف النبي - صلى الله عليه وسلم - مَن سابقَ الإمام في الصلاة بأن يجعل الله صورته صورة حمار (¬1)؛ لمشابهته للحمار في الباطن؛ فإنه لم يستفد بمسابقة الإمام إلا فساد صلاته، وبطلان أجره، فإنه لا يُسَلِّم قبله، فهو شبيه الحمار في البلادة وعدم الفِطْنَة. إذا عُرف هذا فأحقُّ الناس بالمسخ هؤلاء الذين ذُكروا في هذه الأحاديث، فهم أسرع الناس مسخًا قردةً وخنازير، لمشابهتهم لهم في الباطن. وعقوبات الربِّ تعالى -نعوذ بالله منها- جاريةٌ على وفق حكمته وعدله. وقد ذكرنا شُبَه المغنِّين والمفتونين بالسَّماع الشيطاني، ونقضناها نقضًا وإبطالًا في كتابنا الكبير في "السماع" (¬2)، وذكرنا الفرق بين ما يحرِّكه سماع الأبيات، وما يحرِّكه سماع الآيات، وذكرنا الشُّبهة التي دخلت على كثير من العُبَّاد في حضوره، حتى عدُّوه من القُرَب. فمن أحبَّ الوقوف على ذلك فهو ¬

_ (¬1) كما في حديث أبي هريرة الذي أخرجه البخاري (691)، ومسلم (427). (¬2) المطبوع بعنوان "الكلام على مسألة السماع".

فصل: من مكايد الشيطان: التحليل

مستوفًى في ذلك الكتاب، وإنما أشرنا هاهنا إلى نُبذةٍ يسيرةٍ في كونه من مكايد الشيطان، وبالله التوفيق. فصل ومن مكايده التي بلغ فيها مراده: مكيدةُ التَّحليل، الذي لعن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فاعله، وشبَّهه بالتَّيس المستعار، وعَظُم بسببه العار والشَّنار، وعَيَّر المسلمين به الكفارُ، وحصل بسببه من الفساد ما لا يُحصيه إلا ربُّ العباد، واستُكْرِيَتْ له التُّيوس المستعارات، وضاقت به ذرعًا النفوس الأبيَّات، ونفرت منه أشدَّ من نِفارها من السفاح، وقالت: لو كان هذا نكاحًا صحيحًا لم يَلْعَنْ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من أتى بما شرعه من النكاح، فالنكاح سنته، وفاعل السنَّة مقرّب غير ملعون، والمحلِّلُ -مع وقوع اللعنة عليه- بالتيس المستعار مقرون، وسماه السلف بمسمار النار. فلو شاهدتَ الحرائر المصونات، على حوانيت المحلِّلين متَبَذِّلات، تنظر المرأة إلى التيس نظرَ الشاةِ إلى شَفْرة الجازر، وتقول: يا ليتني قبل هذا كنت من أهل المقابر، حتى إذا تشارطا على ما يَجلِبُ اللعنة والمقْت، نهض واستتبعها خلفه للوقت، بلا زِفاف ولا إعلان، بل بالتخفي والكتمان، فلا جهاز يُنقل، ولا فِراش إلى بيت الزوج يُحَوَّل، ولا صواحبُ يهُدِينها إليه، ولا مُصلحات يُجِّلِّينها عليه، ولا مهرٌ مقبوض ولا مؤخَّر، ولا نفقة ولا كسوة تُقدَّر، ولا وليمة ولا نِثار، ولا دُفٌّ ولا إعلان ولا شعار، والزوج يبذلُ المهر، وهذا التيسُ يطأ بالأجر، حتى إذا خلا بها وأرخى الحجاب، والمطَلِّق والوَليُّ واقفان على الباب؛ دنا ليُطَهِّرها بمائه النَّجس الحرام، ويُطيِّبها بلعنة الله تعالى ورسوله عليه الصلاة والسلام.

حتى إذا قضيا عُرس التحليل، ولم يحصل بينهما المودَّة والرحمة التي ذكرها الله تعالى في التنزيل؛ فإنها لا (¬1) تحصل باللعن الصَّريح، ولا يوجبها إلا النكاح الجائز الصحيح؛ فإن كان قد قبض أجرةَ ضِرابه سلفًا وتعجيلًا، وإلا حَبسها حتى يعطيه أجره طويلًا، فهل سمعتم بزوج لا يأخذ بالساق؛ حتى يأخذ أجرته بعد الشرط والاتفاق؟ حتى إذا طهَّرها وطيَّبها، وخلَّصها بزعمه من الحرام وجَنَّبها؛ قال لها: اعترفي بما جرى بيننا ليقع عليك الطلاق، فيحصل بعد ذلك بينكما الالتئام والاتفاق، فتأتي المضمَّخةُ (¬2) إلى حضرة الشهود، فيسألونها: هل كان ذاك؟ فلا يمكنها الجحود، فيأخذون منها أو من المطلق أجرًا، وقد أرهقوهما من أمرهما عسرًا، هذا وكثير من هؤلاء المستأجَرين للضِّراب يحلِّل الأمَّ وابنتها في عقدين، ويجمع ماءه في أكثر من أربع وفي رحم أختين. وإذا كان هذا من شأنه وصفته، فهو حقيق بما رواه عبد الله بن مسعود رضي الله تعالى عنه قال: لعن رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - المحلِّل والمحلَّل له، رواه الحاكم في "الصحيح" (¬3)، والترمذي، وقال: "حديث حسن صحيح"، ¬

_ (¬1) "لا" ساقطة من م. (¬2) في بعض النسخ: "المخصمة" أو "المصخمة". (¬3) لم أقف على من عزاه لمستدرك الحاكم، وهو في سنن الترمذي (1120) من طريق أبي قيس عن هُزيل بن شرحبيل عن ابن مسعود به، وبهذا الإسناد رواه ابن أبي شيبة (3/ 553، 7/ 292)، والدارمي (2258)، وابن الجوزي في التحقيق (1658)، وصحّحه ابن حزم في المحلى (10/ 180)، وابن العربي في العارضة (3/ 46)، وابن القطان كما في التلخيص الحبير (3/ 372)، وابن دقيق العيد في الاقتراح (ص 101)، والذهبي في الكبائر (ص 138)، والمصنَّف فيما يأتي، وابن الملقن في =

قال: "والعمل عليه عند أهل العلم، منهم عمر بن الخطاب، وعثمان بن عفان، وعبد الله بن عمر رضي الله عنهم أجمعين، وهو قول الفقهاء من التابعين. ورواه الإمام أحمد في "مسنده"، والنسائي في "سننه" (¬1) بإسناد صحيح، ولفظهما: لعن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الواشمة والموتَشمة، والواصلة والموصولة، والمحلِّل والمحلَّل له، وآكل الربا ومُوكِله. وفي "مسند الإمام أحمد"، و"سنن النسائي" (¬2) أيضا، عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: آكل الربا، وموكله، وشاهداه، وكاتبه -إذا علموا به-، ¬

_ = البدر المنير (7/ 612)، والهيتمي في الزواجر (2/ 578)، والشوكاني في فتح القدير (1/ 363)، والألباني في الإرواء (1897). ورواه أحمد (1/ 450) وأبو يعلى (5054) والشاشي (862) والبغوي في شرح السنة (2293) من طريق عبد الكريم الجزري عن أبي الواصل عن ابن مسعود به. (¬1) مسند أحمد (1/ 448، 462)، سنن النسائي (3416)، كلاهما من طريق أبي قيس عن الهزيل عن ابن مسعود به، وبهذا الإسناد والمتن رواه أبو يعلى (5350)، والطبراني في الكبير (10/ 38)، والبيهقي في الكبرى (7/ 208)، والخطيب في تاريخه (2/ 225). وانظر: التخريج السابق. (¬2) مسند أحمد (1/ 409، 430، 464)، سنن النسائي (5102)، من طرقٍ عن الأعمش عن عبد الله بن مرة عن الحارث الأعور عن ابن مسعود به، لكن ليس عندهما من هذه الطريق ذكر المحلّل والمحلّل له، وهو كذلك عند أبي يعلى (5241) وابن خزيمة (2250) وابن حبان (3252)، والبيهقي في الشعب (4/ 391)، إلا أنه عند ابن خزيمة: عن ابن مرة عن مسروق عن ابن مسعود. ورواه عبد الرزاق (3/ 144، 6/ 269، 8/ 315) - ومن طريقه الطبراني في الدعاء (2169) - عن معمر عن الأعمش به، وفيه ذكر المحلّل والمحلل له.

والواصلة، والمستوصلة، ولاوي الصدقة، والمعتدي فيها، والمرتد على عقبيه أعرابيًا بعد هجرته، والمحلِّل، والمحلَّل له: ملعونون على لسان محمد - صلى الله عليه وسلم - يوم القيامة. وعن علي بن أبي طالب رضي الله عنه عن النبي - صلى الله عليه وسلم -: أنه لعن المحلِّل والمحلَّل له، رواه الإمام أحمد وأهل "السنن" كلهم غير النسائي (¬1). وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "لعن الله المحلِّل والمحلَّل له". رواه الإمام أحمد (¬2) بإسنادٍ رجالُه كلُّهم ثقات، وثَّقهم ابن ¬

_ (¬1) مسند أحمد (1/ 83، 87، 88، 93، 107، 121، 150، 158)، سنن أبي داود (2078، 2079)، سنن الترمذي (1119)، سنن ابن ماجه (1935)، ورواه أيضًا عبد الرزاق (6/ 269، 8/ 316)، وسعيد بن منصور (2008)، والبزار (820، 821، 822)، وأبو يعلى (402، 516)، والطبراني في الأوسط (7063)، وابن عدي في الكامل (1/ 379)، والبيهقي في الكبرى (7/ 207)، وغيرهم من طريق الحارث الأعور عن علي به، وهو عند أبي داود في أحد إسناديه بالشكّ في رفعه، واختُلِف في إسناده كما بينه الدارقطني في العلل (3/ 153 - 156)، وهو في صحيح سنن أبي داود (1811، 1812). (¬2) مسند أحمد (2/ 323) من طريق عبد الله بن جعفر عن عثمان بن محمد عن المقبري عن أبي هريرة به، وبهذا الإسناد رواه ابن أبي شيبة (3/ 553)، والبزار (1442)، وتمام في فوائده (815)، والبيهقي في الكبرى (7/ 208)، وغيرهم، وصحّحه ابن الجارود (684)، والزيلعي في نصب الراية (3/ 240)، قال الهيثمي في المجمع (4/ 490): "فيه عثمان بن محمد وثقه ابن معين وابن حبان، وقال ابن المديني: له عن أبي هريرة أحاديث مناكير"، وجوَّد إسناده ابن تيمية في إبطال التحليل (6/ 194 الفتاوى الكبرى)، وابن عبد الهادي في التنقيح (2759)، والمصنف في الزاد (5/ 110)، وابن الملقن في البدر المنير (7/ 614).

مَعِين وغيره. وقال الترمذي في كتاب "العلل" (¬1): "سألت أبا عبد الله محمد بن إسماعيل البخاري عن هذا الحديث، فقال: هو حديث حسن، وعبد الله بن جعفر المخزومي: صدوق ثقة، وعثمان بن محمد الأخنسي: ثقة". وقال أبو عبد الله ابن ماجه في "سننه" (¬2): حدثنا محمد بن بَشَّار، حدثنا أبو عامر، عن زَمْعَة بن صالح، عن سلمة بن وهرام، عن عكرمة، عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: لعن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - المحلِّل والمحلَّل له. وعن ابن عباس أيضًا قال: سُئِل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن المحلِّل، فقال: "لا إلا نكاح رغبة، لا نكاح دُلْسَةٍ، ولا استهزاءٍ بكتاب الله، ثم يذوق العُسَيْلَة". رواه أبو إسحاق الجوزجاني في كتاب "المترجم" (¬3)، قال: أخبرنا ¬

_ (¬1) علل الترمذي (273)، وزاد البخاري: "وكنت أظنّ أن عثمان لم يسمع من سعيد المقبري". (¬2) سنن ابن ماجه (1934)، ورواه ابن عدي في الكامل (3/ 339) من طريق إبراهيم بن سعيد الجوهري عن أبي عامر بسياق أطول، وفي إسناده زمعة بن صالح، به ضعَّفه البوصيري في المصباح (695)، وابن حجر في التلخيص الحبير (3/ 372)، وقواه ابن كثير في تفسيره (1/ 628) بمرسل عمرو بن دينار الآتي. وسئل أحمد عن سلمة بن وهرام -كما في ذخيرة الحفاظ (2/ 869) - فقال: "أخشى أن يكون حديثه ضعيفًا". (¬3) لم يصلنا، وهو شرح مسائل إسماعيل بن سعيد الشالنجي، كما في إعلام الموقعين (3/ 23). وذكره قبله شيخ الإسلام في مجموع الفتاوى (20/ 565، 34/ 114). وقد رواه الطبراني في الكبير (11/ 226) وابن حزم في المحلى (10/ 184) من طريق إسحاق بن محمد الفروي عن إبراهيم بن إسماعيل به، وحكم عليه ابن حزم =

إبراهيم بن إسماعيل بن أبي حبيبة، عن داود بن حصين، عن عكرمة عنه. وهؤلاء كلهم ثقات إلا إبراهيم، فإن كثيرًا من الحفاظ يضعفه، والشافعي حَسَنُ الرأي فيه، ويحتج بحديثه. وعن عُقبة بن عامر رضي الله عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "ألا أخبركم بالتَّيس المستعار؟ "، قالوا: بلى يا رسول الله! قال: "هو المحلِّل؟ لعن الله المحلِّل والمحلَّل له" رواه ابن ماجه (¬1) بإسنادٍ رجالُه كلهم موثَّقون، لم يُجَرَّح واحد منهم. ¬

_ = بالوضع، وأعلّه بإسحاق الفروي وشيخه، وعزاه ابن تيمية في إبطال التحليل (6/ 240 الفتاوى الكبرى) لأبي إسحاق الجوزجاني وابن شاهين في غرائب السنن، وقال: "إسناده جيّد إلا إبراهيم بن إسماعيل فإنه قد اختلف فيه"، وبه ضعّفه ابن حجر في الكافي الشاف (ص 20)، وقوّاه ابن كثير في تفسيره (1/ 628) بمرسل عمرو بن دينار الآتي. (¬1) سنن ابن ماجه (1936)، ورواه أيضًا الروياني (226)، والطبراني في الكبير (17/ 299)، والدارقطني (3/ 251)، والبيهقي في الكبرى (7/ 208)، وابن الجوزي في العلل المتناهية (1072)، من طريقين عن الليث بن سعد عن مشرح بن هاعان عن عقبة به، وصحّحه الحاكم (2804، 2805)، والذهبي في الكبائر (ص 138)، والزيلعي في نصب الراية (3/ 239)، وابن الهمام في شرح فتح القدير (4/ 182)، والهيتمي في الزواجر (2/ 578)، وحسنه عبد الحق في أحكامه، وابن القطان في بيان الوهم والإيهام (3/ 504)، وابن تيمية في إبطال التحليل (6/ 195 الفتاوى الكبرى)، وابن الملقن في البدر المنير (7/ 614)، وقد أجاب المصنّف في إعلام الموقعين (3/ 45 - 46) وغيرُه على إعلال من أعلّه بمِشرح وبالانقطاع والإرسال والنكارة.

وعن عمرو بن دينار وهو من أعيان التابعين: أنه سئل عن رجل طلق امرأته، فجاء رجل من أهل القرية بغير علمه ولا علمها، فأخرج شيئًا من ماله، فتزوَّجها ليُحِلَّها له. فقال: لا، ثم ذكر أن النبي - صلى الله عليه وسلم - سُئل عن مثل ذلك، فقال: "لا، حتى ينكح مُرتَغِبًا لنفسه، فإذا فعل ذلك لم يحلَّ له حتى يذوق العُسَيْلَة"، رواه أبو بكر بن أبي شيبة في "المصنَّف" (¬1) بإسناد جيد. وهذا المرسل قد احتج به من أرسله، فدلَّ على ثبوته عنده، وقد عمل به أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم -كما سيأتي، وهو موافق لبقيَّة الأحاديث الموصولة - ومثل هذا حجة باتفاق الأئمة، وهو والذي قبله نصٌ في التحليل المنويِّ. وكذلك حديث نافع عن ابن عمر رضي الله عنهما: "أن رجلًا قال له: امرأةٌ تزوجتها، أُحِلُّها لزوجها، لم يأمرني ولم يعلم. قال: لا، إلا نكاح رَغْبَة، إن أعجبتْك أمسكتَها، وإن كرهتهَا فارقتَها، وإن كنا نعدُّ هذا على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - سِفاحًا" (¬2). ذكره شيخ الإسلام في "إبطال التحليل" (¬3). ¬

_ (¬1) مصنف ابن أبي شيبة (3/ 553)، قال ابن تيمية في إبطال التحليل (6/ 241 الفتاوى الكبرى): "هذا المرسل حجّة؛ لأن الذي أرسله احتجَّ به"، وهو صحيح الإسناد إلى عمرو كما قال الألباني في الإرواء (6/ 312). وفي الباب عن غير من ذكرهم المصنف عن جابر بن عبد الله وعمير بن قتادة وعن عطاء وإبراهيم والشعبي مرسلًا. (¬2) رواه الطبراني في الأوسط (6246)، وأبو نعيم في الحلية (7/ 96)، والبيهقي في الكبرى (7/ 208)، وصحّحه الحاكم (2806)، وابن دقيق العيد في الإلمام (1246)، وحسن إسناده ابن تيمية في إبطال التحليل (ص 398)، وقال الهيثمي في المجمع (4/ 491): "رجاله رجال الصحيح"، وصحّحه الألباني في الإرواء (1898). (¬3) المطبوع بعنوان "بيان الدليل على بطلان التحليل" (ص 397) ط. دار ابن الجوزي.

فصل: ذكر أقوال الصحابة في المحلل والمحلل له

فصل وأما الآثار عن الصحابة: ففي كتاب "المصنف" لابن أبي شيبة و"سنن الأثرم" و"الأوسط" لابن المنذر، عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنه قال: لا أُوتَى بمحلِّل ولا محلَّل له إلا رجمتهما. ولفظ عبد الرزاق وابن المنذر: لا أُوتَى بمحلِّل ولا محلَّلة إلا رجمتهما (¬1). وهو صحيحٌ عن عمر. وقال عبد الرزاق: عن مَعْمر، عن الزُّهري (¬2)، عن عبد الملك بن المغيرة، قال: سُئل ابن عمر رضي الله عنهما عن تحليل المرأة لزوجها، فقال: ذاك السِّفاح. ورواه ابن أبي شيبة (¬3). ¬

_ (¬1) مصنف عبد الرزاق (6/ 265)، مصنف ابن أبي شيبة (3/ 552، 7/ 292)، ورواه سعيد بن منصور (1992، 1993) - وعنه حرب في مسائله (ص 87) -، وابن حزم في المحلى (11/ 249)، والبيهقي في الكبرى (7/ 208)، وصححه ابن تيمية كما في المجموع (33/ 30). (¬2) في الأصل: "والزهري". (¬3) مصنف عبد الرزاق (6/ 256)، مصنف ابن أبي شيبة (3/ 552) من طريق سعيد بن أبي عروبة عن معمر به، ورواه البيهقي في الكبرى (7/ 208) من طريق ابن أبي عروبة به، وصحح إسناده الألباني في الإرواء (6/ 311). ورواه حرب في مسائله (ص 86) وابن عبد البر في التمهيد (13/ 235) من طريق الأوزاعي، والفسوي في المعرفة (1/ 176) من طريق يونس، كلاهما عن الزهري به.

وقال عبد الرزاق (¬1): أخبرنا الثوري، عن عبد الله بن شريك العامري، قال: سمعت ابن عمر رضي الله تعالى عنهما سئل عن رجل طلق ابنة عَمّ له، ثم رغب فيها ونَدِم، فأراد أن يتزوَّجها رجل يُحلِّلُها له. فقال ابن عمر رضي الله عنهما: كلاهما زانٍ، وإن مكث عشرين سنةً أو نحو ذلك، إذ كان الله يعلم أنه يريد أن يُحِلَّها له. قال (¬2): وأخبرنا معمر، والثوري (¬3)، عن الأعمش، عن مالك بن الحارث، عن ابن عباس رضي الله عنهما وسأله رجل، فقال: إن عمِّي طلَّق امرأته ثلاثًا، فقال: إن عمك عصى الله فأندمه، وأطاع الشيطان فلم يجعل له مخرجًا، قال: كيف ترى في رجل يُحلِّلها؟ قال: من يُخادع الله يخدعه. وعن سليمان بن يسار (¬4)، قال: رُفع إلى عثمان رضي الله عنه رجل ¬

_ (¬1) مصنف عبد الرزاق (6/ 266)، ورواه مسدد -كما في إتحاف الخيرة (3252) - عن يحيى عن سفيان به نحوه. ورواه الجوزجاني -كما في الفتاوى الكبرى (6/ 243) - عن ابن نمير عن الثوري عن رجل سماه عن ابن عمر نحوه. (¬2) مصنف عبد الرزاق (6/ 266)، ومن طريقه ابن حزم في المحلى (10/ 181)، ورواه الطحاوي في شرح المعاني (4136) من طريق سفيان، وابن أبي شيبة (4/ 61) والبيهقي في الكبرى (7/ 337) عن ابن نمير، كلاهما عن الأعمش به، وليس عند ابن أبي شيبة قوله: "من يخادع الله يخدعه"، ورواه سعيد بن منصور (1065) - ومن طريقه ابن بطة في إبطال الحيل (ص 48) - عن هشيم عن الأعمش عن عمران بن الحارث السلمي عن ابن عباس، وصحّحه المصنف في إعلام الموقعين (3/ 161). ورواه أشهب -كما في المدونة (2/ 5) - عن ابن لهيعة عن يزيد بن أبي حبيب عن سليمان بن مالك بن الحارث السلمي عن ابن عباس. (¬3) في الأصل: "عن الثوري". (¬4) رواه البيهقي في الكبرى (7/ 208) من طريق ابن لهيعة عن بكير بن الأشج عن =

تزوج امرأةً ليُحِلَّها لزوجها، ففرَّق بينهما، وقال: لا ترجع إلا بنكاح رَغْبةٍ غير دُلْسة. رواه أبو إسحاق الجوزجاني في كتاب "المترجم"، وذكره ابن المنذر عنه في كتاب "الأوسط". وفي "المهذَّب" (¬1) لأبي إسحاق الشيرازي: عن أبي مرزوق التُّجيبي أن رجلًا أتى عثمان رضي الله عنه، فقال: إن جاري طلق امرأته في غضبه، ولقي شدَّة، فأردت أن أحتسِبَ نفسي ومالي، فأتزوَّجها، ثم أبنيَ بها، ثم أطلقها، فترجع إلى زوجها الأول. فقال له عثمان رضي الله عنه: لا تنكحها إلا نكاح رَغبة. وذكر أبو بكر الطُّرطوشي في "خلافه" (¬2) عن يزيد بن أبي حبيب، عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه في المحلل: لا ترجع إليه إلا بنكاح رغبة؛ غير دُلسة ولا استهزاء بكتاب الله. وعلي رضي الله عنه هو ممن روى عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه لعن المحلِّل (¬3)، فقد جعل هذا من التحليل. وروى ابن أبي شيبة في "مصنَّفه" (¬4) عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: ¬

_ = سليمان بن يسار به. (¬1) المهذب (2/ 47)، ورواه البخاري مختصرًا في التاريخ الكبير (1/ 152) والبيهقي في الكبرى (7/ 208) من طريق الليث بن سعد عن محمد بن عبد الرحمن عن أبي مرزوق به، ورواه ابن وهب -كما في المدونة (2/ 211) - عن رجال من أهل العلم منهم ابن لهيعة والليث عن محمد بن عبد الرحمن المرادي به. (¬2) ذكره ابن تيمية في إبطال التحليل (ص 402) وقال: "ذكره بعض المالكية". (¬3) تقدم تخريجه. (¬4) لم أقف عليه، وذكره ابن تيمية في إبطال التحليل (ص 403) فقال: عن أشعث عن =

لَعن الله (¬1) المحلِّل والمحلَّل له، وهو ممن روى عن النبي - صلى الله عليه وسلم - لَعْنَ المحلل (¬2)، وقد فسَّره بما قُصد به التحليل، وإن لم تعلم به المرأة، فكيف بما اتفقا عليه، وتراضيا وتعاقدا على أنه نكاح لعنةٍ لا نكاح رغبة؟ وذكر ابن أبي شيبة (¬3) عن ابن عمر رضي الله عنهما، قال: لعن الله المحلِّل والمحلَّل له. وروى الجوزجاني (¬4) بإسناد جيد، عن ابن عمر رضي الله عنهما: أنه سئل عن رجل تزوج امرأةً ليُحِلَّها لزوجها، فقال: لعن الله الحالَّ والمحلَّل له. قال شيخ الإسلام (¬5): وهذه الآثار عن عمر، وعثمان، وعلي، وابن عباس، وابن عمر رضي الله عنهم، مع أنها نصوص فيما إذا قصد التحليل ولم يظهره، ولم يتواطآ عليه، فهي مُبَيِّنة أن هذا هو التحليل، وهو المحلل الملعون على لسان رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فإن أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أعلم بمراده ¬

_ = ابن عباس وذكره، ولم يعزه لأحد. والذي في مصنف ابن أبي شيبة (7/ 291): عن أشعث عن ابن سيرين. (¬1) لفظ الجلالة ساقط من الأصل. (¬2) تقدم تخريجه. (¬3) مصنف ابن أبي شيبة (3/ 552، 7/ 292)، ورواه أيضًا سعيد بن منصور (1997)، والراوي عن ابن عمر مبهم. (¬4) رواه في كتابه المسمَّى بالمترجم، وهو في حكم المفقود. قال ابن تيمية في إبطال التحليل (ص 404): "رواه الشالنجي بإسناده عن عبد الله بن شريك العامري عن ابن عمر به". (¬5) انظر نحوه في بيان الدليل (ص 405).

ذكر الآثار الواردة في ذلك عن التابعين

ومقصوده، لاسيما إذا رَوَوْا حديثًا وفسَّروه بما يوافق الظاهر، هذا مع أنه لم يُعلم أن أحدًا من أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فَرَّق بين تحليل وتحليل، ولا رَخّص في شيء من أنواعه، مع أن المطلقة ثلاثًا مثل امرأة رفاعة القُرَظِيِّ قد كانت تختلف إليه المدة الطويلة وإلى خلفائه؛ لتعودَ إلى زوجها، فيمنعونها من ذلك، ولو كان التحليلُ جائزًا لدلَّها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على ذلك؛ فإنها لم تكن تَعدَم من يُحلِّلها، لو كان التحليل جائزًا. قال: والأدلة الدالة على أن هذه الأحاديث النبوية قُصد بها التحليل وإن لم يشترط في العقد: كثيرة جدًا، ليس هذا موضع ذكرها انتهى. ذكر الآثار عن التابعين قال عبد الرزاق (¬1): أخبرنا معمر، عن قتادة، قال: إذا نوى الناكحُ أو المُنْكِحُ أو المرأة أو أحدٌ منهم التحليلَ فلا يصلح. أخبرنا (¬2) ابن جريج، قال: قلت لعطاء: المحلِّل عامدًا، هل عليه عقوبة؟ قال: ما علمتُ، وإني لأرى أن يعاقَب، قال: وكلُّهم إن تمالأوا على ذلك مُسيؤون، وإن أعطوا (¬3) الصداق. أخبرنا (¬4) معمر، عن قتادة، قال: إن طلقها المحلِّل فلا يحلُّ لزوجها الأول أن يقربها؛ إذا كان نكاحه على وجه التحليل. ¬

_ (¬1) مصنف عبد الرزاق (10781)، وصحّحه ابن حزم في المحلى (10/ 181). (¬2) مصنف عبد الرزاق (10780). (¬3) في الأصل: "أعظموا". (¬4) مصنف عبد الرزاق (10783)، وصحّحه ابن حزم في المحلى (10/ 181).

أخبرنا (¬1) ابن جريج، قال: قلت لعطاء: يُطلِّق المحلِّل؛ يراجعها زوجها؟ قال: يُفَرَّق بينهما. أخبرنا (¬2) معمر، عمَّن سمع الحسن يقول في رجل تزوَّج امرأة يحلِّلها ولا يُعلِمها، فقال الحسن: اتَّقِ الله، ولا تكن مسمارَ نارٍ في حدود الله. قال ابن المنذر: قال إبراهيم النخعي (¬3): إذا كان نِيَّة أحد الثلاثة -الزوج الأول، أو الزوج الآخر، أو المرأة- أنه محلل، فنكاح الآخر باطل، ولا تحل للأول. قال: وقال الحسن البصري (¬4): إذا هَمَّ أحد الثلاثة بالتحليل فقد أفسد. قال: وقال بكر بن عبد الله المزني (¬5) في الحالِّ والمحلَّل له: أولئك كانوا يُسمَّون في الجاهلية التيسَ المستعار. قال: وقال ابن أبي نجيح، عن مجاهد في قوله تعالى: {إِنْ ظَنَّا أَنْ يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ} [البقرة: 230]، قال: إن ظنَّا أن نكاحهما على غير دُلْسة. ورواه ابن أبي حاتم في "التفسير" عنه (¬6). ¬

_ (¬1) لم أقف عليه، إلا أن يكون وقع فيه سقط، أو حصل انتقال نظر. (¬2) مصنف عبد الرزاق (10785)، ورواه ابن أبي شيبة (3/ 553) عن معاذ عن عباد بن منصور عن الحسن. (¬3) رواه سعيد بن منصور (1994) عن جرير عن مغيرة عن إبراهيم، وعن سعيد بن منصور رواه حرب الكرماني في مسائله (ص 87). (¬4) رواه سعيد بن منصور (1995)، وابن أبي شيبة (3/ 552). (¬5) رواه سعيد بن منصور (1998) عن محمد بن نشيط عن بكر بن عبد الله المزني. (¬6) تفسير ابن أبي حاتم (2235)، ورواه الطبري في تفسيره (4907، 4908)، وعزاه =

وقال هُشيم: أخبرنا سيَّار، عن الشَّعبي: أنه سُئل عن رجل تزوج امرأة كان زوجها طلَّقها ثلاثًا قبل ذلك، أيطلِّقها لترجع إلى زوجها الأول؟ فقال: لا، حتى يحدِّث نفسه أنه يُعمّر معها وتُعمّر معه؛ أي: تُقيم معه. رواه الجوزجاني (¬1). وروي عن النُّفيلي (¬2): حدثنا يحيى بن عبد الملك بن أبي غَنِيَّةَ، حدثنا عبد الملك، عن عطاء: في الرجل يطلِّق امرأته، فينطلق الرجل الذي يتَحَزَّن له، فيتزوجها من غير مُؤامَرة منه، فقال: إن كان تزوجها ليحلِّلها له لم تحلَّ له، وإن كان تزوجها يريد إمساكها فقد حلَّت له. وقال سعيد بن المسيب في رجل تزوج امرأة ليحلّها لزوجها الأول، ولم يشعر بذلك زوجها الأول ولا المرأة، قال: إن كان إنما نكحها ليُحِلَّها فلا يصلح ذلك لهما؛ فلا تحل. رواه حرب في "مسائله" (¬3). وعنه أيضًا، قال: الناس يقولون: حتى يجامعها، وأنا أقول: إذا تزوجها تزويجًا صحيحًا، لا يريد بذلك إحلالها؛ فلا بأس أن يتزوَّجها الأول. رواه سعيد بن منصور عنه (¬4). ¬

_ = في الدر المنثور (1/ 681) لعبد بن حميد. (¬1) الظاهر أنه رواه في كتابه المترجم، وقد ذكره ابن تيمية في إبطال التحليل (6/ 10 الفتاوى الكبرى). (¬2) ح: "العقيلي". رواه ابن الأعرابي في معجمه (1903) عن عبد الله بن أيوب عن يزيد بن هارون عن عبد الملك به نحوه. (¬3) مسائل حرب الكرماني (ص 86) من طريق ابن المبارك عن حكيم بن رزيق عن أبيه عن ابن المسيب به. (¬4) سنن سعيد بن منصور (1989) عن هشيم عن داود بن أبي هند عن سعيد بن =

ذكر الآثار الواردة عن تابعي التابعين ومن بعدهم

فهؤلاء الأئمة الأربعةُ أركان التابعين، وهم الحسن وسعيد بن المسيَّب وعطاء بن أبي رباح وإبراهيم النَّخعي. وقال أبو الشعثاء جابر بن زيد (¬1) في رجل تزوج امرأةً ليحلها لزوجها الأول وهو لا يعلم، قال: لا يصلح ذلك؛ إذا كان تزوجها ليحلّها. ذكر الآثار عن تابعي التابعين ومن بعدهم قال ابن المنذر: وممن قال: إن ذلك لا يصلح إلا نكاح رَغْبةٍ: مالكُ بن أنس، والليث بن سعد. وقال مالك رحمه الله: يفرّق بينهما على كل حال، وتكون الفرقةُ فسخًا بغير طلاق. وقال سفيان الثوري: إذا تزوَّجها وهو يريد أن يحلَّها لزوجها، ثم بدا له أن يمسكها؛ لا يُعجبني إلا أن يفارق، ويستقبل نكاحًا جديدًا. قال أحمد بن حنبل: جيد. وقال إسحاق: لا يحلُّ له أن يمسكها؛ لأن المحلل لم تَتِمّ له عُقْدة النكاح. وكان أبو عُبيد يقول بقول الحسن والنخعي. وقال الجوزجاني: حدثنا إسماعيل بن سعيد، قال: سألت أحمد بن ¬

_ = المسيب به، وعزاه ابن حجر في الفتح (9/ 467) لابن أبي شيبة وابن المنذر وصحَّح إسناده. (¬1) رواه ابن أبي شيبة (3/ 553) عن أبي داود عن حبيب عن عمرو عن جابر بن زيد به.

فصل: ذكر شبه مجيزي التحليل

حنبل عن الرجل تزوَّج المرأة، وفي نفسه أن يُحِلَّها لزوجها الأول، ولم تعلم المرأة بذلك؛ فقال: هو محلل، وإذا أراد بذلك الإحلال فهو ملعون. قال الجوزجاني: وبه قال أبو أيوب. وقال ابن أبي شيبة: لست أرى أن ترجع بهذا النكاح إلى زوجها الأول. قال الجوزجاني: وأقول: إن الإسلام دين الله الذي اختاره واصطفاه وطهَّره، حقيق بالتوقير والصيانة مما لعله يَشِينهُ، ويُنَزّه عما أصبح أبناء الملل من أهل الذمة يُعَيّرون به المسلمين (¬1)، على ما تقدم فيه من النهي عن النبي - صلى الله عليه وسلم -ولَعْنِه عليه. ثم ساق الأحاديث المرفوعة في ذلك والآثار. فصل ومن العجائب معارضة هذه الأحاديث والآثار عن الصحابة بقوله تعالى: {فَإِنْ طَلَّقَهَا فَلَا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ} [البقرة: 230]، والذي أنزلت عليه هذه الآية هو الذي لعن المحلِّل والمحلَّل له، وأصحابه أعلم الناس بكتاب الله، فلم يجعلوه زوجًا وأبطلوا نكاحه، ولعنوه. وأعجب من هذا قول بعضهم: نحن نحتج بكونه سَمّاه محللًا، فلولا أنه أثبت الحلّ لم يكن محللًا! فيقال: هذه من العظائم؛ فإن هذا يتضمن أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لعن من فعل السّنّة التي جاء بها، وفعلَ ماهو جائز صحيح في شريعته! وإنما سمَّاه محللًا لأنه أحلّ ما حرّم الله، فاستحقّ اللعنة، فإن الله سبحانه ¬

_ (¬1) ذكر نحو هذا المعنى شيخ الإسلام ابن تيمية في مجموع الفتاوى (32/ 156).

حرّمها على المطلِّق حتى تنكح زوجّا غيره، والنكاح اسم في كتاب الله وسنة رسوله للنكاح الذي يتعارفه الناس بينهم نكاحًا، وهو الذي شُرع إعلانه، والضربُ عليه بالدف، والوليمة فيه، وجُعل للإيواء والسكن، وجعله الله مودةً ورحمةً، وجرت العادةُ فيه بضِدّ ما جرت به في نكاح المحلل؛ فإن المحلل لم يدخل على نفقة، ولا كسوة، ولا سُكنى، ولا إعطاء مهر، ولا تحصيل نسب ولا صِهْر، ولا قَصْدِ المُقام مع الزوجة، وإنما دخل عاريَّةً كالتيس المستعار للضِّراب، ولهذا شبَّهه به النبي - صلى الله عليه وسلم -، [78 أ] ثم لعنه. فعُلِم قطعًا لا شك فيه أنه ليس هو الزوج المذكور في القرآن، ولا نكاحه هو النكاح (¬1) المذكور في القرآن، وقد فَطَرَ الله سبحانه قلوبَ الناس على أن هذا ليس بنكاح، ولا المحلِّل زوج، وأن هذا منكر قبيح، يُعَيَّر به المرأة والزوج والمحلِّل والولي، فكيف يدخل هذا في النكاح الذي شرعه الله ورسوله، وأحبّه وأخبر أنه سنته، ومن رغب عنه فليس منه؟ وتأمل قوله تعالى: {فَإِنْ طَلَّقَهَا فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا أَنْ يَتَرَاجَعَا} [البقرة: 230]؛ أي: فإن طلقها هذا الثاني فلا جناح عليها وعلى الأول أن يتراجعا، أي: ترجع إليه بعقدٍ جديد، فأتى بحرف "إن" الدالة على أنه يمكنه أن يطلق وأن يُقيم. والتحليل الذي يفعله هؤلاء لا يتمكّن الزوج فيه من الأمرين، بل يشترطون عليه أنه متى وَطئها فهي طالق، ثم لما علموا أنه قد لا يُخبِر بوطئها، ولا يُقبلُ قولها في وقوع الطلاق، انتقلوا إلى أن جعلوا الشرط إخبار المرأة بأنه دخل بها، فبمجرّد إخبارها بذلك تطلَّق عليه. ¬

_ (¬1) "النكاح" ساقطة من الأصل.

نكاح المتعة خير من نكاح التحليل من عشرة أوجه من كلام شيخ الإسلام ابن تيمية

والله سبحانه شرع النكاح للوصلة الدائمة والاستمتاع، وهذا النكاح جعله أصحابه سببًا لانقطاعه، ولوقوع الطلاق فيه، فإنه متى وَطئ كان وطؤُه سببًا لانقطاع النكاح، وهذا ضدُّ شرع الله. وأيضًا فإن الله سبحانه جعل نكاح الثاني وطلاقه واسمه كنكاح الأول وطلاقه واسمه، فهذا زوج وهذا زوج، وهذا نِكاح وذلك نكاح، وكذلك الطلاق. ومعلوم أن نكاح المحلِّل وطلاقه واسمه لا يشبه نكاح الأول ولا طلاقه ولا اسمه، ذاك زوج راغب، قاصد للنكاح، باذِلٌ للمهر، ملتزم للنفقة والسُّكنَى والكسْوة، وغير ذلك من خصائص النكاح؛ والمحلل بريء من ذلك كلِّه، غير ملتزم لشيء منه. وإذا كان الله تعالى ورسوله قد حرَّم نكاح المُتعة، مع أن قصد الزوج الاستمتاع بالمرأة، وأن يقيم معها زمانًا، وهو ملتزم لحقوق النكاح فالمحلّل الذي ليس له غرض أن يقيم مع المرأة إلا قَدْرَ ما ينزُو عليها كالتَّيْسِ المستعار لذلك، ثم يفارقها: أولى بالتحريم. وسمعت شيخ الإسلام يقول: نكاح المتعة خير من نكاح التحليل من أكثر من عشرة أوجه (¬1): أحدها: أن نكاح المتعة كان مشروعًا في أول الإسلام، ونكاح التحليل لم يُشرع في زمن من الأزمان. الثاني: أن الصحابة تمتعوا على عهد النبيّ - صلى الله عليه وسلم -، ولم يكن في الصحابة محلِّلٌ قطُّ. ¬

_ (¬1) م: "اثني عشر وجهًا". وانظر بعض هذه الأوجه في "مجموع الفتاوى" (32/ 93 وما بعدها).

الثالث: أن نكاح المتعة مختَلَف فيه بين الصحابة، فأباحه ابن عباس - وإن قيل: إنه رجع عنه (¬1) -، وأباحه عبد الله بن مسعود، ففي "الصحيحين" (¬2) عنه قال: كنا نغزو مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وليس لنا نساء، فقلنا: ألا نسْتخصي؟ فنهانا عن ذلك، ثم رخّص لنا أن ننكح المرأة بالثوب إلى أجلٍ، ثم قرأ عبد الله: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُحَرِّمُوا طَيِّبَاتِ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكُمْ} [المائدة: 87]. وفتوى ابن عباس بها مشهورة، قال عُروة (¬3): قام عبد الله بن الزبير بمكة، فقال: إن ناسًا أعمَى الله قلوبهَم كما أعمى أبصارهم، يُفتون بالمتعة! يُعرِّض بعبد الله بن عباس، فناداه، فقال: إنك لجِلْفٌ جافٍ، فلعمري لقد كانت المتعة تُفعل على عهد إمام المتقين، يريد رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فقال له ابن الزبير: فجرّب نفسك، فو الله لئن فعلتها لأرجُمنّك بأحجارك! فهذا قول ابن مسعود وابن عباس في المتعة، وذاك قولهما وروايتهما في نكاح التحليل. الرابع: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لم يجئ عنه في لعن المستمتع والمستمتَع بها حرف واحد، وجاء عنه في لعن المحلِّل والمحلَّل له وعن الصحابة ما قد تقدم. الخامس: أن المستمتع له غرضٌ صحيح في المرأة، ولها غَرض أن تقيم معه مدة النكاح، فغرضه المقصود بالنكاح مدَّة، والمحلل [78 ب] لا ¬

_ (¬1) أخرجه الترمذي (1122) عنه. (¬2) البخاري (4615)، ومسلم (1454). (¬3) أخرجه مسلم (1406/ 27).

غرض له سوى أنه مستعار للضِّراب كالتيس، فنكاحه غير مقصود له ولا للمرأة ولا للولي، وإنما هو كما قال الحسن: مسمار نارٍ في حدود الله (¬1)! وهذه التسمية مطابقة للمعنى. قال شيخ الإسلام: يريد الحسن أن المسمار هو الذي يُثبِّت الشيء المسمور، فكذلك هذا يُثبت تلك المرأة لزوجها وقد حرَّمها الله عليه. السادس: أن المستمتع لم يَحْتَل على تحليل ما حرَّم الله، فليس من المخادعين الذين يخادعون الله كأنما يخادعون الصبيان، بل هو ناكح ظاهرًا وباطنًا، والمحلِّل ماكرٌ مخادع، متخذٌ آيات الله هُزوًا، ولذلك جاء في وعيده ولعنه ما لم يجئ في وعيد المستمتع مثلُه ولا قريبٌ منه. السابع: أن المستمتع يريد المرأة لنفسه، وهذا هو سرّ النكاح ومقصوده، فيريد بنكاحه حلّها له ولا يطؤها حرامًا (¬2)، والمحلِّل لا يريد حلها لنفسه، وإنما يريد حلَّها لغيره، ولهذا سُمي محللًا. فأين من يريد أن يُحِلَّ وطْءَ امرأة يخاف أن يطأها حرامًا إلى من لا يريد ذلك؛ وإنما يريد بنكاحها أن يُحِلّ وطأها لغيره؟ فهذا ضد شرع الله ودينه، وضد ما وُضع له النكاح. الثامن: أن الفطر السليمة والقلوب التي لم يتمكن منها مرض الجهل والتقليد تَنفرُ من التحليل أشدَّ نِفار، وتُعِّير به أعظم تعيير، حتى إن كثيرًا من النساء تُعَيِّرُ المرأة به أكثر مما تعيِّر بالزنى، ونكاح المتعة لا تنفرُ منه الفطر والعقول، ولو نفرت منه لم يُبَح في أول الإسلام. ¬

_ (¬1) تقدَّم تخريجه. (¬2) "ولا يطأها حرامًا" ساقطة من الأصل.

التاسع: أن نكاح المتعة يشبه إجارة الدابَّة مدةً للركوب، وإجارة الدار مدة للانتفاع بالسُّكنى، وإجارة العبد للخدمة مدةً، ونحو ذلك مما للباذل فيه غرض صحيح، ولكن لما دخله التوقيت أخرجَهُ عن مقصود النكاح الذي شُرع بوصف الدَّوام والاستمرار، وهذا بخلاف نكاح المحلل؛ فإنه لا يشبه شيئًا من ذلك، ولهذا شبّهه الصحابة رضي الله عنهم بالسفاح، وشبَّهوه باستعارة التيس للضِّراب. العاشر: أن الله سبحانه نصب هذه الأسباب -كالبيع والإجارة والهبة والنكاح- مُفْضِيةً إلى أحكام جعلها مسبَّباتٍ لها ومقتضيَاتٍ، فجعل البيع سببًا لملك الرّقبة، والإجارة سببًا لملك المنفعة أو الانتفاع، والنكاح سببًا لملك البُضع وحِل الوطء. والمحلل مناقضٌ معاكس لشرع الله ودينه؛ فإنه جعل نكاحه سببًا لتمليك المطلِّق البُضع وإحلاله له، ولم يقصد بالنكاح ما شرعه الله له من ملكه هو للبُضع، وحِلَه له، ولا له غرض في ذلك، ولا دخل عليه، وإنما قصد به أمرًا آخر، لم يشرع له ذلك السبب، ولم يجعل طريقًا له. الحادي عشر: أن المحلل من جنس المنافق؛ فإن المنافق يُظهر أنه مسلم ملتزم لعقد الإسلام ظاهرًا وباطنًا، وهو في الباطن غير ملتزم له. وكذلك المحلل يُظهر أنه زوج، وأنه يريد النكاح، ويُسَمِّي المهر، ويُشهد على رضا المرأة، وفي الباطن بخلاف ذلك، لا يريد أن يكون زوجًا، ولا أن تكون المرأة زوجة له، ولا يريد بذل الصداق، ولا القيام بحقوق النكاح، وقد أظهر خلاف ما أبطن وأنه مريد لذلك، والله يعلم والحاضرون والمرأة وهو والمطلِّق أن الأمر ليس كذلك، وأنه غير زوج على الحقيقة، ولا هي امرأته على الحقيقة.

الثاني عشر: أن نكاح المحلل لا يُشبه نكاح أهل الجاهلية، ولا نكاح أهل الإسلام، فكان أهل الجاهلية يتعاطَوْن في أنكحتهم أمورًا منكرة، ولم يكونوا يرضون نكاح التحليل ولا يفعلونه. ففي "صحيح البخاري" (¬1) عن عُروة بن الزبير أن عائشة رضي الله عنها أخبرته: "أن النكاح في الجاهلية كان على أربعة أنحاء: فنكاحٌ منها: نكاحُ الناس اليوم، يخطُب الرجل إلى الرجل وَلِيَّته أو ابنته، فيُصْدِقُها، ثم ينكحُها. والنكاح الآخر: كان الرجل يقول [79 أ] لامرأته إذا طَهُرَت من طمثها: أرسلي إلى فلان، فاستَبْضعي منه، فيعتز لها زوجها ولا يمسها أبدًا، حتى يتبين حَمْلها من ذلك الرجل الذي تَسْتَبْضع منه، فإذا تبين حملها أصابها زوجها إذا أحبّ، وإنما يفعل ذلك رغبةً في نجابة الولد، فكان هذا النكاح نكاح الاستبضاع. ونكاحٌ آخر: يجتمع الرّهْط ما دُون العشرة، فيدخلون على المرأة، كلهم يصيبها، فإذا حملت ووضعت، ومرَّ ليالي بعد أن تضع حَمْلَها، أرسلت إليهم، فلم يستطع رجل منهم أن يمتنع حتى يجتمعوا عندها، فتقول لهم: قد عرفتم الذي كان من أمركم، وقد ولدتُ، فهو ابنك يا فلان! تُسمي من أحبّتْ باسمه، فيُلْحَقُ به ولدها، لا يستطيع أن يمتنع. ونكاح رابع: يجتمع الناس الكثير، فيدخلون على المرأة، لا تمنع من جاءها، وهُنّ البغايا، كنّ ينصِبنْ على أبوابهن راياتٍ تكون عَلَمًا، فمن أرادهنّ دخل عليهن، فإذا حملت إحداهن فوضعت حملها، جمعوا لها، ¬

_ (¬1) برقم (5127).

فصل: السبب الذي أوقع الناس في مصيبة التحليل

ودَعَوْا لهم القافَةَ، ثم ألحقوا ولدها بالذي يرون، فالْتاطَه، ودُعِيَ ابنه، لا يمتنع من ذلك. فلما بعث الله محمدًا - صلى الله عليه وسلم - بالحق هَدَم نكاح الجاهلية كله، إلا نكاح الناس اليوم". ومعلومٌ أن نكاح المحلل ليس من نكاح الناس الذي أشارت إليه عائشة رضي الله عنها أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أقَرّه ولم يهدمه، ولا كان أهل الجاهلية يرضون به، فلم يكن من أنكحتهم؛ فإن الفِطَر والأمم تنكره وتُعيِّرُ به. فصل وسببُ هذا كلَّه: معصية الله تعالى ورسوله، وطاعة الشيطان في إيقاع الطلاق على غير الوجه الذي شرعه الله، والله سبحانه يُبغض الطلاق في الأصل، كما روى أبو داود (¬1) من حديث عبد الله بن عمر رضي الله عنهما قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "أبغضُ الحلال إلى الله الطلاق". وفي "سنن ابن ماجه" (¬2) من حديث أبي موسى رضي الله عنه قال: قال ¬

_ (¬1) سنن أبي داود (2180)، ومن طريقه البيهقي في الكبرى (7/ 322)، ورواه أيضًا ابن ماجه (2018)، وابن حبان في المجروحين (2/ 64)، وابن عدي في الكامل (4/ 323، 6/ 461)، وتمام في فوائده (26)، وغيرُهم، وصحّحه الحاكم (2794)، لكن في إسناده اختلاف، ورجّح إرسالَه ابن أبي حاتم كما في العلل لابنه (1/ 431)، والدارقطني في العلل (13/ 225)، قال الخطابي وتبعه المنذري في الترغيب (3/ 60): "المشهور فيه المرسل" وضعّفه ابن الجوزي في العلل المتناهية (1056)، والألباني في الإرواء (2040). وفي الباب عن معاذ بن جبل رضي الله عنه. (¬2) سنن ابن ماجه (2017) من طريق سفيان عن أبي إسحاق عن أبي بردة عن أبي =

رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "ما بالُ قومٍ يلعبون بحدود الله، يقول: قد طلَّقتك، قد راجعتك، قد طلقتك، قد راجعتك؟ ". وفي "صحيح مسلم" (¬1) عن جابر بن عبد الله، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "إن إبليس يضع عرشه على الماء، ثم يبعثُ سراياه، فأدناهم منزلةً أعظمهم فتنةً، يجيء أحدهم فيقول: قد فعلت كذا وكذا، فيقول: ما صنعتَ شيئًا، قال: ويجيء أحدهم، فيقول: ما تركتُه حتى فَرّقتُ ببنه وبين أهله، قال: فيدنيه منه أو قال: فيلتزمه، ويقول: نِعْمَ أنت". فالشيطانُ وحزبه قد أغرَوْا بإيقاع الطلاق، والتفريق بين المرء وزوجه، وكثيرًا ما يندم المطلِّق، ولا يصبر عن امرأته، ولا تطاوعه نفسه أن يصبر عنها إلى أن تتزوج زواج رَغْبة، تبقى فيه مع الزوج إلى أن يموت عنها، أو يفارقها إذا قضى منها وَطَره، ولابُدّ له من المرأة، فيُهْرَع إلى التحليل، وهو حيلة من عشر حِيَلٍ نصبوها للناس: ¬

_ = موسى به، وبهذا الإسناد رواه البزار (3117)، والروياني (452)، والطبري في تفسيره (5245)، والطحاوي في شرح المشكل (6/ 325)، وابن بطة في إبطال الحيل (ص 40، 41)، والبيهقي في الكبرى (7/ 322)، وصححه ابن حبان (4265)، وحسّن إسناده ابن تيمية في إبطال التحليل (6/ 258 الفتاوى الكبرى)، والمصنف فيما يأتي، والبوصيري في المصباح (2/ 123)، وضعفه الألباني في السلسلة الضعيفة (4431) بعنعنة أبي إسحاق. ورواه الطيالسى (527) - ومن طريقه البيهقي (7/ 322) - عن زهير عن أبي إسحاق به مرسلًا. ورُوِي من طريق يزيد الدالاني عن أبي العلاء الأودي عن حميد بن عبد الرحمن عن أبي موسى بمعناه. (¬1) برقم (2813).

إحداها: التحيُّل على عدم وقوع الطلاق، وهو نوعان: تحَيُّل على عدم وقوعه مع صحة النكاح بالتّسريح، فيأمرونه أن يقول لها: إذا طلقتك، أو إذا وقع عليك طلاقي، فأنت طالق قبله ثلاثاً, فلا يمكن أن يقع عليها الطلاق بعد هذا، لا مُطْلقًا ولا مُقَيَّدًا عن المسرِّحين، فسدُّوا باب الطلاق، وجعلوا المرأة كالغُلِّ في عُنق الزوج، لا سبيل له إلى طلاقها أبدًا. الحيلة الثانية: التحيُّل على عدم وقوع الطلاق بكونِ النكاح فاسدًا، فلا يقع فيه الطلاق، ويتحيّلون لبيان فساده من وجوه: منها: أن عَدالة الولي شرط في صحته، فإذا كان في الولي ما يَقْدَحُ في عدالته؛ فالنكاح باطل، فلا يقع فيه الطلاق، والقوادح كثيرة، فلا تكاد تُفتِّش فيمن شئت إلا وجدت فيه قادحًا. ومنها: [79 ب] أن عدالة الشهود شرط، والشاهد يفسُق بجلوسه على مقعد حرير، أو استناده إلى مسْنَد حرير، أو جلوسه تحت مركاة (¬1) حرير، أو تجمُّرِه بمجمرة فضة، ونحو ذلك، مما لا يكاد يخلو البيت منه وقت العقد. فيا للعجب! يكون الوطء حلالًا، والنسب لاحقًا، والنكاح صحيحًا، حتى يقع الطلاق، فحينئذ يطلب وجه إفساده! الحيلة الثالثة: التحيُّل بالمخالعة، حتى يفعل المحلوف عليه، فإذا فعله تزوَّجها بعقد جديد. الحيلة الرابعة: إذا وقع الفأس في الرأس، وحنث ولابد، اشترى غلامًا دون البلوغ، وزوَّجه بها، وأمرها أن تمكِّنه من إيلاج الحَشَفة هناك، فإذا فعل وهبها إياه، فانفسخ نكاحها بملكه، فتعتدُّ وتُرَدُّ إلى المطلّق، فإن عجزوا عن ¬

_ (¬1) في الأصل: "حركاة". ولم أجد الكلمتين في المعاجم.

ذلك وأعوزَهم انتقلوا إلى: الحيلة الخامسة: وهي استكراء التيس الملعون المستعار، ليَنْزُوَ عليها، ويُحِلّها بزعمه. فهذه خمس حيل للخاصة. وأما جهال العامة فلما رأوا أن المقصود التحيُّلُ على رَدّها إلى المطلِّق بأي طريق اتفق؛ قالوا: المقصود هو الرجوع، والحيلة مقصودة لغيرها، وأعيان الحيل ليست مقصودة، فاستنبطوا لهم خمس حيلٍ أخرى: إحداهما: أن يأمروا المحلّل بأن يطأها برجله، فيطأها وهي قاعدة أو مضطجعة برجله ثم يخرج، ورأوا أن الوطء بالرجل أسهلُ عليهم وأقلّ مفسدة من الوطء بالآلة؛ فإنه إذا كان كلاهما غير مقصود، فما كان أقل فسادًا كان أقرب إلى المقصود. الحيلة الثانية: أن تكون حاملاً، فتلدُ ذكرًا، وكأنهم قاسُوا الذكر الذي معها خارجًا على الذكر الذي يَشُقُّها داخلاً، وهذا من جنس قياس التيس الملعون على الزوج المقصود! الحيلة الثالثة: أن يَصُبّ المحلِّل عليها دُهنًا، يتشربه جَسَدُها ولا يطأُها، وكأنهم قاسوا تَشَرُّبَ جَسِدها للدهن وسَريانه فيه على تشرُّبه للنُّطْفَة وسَرايتها (¬1) فيه! الحيلة الرابعة: السفر عنها أو سفرها عنه، فإذا قدم ظنَّ أن ذلك كافٍ عن الزوج، ولا أدري من أين ألقَى إليهم الشيطانُ ذلك؟ وكأنهم ظنُّوا أنهم قد التقوا من الان، وأن السفر قطع حكم ما مضى رأسًا! ¬

_ (¬1) م: "سريانها".

فصل: الطلاق الشرعي

الحيلة الخامسة: أن يجتمعا على عَرَفات، فإذا وقف بها على الجبل لم تَحتجْ بعد ذلك إلى زوج آخر عندهم. وقد سُئلنا نحن وغيرنا عن ذلك، وسمعناه منهم! فصل واعلم أن من اتقى الله في طلاقه، فطلَّق كما أمره الله ورسوله وشرعه له، أغناه عن ذلك كله، ولهذا قال تعالى بعد أن ذكر حُكم الطلاق المشروع: {وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا} [الطلاق: 2]؛ فلو اتّقى اللهَ عامةُ المطلقين لاستغنوا بتقواه عن الآصار والأغلال، والمكر والاحتيال؛ فإن الطلاق الذي شرعه الله سبحانه أن يُطلِّقها طاهرًا من غير جماع، ويطلقها واحدة، ثم يدعها حتى تنقضي عِدّتهُا فإن بَدَا له أن يُمسكها في العِدّة أمسكها، وإن لم يراجعها حتى انقضت عدَّتها أمكنه أن يستقبل العَقْد عليها من غير زوج آخر، وإن لم يكن له فيها غرض لم يَضرَّ أن تتزوج بزوج غيره، فمن فعل هذا لم يندم، ولم يحتَجْ إلى حيلة ولا تحليل. ولهذا سُئل ابن عباس عن رجل طلق امرأته مئةً؟ فقال: عَصَيْتَ ربَّك، وفارقت امرأتك، لم تتق الله فيجعل لك مخرجًا (¬1). وقال سعيد بن جُبير (¬2): جاء رجل إلى ابن عباس، فقال: إني طلقت ¬

_ (¬1) رواه الطحاوي في شرح المعاني (4143)، والطبراني في الكبير (11/ 95)، والدارقطني (4/ 13)، والبيهقي في الكبرى (7/ 331، 337)، وصحّحه الألباني في الإرواء (2056). (¬2) رواه عبد الرزاق (6/ 397)، وابن أبي شيبة (4/ 62)، والطحاوي في شرح المعاني (4141، 4142)، والدارقطني (4/ 12 - 14)، والبيهقي في الكبرى (7/ 332)، =

امرأتي ألفًا، فقال: أما ثلاث فتحرَّم عليك امرأتَك، وبقيَّتهن وِزْر، اتخذْت آيات الله هُزُوًا. وقال مجاهد: كنتُ عند ابن عباس، فجاءه رجل، فقال: إنه طلق امرأته ثلاثًا فسكت حتى ظننتُ أنه رادُّها إليه، ثم قال: ينطلق أحدُكم فيركبُ الأحموقة، ثم يقول: يا ابن عباس، يا ابن عباس؟ والله تعالى قال: {وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا} [الطلاق: 2]، وإنك لم تتقِ الله؛ فلا أجد لك مخرجًا، عَصَيْتَ ربك، وبانت منك امرأتك. ذكره أبو داود (¬1). وقد (¬2) روى النسائي (¬3) عن محمود بن لَبيد، قال: أُخْبِرَ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ¬

_ = وغيرُهم من طرق عن سعيد بن جبير به بألفاظِ متقاربة، وفي بعضها أنه طلّق ألفًا ومائة، وفي أخرى أنه طلّق مائة، قال ابن حزم في المحلى (10/ 172): "هذا الخبر في غاية الصحة"، وصحّحه الألباني في الإرواء (2557). (¬1) سنن أبي داود (2199)، ومن طريقه البيهقي في الكبرى (7/ 331)، ورواه أيضًا الطبري في تفسيره (23/ 432 - 433)، والطبراني في الكبير (11/ 88)، والدارقطني (4/ 59، 61)، وغيرهم من طريق عبد الله بن كثير عن مجاهد به، ورواه عبد الرزاق (6/ 397) عن ابن جريج عن مجاهد به نحوَه، وقال: "وذكره مجاهد عن أبيه عن ابن عباس"، وصحّحه المصنّف فيما يأتي، وابن رجب في جامع العلوم والحكم (ص 150)، وابن حجر في الفتح (9/ 362)، والشنقيطي في الأضواء (1/ 111، 117)، والألباني في الإرواء (2055). ورواه الدارقطني (4/ 59) من طريق عبيد الله بن أبي يزيد عن ابن عباس. (¬2) هنا سقط كبير في الأصل، ويستمر إلى ص 578. (¬3) سنن النسائي (3451) من طريق مخرمة بن بكير عن أبيه عن محمود به، واختُلف في صحبة محمود، وفي سماعه من النبيّ - صلى الله عليه وسلم -، وأعلّه بالانقطاع ابن حزم في المحلى =

عن رجل طلّق امرأته ثلاث تطليقات جميعًا، فقام غَضْبانَ، ثم قال: "أيُلْعَبُ بكتاب الله وأنا بين أظْهُرِكم؟ "، حتى قام رجل، فقال: يا رسول الله! ألا أقْتُله؟ وهذه الآثار موافقة لما دلّ عليه القرآن؛ فإن الله سبحانه إنما شرع الطلاق مَرّة بعد مرة. ولم يشرعه جملة واحدة أصلًا. قال تعالى: {الطَّلَاقُ مَرَّتَانِ} [البقرة: 229]، والمرتان في لغة العرب بل وسائر لغات الناس: إنما تكون لما يأتي مرة بعد مرة، فهذا القرآن من أوله إلى آخره، وسُنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وكلام العرب قاطبةً شاهدٌ بذلك، كقوله تعالى: {سَنُعَذِّبُهُمْ مَرَّتَيْنِ} [التوبة: 101]، وقوله تعالى: {أَوَلَا يَرَوْنَ أَنَّهُمْ يُفْتَنُونَ فِي كُلِّ عَامٍ مَرَّةً أَوْ مَرَّتَيْنِ} [التوبة: 126]، وقوله تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِيَسْتَأْذِنْكُمُ الَّذِينَ مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ وَالَّذِينَ لَمْ يَبْلُغُوا الْحُلُمَ مِنْكُمْ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ} [النور: 58]، ثم فسرها بالأوقات الثلاثة. وشواهد هذا أكثر من أن تُحصى. ثم قال سبحانه: {فَإِنْ طَلَّقَهَا فَلَا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ} [البقرة: 230]، فهذه هي المرة الثالثة. فهذا هو الطلاق الذي شرعه الله سبحانه مرةً بعد مرةٍ بعد مرةٍ، فهذا شَرْعُهُ من حيث العدد. ¬

_ = (10/ 168)، وابن كثير في تفسيره (1/ 621)، وقوّاه في إرشاد الفقيه (2/ 194)، وصحّحه ابن التركماني في الجوهر النقي (7/ 333 السنن الكبرى)، والمصنف في الزاد (5/ 241)، وقال ابن حجر الفتح (9/ 362): "رجاله ثقات، لكن محمود بن لبيد ولد في عهد النبي- صلى الله عليه وسلم -، ولم يثبت له منه سماع، وإن ذكره بعضهم في الصحابة فلأجل الرؤية"، وصححه الشنقيطي في الأضواء (1/ 109)، والألباني في غاية المرام (261).

الكلام في التطليق ثلاثا، وأنه يحسب واحدة

وأما شرعه من حيث الوقت: فشرع الطلاق للعدّة، وقد فسّره النبي - صلى الله عليه وسلم - بأن يطلقها طاهرًا من غير جماع (¬1)، فلم يشرع جَمْعَ ثلاث، ولا تطليقتين، ولم يشرع الطلاق في حَيْضِ، ولا في طهر وطئ فيه. وكان المطلق في زمن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كلِّه، وزمَنِ أبي بكر كلِّه، وصَدْرًا من خلافة عمر رضي الله عنهما؛ إذا طلّق ثلاثًا تُحْسَب له واحدة، وفي ذلك حديثان صحيحان: أحدهما رواه مسلم في "صحيحه"، والثاني رواه الإمام أحمد في "مسنده". فأما حديث مسلم (¬2): فرواه من طريق ابن طاوُس، عن أبيه، عن ابن عباس رضي الله عنهما، قال: كان الطلاق على عَهْد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأبي بكر، وسنَتين من خلافة عمر: طلاقُ الثلاث واحدة، فقال عمر رضي الله عنه: إن الناس قد استعجلوا في أمرٍ كانت لهم فيه أناةٌ، فلو أمضيناه عليهم! فأمضاه عليهم. وفي "صحيحه" (¬3) أيضًا عن طاوس: أن أبا الصهباء قال لابن عباس: هاتِ من هَنَاتِك! ألم يكن الطلاقُ الئلاث على عَهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأبي بكر واحدةً؟ فقال: قد كان ذلك، فلما كان في عهد عمر تتايع الناس في الطلاق، فأجازه عليهم. وفي لفظ لأبي داود (¬4): أن رجلًا يقال له أبو الصهباء كان كثير السؤال ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري (5251)، ومسلم (1471) عن ابن عمر. (¬2) برقم (1472/ 15). (¬3) برقم (1472/ 17). (¬4) سنن أبي داود (2251) من طريق أبي النعمان عن حماد بن زيد عن أيوب عن غير =

لابن عباس، قال: أمَا علمت أن الرجل كان إذا طلق امرأته ثلاثًا قبل أن يدخل بها جعلوها واحدةً: على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وأبي بكر، وصدرًا من إمارة عمر رضي الله عنهما؛ فقال ابن عباس: بَلى، كان الرجل إذا طلق امرأته ثلاثًا قبل أن يدخل بها جعلوها واحدة: على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وأبي بكر، وصدرًا من إمارة عمر رضي الله عنهما، فلمّا رأى الناس قد تتايعوا فيها قال: أجْروهنّ عليهم، هكذا في هذه الرواية: قبل أن يدخل بها. وبها أخذ إسحاق بن راهويه، وخَلْقٌ من السلف، جعلوا الثلاث واحدة في غير المدخول بها. وسائر الروايات الصحيحة ليس فيها: قبل الدخول؛ ولهذا لم يذكر مسلم منها شيئًا. وهذا الحديث قد رواه عن ابن عباس ثلاثةُ نَفَرٍ: طاوس وهو أجلُّ من رواه عنه، وأبو الصهباء العدوي، وأبو الجوزاء، وحديثه عند الحاكم في "المستدرك" (¬1). ولفظه: أن أبا الجوزاء أتى ابن عباس، فقال: أتعلم أن ¬

_ = واحد عن طاوس به، ومن طريق أبي داود رواه البيهقي في الكبرى (7/ 338، 339)، وصحّح إسناده المصنف في الزاد (5/ 251، 268)، لكن أُعلّ باختلاط أبي النعمان محمد بن الفضل السدوسي، وقد خولف في إسناده ومتنه؛ ولذا ضعّفه الألباني في السلسلة الضعيفة (1134). (¬1) المستدرك (2792)، ورواه أيضا الدارقطني (4/ 52، 55 - 56)، كلاهما من طريق ابن المؤمل عن ابن أبي ملكية عن أبي الجوزاء به، قال الدارقطني: "عبد الله بن المؤمل ضعيف، ولم يروه عن ابن أبي مليكة غيره"، وقال الذهبيّ متعقِّبًا تصحيح الحاكم: "ابن المؤمل ضعَّفوه"، وقال المصنف فيما يأتي: "الظاهر أن هذه الرواية غير محفوظة، فهي وهمٌ في الكنية، انتقل فيها عبد الله بن المؤمل عن ابن أبي مليكة من أبي الصهباء إلى أبي الجوزاء، فإنه كان سيئ الحفظ، والحفاظ قالوا: أبو الصهباء، وهذا لا يوهن الحديث".

الثلاث كُنّ يُرْدَدْنَ على عهد رسول الله عليه الصلاة السلام إلى واحدة؟ قال: نعم. قال الحاكم: "هذا حديث صحيح الإسناد، ولم يخرجاه". ورواية طاوس نفسه، عن ابن عباس ليس في شيء منها: قبل الدخول، وإنما حكَى ذلك طاوس عن سؤال أبي الصهباء لابن عباس، فأجابه ابن عباس بما سأله عنه، ولعله إنما بلغه جعلُ الثلاث واحدة في حق مُطلِّقٍ قبل الدخول، فسأل عن ذلك ابن عباس، وقال: كانوا يجعلونها واحدة؟ فقال له ابن عباس: نعم، الأمرُ على ما قلت. وهذا لا مفهوم له، فإنّ التقييد في الجواب وقع في مقابلة تقييد السؤال، ومثل هذا لا يُعْتَبَرُ مفهومه. نعم، لو لم يكن السؤال مقيدًا، فقيّد المسؤولُ الجوابَ، كان مفهومه معتبرًا، وهذا كما إذا سُئل عن فأرة وقعت في سَمْن، فقال: "إذا وقعت الفأرة في السمن فألقُوها وما حولهَا وكُلُوه" (¬1)، لم يدل ذلك على تقييد الحكم بالسمن خاصة. وبالجملة، فغير المدخول بها فَرْد من أفراد النساء، فَذُكِرَ النساء مطلقًا في أحد الحديثين، وذُكِرَ بعض أفرادهن في الحديث الآخر، فلا تعارض بينهما. وأما الحديث الآخر، فقال أبو داود في "سننه" (¬2): حدثنا أحمد بن ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري (235) عن ابن عباس. (¬2) سنن أبي داود (2198)، ومن طريقه البيهقي في الكبرى (7/ 339)، وهو في مصنف عبد الرزاق (6/ 390)، قال أبو داود: "حديث نافع بن عجير وعبد الله بن علي بن يزيد بن ركانة عن أبيه عن جدّه أنّ ركانة طلق امرأته البتة فردَّها إليه النبي - صلى الله عليه وسلم - =

صالح: حدثنا عبد الرزاق: أخبرنا ابن جُريج، قال: أخبرني بعض بني أبي رافع مولى النبي - صلى الله عليه وسلم - عن عكرمة، عن ابن عباس، قال: طلق عبد يزيد- أبو رُكانة وإخْوَتِهِ- أمَّ ركانة، ونكح امرأةً من مُزيَنْة، فجاءت إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - فقالت: ما يُغني عنِّي إلا كما تُغني هذه الشعرة، لشعرة أخذتها من رأسها، ففرِّقْ بيني وبينه، فأخذت النبي - صلى الله عليه وسلم - حَمِيّةٌ، فدعا بِركانة وإخوته، ثم قال لجلسائه: "أترون فلاناً يُشبه منه كذا وكذا؟ من عبد يزيد، وفلاناً يشبه منه كذا وكذا؟ "، قالوا: نعم، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: "طَلِّقها"، ففعل، فقال: "راجع امرأتك أمّ رُكانة وإخوته"، فقال: إني طلقتها ثلاثا يا رسول الله؟! قال: "قد علمت، رَاجِعْها"، وتلا: {يَاأَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ} الآية [الطلاق: 1] فأمره أن يراجعها وقد طلقها ثلاثاً، وتلا الآية التي هي وما بعدها صريحة في كون الطلاق الذي شرعه الله لعباده: هو الطلاق الذي يكون للعدّة، فإذا شارفت انقضاءها فإما أن يُمسكها بمعروف، أو يفارقها بمعروف، وأنه سبحانه شرعه على وجه التوسِعَة والتيّسير، فلعلّ المطلِّق أن يَندم، فيكون له سبيل إلى الرّجعة، وهو قوله تعالى: {لَا تَدْرِي لَعَلَّ اللَّهَ يُحْدِثُ بَعْدَ ذَلِكَ أَمْرًا} [الطلاق: 1]، فأمره بالمراجعة. وتلاوته الآية كافٍ في الاستدلال على ما كان عليه الحال. ¬

_ = أصحّ؛ لأنّ ولد الرجل وأهله أعلم به أنّ ركانة إنما طلق امرأته البتة فجعلها النبي - صلى الله عليه وسلم - واحدة"، وقال النووي في شرح صحيح مسلم (10/ 71): "هذه الرواية ضعيفة عن قوم مجهولين، وإنما الصحيح منها أنه طلَّقها البتة"، ورجّح غيرهما أنه طلّقها ثلاثًا، قال ابن تيمية كما في المجموع (33/ 15): "أثبت أحمد حديثَ الثلاث، وبين أنّه الصواب". وسيأتي تخريج حديثِ ركانة الذي فيه أنه طلّق البتة.

فإن قيل: فهذا الحديث فيه مجهول، وهو بعض بني أبي رافع، والمجهول لا تقوم به حجة. فالجواب من ثلاثة أوجه: أحدها: أن الإمام أحمد قد قال في "المسند" (¬1): حدثنا سعد بن إبراهيم، حدثنا أبي، عن محمد بن إسحاق، قال: حدثني داود بن الحُصين، عن عِكْرمة مولى ابن عباس، عن ابن عباس قال: طلّق رُكانةُ بن عبد يزيد أخو المُطّلب امرأته ثلاثًا في مجلس واحد، فحزنَ عليها حُزنًا شديدًا، فسأله رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "كيف طلّقتها؟ " قال: طلّقتُها ثلاثًا، قال؛ "في مجلس واحد؟ " قال: نعم، قال: "فإنما تلك واحدة؛ فارْجِعْها إن شئت"، قال: فراجعها. قال: وكان ابن عباس يرى أن الطلاق عند كل طُهْر. ¬

_ (¬1) مسند أحمد (1/ 265)، ورواه أيضًا أبو يعلى (2500) والبيهقي في الكبرى (7/ 339) وغيرهما من طرق عن ابن إسحاق به، وأُعلّ بداود بن الحصين فإنّه ثقة إلا في عكرمة، واختُلِف في صفة طلاق ركانة، فقال البيهقي: "هذا الإسناد لا تقوم به الحجة، مع ثمانية رووا عن ابن عباس رضي الله عنهما فتياه بخلاف ذلك، ومع رواية أولاد ركانة أنّ طلاق ركانة كان واحدة"، وقال ابن عبد البر في الاستذكار (6/ 9): "هذا حديث منكر خطأ، وإنما طلق ركانة زوجته البتة"، وقال القرطبي في تفسيره (3/ 131): "الذي صحّ من حديث ركانة أنه طلق امرأته البتة لا ثلاثًا"، وضغف الحديث الإمام أحمد كما في معا لم السنن (3/ 236)، وقال البخاري: مضطرب، كما في سنن الترمذي (3/ 480)، وضعَّفه ابن الجوزي في العلل المتناهية (1059)، وجوّد إسناده ابن تيمية كما في المجموع (32/ 312، 33/ 67، 71، 73، 85)، وصحّحه المصنف في الزاد (5/ 263)، ونقل فيما ياتي تصحيحَ أبي الحسن اللخمي، وحسنه بمجموع طريقيه الألباني في الإرواء (7/ 145).

ورواه الحافظ أبو عبد الله محمد بن عبد الواحد المقدسي في "مخُتارته" (¬1) التي هي أصحّ من "صحيح الحاكم". فهذا موافق للأول، وكلاهما موافق لحديث طاوس، وأبي الصّهباء، وأبي الجوزاء، عن ابن عباس به، وطاوس وعكرمة أعلم أصحاب ابن عباس به؛ فإن عكرمة كان مولاه مصاحبًا له، وكان يقيِّده على العلم، وكان طاوس خاصًا عنده، يجتمع به كثيرًا، ويدخل عليه مع الخاصَّة، وكان طاوس وعكرمة يفتيان بأن الثلاث واحدة، وكذلك ابن إسحاق، لمَّا صحَّ عنده هذا الحديث أفتى بموجبه، وكان يقول: جهل السّنّهَ فيُردُّ إليها. فرواةُ هذا الحديث أفتوا به، وعملوا به. وعن ابن عباس فيه روايتان: إحدا هما: موافقة عمر رضي الله عنه تأديبًا وتعزيرًا للمطلقين، والثانية: الإفتاء بموجبه. وروى حماد بن زيد، عن أيوب، عن عكرمة، عن ابن عباس -وحَسْبُك بهذا السند صِحَّةً وجلالةً-: إذا قال: أنت طالق ثلاثًا بفمٍ واحد فهي واحدة. ذكره أبو داود في "السنن" (¬2). ¬

_ (¬1) المختارة (11/ 362، 363) من طريق اْحمد ومن طريق أبي يعلى. (¬2) سنن أبي داود (2/ 226) معلّقًا، وقال عقبه: "ورواه إسماعيل بن إبراهيم عن أيوب عن عكرمة هذا قوله لم يذكر ابن عباس وجعله قول عكرمة"، قال الشنقيطي في الأضواء (1/ 129): "لم يثبت عن ابن عباس أنه أفتى في الثلاث بفم واحد أنها واحدة، وما روى عنه أبو داود من طريق حماد عن أيوب عن عكرمة عنه، فهو معارَض بما رواه أبو داود نفسه من طريق إسماعيل بن إبراهيم عن أيوب عن عكرمة أن ذلك من قول عكرمة لا من قول ابن عباس، وتُرجَّح رواية اسماعيل بن إبراهيم على رواية حماد بموافقة الحفاظ لإسماعيل في أنّ ابن عباس يجعلها ثلاثاً لا واحدة".

الحكم بذلك هو الموافق للقرآن ولأقوال الصحابة وللقياس ومصالح بني آدم

الوجه الثاني: أن هذا المجهول هو من التابعين، من أبناء مولى النبي - صلى الله عليه وسلم -، ولم يكن الكذب مشهورًا فيهم، والقصة معروفة محفوظة، وقد تابعه عليها داود بن الحُصين وهذا يدل على أنه حفظها. الوجه الثالث: أن روايته لم يُعتمد عليها وحدها، فقد ذكرنا رواية داود بن الحصين، وحديث أبي الصهباء، فهَبْ أن وجود روايته وعدمها سواء؛ ففي حديث داود كفاية، وقد زالت تُهمة تَدْليس ابن إسحاق بقوله: حدثني. وقد احتجَّ الأئمة بهذا السند بعينه في حديث تقدير العرايا بخمسة أوسُق أو دونها (¬1)، وأخذوا به وعملوا بموجَبه، مع مخالفة عمومات الأحاديث الصحيحة في مَنع بيع الرُّطب بالتّمر (¬2) له. والقول بهذه الأحاديث موافق لظاهر القرآن، ولأقوال الصحابة، وللقياس، ومصالح بني آدم: أما ظاهر القرآن: فإن الله سبحانه شرع الرّجْعة في كل طلاق إلا طلاق غير المدخول بها والمطلقة طلقة ثالثة بعد الأُولَيَيْن، وليس في القرآن طلاقٌ بائن قط إلا في هذين الموضعين، وأحدهما بائن غير مُحرِّم، والثاني بائن محرِّم، وقال تعالى: {الطَّلَاقُ مَرَّتَانِ}، والمرتان ما كان مرة بعد مرة، كما تقدم. ¬

_ (¬1) اْخرجه البخاري (2195)، ومسلم (1541) وغيرهما من طريق داود بن الحصين عن أبي سفيان عن أبي هريرة. وهو غير الإسناد المذكور سابقًا. (¬2) منها حديث ابن عمر الذي أخرجه البخاري (2171، 2205)، ومسلم (1542).

وأما القياس: فإن الله سبحانه قال: {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ أَزْوَاجَهُمْ وَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ شُهَدَاءُ إِلَّا أَنْفُسُهُمْ فَشَهَادَةُ أَحَدِهِمْ أَرْبَعُ شَهَادَاتٍ بِاللَّهِ إِنَّهُ لَمِنَ الصَّادِقِينَ} [النور: 6]، ثم قال: {وَيَدْرَأُ عَنْهَا الْعَذَابَ أَنْ تَشْهَدَ أَرْبَعَ شَهَادَاتٍ بِاللَّهِ} [النور: 8]. فلو قال: أشهد بالله أربع شهادات أنيِّ صادق، أو قالت: أشهدُ بالله أربع شهاداتٍ أنه كاذبٌ كانت شهادةً واحدةً، ولم تكن أربعًا؛ فكيف يكون قوله: أنت طالقٌ ثلاثًا ثلاث تطليقاتٍ؟ وأيُّ قياسٍ أصحُّ من هذا؟ وهكذا كل ما يعتبر فيه العدد من الإقرار ونحوه. ولهذا لو قال المقرّ بالزنى: إني أقرّ بالزنى أربع مرات؟ كان ذلك مرةً واحدة، وقد قال الصحابة لماعزٍ: إن أقررت أربعًا رجمك رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فلو قال: أُقِرُّ به أربع مرات كانت مرة واحدة، فهكذا الطلاق سواءً. فهذا القياس، وتلك الآثار، وذاك ظاهر القرآن. وأما أقوال الصحابة: فيكفي كون ذلك على عهد الصديق، ومعه جميع الصحابة، لم يختلف عليه منهم أحد، ولا حُكي في زمانه القولان، حتى قال بعض أهل العلم: إن ذلك إجماع قديم؛ وإنما حدثَ الخلافُ في زمن عمر رضي الله عنه، واستمر الخلاف في المسألة إلى وقتنا هذا، كما سنذكره. قالوا: فقد صحَّ بلا شك أنهم كانوا في زمن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وأبي بكر مُدّة خلافته كلها، وصَدْرًا من خلافة عمر رضي الله عنهما: يوقعون على من طلق ثلاثًا واحدة. قالوا: فنحن أحقّ بدعوى الإجماع منكم؛ لأنه لا يُعرف في عهد الصِّدِّيق أحدٌ رد ذلك ولا خالفه، فإن كان إجماعٌ فهو من جانبنا أظهرُ ممن

يَدّعيه من نِصفِ خلافة عمر رضي الله عنه وهَلُمّ جَرًّا، فإنه لم يزل الاختلاف فيها قائمًا، وذكره أهلُ العلم في مصنفاتهم قديمًا وحديثًا. فمِمّن ذكر الخلاف في ذلك: داود وأصحابه، واختاروا أن الثلاث واحدة. وممن حكى الخلاف: الطحاوي في كتابه "اختلاف العلماء" (¬1)، وفي كتاب " تهذيب الآثار" (¬2)، وأبو بكر الرازي في كتاب "أحكام القرآن" (¬3)، وحكاه ابنُ المنذر، وحكاه ابن حزم (¬4)، وحكاه المؤرِّج في "تفسيره"، وحكى حجّة القولين، ثم قال: وهي مسألة خلاف بين العلماء، وحكاه محمد بن نَصْر المَرْوَزِي (¬5)، واختار القول الثالث (¬6): أنها واحدة في حق البِكْر، ثلاث في حق المدخول بها. وحكاه من المتأخرين: المازَرِيّ في كتاب "المُعْلِم" (¬7)، وحكاه عن محمد بن مُقاتل من أصحاب أبي حنيفة، وهو من أجلّ أصحابهم من الطبقة الثالثة من أصحاب أبي حنيفة، فهو أحد القولين في مذهب أبي حنيفة. وحكاه التِّلِمْسَاني في "شرح التفريع" في مذهب مالك قولًا في مذهبه، بل رواية عن ¬

_ (¬1) انظر مختصره للجصاص (2/ 411). (¬2) أي شرح معاني الآثار (3/ 55 - 59). (¬3) أحكام القرآن للجصاص الرازي (1/ 388). (¬4) المحلى (10/ 167). (¬5) انظر: اختلاف العلماء (ص 133). (¬6) ح: "بالثلاث". (¬7) المعلم (2/ 127).

مالك، وحكاه غيره قولًا في المذهب، فهو أحد القولين في مذهب مالك، وأبي حنيفة. وحكاه شيخ الإسلام عن بعض أصحاب أحمد، وهو اختياره، وأسوأُ أحواله أن يكون كبعض أصحاب الوجوه في مذهبه، كالقاضي وأبي الخطاب، وهو أجلّ من ذلك، فهو قول في مذهب أحمد بلا شك. وأما التابعون، فقال ابن المنذر: كان سعيد بن جُبير، وطاوس، وأبو الشّعْثاء، وعطاء، وعَمْرو بن دينار، يقولون: من طلق البِكْر ثلاثًا فهي واحدة. قال: واختُلِف في هذا الباب عن الحسن: فرُوي عنه أنها ثلاث، وذكر قتادة، وحُميد، ويونس عنه: أنه رجع عن قوله بعد ذلك، وقال: واحدة بائنة. وقال محمد بن نصر في كتاب "اختلاف العلماء" (¬1): أجمع أهل العلم: أن الرجل إذا طلق امرأته تطليقةً، ولم يدخل بها، أنها بانَتْ منه، وليس عليها عِدّة، واختلفوا في غير المدخول بها، إذا طلقها الزوج ثلاثًا بلفظٍ واحد: فقال الأوزاعي، ومالك، وأهل المدينة: لا تحلّ له حتى تنكح زوجًا غيره. وروي عن ابن عباس، وغير واحد من التابعين أنهم قالوا: إذا طلقها ثلاثًا قبل أن يدخل بها فهي واحدة. وأكثر أهل الحديث على القول الأول. قال: وكان إسحاق (¬2) يقول: طلاق الثلاث للبكر واحدة، وتأوّل حديث ¬

_ (¬1) (ص 133). (¬2) في بعض النسخ هنا وفيما بعد: "أبي إسحاق". وهو خطأ، والمراد هنا ابن راهويه.

طاوس، عن ابن عباس- كان الطلاق الثلاث على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وأبي بكر، وعمر رضي الله عنهم تجُعل واحدة - على هذا. قلت: هذا تأويل إسحاق. وأما أبو داود فجعله منسوخًا، فقال في كتاب "السنن": "باب نسخ المراجعة بعد التطليقات الثلاث"، ثم ساق حديث ابن عباس (¬1) رضي الله عنهما: أن الرجل كان إذا طلّق امرأته فهو أحق برجعتها، وإن طلقها ثلاثًا، ثم نُسخ ذلك بقوله تعالى: {الطَّلَاقُ مَرَّتَانِ} [البقرة: 229]، ثم ذكر في أثناء الباب حديث أبي الصهباء. وكأنه اعتقد أن حكمه كان ثابتًا لمّا كان الرجل يراجع امرأته كلما طلقها. وهذا وَهمٌ، لوجهين: أحدهما: أن المنسوخ هو ثبوت الرجعة بعد الطلاق ولو بلغ ما بلغ، كما كان في أول الإسلام. الثاني: أن النسخ لا يثبت بعد موت رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وكونُ الثلاث واحدةً قد عُمِل به في خلافة الصديق كلها، وأول خلافة عمر رضي الله عنه. فمن المستحيل أن يُنسخ بعد ذلك. وأما ابن المنذر فقال: لم يكن ذلك عن علم النبي - صلى الله عليه وسلم -، ولا عن أمره. ¬

_ (¬1) سنن أبي داود (2197)، ومن طريقه البيهقي في الكبرى (7/ 337)، ورواه أيضا النسائي (3554)، كلاهما من طريق علي بن الحسين بن واقد عن أبيه عن يزيد النحوي عن عكرمة عن ابن عباس به، قال الشوكاني في السيل (1/ 426): "في إسناده علي بن الحسين وفيه مقال خفيف"، وصححه الألباني في الإرواء (2080).

قال: وغير جائز أن يُظَنّ بابن عباس أنه يحفظ عن النبي - صلى الله عليه وسلم - شيئًا، ثم يُفْتِي بخلافه، فلما لم يجز ذلك دَلّ فُتْيا ابن عباس رضي الله عنه على أن ذلك لم يكن عن علم النبي - صلى الله عليه وسلم - ولا عن أمره؛ إذ لو كان ذلك عن علم النبي - صلى الله عليه وسلم - ما اسْتَحَلَّ ابنُ عباس أن يفتيَ بخلافه، أو يكون ذلك منسوخًا، استدلالًا بفُتيا ابن عباس. وهذا المسلك ضعيف جدًّا لوجوه: أحدها: أن حديث عِكرمة عن ابن عباس- في رد النبي - صلى الله عليه وسلم - امرأة رُكانة عليه بعد الطلاق الثلاث - يُبطل هذا التأويل رأسًا. الثاني: أن هذا لو كان صحيحًا لقال ابن عباس لأبي الصهباء: ما أدري أبَلَغ ذلك رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أو لم يبلغه؟ فلما أقرّه على ذلك إقرارَ راوٍ لذلك: عُلم أنه مما بلغه (¬1). الثالث: أنه لو كان ذلك صحيحًا لم يقل عمرُ: إن الناس قد استعجلوا في شيء (¬2) كانت لهم فيه أناة، بل كان الواجب أن يبين أن السنة عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في خلاف ذلك، وأن هذا العمل من الناس خلافُ دين الإسلام وشرع محمد - صلى الله عليه وسلم -، ولا يقول: فلو أنا أمضيناه عليهم! فإن هذا إنما يكون إمضاءً من الله تعالى ورسوله، لا من عمر. الرابع: أنه من الممتنع أو المستحيل أن يكون خيارُ الخلق يُطَلِّقُون في عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وعَهْد خليفته من بعده ويُراجعون، على خلاف دينه، ¬

_ (¬1) ح: "فلما أقره على ذلك كان إقراره دليلًا على أنه مما بلغه". (¬2) في بعض النسخ: "أمر".

فيطلِّقون طلاقًا محرمًا، ويراجعون رَجْعة محرمة، ولا يُعْلِمون بذلك رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وهو بَينَ أظْهُرِهم. ثم حديث ابن عباس الذي رواه أحمد يردّ ذلك، ثم تردُّه فتوى ابن عباس في إحدى الروايتين عنه (¬1)، وهي ثابتة عنه بأصحّ إسناد؛ كما أن الرواية الأخرى ثابتة عنه. وكيف يستمر جَهْلُ أخيار الأمة بالطلاق والرجعة مدة حياته - صلى الله عليه وسلم -، ومدة حياة الصديق رضي الله عنه كلها، وشَطْرًا من خلافة عمر رضي الله عنه، ثم يظهر لهم بعد ذلك الطلاق والرجعة الجائزان؟ وكيف يصحُّ قول عمر رضي الله عنه: إن الناس قد استعجلوا في شيء كانت لهم فيه أناة؟ وكيف يصح قوله: فلو أنا أمضيناه عليهم؟ فهذا المسلك كما ترى! وأما الإمام أحمد رحمه الله فإنما ردَّه بفتوى ابن عباس بخلافه، وهو راوي الحديثين. قال الأثرم: سألت أبا عبد الله عن حديث ابن عباس: كان الطلاقُ الثلاثُ على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وأبي بكر، وعمر رضي الله عنهما: طلاق الثلاث واحدة؛ بأي شيء تدفعه؟ قال: برواية الناس عن ابن عباس من وجوهٍ خلافَه. وكذلك نقل عنه ابن منصور. وهذا المسلك إنما يجيء على إحدى الروايتين: أن الصحابيّ إذا عمل ¬

_ (¬1) تقدم تخريجها.

بخلاف الحديث لم يُحتجّ به، واتُّبع عمل الصحابي. والمشهور عنه أن العبرة بما رواه الصحابي لا بقوله، إذا خالف الحديث. ولهذا أخذ برواية ابن عباس في حديث بريرة (¬1)، وأن بَيْعَ الأمَة لا يكون طلاقًا لها؛ لأن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - خَيّرها، ولو انفسخ النكاح ببيعها لم يُخيّرها، مع أن مذهب ابن عباس أن بيع الأمة طلاقها، واحتج بظاهر القرآن، وهو قوله تعا لى: {وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ النِّسَاءِ إِلَّا مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ} [النساء: 24]، فأباح وَطْءَ مملوكته المزوَّجة، ولو كان النكاح باقيًا لم ينفسخ لم يُبَحْ له وطؤها. والجمهور وأحمد معهم خالفوه في ذلك، وقالوا: لا يكون بيعها طلاقًا، واحتجوا بحديث بَرِيرة، وتركوا رأيه لروايته؛ فإن روايته معصومة، ورأيه غير معصوم. والمشهور من مذهب الشافعي أن الأخذ بروايته دون رأيه، والمشهور من مذهب أبي حنيفة عكس ذلك، وعن أحمد روايتان. فهذا المسلك في رد الحديث لا يقْوى. وسلك آخرون في رد الحديث مسلكًا آخر؛ فقالو ا: هو حديث مضطرب لا يصح، ولذلك أعرض عنه البخاري، وترجم في "صحيحه" (¬2) على خلافه، فقال: "باب جواز الطلاق الثلاث في كلمة، لقوله تعالى: {الطَّلَاقُ مَرَّتَانِ}، ثم ذكر حديث اللّعان، وفيه: فطلقها ثلاثًا قبل أن يأمره رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، ولم يغير عليه النبي - صلى الله عليه وسلم -، وهو لا يقرّ على باطل. ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري (5279)، ومسلم (1504) عن عائشة. (¬2) انظر: الصحيح مع الفتح (9/ 361).

قالوا: ووجه اضطرابه: أنه تارة يُروَى: عن طاوس، عن ابن عباس، وتارةً: عن طاوس، عن أبي الصهباء، عن ابن عباس، وتارة: عن أبي الجوزاء، عن ابن عباس، فهذا اضطرابه من جهة السند. وأما المتن: فإن أبا الصهباء تارة يقول: ألم تعلم أن الرجل كان إذا طلق امرأته ثلاثًا قبل أن يدخل بها؛ جعلوها واحدة؟ وتارة يقول: ألم يكن الطلاق الثلاث على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وأبي بكر، وصدرًا من خلافة عمر واحدة؟ فهذا يخالف اللفظ الآخر. وهذا المسلك من أضعف المسالك، وردُّ الحديث به ضَرْبٌ من التّعَنُّتِ. ولا يُعرف أحد من الحفاظ قَدحَ في هذا الحديث ولا ضَعّفه، والإمام أحمد لما قيل له: بأي شيء ترده؟ قال: برواية الناس عن ابن عباس خلافه، ولم يردّه بتضعيف ولا قدح في صحته، وكيف يتهيّا القدحُ في صحته؛ ورواتُه كلهم أئمة حفاظ؟ حَدّث به عبد الرزاق وغيره عن ابن جُريج بصيغة الإخبار، وحَدّث به كذلك ابن جُريج عن ابن طاوس، وحدث به ابن طاوس عن أبيه، وهذا إسناد لا مطعن فيه لطاعن، وطاوس من أخص أصحاب ابن عباس، ومذهبه أن الثلاث واحدة. وقد رواه حَمّاد بن زيد، عن أيوب، عن غير واحد، عن طاووس، فلم ينفرد به عبد الرزاق، ولا ابن جُريج، ولا عبد الله بن طاوس، فالحديث من أصح الأحاديث. وتَرْكُ رواية البخاري له لا يوهِنه، وله حكم أمثاله من الأحاديث الصحيحة التي تركها البخاري لئلّا يطوِّل كتابه؛ فإنه سمّاه: "الجامع المختصر الصحيح ... "، ومثل هذا العذر لا يقبله من له حظٌّ من العلم.

وأما رواية مَنْ رواه عن أبي الجوزاء: فإن كانت محفوظةً فهي مما يزيد الحديث قوة، وإن لم تكن محفوظة وهو الظاهر، فهي وَهْم في الكُنية (¬1)؛ انتقل فيها عبد الله بن المؤمل عن ابن أبي مُلَيكة: من أبي الصهباء إلى أبي الجَوْزاء؛ فإنه كان سيء الحفظ، والحفاظ قالوا: أبو الصهباء، وهذا لا يوهِن الحديث. وهذه الطريق عند الحاكم في "المستدرك" (¬2). وأما رواية من رواه مُقَيّدًا قبل الدخول: فقد تقدم أنها لا تناقض رواية الآخرين، على أنها عند أبي داود: عن أيوب، عن غير واحد، ورواية الإطلاق: عن مَعْمر، وابن جريج، عن ابن طاوس، عن أبيه، فإن تعارضا فهذه الرواية أولى، وإن لم يتعارضا فالأمر واضح. وحديث داود بن الحُصين، عن عكرمة، عن ابن عباس رضي الله عنه، عن النبي - صلى الله عليه وسلم -: صريحٌ في كون الثلاث واحدةً في حق المدخول بها. وغاية ما يُقَدّر في حديث أبي الصهباء أن قوله: قبل الدخول زيادة من ثقة، فيكون الأخذ بها أولى. وحينئذٍ فيدلّ أحد حديثي ابن عباس على أن هذا الحكم ثابت في حق البِكْر، وحديثَه الآخر على أنه ثابت في حكم الثيِّب أيضا، فأحد الحديثين يُقَوِّي الآخر، ويَشْهد بصحته، وبالله التوفيق. وقد ردَّه آخرون بمسلك أضعف من هذا كله، فقالوا: هذا حديث لم يروه عن رسول الله إلا ابن عباس وحده، ولا عن ابن عباس إلا طاوس وحده. فقالوا: فأين أكابر الصحابة وحُفّاظهم عن رواية مثل هذا الأمر العظيم، الذي الحاجةُ إليه شديدة جدًّا؟ فكيف خفي هذا على جميع ¬

_ (¬1) م، ظ: "من الكتبة". (¬2) تقدم تخريجها.

الصحابة، وعَرَفه ابن عباس وحده؟ وخفي على أصحاب ابن عباس كلِّهم، وعلمه طاوس وحده؟ وهذا أفسد من جميع ما تقدم، ولا تُردّ أحاديث الصحابة وأحاديث الأئمة الثقات بمثل هذا فكم من حديثٍ تفرّد به واحد من الصحابة، لم يَرْوِه غيره، وقَبِلته الأمة كلهم، فلم يردَّه أحد منهم. وكم من حديث تفرّد به من هو دون طاوس بكثير، ولم يردَّه أحد من الأئمة. ولا نعلم أحدًا من أهل العلم قديمًا ولا حديثًا قال: إن الحديث إذا لم يروه إلا صحابي واحد لم يُقْبَل، وإنما يحُكى عن أهل البدع ومَنْ تَبعهم في ذلك أقوالٌ، لا يُعرف لها قائل من الفقهاء. وقد تفرّد الزهرى بنحو ستين سُنّة، لم يروها غيره (¬1)، وعملت بها الأمة، ولم يردوها بتفرُّده. هذا مع أن عكرمة روى عن ابن عباس رضي الله عنهما حديث رُكانة، وهو موافق لحديث طاوس عنه، فإن قَدَح في عكرمة أبطل وتناقض؛ فإن الناس احتجوا بعكرمة، وصحح أئمة الحفاظ حديثه، ولم يلتفتوا إلى قَدْح من قَدَحَ فيه. فإن قيل: فهذا هو الحديث الشاذ، وأقل أحواله: أن يُتوقّفَ فيه، ولا يجُزم بصحته عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. قيل: ليس هذا هو الشاذ، وإنما الشذوذ: أن يخالف الثقاتِ فيما رووه، ¬

_ (¬1) قاله مسلم في صحيحه (3/ 1268)، وفيه: "نحوٌ من تسعين حديثًا".

فيشِذّ عنهم بروايته. فأما إذا روى الثقة حديثًا منفردًا به، لم يرو الثقات خلافه، فإن ذلك لا يسمى شاذًّا، وإن اصْطُلِحَ على تسميته شاذًا بهذا المعنى لم يكن الاصطلاح موجِبًا لردِّه، ولا مُسَوِّغًا له. قال الشافعي (¬1) رحمه الله: وليس الشاذ أن ينفرد الثقة برواية الحديث، بل الشاذ أن يروي خلاف ما رواه الثقات. قاله في مناظرته لبعض من ردّ الحديث بتفرُّد الراوي به. ثم إن هذا القول لا يمكن أحدًا من أهل العلم، ولا من الأئمة، ولا من أتباعهم طَردُه، ولو طردوه لبطل كثير من أقوالهم وفتاويهم. والعجب أن الرّادِّين لهذا الحديث بمثل هذا الكلام قد بَنوا كثيرًا من مذاهبهم على أحاديث ضعيفة، انفرد بها رواتها، لا تعرف عن سواهم، وذلك أشهر وأكثر من أن نعدّهُ. ولمَّا رأى بعضُهم ضعف هذه المسالك (¬2)، وأنها لا تجدي شيئًا: استروح إلى تأويله، فقال: معنى الحديث أن الناس كانوا يطلِّقون على عهد رسول الله، وأبي بكر، وعمر واحدةً، ولا يوقعون الثلاث، فلما كان في أثناء خلافة عمر رضي الله عنه أوقعوا الثلاث، وأكثروا من ذلك، فأمضاه عليهم عمر رضي الله عنه كما أوقعوه، فقوله: كانت الثلاث على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - واحدة؛ أي: في التطليق وإيقاع المطلِّقين، لا في حكم الشرع. قال هذا القائل: وهذا من أقوى ما يجُاب به، وبه يزول كل إشكال. ¬

_ (¬1) أخرجه عنه الحاكم في معرفة علوم الحديث (ص 119). (¬2) م: "هذا المسلك".

ولَعَمْرُ الله، لو سكت هذا كان خيرًا له وأستر؛ فإن هذا المسلك من أضعف ما قيل في الحديث، وسياقُه يبين بطلانه بيانًا ظاهرًا لا إشكال فيه، وكأن قائله أحبّ الترويج على قوم ضعفاء العلم، مُخلِدين إلى حَضيض التقليد، فروّج عليهم مثل هذا. وهذا القائل كأنه لم يتأمل ألفاظ الحديث، ولم يُعْنَ بطُرُقه؛ فقد ذكرنا من بعض ألفاظه قول أبي الصهباء لابن عباس: أما علمت أَن الرجل كان إذا طلّق امرأته ثلاثا قبل أن يدخل بها جعلوها واحدة على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وأبي بكر رضي الله عنه، وصدرًا من إمارة عمر رضي الله عنه؛ فأقرّ ابن عباس بذلك، وقال: نعم. وأيضا فقول هذا المتأول: إنهم كانوا يُطلِّقون على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - واحدة؛ فقد نقضه هو بعينه وأبطله، حيث احتجّ على وقوع الثلاث بحديث الملاعِن (¬1)، وحديث محمود بن لبيد: أن رجلاً طلق امرأته على عهد النبي - صلى الله عليه وسلم - ثلاثاً، فغضب النبي - صلى الله عليه وسلم - وقال: "أيُلعَبُ بكتاب الله، وأنا بين أظهُركُم؟ " (¬2)؛ ثم زاد هذا القائل في الحديث زيادة من عنده، فقال: "وأمضاه عليه، ولم يَرُدّه". وهذه اللفظة موضوعة، لا تُروى في شيء من طرق هذا الحديث البَتّة، وليست في شيء من كتب الحديث، وإنما هي من كِيس هذا القائل، حمله عليها فَرْطُ التقليد. ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري (423) ومسلم (1492) عن سهل بن سعد. (¬2) تقدم تخريجه.

ومحمود بن لَبيد لم يذكر ما جرى بعد ذلك، من إمضاءٍ أو ردٍّ إلى واحدة. والمقصود أن هذا القائل تناقضَ، وتأول الحديث تأويلًا يُعلم بطلانه من سياقه. ومن بعض ألفاظه: أن الطلاق الثلاث على عهد رسول الله وأبي بكر وصدرَا من خلافة عمر يُرد إلى الواحدة، وهذا موافق للَّفظ الآخر: كان إذا طلق امرأته ثلاثًا جعلوها واحدةً، وجميع ألفاظه متفقة على هذا المعنى، يفسر بعضها بعضًا. فجعل هذا وأمثالُه المُحْكَم مُتشابهًا، والواضح مُشْكِلًا! وكيف يصنع بقوله: فلو أمضيناه عليه، فإن هذا يدل على أنه رأي من عمر رضي الله عنه رآه أن يُمضيه عليهم لتتايُعهم فيه، وشدِّهم على أنفسهم ما وسَّعه الله عليهم، وجمعهم ما فَرّقه، وتطليقهم على غير الوجه الذي شرعه، وتعدِّيهم حدوده. ومن كمال علمه رضي الله عنه: أنه علم أن الله سبحانه وتعالى لم يجعل المخرج إلا لمن اتقاه، وراعى حدوده، وهؤلاء لم يتَّقوه في الطلاق، ولم يراعوا حدوده، فلا يستحقون المخرج الذي ضمنه لمن اتقاه. ولو كان الثلاث تقع ثلاثًا على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وهو دينه الذي بعثه الله تعالى به، لم يُضِف عمر رضي الله عنه إمضاءه إلى نفسه، ولا كان يصح هذا القول منه، وهو بمنزلة أن يقول في الزنى، وقتل النفس، وقذف المحصنات: لو حرّمناه عليهم، فحرَّمه عليهم، وبمنزلة أن يقول في وجوب الظهر والعصر، ووجوب صوم شهر رمضان، والغُسْلِ من الجنابة: فلو فرضناه عليهم، ففرضه عليهم.

فدعوا هذه التأويلات المستكرهة، التي كلما نظر فيها طالب العلم ازداد بصيرةً في المسألة، وقويَ جانبها عنده؛ فإنه يرى أن الحديث لا يُردُّ يمثل هذه الأشياء. وقد سلك أبو عبد الرحمن النسائي في "سننه" (¬1) في الحديث مسلكًا آخر، فقال: "باب طلاق الثلاث المتفرقة قبل الدخول بالزوجة"، ثم ساقه، قال: "حدثنا أبو داود: حدثنا أبو عاصم، عن ابن جُريج، عن ابن طاوس، عن أبيه: أن أبا الصهباء جاء إلى ابن عباس رضي الله عنهما فقال: يا ابن عباس! ألم تعلم أن الثلاث كانت على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وأبي بكر، وصدرًا من خلافة عمر تُردّ إلى الواحدة؟ قال: نعم". وأنت إذا طابقت بين هذه الترجمة وبين لفظ الحديث: وجدتها لا تدلُّ عليها، ولا تُشعر بها بوجه من الوجوه، بل الترجمة لون، والحديث لون آخر، وكأنه لما أشكل عليه وجه الحديث حمله على ما إذا قال لغير المدخول بها: أنت طالق، أنت طالق، أنت طالق، طَلُقَتْ واحدة. ومعلومٌ أن هذا الحكم لم يزل ولا يزال كذلك، ولا يتقيد ذلك بزمان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأبي بكر، وصدرًا من خلافة عمر رضي الله عنه، ثم يتغير في خلافة عمر رضي الله عنه، ويُمضي الثلاث بعد ذلك على المطلِّق، والحديث لا يندفع بمثل هذا البتّة. وسلك آخرون في الحديث مسلكًا آخر، فقالوا: هذا حديث يخالف أصول الشرع، فلا يُلتفت إليه. ¬

_ (¬1) سنن النسائي (6/ 145).

احتجاج جمهور الفقهاء على الشافعي في تجويزه جمع الثلاث

قالوا: لأن الله سبحانه ملّك الزوج ثلاث تطليقات، وجعل إيقاعها إليه، فإن قلنا بقول الشافعي ومن وافقه: إن جمع الثلاث جائز، فقد فعل ما أُبيح له، فيصح (¬1). وإن قلنا: جمع الثلاث حرام، وهو طلاق بِدْعِيّ، فالشارع إنما ملكه تفريق الثلاث فُسْحةَ له، فإذا جمعها فقد جَمع ما فُسح له في تفريقه، فلزمه حكمه كما لو فرّقه. قالوا: وهذا كما أنه يملك تفريقَ المطلَّقات وجمعهنّ، فكذلك يملك تفريق الطلاق وجمعه، فهذا قياس الأصول، فلا نُبطله بخبر الواحد. قال الاَخرون: هذا القياس لا يصلح أن يَثْبُتَ به هذا الحكم، لو لم يُعارَض بنص، فَضْلَا عن أن يقدَّم على النص، وهو قياس مخالف لأصول الشرع، ولغة العرب، وسُنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وعمل الصحابة في عهد الصِّدِّيق. فأما مخالفته لأصول الشرع: فإن الله سبحانه إنما ملَّك المطلِّق بعد الدخول طلاقًا يملك فيه الرجعة، ويكون مخيّرَا فيه بين الإمساك بالمعروف وبين التسريح بالإحسان، ما لم يكن بعِوَضِ، أو يستوفي فيه العِدَد، والقرآن قد بيّن ذلك كله؛ فبيّن أن الطلاق قبل الدخول تَبِينُ به المرأة، ولا عِدة عليها، وبيَّن أن المفتدية تملك نفسها، ولا رجعة لزوجها عليها، وبين أن المطلَّقة الطَّلْقةَ المسبوقة بطلقتين قبلها تَبين منه وتحرم عليه، فلا تحِلّ له حتى تنكح زوجَا غيره، وبَيّن أن ما عدا ذلك من الطلاق فللزَّوج فيه الرجعة، وهو مخيّر فيه بين الإمساك بالمعروف والتسريح بإحسان. ¬

_ (¬1) "فيصح" ساقطة من م.

وهذا كتاب الله عز وجل قد تضمَّن هذه الأنواع الأربعة وأحكامها، وجعل سبحانه وتعالى أحكامها من لوازمها التي لا تنفكّ عنها، فلا يجوز أن تتغيّر أحكامها البتة، فكما لا يجوز في الطلاق قبل الدخول أن تثبت فيه الرّجعة، وتجب به العِدّة، ولا في الطلقة المسبوقة بطلقتين أن يثبت فيها الرّجعة، وأن تُباح بغير زوجٍ وإصابة، ولا في طلاق الفِدية أن تثبت فيه الرجعة، فكذلك لا يجوز في النوع الآخر من الطلاق أن يتغير حكمه، فيقع على وجهٍ لا تثبت فيه الرجعة؛ فإنه مخالفٌ لحكم الله تعالى الذي حكم به فيه، وهذا صفة لازمة له، فلا يكون على خلافها البتة. ومن تأمل القرآن وجده لا يحتمل غير ذلك، فما شرع الله سبحانه الطلاق إلا وشرع فيه الرجعة، إلا الطلاق قبل الدخول، وطلاق الخُلع، والطلقةَ الثالثة، فبيننا وبينكم كتاب الله، فإن كان فيه شيء غير هذا فأوجِدُونا إياه. ومما يوضح ذلك: أن جمهور الفقهاء من الطوائف الثلاثة احتجوا على الشافعي في تجويزه جمع الثلاث بالقرآن، وقالوا: ما شرع الله سبحانه جمعَ الطلاق الثلاث، وما شرع الطلاق بعد الدخول بغير عوض إلا شرع فيه الرجعة؛ ما لم يستوفِ العدد. واحتجوا عليه بقوله تعالى: {الطَّلَاقُ مَرَّتَانِ} [البقرة: 229]، قالوا: ولا يُعقل في لغة من لغات الأمم المرتان إلا مرة بعد مرة. فعارضهم بعض أصحابه بقوله تعالى: {وَمَنْ يَقْنُتْ مِنْكُنَّ لِلَّهِ وَرَسُولِهِ وَتَعْمَلْ صَالِحًا نُؤْتِهَا أَجْرَهَا مَرَّتَيْنِ} [الأحزاب: 31]، وقوله - صلى الله عليه وسلم -: "ثلاثةٌ يُؤتَوْنَ أجْرَهُم مَرتين" (¬1). ¬

_ (¬1) اْخرجه البخاري (97)، ومسلم (154) عن أبي موسى الأشعري.

فأجابهم الآخرون بأن المرَّتين والمرَّات يراد بها الأفعال تارة، والأعيان تارة، وأكثر ما تستعمل في الأفعال، وأما الأعيان فكقوله في الحديث: "انشقَّ القمرُ على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مرتين" (¬1)، أي: شِقتين وفِلقتين. ولمَّا خفي هذا على من لم يحُطْ به علمًا زعم أن الانشقاق وقع مرة بعد مرة في زمانين، وهذا مما يعلم أهل الحديث ومن له خِبرة بأحوال الرسول - صلى الله عليه وسلم - وسيرته أنه غلط، وأنه لم يقع الانشقاق إلا مرة واحدة، ولكن هذا وأمثاله فهموا من قوله "مرتين" المرة الزمانية. إذا عُرف هذا فقوله: {نُؤْتِهَا أَجْرَهَا مَرَّتَيْنِ} [الأحزاب: 31]، وقوله: {يُؤْتَوْنَ أَجْرَهُمْ مَرَّتَيْنِ} [القصص: 54] أي: ضعفين؛ فيؤتون أجرهم مضاعفًا، وهذا يمكن اجتماع المرتين منه في زمان واحد. وأما المرَّتان من الفعل فمحالٌ اجتماعهما في زمن واحد؛ فإنهما مِثلان، واجتماعُ المثلين محال، وهو نظير اجتماع حَرفين في آنٍ واحدٍ من متكلمٍ واحدٍ، وهذا مستحيل قطعًا، فيستحيل أن يكون مرّتا الطلاق في إيقاع واحد. ولهذا جعل مالك وجمهور العلماء من رَمَى الجمار بسبع حصَيات جُملةً: أنه غير مُؤَدٍّ للواجب عليه، وإنما يُحسَب له رَمي حصاةٍ واحدة، فهي رميةٌ لا سبع رميات. واتفقوا كلهم على أنه لو قال في اللعان: أشهد بالله أربع شهادات أني صادق، كانت شهادة واحدة. وفى الحديث الصحيح: "من قال في يوم: سبحان الله وبحمده مئة مرة ¬

_ (¬1) أخرجه مسلم (2802) عن أنس.

حُطَّتْ عنه خطاياه، ولو كانت مثل زَبد البحر" (¬1). فلو قال: "سبحان الله وبحمده مئة مرة" هذا اللفظ لم يستحقَّ الثواب المذكور، وكانت تسبيحةً واحدة. وكذلك قوله: "تسبِّحون الله دُبُر كل صلاة ثلاثًا وثلاثين، وتحمدون ثلاثًا وثلاثين، وتكبرون أربعًا وثلاثين" (¬2). لو قال: "سبحان الله ثلاثًا وثلاثين" لم يكن مُسَبِّحًا هذا العدد، حتى يأتي به واحدة بعد واحدة. ونظائر ذلك في الكتاب والسنة أكثر من أن تُذْكَر. قالوا: فقوله تعالى: {الطَّلَاقُ مَرَّتَانِ} إما أن يكون خبرًا في معنى الأمر؛ أي: إذا طلقتم فطلقوا مرتين، وإما أن يكون خبرًا عن حُكمه الشرعي الديني؛ أي: الطلاق الذي شَرَعْتُه لكم وشرعتُ فيه الرجعة: مرتان. وعلى التقديرين: إنَّما يكون ذلك مرّة بعد مرة، فلا يكون مُوقِعًا للطلاق الذي شرع إلا إذا طلق مرة بعد مرة، ولا يكون موقعًا للمشروع بقوله: أنت طالق ثلاثًا، ولا مرتين. قالوا: ويوضح ذلك أنه حصر الطلاق المشروع في مرتين، فلو شَرَعَ جَمْعَ الطلاق في دَفْعةٍ واحدة لم يكن الحصر صحيحًا، ولم يكن الطلاق كله مرتان، بل كان منه مرتان، ومنه مرة واحدة تجمعه، وهذا خلاف ظاهر القرآن، وأنه لا طلاق للمدخول بها إلا مرتان، وتبقى الثالثة المحرمة بعد ذلك. قالوا: ويدل عليه أن الطلاق اسم مُحلىّ باللام، وليست للعهد، بل ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري (6405) ومسلم (2691) عن أبي هريرة. (¬2) أخرجه مسلم (596) عن كعب بن عجرة.

للعموم، فالمراد بالآية: كل الطلاق مرتان، والمرة الثالثة التي تُحرِّمها عليه، وتُسقِط رَجْعَتَهُ، وهذا صريح في أن الطلاق المشروع هو المتفرق؛ لأن المرات لا تكون إلا متفرقة، كما تقدم. قالوا: ويدُل عليه قول تعالى: {فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ} [البقرة: 229]، فهذا حكم كل طلاق شرعه الله، إلا الطلقة المسبوقة بتطليقتين قبلها؛ فإنه لا يبقى بعدها إمساك. قالوا: ويدلُّ عليه قوله سبحانه: {وَإِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ سَرِّحُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ} [البقرة: 231]، و"إذا" من أدوات العموم، كانَّه قال: أيُّ طلاقٍ وقع منكم في أيِّ وقتٍ فحُكْمُه هذا، إلا أنه أخرج من هذا العموم الطَّلقة المسبوقة باثنتين، فنفيُ ما عداها داخلٌ في لفظ الآية نصًّا أو ظاهرًا. قالوا: ويدل عليه أيضًا قوله تعالى: {وَإِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَلَا تَعْضُلُوهُنَّ أَنْ يَنْكِحْنَ أَزْوَاجَهُنَّ} [البقرة: 232]، فهذا عام في كل طلاق غير الثالثة المسبوقة باثنتين، فالقرآن يقتضي أن ترجع إلى زوجها إذا أراد في كل طلاق، ماعدا الثالثة. قالوا: ويدل عليه أيضًا قوله تعالى: {يَاأَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ وَأَحْصُوا الْعِدَّةَ وَاتَّقُوا اللَّهَ رَبَّكُمْ لَا تُخْرِجُوهُنَّ مِنْ بُيُوتِهِنَّ وَلَا يَخْرُجْنَ إِلَّا أَنْ يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ وَتِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ لَا تَدْرِي لَعَلَّ اللَّهَ يُحْدِثُ بَعْدَ ذَلِكَ أَمْرًا (1) فَإِذَا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ فَارِقُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ} [الطلاق: 1، 2]، ووجه الاستدلال

بالآية من وجوه: أحدها: أنه سبحانه وتعالى إنما شرع أن يطلّق لعدتها، أي: لاستقبال عِدّتها، فيطلق طلاقَا يعقبه شروعها في العدة، ولهذا أمر النبي - صلى الله عليه وسلم - عبد الله بن عمر رضي الله عنهما لما طلق امرأته في حَيْضها أن يراجعها (¬1)، وتلا هذه الآية تفسيرًا للمراد بها، وأن المراد بها الطلاقُ في قُبُل العِدّة، وكذلك كان يقرؤها عبد الله بن عمر. ولهذا قال كل من قال بتحريم جمع الثلاث: إنه لا يجوز له أن يُرْدِف الطلقة بأخرى في ذلك الطّهر، لأنه غير مطلق للعِدّة؛ فمان العدة قد استُقْبِلت من حين الطلقة الأولى، فلا تكون الثانية للعدة. ثم قال الإمام أحمد في ظاهر مذهبه ومن وافقه: إذا أراد أن يطلقها ثانيةً طلَّقها بعد عقدٍ أو رَجْعةِ؛ لأن العدة تنقطع بذلك، فإذا طلقّها بعد ذلك أخرى طلقها للعدة. وقال في رواية أخرى عنه: له أن يطلقها الثانية في الطّهر الثاني، ويطلقها الثالثة في الطهر الثالث، وهو قول أبي حنيفة. فيكون مطلقًا للعدة أيضًا؛ لأنها تَبْتَني على ما مضى. والصحيح هو الأول، وأنه ليس له أن يُردف الطلاق قبل الرّجعة أو العقد؛ لأن الطلاق البائن لم يكن لاستقبال العدة، بل هو طلاق لغير العدّة، فلا يكون مأذونًا فيه؛ فإن العدة إنما تُحسب من الطلقة الأولى؛ لأنه طلاق للعدة، بخلاف الثانية والثالثة. ¬

_ (¬1) تقدم تخريجه.

ومن جعله مشروعًا قال: هو الطلاق لتمام العدة، والطلاق لتمامها كالطلاق لاستقبالها، وكلاهما طلاق للعدة. وأصحاب القول الأول يقولون: المراد بالطلاق للعدة الطلاق لاستقبالها، كما في القراءة الأخرى التي تفسِّر القراءة المشهورة: {فَطَلِّقُوهُنَّ في قُبُلِ عِدَّتِهِنَّ}. قالوا: فإذا لم يُشرع إرْداف الطلاق للطلاق قبل الرجعة أو العقد، فأنْ لا يُشرع جمعُه معه أولى وأحْرى؛ فإن إرداف الطلاق أسهل من جمعه، ولهذا يُسَوَّغ الإرداف في الأطهار مَن لا يجُوِّز الجمعَ في الطهر الواحد. وقد احتج عبد الله بن عباس على تحريم جمع الثلاث بهذه الآية. قال مجاهد (¬1): كنت عند ابن عباس، فجاءه رجل، فقال: إنه طفق امرأته ثلاثًا، فسكت حتى ظننتُ أنه رَادُّها إليه، ثم قال: ينطلق أحدكم فيركب الأُحموقة، ثم يقول: يا ابن عباس؛ وإن الله عز وجل قال: {وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا} [الطلاق: 2]، فما أجد لك مخرجًا، عصيت ربك، وبانت منك امرأتك، وإن الله عز وجل قال: {يَاأَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَطَلِّقُوهُنَّ} في قُبُلِ عِدَّتِهِنَّ. وهذا حديث صحيح. فَفَهِمَ ابن عباس من الآية أن جمع الثلاث محرمٌ، وهذا فَهْمُ مَنْ دعا له النبي - صلى الله عليه وسلم - أن يُفَقَهه الله في الدين، ويُعَلِّمه التأويل (¬2)، وهو من أحسن الفهوم كما تقرر. ¬

_ (¬1) تقدَّم تخريجه. (¬2) كما في الحديث الذي أخرجه أحمد (1/ 266، 314، 328، 335) وابن حبان (7055) وغيرهما، وهو حديث صحيح.

الوجه الثاني من الاستدلال بالآية: قوله تعالى: {لَا تُخْرِجُوهُنَّ مِنْ بُيُوتِهِنَّ وَلَا يَخْرُجْنَ} [الطلاق: 1]، وهذا إنما هو في الطلاق الرجعى، فأما البائن فلا سُكنى لها ولا نفقة، لسنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الصحيحة التي لا مَطعن في صحتها (¬1)، الصريحة التي لا شبهة في دلالتها، فدلّ على أن هذا حكم كل طلاق شرعه الله تعالى ما لم يسبقه طلقتان قبله، ولهذا قال الجمهور: إنه لا يشرع له، ولا يملك إبانتها بطلقة واحدة بدون العِوض. وأبو حنيفة قال: يملك ذلك؛ لأن الرجعة حقّه، وقد أسقطها. والجمهور يقولون: ثبوتُ الرجعة وإن كان حقًّا له فلها عليه حقوق الزوجية، فلا يملك إسقاطَها إلا بمخالعة أو باستيفاء العِدَدِ، كما دلّ عليه القرآن. الوجه الثالث: أنه قال: {وَتِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ} [الطلاق: 1]، فإذا طلقها ثلاثًا جملةً واحدة فقد تعدّى حدود الله، فيكون ظالمًا. الوجه الرابع: أنه سبحانه قال: {لَا تَدْرِي لَعَلَّ اللَّهَ يُحْدِثُ بَعْدَ ذَلِكَ أَمْرًا} [الطلاق: 1]، وقد فهم أعلم الأمّة بالقرآن -وهم الصحابة رضي الله عنهم أجمعين- أن الأمر هاهنا هو الرجعة، فقالوا: وأيّ أمرٍ يُحدِثُ بعد الثلاث؟ الوجه الخامس: قوله تعالى: {فَإِذَا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ فَارِقُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ} [الطلاق: 2]، فهذا حكم كل طلاقٍ شرعه الله إلا أن يُسبَق ¬

_ (¬1) أخرجها مسلم (1480) عن فاطمة بنت قيس.

بطلقتين قبله، وقد احتجّ ابن عباسٍ على تحريم جمع الثلاث بقوله تعالى: {يَاأَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَطَلِّقُوهُنَّ} في قُبُل عِدَتهِنّ، كما تقدم؛ وهذا حق؛ فإن الآية إذا دلت على منع إرداف الطلاق في طُهر أو أطهار قبل رجعة أو عقد كما تقدم؛ لأنه يكون مُطلقا في غير قُبُل العدّة = فلأن تدُلَّ على تحريم الجمع أولى وأحرى. قالوا: والله سبحانه شرع الطلاق على أيسر الوجوه وأرْفَقها بالزوج والزوجة؛ لئلا يتسارع العبد في وقوعه، ومفارقة حبيبه، ومدَّ له وقتَ العدة أجلاً؛ لاستدراك الفارط بالرجعة. فلم يُبحْ له أن يُطلق المرأة في حال حيضها؛ لأنه وقت نُفرته عنها، وعدم قدرته على استمتاعه بها، ولا عَقِيبَ جماعها، لأنه قد قَضى غرضه منها، وربَّما فَتَرت رغبته فيها، وزهد في إمساكها لقضاء وطره، فإذا طلقها في هاتين الحالتين ربما يندم فيما بعد هذا، مع ما في الطلاق في الحيض من تطويل العدة، وعَقِيبَ الجماع من طلاق مَن لعلها قد اشتمل رَحِمُها على ولدٍ منه، فلا يريد فراقها. فأما إذا حاضت ثم طهرت فنفسه تتوق إليها؛ لطول عهده بجماعها، فلا يُقْدِمُ على طلاقها في هذه الحال إلا لحاجته إليه، فلم يُبحْ له الشارع أن يطلِّقها إلا في هذه الحال، أوفي حال استبانة حملها؛ لأن إقدامه أيضًا على طلاقها في هذه الحال دليلٌ على حاجته إلى الطلاق. وقد أكَّد النبي - صلى الله عليه وسلم - هذا بمنعه لعبد الله بن عمر أن يطلق في الطّهر الذي يلي الحيضة التي طلّق فيها، بل أمره أن يراجعها حتى تطهر، ثم تحيض، ثم تطهر، ثم إن بدا له أن يُطلِّقها فلْيُطَلِّقها، وفى ذلك عدة حكَم:

منها: أن الطهر المتصل بالحيضة هو وهي في حكم القرْء الواحد، فإذا طلقها في ذلك الطهر فكأنه طلقها في الحيضة؛ لاتصاله بها، وكونه معها كالشيء الواحد. الثانية: أنه لو أُذن له في طلاقها في ذلك الطهر فيصير كأنه راجع لأجل الطلاق، وهذا ضِدّ مقصود الرجعة؛ فإن الله تعالى إنما شرعها للإمساك، ولَمِّ شَعَثِ النكاح، وعَود الفراش، فلا يكون لأجل الطلاق؛ فيكون كأنه راجع ليطلِّق، وإنما شرعت الرجعة ليُمسك. وبهذا بعينه أبطلنا نكاح المحلِّل؛ فإن الله سبحانه وتعالى شرع النكاح للإمساك والمعاشرة، والمحلِّل تزوج ليطلِّق، فهو مضادٌّ الله تعالى في شرعه ودينه. الثالثة: أنه إذا صبر عليها حتى تحيض، ثم تطهر، ثم تحيض، ثم تطهر، زال ما في نفسه من الغضب الحامل له على الطلاق، وربما صَلحت الحال بينهما، وأقْلعت عمّا يدعوه إلى طلاقها، فيكون تطويل هذه المدة رحمةً به وبها. وإذا كان الشارع ملتفتًا إلى مثل هذه الرحمة والشفقة على الزوج، وشرَعَ الطلاق على هذا الوجه الذي هو أبعدُ شيء عن الندم، فكيف يليق بشرعه أن يشرع إبانتها وتحريمها عليه بكلمة واحدة، يجمع فيها ما شرعه متفرقًا، بحيث لا يكون له سبيل إليها؟ وكيف يجتمع في حكمة الشارع وحُكمه هذا وهذا؟ فهذه الوجوه ونحوها مما بيَّن بها الجمهورُ أن جمعَ الثلاث غير مشروع، هي بعينها تبيِّن عدم الوقوع، وأنه إنما يقع المشروع وحده، وهي الواحدة.

فصل: ذكر أدلة من أجاز الطلاق ثلاثا بلفظ واحد

قالوا: فتبيَّن أنَّا بأصول الشرع وقواعده أسعدُ منكم، وأن قياس الأصول وقواعد الشرع من جانبنا، وقد تأيدت بالسنة الصحيحة التي ذكرناها. وقولكم: إن المطلق ثلاثًا قد جمع ما فُسح له في تفريقه، هو إلى أن يكون حجةً عليكم أقرب، فإنه إنما أُذن له فيه ومُلَّكَهُ مفرَّقا لا مجموعًا، فإذا جمع ما أُمر بتفريقه فقد تعدى حدود الله وخالف ما شرعه، ولهذا قال من قال من السلف: رجلٌ أخطأ السنة، فيُردّ إليها. فهذا أحسن من كلامهم وأبين، وأقرب إلى الشرع والمصلحة. ثم هذا ينتقض عليكم بسائر ما ملّكه الله تعالى العبدَ، وأذِن فيه مُفرّقًا فأراد أن يجمعه، كرَمْي الجمار الذي إنما شُرعَ له مفرّقًا، واللعان الذي شرع كذلك، وأيمان القسامة التي شرعت كذلك. ونظير قياسكم هذا: أن له أن يُؤخَر الصلوات كلها ويُصلِّيها في وقتٍ واحدٍ، لأنه جمع ما أُمر بتفريقه! على أن هذا قد فهمهُ كثير من العوام، يؤخرون صلاة اليوم إلى الليل، ويصلُّون الجميع في وقت واحد، ويحتجُّون بمثل هذه الحجة بعينها، ولو سكتُّم عن نُصرة المسألة بمثل ذلك لكان أقوى لها. فصل فاستَروحَ بعضُهم إلى مسلك آخر غير هذه المسالك، لمّا تبين له فسادها، فقال: هذا حديث واحد، والأحاديث الكثيرة عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - دالّة على خلافه، وذكروا أحاديث: منها: ما في "الصحيحين" (¬1) عن فاطمة بنت قيس: أن أبا حَفْص بن ¬

_ (¬1) أخرجه مسلم (1480)، ولم يخرجه البخاري.

المغيرة طلقها البتّة وهو غائب، فأرسل إليها وكيلَه بشعير، فسَخِطَته، فجاءت رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فذكرت له ذلك؟ فقال: "ليس لك عليه نفقة". وقد جاء تفسير هذه البتة في الحديث الآخر الصحيح (¬1): أنه طلقها ثلاثاً، فلم يجعل لها النبي - صلى الله عليه وسلم - سُكنَى ولانفقة. فقد أجاز عليه الثلاث، وأسقط بذلك نفقتها وسُكناها. وفى "المسند" (¬2) أن هذه الثلاث كانت جميعًا، فروَى من حديث الشعبي: أن فاطمة خاصمت أخا زوجها إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - لما أخرجها من الدار، ومنعها النفقة، فقال: "ما لكَ ولابنةِ قيسٍ؟ "، قال: يا رسول الله! إن أخي طلقها ثلاثًا جميعًا ... وذكر الحديث. ومنها: ما في "الصحيحين" (¬3) عن عائشة رضي الله عنها: أن رجلاً طلّق امرأته ثلاثًا، فتزوجت، فطُلِّقت، فسُئل النبي - صلى الله عليه وسلم -: أتحِلّ للأول؟ قال: " لا، حتى يذوق عُسَيْلتها كما ذاق الأول". ووجه الدليل: أنه لم يستفصل: هل طلقها ثلاثًا مجموعة أو متفرقة؟ ¬

_ (¬1) هو طريق آخر للحديث السابق. (¬2) مسند أحمد (6/ 373، 416) عن يحيى بن سعيد عن مجالد عن الشعبي به، قال ابن القيم فيما يأتي: "لم يقل ذلك عن الشعبي غيرُ مجالد، مع كثرة من روى هذه القصّةَ عن الشعبي، فتفرَّد مجالد على ضعفه من بينهم بقوله: ثلاثًا جميعَا،، ثم وجّهه على تقدير صحته، ولعلّ هذا التقدير متحقّق؛ فقد توبع مجالد في روايته هذه، حيث رواه الطبراني في الكبير (24/ 383) من طريق محمد بن سليمان لوين عن محمد بن جابر عن حبيب بن أبي ثابت عن الشعبي عنها قالت: طلَّقني زوجي ثلاثًا جميعًا. (¬3) البخاري (2639) ومسلم (1433).

ولو اختلف الحال لوجب الاستفصال. ومنها: ما اعتمد عليه الشافعي في قصة الملاعنة: أن عُويمرًا العَجْلاني أتى رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فقال: يا رسول الله! أرأيتَ رجلاً وجد مع امرأته رجلاً، فيقتله فتقتلونه، أو كيف يفعل؛ فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "قد أنْزِل فيك وفي صاحبتك، فاذهب فائْتِ بها"، قال سهل: فتلاعنا وأنا مع الناس عند رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فلمّا فرغا من تلاعنهما قال عُويمر: كذبتُ عليها يا رسول الله إن أمسكتُها، فطلَّقها ثلاثًا قبل أن يأمره رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. قال الزهري: وكانت تلك سُنّة المتلاعنين. متفق على صحته (¬1). قال الشافعي: فقد أقرّه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على الطلاق ثلاثًا، ولو كان حرامًا لما أقرّه عليه. ومنها: ما رواه النسائي (¬2) عن محمود بن لبيد، قال: أُخبر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن رجل طلّق امرأته ثلاث تطليقات جميعًا، فقام غضبان، ثم قال: "أيُلْعَبُ بكتاب الله وأنا بين أظهركم؟ "، حتى قام رجلٌ فقال: يا رسول الله! ألا أقتله؟ ولم يقل: إنه لم يقع عليه إلا واحدة، بل الظاهر أنه أجازها عليه؛ إذ لو كانت زوجته ولم يقع عليه إلا واحدة لبيّن له ذلك؛ لأنه طلقها ثلاثًا يعتقد لزومها، فلو لم يلزمه لقال له: هي زوجتك بعدُ، وتأخير البيان عن وقت الحاجة لا يجوز. ¬

_ (¬1) البخاري (5309)، ومسلم (1492) عن سهل بن سعد الساعدي. (¬2) (6/ 142، 143)، وتقدم تخريجه.

ومنها: ما رواه أبو داود وابن ماجه عن رُكانة: أنه طلق امرأته البتة، فأتى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال: "ما أردتَ؟ "، قال: واحدة، قال: "آلله ما أردتَ بها إلا واحدة؟ " قال: آلله ما أردتُ بها إلا واحدة. ورواه الترمذي، وفيه: فقال: يا رسول الله! إني طلقت امرأتي البتة، فقال: "ما أردتَ بها؟ "، فقلت: واحدة، قال: "والله؟ " قلت: والله، قال: "فهو ما أردتَ" (¬1). قال أبو داود: "هذا أصح من حديث ابن جُريج: أن رُكانة طلق امرأته ثلاثًا". قال ابن ماجه: "سمعت أبا الحسن علي بن محمد الطَّنافِسيّ يقول: ما أشرفَ هذا الحديثَ! ". ¬

_ (¬1) سنن أبي داود (2210)، سنن الترمذي (1177)، سنن ابن ماجه (2051)، ورواه أيضًا الطيالسي (1188)، وابن أبي شيبة (4/ 91)، وابن أبي عاصم في الآحاد والمثاني (443)، وأبو يعلى (1537، 1538)، والعقيلي في الضعفاء (2/ 90، 282، 3/ 254)، والطبراني في الكبير (5/ 70، 15/ 44)، وابن عدي في الكامل (3/ 225، 5/ 258)، والدارقطني (4/ 34)، وغيرهم عن الزبير بن سعيد عن عبد الله بن علي بن يزيد بن ركانة عن أبيه عن جده، وصحّحه أبو داود كما نقل الدارقطني، وابن حبان (4274)، والحاكم (2807)، والنووي في شرح صحيح مسلم (10/ 71)، وابن دقيق في الإلمام (1333)، وحسنه ابن كثير في إرشاد الفقيه (2/ 197)، وأعلّه غيرهم بالاضطراب في إسناده ومتنه، وضعفِ رواته وجهالتهم، وممّن ضغفه أحمد كما في العلل المتناهية (1058)، والبخاري كما نقل الترمذي، وابن حزم في المحلى (10/ 191)، وابن تيمية كما في المجموع (32/ 311، 33/ 10، 67، 73)، والمصنّف فيما يأتي، والشوكاني في النيل (7/ 11)، والألباني في الإرواء (2063).

قال أبو عبد الله ابن ماجه: "أبو عُبَيْدٍ تركه ناحيةً، وأحمد جَبُن عنه". ووجه الدلالة: أنه حلّفه ما أراد بها إلا واحدة؟ وهذا يدل على أنه لو أراد بها أكثر من واحدة لألزمه ذلك، ولو كانت واحدة مُطْلقًا لم يفترق الحالُ بين أن يريد واحدة أو أكثر. وإذا كان هذا في الكناية فكيف في الطلاق الصريح؛ إذا صرح فيه بالثلاث؟ ومنها: ما رواه الدارقطني (¬1) من حديث حَمّاد بن زيد، حدثنا عبد العزيز بن صُهيب، عن أنس، قال: سمعت مُعاذ بن جَبَل يقول: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: "يا معاذ! مَنْ طلّق للبِدعة واحدة أو اثنتين أو ثلاثًا ألزمناه بدعته". ومنها: ما رواه الدارقطني (¬2) من حديث إبراهيم بن عُبيد الله بن ¬

_ (¬1) سنن الدارقطني (4/ 20، 44) من طريق إسماعيل بن أبي أمية الذارع عن حماد به، وبهذا الإسناد رواه البيهقي في الكبرى (7/ 327)، ورواه الدارقطني أيضًا (4/ 45، 20) من طريق إسماعيل الذارع عن سعيد بن راشد عن حميد الطويل عن أنس عن معاذ به، قال الدارقطني: "إسماعيل بن أبي أمية ضعيف متروك الحديث"، وذكره ابن حزم في المحلى (10/ 165) من مسند أنس وقال: "موضوع بلا شكّ"، وقال المصنف فيما يأتي وفي الزاد (5/ 237): "هذا حديث باطل"، وضعفه المناوي في التيسير (2/ 832)، وهو في السلسلة الضعيفة (6/ 434). (¬2) سنن الدارقطني (4/ 20) من طريق عبيد الله بن الوليد وصدقة بن أبي عمران عن إبراهيم به، وبهذا الإسناد رواه الخطيب في تاريخه (14/ 227)، وابن عساكر في تاريخه (64/ 303)، قال الدارقطني: "رواته مجهولون وضعفاء". ورواه عبد الرزاق (6/ 393) عن يحيى بن العلاء عن عبيد الله بن الوليد عن إبراهيم عن داود بن عبادة بن الصامت قال طلق جدّي امرأة له ... قال ابن حزم في المحلى (10/ 170): "هذا الحديث في غاية السقوط؛ لأنه من طريق يحيى وليس بالقوي، عن عبيد الله =

عُبادة بن الصامت، عن أبيه، عن جده، قال: طلّق بعضُ آبائي امرأته ألفًا، فانطلق بنوه إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فقالوا: يا رسول الله! إن أبانا طلق امرأته ألفًا، هل له من مَخْرج؟ فقال: "إن أباكم لم يَتق الله فيجعل له مخرجًا! بانت منه بثلاثٍ على غير السنة، وتسعُ مئةٍ وسبعة وتسعون إثمٌ في عنقه". ومنها: ما رواه الدارقطني (¬1) أيضًا من حديث زاذان عن علي رضي الله عنه، قال: سمع النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - رجلاً طلّق البتة، فغضب، وقال: "أتتخذون آيات الله هُزُوًا (¬2) ولعبًا؟ من طلّق البتة ألزمناه ثلاًثا، لا تحلّ له حتى تنكح زوجًا غيره". ¬

_ = وهو هالك، عن إبراهيم بن عبيد الله وهو مجهول لا يعرف، ثم هو منكر جدًّا؛ لأنه لم يوجد قط في شيء من الآثار أن والد عبادة أدرك الإسلام، فكيف جدّه؟ وهو محال بلا شك، ثم ألفاظه متناقضة"، وتبعه المصنف في الزاد (5/ 262). ورواه ابن راهويه -كما في المطالب العالية (1704) - وابن عدي في الكامل (4/ 323) من طريق عبيد الله بن الوليد عن داود بن إبراهيم عن عبادة بن الصامت، وهو في السلسلة الضعيفة (1211). (¬1) سنن الدارقطني (4/ 20) من طريق إسماعيل بن أبي أمية القرشي عن عثمان بن مطر عن عبد الغفور عن أبي هاشم عن زاذان به، وبهذا الإسناد رواه ابن النجار في ذيل تاريخ بغداد (18/ 78)، قال الدارقطني: "إسماعيل هذا كوفي ضعيف الحديث"، وقال المصنف فيما يأتي: "في إسناده مجاهيل وضعفاء"، وضعفه ابن عبد الهادي في التنقيح (2818)، والذهبي في التنقيح (2/ 206)، وقال ابن حجر في الدراية (2/ 102): "إسناده ضعيف جدًّا". ورواه أبو نعيم في أخبار أصبهان (2/ 134) من طريق قتيبة بن مهران عن عبد الغفور به، وحكم عليه الألباني بالوضع في السلسلة الضعيفة (2894). (¬2) زاد في ت: "ودين الله هزوا".

ومنها: ما رواه الدارقطني (¬1) من حديث الحسن البصري، قال: حدثنا عبد الله بن عمر أنه طلق امرأته وهى حائض، ثم أراد أن يُتبعها بتطليقتين أُخريين عند القَرائن، فبلغ ذلك رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فقال: "يا ابن عمر! ما هكذا أمرك الله تعالى، إنك قد أخطأت السّنة، والسنة أن تستقبل الطّهر، فتُطَلِّقَ عند ذلك أو أمسِكْ". فقلت: يا رسول الله! أرأيت لو طلقتها ثلاثًا، أكان يحلّ لي أن أراجعها؟ قال: "لا، كانت تبين منك، وتكون معصية". ومنها: ما رواه أبو داود، والنسائي (¬2) عن حماد بن زيد، قال: قلت ¬

_ (¬1) سنن الدارقطني (4/ 31) عن شعيب بن رزيق عن عطاء الخراساني عن الحسن به، وبهذا الإسناد رواه الطبراني في مسند الشاميين (2455، 2456)، والبيهقي في الكبرى (7/ 330، 334)، وأعلّه ابن حزم في المحلى (15/ 175) بشعيب وقال: "هذا الحديث في غاية السقوط"، قال البيهقي: "هذه الزيادات التي أتى بها عن عطاء ليست في رواية غيره، وقد تكلموا فيه"، وقال في المعرفة (5/ 461): "أتى عطاء في هذا الحديث بزيادات لم يتابَع عليها، وهو ضعيف في الحديث، لا يُقبل منه ما يتفرَّد به"، وقال المصنف فيما يأتي: "لا ريب أن الثقات الأثبات الأئمّة رووا حديث ابن عمر هذا فلم يأت أحد منهم بما أتى به شعيب البتة؛ ولهذا لم يرو حديثَه هذا أحد من أصحاب الصحيح ولا السنن"، وقوى إسناده الذهبي في التنقيح (2/ 255)، قال ابن عبد الهادي في تنقيحه (4/ 403): "في ذلك نظرٌ، بل الحديث فيه نكارة، وبعض رواته متكلَّم فيه"، وحكم بنكارته الألباني في الإرواء (2054). (¬2) سنن أبي داود (2206)، سنن النسائي (3410)، سنن الترمذي (1178)، ورواه أيضا البزار (8572)، والبيهقي في الكبرى (7/ 349)، وصحّحه الحاكم (2824)، قال النسائي: "هذا حديث منكر"، وتبعه ابن العربي في القبس (2/ 729)، وأعله البخاري بالوقف، ابن حزم في المحلى (10/ 119) بذلك وبجهالة كثير، قال البيهقي: "كثير هذا لم يثبت من معرفته ما يوجب قبول روايته، وقول العامة بخلاف روايته"، وهو في ضعيف سنن أبي داود (379).

لأيوب: هل علمت أحدًا قال في "أمرك بيدك": إنها ثلاث غيرَ الحسن؟ قال: لا. ثم قال: اللهم غفْرًا، إلا ما حدثني قَتادة عن كثير مولى ابن سمرة، عن أبي سلمة، عن أبى هريرة رضي الله عنه، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "ثلاث". فلقيتُ كثيرًا فسألته، فلم يعرفه، فرجعتُ إلى قتادة فأخبرته، فقال: نسِيَ. ورواه الترمذي (¬1)، وقال: "لا نعرفه إلا من حديث سليمان بن حرب، عن حمّاد بن زيد". وحسبك بسليمان بن حرب وحماد بن زيد، ثقتين ثبتين. ومنها: ما رواه البيهقي (¬2) من حديث سُويد بن غَفَلة، عن الحسن: أنه طلق عائشة الخثعميَّة ثلاثًا، ثم قال: لولا أني سمعت جدي، أو حدثني أبي أنه سمع جدي، يقول: "أيّما رجل طلَّق امرأته ثلاثًا عند الأقْراء أو ثلاثًا مُبهمة لم تحلَّ له حتى تنكح زوجًا غيره" لراجعتها. رواه من حديث ابن حُميد، حدثنا سلمة بن الفَضل، عن عمرو (¬3) بن أبى قيس، عن إبراهيم بن عبد الأعلى، عن سُويد. وهذا مرفوع. ¬

_ (¬1) برقم (1178). (¬2) سنن البيهقىِ (7/ 336)، ومن طريقه ابن عساكر في تاريخه (13/ 251)، ورواه أيضا الطبراني في الكبير (3/ 91)، والدارقطني (4/ 30)، قال الهيثمي في المجمع (4/ 625): دا في رجاله ضعف، وقد وثِّقوا"، وقال الذهبي في المهذب (6/ 2829): "عجبتُ من سكوت المؤلّف عن هذا الخبر الساقط". ورواه الدارقطني (4/ 31) من طريق عمرو بن شمر عن عمران بن مسلم وإبراهيم بن عبد الأعلى عن سويد به، وكلا الإسنادين شديدُ الضعف، وهو في السلسلة الضعيفة (1210، 3776). (¬3) ح، ش: "عمر".

فصل: الرد على هذه الأدلة

قالوا: فهذه الأحاديث أكثر وأشهر، وعامَّتها أصحّ من حديث أبى الصهباء، وحديث ابن جُريج، عن عكرمة عن ابن عباس؛ فيجب تقديمها عليه، ولا سيما على قاعدة الإمام أحمد، فإنه يُقدِّم الأحاديث المتعددة على الحديث الفرد عند التعارض، وإن كان الحديث الفردُ متأخرًا، كما قَدّم في إحدى الروايتين أحاديث تحريم الأوعية على حديث بُريدة لكونها متعددة؛ وحديثُ بريدة في إباحتها فرد، وهو متأخّر، فإنه قال: "كنتُ نهيتكم عن الانتباذ في الأوعية، فا شربوا فيما بدا لكم، غير أن لا تشربوا مُسْكرًا". مع أنه حديث صحيح، رواه مسلم (¬1)، ولا نعرف له عِلّة. فصل قال الآخرون: هذه الأحاديث التي ذكرتموها، ولم تَدَعوا بعدها شيئًا، هي بين أحاديث صحيحة لا مَطعنَ فيها ولا حجةَ فيها، وبين أحاديث صريحة الدلالة، لكنها باطلة أو ضعيفة لا يصح شيء منها. ونحن نذكر ما فيها ليتبيّن الصواب، ويزول الإشكال: أما حديث فاطمة بنت قيس: فمن أصح الأحاديث، مع أن أكثر المنازعين لنا في هذه المسألة قد خالفوه، ولم يأخذوا به، فأوجبوا للمبتوتة النفقة والسُّكنى، ولم يلتفتوا إلى هذا الحديث ولا عملوا به، وهذا قول أبي حنيفة وأصحابه. وأما الشافعي ومالكٌ فأوجبوا لها السكنى. والحديث قد صرّح فيه بأنه لا نفقة لها ولا سكنى، فخالفوه ولم يعملوا به، فإن كان الحديث صحيحًا وهو حجةٌ فهو حجة عليكم، وإن لم يكن محفوظًا، بل هو غلط كما قاله بعض المتقدمين، فليس حجةً علينا في جمع الثلاث. فأما أن ¬

_ (¬1) برقم (977).

يكون حجة لكم على منازعيكم، وليس حجة لهم عليكم، فبعيدٌ من العدل والإنصاف. هذا مع أنَّا نتنزَل على هذا المقام، ونقول: الاحتجاج بهذا الحديث فيه نوع سهو من المحتج به، ولو تأمّل طرق الحديث وكيف وقعت القصة لم يحتجَّ به؛ فإن الثلاث المذكورة فيه لم تكن مجموعة، وإنّما كان قد طلقها تطليقتين قبل ذلك، ثم طلقها آخر الثلاث، كذا جاء مصرّحًا به في "الصحيح". فروى مسلم في "صحيحه" (¬1) عن عبيد الله بن عبد الله بن عُتبة: أن أبا عمرو بن حفص بن المغيرة خرج مع علي بن أبى طالب رضي الله عنه إلى اليمن، فأرسل إلى امرأته فاطمة بنت قيس بتطليقةٍ كانت بقيَتْ من طلاقها، وأمر لها الحارث بن هشام وعيّاش بن أبى ربيعة بنفقة، فقالا لها: والله ما لكِ نفقة إلا أن تكوني حاملاً، فأتت النبي - صلى الله عليه وسلم -، فذكرت له قولهما، فقال: "لا نفقةَ لك" وساق الحديث بطوله. فهذا المفسَّرُ يُبَيّن ذلك المجمَل، وهو قوله: طلَّقها ثلاثًا. وقال الليث (¬2): عن عُقيل، عن ابن شهاب، عن أبي سلمة عن فاطمة بنت قيس، أنها أخبرته أنها كانت عند أبي حفص بن المغيرة، وأن أبا حفص بن المغيرة طلَّقها آخر ثلاث تطليقات، وساق الحديث. ¬

_ (¬1) برقم (1485). (¬2) رواية اللّيث هذه أخرجها أيضًا مسلم (1485) ولم يذكر لفظها، وإنما أحال على الرواية التي قبلها فقال: "مثلَه"، أي: مثل رواية صالح عن ابن شهاب.

ذكره أبو داود (¬1)، ثم قال: "وكذلك رواه صالح بن كَيسان (¬2)، وابن جُريج (¬3)، وشعيب بن أبي حمزة (¬4)؛ كلهم عن الزّهري". ثم ساق (¬5) من طريق عبد الرزاق، عن مَعْمر، عن الزهري، عن عبيد الله، قال: أرسل مَروان إلى فاطمة فسألها؛ فأخبرته: أنها كانت عند أبي حفص، وكان النبي - صلى الله عليه وسلم - أمّر عليّ بن أبي طالب رضي الله عنه على بعض اليمن، فخرج معه زوجها، فبعث إليها بتطليقة كانت بقيت لها، وذكر الحديث بتمامه. والواسطة بين مروان وبينها هو قبيصةُ بن ذُؤيب، كذلك ذكره أبو داود من طريق أخرى (¬6). ¬

_ (¬1) سنن أبي داود (2291). (¬2) رواية صالح هذه أخرجها مسلم (1480) عنه عن ابن شهاب عن أبي سلمة عن فاطمة بنت قيس أنها كانت تحت أبي عمرو بن حفص بن المغيرة فطلَّقها آخر ثلاث تطليقات، الحديث. (¬3) رواية ابن جريج هذه أخرجها عبد الرزاق (7/ 25)، وأحمد (6/ 416)، والطبراني في الكبير (24/ 366)، والدارقطني (4/ 29)، إلا أنّه جاء فيها عندهم جميعًا تسميةُ زوجها بأبي عمرو بن حفص بن المغيرة. (¬4) لم أقف على روايةٍ لشعيب عن الزهري عن أبي سلمة بهذا الحديث، والذي وقفتُ عليه ما رواه النسائي (3552) والطبراني في مسند الشاميين (3126) عنه عن الزهري عن عبيد الله بن عبد الله بن عتبة عن فاطمة بنت قيس به، وفيه أنها كانت تحت أبي عمرو بن حفص بن المغيرة المخزومي، وأنه أرسل إليها بتطليقة وهي بقيّة طلاقها. (¬5) سنن أبي داود (2292). ورواية عبد الرزاق هذه أخرجها أيضًا مسلم (1480/ 41) إلا أنه جاء فيها تسميةُ زوجها بأبي عمرو بن حفص بن المغيرة. (¬6) بيان أن الواسطةَ قبيصة هو في رواية عبد الرزاق نفسِها، وهو كذلك في صحيح =

فهذا بيان حديث فاطمة. قالوا: ونحن أخذنا به جميعه، ولم نخالف شيئا منه؛ إذ كان صحيحًا صريحًا، لا مطعن فيه، ولا معارض له، فمن خالفه فهو محتاج إلى الاعتذار. وقد جاء هذا الحديث بخمسة ألفاظ: طلقها ثلاثًا، وطلقها البتة، وطلقها آخر ثلاث تطليقات، وأرسل إليها بتطليقة كانت بقيت لها، وطلقها ثلاثًا جميعًا. هذه جملة ألفاظ الحديث، وبالله التوفيق. فأما اللفظ الخامس وهو قوله: "طلقها ثلاثًا"، فهذا أولاً من حديث مُجالد عن الشعبي، ولم يقل ذلك عن الشعبي غيره، مع كثرة من روى هذه القصة عن الشعبي، فتفرَّد مُجالد (¬1) على ضَعْفه من بينهم بقوله: ثلاثًا جميعًا. وعلى تقدير صحته: فالمراد به أنه اجتمع لها التطليقات الثلاث، لا أنها وقعت بكلمة واحدة، فإذا طلقها آخر ثلاث صحَّ أن يقال: طلقها ثلاثًا جميعًا؛ فإن هذه اللفظة يراد بها تأكيد العدد، وهو الأغلب عليها، لا الاجتماع في الآن الواحد، كقوله تعالى: {وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَآمَنَ مَنْ فِي الْأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعًا} [يونس: 99]، فالمراد حصول الإيمان من الجميع، لا إيمانهم كلِّهم في آنٍ واحد سابِقِهم ولاحِقِهم. ¬

_ = مسلم، والله أعلم. (¬1) تقدم بيان عدم تفرد مجالد بهذا اللفظ.

فصل: الرد على حديث عائشة في الرجل الذي طفق امرأته ثلاثا

فصل وكذلك ما ذكروه من حديث عائشة رضي الله عنها: أن رجلاً طلق امرأته ثلاثًا، فسُئل النبي - صلى الله عليه وسلم -: هل تحَلّ للأول؟ فقال: "لا" الحديث، هو حقٌّ يجب المصير إليه، لكن ليس فيه أنه طلقها ثلاثًا بفَمٍ واحد، فلا تُدخلوا فيه ما ليس فيه. وقولكم: "لم يستفصل"، جوابه: أن الحال قد كان عندهم معلومًا، وأن الثلاث إنما تكون ثلاثًا واحدةً بعد واحدة، وهذا مقتضى اللغة، والقرآن، والشرع، والعُرف كما بيّنا؛ فخرج الكلام على المفهوم المتعارف من لغة القوم. فصل وأما ما اعتمد عليه الشافعي من طلاق الملاعن ثلاثًا بحَضرة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ولم ينكره، فلا دليل فيه؛ لأن الملاعنة يحرُمُ عليه إمساكها، وقد حُرِّمت عليه تحريمًا مؤبدًا، فما زاد الطلاقُ الثلاث هذا التحريم الذي هو مقصود اللعان إلا تأكيدًا وقوة. هذا جواب شيخنا رحمه الله. وقال ابن المنذر، وقد ذكر الأدلة على تحريم جمع الطلاق الثلاث وأنه بِدعَة، ثم قال: "وأما ما اعْتَلّ به من رأى أن مُطَلِّق الثلاث في مرة واحدة مُطلِّق للسنة بحديث العَجلاني؛ فإنما أوقع الطلاق عنده على أجنبيةٍ، علم الزوج الذي طلّق ذلك أو لم يعلم؛ لأن قائله يوقع الفرقة بالْتِعان الرجل قبل أن تلتعن المرأة، فغير جائز أن يحتج بمثل هذه الحجة من يرى أن الفرقة تقع بالْتِعانِ الزوج وحده". انتهى.

فصل: الرد على حديث محمود بن لبيد في قصته المطلق ثلاثا

وحينئذٍ فنقول: إما أن تقع الفرقة بالْتِعان الزوج وحده، كما يقوله الشافعي، أو بالْتِعانهما كما يقوله أحمد، أو يقف على تفريق الحاكم: فإن وقعت بالْتِعانِه أو الْتِعانهما فالطلاق الذي وقع منه لَغوٌ، لم يُفد شيئًا البتة، بل هو في طلاق أجنبية. وإن وقعت الفرقة على تفريق الحاكم فهو يفرِّق بينهما تفريقا يحُرِّمها عليه تحريمًا مؤبدًا، فالطلاق الثلاث أكّد هذا التحريم الذي هو موجَب اللعان، ومقصود الشارع، فكيف يُلحق به طلاق غير الملاعنة، وبينهما أعظم فرق؟ فصل وأما حديث محمود بن لَبيد في قصة المطلق ثلاثًا، فالاحتجاج به على الجواز من باب قَلْبِ الحقائق، والاحتجاج بأعظم ما يدل على التحريم، لا على الإباحة. والاستدلال به على الوقوع من باب التكهنّ والخَرص، والزيادة في الحديث ما ليس فيه، ولا يدل عليه بشيءٍ من وجوه الدلالات البتة. ولكن المقلِّد لا يُبالي بنُصرة تقليده بما اتفق له، وكيف يُظَنّ برسول الله - صلى الله عليه وسلم - أنه أجاز عمل من استهزأ بكتاب الله، وصحَّحه، واعتبره في شرعه وحُكمه، ونفَّذه؛ وقد جعله مستهزئًا بكتاب الله تعا لى. وهذا صريحٌ في أن الله سبحانه وتعالى لم يشرع جمع الثلاث، ولا جعله من أحكامه.

فصل: الرذ على حديث ركانة

فصل وأما حديث رُكانة أنه طلق امرأته البتة، وأن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - استحلفه: ما أراد بها إلا واحدة؟ فحديث لا يصح. قال أبو الفرج بن الجوزي في كتاب "العلل" (¬1) له: "قال أحمد: حديث ركانة ليس بشيء". وقال الخَلّال في كتاب "العلل" عن الأثْرَم: "قلت لأبى عبد الله: حديث ركانة في البتّة؛ فضعفه، وقال: ذاك جعله بنيَّته". وقال شيخنا رحمه الله (¬2): "الأئمة الكبار العارفون بعلل الحديث كالإمام أحمد، والبخاري، وأبى عُبيد، وغيرهم، ضعَّفوا حديث ركانة البتة؛ وكذلك أبو محمد بن حَزم، وقالوا: إن رُوَاتَهُ قوم مجاهيل، لا تعرف عدالتهم وضبْطُهم". قال: "وقال الإمام أحمد: حديث ركانة أنه طلق امرأته البتة لا يثبت، وقال أيضًا: حديث ركانة في البتة ليس بشيء؛ لأن ابن إسحاق يرويه عن داود بن الحصين، عن عِكرمة، عن ابن عباس: أن رُكانة طلق امرأته ثلاثًا؛ وأهل المدينة يُسَمّون من طلق ثلاثًا طلق البتة". فإن قيل: فقد قال أبو داود: "حديث البتة أصح من حديث ابن جُريج أن ركانة طلق امرأته ثلاثًا؛ لأنهم أهل بيته وهم أعلم به"؛ يعني: وهم الذين رووا حديث البتة. ¬

_ (¬1) العلل المتناهية (2/ 150). (¬2) انظر مجموع الفتاوى (33/ 15).

فصل: الرد على حديث معاذ رضي الله عنه في ذلك

فقال شيخنا في الجواب: "أبو داود إنما رجّح حديث البتة على حديث ابن جريج، لأنه روى حديث ابن جريج من طريق فيها مجهول، فقال: حدثنا أحمد بن صالح، حدثنا عبد الرزاق، عن ابن جريج، أخبرني بعض ولد أبي رافع، عن عكرمة، عن ابن عباس، قال: طلق عبد يزيد -أبو ركانة وإخوتِه- أمَّ ركانة ثلاثًا. ... الحديث (¬1). ولم يرو الحديث الذي رواه أحمد في "مسنده" (¬2) عن إبراهيم بن سعد: حدثني أبي، عن محمد بن إسحاق، حدثنا داود بن الحُصين، عن عكرمة، عن ابن عباس رضي الله عنهما: طلق رُكانة بن عبد يزيد امرأته ثلاثًا في مجلسٍ واحد. فلهذا رجّح أبو داود حديث الْبَتة على حديث ابن جُريج، ولم يتعرض لهذا الحديث، ولا رواه في "سُننه". ولا ريب أنه أصح من الحديثين، وحديث ابن جريج شاهد له وعاضد، فإذا انضم حديث أبي الصهباء إلى حديث ابن إسحاق إلى حديث ابن جريج مع اختلاف مخارجها، وتعدّد طرقها = أفادت العلم بأنها أقوى من حديث البتة بلا شك. ولا يمكن من شَمَّ روائحَ الحديث ولو على بُعْدٍ أن يرتاب في ذلك، فكيف يقدم الحديث الضعيف الذي ضغَفه الأئمة ورواته مجاهيل، على هذه الأحاديث؟ ". فصل وأما حديث مُعاذ بن جبل: فلقد وَهَت مسألةٌ يحُتجّ فيها بمثل هذا الحديث الباطل. ¬

_ (¬1) سبق تخريجه. (¬2) سبق تخريجه.

فصل: حديث عبادة بن الصامت رضي الله عنه

والدارقطني إنما رواه للمعرفة، وهو أجلّ من أن يحتَجَّ به. وفى إسناده إسماعيل بن أميّة الذَّارع، يرويه عن حَمَّاد، قال الدارقطني بعد روايته: "وإسماعيل بن أمية: متروك الحديث" (¬1). فصل وأما حديث عُبادة بن الصّامت الذي رواه الدارقطني: فقد قال عَقِيبَ إخراجه: "رواته مجهولون وضعفاء إلا شيخنا وابن عبد الباقي" (¬2). فصل وأما حديث زاذان عن عليٍّ رضي الله عنه: فيرويه إسماعيل بن أميّة القُرشي، قال الدارقطني: "إسماعيل بن أمية هذا كوفي ضعيف الحديث" (¬3). قلت: وفى إسناده مجاهيل وضعفاء. فصل وأما حديث الحسن عن ابن عمر: فهو أمثل هذه الأحاديث الضعاف. قال الدارقطني (¬4): حدثنا على بن محمد بن عُبَيد الحافظ، حدثنا محمد بن شاذان الجوهَرِيّ، حدثنا معلى بن منصور، حدثنا شعيب بن رُزَيْقٍ، أن عطاء الخرسانى حدّثهم، عن الحسن، قال: حدثنا عبد الله بن عمر، فذكره. ¬

_ (¬1) سنن الدارقطني (5/ 37) ط. مؤسسة الرسالة. (¬2) المصدر نفسه (5/ 37). (¬3) المصدر نفسه (5/ 38). (¬4) سنن الدارقطني (5/ 56، 57). وقد سبق تخريجه والكلام عليه.

فصل: حديث أبي هريرة

وشعيب، وثّقه الدارقطني. وقال أبو الفتح الأزديّ: "فيه لِينٌ". وقال البيهقي (¬1) وقد روى هذا الحديث: "هذه الزيادات انفرد بها شعيب، وقد تكلموا فيه". انتهى. ولا ريب أن الثقات الأثبات الأئمة رووا حديث ابن عمر هذا، فلم يأتِ أحد منهم بما أتى به شعيب البتة، ولهذا لم يروِ حديثَهُ هذا أحدٌ من أصحاب "الصحيح" ولا "السنن". فصل وأما حديث كثير مولى سَمُرة، عن أبي سَلَمة، عن أبي هريرة: فقد أنكره كثير لمّا سُئل عنه، ومثل هذا بعيد أن يُنسى، وقد أعَل البيهقي هذا الحديث، وقال (¬2): "كثير لم يَثْبُتْ من معرفته ما يوجب الاحتجاج به"، قال: "وقول العامة بخلاف روايته". وقد ضعفه عبد الحق في "أحكامه" (¬3)، وابن حزم في كتابه (¬4). فصل وأما حديث سُويد بن غَفَلة عن الحسن: فمن رواية محمد بن حُميد الرازي، قال أبو زُرعة الرّازى: "كذاب". وقال صالح جَزَرة: "ما رأيت أحذق بالكذب منه ومن الشاذَكُوني". ¬

_ (¬1) السنن الكبرى (7/ 330). (¬2) المصدر نفسه (7/ 349). (¬3) الأحكام الوسطى (3/ 196). (¬4) المحلى (10/ 119).

فصل: دعواهم الإجماع في هذه المسألة

وسَلَمَة بن الفضل، قال أبو حاتم: "منكر الحديث". وإن كان الأبرش فقد ضعفه إسحاق بن راهَويه وغيره. فصل فلما رأى آخرون ضَعْفَ هذه المسالك استَرْوحوا إلى مسلك آخر، وظنُّوا أنهم قد استراحوا به من كُلفة التأويل ومشَقّته، فقالوا: الإجماع قد انعقد على لزوم الثلاث، وهو أكبر من خبر الواحد، كما قال الشافعي رحمه الله: "الإجماع أكبر من الخبر المنفرد"، وذلك أن الخبر يجوز الخطأ والوهم على راويه، بخلاف الإجماع، فإنه معصوم. قالوا: ونحن نسوق عن الصحابة والتابعين ما يبين ذلك: فثبت في "صحيح مسلم" (¬1): أن عمر رضي الله عنه أمضى عليهم الثلاث، ووافقه الصحابة. قال سعيد بن منصور (¬2): حدثنا سفيان، عن شقيق، سمع أنسًا يقول: قال عمر في الرجل يطلق امرأته ثلاثًا قبل أن يدخل بها؛ قال: هي ثلاث، لا ¬

_ (¬1) برقم (1472). (¬2) سنن ابن منصور (1074)، ومن طريقه البيهقي في الكبرى (7/ 334). ورواه عبد الرزاق -كما في تخريج الكشاف للزيلعي (4/ 49) - والطحاوي في شرح المعاني (4150) عن ابن عيينة به، ورواه ابن منصور (1073) - ومن طريقه الطحاوي في شرح المعاني (4148) - عن أبي عوانة عن شقيق به، وصحّح إسناده ابن حجر في الفتح (9/ 362)، والصنعاني في السبل (3/ 173)، ورواه ابن أبي شيبة (4/ 61) عن علي بن مسهر عن شقيق بن أبي عبد الله به، لكن ليس فيه التقييد بما قبل الدخول.

تحلّ له حتى تنكح زوجًا غيره، وكان إذا أُتِىَ به أوْجعه. وروى البيهقي (¬1) من حديث ابن أبي لَيلى، عن علي رضي الله عنه فيمن طلّق ثلاثًا قبل الدخول، قال: لا تحلّ له حتى تنكح زوجًا غيره. وروى حاتم بن إسماعيل، عن جعفر بن محمد، عن أبيه، عن علي: لا تحلُّ له حتى تنكح زوجًا غيره (¬2). وروى أبو نُعيم، عن الأعمش، عن حبيب بن أبي ثابت، عن بعض أصحابه: جاء رجل إلى علي رضي الله عنه، فقال: طلّقتُ امرأتى ألفًا، فقال: ثلاثٌ تُحرِّمها عليك، واقسِمْ سائرها بين نسائك (¬3). وقال عَلْقَمَة بن قيس (¬4): أتى رجل ابن مسعود رضي الله عنه، فقال: إن ¬

_ (¬1) السنن الكبرى (7/ 334) من طريق الحسن عن عبد الرحمن بن أبي ليلى به، ورواه سعيد بن منصور (1096) عن هشيم عن ابن أبي ليلى عن رجل حدثه عن أبيه عن علي به. (¬2) رواه ابن أبي شيبة (4/ 66)، والبيهقي في الكبرى (7/ 335). (¬3) رواه البيهقي في الكبرى (7/ 335)، ورواه ابن أبي شيبة (4/ 62) عن ابن فضيل عن الأعمش عن حبيب عن رجل من أهل مكة عن علي، وعن وكيع عن الأعمش عن حبيب عن عليّ. (¬4) رواه عبد الرزاق (6/ 394)، وابن أبي شيبة (4/ 63)، والدارمي (110)، والطبراني في الكبير (9/ 325، 326)، والبيهقي في الكبرى (7/ 335) واللفظ له، وغيرهم من طرقِ عن محمد بن سيرين عن علقمة به، واقتصر ابن أبي شيبة على ققحة الذي طلّق عددَ النجوم، قال الهيثمي في المجمع (4/ 623): "رجاله رجال الصحيح"، وقال ابن حجر في المطالب (1701): "هذا إسناد صحيح إن كان ابن سيرين سمعه من علقمة، وقد وقع التصريح بتحديثٍ له بهذا الحديث في رواية البيهقي"، وكذا في روايتَي الطبراني.

رجلاً طلق امرأته البارحة مئةً، قال: قُلتَها مرةً واحدة؟ قال: نعم. قال: تُريد أن تبين منك امرأتك؟ قال: نعم، قال: هو كما قلت. وأتاه رجلٌ، فقال: إنه طلق امرأته البارحة عددَ النّجوم، فقال له مثل ذلك، ثم قال: قد بَيّن الله سبحانه أمر الطلاق، فمن طلّق كما أمره الله تعالى فقد بُيِّن له، ومن لبّس جعلنا به لَبْسه، والله لا تُلبِّسون إلا على أنفسكم، ونَتَحمّلُه عنكم! هو كما تقولون. وروى مالك في "الموطأ" (¬1) عن ابن شهاب، عن محمد بن عبد الرحمن بن ثَوبان، عن محمد بن إياس بن البُكير، قال: طلّق رجل امرأته ثلاثًا قبل أن يدخل بها، ثم بدا له أن يَنكحها، فجاء يسْتَفتي، فذهبتُ معه أسأل له، فسأل أبا هريرة وابن عباس رضي الله عنهما عن ذلك، فقالا له: لا نرى أن تنكحها حتى تنكح زوجًا غيرك، قال: إنما كان طلاقي إياها واحدةً، فقال ابن عباس: إنك قد أَرْسَلْتَ مِنْ يَدِكِ ما كان لك من فضل. وفى "الموطأ" (¬2) أيضًا في هذه القصة: أن ابن البُكير سأل عنها ابن ¬

_ (¬1) الموطأ (1180)، وعنه الشافعي (464، 1297)، والفسوي في المعرفة والتاريخ (1/ 220)، والطحاوي في شرح المعاني (4137)، والبيهقي في الكبرى (7/ 335. 337). ورواه عبد الرزاق (6/ 333) عن ابن جريج، والطحاوي (4139) من طريق ابن أبي ذئب، كلاهما عن ابن شهاب به مختصرًا مضافًا إليهما ابن عمر رضي الله عنهم. (¬2) الموطأ (1182) عن يحيى بن سعيد عن بكير بن عبد الله عن معاوية بن أبي عياش بالقصّة، وعنه الشافعي (1299)، والطحاوي في شرح المعاني (4138)، والبيهقي في الكبرى (7/ 335، 355)، وهو في صحيح سنن أبي داود (1909). ورواه ابن أبي شيبة (4/ 67) من طريق يحيى بإسناده عن ابن عباس وأبي هريرة وعائشة =

الزبير، فقال: إن هذا أمرٌ مالنا فيه قول، اذهب إلى ابن عباس وأبى هريرة؛ فإني تركتهما عند عائشة، فاسألهما ثم ائْتِنا فأخبرنا، فذهب فسألهما، فقال ابن عباس لأبى هريرة: أفْتِه يا أبا هريرة! فقد جاءتك مُعضلة، فقال أبو هريرة: الواحدةُ تُبينها، والثلاثُ تحرِّمهَا، حتى تثكح زوجًا غيره، وقال ابن عباس مثل ذلك. فهذه عائشة رضي الله عنها لم تنكر عليهما، ولا ابنُ الزبير. وفى "الموطأ" (¬1) أيضًا: عن النعمان بن أبي عَيّاش عن عطاء بن يسار، قال: جاء رجل يستفتي عبد الله بن عَمرو بن العاص عن رجل طلق امرأته ثلاثًا قبل أن يَمَسّها، قال عطاء: فقلت: إنما طلاقُ البكر واحدة، فقال لي عبد الله: إنما أنت قاصّ! الواحدة تبينها، والثلاث تُحرِّمها، حتى تنكح زَوجًا غيره. ¬

_ = بالحكم دون القصة، ومن طريق عبيد الله بن عمر عن نافع عن محمد بن إياس بن بكير عن الثلاثة بالحكم دون القصة. ورواه عبد الرزاق (6/ 334) عن عمر بن راشد عن يحيى بن أبي كثير عن محمد بن عبد الرحمن بن ثوبان عن ابن عباس وأبي هريرة بنحوه، وأعله ابن حزم في المحلى (10/ 176) بابن راشد. (¬1) الموطأ (1181) عن يحيى بن سعيد عن بكير بن عبد الله عن النعمان به، وعنه الشافعي (465، 1298)، وعبد الرزاق (6/ 334)، والطحاوي في شرح المعاني (4146)، والبيهقي في الكبرى (7/ 335). ورواه سعيد بن منصور (1095) وابن أبي شيبة (4/ 66) والفسوي مختصرَا في المعرفة والتاريخ (1/ 302) من طرق عن يحيى عن بكير عن عطاء به. قال ابن عبد البر في الاستذكار (6/ 111): "أنكر مسلم إدخالَ مالكٍ فيه بين بكير وعطاء بن يسار النعمانَ، وقال: لم يتابع مالكًا أحدٌ من أصحاب يحيى على ذلك".

وروى عبيد الله (¬1) عن نافع عن ابن عمر رضي الله عنهما: إذا طلق امرأته ثلاثًا قبل أن يدخل بها، لم تحِلّ له حتى تنكح زوجًا غيره. وروى البيهقي (¬2) من حديث معاذ بن معاذ: حدثنا شُعبة، عن طارق بن عبد الرحمن: سمعتُ قيس بن أبي حازم، قال: سأل رجلٌ المغيرة وأنا شاهدٌ عن رجل طلق امرأته مئةً، فقال: ثلاثة تحرّم، وسبعٌ وتسعون فَضْلٌ. وروى البيهقي (¬3) عن سُويد بن غَفَلة، قال: كانت عائشة الخثْعَميّةُ عند الحسن، فلما قُتل عليّ رضي الله عنه قالت: لتَهْنِك الخلافة! قال: بقتل عليٍّ تُظهرين الشماتة؟ اذهبي فأنت طالق، يعني ثلاثًا، فَتلَفّعَت بثيابها، وقعدت حتى قضَت عِدّتها، فبعث إليها ببقيةٍ بقيت لها من صداقها، وعشرة آلافٍ صدقةً، فقالت لما جاءها الرسول: متاعٌ قليل من حبيب مفارق، فلمّا بَلَغَهُ قولهُا بَكَى، وقال: لولا أني سمعت جدي، أو حدثني أبي أنه سمع جدي، يقول: "أيما رجل طلّق امرأته ثلاثًا عند الأقراء، أو ثلاثة مُبْهَمة، لم تحِلّ له حتى تنكح زوجًا غيره" لراجعتُها. وقال الإمام أحمد (¬4): حدثنا محمد بن جعفر، حدثنا شعبة، عن ¬

_ (¬1) رواه عبد الرزاق (6/ 331) والبيهقي في الكبرى (7/ 335) عن سفيان عن عبيد الله به، ورواه عبد الرزاق (6/ 331) عن عبد الله بن عمر عن نافع به. (¬2) السنن الكبرى (7/ 336)، ورواه ابن أبي شيبة (4/ 62) عن غندر عن شعبة به. (¬3) في السنن الكبرى (7/ 337)، وتقدم تخريجه. (¬4) العلل ومعرفة الرجال (5664)، وعنه العقيلي في الضعفاء (3/ 451)، وصحّحه ابن حزم في المحلى (10/ 185)، لكن أبو البَختَري لم يدرك عليًّا. ورواه ابن أبي شيبة (4/ 91، 93، 94، 95) وأحمد في العلل (5666) - وعنه العقيلي (3/ 451) - والدارقطني (4/ 32) من طريق عطاء عن الحسن عن علي، قال ابن الجوزي في =

عطاء بن السائب، عن علي رضي الله عنه أنه قال في الحرام، والبتّة، والبائن، والخليّة، والبَرِيّة: ثلاثًا، ثلاثًا. قال شعبة: فلقيت عطاءً، فقلت: مَن حَدّثك عن علي؟ قال: أبو البَخْترِي. قال أحمد: وأنا أهابهُا، لا أجيب فيها؛ لأنه يُروى عن عامة الناس أنها ثلاث: علي، وزيد (¬1)، وابن عمر، وعامة التابعين. وأما ابن عباس: فروى عنه مجاهد، وسعيد بن جبير، وعطاء بن أبي رباح، وعمرو بن دينار، ومالك بن الحارث، ومحمد بن إياس بن البُكير، ومعاوية بن أبي عياش، وغيرهم، أنه ألزم الثلاث مَنْ أوقعها جملة (¬2). قال الإمام أحمد وقد سأله الأثرم: بأيّ شيءٍ تَرُدُّ حديث ابن عباس: كان الطلاق على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأبى بكر وعمر رضي عنهما: طلاق الثلاث واحدةً، بأي شيء تدفعه؟ قال: برواية الناس عن ابن عباس من وجوه خلافَه، ثم ذكر عن عدة عن ابن عباس أنها ثلاث، وإلى هذا نذهب. ¬

_ = التحقيق (1756): "الحسن لم يسمع من عَلي". ورواه الشافعي في الأم (7/ 172) وعبد الرزاق (6/ 356) وابن منصور (1678) من طريق إبراهيم عن علي. ورواه عبد الرزاق (6/ 359) عن معمر عن قتادة عن علي. ورواه البيهقي في الكبرى (7/ 344) من طريق إسماعيل بن أبي خالد عن الشعبي عن علي به، ومن طريق أبي سهل عن الشعبي عن علي لكن جعله في هذه الرواية بمنزلة الثلاث إذا نوى، قال البيهقي: "الرواية الأولى أصحّ إسنادًا". (¬1) الرواية عن زيد بن ثابت أخرجها عبد الرزاق (6/ 336، 337) وسعيد بن منصور (1580) من طرق عن مطرف عن الحكم عنه. (¬2) انظر: السنن الكبرى للبيهقي (7/ 337).

الرد على هذا الادعاء من عشرين وجها

وذكر البيهقي (¬1): أن رجلاً أتى عِمران بن حُصين وهو في المسجد، فقال: رجل طلّق امرأته ثلاثًا في مجلس، فقال: أَثِمَ بربِّه، وحرمت عليه امرأته، فانطلق الرجل، فذكر ذلك لأبي موسى، يريد بذلك عَيْبه، فقال: ألا تَرى أن عمران قال كذا وكذا؛ فقال أبو موسى: أكثر اللهُ فينا مثلَ أبي نُجَيْدٍ. قالوا: فهذا عمر بن الخطاب، وعلي بن أبي طالب، وعبد الله بن مسعود، وعبد الله بن عمر، وعبد الله بن عمرو، وعبد الله بن عباس، وعبد الله بن الزبير، وعمران بن حصين، والمغيرة بن شعبة، والحسن بن علي رضوان الله تعالى عليهم أجمعين. وأما التابعون فأكثر من أن يذكروا، والإجماع يَثبت بدون هذا، ولهذا حكاه غير واحد منهم أبو بكر بن العَرَبي (¬2) وأبو بكر الرازي (¬3)، وهو ظاهر كلام الإمام أحمد، فانه قال في رواية الأثرم، وذكر قول من قال: إذا خالف السنة يُرَدّ إلى السنة، وليس بشيء، وقال: هذا مذهب الرافضة. وظاهر هذا: أن القول بالوقوع إجماع أهل السنة. وقال الآخرون: قد عرفتم ما في دعوى الإجماع الذي لم يُعلم له مخالف، أنه راجع إلى عدم العلم، لا إلى العلم بانتفاء المخالف، وعدم ¬

_ (¬1) السنن الكبرى (7/ 332) من طريق حميد الطويل عن واقع بن سحبان عن عمران، وبهذا الإسناد رواه ابن أبي شيبة (4/ 65) مختصرًا ليس فيه ذهابه إلى أبي موسى، والدولابي في الكنى (340، 489)، والحاكم (5996)، وقد وقع في بعض هذه المصادر المطبوعة: رافع بن سحبان، وهو تحريف. (¬2) أحكام القرآن (1/ 191). (¬3) هو الجصاص، انظر: أحكام القرآن له (1/ 388).

العلم ليس بعلم حتى يحتجّ به ويُقدَّم على النصوص الثابتة! هذا إذا لم يُعلم مخالفٌ، فكيف إذا عُلم المخالف؟ وحينئذ فتكون المسألةُ مسألةَ نزاعٍ يجب رَدُّها إلى الله تعا لى ورسوله، ومن أبى ذلك فهو إما جاهل مُقَلد، وإما مُتَعصب صاحب هَوًى، عاصٍ لله تعا لى ورسوله - صلى الله عليه وسلم -، مُتعرِّضٌ لِلُحُوق الوعيد به؛ فإن الله تعالى يقول: {فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ} [النساء: 59]. فإذا ثبت أن المسألة مسألة نزاع وجب قطعًا ردَّها إلى كتاب الله وسنة رسوله، وهذه المسألة مسألة نزاع بلا نزاع بين أهل العلم الذين هم أهلُه، والنزاع فيها من عَهْد الصحابة إلى وقتنا هذا. وبيان هذا من وجوه: أحدها: ما رواه أبو داود (¬1) وغيره من حديث حَماد بن زَيد، عن أيوب، عن عكرمة، عن ابن عباس رضي الله عنهما: إذا قال أنت طالق ثلاثًا بفمٍ واحد فهي واحدة. وهذا الإسناد على شرط البخاري. وقال عبد الرزاق (¬2): أخبرنا مَعْمَر، عن أيوب، قال: دخل الحَكَمُ بن عُتيبة (¬3) على الزهري بمكة، وأنا معهم، فسألوه عن البِكْر تُطَلَّق ثلاثًا، فقال: سُئل عن ذلك ابنُ عباس، وأبو هريرة، وعبد الله بن عَمرو، فكلّهم قالوا: لا ¬

_ (¬1) تقدم تخريجه. (¬2) مصنف عبد الرزاق (6/ 335). (¬3) م، ش: "عيينة" تصحيف.

تحِلّ له حتى تنكح زوجًا غيره، قال: فخرج الحكمُ وأنا معه، فأتى طاوسًا وهو في المسجد، فأكبَّ عليه فسأله عن قول ابن عباس فيها، وأخبره بقول الزهري، قال: فرأيت طاوسًا رفع يديه تَعَجبًا من ذلك، وقال: والله ما كان ابنُ عباس يجعلها إلا واحدةً. أخبرنا ابن جُريج (¬1)، قال: وأخبرني حسن بن مسلم، عن ابن شهاب، أن ابن عباس قال: إذا طلق الرجل امرأته ثلاثًا، ولم يجَمع كنّ ثلاثًا، قال: فأخبرت طاوسًا، فقال: أشهدُ ما كان ابن عباس يَراهُنّ إلا واحدة. فقوله: إذا طلق ثلاثًا ولم يجمع كن ثلاثًا، أي: إذا كُنّ متفرقات، فدلّ على أنه إذا جمعهن كانت واحدة، وهذا هو الذي حلف عليه طاوس أن ابن عباس كان يجعله واحدة. ونحن لا نشك أن ابن عباس صحّ عنه خلاف ذلك، وأنها ثلاث، فهما روايتان ثابتتان عن ابن عباس بلا شك. الوجه الثاني: أن هذا مذهبُ طاوس. قال عبد الرزاق (¬2): أخبرنا ابن جُريج، عن ابن طاوس، عن أبيه: أنه كان لا يرى طلاقًا ما خالف وجهَ الطلاق، ووجه العِدّة، وأنه كان يقول: يُطلقها واحدة، ثم يَدَعُها حتى تنقضي عدتها. وقال أبو بكر بن أبي شيبة (¬3): حدثنا إسماعيل بن عُلَيّةَ، عن ليثٍ، عن ¬

_ (¬1) مصنف عبد الرزاق (6/ 335). (¬2) مصنف عبد الرزاق (6/ 302)، وصحّحه المصنف في الصواعق (2/ 628). (¬3) مصنف ابن أبي شيبة (4/ 69)، ورواه عبد الرزاق (6/ 336) عن معمر عن ابن =

طاوس وعطاء، أنهما قالا: إذا طلق الرجل امرأته ثلاثًا قبل أن يدخل بها فهي واحدة. الوجه الثالث: أنه قول عطاء بن أبي رباح. قال ابن أبي شيبة (¬1): حدثنا محمد بن بشر (¬2)، حدثنا سعيد، عن قتادة، عن طاوس وعطاء وجابر بن زيد، أنهم قالوا: إذا طلقها ثلاثًا قبل أن يدخل بها فهي واحدة. الوجه الرابع: أنه قول جابر بن زيد كما تقدم. الوجه الخامس: أن هذا مذهب محمد بن إسحاق، عن داود بن الحُصين، حكاه عنه الإمام أحمد في رواية الأثرم. ولفظه: حدثنا سعد بن إبراهيم، عن أبيه، عن ابن إسحاق، عن داود بن الحصين، عن عِكرمة، عن ابن عباس: أن رُكانة طلق امرأته ثلاثًا، فجعلها النبي - صلى الله عليه وسلم - واحدة (¬3). قال أبو عبد الله: "وكان هذا مذهب ابن إسحاق، يقول: خالف السّنة، فَيُرَدّ إلى السنة". الوجه السادس: أنه مذهب إسحاق بن راهَوَيه في البِكر. ¬

_ = طاوس عن أبيه في الرجل يطلق امرأته بكرا ثلاثًا قبل أن يدخل بها قال: سواء هي واحدة على كلّ حال، أي: سواء جمعها أو فرّقها. (¬1) مصنف ابن أبي شيبة (4/ 69)، ورواه سعيد بن منصور (1577) عن سفيان عن عمرو بن دينار عن عطاء وجابر بن زيد به. (¬2) ح: "لبيد". (¬3) تقدم تخريجه.

في وقع الثلاث بغير المدخول بها ثلاثة مذاهب

قال محمد بن نصر المروزي في كتاب "اختلاف العلماء" (¬1) له: وكان إسحاق يقول: طلاق الثلاث للبكر واحدة، وتأول حديث طاووس عن ابن عباس -كان الطلاق الثلاث على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأبى بكر وعمر يُجعل واحدة- على هذا. قال: فإن قال لها ولم يدخل بها: أنت طالق، أنت طالق، أنت طالق؛ فإن سفيان، وأصحاب الرأي، والشافعي، وأحمد، وأبا عبيد (¬2) قالو ا: بانَتْ منه بالأولى، وليست الثنتان بشيءٍ؛ لأن غير المدخول بها تَبِين بواحدة، ولا عدّة عليها. وقال مالك، وربيعة، وأهل المدينة، والأوزاعي، وابن أبي ليلى: إذا قال لها ثلاث مرات: أنت طالق، نَسَقًا متتابعة، حرمت عليه حتى تنكح زوجًا غيره، فإن هو سكت بين التطليقتين بانت بالأُولى، ولم تلحقها الثانية. فصار في وقوع الثلاث بغير المدخول بها ثلاثة مذاهب للصحابة والتابعين ومَنْ بعدهم: أحدها: أنها واحدة، سواءً قا لها بلفظ واحد أو بثلاثة ألفاظ. والثاني: أنها ثلاث، سواءً أَوْقَعَ الثلاث بلفظ واحد أو بثلاثة ألفاظ. والثالث: أنه إن أوقعها بلفظ واحد فهي ثلاث، وإن أوقعها بثلاثة ألفاظ فهي واحدة. الوجه السابع: أن هذا مذهب عمرو بن دينار في الطلاق قبل الدخول. ¬

_ (¬1) (ص 133). (¬2) في بعض النسخ: "أبا عبيدة" تصحيف.

قال ابن المنذر في كتابه "الأوسط": "وكان سعيد بن جُبير، وطاوس، وأبو الشعثاء، وعطاء، وعمرو بن دينار يقولون: من طلق البكر ثلاثًا فهي واحدة" (¬1). الوجه الثامن: أنه مذهب سعيد بن جبير، كما حكاه ابن المنذر وغيره عنه، وحكاه الثعلبي عن سعيد بن المسيب. وهو غلط عليه، إنما هو مذهب سعيد بن جبير. الوجه التاسع: أنه مذهب الحسن البصري الذي استقرّ عليه. قال ابن المنذر: "واختلف في هذا الباب عن الحسن: فرُوي عنه كما رُؤَيناه عن أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم -، وذكر قَتادة، وحُميد، ويونس عنه أنه رجع عن قوله بعد ذلك، فقال: واحدة بائنة". وهذا الذي ذكره ابن المنذر رواه عبد الرزاق في "المصنف" (¬2)، فقال: أخبرنا معمر، عن قتادة، قال: سألتُ الحسن عن الرجل يطلِّق البكر ثلاثًا، فقالت أم الحسن: وما بعد الثلاث؟ فقال: صدقت، وما بعد الثلاث؟ فأفتى الحسن بذلك زمنًا، ثم رجع، وقال: واحدةٌ تبينها، ويخطُبُها. فقاله حياتَهُ. الوجه العاشر: أنه مذهب عطاء بن يسار. قال عبد الرزاق (¬3): وأخبرنا مالك عن يحيى بن سعيد، عن بُكير، عن ¬

_ (¬1) رواه عبد الرزاق (6/ 335) عن ابن جريج عن عمرو بن دينار عن طاوس وعطاء وأبي الشعثاء. (¬2) مصنف عبد الرزاق (6/ 332). (¬3) مصنف عبد الرزاق (6/ 334). وقد تقدم تخريجه.

نُعمان بن أبي عياش، قال: سأل رجل عطاء بن يسار عن الرجل يطلِّق البكر ثلاثًا، فقال: إنما طلاق البكر واحدة، فقال له عبد الله بن عمرو بن العاص: أنت قاصّ، الواحدة تُبينها، والثلاث تحرِّمها، حتى تنكح زوجًا غيره". فذكر عطاءٌ مذهبه، وعبد الله بن عمرٍو مذهبه. الوجه الحادي عشر: أنه مذهب خِلَاس بن عمرو، حكاه بشر بن الوليد، عن أبي يوسف، عنه. الوجه الثاني عشر: أنه مذهب محمد بن مقاتل الرازي، حكاه عنه المازري في كتابه "المعلم بفوائد مسلم" (¬1). قال الخطيب (¬2): حدث عن عبد الله بن المبارك، وعَباد بن العوّام، ووَكيع بن الجرّاح، وأبي عاصم النبيل، روى عنه الإمام أحمد، والبخاري في "صحيحه". وكان ثقة. الوجه الثالث عشر: أنه إحدى الروايتين عن مالك، حكاها عنه جماعة من المالكية، منهم التلمساني صاحب "شرح الجلاب"، وعزاها إلى ابن أبي زيد، أنه حكاها رواية عن مالك، وحكاها غيره قولاً في مذهب مالك، وجعله شاذًّا. الوجه الرابع عشر: أن ابن مُغيث المالكي حكاه في كتاب "الوثائق" (¬3) ¬

_ (¬1) (2/ 126 - 130). (¬2) تاريخ بغداد (3/ 275). وهنا ترجمة محمد بن مقاتل المروزي، وهو غير الرازي، وقد نبه ابن حجر على وهم المؤلف في "لسان الميزان" (7/ 518). (¬3) المطبوع بعنوان "المقنع في علم الشروط" (ص 85 - 81).

له، وهو مشهورعند المالكية عن بضعة عشر فقيهًا من فقهاء طُلَيْطِلَة المفتين على مذهب مالك، هكذا قال، واحتج لهم بأن قوله: أنت طالق ثلاثًا كذب؛ لأنه لم يطلق ثلاثًا، ولم يطلق إلا واحدة، كما لو قال: أحلف ثلاثًا كانت يمينًا واحدة، ثم ذكر حججهم من الحديث. الوجه الخامس عشر: أن أبا الحسن علي بن عبد الله بن إبراهيم اللَّخمي المتيطي، صاحب كتاب "الوثائق الكبير"، الذي لم يُصنَّف في الوثائق مثله، حكى الخلاف فيها عن السلف والخلف، حتى عن المالكية أنفسهم، فقال: "وأما من قال: أنت طالق ثلاثًا، فقد بانت منه، قال البتة أو لم يقل". قال: "وقال بعض الموثقين -يريد المصنفين في الوثائق-: اختلف أهل العلم بعد إجماعهم على أنه مُطَلِّقٌ، كَمْ يلزمه من الطلاق؟ فالجمهور من العلماء: على أنه يلزمه الثلاث، وبه القضاء، وعليه الفتوى، وهو الحق الذي لاشك فيه". قال: "وقال بعض السلف: يلزمه من ذلك طلقة واحدة، وتابعهم على ذلك قومٌ من الخلف من المفتين بالأندلس". قال: "واحتجوا على ذلك بحجج كثيرة، وأحاديث مسطورة، أضربنا عنها، واقتصرنا على الصحيح منها؛ فمنها: ما رواه داود بن الحصين، عن عكرمة، عن ابن عباس: أن رُكانة طلق زوجته عند رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ثلاثًا، في مجلس واحد، فقال له النبي - صلى الله عليه وسلم -: "إنما هي واحدة، فإن شئت فدَعْها، وإن شئت فارتجعها" (¬1). ثم ذكر حديث أبي الصهباء، وذكر بعض تأويلاته التي ¬

_ (¬1) تقدّم تخريجه.

ذكرناها. الوجه السادس عشر: أن أبا جَعْفر الطحاويّ حكى القولين في كتابه "تهذيب الآثار" (¬1)، فقال: "باب الرجل يطلق امرأته ثلاثًا معًا". ثم ذكر حديث أبي الصهباء، ثم قال: "فذهب قومٌ إلى أن الرجل إذا طلق امرأته ثلاثًا معًا فقد وقعت عليها واحدة، إذا كانت في وقت سُنّة، وذلك أن تكون طاهرًا في غير جماع، واحتجوا في ذلك بهذا الحديث، وقالوا: لمّا كان الله عز وجل إنما أمر عبادَه أن يُطلِّقوا لوقت على صفةٍ، فطلقوا على غير ما أمرهم به، لم يقع طلاقهم، ألا ترى لو أن رجلاً أمر رجلاً أن يُطلق امرأته في وقتٍ، فطلقها في غيره، أو أمره أن يطلقها على شريطة، فطلقها على غير تلك الشريطة: أن طلاقه لا يقع؛ إذ كان قد خالف ما أُمر به". ثم ذكر حُجج الآخرين، والجواب عن حُجج هؤلاء على عادة أهل العلم والدِّين في إنصاف مُخالفيهم، والبحث معهم، ولم يَسْلُك طريق جاهل ظالم مُعتدٍ، يَبرُك على رُكبتيه، ويُفَجِّر عينيه، ويَصولُ بمنصبه لا بعلمه، وبسوء قصده لا بحسن فَهْمه، ويقول: القول بهذه المسألة كفر، يوجب ضرب العنق، لِيَبْهَتَ خَصْمه، ويمنعه عن بسط لسانه، والجري معه في ميدانه، والله سبحانه عند لسان كل قائل، وهو له يوم الوقوف بين يديه عمَّا قاله سائل. الوجه السابع عشر: أن شيخنا رحمه الله حكى عن جَدِّه أبي البركات: أنه كان يفتي بذلك أحيانا سرًّا، وقال في بعض مصنفاته (¬2): هذا قول بعض ¬

_ (¬1) أي شرح معاني الأثار (3/ 55). (¬2) انظر: مجموع الفتاوى (33/ 83، 84) وجامع المسائل (1/ 346).

أصحاب مالك، وأبى حنيفة، وأحمد. قلت: أما المالكية فقد حكينا الخلاف عنهم. وأما بعض أصحاب أبي حنيفة فإنه محمد بن مقاتل، من الطبقة الثانية من أصحاب أبي حنيفة. وأما بعض أصحاب أحمد، فإن كان أراد إفتاء جَدِّه بذلك أحيانا وإلا فلم أقفْ على نقل عن أحد منهم. الوجه الثامن عشر: قال أبو الحسن المتيطيّ (¬1) في "وثائقه" -وقد ذكر الخلاف في المسألة- ثم قال: "ومن بعض حججهم أيضا في ذلك: أن الله سبحانه وتعالى أمر بتفريق الطلاق، بقوله تعالى: {الطَّلَاقُ مَرَّتَانِ}، وإذا جمع الإنسان ذلك في كلمة كان واحدة، وكان ما زاد عليها لغوًا، كما جعل مالك رحمه الله الذي رمي السبع الجمرات في مرة واحدة جمرةً واحدةً"، وبنَى عليها أن الطلاق عندهم مثله، قال: "وممن نصر هذا القول من أهل الفُتيا بالأندلس: أصبغُ بن الحباب، ومحمد بن بَقِيٍّ، ومحمد بن عبد السلام الخُشني، وابن زِنْباع، مع غيرهم من نظرائهم". هذا لفظه. الوجه التاسع عشر: أن أبا الوليد هشام بن عبد الله بن هشام الأزدي القُرْطُبي صاحب كتاب "مفيد الحكام فيما يعرض لهم من النوازل والأحكام" ذكر الخلاف بين السلف والخلف في هذه المسألة، حتى ذكر الخلاف فيها في مذهب مالك نفسه، وذكر مَنْ كان يُفتي بها من المالكية، والكتاب مشهور معروف عند أصحاب مالك، كثير الفوائد جدًّا، ونحن نذكر ¬

_ (¬1) ح: "الواسطي".

نصّه فيه بلفظه، فنذكر ما ذكره عن ابن (¬1) مُغيث، ثم نُتْبعه كلامه؛ ليُعْلَم أن النقل بذلك معلوم مُتَدَاوَل بين أهل العلم، وأن من قَصُرَ في العلم باعُه، وطال في الجهل والظلم ذراعُه، يُبادر إلى التكفير والعقوبة جهلاً منه وظلفا، ويحَقّ له، وهو الدعيّ في العلم (¬2) ليس منه أقربَ رُحْمًا. قال ابن هشام: "قال ابن مُغيث: الطلاق ينقسم على ضربين: طلاق السنة، وطلاق البدعة. فطلاق السنة: هو الواقع على الوجه الذي نَدب الشرع إليه، وطلاق البدعة: نقيضه، وهو أن يطلقها في حيضٍ أو نفاسٍ أو ثلاثًا في كلمة واحدة، فإن فعل لزمه الطلاق. ثم اختلف أهل العلم بعد إجماعهم على أنه مطلِّق، كم يلزمه من الطلاق؟ فقال علي بن أبي طالب، وابن مسعود: يلزمه طلقة واحدة، وقاله ابن عباس، وقال: قوله "ثلاثًا" لا معنى له؛ لأنه لم يطلق ثلاث مرات، وإنما يجوز قوله في ثلاث إذا كان مخبرًا عما مضى، فيقول طلقت ثلاثًا، يخبر عن ثلاثة أفعال كانت منه في ثلاثة أوقات، كرجل قال: قرأت أمس سورة كذا ثلاث مرات، فذلك يصح، ولو قرأها مرة واحدة، فقال: قرأتها ثلاث مرات، كان كاذبًا. وكذلك لو حلف بالله ثلاثًا يُرَدِّد الحَلِفَ كانت ثلاثة أيمان، ولو قال: أحلف بالله ثلاثًا لم يكن حلف إلا يمينًا واحدة، والطلاق مثله. ومثله قال الزبير بن العوام، وعبد الرحمن بن عوف رضي الله عنهما، رُوِّينا ذلك كله عن ابن وَضّاح. ¬

_ (¬1) كذا في ح، وباقي النسخ: "أبي". (¬2) "في العلم" ساقطة من م.

وبه قال من شيوخ قرطبة: ابن زِنباع شيخُ هُدًى، ومحمد بن بَقِيِّ بن مخلَد، ومحمد بن عبد السلام الخُشَني فقيه عصره، وأصْبَغُ بن الحباب، وجماعة سواهم من فقهاء قُرْطُبة. وكان من حجة ابن عباس: أن الله تعالى فَرّق في كتابه لفظ الطلاق، فقال: {الطَّلَاقُ مَرَّتَانِ فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ} [البقرة: 229]، يريد أكثر الطلاق الذي يمكن بعده الإمساك بالمعروف، وهو الرجعة في العدة، ومعنى قوله: {أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ}، يريد تركها بلا ارتجاع حتى تنقضي عدتها، وفى ذلك إحسان إليه وإليها إن وقع نَدَمٌ منهما، قال الله تعالى: {لَا تَدْرِي لَعَلَّ اللَّهَ يُحْدِثُ بَعْدَ ذَلِكَ أَمْرًا} [الطلاق: 1]، يريد الندَمَ على الفرقة، والرغبةَ في المراجعة. ومُوقعُ الثلاث غيرُ محسن؛ لأنه ترك المندوحة التي وسّع الله تعالى بها ونَبّه عليها، فذكر الله سبحانه وتعالى لفظ الطلاق مُفَرَّقًا، فدلَّ على أنه إذا جُمع أنه لفظ واحد. فتدبَّرْه. وقد يخرج من غير ما مسألة من الرواية (¬1) ما يدل على ذلك، من ذلك قول الرجل: ما لي صدقة في المساكين، أن الثلث من ذلك يجزئه. هذا كله لفظ صاحب الكتاب بحروفه. أفَتَرى الجاهل الظالم المعتدي يجعل هؤلاء كلهم كفارًا مباحةً دماؤهم؛ {سُبْحَانَكَ هَذَا بُهْتَانٌ عَظِيمٌ}! بل هؤلاء من أكابر أهل العلم والدِّين، وذنبهم عند أهل العمى أهل التقليد: كونهم لم يرضَوا لأنفسهم بما رضي به المقلدون، وردُّوا ما تنازع فيه المسلمون إلى الله ورسوله. ¬

_ (¬1) م: "المدونة".

الجواب عما احتجوا به من إلزام عمر رضي الله عنه الخليفة الملهم بالثلاث، وكيف ساغ له مخالفة الرسول - صلى الله عليه وسلم - وأبي بكر، وكيف سكت الصحابة عن ذلك

وَتلْكَ شَكاةٌ ظَاهِرٌ عَنْكَ عَارُهَا (¬1) الوجه العشرون: أن هذا مذهب أهل الظاهر داود وأصحابه، وذَنْبهم عند كثير من الناس أخذهم بكتاب ربهم وسنّة نبيهم، ونبذُهم القياسَ وراء ظهورهم، فلم يعبأوا به شيئًا. وخالفهم أبو محمد بن حَزْم في ذلك، فأباح جمع الثلاث وأوقعها (¬2)، فهذه عشرون وجهًا في إثبات النزاع في هذه المسألة، بحسب بضاعتنا المُزْجاة من الكتب، وإلا فالذي لم نقف عليه من ذلك كثير. وقد حكى ابن وَضّاح وابن مُغيث ذلك عن علي، وابن مسعود، والزبير، وعبد الر حمن بن عوف، وابن عباس، ولعله إحدى الروايتين عنهم، وإلا فقد صح بلا شكٍّ عن ابن مسعود، وعلي، وابن عباس: الإلزام بالثلاث لمن أوقعها جملة، وصحّ عن ابن عباس أنه جعلها واحدة، ولم نقف على نقل صحيح عن غيرهم من الصحابة بذلك، فلذلك لم نَعُدّ ما حُكي عنهم في الوجوه المبينة للنزاع، وإنما نعدّ ما وقفنا عليه في مواضعه، ونعزوه إليها، وبالله التوفيق. فإن قيل: فقد ذكرتم أعذار الأئمة الملزمين بالثلاث عن تلك الأحاديث المخالفة لقولهم، فما عذركم أنتم عن أمير المؤمنين وثاني الخلفاء الراشدين المحدَّث المُلْهَم، الذي أُمِرنا باتباع سنته والاقتداء به؟ أفتطعنون به ¬

_ (¬1) صدره: وعيَّرها الواشون أني أحبُّها والبيت لأبي ذؤيب الهذلي في شرح أشعار الهذليين (1/ 70)، وخزانة الأدب (4/ 153)، ولسان العرب (شكا). (¬2) انظر: المحلى (10/ 170).

بيان أن الأحكام نوعان: ما له حالة واحدة لا يتغير، وما يتغير بحسب اقتضاء المصلحة له

أنه كان يرى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وخليفته من بعده والصحابة في عهده يجعلون الثلاث واحدة، مع أنه أيسر على الأمة وأسهل، وأبعد من الحرج، ثم يَعْمِد إلى مخالفة ذلك برأيه، ويُلزم الأمة بالثلاث من قِبل نفسه، فيُضيِّق عليهم ما وشَعه الله تعا لى، ويُعسِّر ما سَهله، ويَسُد ما فتحه، ويُحرج ما فَسَحه، ثم يُتابعه على ذلك أكابر الصحابة، ويوافقونه، ولا يخالفونه؟ ثم هَبْ أنهم خافوا منه في حياته، وكلّا فإنه كان أتقى لله سبحانه وتعالى من ذلك، وكان إذا بينت له المرأةُ ما خَفِي عليه من الحق رجع إليه، وكان الصحابة أتقى لله تعالى وأعلم به أن يأخذهم لومة لائم في الحق، وأن يمسكوا عنه خوفًا من عمر رضي الله عنه. فقد دار الأمر بين القَدْح في عمر رضي الله عنه والصحابة معه، وبين رَد تلك الأحاديث: إما لضعفهما، وإما لنَسْخها، وخفي علينا الناسخ، وإما بتأويلها وحَمْلها على مَحمِل يصحّ، ولا ريب أن هذا أولى لِتَوْفية حَق الصحابة رضي الله عنهم، الذين هُمْ أعلم بالله تعالى ورسوله - صلى الله عليه وسلم - مِن جميع مَنْ بعدَهم. قيل: لعَمْرُ الله، وإن هذا لسؤالٌ يُورِد أمثالَه أهلُ العلم، وإنه ليحتاج إلى جواب شافٍ كافٍ، فنقول: الناس هنا طائفتان: طائفة اعتذرت عن هذه الأحاديث لأجل عمر ومَنْ وافقه، وطائفة اعتذرت عن عمر رضي الله عنه، ولم تردَّ الأحاديث. فقالوا: الأحكام نوعان: نوع لا يتغير عن حالة واحدة هو عليها، لا بحسب الأزمنة، ولا الأمكنة، ولا اجتهاد الأئمة، كوجوب الواجبات، وتحريم المحرَّمات، والحدود المقدرة بالشرع على الجرائم، ونحو ذلك. فهذا لا يتطرق إليه تغيير ولا

ذكر صور من تعزيرات النبي - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه

اجتهاد يخالف ما وُضع عليه. والنوع الثاني: ما يتغير بحسب اقتضاء المصلحة له زمانًا ومكانا وحالاً، كمقادير التّعْزيراتِ، وأجناسها، وصفاتها؛ فإن الشارع يُنوِّعُ فيها بحَسْبِ المصلحة: فشرعَ التعزيرَ بالقَتْلِ لمدمِن الخمر في المرَّة الرابعة (¬1). وعَزَمَ على التعزير بتَحْريق البيوت على المتخلِّف عن حضور الجماعة (¬2)، لولا ما منعه من تَعَدِّي العقوبة إلى غير مَنْ يَستَحِقّها من النساء والذّرية. وعَزّرَ بحِرْمان النصيب المستحَق من السّلَب (¬3). وأخبر عن تعزير مانع الزكاة بأخذ شَطْرِ ماله (¬4). وعَزّر بالعقوبات المالية في عدّة مواضع. وعَزّر مَنْ مَثّل بعَبْدِه بإخراجه عنه وإعتاقه عليه (¬5). ¬

_ (¬1) أخرجه النسائي (8/ 313)، والحاكم في المستدرك (4/ 371) عن ابن عمر، وإسناده صحيح. وفي الباب عن جماعة من الصحابة. وللعلامة أحمد محمد شاكر بحث مطوَّل في الكلام على هذا الحديث روايةً ودرايةً في تعليقه على المسند (9/ 49 - 92). (¬2) أخرجه البخاري (664)، ومسلم (651) عن أبي هريرة. (¬3) أخرجه مسلم (1753) عن عوف بن مالك. (¬4) أخرجه أبو داود (1575)، والنسائي (5/ 25)، وأحمد (5/ 2، 4) عن بهز بن حكيم عن أبيه عن جده. وهو حديث حسن. (¬5) أخرجه أحمد (2/ 182، 225)، وأبو داود (4519)، وابن ماجه (2680)، وهو حديث حسن.

وعَزّر بتَضْعِيف الغُرْم على سارق ما لا قَطْع فيه، وكاتم الضالّة (¬1). وعزر بالهجر ومَنعْ قربان النساء (¬2). ولم يُعرف أنه عَزّر بدِرّة، ولا حَبْسٍ، ولا سَوْطٍ، وإنما حَبَس في تُهمةٍ لِيتبيّن حال المتهم (¬3). وكذلك أصحابه، تنوّعوا في التعزيرات بعده: فكان عمر رضي الله عنه يحَلق الرأس، وينفي، ويضرب، ويُحرق حوانيت الخمَّارين، والقرية التي تُباع فيها الخمر، وحرق قصر سعدٍ بالكوفة لما احتجب فيه عن الرعية (¬4). وكان له رضي الله تعالى عنه في التعزير اجتهادٌ وافقه عليه الصحابة ¬

_ (¬1) أخرجه أبو داود (4390)، والترمذي (1289)، والنسائي (8/ 84، 85) عن عبد الله بن عمرو بن العاص. وإسناده حسن. (¬2) أخرجه البخاري (4418)، ومسلم (2769) عن كعب بن مالك. (¬3) أخرجه أبو داود (3635)، والترمذي (1417)، والنسائي (8/ 67) عن بهز بن حكيم عن أبيه عن جده، قال الترمذي: حديث حسن. (¬4) خبر حَرقِ عمر بابَ قصرِ سعد رواه ابن المبارك في الزهد (513)، وأحمد (1/ 55) - ومن طريقه الحاكم (7358) -، وابن صاعد في زوائد الزهد (514 - 518)، والطبراني في الكبير (1/ 144)، وابن عساكر في تاريخ دمشق (55/ 279 - 285)، من طرقٍ عن عَباية بن رفاعة بذلك في قضة، قال الهيثمي في المجمع (8/ 306): أرجاله رجال الصحيح، إلا أنّ عباية لم يسمع من عمر"، وحكم بانقطاعه أيضا ابن حجر في المطالب العالية (9/ 639)، وحسّن إسناده الذهبي في التلخيص، وكأن ابن تيمية صحّحه في المجموع (28/ 111)، وكذا المصنّف في الطرق الحكمية (ص 378).

لكمال نُصْحه، ووفور عِلْمِه، وحسن اختياره للأمّة، وحدوث أسبابٍ اقتضت تَعْزيره لهم بما يَرْدَعهم، لم يكن مثلها على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذ كانت، ولكن زاد الناس عليها وتتايعوا فيها. فمن ذلك: أنهم لما زادوا في شرب الخمر، وتتايعوا فيه، وكان قليلاً على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، جعله عمر رضي الله عنه ثمانين، ونفى فيه (¬1). ومن ذلك: اتخاذه دِرّة يضرب بها من يستحقُّ الضرب (¬2). ومن ذلك: اتخاذه دارًا للسَّجن (¬3). ومن ذلك: ضربه للنوائح حتى بدا شَعْرها (¬4). وهذا باب واسع، اشتبه فيه على كثيرٍ من الناس الأحكامُ الثابتة اللازمة ¬

_ (¬1) روى البخاري (6397) عن السائب بن يزيد قال: كنّا نُؤتى بالشارب على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وإمرةِ أبي بكر وصدرًا من خلافة عمر فنقوم إليه بأيدينا ونعالنا وأرديَتنا، حتى كان آخر إمرة عمر فجلد أربعين، حتى إذا عتَوا وفسقوا جلد ثمانين. وليس فيه ذكر النفي. (¬2) انظر: مصنف عبد الرزاق (10/ 416). (¬3) علّقه البخاري بمعناه بصيغة الجزم في كتاب الخصومات، باب: الربط والحبس في الحرم، وهو موصول عند عبد الرزاق (5/ 147)، والأزرقي في أخبار مكة (2/ 158)، وابن أبي شيبة (5/ 7)، والفاكهي في أخبار مكة (2076)، والبيهقي في الكبرى (6/ 34). (¬4) رواه عبد الرزاق (3/ 557) من طريق عمرو بن دينار ونصر بن عاصم -فرّقهما- عن عمر بمعناه، ورواه ابن شبّة في تاريخ المدينة (1360) من طريق الأوزاعي، والثعلبي في تفسيره (9/ 299) من طريق أبان بن أبي عياش عن الحسين، كلاهما عن عمر بمعناه.

التي لا تتغير، بالتعزيرات التابعة للمصالح وجودًا وعدمًا. ومن ذلك: أنه رضي الله عنه لما رأى الناس قد أكثروا من الطلاق الثلاث، ورأى أنهم لا ينتهون عنه إلا بعقوبة، فرأى إلزامهم بها عقوبةً لهم، ليكفّوا عنها. وذلك إما من التعزير العارض الذي يُفعل عند الحاجة، كما كان يضرب في الخمر ثمانين، ويحلق فيها الرأس، وينفى عن الوطن، وكما منع النبي - صلى الله عليه وسلم - الثلاثة الذين خُلِّفوا عنه عن الاجتماع بنسائهم. فهذا له وجه. وإما ظنًّا أن جعل الثلاث واحدةً كان مشروطًا بشرطٍ، وقد زال، كما ذهب إلى ذلك في مُتْعة الحج، إما مُطلقًا، وإما مُتعة الفسخ. فهذا وجهٌ آخر. وإما لقيام مانع قام في زمنه، منعَ (¬1) من جعل الثلاث واحدة، كما قام عنده مانع من بَيْع أمّهات الأولاد (¬2)، ومانعٌ من أخذ الجزية من نصارى بني تَغْلِب (¬3)، وغير ذلك. فهذا وجه ثالث. فإن الحكم ينتفي لانتفاء شروطه، أو لوجود مانعه، والإلزام بالفرقة فسخًا أو طلاقًا لمن لم يَقُم بالواجب: مما يسوغ فيه الاجتهاد. لكن تارة يكون حقًّا للمرأة، كما في العِنّةِ، والإيلاء، والعجز عن النفقة، والغيبة الطويلة عند من يرى ذلك، وتارة يكون حقًّا للزوجٍ، كالعيوب المانعة له من استيفاء المعقود عليه، أو كماله، وتارة يكون حقًّا لله تعالى، كما في ¬

_ (¬1) "منع" ساقطة من م. (¬2) أخرجه أبو داود (3954) عن جابر بن عبد الله. (¬3) انظر: الأموال لأبي عبيد (71)، والخراج ليحيى بن آدم (206).

تفريق الحَكَمين بين الزوجين عند من يجعلهما وكيلين، وهو الصواب، وكما في وقوع الطلاق بالمُولِي إذا لم يَفِئْ في مدة التربّص عند كثير من السلف والخلف. وكما قال بعض السلف ووافقهم عليه بعض أصحاب أحمد رحمه الله: أنهما إذا تطاوعا على الإتيان في الدّبر فُرِّق بينهما. وقريب من ذلك: أن الأب الصالح إذا أمر ابنه بالطلاق لما يراه من مصلحة الولد، فعليه أن يطيعه، كما قاله أحمد رحمه الله وغيره. واحتجوا بأن النبي - صلى الله عليه وسلم - أمر عبد الله بن عمر أن يطيع أباه، لمّا أمره بطلاق زوجته (¬1). فالإلزام إما من الشارع وإما من الإمام بالفرقة، إذا لم يَقُمِ الزوج بالواجب: هو من موارد الاجتهاد. وأصل هذا أن الله سبحانه وتعالى لما كان يُبْغِض الطلاق، لما فيه من كسْرِ الزوجة، وموافقة رضا عَدُوِّه إبليس، حيث يفرحُ بذلك، ويلتزمُ مَنْ يكون على يديه من أولاده، ويُدنيه منه، ومُفارقة طاعته بالنكاح الذي هو واجمب أو مستحب، وتعريض كلٍّ من الزوجين للفجور والمعصية، وغير ذلك من مفاسد الطلاق، وكان مع ذلك قد يحتاج إليه الزوج أو الزوجة، وتكون المصلحة فيه = شَرعه على وجْهٍ تحصلُ به المصلحة، وتَنْدفع به ¬

_ (¬1) رواه الطيالسي (1822)، وأحمد (2/ 20، 42، 53، 157)، وعبد بن حميد (835)، وأبو داود (5145)، والترمذي (1189)، وابن ماجه (2088)، وغيرهم من حديث ابن عمر رضي الله عنهما، قال الترمذي: "هذا حديث حسن صحيح"، وصححه ابن حبان (427)، والحاكم (2798)، وحسنه البغوي في شرح السنة (2348)، والألباني في السلسلة الصحيحة (919).

المفسدة، وحَرّمه على غير ذلك الوجه، فشرعه على أحسن الوجوه وأقومها لمصلحة الزوج والزوجة. فشرع له أن يطلقها طاهرًا من غير جماع طَلْقة واحدةً، ثم يَدَعها حتى تنقضي عِدّتها، فإن زال الشر بينهما وحصلت الموافقة كان له سبيل إلى لَمِّ الشَّعَثِ، وإعادة الفراش كما كان، وإلا تركها حتى انقضت عدتها، فإن تبعتها نفسه كان له سبيل إلى خِطْبتها، وتجديد العقد عليها برضاها، وإن لم تتبعها نفسه تركها، فنكحت من شاءت. وجعل العِدّة ثلاثة قُروء، ليطول زَمَنُ المُهْلة والاختيار. فهذا هو الذي شرعه وأذن فيه. ولم يأذن في إبانتها بعد الدخول إلا بالتراضي بالفسخ والافتداء، فإذا طلقها مرة بعد مرة بقي له طلقةٌ واحدة، فإذا طلقها الثالثة حَرّمها عليه عقوبة له، ولم يحِلّ له أن ينكحها حتى تنكح زوجًا غيره، ويدخل بها، ثم يفارقها بموت أو طلاق. فإذا علم أن حبيبه تصير إلى غيره، فيحظى به دونه، أمسك عن الطلاق. فلما رأى أميرُ المؤمنين أن الله سبحانه عاقَب المطلِّق ثلاثًا بأن حال بينه وبين زوجته، وحَرّمها عليه حتى تنكح زوجًا غيره = علم أن ذلك لكراهته الطلاق المحرِّم، وبُغضه له، فوافقه أمير المؤمنين رضي الله عنه في عقوبته لمن طلّق ثلاثًا جميعًا بأن ألزمه بها، وأمضاها عليه. فإن قيل: فكان أسهلَ من ذلك أن يمنع الناس من إيقاع الطلاق الثلاث، ويحرِّمه عليهم، ويعاقب بالضرب والتأديب مَنْ فعله؛ لئلا يقع المحذور الذي يترتب عليه. قيل: نعم لَعَمْرُ الله، قد كان يمكنه ذلك، ولذلك ندم عليه في آخر أيامه،

وَوَدّ أنه كان فعله. قال الحافظ أبو بكر الإسماعيلي في "مسند عمر" (¬1): أخبرنا أبو يَعْلىَ، حدثنا صالح بن مالك، حدثنا خالد بن يزيد بن (¬2) أبي مالك، عن أبيه، قال: قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: ما نَدِمتُ على شيء ندامتي على ثلاث: أن لا أكون حَرّمت الطلاق، وعلى أن لا أكون أنكحت الموالي، وعلى أن لا أكون قتلت النوائح. ومن المعلوم أنه رضي الله عنه لم يكن مرادُه تحريمَ الطلاق الرجعي الذي أباحه الله تعالى، وعُلِم بالضرورة من دين رسول الله - صلى الله عليه وسلم - جوازُه، ولا الطلاق المحرَّم الذي أجمع المسلمون على تحريمه، كالطلاق في الحيض، وفى الطهر المجامَع فيه، ولا الطلاق قبل الدخول، الذي قال الله تعالى فيه: {لَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِنْ طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ مَا لَمْ تَمَسُّوهُنَّ أَوْ تَفْرِضُوا لَهُنَّ فَرِيضَةً} [البقرة: 236]، هذا كله من أبين المحال أن يكون عمر رضي الله عنه أراده. فتعين قطعًا أنه أراد تحريم إيقاع الثلاث، فعُلم أنه إنما كان أوقعها لاعتقاده جواز ذلك، ولذلك قال: إن الناس قد استعجلوا في شيء كانت لهم فيه أناة، فلو أمضيناه عليهم! وهذا كالصريح في أنه غير حرام عنده، وإنما أمضاه لأن المطلّق كانت له فُسْحَة من الله تعالى في التفريق، فرغب عَمّا فَسَحَه الله تعالى له إلى الشدّة ¬

_ (¬1) لم أقف على هذا الأثر، وخالد بن يزيد هو ابن عبد الرحمن بن أبي مالك، قال في التقريب: "ضعيف وقد اتهّمه ابن معين"، وأبوه يزيد لم يدرك عمر بن الخطاب رضي الله عنه. (¬2) ح: "عن" تحريف.

والتغليظ، فأمضاه عمر رضي الله عنه عليه، فلما تبين له بالأخرة ما فيه من الشر والفساد نَدِمَ على أن لا يكون حرّم عليهم إيقاع الثلاث، ومنعهم منه، وهذا مذهب الاكثرين: مالك، وأحمد، وأبي حنيفة رحمهم الله. فرأى عمر رضي الله عنه أن المفسدة تندفع بإلزامهم به، فلما تبيّن له أن المفسدة لم تندفع بذلك، وما زاد الأمرُ إلا شدة، أخبر أن الأوْلىَ كان عُدُوله إلى تحريم الثلاث الذي يدفع المفسدة من أصلها، واندفاع هذه المفسدة بما كان عليه الأمر في زمن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وأبي بكر، وأول خلافة عمر رضي الله عنه أولى من ذلك كله، ولا يندفع الشر والفساد بغيره البتة، ولا يُصلِح الناسَ سواه. ولهذا (¬1) لما رغب كثير من الناس عما كان عليه الأمر في زمن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، احتاجواإلى أحد أمرين (¬2): إما الدخول فيما [80 أ] لَعَن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فاعلَه، وتابَع عليه اللعنة، وإما التزام الآصار والأغلال، ورؤية حبيبه حسرة. والذي شرعه الله ورسوله - صلى الله عليه وسلم -، ودلّت عليه السنة الصحيحة الصريحة: يخُلِّص من هذا وهذا، ولكن تأبى حكمةُ الله تعالى أن يَفْتح للظالمين المعتدين لحدوده، الراغبين عن تَقواه وطاعته، أبوابَ التيسير والفرج والسهولة؛ فإن الله سبحانه إنما جعل ذلك لمن اتّقاه، والْتزم طاعته وطاعة رسوله، كما قال تعالى في السورة التي بَيّن فيها الطلاق وأحكامه وحدوده، وما شرعه لعباده فيه: {وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا} [الطلاق: 2]، وقال فيها: {وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مِنْ أَمْرِهِ يُسْرًا} [الطلاق: 4]، وقال فيها: {وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ ¬

_ (¬1) هنا انتهى الخرم الكبير في الأصل الذي بدأ في (ص 500). (¬2) بعده في م: "لابد لهم منهما".

يُكَفِّرْ عَنْهُ سَيِّئَاتِهِ وَيُعْظِمْ لَهُ أَجْرًا} [الطلاق: 5]، فمن طلّق على غير تقوى الله كان حقيقًا أن لا يجعلَ الله له مخرجًا، وأن لا يجعل له من أمره يسرًا. وقد أشار إلى هذا بعينه الصحابةُ، حيث قال ابن عباس وابن مسعود (¬1) لمن طلّق ثلاثًا جميعًا: إنك لم تتق الله، فيجعل لك مخرجًا. وقال شُعبة (¬2)، عن ابن أبي نَجيح، عن مجاهد: سُئِل ابنُ عباسٍ عن رجل طلّق امرأته مئةً، فقال: عصيتَ ربك، وبانتْ منك امرأتك، إنك لم تتق الله فيجعل لك مخرجًا، {وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا} [الطلاق: 2]. وقال الأعمش (¬3) عن مالك بن الحارث، عن ابن عباس: أن رجلاً أتاه، فقال: إن عَمِّي طلق امرأته ثلاثًا، فقال: إن عمَّك عمى الله فأندمه الله تعالى، وأطاع الشيطان فلم يجعل له مخرجًا، فقال: أفلا يُحلِّلها له رجل؟ فقال: مَنْ يُخادعِ الله يَخْدَعْه. والله تعالى قد جَرَتْ سُنَّته في خلقه بأن يحُرِّم الطيبات شرعًا وقَدرًا على من ظَلَم وتعدّى حدوده، وعمى أمره، وأن يُيسِّر للعُسْرَى مَنْ بَخِلَ بما أمرَهُ به فلم يفعله، واستغنى عن طاعته باتباع شهوته وهواه، كما أنه سبحانهُ يُيسِّر لليُسْرَى مَنْ أعطَى واتّقى، وصدّق بالحُسْنَى. فهذا نهاية إقدام الناس في باب الطلاق. ¬

_ (¬1) هذا مشهور عن ابن عباس، وقد تقدّم تخريجه، ولم أقف عليه بهذا اللفظ عن ابن مسعود. (¬2) تقدم تخريجه. (¬3) تقدم تخريجه.

يبقى أن يقال: فإذا خفيَ على أكثر الناس حكم الطلاق، ولم يُفَرِّقوا بين الحلال والحرام منه جهلاً، وأوقعوا الطلاق المحرّم يظنونه جائزًا، هل يَسْتَحِقّون العقوبة بالإلزام به؛ لكونهم لم يتعلموا دينهم الذي أمرهم الله تعالى به، وأعرضوا عنه، ولم يسألوا أهل العلم كيف يطلقون؟ وماذا أبيح لهم من الطلاق؛ وماذا يحرم عليهم منه؟ أم يُقال: لا يستحقون العقوبة؛ لأن الله سبحانه لا يعاقب شرعًا ولا قدرًا إلا بعد قيام الحجة، ومخالفة أمره، كما قال تعالى: {وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا} [الإسراء: 15]؟ وأجمعَ الناس على أن الحدود لا تجب إلا على عالم بالتحريم، متعمدٍ لارتكاب أسبابها، والتعزيراتُ مُلْحَقة بالحدود. فهذا موضع نظر واجتهاد، وقد قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: "التائبُ من الذنبِ كمَنْ لا ذنبَ له" (¬1)، فمن طلّق على غير ما شرعه الله تعالى وأباحه جاهلاً، ثم علمَ ¬

_ (¬1) رواه ابن ماجه (4250)، والطبراني في الكبير (10/ 150) - وعنه أبو نعيم في الحلية (4/ 210) -، والدارقطني في العلل (5/ 297)، والسهمي في تاريخ جرجان (674)، وغيرهم من طريق أبي عبيدة عن ابن مسعود مرفوعًا، وفي إسناده اختلاف، وأعلّه البيهقي في الكبرى (10/ 154) وقال: "ورُوي من أوجه ضعيفة"، وأعلّه بالانقطاع المنذري في الترغيب (4/ 48)، وابن مفلح في الآداب الشرعية (1/ 117)، والهيثمي في المجمع (10/ 330)، والهيتمي في الزواجر (2/ 956)، وحسن إسناده ابن حجر في الفتح (13/ 471)، قال السخاوي في المقاصد (1/ 249): "يعني لشواهده، وإلا فأبو عبيدة جزم غير واحد بأنه لم يسمع من أبيه"، ولكن قال ابن رجب في الفتح (7/ 342): أحاديثه عنه صحيحة، تلقاها عن أهل بيته الثقات العارفين بحديث أبيه. وحسّنه الألباني في السلسلة الضعيفة (2/ 83). وفي الباب عن أنس وابن عباس وأبي سعد الأنصاري وأبي عنبة الخولاني وعائشة.

فصل: من مكايد الشيطان: الحيل والمكر والخداع

به فندم وتاب، فهو حقيق بأن لا يُعاقَب، وأن يُفْتَى بالمخرج الذي جعله الله تعالى لمن اتّقاه، ويُجعَل له من أمره يُسرًا. والمقصود أن الناس لابدّ لهم في باب الطلاق من أحد ثلاثة أبواب يدخلون منها: أحدها: باب العلم والاعتدال الذي بعث الله تعالى به رسوله - صلى الله عليه وسلم -، وشرعه للأمة، رحمةً بهم وإحسانًا إليهم. والثاني: باب الآصار والأغلال الذي فيه من العُسْرِ والشدّة والمشقة ما فيه. والثالث: باب المكر والاحتيال الذي فيه من الخداع والتحيّل، والتلاعب بحدود الله تعالى، واتخاذ آياته هُزُوًا، ما فيه. ولكل باب من المطلِّقين وغيرهم جُزْءٌ مَقْسُومٌ. فصل ومن مكايده التي كاد بها الإسلام وأهله: الحِيَلُ، والمكر، والخداع [80 ب] الذي يتضمن تحليلَ ما حَزمه الله، وإسقاط ما فَرضه، ومضادّتَه في أمره ونهيه، وهي من الرأي الباطل الذي اتفق السلف على ذَمّه. فإن الرأي رأيان: رأيٌ يوافق النصوص، وتشهد له بالصحة والاعتبار، فهو الذي اعتبره السلف وعملوا به. ورأيٌ يخالف النصوص، وتشهدُ له بالإبطال والإهْدار، فهو الذي ذَمُّوه وأنكروه.

وكذلك الحيل نوعان: نوع يُتَوَصَّل به إلى فعل ما أمر الله تعالى به، وترك ما نهى عنه والتخلُّص من الحرام، وتخليص الحق من الظالم المانع له، وتخليص المظلوم من يد الظالم الباغي. فهذا النوع محمودٌ يُثاب فاعله ومُعَلِّمه. ونوع يتضمن إسقاط الواجبات، وتحليل المحرّمات، وقلب المظلوم ظالمًا والظالم مظلومًا، والحق باطلًا والباطل حقًا. فهذا النوع الذي اتفق السلف على ذمّه، وصاحوا بأهله من أقطار الأرض. وقال الإمام أحمد رحمه الله: لا يجوز شيءٌ من الحيل في إبطال حق مسلم. وقال الميموني: قلت لأبى عبد الله: من حلف على اليمين ثم احتال لإبطالها، فهل تجوز تلك الحيلة؟ قال: نحن لا نرى الحيلة إلا بما يجوز، قلت: أليس حيلتنا فيها أن نَتَبع ما قالوا، وإذا وجدنا لهم قولاً في شيء اتَبعناه؟ قال: بلى، هكذا هو، قلت: أوَليس هذا منا نحن حيلةً؟ قال: نعم. فبيّن الإمام أحمد: أن مَن اتبع ما شُرع له وجاء عن السلف في معاني الأسماء التي عُلّقت بها الأحكام، ليس بمحتالٍ الحيل المذمومة، وإن سُميت حيلة، فليس الكلام فيها. وغرضُ الإمام أحمد بهذا: الفرقُ بين سلوك الطريق المشروعة التي شُرعت لحصول مقصود الشارع، وبين الطريق التي تُسلك لإبطال مقصوده. فهذا هو سِرّ الفرق بين النوعين، وكلامنا الآن في النوع الثاني.

قال شيخنا (¬1) رحمه الله: فالدليل على تحريم هذا النوع وإبطاله من وجوه: الوجه الأول: قوله سبحانه وتعالى: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَمَا هُمْ بِمُؤْمِنِينَ (8) يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَمَا يَخْدَعُونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ وَمَا يَشْعُرُونَ} [البقرة: 9، 8]، وقال تعالى: {إِنَّ الْمُنَافِقِينَ يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَهُوَ خَادِعُهُمْ} [النساء: 142]، وقال في أهل العهد: {وَإِنْ يُرِيدُوا أَنْ يَخْدَعُوكَ فَإِنَّ حَسْبَكَ اللَّهُ} [الأنفال: 62]، فأخبر سبحانه وتعالى أن هؤلاء المخادعين مخدوعون وهم لا يشعرون، وأن الله تعالى خادعُ مَنْ خدعه، وأنه يكفي المخدوع شَرَّ مَنْ خدعه. والمخادعة هي الاحتيال والمراوغة، بإظهار الخير مع إبطان خلافه، لتحصيل مقصود المخادع، وهذا موافق لاشتقاق اللفظ في اللغة، فإنهم يقولون: طريق خَيْدَع، إذا كان مخالفًا للقصد لا يُشعَر به، ولا يُفطن له، ويقال للسراب: الخياع، لأنه يَغُرّ من يراه، وضَبٌّ خَدِع أي: مراوغ، كما قالوا: أخْدَعُ من ضَبٍّ، ومنه: "الحرْب خَدْعة" (¬2)، وسوق خادعةٌ أي: متلونة، وأصله: الإخفاءُ والسَّتر، ومنه سميت الخِزانة مُخْدَعًا. فلما كان القائل: "آمنت" مُظهرًا لهذه الكلمة، غير مريد حقيقتها المطلوبة شرعًا، بل مريدًا لحكمها وثمرتها فقط مُخادعًا = كان المتكلم بلفظ بعْتُ، واشتريت، وطلقت، ونكحت، وخالعت، وآجرت، وساقيت، ¬

_ (¬1) في بيان الدليل على إبطال التحليل (ص 29 وما بعدها). (¬2) أخرجه البخاري (3030)، ومسلم (1739) عن جابر.

وأقرضت -غير مريد لحقائقه الشرعية المطلوبة منها، بل مريدًا لأمور أخرى غير ما شُرِعت له، أو ضدّ ما شُرِعت له- مخادعًا. ذاك مخادعٌ في أصل الإيمان، وهذا مخادع في أعماله وشرائعه. قال شيخنا (¬1) رحمه الله: وهذا ضرب من النفاق في آيات الله تعالى وحدوده، كما أن الأول نفاق في أصل الدين. يؤيد ذلك ما رواه سعيد بن منصور (¬2) عن ابن عباس رضي الله عنهما: أنه جاءه رجل، فقال: إن عَمي طلق امرأته ثلاثًا، أيُحِلّها له رجل؟ فقال: مَنْ يُخادعِ الله يخدعْه. وعن أنس (¬3) بن مالك (¬4): أنه سئل عن العِينَة، يعني بيع الحريرة، فقال: إن الله تعالى لا يُخْدَع، هذا ما حرّم الله تعالى ورسوله. رواه أبو جعفر محمد بن سليمان الحافظ المعروف بِمُطَيَّن في كتاب "البيوع" له. وعن ابن عباس (¬5): أنه سئل عن العِينة، يعني بيع الحريرة، فقال: إن الله لا يُخْدَع، هذا ممّا حرّم الله تعالى ورسوله. رواه الحافظ أبو محمد النَّخْشَبِيُّ. ¬

_ (¬1) بيان الدليل (ص 31). (¬2) سنن سعيد بن منصور (1065)، ومن طريقه ابن بطة في إبطال الحيل (ص 48) وابن حزم في المحلى (10/ 181) والبيهقي (7/ 337). (¬3) من هنا إلى ص 630 خرم في الأصل. (¬4) لم أقف عليه، وقد صحّحه المصنف في إعلام الموقعين (3/ 161). (¬5) لم أقف عليه، وقد صحّحه المصنف في إعلام الموقعين (3/ 161).

بيان أن الحيل مخادعة لله تعالى من اثني عشر وجها

فسمى الصحابةُ من أظهر عقد التبايع ومقصودُه به الربا خداعًا لله، وهم المرجوع إليهم في هذا الشأن، والمعوَّل عليهم في فَهْم القرآن. وقد تقدم عن عثمان، وعبد الله بن عمر، وغيرهما أنهما قالا في المطلقة ثلاثًا: لا يُحِلُّها إلا نكاح رَغْبة، لا نكاح دُلْسة. قال أهل اللغة: المدالسة: المخادعة. وقال أيوب السَّخْتِيَاني (¬1) في المُحْتالين: يخُادعون الله كما يخادعون الصبيان، فلو آتوْا الأمر عِيانًا كان أهون عليّ. وقال شَريك بن عبد الله القاضي في "كتاب الحيل": هو "كتاب المخادعة". وكذلك المعاهدون إذا أظهروا للرسول - صلى الله عليه وسلم - أنهم يريدون سِلْمه، ومقصودهم بذلك المكْرُ به من حيث لا يشعر، فيظهرون له أمانًا، ويُبطنون له خلافه، كما أن المحلل والمرابي يُظهران النكاح والبيع المقصودين، ومقصود هذا: الطلاقُ بعد استفراش المرأة، ومقصود الآخر: ما تواطآ عليه قبل إظهار العقد من بيع الألف الحالّة بألفٍ ومئتين إلى أجل، فمخالفة ما يدلّ عليه العقد شرعًا أو عُرْفًا خَديعة. قال (¬2): وتلخيص ذلك أن مخُادعة الله تعالى حرام، والحيلُ مخادعةٌ لله. ¬

_ (¬1) علّقه البخاري عن أيوب مجزوفا به في كتاب الحيل، باب: ما ينهى من الخداع في البيوع، ولفظه: "يخادعون الله كأنما يخادعون آدميًّا، لو أتوا الأمر عيانًا كان أهون عليّ"، قال ابن حجر في الفتح (12/ 336): "وصله وكيع في مصنفه عن سفيان بن عيينة عن أيوب". (¬2) أي شيخ الإسلام في بيان الدليل (ص 33).

بيان الأول: أن الله تعالى ذَمّ المنافقين بالمخادعة، وأخبر أنه خادِعُهم، وخَدْعُه للعبد عقوبةٌ تَستَلْزِمُ فِعْلَهُ للمُحَرَّم. وبيان الثاني: أن ابن عباس وأنسًا وغيرهما من الصحابة والتابعين أفتوا: أن التحليل ونحوه من الحيل مخادعةٌ لله تعالى، وهم أعلمُ بكتاب الله تعالى. الثاني (¬1): أن المخادعة إظهار شيء من الخير وإبطان خلافه، كما تقدم. الثالث: أن المنافق لما أظهر الإسلام ومرادُه غيره: سُمِّي مخادعًا لله تعالى، وكذلك المرائي؛ فإن النفاق والرِّياء من باب واحد، فإذا كان هذا الذي أظهر قولًا غير مُعتقدٍ ولا مُريدٍ لما يُفهم منه، وهذا الذي أظهر فعلاً غير معتقد ولا مريد لما شرع له: مخادعًا، فالمحتال لا يخرج عن أحد القسمين: إما إظهار فعل لغير مقصوده الذي شُرع له، أو إظهار قول لغير مقصوده الذي شُرع له، وإذا كان مشاركا لهما في المعنى الذي به سُمِّيا مخادعين وجب أن يَشْركهما في اسم الخِداع، وعُلم أن الخداع اسمٌ لعموم الحيل، لا لخصوص هذا النفاق. الوجه الثاني (¬2): أن الله سبحانه ذمّ المستهزئين بآياته، والمتكلم بالأقوال التي جعل الشارع لها حقائق ومقاصد، مثل كلمة الإيمان، وكلمة الله تعالى التي يستحل بها الفروج، ومثل العهود والمواثيق التي بين المتعاقدين، وهو لا يريد بها حقائقها المقوِّمة لها، ولا مقاصدها التي جُعلت هذه الألفاظ محصِّلة لها، بل يريد أن يراجع المرأة ليضرّها ويُسيء عشرتهَا، ¬

_ (¬1) "الأول" سبق ذكره بعد قوله: "بيان الثاني". (¬2) هذا الوجه الثاني من الوجوه الدالة على تحريم الحيل، والوجه الأول سبق ذكره في (ص 583).

ولا حاجة له في نكاحها، أو ينكحها ليحلّها لمطلِّقها لا ليتخذِّها زوجة، أو يخلعها ليلبسها، أو يبيع بيعًا جائزًا، ومقصوده به ما حرمه الله تعالى ورسوله، وهو ممن اتخذ آيات الله تعالى هزوًا. يوضّحه: الوجه الثالث: ما رواه ابن ماجه (¬1) بإسنادٍ حسن عن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "ما بال أقوام يلعبون بحدود الله، ويستهزئون بآياته: طلقتك، راجعتك، طلقتك، راجعتك؟ ". فجعل المتكلم بهذه العقود غيرَ مريدٍ لحقائقها وما شُرعت له، مستهزئًا بآيات الله تعالى، متلاعبًا بحدوده. ورواه ابن بطة (¬2) بإسناد جيد، ولفظه: "خلعتك، راجعتك، خلعتك، راجعتك". الوجه الرابع: ما رواه النسائي (¬3) عن محمود بن لبيد: أن رجلًا طلق امرأته ثلائا على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فقال: "أيلَعب بكتاب الله وأنا بين أظهركم؟ " الحديث، وقد تقدم. فجعله لاعبًا بكتاب الله مع قصده الطلاق، لكنه خالف وجه الطلاق، وأراد به غير ما أراد الله تعالى به؛ فإن الله سبحانه وتعالى أراد أن يطلِّق طلاقًا يملك فيه ردّ المرأة إذا شاء، فطلق هو طلاقًا لا يملك فيه ردّها. ¬

_ (¬1) برقم (2017)، وتقدم تخريجه. (¬2) ص 40 وتقدَّم تخريجه. (¬3) تقدم تخريجه.

وأيضًا فإن المرّتين والمرات في لغة القرآن والسنة، بل ولغة العرب، بل ولغات سائر الأمم، لِمَا كان مرّة بعد مرة، فإذا جمع المرتين والمرات في مرة واحدة فقد تعدّى حدود الله تعالى، وما دلّ عليه كتابه، فكيف إذا أراد باللفظ الذي رتّب عليه الشارع حكمًا ضدّ ما قصده الشارع؟ الوجه الخامس: أن الله سبحانه أخبر عن أهل الجنة الذين بلاهم مما بلاهم به في سورة {ن}، وهم قوم كان للمساكين حق في أموالهم إذا جَدُّوا نهارًا؛ بأن يلتقط المساكين ما يتساقط من التمر، فأرادوا أن يجدّوا ليلًا ليسقط ذلك الحق، ولئلا يأتيهم مسكين، وأنه عاقبهم بأنه أرسل على جنّتهم طائفًا وهم نائمون، فأصبحت كالصّريم، وذلك لمّا تحيّلوا على إسقاط نصيب المساكين، بأن يصرموها مصبحين قبل مجيء المساكين، فكان في ذلك عبرةٌ لكل محتال على إسقاط حقٍّ من حقوق الله تعالى أو حقوق عباده. الوجه السادس: أن الله تعالى أخبر عن أهل السبت من اليهود بمسخهم قردةً، لمّا احتالوا على إباحة ما حرّمه الله سبحانه عليهم من الصيد، بأن نصبوا الشباك يوم الجُمعة، فلمّا وقع فيها الصيد أخذوه يوم الأحد. قال بعض الأئمة: ففي هذا زجرٌ عظيم لمن تعاطى الحيل على المناهي الشرعية، ممن يتلبَّس بعلم الفقه، وهو غير فقيه، إذ الفقيه من يخشى الله تعالى بحفظ حدوده، وتعظيم حرماته، والوقوف عندها، ليس المتحيل على إباحة محارمه، وإسقاط فرائضه. ومعلوم أنهم لم يستحلّوا ذلك تكذيبًا لموسى عليه السلام وكفرًا بالتوراة وإنما هو استحلال تأويل واحتيال، ظاهره ظاهر الاتقاء، وباطنه

باطن الاعتداء. ولهذا والله أعلم مُسخوا قردةً؛ لأن صورة القرد فيها شَبَهٌ من صورة الإنسان، وفى بعض ما يُذكر من أوصافه شبه منه، وهو مخالف له في الحدّ والحقيقة، فلمّا مُسخ أولئك المعتدون دين الله تعالى، بحيث لم يتمسَّكوا إلا بما يشبه الدين في بعض ظاهره دون حقيقته، مسخهم الله تعالى قردةً يشبهونهم في بعض ظواهرهم دون الحقيقة، جزاء وفاقًا. يوضِّحه: الوجه السابع: أن بني إسرائيل كانوا أكلو االربا وأموال الناس بالباطل، كما قصه الله تعالى في كتابه، وذلك أعظم من أكْلِ الصيد المحرّم في يوم بِعَيْنهِ، ولذلك كان الربا والظلم حرامًا في شريعتنا، والصيدُ يوم السبت غير مُحرم فيها، ثم إن أَكَلَةَ الربا وأموال الناس بالباطل لم يُعاقَبوا بالمسْخ، كما عُوقِب به مُسْتَحِلُّو الحرام بالحِيلة، وإن كانوا عُوقبوا بجنسٍ آخر، كعقوبات أمثالهم من العُصاة. فيُشبه والله أعلم أن هؤلاء لما كانوا أعظم جُرْمًا، إذ هم بمنزلة المنافقين، ولا يعترفون بالذنب، بل قد فَسدَت عقيدتهم وأعمالهم، كانت عقوبتهم أغلظ من عقوبة غيرهم؛ فإن من أكل الربا والصيد المحرَّم عالمًا بأنه حرام فقد اقترن بمعصيته اعترافُه بالتحريم، وهو إيمان بالله تعالى وآياته، ويترتب على ذلك مِن خَشْيَة الله تعالى، ورَجاء مَغْفِرته، وإمكان التوبة، ما قد يُفْضِي به إلى خيرٍ ورحمة. ومَنْ أكله مُسْتحلًّا له بنوع احتيال تأوّلَ فيه فهو مُصرٌّ على الحرام، وقد اقترن به اعتقاده الفاسد في حِلِّ الحرام، وذلك قد يُفضي به إلى شَرٍّ طويل.

ذكر بعض الأحاديث التي جاء فيها ذكر المسخ قردة وخنازير

وقد جاء ذكرُ المسخ في عِدّة أحاديث، قد تقدم بعضها في هذا الكتاب (¬1)، كقوله في حديث أبي مالك الأشعري الذي رواه البخاري في "صحيحه": "ويَمسخ آخرين قِردة وخنازير إلى يوم القيامة". وقوله في حديث أنس: "لَيَبيتَنّ رجالٌ على أكلٍ وشربٍ وعَزْفٍ، فيُصْبِحُون على أرائكهم ممسوخِين قِرَدَةً وخنازير". وفي حديث أبي أُمامة: "يَبيتُ قوم على شرب الخمور وضرب القِيان، فيصبحون قردةً". وحديث عائشة: "يكون في أُمتي خسف ومسخ وقذف". وفي حديث أبي أمامة أيضًا: "يبيت قوم من هذه الأمة على طُعْمٍ وشرب ولهو، فيصبحون وقد مُسِخوا قردةً وخنازيرَ". وفي حديث عِمران بن حُصين: "يكون في أمتي قَذْفٌ ومَسخٌ وخَسْفٌ". وكذلك في حديث سَهْل بن سَعْدٍ. وكذلك في حديث علي بن أبي طالب، وقوله: "فلْيَرْتَقبوا عند ذلك ريحًا حَمْراء، وخَسْفًا، ومسخًا". وفى حديثه الآخر: "تمُسخ طائفة من أمتي قِردة، وطائفة خنازير". وقوله في حديث أنس رضي الله عنه: "لَيكونَنّ في هذه الأمة خَسْفٌ وقَذْفٌ ومسخٌ". وفى حديث أبي هريرة رضي الله عنه: "يُمسخ قوم من هذه الأمة في آخر ¬

_ (¬1) وتقدم تخريجها هناك.

الزمان قِرَدة وخنازير"، قالوا: يا رسول الله! أليس يَشْهدون أن لا إله إلا الله، وأن محمدًا رسول الله؟ قال: "بلى، ويصومون، ويصلون، ويحجون"، قالوا: فما بالهُم؟ قال: "اتخذوا المعازف والدفوف والقَيْناتِ، فباتوا على شُرْبهم ولَهْوِهم، فأصبحوا وقد مُسِخوا قِردةً وخنازير". وفى حديث جُبير بن نُفَير (¬1): "ليبْتَلَيَنّ آخِرُ هذه الأمة بالرّجْفِ، فإن تابوا تاب الله عليهم، وإن عادوا عاد الله تعالى عليهم بالرّجْفِ، والقَذْفِ، والمسخ، والصواعق". وقال سالم بن أبي الجَعْد: ليأتينّ على الناس زمانٌ يجتمعون فيه على باب رجل، ينظرون أن يخرج إليهم فيطلبوا إليه الحاجة، فيخرج إليهم، وقد مُسِخَ قردًا أو خنزيرًا، ولَيَمُرّنّ الرجل على الرجل في حانوته يبيعُ، فيرجع إليه وقد مُسخَ قردًا أو خنزيرًا. وقال أبو الزاهرية: لا تقومُ الساعة حتى يمشي الرجلان إلى الأمر يعملانه، فيُمسخ أحدهما قردًا أو خنزيرًا، فلا يمنع الذي نجا منهما ما رأى بصاحبه أن يمضي إلى شأنه ذلك، حتى يقضي شَهْوته، وحتى يمشي الرجلان إلى الأمر يعملانه، فيُخْسَف بأحدهما، فلا يَمنَع الذي نجا منهما ما رأى بصاحبه أن يمضي إلى شأنه ذلك، حتى يقضي شهوته منه. وقال عبد الرحمن بن غَنْمٍ: يوشك أن يقعد اثنان على ثِفالِ رَحًى يطحنان، فيُمْسخ أحدُهما، والآخرُ ينظر. ¬

_ (¬1) رواه ابن أبي الدنيا في ذم الملاهي (13) من طريق عقيل بن مدرك عن أبي الزاهرية عن جبير بن نفير، وهذا مرسل وفي إسناده ضعف.

المسخ على صورة القردة والخنازير واقع في هذه الأمة

وقال مالك بن دينار: بلغني أن ريحًا تكون في آخر الزمان وظُلَم، فيفزعُ الناس إلى علمائهم، فيجدونهم قد مُسخوا. وقد ساق هذه الأحاديث والآثار وغيرها بأسانيدها: ابنُ أبي الدنيا في كتاب "ذَمِّ الملاهي" (¬1). فالمسخ على صورة القردة والخنازير واقع في هذه الأمة ولا بدّ، وهو واقعٌ في طائفتين: - علماء السوء الكاذبين على الله ورسوله، الذين قلبوا دين الله تعالى وشرعه، فقلبَ الله تعالى صُورَهم، كما قلبوا دينه. - والمجاهرين المتَهَتكين بالفسق والمحارم. ومن لم يُمْسَخْ منهم في الدنيا مُسخ في قَبره، أو يوم القيامة. وقد جاءَ في حديثٍ الله أَعلم بحاله: "يُحشر أكَلَة الربا يوم القيامة في صورة الخنازير والكلاب" (¬2)؛ من أجلِ حيلتهم على الربا، كما مُسخ أصحاب داود لاحتيالهم على أخذ الحيتان يوم السبت. وبكل حال فالمسخ لأجل الاستحلال بالاحتيال قد جاء في أحاديث كثيرة. قال شيخنا (¬3) رحمه الله: "وإنما ذاك إذا استحلُّوا هذه المحرَّمات ¬

_ (¬1) وسبق تخريجها. (¬2) لم أقف عليه. وقد ذكره شيخ الإسلام في بيان الدليل (ص 44) من غير عزو، وقال: الله أعلم بحال هذا الحديث. (¬3) بيان الدليل (ص 45).

بالتأويلات الفاسدة؛ فإنهم لو استحلّوها مع اعتقاد أن الرسول - صلى الله عليه وسلم - حرَّمها كانوا كفارًا، ولم يكونوا من أمته، ولو كانوا معترفين بأنها حرام لأوشك أن لا يعاقبوا بالمسخ، كسائر الذين يفعلون هذه المعاصي مع اعترافهم بأنها معصية، ولَمَا قيل فيهم: يَسْتَحِلّون، فإن المستحل للشيء هو الذي يفعله معتقدًا حِلّه، فيُشْبِهُ أن يكون استحلالهم للخمر يعني به: أنهم يُسَمّونهَا بغير اسمها، كما جاء (¬1) في الحديث، فيشربون الأنبذة المحرّمة، ولا يسمونها خمرًا، واستحلالهُم المعازف باعتقادهم أن آلات اللهو مجردُ سمع صوت فيه لَذّة، وهذا لا يحرُم كأصوات الطيور، واستحلال الحرير وسائر أنواعه باعتقادهم أنه حلال في بعض الصور، كحال الجرب وحال الحكّة ونحوهما، فيقيسون عليه سائر الأحوال، ويقولون: لا فرق بين حالٍ وحال وهذه التأويلات ونحوها واقعة في الطوائف الثلاثة، الذين قال فيهم عبد الله بن المبارك رحمه الله: وَهَلْ أَفْسَدَ الدَّينَ إِلا الملُوكُ ... وَأحْبَارُ سَوءٍ ورُهْبَانهُا (¬2) ومعلوم أنها لا تُغني عن أصحابها من الله شيئًا، بعد أن بَلّغ الرسول - صلى الله عليه وسلم -، وبيّن تحريم هذه الأشياء بيانًا قاطعًا للعذرِ، مُقيمًا للحجة. والحديث الذي رواه أبو داود (¬3) بإسناد صحيح من حديث ¬

_ (¬1) "جاء" ساقطة من م. (¬2) البيت له في بهجة المجالس (2/ 334)، وتمثل به إبراهيم بن أدهم كما في تاريخ دمشق (6/ 336)، والبداية والنهاية (13/ 509). (¬3) سنن أبي داود (3690) لكن ليس فيه عنده قوله: "يعزف على رؤوسهم بالمعازف والقينات" إلى آخره، وقد عزاه المصنف فيما مضى لابن ماجه (4020)، وصحّح إسناده، وتقدّم تخريجه هناك.

عبد الرحمن بن غَنْم، عن أبي مالك الأشعري رضي الله عنه، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "لَيَشْرَبَنّ ناس من أمتي الخمر، يُسمُّونها بغير اسمِها، يُعزَف على رؤوسهم بالمعازف والقينات، يَخْسِفُ الله تعالى بهم الأرضَ، ويجعل منهم القردة والخنازير". الوجه الثامن: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "إنما الأعمال بالنيات، وإنما لكل امرئ ما نوى" الحديث (¬1). وهو أصل في إبطال الحيل، وبه احتج البخاري (¬2) على ذلك، فإن مَن أراد أن يعامل رجلًا معاملةً يعطيه فيها ألفًا بألفٍ وخمس مئة إلى أجَلٍ، فأقرضه تسع مئة، وباعه ثوبًا بست مئة يساوي ألفًا؛ إنما نوى بإقراض التسع مئة تحصيل الربح الزائد، وإنما نوى بالست مئة التي أظهر أنها ثمن الثوب الربا. والله يعلم ذلك من جِذْر قلبه، وهو يعلمه، ومَنْ عامَله يعلمه، ومن اطلّع على حقيقة الحال يعلمه، فليس له من عمله إلا ما نواه وقصده حقيقة، من إعطاء ألف حالّة، وأخذ ألف وخمس مئة مؤجّلة، وجعل صورة القَرْض وصورة البيع محلِّلًا لهذا المحرّم. الوجه التاسع: ما رواه عَمرو بن شُعيب، عن أبيه، عن جده، أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "البَيِّعان بالخيار حتى يَتَفَرقا، إلا أن يكون صَفْقَةَ خِيارٍ، ولا يحِلّ له أن يفارقه خَشْيَةَ أن يَسْتَقِيلَهُ". ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري (1) ومسلم (1907) عن عمر بن الخطاب. (¬2) برقم (6953).

رواه أحمد، وأهل "السنن" (¬1)؛ وحَسّنه الترمذي. وقد استدل به الإمام أحمد، وقال: فيه إبطال الحيل (¬2). ووجه ذلك أن الشارع أثبتَ الخيار إلى حين التفرّق الذي يفعله المتعاقدان بداعية طباعهما، فحرّم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن يقصد المفارق منعَ الآخر من الاستقالة، وهى طلبُ الفسخ، سواء كان العقدُ لازمًا أو جائزًا؛ لأنه قصد بالتفرّق غيرَ ما جُعل التفرق في العرف له؛ فإنه قصد به إبطال حق أخيه من الخيار، ولم يوضع التفرقُ لذلك، وإنما جُعل التفرق لذَهاب كلٍّ واحد منهما في حاجته ومصلحته. الوجه العاشر: ما روى محمد بن عَمرو، عن أبي سَلَمة، عن أبي هريرة رضي الله عنه، أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "لا ترتكبوا ما ارتكبَتِ اليهود، وتستحلّوا محارم الله بأدنى الحيل". ¬

_ (¬1) مسند أحمد (2/ 183)، سنن أبي داود (3458)، سنن الترمذي (1247)، سنن النسائي (4495)، ورواه أيضًا الطحاوي في شرح المشكل (5259. 5260)، والدارقطني (3/ 55)، ومن طريقه البيهقي في الكبرى (5/ 271)، وصححه ابن الجارود (620)، وابن خزيمة كما في بلوغ المرام (827)، والنووي في المجموع (9/ 185)، وابن دقيق العيد في الإلمام (1014)، قال ابن الملقن في البدر المنير (2/ 156): "إسناده إلى عمرو صحيح على شرط مسلم"، وحسنه الألباني في الإرواء (1311). وفي الباب عن ابن عمر وابن عباس وحكيم بن حزام وأبي برزة وسمرة وأبي هريرة وأم عطية وعن ابن أبي مليكة وعطاء مرسلا، لكن ليس فيها النهي عن المفارقة خشية الاستقالة. (¬2) انظر إبطال الحيل لابن بطة (ص 108).

رواه أبو عبد الله بن بَطّة (¬1): حدثنا أحمد بن محمد بن سَلْمٍ، حدثنا الحسن بن الصبّاح الزّعفراني، حدثنا يزيد بن هارون، حدثنا محمد بن عمرٍو. وهذا إسناد جيد، يصحح مثله الترمذي. وهو نصٌّ في تحريم استحلال محارم الله تعالى بالحيل، وإنما ذكر - صلى الله عليه وسلم - أدنى الحيل تنبيهًا على أن مثل هذا المحرَّم العظيم الذي قد توعّد الله تعالى عليه بمحاربة من لم ينته عنه. فمن أسهل الحيل على مَنْ أراد فعله: أن يعطيه مثلًا ألفًا إلا درهمًا باسم القَرْض، ويبيعه خِرْقةً تساوى درهمًا بخمس مئة. وكذلك المطلِّق ثلاثًا: من أسهل الأشياء عليه أن يُعْطي بعضَ السفهاء عشرة دراهم مثلًا، ويستعيره لِيَنْزُوَ على مطلَّقته، فتطيب له، بخلاف الطريق الشرعي، فإنه يصعب معه عَوْدُها حلالًا؛ إذ من الممكن أن لا يُطَلِّق، بل أن يموت المطلِّق أولًا قبله. ثم إنه - صلى الله عليه وسلم - نهانا عن التّشَبُّه باليهود، وقد كانوا احتالوا في الاصطياد يوم السبت بأن حفروا خنادق يوم الجمعة، تقعُ فيها الحيتان يوم السبت، ثم يأخذونها يوم الأحد، وهذا عند المحتالين جائز؛ لأن فعل الاصطياد لم يُوجد يوم السبت، وهو عند الفقهاء حرام؛ لأن المقصود هو الكَفّ عما يُنالُ ¬

_ (¬1) إبطال الحيل (ص 46 - 47)، وحسن إسناده ابن تيمية كما في المجموع (29/ 29)، وابن كثير في تفسيره (1/ 293، 3/ 493)، والسخاوي في الأجوبة المرضية (1/ 214)، والألباني في السلسلة الضعيفة (1/ 608)، وصححه ابن عبد الهادي في تنقيح التحقيق (2/ 531، 3/ 426).

به الصيد بطريق التسبُّب أو المباشرة. ومن احتيالهم: أن الله سبحانه وتعالى لمَّا حرّم عليهم الشحوم تأوّلوا أن المراد نفس إدخاله الفَمَ، وأن الشحم هو الجامد دون المُذاب، فجَمَلوه فباعوه، وأكلوا ثَمَنه، وقالوا: ما أكلنا الشحمَ، ولم ينظروا في أن الله تعالى إذا حَرّم الانتفاع بشيء فلا فرق بين الانتفاع بعينه أو ببدله؛ إذ البدل يسدّ مسدّه، فلا فرق بين حال جُموده وذَوْبِهِ، فلو كان ثمنه حلالًا لم يكن في تحريمه كبير أمر. وهذا هو: الوجه الحادي عشر: وهو ما روى ابن عباس، قال: بلغ عمرَ رضي الله عنه أن فلانًا باع خمرًا، فقال: قاتل الله فلانًا! ألم يعلَم أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "قاتل الله اليهودَ! حُرِّمت عليهم الشحومُ، فجملوها فباعوها". متفق عليه (¬1). قال الخطابي (¬2): "جملوها معناه: أذابوها حتى تصير وَدَكًا، فيزول عنها اسم الشحم، يقال: جَملتُ الشحمَ، وأجملته، واجتملته؛ والجميل: الشحم المذاب". وعن جابر بن عبد الله، أنه سمع النبي - صلى الله عليه وسلم - يقول: "إن الله حَرّم بيع الخمر، والميتة، والخنزير، والأصنام"، فقيل: يا رسول الله - صلى الله عليه وسلم -! أرأيت شحومَ الميتة، فإنه يُطلىَ بها السُّفُن، ويُدهنُ بها الجلود، ويَستَصْبحُ بها الناس؟ فقال: "لا هو حرام"، ثم قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -عند ذلك: "قاتل الله اليهود! إن الله ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري (2223)، ومسلم (1582). (¬2) معالم السنن (5/ 128)، وانظر أعلام الحديث (2/ 1100).

لما حرّم عليهم شحومها جَمَلوه، ثم باعوه، فأكلوا ثمنه". رواه البخاري، وأصله متفق عليه (¬1). قال الإمام أحمد -في رواية صالح وأبي الحارث- في أصحاب الحيل: "عمدوا إلي السّنَن، فاحتالوا في نَقْضِها، فالشيء الذي قيل: إنه حرام احتالوا فيه حتي أحلُّوه"، ثم احتج بهذا الحديث، وحديث: "لعن اللهُ المحلِّل والمحلَّل له" (¬2). قال الخطابي (¬3) وقد ذكر حديث الشحوم: في هذا الحديث بطلان كل حيلة يُحتالُ بها للتوصِّل إلى المحرَّم، وأنه لا يتغير حكمه بتغير هيئاته، وتبديل اسمه. وقد مُثِّلت حيلة أصحاب الشحوم بمن قيل له: لا تَقْرَبْ مال اليتيم، فباعه، وأخذ ثمنه فأكله، وقال: لم آكل نفس مال اليتيم، أو اشترى شيئًا في ذمَّته، ونَقَده، وقال: هذا قد ملكته، وصار عِوضه دَينًا في ذمتي؛ فإنما أكلت ما هو ملكي باطنًا وظاهرًا. ولولا أن الله سبحانه رحم هذه الأمة بأن نَبِيَّها - صلى الله عليه وسلم - نبَّههم على ما لُعنت به اليهود، وكان السابقون منها فُقهاء أتقياء، علموا مقصود الشارع، فاستقرّت الشريعة بتحريم المحرمات من الدم، والميتة، ولحم الخنزير، وغيرها، وإن تبدّلت صورها، وبتحريم أثمانها = لطرَّق الشيطان لأهل الحِيَل ما طرَّق لهم في الأثمان ونحوها؛ إذ البابان باب واحد على ما لا يخفى. ¬

_ (¬1) البخاري (2236)، ومسلم (1581). (¬2) تقدم تخريجه. (¬3) معالم السنن (5/ 129).

الوجه الثاني عشر: أن باب الحيل المحرمة مَدارُهُ على تسمية الشيء بغير اسمه، على تغيير صورته مع بقاء حقيقته، فمداره على تغيير الاسم مع بقاء المسمَّى، وتغيير الصورة مع بقاء الحقيقة؛ فإن المحلل مثلًا غَيّر اسم التحليل إلى اسم النكاح، واسم المحلِّل إلى الزوج، وغيّر مُسمّى التحليل بأن جعل صورته صورة النكاح، والحقيقةُ حقيقة التحليل. ومعلوم قطعًا أن لَعْنَ الرسول - صلى الله عليه وسلم - على ذلك إنما هو لما فيه من الفساد العظيم، الذي اللعنةُ من بعض عقوبته، وهذا الفساد لم يَزُلْ بتغيير الاسم والصورة مع بقاء الحقيقة، ولا بتقديم الشرط من صُلب العقد إلى ما قبله؛ فإن المفسدة تابعة للحقيقة، لا للاسم، ولا لمجرد الصورة. وكذلك المفسدة العظيمة التي اشتمل عليها الربا، لا تزول بتغيير اسمه من الربا إلى المعاملة، ولا بتغيير صورته من صورة إلى صورة، والحقيقة معلومة متفق عليها بينهما قبل العقد، يعلمها مِنْ قلوبهما عالم السرائر. فقد اتفقا على حقيقة الربا الصريح قبل العقد، ثم غَيّرا اسمه إلى المعاملة، وصورتَه إلى التبايع الذي لا قصد لهما فيه البتة، وإنما هو حيلة ومَكْرٌ، ومخادعة لله تعالى ولرسوله - صلى الله عليه وسلم -. وأيّ فرق بين هذا وبين ما فعلته اليهود من استحلال ما حَرّم الله عليهم من الشحوم بتغيير اسمه وصورته؟ فإنهم أذابوه حتى صار وَدَكًا، وباعوه، وأكلوا ثمنه، وقالوا: إنما أكلنا الثمن، لا المثمَّن، فلم نأكل شحمًا. وكذلك من استحلّ الخمر باسم النبيذ، كما في حديث أبي مالك الأشعري رضي الله عنه، عن النبي - صلى الله عليه وسلم -، أنه قال: "لَيَشْرَبَنّ ناسٌ من أمتي الخمر، يُسمونها بغير اسمها، يُعزَف على رؤوسهم بالمعازف والمغنيات،

يخسف الله بهم الأرض، ويجعل منهم القردة والخنازير" (¬1). وإنما أُتي هؤلاء حيث استحلوا المحرمات بما ظنُّوه من انتفاء الاسم، ولم يلتفتوا إلى وجود المعنى المحرّم وثبوته، وهذا بعينه هو شبهة اليهود في استحلال بيع الشحم بعد جَمْله، واستحلال أخذ الحِيتان يوم الأحد بما أوقعوها به يوم السبت في الحفائر والشباك من فعلهم يوم الجمعة، وقالوا: ليس هذا صيد يوم السبت، ولا استباحةً لنفس الشحم. بل الذي يستحل الشراب المسكر زاعمًا أنه ليس خمرًا، مع علمه أن معناه معنى الخمر، ومقصودَه مقصودُه، وعملَه عملُه: أفسدُ تأويلًا؛ فإن الخمر اسم لكل شراب مسكر، كما دلّت عليه النصوص الصحيحة الصريحة، وقد جاء هذا الحديثُ عن النبي - صلى الله عليه وسلم - من وجوه أخرى: منها: ما رواه النسائي (¬2) عنه - صلى الله عليه وسلم -: "يشرب ناسٌ من أمتي الخمر، يسمُّونها بغير اسمها". وإسناده صحيح. ومنها: ما رواه ابن ماجه (¬3) عن عُبادة بن الصامت يرفعه: "يشرب ناسٌ ¬

_ (¬1) تقدم تخريجه. (¬2) سنن النسائي (8/ 312) من طريق شعبة عن أبي بكر بن حفص عن ابن محيريز عن رجل من أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - عن النبي - صلى الله عليه وسلم -، وبهذا الإسناد رواه الطيالسي (586)، وأحمد (4/ 237)، إلا أنّه وقع عند الطيالسي: عن رجل من أصحاب النبىِّ - صلى الله عليه وسلم - أو رجال من أصحاب النبيّ - صلى الله عليه وسلم -، وصحّح إسناده ابن تيمية كما في الفتاوى الكبرى (6/ 40)، وهو في السلسلة الصحيحة (414). وطريق شعبة هذه هي في الحقيقة أحدُ الأوجه التي رُوِي بها حديث عبادة التالي. (¬3) سنن ابن ماجه (3385) من طريق بلال بن يحيى عن أبي بكر بن حفص عن ابن محيريز عن ثابت بن السمط عن عبادة نحوه، وبهذا الإسناد رواه ابن أبي شيبة =

من أمتي الخمر يسمُّونها بغير اسمها"، رواه الإمام أحمد (¬1)، ولفظه: "ليستحلنّ طائفة من أمتي الخمر". ومنها: ما رواه ابن ماجه (¬2) أيضًا من حديث أبي أمامة، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "لا تذهبُ الليالي والأيام حتى تَشربَ طائفة من أمتي الخمر، يسمُّونها بغير اسمها". فهؤلاء إنما شربوا الخمر استحلالًا، لمّا ظنوا أن المحرم مجرد ما وقع عليه اللفظ، وأن ذلك اللفظ لا يتناول ما استحلوه، وكذلك شُبْهتهم في استحلال الحرير والمعازف، فإن الحرير قد أبيح للنساء، وأبيح للضرورة، وفى الحرب، وقد قال تعالى: {قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ} ¬

_ = (5/ 68)، وابن أبي الدنيا في ذم المسكر (8)، والضياء في المختارة (8/ 255، 256)، وفي إسناده اختلاف، قال الهيثمي في المجمع (5/ 119): "ثابت بن السمط مستور، وبقية رجاله ثقات"، وحسّن إسناده ابن حجر في الفتح (10/ 51)، والمناوي في التيسير (2/ 563)، وهو في السلسلة الصحيحة (90). (¬1) مسند أحمد (5/ 318) من طريق بلال بن يحيى العبسي به. (¬2) سنن ماجه (3384) عن العباس بن الوليد عن عبد السلام بن عبد القدوس عن ثور بن يزيد عن خالد بن معدان عن أبي أمامة، وبهذا الإسناد رواه الطبراني في الكبير (8/ 94)، وأبو نعيم في الحلية (6/ 97)، إلا أنه وقع عند الطبراني: عبد الصمد بن عبد القدوس، قال أبو حاتم كما في العلل (2/ 31): "هذا حديث منكر، عبد السلام بن عبد القدوس بن حبيب لا أعرفه". ورواه الطبراني في مسند الشاميين (430) عن محمد بن هارون عن العباس عن عبد السلام به، إلا أنه جعله من مسند أبي هريرة. وفي الباب أيضًا عن ابن عباس وكيسان أو نافع بن كيسان وعائشة.

فصل: من الحيل تحليل الربا باسم البيع

[الأعراف: 32]، والمعازف قد أبيح بعضها في العُرْس ونحوه، وأبيح الحُداء، وأبيح بعض أنواع الغناء. وهذه الشبهة أقوى بكثير من شُبه أصحاب الحيل. فإذا كان من عقوبة هؤلاء أن يُمسخ بعضهم قردة وخنازير، فما الظن بعقوبة مَنْ جُرْمُهم أعظم، وفعلهم أقبح؟ فالقوم الذين يُخسَف بهم ويُمسَخون إنما فُعل ذلك بهم من جهة التأويل الفاسد، الذي استحلوا به المحارم بطريق الحيلة، وأعرضوا عن مقصود الشارع وحكمته في تحريم هذه الأشياء، ولذلك مُسخوا قردة وخنازير، كما مُسخ أصحاب السبت بما تأولوا من التأويل الفاسد، الذي استحلوا به المحارم، وخُسف ببعضهم كما خُسف بقارون؛ لأن في الخمر والحرير والمعازف من الكِبْر والخُيَلاء ما في الزينة التي خرج فيها قارون على قومه، فلمّا مَسخوا دين الله تعالى مسخهم الله، ولمّا تكبّروا عن الحق أذلهّم الله تعالى، فلما جمعوا بين الأمرين جَمع الله لهم بين هاتين العقوبتين، {وَمَا هِيَ مِنَ الظَّالِمِينَ بِبَعِيدٍ} [هود: 83]. وقد جاء ذكر المسخ والخسف في عدة أحاديث تقدم ذكر بعضها. فصل وقد أخبر - صلى الله عليه وسلم -أن طائفة من أمته تستحلّ الربا باسم البيع، كما أخبر عن استحلال الخمر باسم آخر. فروى ابن بطة (¬1) بإسناده عن الأوزاعي، عن النبي - صلى الله عليه وسلم -: "يأتي على ¬

_ (¬1) لم أقف على رواية ابن بطة في كتابه "إبطال الحيل"، ورواه الخطابي في غريب الحديث (1/ 218) عن عبد العزيز بن محمد المسكي عن ابن الجنيد عن سويد =

ذكر بعض حكم تحريم الربا

الناس زمان يستحلّونَ الربا بالبيع"، يعني العِينة. وهذا وإن كان مرسلًا فإنه صالح للاعتضاد به بالاتفاق، وله من المسندات ما يشهد له، وهي الأحاديث الدالة على تحريم العِينة (¬1). فإنه من المعلوم أن العينة عند مُسْتحِلِّها إنما يسميها بيعًا، وفي هذا الحديث بيانُ أنها ربًا لا بيع؛ فإن الأمة لم يستحلَّ أحد منها الرِّبا الصريح، وإنما استُحِلَّ باسم البيع وصورته، فصوّروه بصورة البيع، وأعاروه لفظه. ومن المعلوم أن الربا لم يُحَرَّم لمجرد صورته ولفظه، وإنما حُرِّم لحقيقته ومعناه ومقصوده، وتلك الحقيقة والمعنى والمقصود قائمة في الحِيَل الرِّبوية، كقيامها في صريحه سواءً، والمتعاقدان يعلمان ذلك من أنفسهما، ويعلمه من يشاهد حالهما، والله يعلم أن قصدهما نفسُ الربا، وإنما توسّلا إليه بعقدٍ غير مقصود، وسمّياه باسم مستعار غير اسمه. ومعلوم أن هذا لا يرفع التحريم، ولا يرفع المفسدة التي حُرِّم الربا لأجلها، بل يزيدها قوة وتأكيدًا من وجوه عديدة: منها: أنه يُقدِم على مُطالبة الغريم المحتاج بقوة، لا يقدم بمثلها المُرْبي صريحًا؛ لأنه واثق بصورة العقد واسمه. ومنها: أنه يطالِبُه مطالبةَ من يعتقد حلّ تلك الزّيادة وطِيبها، بخلاف ¬

_ = عن ابن المبارك عن الأوزاعي مرسلًا. وذكره شيخ الإسلام في بيان الدليل (ص 67) نقلًا عن ابن بطة. (¬1) منها حديث ابن عمر الذي أخرجه أحمد (2/ 84) وأبو داود (3462)، وهو حديث صحيح.

مطالبة المُرْبي صريحًا. ومنها: اعتقاده أن ذلك تجارة حاضرة مُدارَةٌ، والنفوس أرغبُ شيء في التجارة، فهوفي ذلك بمنزلة من أحَبّ امرأة حبًّا شديدًا، ويمنعه من وصالها كونهُا مُحَرَّمَةً عليه، فاحتال إلى أن أوقع بينه وبينها صورة عقد لا حقيقة له، يأمن به من بَشاعة الحرام وشناعته، فصار يأتيها آمنًا، وهما يعلمان في الباطن أنها ليست زوجته، وإنما أظهرا صورة عقد يتوصّلان به إلى الغرض. ومن المعلوم أن هذا يزيد المفسدة التي حَرّم الحكيمُ الخبير لأجلها الزنى والربا قوةً؛ فإن الله سبحانه وتعالى حرّم الربا لما فيه من ضرر المحتاج، وتعريضه للفقر الدائم، والدَّين اللازم الذي لا يَنْفَكّ عنه، وتوَلُّد ذلك وزيادته إلى غاية تجتاحه، وتَسْلُبه متاعه وأثاثه وداره، كما هو الواقع في الواقع. فالربا أخو القمار الّذي يجعل المقمور سليبًا حزينًا مَحْسورًا. فمن تمام حكمة الشريعة الكاملة المنتظمة لمصالح العباد: تحريمه وتحريم الذريعة الموصلة إليه، كما حَرّم التفرّق في الصرف قبل القبض، وأن يبيعَه دِرْهَمًا بدرهمٍ إلى أجل، وإن لم يكن هناك زيادة، فكيف يُظنّ بالشارع مع كمال حكمته أن يُبيح التحيُّل والمكرَ على حصول هذه المفسدة، ووقوعها زائدةً متضاعفة بأكل المحتال فيها مال المحتاج أضعافًا مضاعفة؟ ولو سلك مثلَ هذا بعضُ الأطباء مع المرضى لأهلكهم؛ فإن ما حرّم الله تعالى ورسوله - صلى الله عليه وسلم - من المحرمات؛ إنما هو حِمْيَةٌ لحفظ صحة القلب، وقوة الإيمان، كما أن ما يمنع منه الطبيبُ مما يَضُرّ المريض حِمْيةٌ له، فإذا احتال

تغيير صور المحرمات وأسمائها مع بقاء مقاصدها زيادة في المفسدة، مع تضمنها لمخادعة الله تعالى ورسوله

المريض أو الطبيبُ على تناول ذلك المؤذي بتغيير صورته مع بقاء حقيقته وطبعه، أو تغيير اسمه مع بقاء مسمَّاه، ازداد المريض بتناوله مرضًا إلى مرضه، وترامَى به إلى الهلاك، ولم ينفعه تغيُّر صورته، ولا تبدُّل اسمه. وأنت إذا تأمّلتَ الحيلَ المتضمنة لتحليل ما حرّم الله سبحانه وتعالى، وإسقاطِ ما أوجب، وحَلِّ ما عَقَدَ = وجدت الأمر فيها كذلك، ووجدت المفسدة الناشئة منها أعظم من المفسدة الناشئة من المحرمات الباقية على صورها وأسمائها، والوِجْدانُ شاهدٌ بذلك. فالله سبحانه إنما حرّم هذه المحرمات وغيرها لما اشتملت عليه من المفاسد المُضرّة بالدنيا والدين، ولم يحرِّمها لأجل أسمائها وصورها، ومعلوم أن تلك المفاسد تابعة لحقائقها، لا تزول بتبدُّل أسمائها وتغيُّر صُوَرها، ولو زالت تلك المفاسد بتغيير الصورة والأسماء لما لعن الله سبحانه اليهود على تغيير صورة الشّحم واسمه بإذابته، حتى استحدث اسم الوَدَك وصورته، ثم أكلوا ثمنه، وقالوا: لم نأكله، وكذلك تغيير صورة الصيد يوم السبت بالصيد يوم الأحد. فتغيير صور المحرمات وأسمائها مع بقاء مقاصدها وحقائقها زيادةٌ في المفسدة التي حُرمت لأجلها، مع تضمنه لمخادعة الله تعالى ورسوله، ونِسْبَة المكر والخداع والغش والنفاق إلى شرعه ودينه، وأنه يُحَرِّم الشيء لمفسدةٍ، ويبيحه لأعظم منها. ولهذا قال أيوب السختياني (¬1): يخادعون الله كما يخادعون الصبيان، لو أتوا الأمر على وجهه كان أهون. ¬

_ (¬1) تقدم تخريجه.

وقال - صلى الله عليه وسلم -: "لا ترتكبوا ما ارتكبت اليهود؛ فتستحلوا محارم الله بأدنى الحيل" (¬1). وقال بِشْر بن السريِّ (¬2) -وهو من شيوخ الإمام أحمد (¬3) -: نظرتُ في العلم، فإذا هو الحديث والرأيُ، فوجدت في الحديث ذكر النبيين والمرسلين، وذكر الموت، وذكر ربوبية الرب تعالى وجلاله وعظمته، وذكر الجنّة والنار، والحلالِ والحرام، والحثّ على صلة الأرحام، وجِماع الخير، ونظرت في الرأي، فإذا فيه المَكْرُ، والخديعة، والتَّشاحُّ، واستقصاء الحق، والممالأة في الدين، واستعمال الحِيل، والبعثُ على قَطيعة الأرحام، والتجرُّؤ على الحرام. وقال أبو داود: سمعت أحمد بن حنبل وذُكر أصحاب الحيل، فقال: يحتالون لنقض سُنن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. والرأيُ الذي اشتُقَّت منه الحيل المتضمنةُ لإسقاط ما أوجب الله تعالى وإباحة ما حرم الله: هو الذي اتفق السلفُ على ذَمِّه وعَيْبه. فروى حَرْبٌ عن الشّعبي، قال: قال ابن مسعود (¬4) رضي الله عنه: إيّاكُم ¬

_ (¬1) تقدم تخريجه. (¬2) ذكره ابن عبد البر في جامع بيان العلم (2/ 76). ورواه الخطيب في شرف أصحاب الحديث (ص 75) بإسناده من كلام يونس بن سليمان السقطي. (¬3) "أحمد" ساقط من م. (¬4) رواه الطبراني في الكبير (9/ 105) والهروي في ذم الكلام (278) من طريق سعيد بن منصور عن خلف بن خليفة عن أبي يزيد عن الشعبي به، قال الهيثمي في المجمع (1/ 432): "الشعبي لم يسمع من ابن مسعود، وفيه جابر الجعفي وهو ضعيف".

و"أرأيتَ، أرأيتَ"؛ فإنما هلك من كان قبلكم بـ"أرأيت، أرأيت"، ولا تقيسوا شيئًا بشيء، فتزلَّ قَدَمٌ بعد ثبوتها. وعن الشعبي، عن مسروق، قال: قال عبد الله (¬1): ليس من عام إلا والذي بعده شرٌّ منه، لا أقول: أميرٌ خيرٌ من أميرٍ، ولا عامٌ أخْصَبُ من عام، ولكن ذهابُ خيارِكم وعلمائكم، ثم يحَدُثُ قوم يقيسون الأمور برأيهم، فَيَنْهدِم الإسلام ويَنْثَلِمُ. وقال عمر بن الخطاب (¬2) رضي الله عنه: إيّاكم وأصحاب الرأي، فإنهم أعداء السنن، أعْيَتْهم الأحاديث أن يحفظوها، وتَفَلَّتتْ منهم أن يَعُوها، فاسْتَحْيَوْا حين سُئلوا أن يقولوا: لا نعلم، فعارضوها برأيهم، فإياكم وإيّاهم. ¬

_ (¬1) رواه الدارمي (188)، والفسوي في المعرفة (3/ 377)، وابن وضاح في البدع (78، 248)، والطبراني في الكبير (9/ 105)، وابن أبي زمنين في أصول السنة (10)، وأبو عمرو الداني في الفتن (210، 211)، وابن حزم في الإحكام (8/ 509)، والبيهقي في المدخل (250)، وابن عبد البر في الجامع (1039 - 1042)، والخطيب في الفقيه والمتفقه (1/ 456)، وغيرهم من طرق عن مجالد عن الشعبي به، ورواه الخطيب أيضًا (1/ 456) من طريق عبدة بن سليمان عن مجالد عن الشعبي عن عبد الله، قال الهيثمي في المجمع (1/ 433): "فيه مجالد بن سعيد وقد اختلط"، وحسن إسناده ابن حجر في الفتح (13/ 21). (¬2) رواه الدارقطني (4/ 146)، وابن أبي زمنين في أصول السنة (8)، واللالكائي في اعتقاد أهل السنة (201)، وابن حزم في الإحكام (6/ 213 - 214)، والبيهقي في المدخل (213)، وابن عبد البر في الجامع (1034، 1036 - 1038)، والخطيب في الفقيه والمتفقه (1/ 452 - 455)، والهروي في ذم الكلام (259، 260)، وعنه الأصبهاني في الحجة (1/ 221)، من طرق متعدّدة عن عمر، بألفاظ متقاربة يزيد بعضهم على بعض، ولا تخلو آحاد هذه الطرق من مقال.

وقال أحمد في رواية ابن سعيد (¬1): لا يجوز شيءٌ من الحيل. وفى رواية صالح ابنه: الحيلُ لا نراها. وقال في رواية الأثرم، وذكر حديث عبد الله بن عمرو في حديث: "البيِّعان بالخيار، ولا يحلّ لواحد منهما أن يفارق صاحبه خشيَة أن يستقيله" (¬2)، قال: فيه إبطالُ الحِيل. وقال في رواية أبى الحارث: هذه الحيلُ التي وضعها هؤلاء احتالوا في الشيء الذي قيل لهم: إنه حرام، فاحتالوا فيه حتى أحَلّوه، وقد قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "لعن الله اليهود! حُرمت عليهم الشحوم، فأذابوها وأكلوا أثمانها"، فإنما أذابوها حتى أزالوا عنها اسم الشحوم، وقد لعن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -الحالَّ والمحلَّل له (¬3). وقال في رواية ابنه صالح: ينقضون الأيمان بالحيل، وقد قال الله تعالى: {وَلَا تَنْقُضُوا الْأَيْمَانَ بَعْدَ تَوْكِيدِهَا} [النحل: 91]، وقال تعالى: {يُوفُونَ بِالنَّذْرِ} [الإنسان: 7]. وقال في رواية أبى طالب في التّحَيُّل لإسقاط العِدّة من الحمل: سبحان الله! ما أعجب هذا! أبطلوا كتاب الله والسنة، جعل الله على الحرائر العِدّة من الحمل، فليس من امرأةٍ تُطلّق أو يموت زوجها إلا تعتدّ من أجل الحمل، ففرْج يُوطأ، ثم يعتقبها على المكان، فيتزوجها فيطؤها، فإن كانت حاملًا ¬

_ (¬1) م: "أبي سعيد" خطأ. ح: "أحمد بن سعيد" وهو الشالنجي. (¬2) تقدم تخريجه. (¬3) تقدم تخريجه.

كيف يصنع؟ يطأها رجلٌ اليوم، ويطأها الآخر غدًا! هذا نقضٌ لكتاب الله والسنة، قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: "لا توطأ حامل حتى تضَع، ولا غير ذاتِ حملٍ حتى تحيض" (¬1)؛ فلا تدري هي حامل أم لا؟ سبحان الله! ما أَسْمجَ هذا! وقال في رواية حُبَيش (¬2) بن سِنْدي في الرجل يشتري الجارية ثم يُعتقها من يومه ويتزوجها: أيطؤها من يومه؟ فقال: كيف يطؤها هذا من يومه، وقد وطئها ذاك بالأمس؟ وغضب، وقال: هذا أخبث قول. وقال في رواية الميموني: إذا حلف على شيء، ثم احتال بحيلة، فصار إليه، فقد صار إلى ذلك بعينه. وقال في رواية الميموني فيمن حلف على يمين، ثم احتال لإبطالها، هل ¬

_ (¬1) رواه أحمد (3/ 28، 62، 87)، والدارمي (2295)، وأبو داود (2157)، والطحاوي في شرح المشكل (3048، 3049)، والطبراني في الأوسط (1973)، والدارقطني (4/ 112)، والبيهقي في الكبرى (5/ 329، 7/ 449)، وغيرهم من طريق شريك عن قيس بن وهب عن أبي الوداك عن أبي سعيد مرفوعًا، وفي رواية أحمد والطحاوي: عن أبي إسحاق وقيس بن وهب، وعند الطحاوي أيضًا والدارقطني: عن قيس بن وهب والمجالد، وصحّحه الحاكم (2790)، وحسنه ابن عبد البر في التمهيد (3/ 143، 18/ 279)، وابن عبد الهادي في التنقيح (1/ 415)، وابن حجر في التلخيص (1/ 441)، والشوكاني في النيل (7/ 66)، وصحّحه ابن العربي في العارضة (3/ 61)، وابن قدامة في المغني (7/ 506، 515)، والمصنف في الزاد (5/ 612)، والألباني في الإرواء (187، 1302). وفي الباب عن ابن عباس وابن عمر ورويفع بن ثابت وعلي والعرباض وأبي أمامة وأبي هريرة وجابر وأبي الدرداء وعن الشعبي وطاوس والزهري مرسلًا. (¬2) ح، ظ: "حبش". ت: "حنش" تحريف.

يجوز؟ قال: نحن لا نرى الحيلة إلا بما يجوز، فقال له الميموني: أليس حيلتنا فيها أن نتبع ما قالوا؟ فإذا وجدنا لهم فيها قولًا اتبعناه؟ قال: بلى هكذا هو، قلت: أوليس هذا منا نحن حيلة؟ قال: نعم، فقلت: إنهم يقولون في رجل حلف على امرأته، وهى على دَرَجه: إن صَعِدت أو نزلتِ فأنتِ طالق، قالوا: تحُمَل حملًا، ولا تنزل، فقال: هذا الحِنْثُ بعينه، ليس هذا حيلة، هذا هو الحِنْث. وذُكر لأحمد أن امرأة كانت تريد أن تُفارق زوجَها، فيأبى عليها، فقال لها بعض أرباب الحيل: لو ارْتَدَدْتِ عن الإسلام بِنْتِ منه، ففعلتْ. فغضب أحمد رحمه الله وقال: من أفتى بهذا أو علَّمه أو رضي به فهو كافر. وكذلك قال عبد الله بن المبارك (¬1)، ثم قال: ما أرى الشيطانَ يحُسِن مثل هذا حتى جاء هؤلاء، فتعلَّمه منهم. وقال يزيد بن هارون (¬2): أفتى أصحابُ الحِيل بشيء لو أفتى به اليهود والنصارى كان قبيخا، أفْتَوا رجلًا حَلَف أن لا يطلِّق امرأته بوجه من الوجوه، فبُذل له مال كثير في طلاقها، فأفتوه بأن يُقَبِّل أمها أو يُباشرها. وذُكرت الحيلة عند شَريك (¬3)، فقال: من يُخادع الله يخدعه. ¬

_ (¬1) رواه أبو بكر الخلال في العلم -كما في بيان الدليل (ص 139) - عن ابن راهويه عن سفيان بن عبد الملك عن ابن المبارك. وانظر: الاعتصام للشاطبي (2/ 85 - 86). ورواه بمعناه الخطيب في تاريخ بغداد (13/ 427) من طريق أبي إسحاق الطالقاني عن ابن المبارك. (¬2) رواه الخلال في كتابه -كما في بيان الدلبل (ص 140) - عن عبد الله بن عبد الرحمن الدارمي عن يزيد بن هارون. (¬3) رواه الهروي في ذم الكلام (1001).

وقال النضر بن شُمَيل (¬1): في "كتاب الحيل" ثلاث مئة وعشرون مسألة كلُّها كفر. وقال حفصُ بن غياث (¬2): ينبغي أن يكتب عليه: "كتاب الفجور". وقال عبد الله بن المبارك (¬3) في قِصّة بنت أبى رَوْح، حيث أُمرت بالارتداد في أيام أبى غَسّان، فارتدَّت، ففُرِّق بينهما، وأُودعت السجن، فقال ابن المبارك وهو غضبان: من أمر بهذا فهو كافر، ومن كان هذا الكتاب عنده أوفي بيته ليأمر به فهو كافر، وإن هَوِيَهُ ولم يأمر به فهو كافر. وقال أيوب السختياني (¬4): ويلٌ لهم! مَنْ يخدعون؟ يعني: أصحاب الحيل. وقال بعض أهل الحيل (¬5): ما تَنْقِمون منا إلا أنّا عَمَدنا إلى أشياء كانت عليكم حرامًا؛ فاحْتَلْنا فيها حتى صارت حلالًا. ¬

_ (¬1) رواه الخطيب في تاريخ بغداد (13/ 427). (¬2) رواه الهروي في ذم الكلام (1000). (¬3) رواه الخلال في العلم -كما في بيان الدليل (ص 138) - عن ابن راهويه عن سفيان بن عبد الملك عن ابن المبارك. وانظر: أخبار الشيوخ للمردوي (ص 164) والمجروحين لابن حبان (3/ 71، 72) والاعتصام للشاطبي (2/ 85 - 86). ورواه بمعناه الخطيب في تاريخ بغداد (13/ 428) من طريق أبي إسحاق الطالقاني عن ابن المبارك. (¬4) رواه الخلال في العلم -كما في بيان الدليل (ص 139) - عن حماد بن زيد عن أيوب. (¬5) انظر: بيان الدليل (ص 138).

الشريعة أبطلت على أصحاب الحيل مقاصدهم، وسدت عليهم الطرق

وقال زاذان (¬1): قال علي رضي الله عنه، يعني وقد رأى مبادئ الحيل: إنى أراكم تحلون أشياء قد حرَّمها الله، وتحرّمون أشياء قد أحلَّها الله. قلت: ومَن تأمل الشريعة، ورُزق فيها فقه نَفْسٍ، رآها قد أبطلت على أصحاب الحيل مقاصدهم، وقابلتهم بنقيضها، وسَدّت عليهم الطرق التي فتحوها للتحيّل الباطل. فمن ذلك: أن الشارع منع المتحيِّل على الميراث بقتل مُوَرِّثه ميراثَه، ونقله إلى غيره دونه لمَّا احتال عليه بالباطل. ومن ذلك: بطلان وصية الموصَى له بمال، إذا قَتَل الموصِي. ومن ذلك: بطلانُ تدبير المُدَبَّر، إذا قَتلَ سَيدَه ليُعجِّلَ العتقَ. ومن ذلك: تحريمُ المنكوحة في عِدَّتها على الزوج تحريمًا مُؤبّدًا: عند عمر بن الخطاب رضي الله عنه، ومالك، وإحدى الروايتين عن أحمد، لمّا احتال على وَطئها بصورة العقد المحزم. ومن ذلك: ما لو احتالَ المريضُ على منع امرأته من الميراث بطلاقها، فإنها تَرِثه مادامت في العِدّة عند طائفة، وعند آخرين: ترثه وإن انقضت عِدّتهُا ما لم تتزوج، وعند طائفة: تَرِثُ وإن تزوجت. ومن ذلك: بُطلان إقرار المريض لوارثه بمال، لأنه يَتخذُه حيلةً على الوصيّة له. ونظائر ذلك كثيرة. ¬

_ (¬1) لم أقف عليه.

فالمحتال بالباطل يُعامَل بنقيض قصده شرعًا وقَدَرًا. وقد شاهد الناس عِيانًا أنه مَنْ عاش بالمكْرماتَ بالفقر. ولهذا عاقب الله سبحانه وتعالى مَن احتالَ على إسقاط نصيب المساكين وقت الجِدَاد: بحرمانهم الثمرة كلَّها. وعاقب من احتالَ على الصيد المحرم: بأن مَسخَهم قِردةً وخنازير. وعاقب من احتال على أكل أموال الناس بالربا: بأنه يَمْحَقُ ماله، كما قال تعالى: {يَمْحَقُ اللَّهُ الرِّبَا وَيُرْبِي الصَّدَقَاتِ} [البقرة: 276]، فلا بد أن يُمْحَق مالُ المرابي ولو بلغ ما بلغ. وأصل هذا: أنه سبحانه جعل عُقوبات أصحاب الجرائم بضدَّ ما قصدوا له بتلك الجرائم. فجعل عقوبة الكاذب: إهدار كلامه ورَدَّه عليه. وجعل عقوبة الغالِّ من الغنيمة لمَّا قصد تكثير ماله بالغُلول: حِرمانَ سَهْمِه، وإحراق متاعه. وجعل عقوبة من اصطاد في الحرَم أو الإحرام: تحريم أَكْلِ ما صاده، وتغريمه نظيره. وجعل عقوبة من تكبّر عن قبول الحق والانقياد له: أن ألزمه من الذُّلِّ والصَّغار بحسب ما تكبّر عنه من الحق. وجعل عقوبة من استكبرَ عن عُبوديته وطاعته: أن صَيّره عبدًا لأهل عبوديته وطاعته.

وجعل عقوبة من أخاف السبيلَ وقطعَ الطريقَ: أن تُقطع أطرافُه، وتُقطَع عليه الطرق كلّها بالنفي من الأرض، فلا يسيرُ فيها إلا خائفًا. وجعل عقوبة من الْتَذ بَدَنُه كله ورُوحه بالوطءِ الحرام: إيلامَ بَدَنه وروحِه بالجَلْدِ والرّجم، فيصل الألم إلى حيث وصلت اللذّة. وشرع النبي - صلى الله عليه وسلم - عقوبة من اطّلع في بيت غيره: أن تُقلَع عينُه بعُودٍ ونحوه (¬1)؛ إفسادًا للعُضْو الذي خانه به، وأوْلجه بيته بغير إذنه، واطّلع به على حُرْمته. وعاقب كل خائنٍ: بأنه يُضِلّ كَيْدَه ويُبطله، ولا يهديهِ لمقصوده، وإن نال بعضه، فالذي ناله سبب لزيادة عقوبته وخيبته (¬2): {وَأَنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي كَيْدَ الْخَائِنِينَ} [يوسف: 52]. وعاقب من حرص على الولاية والإمارة والقضاء: بأن شرع منعه وحرمانه ما حرص عليه، كما قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: "إنا لا نُوليِّ عَمَلنا هذا مَنْ سأله" (¬3). ولهذا عاقب أبا البشر: بأن أخرجه من الجنة لمّا عصاه بالأكل من الشجرة ليخلُد فيها، فكانت عقوبته إخراجه منها، ضد ما أمّله. وعاقب من اتخذ معه إلها آخر ينتصرُ به ويتعزّز به: بأن جعله عليه ضِدًّا يَذِلّ به، ويُخذل به، كما قال تعالى: {وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ آلِهَةً لِيَكُونُوا ¬

_ (¬1) كما في حديث أبي هريرة الذي أخرجه مسلم (2158). (¬2) ح، ت، ظ: "خيانته". (¬3) أخرجه البخاري (2261)، ومسلم (1733) عن أبي موسى الأشعري.

لَهُمْ عِزًّا (81) كَلَّا سَيَكْفُرُونَ بِعِبَادَتِهِمْ وَيَكُونُونَ عَلَيْهِمْ ضِدًّا} [مريم: 81، 82]، وقال تعالى: {وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ آلِهَةً لَعَلَّهُمْ يُنْصَرُونَ (74) لَا يَسْتَطِيعُونَ نَصْرَهُمْ وَهُمْ لَهُمْ جُنْدٌ مُحْضَرُونَ} [يس: 74، 75]، وقال تعالى: {لَا تَجْعَلْ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ فَتَقْعُدَ مَذْمُومًا مَخْذُولًا} [الإسراء: 22]، ضِدّ ما أمّله المشرك من اتخاذ الإله من النصر والمدح. وعاقب الناس إذا بخَسُوا الكَيْل والميزان: بِجَوْر السلطان عليهم (¬1)، يأخذ من أموالهم أضعاف ما يَبْخَس به بعضهم بعضًا. وعاقبهم إذا منعوا الزكاة والصدقة تَرْفِيهًا لأموالهم: بِحَبْس الغَيْثِ عنهم (¬2)، فيمحق بذلك أموالهم، ويستوي غَنِيُّهم وفقيرهم في الحاجة. وعاقبهم إذا أعرضوا عن كتابه وسُنة نبيه - صلى الله عليه وسلم -وطلبوا الهُدى من غيره: بأن يُضِلَّهم، ويسُدَّ عليهم أبواب الهُدَى، كما قال النبي - صلى الله عليه وسلم -في حديث عليٍّ رضي الله عنه، الذي رواه الترمذي وغيره (¬3)، وذكرَ القرآن: "من تركه من ¬

_ (¬1) كما في حديث ابن عمر الذي أخرجه ابن ماجه (4019) ضمن حديث طويل. وهو حديث صحيح. (¬2) كما في الحديث السابق. (¬3) سنن الترمذي (2906)، ورواه أيضًا ابن أبي شيبة (6/ 125)، وأحمد (1/ 91)، والدارمي (3331، 3332)، والبزار (834 - 836)، وأبو يعلى (367)، وابن عدي في الكامل (4/ 5)، والبيهقي في الشعب (2/ 325)، وغيرهم من طريق الحارث الأعور عن علي، قال الترمذي: "لا نعرفه إلا من هذا الوجه، وإسناده مجهول، وفي حديث الحارث مقال"، وقال ابن كثير في تفسيره (1/ 21): "هذا الحديث مشهور من رواية الحارث الأعور، وقد تكلّموا فيه، بل قد كذّبه بعضهم من جهة رأيه =

فصل: في سد الذرائع

جَبّار قَصَمهُ الله، ومن ابتغى الهُدى في غيره أضَلّه الله"؛ فإن المُعْرِضَ عن القرآن: إما أن يُعرض عنه كِبْرًا، فجزاؤه أن يَقْصمَهُ الله، أو طلبًا للهُدَى من غيره، فجزاؤه أن يُضِلَّهُ الله. وهذا باب واسع جدًّا عظيم النفع، فمن تدبره يجده متضمنًا لمعاقبة الرب سبحانه مَنْ خرج عن طاعته: بأن يعكس عليه مقصوده شرعًا وقَدرًا، دنيا وآخرة. وقد اطردت سُنّته الكونيَّة سبحانه في عباده، بأنَّ مَنْ مكَر بالباطل مُكِر به، ومن احتال احتِيل عليه، ومن خادع غيره خُدِع. قال الله تعالى: {إِنَّ الْمُنَافِقِينَ يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَهُوَ خَادِعُهُمْ} [النساء: 142]، وقال تعالى: {وَلَا يَحِيقُ الْمَكْرُ السَّيِّئُ إِلَّا بِأَهْلِهِ} [فاطر: 43]، فلا تجد ماكرًا إلا وهو مَمْكُورٌ به، ولا مخادعًا إلا وهو مخدوع، ولا محتالًا إلا وهو محتال عليه. فصل وإذا تدبرتَ الشريعة وجدتها قد أتت بسدِّ الذرائع إلى المحرمات، وذلك عكسُ فتح باب الحِيَل الموصلة إليها، فالحيلُ وسائلُ وأبوابٌ إلى المحرّمات، وسَدّ الذرائع عكس ذلك، فبين البابين أعظم تناقض، والشارع حَرّم الذرائع، وإن لم يُقْصدْ بها المحرّم؛ لإفضائها إليه، فكيف إذا قُصِدَ بها المحرم نفسه؟ ¬

_ = واعتقاده، أما أنه يتعمّد الكذب في الحديث فلا والله أعلم، وقصارى هذا الحديث أن يكون من كلام أمير المؤمنين على، وقد وَهِم بعضهم في رفعه"، وهو في السلسلة الضعيفة (1776، 6393). ورواه الطبراني في الكبير (20/ 84) - وعنه أبو نعيم في الحلية (5/ 253) - من حديث معاذ بن جبل، قال الهيثمي في المجمع (7/ 342): "فيه عمرو بن واقد وهو متروك".

صور مما نهى عنه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - سدا للذريعة

فنهى الله سبحانه عن سَبٍّ آلهة المشركين: لكونه ذريعةً إلى أن يَسُبُّوا الله سبحانه وتعالى عَدوًا وكُفرًا، على وَجْهِ المقابلة. وأخبر النبي - صلى الله عليه وسلم -أن "من أكبر الكبائر شَتْم الرجل والديه"، قالوا: وهل يَشتُمُ الرجل والديه؟ قال: "نعم، يَسُبّ أبا الرجل فيَسُبّ أباه، ويسبّ أمّه فيسُب أمه" (¬1). ولما جاءت صفية تزوره - صلى الله عليه وسلم -وهو معتكف؛ قام معها ليوصلها إلى بيتها، فرآهما رجلان من الأنصار فقال: "على رِسْلكما! إنها صفية بنتُ حُيَيٍّ"، فقالا: سبحان الله يا رسول الله! فقال: "إن الشيطان يجري من ابن آدم مجرى الدم، وإني خشيتُ أن يَقذِف في قلوبكما شرًّا" (¬2). فسدّ الذريعة إلى ظنهما السوء بإعلامهما أنها صفية. وأمسك - صلى الله عليه وسلم - عن قتل المنافقين مع ما فيه من المصلحة؛ لكونه ذريعةً إلى التنفير، وقول الناس: إن محمدًا يقتل أصحابه (¬3). وحرّم القَطْرَة من الخمر، وإن لم يحصل بها مفسدة الكثير؛ لكون قليلها ذريعةً إلى شرب كثيرها (¬4). وحرم إمساكها للتخليل (¬5)، وجعلها نجسة؛ لئَلا تفضي مُقاربتُها بوجه من الوجوه إلى شربها. ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري (5973)، ومسلم (90) عن عبد الله بن عمرو. (¬2) أخرجه البخاري (2038 ومواضع أخرى)، ومسلم (2175) عن صفية. (¬3) أخرجه البخاري (3518)، ومسلم (2584) عن جابر. (¬4) أخرجه أبو داود (3681)، والترمذي (1865)، وابن ماجه (3393) عن جابر، ولفظه: "ما أسكر كثيره فقليله حرام". وإسناده حسن. (¬5) أخرجه مسلم (1983) عن أنس.

ونهى عن الخليطين (¬1)، وعن شُرب العصير والنبيذ بعد ثلاثٍ (¬2)، وعن الانتباذ في الأوْعية التي لا يُعلم بتخمير النبيذ فيها (¬3): حَسْمًا للمادّة، وسدًّا للذَّريعة. وحرّم الخلوة بالمرأة الأجنبية، والسفر بها (¬4)، والنظر إليها لغير حاجة (¬5): حَسْمًا للمادة وسدًّا للذريعة. ومنع النساء إذا خرجْنَ إلى المسجد من الطيب والبَخُور (¬6). ومنعهنّ من التسبيح في الصلاة لنائبةٍ تَنُوب، بل جعل لهنّ التصفيق (¬7). ومنع المعتدّة من الوفاة من الزينة والطِّيب والحُلِيّ (¬8). ومنع الرجل من التصريح بخطبتها في العِدّة، وإن كان إنما يَعقد النكاح بعد انقضائها (¬9). ونهى المرأة أن تصف لزوجها امرأة غيرها، حتى كأنه ينظُرُ إليها (¬10). ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري (5601)، ومسلم (1986) عن جابر. (¬2) أخرجه مسلم (2004) عن ابن عباس. (¬3) أخرجه البخاري (5594)، ومسلم (1994) عن علي. (¬4) كما في الحديث الذي أخرجه البخاري (3006)، ومسلم (1341) عن ابن عباس. (¬5) أخرجه مسلم (2159) عن جرير. (¬6) أخرجه مسلم (443) عن زينب الثقفية. وفي الباب أحاديث أخرى. (¬7) أخرجه البخاري (1203)، ومسلم (422) عن أبي هريرة. (¬8) أخرجه البخاري (5334 - 5336)، ومسلم (1486 - 1488) عن أم حبيبة وزينب بنت جحش وأم سلمة. (¬9) كما في سورة البقرة/ 235. (¬10) أخرجه البخاري (5240، 5241) عن ابن مسعود.

ونهى عن بناء المساجد على القبور، ولعن فاعله (¬1). ونهى عن تَعْلِية القبور وتشريفها، وأمر بتسويتها (¬2). ونهى عن البناء عليها وتجصيصها، والكتابة عليها، والصلاة إليها وعندها، وإيقاد المصابيح عليها (¬3). كل ذلك سدًّا لذريعة اتخاذها أوثانًا، وهذا كلّه حرام على مَنْ قصده ومَنْ لم يقصده، بل على من قصد خلافه: سدًّا للذريعة. ونهى عن الصلاة عند طلوع الشمس، وعند غروبها (¬4): لكون هذين الوقتين وقتَ سجود الكفار للشمس، ففي الصلاة نوعُ تَشَبُّهٍ بهم في الظاهر، وذريعةٌ إلى الموافقة والمشابهة في الباطن، وأكَّد ذلك بالنَّهي عن الصلاة بعد العصر، وبعد الفجر (¬5)، وإن لم يحضر وقت سجود الكفار للشمس: مبالغةً في هذا المقصود، وحمايةً لجانب التوحيد، وسدًّا لذريعة إلى الشرك بكل ممكن. ومنع من التفرّق في الصّرف قبل التقابُض، وكذلك الربوي إذا بيع بربوي آخر (¬6)، من غير جنسه: سَدًّا لذريعة النَّسَاءِ، الذي هو صُلْب الربا ومعظمه. ¬

_ (¬1) سبق تخريجها. (¬2) سبق تخريجها أيضًا. (¬3) سبق تخريجها أيضًا. (¬4) اْخرجه البخاري (582)، ومسلم (828) عن ابن عمر. (¬5) أخرجه البخاري (586)، ومسلم (827) عن أبي سعيد الخدري. (¬6) أخرجه البخاري (2177)، ومسلم (1584) عن أبي سعيد الخدري.

بل منعَ من بَيع الدرهم بالدرهمين نَقْدًا: سدًّا لذريعة ربا النَّسَاءِ، كما عَلّل - صلى الله عليه وسلم - بذلك في الحديث الذي رواه مسلم في "صحيحه" (¬1)، وهذا أحسن العلل في تحريم رِبا الفَضْل. وحرم الجمع بين السّلَف والبيع (¬2): لما فيه من الذّريعة إلى الربح في السّلَف بأخذ أكثر مما أعطى، والتوسّل إلى ذلك بالبيع أو الإجارة، كما هو الواقع. ومنع البائع أن يشتريَ السّلعة من مشتريها بأقلّ مما اشتراها به، وهي مسألة العينة، وإن لم يقصد الربا: لكونه وسيلة ظاهرة واقعة إلى بيع خمسة عشر نَسيئةً بعشرة نقدًا. وحرّم جمع الشّرْطين في البيع: لكونه وسيلة إلى ذلك، وهو منطبق على مسألة العينة. ومَنع من القَرْض الذي يَجُرّ النّفع، وجعله رِبًا. ومنع المُقْرِض من قَبول هَدِيّة المقترض، ما لم يكن بينهما عادَةٌ جارية بذلك قبل القَرْضِ. ففي "سُنن ابن ماجه" (¬3): عن يحيى بن أبي إسحاق الهُنَائي، قال ¬

_ (¬1) برقم (1585). (¬2) أخرجه أحمد (2/ 175، 179، 205)، وأبو داود (3504)، والترمذي (1234)، والنسائي (7/ 288)، وابن ماجه (2188) عن عبد الله بن عمرو. وإسناده حسن. (¬3) سنن ابن ماجه (2432) عن هشام بن عمار عن إسماعيل بن عياش عن عتبة بن حميد عن يحيى به، وبهذا الإسناد رواه الطبراني في الأوسط (4585)، والبيهقي في =

سألت أنسَ بن مالك: الرجلُ مِنّا يُقرِضُ أخاه المال، فيُهدِي إليه، فقال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "إذا أقرض أحدُكم قرضًا، فأُهدي إليه، أو حمله على الدّابة، فلا يَركبْها ولا يقبله؛ إلا أن يكون جَرى بينه وبينه قبل ذلك". وروى البخاري في "تاريخه" (¬1): عن يزيد بن أبى يحيى الهُنَائي، عن أنس بن مالك، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "إذا أقرضَ أحدكم فلا يأخذ هَدِيّة". وفى "صحيح البخاري " (¬2): عن أبى بُرْدَة عن أبي موسى قال: قدمتُ المدينة، فلقيت عبد الله بن سَلَام، فقال لي: إنك بأرضٍ الرِّبا فيها فاشٍ، فإذا كان لك على رجلٍ حقٌّ، وأهدَى إليك حِمْلَ تِبْنٍ، أو حِملَ شعير، أو حِملَ قَتٍّ، فلا تأخذه؛ فإنه ربًا. وروى سعيدٌ في "سننه" (¬3) هذا المعنى عن أُبيِّ بن كعب. ¬

_ = الكبرى (5/ 350)، وممّا أُعلّ به الوقف والاختلاف في اسم الراوي عن أنس، وحسنه ابن تيمية في إقامة الدليل (ص 127 - 128)، قال ابن عبد الهادي في التنقيح (4/ 108): "إسناده غير قويّ على كلّ حال، فإنّ ابن عياش متكلّم فيه، وعتبة سئل أحمد عن حديثه فقال: ضعيف وليس بالقويّ، ووثقه ابن حبان"، وقال البوصيري في المصباح (3/ 70): "هذا إسناد فيه مقال، عتبة ضعفه أحمد، وقال أبو حاتم: صالح، وذكره ابن حبان في الثقات، ويحيى لا يعرَف حاله"، وهو في السلسلة الضعيفة (1162). (¬1) لم أقف عليه من رواية البخاري، وعزاه لتاريخه المجد ابن تيمية في المنتقى (5/ 287 - النيل-)، وتبعه حفيده في إقامة الدليل (ص 128). وقد رواه البيهقي في الكبرى (5/ 350) من طريق سعيد بن منصور عن ابن عياش عن عتبة عن يزيد بن أبي يحيى عن أنس مرفوعًا بنحو لفظ ابن ماجه. وقد تقدّم تخريجه. (¬2) برقم (3814). (¬3) روى عبد الرزاق (8/ 143) وابن أبي شيبة (4/ 326) والطحاوي في شرح =

وجاء عن ابن مسعود (¬1)، وعبد الله بن عباس (¬2)، وعبد الله بن عمر (¬3) نحوه. وكل ذلك سدًّا لذريعة أخذ الزيادة في القرض، الذي موجَبه ردّ المثل. ونهى عن بيع الكالئ بالكالئ (¬4)، وهو الدَّين المؤخّر بالدَّين المؤخّر: ¬

_ = المشكل (11/ 115) والبيهقي في الكبرى (5/ 349) من طريق كلثوم بن الأقمر عن زر بن حبيش عن أبيّ قال: "إذا أقرضتَ رجلا قرضًا فأهدى لك هدية فخذ قرضك، واردد إليه هديته". (¬1) روى البيهقي في الكبرى (5/ 350) من طريق ابن سيرين عن ابن مسعود أنه سئل عن رجل استقرض من رجل دراهم، ثم إنَّ المستقرض أفقر المقرضَ ظهر دابته، فقال عبد الله: "ما أصاب من ظهر دابته فهو ربا"، قال البيهقي: "هذا منقطع". (¬2) روى عبد الرزاق (8/ 143) وابن أبي شيبة (4/ 326) من طريق عكرمة عن ابن عباس قال: "إذا أسلفتَ رجلا سلفًا فلا تقبل منه هديّة كراع، ولا عاريةَ ركوب دابة"، وصحّحه ابن حزم في المحلى (8/ 86). وروى معناه عبد الرزاق (8/ 143) وابن منصور -كما في تحقيق ابن الجوزي (1505) - والبيهقي في الكبرى (5/ 350) من طريق سالم بن أبي الجعد عن ابن عباس، وصححه ابن حزم في المحلى (8/ 86)، والألباني في الإرواء (5/ 234). وروى البيهقي (5/ 349) من طريق أبي صالح عن ابن عباس نحوَه، وصححه الألباني (5/ 234). (¬3) روى عبد الرزاق (8/ 144) عن الثوري عن أبي إسحاق قال: جاء رجل إلى ابن عمر فقال: إني أقرضتُ رجلا قرضًا فأهدى لي هديّة، قال: "اردُد إليه هديته أو أثِبه"، ورواه عبد الرزاق (8/ 144) عن إسرائيل عن أبي إسحاق عن رجل عن ابن عمر بنحوه. وصحّحه ابن حزم في المحلى (8/ 86). (¬4) رواه ابن أبي شيبة (4/ 461)، والبزار (6132)، والطحاوي في شرح المعاني (5132)، والبيهقي في الكبرى (5/ 290)، وغيرهم من طرقٍ عن موسى بن عبيدة عن عبد الله بن دينار عن ابن عمر مرفوعًا، وقيل: عن موسى عن نافع عن ابن عمر، =

لأنه ذريعةٌ إلى ربا النسيئة، فلو كان الدَّيْنان حالَّين لم يمتنع؛ لأنهما يسقطان جميعًا من ذِمّتهما، وفى الصورة المنهي عنها ذريعةٌ إلى تضاعفُ الدَّين في ذِمَّة كلٍّ منهما في مقابلة تأجيله، وهذه مفسدة ربا النَّساءِ بعينها. ونهى الله سبحانه وتعالى النِّساء أن {يَضْرِبْنَ بِأَرْجُلِهِنَّ لِيُعْلَمَ مَا يُخْفِينَ مِنْ زِينَتِهِنَّ} [النور: 31]، فلما كان الضرب بالرِّجْل ذريعة إلى ظهور صوت الخَلْخال الذي هو ذريعة إلى مَيْلِ الرجال إليهن: نهاهن عنه. وأمر الله سبحانه الرجال والنساء بغضِّ أبصارهم، لمّا كان النظر ذريعةً إلى الميل والمحبة؛ التي هي ذريعة إلى مواقعة المحظور. وحرّم التجارة في الخمر، وإن كان إنما يبيعها من كافر يَسْتَحِلُّ شُرْبهَا، فإن التجارة فيها ذريعة إلى اقتنائها وشربها، ولهذا لمَّا أُنزلت الآيات في تحريم الربا قرأها عليهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وقَرَن بها تحريم التجارة في الخمر (¬1)، فإن الربا ذريعةٌ إلى إفساد الأموال، والخمر ذريعةٌ إلى إفساد العقول، فجمع بين تحريم التجارة في هذا وهذا. ¬

_ = وعن موسى عن عيسى بن سهل بن رافع عن أبيه عن جدّه، وقيل: عن موسى بن عقبة، وورد موقوفًا، قال الشافعي كما في البدر المنير (6/ 569): "أهل الحديث يوهنونه"، وضعّفه أحمد كما في العلل المتناهية (988)، وابن المنذر كما في البدر المنير، والنووي في المجموع (9/ 400)، وابن كثير في إرشاد الفقيه (2/ 37)، والهيثمي في المجمع (4/ 144)، والبوصيري في الإتحاف (3/ 334)، وابن حجر في الدراية (795)، وهو مخرّج في الإرواء (1382). (¬1) أخرجه البخاري (4540)، ومسلم (1580) عن عائشة.

ونهى عن استقبال رمضان بيوم أو يومين (¬1)، لئلا يُتخذ ذريعة إلى الزيادة في الصوم الواجب، كما فعل أهل الكتاب. ونهى عن التشبُّه بأهل الكتاب وغيرهم من الكفار في مواضع كثيرة، لأن المشابهة الظاهرة ذريعةٌ إلى الموافقة الباطنة، فإنه إذا أشبه الهَدْيُ الهَدْيَ أشبه القلبُ القلبَ، وقد قال - صلى الله عليه وسلم -: "خالف هَدْيُنا هَدْيَ الكفار" (¬2). وفي "المسند" مرفوعًا: "من تشبّه بقوم فهو منهم" (¬3). ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري (1914)، ومسلم (1082) عن أبي هريرة. (¬2) رواه ابن مردويه -كما في تفسير ابن كثير (1/ 553) - والبيهقي في الكبرى (5/ 125) من طريق عبد الوارث بن سعيد عن ابن جُريج عن محمد بن قيس عن المسوَر بن مخَرمة مرفوعًا، وصحّحه الحاكم (3097)، وحسّن إسناده النووي في المجموع (8/ 128). ورواه الشافعي (1707) عن مسلم بن خالد، وأبو داود في المراسيل (151) من طريق ابن إدريس، كلاهما عن ابن جُريج عن محمد بن قيس مرسلا. ورواه ابن أبي شيبة (3/ 387) عن يحيى بن أبي زائدة عن ابن جريج عمّن أخبره عن محمد بن قيس مرسلا. وفي الباب عن ابن عمر وعن سعيد بن جبير مرسلًا. (¬3) مسند أحمد (2/ 50، 92)، ورواه أيضًا ابن أبي شيبة (4/ 212، 6/ 471)، وعبد بن حميد (848)، وأبو داود (4033)، والطبراني في مسند الشاميين (216)، والبيهقي في الشعب (2/ 75)، وغيرهم من طريق عبد الرحمن بن ثابت بن ثوبان عن حسان بن عطية عن أبي منيب الجرشي عن ابن عمر، وصححه ابن حبان كما في البلوغ (437)، وحسن إسناده ابن تيمية في الاقتضاء (ص 82)، والذهبي في السير (15/ 509)، وابن حجر في الفتح (10/ 271، 274)، وصحّحه ابن مفلح في الفروع (1/ 317)، والعراقي في المغني (851)، قال الهيثمي في المجمع (5/ 487): "فيه ابن ثوبان، وثقه ابن المديني وأبو حاتم وغيرهما، وضعفه أحمد وغيره، وبقية رجاله ثقات"، وهو مخرّج في الإرواء (1269). ورواه الطحاوي في =

وحَرّم الجمعَ بين المرأة وعَمّتها، وبين المرأةِ وخالتها (¬1)، لكونه ذريعة إلى قطيعة الرحم، وبهذه العلة بعينها عَلّلَ رسول الله - صلى الله عليه وسلم -فقال: "إنكم إذا فعلتم ذلك قطعتم أرحامكم" (¬2). وأمر بالتسوية بين الأولاد في العطيّةِ، وأخبر أن تخصيص بعضهم بها جَوْرٌ لا يصلح، ولا تنبغي الشهادة عليه، وأمر فاعله بردِّه، ووعظَه وأمَرهُ بتقوى الله تعالى، وأمره بالعدل (¬3): لكون ذلك ذريعةً ظاهرة قريبةً جدًّا إلى وقوع العداوة بين الأولاد وقطيعة الرحم بينهم، كما هو المشاهد عِيانًا. فلو لم تأتِ السنة الصحيحة الصريحة التي لا معارض لها بالمنع منه، لكان القياس وأصولُ الشريعة وما تضمنته من المصالح ودَرْءِ المفاسد يقتضي تحريمه. ومنع مِنْ نكاح الأمَة لكونه ذَريعة ظاهرةً إلى استرقاق ولده، ثم جَوّز ¬

_ = شرح المشكل (1/ 213) من طريق الوليد بن مسلم عن الأوزاعي عن حسان به. وفي الباب عن حذيفة بن اليمان وأبي هريرة وأنس وعن طاوس مرسلًا. (¬1) أخرجه البخاري (5109)، ومسلم (1408) عن أبي هريرة. (¬2) رواه الطبراني في الكبير (11/ 337) وابن عدي في الكامل (4/ 159) وابن عبد البر في التمهيد (18/ 278) والذهبي في الميزان (4/ 82) من طريق الفضيل بن ميسرة عن أبي حَريز عن عكرمة عن ابن عباس، وصحّحه ابن حبان (4116)، وحسنه ابن القطان في بيان الوهم والإيهام (5/ 758)، قال ابن الملقن في البدر المنير (7/ 601): "مداره على أبي حَريز، واسمه: عبد الله بن الحسَين، قَاضِي سجستان، وحالته مخُتلف فيها"، وهو في السلسلة الضعيفة (6528). وفي الباب عن عيسى بن طلحة مرسلًا. (¬3) أخرجه البخاري (2586)، ومسلم (1623) عن النعمان بن بشير.

منع الشرع هبة المرأة نفسها لغير النبي - صلى الله عليه وسلم -، والحكمة من ذلك

وطأها بملك اليمين لزوال هذه المفسدة. ومنع من تجاوز أربع زوجاتٍ (¬1): لكونه ذريعةً ظاهرة إلى الجَوْر، وعدم العدل بينهن، وقصر الرجال على الأربع فُسْحَةً لهم في التخلّص من الزنى، وإن وقع منهم بعضُ الجور، فاحتماله أقلُ مَفْسدةً من مفسدة الزنى. ومنع من عقد النكاح في حال العِدّة وحال الإحرام، وإن تأخّر الدخول إلى ما بعد انقضائها وحصول الحِلّ، لكون العقد ذَريعةً إلى الوطء، والنفوس لا تصبر غالبًا مع قوة الداعي. وشرط في النكاح شروطًا زائدة على مُجرَّدِ العقد، فقطع عنه شَبَه بعض أنواع السفاح به؛ كاشتراط إعلانه إما بالشهادة، أو بترك الكتمان، أو بهما، واشتراط الولي، ومنع المرأة أن تَلِيَه، ونَدَب إلى إظهاره، حتى استَحَبّ فيه الدُّفَّ والصوتَ والوليمة، وأوجب فيه المهر. ومنع هِبَةَ المرأة نفسَها لغير النبي - صلى الله عليه وسلم -. وسِرُّ ذلك أن في ضد ذلك والإخلال به: ذريعةً إلى وقوع السفاح بصورة النكاح، كما في الأثر (¬2): "إن الزانية هي التي تزوِّج نفسها"؛ فإنه لا تشاء زانيةٌ تقول: زَوّجْتُك نفسي بكذا، سرًّا من وَليِّها، بغير شهود، ولا إعلان، ولا وليمة، ولا دُفٍّ، ولا صوت، إلا فعلت، ومعلوم قطعًا أن مفسدة الزنى لا تنتفي بقولها: أنكحتك نفسي، أو ¬

_ (¬1) أخرجه أبو داود (2241)، وابن ماجه (1952) عن قيس بن الحارث. (¬2) رواه عبد الرزاق (6/ 200) وابن أبي شيبة (4/ 135) والدارقطني (3/ 227، 228) والبيهقي في الكبرى (7/ 110) عن أبي هريرة موقوفًا عليه، ورفعه بعضهم، وهو مخرّج في الإرواء (1841). وروى سعيد بن منصور (533) عن ابن عباس قال: "البغيّ التي تزوّج نفسها بغير ولي".

زوّجتك نفسي، أو أبحْتُكَ مني كذا وكذا، فلو انتفت مفسدة الزنى بذلك لكان هذا من أيسر الأمور عليها وعلى الرجال. فعظّم الشارع أمر هذا العقد، وسدّ الذريعة إلى مشابهته للزِّنى بكل طريق، ثم أكّد ذلك بأن جعل له حريمًا من العِدّة، يزيد على مقدار الاستبراء، وأثبت له أحكامًا من المصاهرة وحُرْمَتها، ومن التوارث. ولهذا كان الراجح في الدليل: أن الزنى لا يُثبِتُ حُرمة المصاهرة؛ كما لا يُثبِتُ التوارث والنفقة وحقوق الزوجية، ولا يَثبُت به النسب، ولا العِدّة على الصحيح، وإنما تُسْتَبْرأ بحَيْضة ليُعلم براءةُ رَحِمها، ولا يقع فيه طلاق، ولا ظِهار، ولا إيلاء، ولا يثبت المَحْرَمِيَّةُ بينه وبين أمِّها وابنتها، فلا يثبت حرمة المصاهرة ولا تحريمها؛ فإن الشارع جعل وُصلة الصهر فيه مع وُصْلة النسب، وجمع بينهما في قوله: {فَجَعَلَهُ نَسَبًا وَصِهْرًا} [الفرقان: 54]، فإذا انتفت وُصْلة النسب فيه انتفت وصلة الصِّهْر. وكنا ننصر القول بالتحريم، ثم رأينا الرجوع إلى عدم التحريم أولى؛ لاقتضاء الدليل له. وليس المقصود استيفاء أدلة المسألة من الجانبين، وإنما الغرض التنبيه على أن من قواعد الشرع العظيمة: قاعدة سدِّ الذرائع. ومن ذلك: نهي النبي - صلى الله عليه وسلم - أن تُقام الحدود في دار الحرب، وأن تقطع الأيدي في الغزو (¬1): لئلا يكون ذلك ذَريعةً إلى لحاق المحدود بالكفار. ¬

_ (¬1) أخرجه أبو داود (4408)، والترمذي (1450)، والنسائي (8/ 91) عن بسر بن أرطاة.

ومن ذلك: أن المسلم إذا احتاج إلى التزوُّج بدار الحرب، وخاف على نفسه الزنى، عَزَل عن امرأته، نص عليه أحمد، لئلّا يكون ذلك ذريعة إلى أن يَنشأ ولده كافرًا. ومن ذلك: أن الصحابة رضي الله عنهم اتفقوا على قتل الجماعة الكثيرة بالواحد، وإن كان القصاصُ يقتضي المساواة: لئلا يُتخذَ ذريعةً إلى إهدار الدماء، وتعاون الجماعة على قتل المعصوم. ومن ذلك: أن السكران لو قَتَل اقْتُصّ منه، وإن كان في هذه الحال لا قصدَ له: لئلا يُتخذ السكر ذريعة إلى قتل المعصوم، وسقوط القصاص. ومن ذلك: نهيُهُ سبحانه رسوله - صلى الله عليه وسلم -عن الجهر بالقرآن بحَضرة العدو، لمّا كان ذريعة إلى سَبِّهم للقرآن ومَن أنزله. ومن ذلك: أنه سبحانه نهى الصحابة أن يقولوا للنبي - صلى الله عليه وسلم -: {رَاعِنَا} [البقرة: 104]، مع قصدهم المعنى الصحيح وهو المراعاة: لئلّا يتخذ اليهودُ هذه اللفظة ذريعةً إلى السّبّ، ولئلّا يتَشبّهوا بهم، ولئلّا يخُاطَبَ بلفظ يحتمل معنًى فاسدًا. ومن ذلك: أنه - صلى الله عليه وسلم - كره الصلاة إلى ما قد عبد من دون الله، وأحبَّ لمن صلىّ إلى عمود أو عود أو شجرة أن يجعله على أحد حاجبيه، ولا يَصمُدَ له صمدًا (¬1): سدًّا لذريعة التشبه بالسجود لغير الله تعالى. ومن ذلك: أنه أمر المأمومين أن يُصلّوا جلوسًا إذا صلى إمامهم ¬

_ (¬1) أخرجه أبو داود (693) عن المقداد بن الأسود. وإسناده ضعيف، كما في نصب الراية (2/ 84) وتهذيب سنن أبي داود (1/ 343).

جالسًا (¬1): سدًّا لذريعة التشبُّه بفارس والروم في قيامهم على ملوكهم وهم قعود. ومن ذلك: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - منع الرجل من أخذ نظير حقه بصورة الخيانة ممَّن خان، وجَحْدِ حقِّه، وإن كان إنما يأخذ حقه أو دونه، فقال لمن سأله عن ذلك: "أدِّ الأمانة إلى مَن ائْتَمَنك، ولا تخنْ من خانك" (¬2)؛ لأن ذلك ذريعة إلى إساءة الظن به، ونسبته إلى الخيانة، ولا يمكنه أن يحتج عن نفسه، ويقيم عذره، مع أن ذلك أيضًا ذريعةٌ إلى أن لا يقتصر على قدْر الحقِّ وصفته؛ فإن النفوس لا تقتصر في الاستيفاء غالبًا على قدر الحق. ومن ذلك: أنه سلّط الشريك على انتزاع الشَقْص المشفوع من يد المشتري: سدًّا لذريعة المفسدة الناشئة من الشركة، والمخالطة بحسْب الإمكان، وقبل البيع ليس أحدُهما أولى بانتزاع نصيب شريكه من الآخر، فإذا رغبَ عنه وعَرَضه للبيع كان شريكه أحقّ به، لما فيه من إزالة الضرر عنه، وعدم تضرره هو؛ فإنه يأخذه بالثمن الذي يأخذه به الأجنبي. ولهذا كان الحق أنه لا يَحِلّ الاحتيال لإسقاط الشُّفعة، ولا تسقط بالاحتيال؛ فإن الاحتيال على إسقاطها يعود على الحكمة التي شُرعت لها بالنقض والإبطال. ومن ذلك: أنه لا تُقبل شهادة العدو ولا الظَّنِين في تُهمة أو قرابة، ولا الشريك فيما هو شريك فيه، ولا الوصي فيما هو وصيٌّ فيه، ولا الولد على ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري (689)، ومسلم (411) عن أنس. وفي الباب أحاديث أخرى. (¬2) سيأتي تخريجه.

ضَرّة أمه، ولا يحكم القاضي بعِلْمه، كل ذلك سدًّا لذريعة التهمة والغرض الفاسد. ومن ذلك: أن السنة مَضَتْ بكراهة إفراد رجب بالصوم (¬1)، وإفراد يوم الجمعة (¬2): لئلا يُتخذ ذريعة إلى الابتداع في الدين، بتخصيص زمان لم يخُصَّه الشارع بالعبادة. ومن ذلك: أن أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه أمر بقَطْع الشجرة التي كانت تحتها البيعة (¬3)، وأمر بإخفاء قبر دانيال سدًّا لذريعة الشرك والفتنة (¬4)، [81 أ]، ونهى عن تعمُّد الصلاة في الأمكنة التي كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ينزل بها في سفره، وقال: أتريدون أن تَتخذوا آثارَ أنبيائكم مساجد؟ من أدركته الصلاة فيه فَليُصَلِّ، وإلا فلا (¬5). ومن ذلك: جَمْعُ عثمان بن عفان رضي الله عنه الأمّة على حرف واحد من الأحرف السبعة، لئلا يكون اختلافهم فيها ذريعةً إلى اختلافهم في القرآن، ووافقه على ذلك الصحابة رضي الله عنهم. ومن ذلك: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أمر الذي أرسل معه بهَدْيِهِ إذا عَطب منه شيء دون المحِلِّ أن يَنْحَره، ويصْبُغ نَعْله الذي قَلّدَه به بدَمه، ويُخَليٍّ بينه وبين ¬

_ (¬1) ورد في ذلك آثار عن عمر وغيره، أخرجها ابن أبي شيبة (3/ 102)، وعبد الرزاق (4/ 292). (¬2) أخرجه البخاري (1984)، والنسائي في الكبرى (2/ 141) عن جابر بن عبد الله. (¬3) تقدم تخريجه. (¬4) إلى هنا انتهى الخرم في الأصل الذي بدأ من (ص 584). (¬5) تقدم تخريجه.

المساكين، ونهاه أن يأكل منه هو أو أحد من أهل رُفْقته (¬1)، قالوا: لأنه لو جاز له أن يأكل منه أو أحد من رفقته قبل بلوغ المحِلِّ، فربّما دعته نفسه إلى أن يُقَصِّر في عَلَفِه وحِفْظِه، حتى يُشارِف العَطَب، فيَنْحَره. فسَدّ الشارعُ الذريعة، ومنعه ورُفقتَه من الأكل منه. ومن ذلك: نهيه - صلى الله عليه وسلم - عن الذرائع التي توجب الاختلاف والتفرّق، والعداوة والبغضاء، كخِطْبة الرجل على خِطْبة أخيه، وسَوْمه على سومه، وبَيْعِه على بيعه، وسؤال المرأة طلاقَ ضَرَّتها (¬2)، وقال: "إذا بويع لخليفتين فاقتلوا الآخِر منهما" (¬3)؟ سدًا لذريعة الفتنة والفُرْقة. ونهى عن قتال الأمراء، والخروج على الأئمة وإن ظلموا وجاروا، ما أقاموا الصلاة (¬4): سدًا لذريعة الفساد العظيم، والشرِّ الكبير بقتالهم، كما هو الواقع؛ فإنه حصل بسبب قتالهم والخروج عليهم من الشرور أضعافُ أضعاف ما هم عليه، والأمّة في بقايا تلك الشرور إلى الآن. ومن ذلك: أن الشروط المضرُوبَة على أهل الذمة تضمّنت تمييزهم عن المسلمين في اللباس، والشعور، والمراكب، والمجالس: لئلا تُفضي مشابهتهم للمسلمين في ذلك إلى معاملتهم معاملة المسلمين في الإكرام والاحترام، ففي إلزامهم بتميُّزهم عنهم سدٌّ لهذه الذريعة. ¬

_ (¬1) أخرجه مسلم (1326) عن ذؤيب الخزاعي. (¬2) أخرجه البخاري (2140)، ومسلم (1413) عن أبي هريرة. (¬3) أخرجه مسلم (1853) عن أبي سعيد الخدري. (¬4) أخرجه مسلم (1854) عن أم سلمة.

المحرمات قسمان: مفاسد، وذرائع موصلة إليها

ومن ذلك: منعه - صلى الله عليه وسلم - من بَيْع القلادة التي فيها خَرَز وذَهَب بذهب (¬1)، لئلا يُتخذ ذريعةً إلي بيع الذهب بالذهب متفاضلًا، إذا ضُم إلى أحدهما خَرَزٌ أو نحوه. ولو لمٍ يكن في هذا الباب إلا أن الله سبحانه وتعالى أوجب إقامة الحدود سدًّا للذريعة إلى الجرائم، إذا لم يكن عليها وازعٌ طبعي، وجعل مقادير عقوباتها وأجناسها وصفاتها بحسب مفاسدها في نفسها، وقُوّةِ الداعي إليها، وتقاضِي الطباع لها. وبالجملة، فالمحرَّمات قسمان: مفاسد، وذرائع موصلة إليها مطلوبة الإعدام، كما أن المفاسد مطلوبة الإعدام. والقربات نوعان: مصالح للعباد، وذرائع موصلة إليها. ففَتْح باب الذرائع في النوع الأول كسدِّ باب الذرائع في النوع الثاني، وكلاهما مناقض لما جاءت به الشريعة، فبَيْنَ باب الحيل وباب سدّ الذرائع أعظمُ تناقض. وكيف يُظَنّ بهذه الشريعة العظيمة الكاملة التي جاءت بدفع المفاسد، وسد أبوابها وطُرقها، أن تُجَوِّز فتح باب الحِيَل وطُرُق المكر على إسقاط واجباتها، واستباحة محرّماتها، والتذَرُّع إلى حصول المفاسد التي قَصدتْ دفعها؟ وإذا كان الشيء الذي قد يكون ذريعةً إلى الفعل المحرم إما بأن يُقصد به ذلك المحرم، أو بأن لَا يقصد به، وإنما يقصد به المباح نفسُه، لكن قد يكون ¬

_ (¬1) أخرجه مسلم (1591) عن فضالة بن عبيد.

تجويز الحيل يناقض سد الذرائع مناقضة ظاهرة من كلام شيخ الإسلام ابن تيمية

ذريعةً إلى المحرم، يُحَرّمه الشارع بحسب الإمكان، ما لم يُعارِض ذلك مصلحةٌ راجحة تقتضي حِلّهُ، فالتذرُّع إلى المحرّمات بالاحتيال عليها أوْلىَ أن يكون حرامًا، وأولى بالإبطال والإهدار إذا عُرف قصد فاعله، وأولى أن لا يُعان فاعله عليه، وأن يعامَلَ بنقيض قَصده، وأن يُبْطَل [81 ب] عليه كَيْدُه ومكْره. وهذا بحمد الله تعالى بَيِّنٌ لمن له فِقْهٌ وفهم في الشرع ومقاصده. قال شيخ الإسلام (¬1) رحمه الله: وتجويز الحيل يُناقض سَدّ الذرائع مناقضةً ظاهرةً؛ فإن الشارع يَسُدّ الطريق إلى ذلك المحرم بكل ممكنٍ، والمحتال يتوسّل إليه بكل ممكن، ولهذا اعتبر الشارع في البيع والصرف والنكاح وغيرها شروطًا سَدّ ببعضها التذرُّع إلى الربا والزنى، وكَمَّل بها مقصود العقود، ولم يُمكن المحتال الخروجُ منها في الظاهر، فيريد الاحتيال على ما منعَ الشارع منه، فيأتي بها مع حيلةٍ أخرى تُوصله بزعمه إلى نفس ذلك الشيء الذي سَدّ الشارع الذريعة إليه، فلم يبق لتلك الشروط التي يأتي بها فائدةٌ ولا حقيقة، بل تبقى بمنزلة العبث واللعب، وتَطْويل الطريق إلى المقصود من غير فائدة. قال: واعتبر هذا بالشُّفْعَة، فإن الشارع أباحَ انتزاع الشِّقْصِ من مُشتريه، والشارعُ لا يُخرِج الملك عن مالكه بقيمةٍ أو غيرها إلا لمصلحةٍ راجحةٍ، وكانت المصلحة هاهنا تكميل العقار للشريك؛ فإنه بذلك يزول ضَرر المشاركة والمقاسمة، وليس في هذا التكميل ضررٌ على البائع؛ لأن مقصوده من الثمن يحصل بأخذه من المشتري، شريكًا كان أو أجنبيًا. ¬

_ (¬1) بيان الدليل (ص 298).

فالمحتال لإسقاطها مناقضٌ لمقصود الشارع، مُضادٌّ له في حُكمه، فالشارع يقول: لا يحلُّ له أن يبيعَ حتى يُؤذِنَ شريكه، فإن شاء أخذ وإن شاء ترك، والمحتال يقول: لك أن تتحيّل على منع الشريك من الأخذ بأنواع من الحيل، التي ظاهرها مَكْرٌ وخداع، وباطنها مَنع الشريك مما أباحه له الشارع ومكّنه منه، وتفويتُ نفس مقصود الشارع. والمصيبةُ الكبرى إظهار المحتال أنه إنما فعل ما أذن له الشارع في فعله، وأنه مكّنه من المكر والخداع، والتحيل على إسقاط حق الشريك، وهذا بَيّن لمن تأمله. قال: والمقصود بيان تحريم الحيل، وأن صاحبَها متعرّضٌ لسخط الله تعالى وأليم عقابه، ويترتبُ على ذلك أن يُنقضَ على صاحبها مقصوده منها بحسب الإمكان، وذلك في كل حيلة بحسبها، فلا يخلو الاحتيال إما أن يكون من واحد أو اثنين فأكثر. فإن كان من اثنين فأكثر، فإن كان عقدَ بيع تواطآ عليه تحَيُّلًا على الربا، كما في العِينَة؛ حُكم بفساد العَقْدَين، ويُرَدّ إلى الأول رأسُ ماله، كما قالت أمّ المؤمنين عائشة (¬1) رضي الله تعالى عنها، وكان بمنزلة المقبوض بعقد ربًا، لا يحل الانتفاع به، بل يجبُ رَدُّه إن كان باقيًا، وبَدَلُهُ إن كان تالفًا. وكذلك إن جَمعَا بين بيع وقَرْضٍ، أو إجارة وقرض، أو مُضاربة أو شركة أو مُساقاة أو مزارعةٍ وقرض، حُكم بفسادهما، فيجب أن يُرَدّ عليه بدلُ ماله الذي جعلاه قرضًا، والحقد الآخر فاسد، حكمه حكم العقود الفاسدة. ¬

_ (¬1) أخرجه الدارقطني (3/ 52)، والبيهقي (5/ 330، 331). وفي إسناده جهالة.

وكذلك إن كان نكاحًا تواطآ عليه، كان حكمه حكم الأنكحة الفاسدة. وكذلك إن تواطآ على هبةٍ أو بيع لإسقاط الزكاة، أو على هبةٍ لتصحيح نكاحٍ فاسد، أو وقفٍ فاسد، مثل أن تريد مُواقعةَ مملوكها فتَهبه لرجلٍ، فيزوجها به، فإذا قضتْ وطرها منه استوهَبته من الرجل، فوهبها إيّاه، فانفسخَ النكاح، فهذا البيع والهبة فاسدان في جميع الأحكام. وإن كان الاحتيالُ من واحدٍ: فإن كانت حيلةً يُستقلّ بها لم يحصل بها غرضه، فإن كانت عقدًا كان فاسدًا، مثل أن يهبَ لابنه هِبةً يريد أن يَرجع فيها لئلا يجب عليه الزكاة؛ فإن وجود هذه الهبة كعدمها، وليست هبةً في شيء من الأحكام، لكن إن ظهر المقصود تَرتّب الحكم عليه ظاهرًا وباطنًا، وإلا كانت فاسدةً في الباطن فقط. وإن كانت حيلة [82 أ] لا يستقل بها، مثل أن ينوي التحليل، ولا يظهره للزوجة، أو يرتجع المرأة إضرارًا بها، أو يهب ماله إضرارًا لورثته ونحو ذلك، كانت هذه العقود بالنسبة إليه وإلى من علم غرضَه باطلة، فلا يحل له وطءُ المرأة، ولا يرثها لو ماتت. وإذا علم الموهوبُ له والموصَى له غَرضَه، لم يحصلْ له الملك في الباطن، فلا يحلّ له الانتفاع به، بل يجب ردُّه إلى مُسْتَحِقّه. وأما بالنسبة إلى العاقِد الآخر الذي لم يعلم فإنه صحيح، يفيد مقصود العقود الصحيحة. ولهذا نظائر كثيرة في الشريعة. وإن كانت الحلية له وعليه كطلاق المريض، صحح الطلاق من جهة أنه

الأفعال الموجبة للتحريم لا يعتبر لها العقل، فضلا عن القصد

أزال ملكه، ولم يصحح من حيث أنه يَمنعُ الإرث؛ فإنه إنّما منع من قطع الإرث، لا من إزالة ملك البُضْع. وإن كانت الحيلة فعلًا يُفْضي إلى غرض له، مثل أن يسافر في الصيف ليتأخّر عنه الصوم إلى الشتاء، لم يحصل غرضُه، بل يجب عليه الصّوم في هذا السفر. قلت: ونظير هذا ما قاله المالكية: إنه لا يستبيح رُخصة المسْحِ على الخُفّين إذا لبسهما لنفس المسح، فلو مسح لذلك لم يُجْزِه، وعليه إعادة الصلاة أبدًا، وإنما تثبتُ الرّخصة في حَقّ من لبسهما لحاجة، كالبرد والركوب ونحوهما، فيمسح عليهما لمشقة النّزْع. وخالفهم باقي الفقهاء في ذلك. والمنع جارٍ على أصول من راعى المقاصد. قال شيخنا رحمه الله: وإن كان يُفضي إلى سقوط حقّ غيره، مثل أن يطأ امرأة أبيه أو ابنه لينفسخ نكاحه، أو مثل أن تُباشر المرأة ابنَ زوجها أو أباه عند من يَرى ذلك موجبًا للتحريم، فهذه الحيلُ بمنزلة الإتلاف للملك بقتل أو غصْبٍ، لا يمكنُ إبطالها؛ لأن حُرمة المرأة بهذا السبب حق الله تعالى، يترتب عليه فسخُ النكاح ضمنًا، والأفعال الموجبة للتحريم لا يُعتبر لها العقل، فضلًا عن القصد. وهذا بمنزلة أن يحتال على نجاسة مائع؛ فإن نجاسة المائعات بالمخالطة، وتحريم المصاهرة بالمباشرة، أحكام تثبتُ بأمور حِسّية، فلا تُرفع الأحكام مع وجود تلك الأسباب. قلت: هذا كان قولَ الشيخ أولًا، ثم رجعَ إلى أن تحريمَ المصاهرة لا يثبت بالمباشرة المحرمة، وحينئذٍ فصورةُ ذلك: أن تُرْضعَ امرأته الكبيرة أو

أمُّه امرأتَه الصغيرة لينفسخ نكاحُها؛ فإن فَسْخَ النكاح هاهنا لا يتوقف على العَقْل، ولا على القَصْدِ، بل لو كانت المرْضعة مجنونةً ثبتَ التحريم فهو بمنزلة أن يُلْقي في مائعه ما يُنَجّسه. قال: وإن كانت الحيلةُ فعلًا يُفْضي إلى تحَليل له أو لغيره، مثل أن يَقْتلَ رجلًا ليتزوج امرأته، أو يُزوّجها غيره، فهنا تحلّ المرأةُ لغير مَنْ قصدَ تزويجها به؛ فإنها بالنسبة إليه كمن مات عنها زوجُها، أو قُتل بحق، أوفي سبيل الله. وأما بالنسبة إلى من قصد بالقتل أن يتزوّج المرأة إما بمواطأةٍ منها أو بدونها؛ فهذا يُشبه من بعض الوجوه ما لو خَلّل الخمرَ بنَقْلها من موضعٍ إلى موضع، من غير أن يطرحَ فيها شيئًا. والصحيح: أنها لا تطهرُ، وإن كانت تطهر إذا تخلّلتْ بفعل الله تعالى، وكذلك هذا الرجل، لو مات بدون هذا القصد حَلّت المرأةُ، فإذا قتله لهذا القصْدِ أمكن أن يُقال: تحرُمُ عليه، مع حِلّها لغيره. ويُشبه هذا: الحلالُ إذا صاد الصيد وذَبَحه لحرام؛ فإنه يحرمُ على ذلك المحرم، ويَحِلُّ للحلال. ومما يؤيد هذا: أن القاتل يُمنَعُ الإرث، ولا يُمنعه غيرُه من الورثة، لكن لما كان مالُ الرجل تتطلع إليه نفوسُ الورثة كان القتلُ مما يُقصَد به المال، بخلاف الزّوجةِ؛ فإن ذلك لا يكاد يُقصد، فإن التفاتَ الرجل إلى امرأة غيره بالنسبة إلى التفات الوارث إلى مال الموروث قليل، وكونُه يقتله ليتزوجها فهذا أقلّ.

الفعل المشروع لثبوت الحكم يشترط فيه وقوعه على الوجه المشروع

[82 ب] فلذلك لم يُشْرع أن مَنْ قتلَ رجلًا حَرُمَتْ عليه امرأته؛ كما شُرع أن من قتل موروثًا مُنِع ميراثَه، فإذا قتله ليتزوّج بها فقد وُجدت الحكمةُ فيه، فيعاقَبُ بنقيض قَصْده. وأكثر ما يقال في ردِّ هذا: أن الأفعال المحرَّمة لحق الله سبحانه لا تُفِيد الحِلَّ، كذَبح الصّيدِ، وتخليل الخمر، والتّذْكِية في غير المحل، أما المحرّم لحق الآدمي كذبْح المغصوب، فإنه يُفيد الحلّ. أو يقال: إن الفعل المشروع لثبوت الحكم يشترط فيه وقوعه على الوجه المشروع، كالذكاةِ، والقتل لم يُشرع بحِل المرأة، وإنما انقضى النكاح بانقضاء الأجَلِ، فحصل الحلّ ضمنًا وتبعًا. ويمكن أن يقال في جواب هذا: إن قتل الآدميّ حرامٌ لحقّ الله تعالى وحقّ الآدمي، ولهذا لا يُستباحُ بالإباحة، بخلافِ ذَبْح المغصوب؛ فإنه حُرّمَ لمحض حق الآدمي، ولهذا لو أباحه حَلَّ، فالمحرم هناك إنما هو تفويتُ الماليّة على المالك، لا إزهاقُ الروح. وقد اختُلف في الذَّبْح بآلة مغصوبة، وفيه عن أحمد روايتان، واختلف العلماءُ في ذبح المغصوب وقد نص أحمد على أنه ذَكِي، وفيه حديث رافع بن خَديج في ذبح الغنم المنهوبة (¬1)، والحديث الآخر في المرأة التي أضافت النبي - صلى الله عليه وسلم -، فذبحت له شاةً أخذتها بدون إذن أهلها، فقال: "أطعموها الأُسارى" (¬2). ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري (2507)، ومسلم (1968). (¬2) رواه أحمد (5/ 293 - 294)، وأبو داود (3334)، والطحاوي في شرح المعاني (5931)، والدارقطني (4/ 285، 286)، والبيهقي في الكبرى (5/ 335، 6/ 97)، =

وفى هذا دليل على أن المذبوح بدون إذن أهله يُمنع من أكله المذبوحُ له دون غيره، كالصيد إذا ذبحه الحلال لحرامٍ، حَرُم على الحلال دون الحرام. وقد نقل صالح عن أبيه فيمن سَرَق شاةً فذبحها: لا يحل أكلها، يعني: له، قلت لأبي: فإن رَدَّها على صاحبها؟ قال: تؤكل. فهذه الرواية قد يُؤخذ منها أنها حَرام على الذابح مطلقًا؛ لأن أحمد لو قصد التحريم من جهة أن المالك لم يأذن له في الأكل لم يخصَّ الذابح بالتحريم. فهذا القول الذي دل عليه الحديث في الحقيقة حُجّة لتحريم مثل هذه المرأة على القاتل ليتزوجها دون غيره، بطريق الأولى. هذا كله كلام شيخنا رحمه الله. وبعدُ، فالتحريم مُطّردٌ على قواعد أحمد ومالك من وجوه متعددة: منها: مقابلة الفاعل بنقيض قصده، كطلاق الفارّ، وقاتل مورثه، وقاتل المُوصي، والمدبَّر إذا قتل سَيِّدَه. ومنها: سد الذرائع. ¬

_ = وغيرهم من طرق عن عاصم بن كليب عن أبيه عن رجل من الأنصار، وفي رواية: عن رجل من مزينة، قال ابن عبد الهادي في التنقيح (3/ 51): "هذا الحديث عليه جلالة الصدق"، وصحّح إسنادَه الزيلعيّ في نصب الراية (4/ 168)، وحسّنه الذهبي في المهذب (5/ 2227)، والعراقي في المغني (1717)، وقواه ابن حجر في الفتح (9/ 633)، وهو في السلسلة الصحيحة (754). ورواه الطبراني في الأوسط (1602) من طريق أبي يوسف عن أبي حنيفة عن عاصم بن كليب عن أبي بردة عن أبي موسى، وقد أُعلَّ.

الحيل نوعان: أقوال وأفعال

ومنها: تحريم الحيل. ومنها: تخليل الخمر كما ذكره شيخنا رحمه الله، والله أعلم. فتلخَّص أن الحيل نوعان: أقوال، وأفعال. فالأقوال يشترط لثبوت أحكامها العَقْلُ، ويُعتبر فيها القَصد، وتكون صحيحةً تارةً، وفاسدةً أخرى. ثم ما ثبت حكمه؛ منه ما يمكن فسخُه ورَفعه بعد وقوعه، كالبيع والنكاح؛ ومنه مالا يمكن فيه ذلك، كالعتق والطلاق. فهذا الضّرب إذا قُصد به الاحتيال على فعل محُرّم أو إسقاط واجب أمكن إبطاله، إما من جميع الوجوه، وإما من الوجه الذي يُبطِل مقصود المحتال، بحيث لا يترتبُ عليه الحكم المحتالُ على حصوله، كما حكم به الصحابة رضوان الله تعالى عليهم في طلاق الفارّ. وأما الأفعال فإن اقتضت الرّخصة للمحتال لم تحصل، كالسفر للقصر والفِطْرِ، وإن اقتضت تحريمًا على الغير فإنه قد يقعُ، وتكون بمنزلة إتلافِ النفس والمال، وإن اقتضت حِلًا عامًا إما بنفيها أو بواسطة زَوالِ الملك، فهذه مسألةُ القتل، وذبح الصيد للحلال، وذبح المغصوب للغاصب. وبالجملة، فإذا قُصد بالفعل استباحةُ محُزمٍ لم يحَلّ له، وإن قُصدَ إزالةُ مُلكِ الغير ليَحِلّ له فالأقيسُ أنه لا يحلّ له أيضًا، وإن حلّ لغيره. وقد دخل في القسم الأول احتيالُ المرأة على فسخ النكاح بالرّدة، فهي لا تمشي غالبًا إلا عند مَنْ يقول: الفُرقة [83 أ] تتنجز بنفس الرّدة، أو يقول بأنها لا تُقتلُ، فالواجب في مثل هذه الحيلة أن لا ينفسخ بها النكاح.

فصل: في ذكر أدلة العلماء على تحريم الحيل

وإذا علم الحاكم أنها ارتدت لذلك لم يُفرّق بينهما، وتكون مرتدةً من حيثُ العقوبة والقتلُ، غير مرتدةٍ من جهة فسادِ النكاح، حتى لو تُوفّيتْ أو قُتلتْ قبلَ الرجوع استحقّ ميراثها، لكن لا يجوز له وطؤها في حال الرّدة؛ فإن الزوجة قد يَحرُم وطؤُها بأسباب من جهتها، كما لو أحرمت. لكن لو ثبت أنها ارتدت، ثم قالت: إنما ارتددتُ لفسخ النكاح، لم يُقبل هذا؛ فإنه قد يجُعل ذريعة إلى عود نكاح كل مرتدة، بأن تُلَقّن أنها إنما ارتدَّت للفسخ، ولأنها مُتّهمة في ذلك، ولأن الأصل أنها مُرتدة في جميع الأحكام. فصل وقد استدل البخاري في "صحيحه" (¬1) على بطلان الحيل بقوله - صلى الله عليه وسلم -: "لا يُجمَعُ بَيْنَ مُتَفَرّقٍ، ولا يُفَرّقُ بين مجتمعٍ، خَشْيَةَ الصدقة". فإن هذا النهي يَعُمّ ما قَبْلَ الحَوْلِ وما بعده. واحتج بقوله - صلى الله عليه وسلم - في الطاعون: "إذا وقع بأرض وأنتم بها فلا تخرجوا فِرارًا منه" (¬2). وهذا من دقة فقهه رضي الله عنه؛ فإنه إذا كان قد نهى - صلى الله عليه وسلم - عن الفرار من قَدَر الله تعالى إذا نزل بالعبد رضًا بقضاء الله تعالى وتسليمًا لحكمه؛ فكيف بالفرار من أمره ودينه إذا نزل بالعبد؟ وبأنه - صلى الله عليه وسلم - نهى عن بيع فَضْلِ الماء يمنع به الكلأ (¬3). ¬

_ (¬1) برقم (6955). (¬2) برقم (6973). (¬3) أخرجه البخاري (6962)، ومسلم (1566) عن أبي هريرة.

المقاصد والنيات معتبرة في التصرف والعادات كما هي معتبرة في القربات والعبادات

فدلَّ على أن الشيء الذي هو في نفسه غير محرّم، إذا قُصدَ به أمر محرمٌ صار محرمًا. واحتج أحمد على بطلان الحيل وتحريمها بلعنهِ - صلى الله عليه وسلم - للمحلّل (¬1)، وبقوله: "لا ترتكبوا ما ارتكبت اليهود؛ فتستحلوا محارم الله بأدنَى الحيل" (¬2). واحتج على تحريم الحيل لإسقاط الشفعة بقوله: "فلا يحلّ له أن يبيع؛ حتى يُؤْذِنَ شريكه" (¬3). واحتج ابن عباس وبعده أيوب السَّخْتياني (¬4)، وغيره من السلف بأن الحيل مُخادعة لله تعالى، وقد قال تعالى: {يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَمَا يَخْدَعُونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ} [البقرة: 9]، قال ابن عباس: ومن يخادع الله يخدعه (¬5). ولا ريب أن من تدبّر القرآن، والسّنّة، ومقاصد الشارع: جَزم بتحريم الحِيَل وبطلانها؛ فإن القرآن دلّ على أن المقاصد والنيّاتِ معتبرةٌ في التصرّفات والعادات، كما هي معتبرة في القربات (¬6) والعبادات، فتجعلُ (¬7) الفعل حلالًا أو حرامًا، وصحيحًا أو فاسدًا، وصحيحًا من وجه فاسدًا من ¬

_ (¬1) تقدم تخريجه. (¬2) تقدم تخريجه. (¬3) أخرجه مسلم (1608) عن جابر. (¬4) تقدّم تخريجه. (¬5) تقدم تخريجه. (¬6) في الأصل: "التقربات". (¬7) في الأصل: "فيجعل".

الضرار نوعان: جنف وإثم

وجه، كما أن القصد والنية في العبادات تجعلها كذلك. وشواهد هذه القاعدة كثير: جدًّا في الكتاب والسنة: فمنها: قوله تعالى في آية الرجعة: {وَلَا تُمْسِكُوهُنَّ ضِرَارًا لِتَعْتَدُوا} [البقرة: 231]، وذلك نصّ في أن الرجعة إنما تثبت لمن قصد الصلاح دون الضّرار؛ فإذا قصد الضرار لم يُمَلّكْه الله الرجعة. ومنها: قوله تعالى في آية الخلع: {وَلَا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَأْخُذُوا مِمَّا آتَيْتُمُوهُنَّ شَيْئًا إِلَّا أَنْ يَخَافَا أَلَّا يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ} [البقرة: 229]، وهذا دليل على أن الخُلعَ المأذون فيه إنما هو إذا خافَ الزوجان أن لا يُقيما حدود الله، وأن النكاح الثاني إنما يُباح إذا ظنّا أن يُقيما حدود الله؛ فإنه شرط في الخلع خوف عدم إقامة حدوده، وشرط في العَوْد ظنَّ إقامة حدوده. ومنها: قوله تعالى في آية الفرائض: {مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصَى بِهَا أَوْ دَيْنٍ غَيْرَ مُضَارٍّ} [النساء: 12]؛ فإنه سبحانه وتعالى إنما قدّم على الميراث وَصِية مَنْ لم يُضارَّ الورثة بها، فإذا كانت الوصية وصية ضرار؛ كانت حرامًا، وكان للوارث إبطالها، وحرم على الموصَى له أخذ ذلك بدون رِضَا الورثة [83 ب]، وأكد سبحانه ذلك بقوله: {تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلَا تَعْتَدُوهَا} [البقرة: 229]. وتأمل كيف ذكر سبحانه وتعالى الضرار في هذه الآية دون التي قبلها؛ لأن الأُولى تضمنت ميراث العمودين، والثانية تضمنت ميراث الأطراف من الزوجين، والإخوة، والعادة أن الميت قد يُضارّ زوجه وإخوته، ولا يكاد يضارّ والديه وولده.

والضرار نوعان: جَنَفٌ، وإثم؛ فإنه قد يقصدُ الضّرار وهو الإثم، وقد يضارّ من غير قصد وهو الجنَف، فمتى أوصَى بزيادة على الثُلُثِ فهو مُضازٌ، قصد أو لم يقصد، فللوارث ردُّ هذه الوصية. وإن أوصى بالثلث فما دونه، ولم يُعلم أنه قصد الضرار، وجب إمضاؤها، فإن علم الوصي أن الموصي إنما أوصى ضرارًا لم يحلّ له الأخذ، ولو اعترف الموصي أنه إنما أوصى ضرارًا لم تجَز إعانته على إمضاء هذه الوصية. وقد جَوّز سبحانه وتعا لى إبطال وصية الجَنَف والإثم، وأن يُصلح الوصيُّ أو غيره بين الورثة والموصَى له، فقال تعالى: {فَمَنْ خَافَ مِنْ مُوصٍ جَنَفًا أَوْ إِثْمًا فَأَصْلَحَ بَيْنَهُمْ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ} [البقرة: 182]، وكذلك إذا ظهر للحاكم أو الوصي الجنَفُ أو الإثم في الوقف ومَصرفه، أو بعض شروطه، فأبطل ذلك، كان مُصلحًا لا مُفسدًا، وليس له أن يُعِينَ الواقف على إمضاء الجَنفِ والإثم، ولا يصحِّح هذا الشرط، ولا يحكم به؛ فإن الشارَع قد رَدّه وأبطله، فليس له أن يصحِّحَ ما رده الشارع وحَرّمه؛ فإن ذلك مضادَّة له ومناقضة. ومن ذلك: قوله تعالى: {وَلَا تَعْضُلُوهُنَّ لِتَذْهَبُوا بِبَعْضِ مَا آتَيْتُمُوهُنَّ إِلَّا أَنْ يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ} (¬1) [النساء: 19]؛ فهذا دليل على أنه إذا عَضَلها لِتَفْتَدِيَ نفسها منه، وهو ظالم لها بذلك، لم يحلّ له أخذ ما بَذَلَتْه، ولا يملكه بذلك (¬2). ¬

_ (¬1) في الأصل: "إلا أن يخافا أن لا يقيما حدود الله" وهو خطأ. (¬2) "ولا يملكه بذلك" ساقطة من م.

فصل: أدلة مجوزي الحيل

ومن ذلك: قوله تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَرِثُوا النِّسَاءَ كَرْهًا وَلَا تَعْضُلُوهُنَّ لِتَذْهَبُوا بِبَعْضِ مَا آتَيْتُمُوهُنَّ} [النساء: 19]، فحرّم سبحانه وتعالى أن يأخذ منها شيئًا مما آتاها إذا كان قد تَوَسّل إليه بالعَضْلِ. ومن ذلك: أن جَدَاد النّخل عَملٌ مباح أيَّ وقتٍ شاء صاحبُه، لكن لمَّا قصد أصحابُه به في الليل حرمانَ الفقراء عاقبهم الله تعالى بإهلاكه، ثم قال: {وَلَعَذَابُ الْآخِرَةِ أَكْبَرُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ} [القلم: 33]، ثم جاءت السنة بكراهة الجداد بالليل (¬1) لكونه ذريعة إلى هذه المفسدة. ونص عليه غير واحد من الأئمة، كأحمد بن حنبل وغيره. فصل (¬2) قال أصحاب الحيل: قد أسمعتمونا على بطلان الحيل وتحريمها ما فيه كفايةٌ، فاسمعوا الآن على جوازها واستحبابها ما يُقِيم عذرَنا: قال الله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ قَالُوا فِيمَ كُنْتُمْ قَالُوا كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الْأَرْضِ قَالُوا أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُوا فِيهَا فَأُولَئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَسَاءَتْ مَصِيرًا (97) إِلَّا الْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَالْوِلْدَانِ لَا يَسْتَطِيعُونَ حِيلَةً وَلَا يَهْتَدُونَ سَبِيلًا (98) فَأُولَئِكَ عَسَى اللَّهُ أَنْ يَعْفُوَ عَنْهُمْ} [النساء: 97 - 99]. ووجه الاستدلال: أنه سبحانه إنما عذرَهم بتخلُّفهم وعجْزِهم؛ إذ لم ¬

_ (¬1) أخرجه أبو داود في المراسيل (127، 128، 129) من طريق جعفر بن محمد عن أبيه عن جده عن علي بن الحسين مرسلًا. (¬2) "فصل" ساقطة من الأصل.

يستطيعوا حِيْلةً يتخلصون بها من المُقام بين أظْهُر الكفار، وهو حرام، فَعُلِمَ أن الحيلة التي تُخلِّص من الحرام مُسْتَحبة مأذونٌ فيها، وعامّة الحيل التي تنكرونها علينا هي من هذا الباب، فإنها حيل تُخَلِّص من الحرام، ولهذا سَمّى بعضُ من صَنّف في ذلك كتابه: "المخارج من الحرام، والتخلُّص من الآثام". واعتبر هذا بحيلة العينة؛ فإنها تُخَلّص من الربا المحرم. وكذلك الجمع بين الإجارة والمساقاة، يُخَلّص من بَيع الثمرة قبل بُدوّ صلاحها، وهو حرام. وكذلك خُلع اليمين [84 أ] يُخَلّص من وقوع الطلاق الذي هو حرام، أو مكروه، أو من مواقعة المرأة بعد الحِنْثِ، وهو حرام. وكذلك هِبَةُ الرجل مالَه قبل الحوْلِ لوَلَدِه أو امرأته، يخُلّصه من إثم مَنْع الزكاة، كما يتخلِّص من إثم المنع بإخراجها، فهما طريقان للتخلُّص. فالحيل تخلِّص من الحرج، وتخلِّص من الإثم، والله تعالى قد نفى الحرجَ عَنّا وعن ديننا (¬1)، ونَدَبنا إلى التخلص منه ومن الآثام، فمن أفضل الأشياء معرفةُ ما يُخلّصنا من هذا وهذا، وتعليمُه، وفَتْحُ طريقه. ألا ترى أن الرجل إذا حلف بالطلاق: لتقْتُلَنّ أباه، أو ليشربن الخمر، أو ليزنين بامرأة ونحو ذلك كان في الحيلة تخليصُه من مفسدة فعل ذلك، ومن مفسدة خراب بيته، ومفارقة أهله؛ فإن مَنْ لا يرى الحيلة ليس له عنده مخرج إلا بوقوع الطلاق، فإذا علم أنه يقع به الطلاق فزال فِعْلُ المحلوف عليه، فأي شيء أفضلُ من تخليصه من هذا وهذا؟ ¬

_ (¬1) "عن ديننا" ساقطة من الأصل.

وكذلك من وَقع عليه الطلاق الثلاث، ولا صبرَ له عن امرأته، ويرى اتصالها بغيره أشدّ من موته، فاحْتلنا له بأن زوَّجناها بعبدٍ فوطئها، ثم وَهَبْناهُ منها فانفسخ نكاحه، وحلّت لزوجها المطلّق بعد انقضاء العدّة. قالوا: وقد قال الله تعالى لنبيه أيوبَ عليه السلام وقد حلف لَيَجْلِدَنّ امرأتَه مئةً: {وَخُذْ بِيَدِكَ ضِغْثًا فَاضْرِبْ بِهِ وَلَا تَحْنَثْ} [ص: 44]. قال سعيد عن قتادة (¬1): كانت امرأته قد عَرّضَت له بأمر، وأرادها إبليس على شيء فقال لها: لو تكلمتِ بكذا وكذا. وإنما حملها عليه الجوع (¬2)، فحلف نبيّ الله لئن شفاهُ الله تعالى ليجلدنها مئة جلدة، قال: فأُمِرَ بأصلٍ فيه تسعة وتسعون قضيبًا، والأصل تَكْملة المئة، فيضربها به ضربة واحدةً، فأبَرّ الله تعالى نبيه، وخَفّف عن أمَتِهِ. وقال عبد الرحمن بن جُبير (¬3): لقيها (¬4) إبليس، فقال لها: والله لو تكلّم صاحِبُك بكلمة واحدةٍ، لكُشِفَ عنه كلّ ضُرٍّ، ولرجع إليه ماله وولده، فأخبرت أيوب عليه السلام، فقال: ويلك، ذاك عدو الله، إنما مَثَلُك مَثَلُ المرأة الزانية، إذا جاءها صديقها بشيء قَبِلته وأدخلته، وإن لم يأتها بشيء ¬

_ (¬1) رواه الطبري في تفسيره (21/ 213)، ورواه بنحوه عبد الرزاق في تفسيره (3/ 167، 168) - ومن طريقه ابن عساكر في تاريخ دمشق (10/ 68) - عن معمر عن قتادة، وعزاه في الدر المنثور (7/ 195) لعبد بن حميد وابن المنذر. (¬2) في بعض النسخ: "الجزع". (¬3) رواه أحمد في الزهد (ص 89) والطبري في تفسيره (21/ 212) عن أبي المغيرة عن صفوان عن عبد الرحمن بن جبير بنحوه. (¬4) في الأصل: "لقنها".

طردته وأغلقت بابها عنه. لمّا أعطانا الله تعا لى المال والولد آمنا به، وإذا قبض الذي له منا نكفُرُ به؟ إن أقامني الله تعالى من مرضي لأجلدنك مئة. فأفتاه الله سبحانه بما أخبر به: أن يأخذ ضِغْثًا وهو الحُزْمَة من الشيء، مثل الشماريخ الرّطبة والعيدان ونحوها مما هو قائم على ساق، فيضربها ضربة واحدة. وهذا تعليم منه سبحانه لعباده التخلُّص من الآثام، والمخرج من الحرج بأيّ (¬1) شيء، وهذا أصلنا في باب الحيل، فإنا قسنا على هذا، وجعلناه أصلًا. قالوا: وقد أرشد النبي - صلى الله عليه وسلم - إلى التخلّص من صريح الربا، بأن يبيع التمْر بدراهم، ثم يشتري بتلك الدراهم تمرًا: فروى أبو سعيد الخدري رضي الله تعالى عنه، قال: جاء بلال إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - بتمرٍ بَرْنى، فقال له النبي - صلى الله عليه وسلم -: "من أين هذا؟ "، قال: كان عندنا تمرٌ رديءٌ، فبعتُ منه صاعين بصاعٍ ليَطْعَم النبيء - صلى الله عليه وسلم -، فقال له النبي - صلى الله عليه وسلم - عند ذلك: "أوّهْ! عينُ الربا، لا تفعل، ولكن إذا أردت أن تشتري فبعِ التمرَ ببيعٍ آخر، ثم اشترِ به". متفق عليه (¬2). وفي لفظ آخرة "بعِ الجَمْعَ بالدراهم، ثم اشتر بالدراهم جَنِيبًا". والجمع والجنيب: نوعان من التمر. وفي لفظ لمسلم: "بِعْهُ بسلعةٍ، ثم ابتعْ بسلعتك أيّ التمرِ شئت". ¬

_ (¬1) في بعض النسخ: "بأيسر". (¬2) البخاري (2312)، ومسلم (1594).

فقد أمره أن يبيع التمر بالدراهم أو السلعة، ثم يبتاعَ بها تمرًا، وهذا ضرب من الحيلة، ولم يُفرّق بين بيعه ممن يشتري منه التمر، أو من غيره. وقد قال تعالى: {إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً حَاضِرَةً تُدِيرُونَهَا بَيْنَكُمْ} [البقرة: 282]، وهذا إرشاد إلى حيلة العِينَة وما شابهها؛ فإن السلعة تدور بين المتعاقدين [84 ب] للتخلص من الربا. قالوا: وقد دلَّت السنة على أنه يجوز للإنسان أن يتخلّص من القول الذي يأثم به أو يخاف بالمعاريض، وهي حيلة في الأقوال، كما أن تلك حيلة في الأعمال. فروى قيس بن الربيع، عن سليمان التَيْمي، عن أبي عثمان النّهْدي، عن عمر بن الخطاب (¬1) رضي الله عنه، قال: إن في معاريض الكلام ما يُغْنِي الرجل عن الكذب. وقال الحَكَمْ، عن مجُاهد، عن ابن عباس (¬2) رضي الله عنهما: ما يَسُرُّني ¬

_ (¬1) رواه في المخارج في الحيل (ص 4) عن يعقوب عن قيس به، ورواه ابن أبي شيبة (5/ 282) وهناد في الزهد (1377) والبخاري في الأدب المفرد (884) والطبري في تهذيب الآثار (242، 243 - مسند علي-) والطحاوي في شرح المشكل (7/ 369) والبيهقي في الكبرى (10/ 199) وفي الشعب (4/ 203) وابن عبد البر في التمهيد (16/ 252) من طرق أخرى عن سليمان التيمي به، وصحّح إسناده الألباني في السلسلة الضعيفة (3/ 214). ورواه الطبري في تهذيب الآثار (244 - مسند علي-) من طريق محمد بن عبيد الله عن عمر، وورد أيضًا من طريق ليث عن مجاهد عن عمر. (¬2) رواه في المخارج في الحيل (ص 6) عن يعقوب عن الحسن بن عمارة عن الحكم به، وزاد في آخره: وسودُها. ورواه ابن أبي شيبة (5/ 282) عن جرير عن منصور =

بمعاريض الكلام حُمْرُ النعم. وقال الزهري (¬1)، عن حُميد بن عبد الرحمن بن عوف، عن أُمِّه، أم كُلثوم بنت عُقبة بن أبي مُعَيْط، وكانت من المهاجرات الأُول قالت: لم أسمع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يرخّص في شيء مما يقول الناس: إنه كذب، إلا في ثلاث: الرجل يُصلِح بين الناس، والرجل يكذب لامرأته، والكذب في الحرب. ومعنى الكذب في ذلك: هو المعاريض، لا صريح الكذب. وقال منصور (¬2): كان لهم كلام يَدْرَأون به عن أنفسهم العقوبة والبلايا، وقد لقي رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - طليعة للمشركين، وهو في نفر من أصحابه فقال المشركون: ممن أنتم؟ فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: "نحن من ماء! "، فنظر بعضهم إلى بعض، فقالوا: أحياءُ اليمن كثير، لعلهم منهم، وانصرفوا! (¬3) وأراد - صلى الله عليه وسلم - بقوله: "نحن من ماء" قوله تعالى: {خُلِقَ مِنْ مَاءٍ دَافِقٍ} [الطارق: 6]. ¬

_ = قال: بلغني عن ابن عباس أنه قال: "ما أحبّ لي بالمعاريض كذا وكذا". ورواه الطبري في تهذيب الآثار (245 - مسند علي-) عن ابن حميد عن جرير عن منصور عن ابن عباس بلفظ ابن أبي شيبة. (¬1) رواه مسلم (2605). (¬2) لم أقف عليه من كلام منصور، ورواه في المخارج في الحيل (ص 8) وابن أبي شيبة (5/ 282) والطبري في تهذيب الآثار (234 - مسند علي-) عن جرير عن منصور عن إبراهيم به، ولفظ ابن أبي شيبة: "كان لهم كلام يتكلّمون به يدرأون به عن أنفسهم مخافةَ الكذب"، ولفظ الطبري بنحوه. (¬3) رواه ابن إسحاق -كما في سيرة ابن هشام (3/ 163) - عن محمد بن يحيى بن حبان مرسلًا.

ولما وطئ عبد الله بن رواحة جاريته أبصرته امرأته، فأخذت السّكّين وجاءت، فوجدته قد قضى حاجته، فقالت: لو رأيتك حيث كنت لوَجَأْتُ بها في عُنُقِك، فقال: ما فعلتُ؟ فقالت: إن كنت صادقًا فاقرأ القرآن. فقال: شَهِدْتُ بأنَّ وَعْدَ الله حَقٌّ ... وأَنَّ النَّارَ مَثْوَى الكَافِرينَا وأنَّ العَرْشَ فَوْقَ المَاءِ طافٍ ... وفَوْقَ العَرْشِ ربُّ العالمِينَا وتحمِلُهُ ملائكَةٌ شِدادٌ ... ملائكةُ الإلَهِ مُسَوِّمينَا فقالت: آمنت بكتاب الله، وكذّبت بصري، فبلغ ذلك رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فضحك حتى بَدَتْ نواجذه (¬1). ¬

_ (¬1) رواه اليزيدي في أماليه (ص 102) - ومن طريقه ابن عساكر في تاريخه (28/ 112) والذهبي في السير (1/ 238) - عن عبد العزيز بن أخي الماجشون قال: بلغنا أنه كانت لعبد الله بن رواحة جارية يستسرّها سرًّا عن أهله ... وذكر القصة، وصحّحها الألوسي في تفسيره (7/ 114). ورواه ابن عساكر (28/ 114) عن عبد العزيز بن عبد الله بن أبي سلمة عن الثقة عن ابن رواحة وليس فيه الجزء المرفوع. ورواه في المخارج في الحيل (ص 4) عن الزهري عن ابن رواحة. ورواه ابن أبي الدنيا في العيال (572) - ومن طريقه ابن عساكر (28/ 114) - عن ابن الهاد أن امرأة ابن رواحة رأته على جارية له ... وليس فيه الجزء المرفوع. ورواه الدارمي في الرد على الجهمية (82) عن قدامة بن إبراهيم عن ابن رواحة نحوه وليس فيه الجزء المرفوع، قال الذهبي في العلو (83): "روِي من وجوه مرسلة، وهذا منقطع". ورواه ابن عساكر (28/ 116) عن الهيئم بن عدي قال: ذكروا أن ابن رواحة ابتاع جارية ... ورواه في المخارج في الحيل (ص 4، 5) عن قيس بن موسى أن ابن رواحة ابتاع جارية ... وذكرا القصة بهذه الأبيات وفيها أبيات أخرى. ورواه الدارقطني (1/ 120) وابن عساكر (28/ 116) عن زمعة بن صالح عن سلمة بن وهرام عن عكرمة مرسلا بأبيات أخرى، ورواه الدارقطني (1/ 121) عن زمعة عن سلمة عن عكرمة عن ابن =

قال ابن عبد البر (¬1): ثبت ذلك عن عبد الله بن رَواحَة. ويُذكر عن عمر بن الخطاب (¬2) رضي الله عنه أنه قال: عجبتُ لمن يعرف المعاريض، كيف يكذب؟ ودُعِي أبو هريرة رضي الله عنه إلى طعام فقال: إني صائم، ثم رَأَوْهُ يأكل، فقالوا: ألم تقل: إني صائم؟ فقال: ألم يقل رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "صيام ثلاثة أيام من كلل شهر صيام الدهر" (¬3)؟ ¬

_ = عباس بنحوه، قال السبكي في الطبقات (1/ 266): "زمعة وشيخه متكلم فيهما"، وقال مغلطاي في شرح ابن ماجه (1/ 758): "هذا متصل، لولا ضعف زمعة لكان إسناده لا بأس به ... وقال عبد الحق: لا يروى من وجه صحيح يحتجّ به؛ لأنه منقطع وضعيف". ورواه ابن أبي الدنيا في العيال (571) وفي المداراة (164) عن الشعبي مرسلًا بأبيات أخرى. ورواه ابن أبي شيبة (5/ 273)، وابن أبي الدنيا في العيال (573)، والخرائطي في اعتلال القلوب (482)، وابن عساكر (28/ 113) عن نافع عن ابن رواحة نحوه بأبيات أخرى وليس فيه الجزء المرفوع، وهذا منقطع. (¬1) قال في الاستيعاب (3/ 900): "قصته مع زوجته مشهورة، رويناها من وجوه صحاح "، وفيما قال نظر؛ فإن أسانيدها لا تخلو من مقال، وعلى فرض اعتضادها ففي المتن اختلاف ونكارة، حتى إنَّ محمد رشيد رضا بالغ فحكم عليها بالوضع كما في مجلة المنار (14/ 103). وقال النووي في المجموع (2/ 183): إسناد هذه القصة ضعيف ومنقطع. (¬2) لم أقف عليه، وقال السمعاني في تفسيره (5/ 183): "وعن بعضهم: عجبت لمن يعرف لحن الكلام كيف يكذب". (¬3) رواه بمعناه الطيالسي (2393)، وابن راهويه (12)، وأحمد (2/ 384، 513)، وأبو يعلى (6650)، وأبو نعيم في الحلية (1/ 382)، والبيهقي في الكبرى (4/ 293)، وغيرهم، وفي إسناده اختلاف، وصحّحه ابن حبان (3659)، وقال الألباني في الإرواء (4/ 99): "إسناده صحيح على شرط مسلم".

وكان محمد بن سيرين إذا اقتضاه غريم، ولا شيء معه، قال: أعطيك في أحد اليومين إن شاء الله، فيظن أنه أراد يومه والذي يليه، وإنما أراد يَوْمَي الدنيا والآخرة (¬1). وذكر الأعمشُ، عن إبراهيم (¬2)، أنه قال له رجل: إن فلانًا أمرني أن آتي مكان كذا وكذا، وأنا لا أقدر على ذلك المكان، فكيف الحيلة؟ فقال له: قل: والله ما أُبْصِرُ إلا ما سدَّدَني غيري، تعني: إلا ما بصَّرك ربُّك. وقال حمّاد، عن إبراهيم (¬3) في رجل أخذه رجلٌ، فقال: إن لي معك حقًا، فقال: لا، فقال: احْلِفْ بالمشي إلى بيت الله، فقال (¬4): احْلِفْ بالمشي إلى بيت الله، واعْنِ مَسْجَد حَيّك. وذكر هشام بن حسّان، عن ابن سِيرين (¬5): أن رجلًا كان يُصيب بالعَيْنِ، ¬

_ (¬1) لم أقف عليه. (¬2) رواه في المخارج في الحيل (ص 6) عن يعقوب عن قيس بن الربيع عن الأعمش به، ورواه الطبري في تهذيب الآثار (233 - مسند علي-) من طريق سفيان عن مغيرة عن إبراهيم أنه كان يعلّمهم إذا بعث السلطان إلى الرجل قال: ما أبصِر إلا ما بصّرني غيري وما أهتدي إلا ما سدّدني غيري ونحو هذا. ورواه في المخارج في الحيل (ص 7) عن يعقوب عن عقبة عن إبراهيم نحوه. (¬3) رواه في المخارج في الحيل (ص 5 - 6) عن يعقوب عن قيس بن الربيع عن حماد به، ورواه الخطيب في الفقيه والمتفقّه (2/ 411) من طريق شبابة عن قيس عن حماد قال: قلت لإبراهيم: أمرّ على العاشر فيستحلفني بالمشي إلى بيت الله، قال: احلف له وانو مسجد حيّك. (¬4) في الأصل تحته: "أي إبراهيم". (¬5) رواه في المخارج في الحيل (ص 6) عن يعقوب عن قيس بن الربيع عن هشام به، وعزاه ابن حجر في الفتح (10/ 595) للطبري.

رأى بَغْلة شُريح، فأراد أن يَعِينها، ففطن له شُريح، فقال: إنها إذا رَبضَتْ لم تقُمْ حتى تُقام، فقال الرجل: أف أف، وسلمت بغلته، وإنما أراد: أن الله سبحانه وتعالى هو الذي يقيمها. وقال الأعمش، عن إبراهيم (¬1): إنه سئل عن الرجل يبلغه عن الرجل الشيء يقوله فيه، فيسأله عنه؟ فقال: قل: والله إن الله لَيَعْلَمُ ما من ذلك شيء، يعني بـ (ما): الذي. وقال عقبة بن المغيرة (¬2): كنا نأتي إبراهيم وهو خائف من الحَجّاج، فكُنّا إذا خرجنا من عنده يقول: إن سُئِلْتم عني وحُفَفتم فاحْلِفوا بالله ما تدرون أين أنا؟ ولا لنا به علم، ولا في أي موضع هو؟ واعْنُوا أنكم لا تدرون أيّ موضع أنا فيه قائم أو قاعد، وقد صَدَقتْم. وجاءه رجلٌ فقال (¬3): إني اعترضتُ [85 أ] على دابة، فنفَقَتْ، فأخذتُ غيرها، ويريدون أن يُحَلّفوني أنها هي الدابة التي اعترضتُ عليها؟ فقال: اركبها، واعْتَرِضْ عليها على بَطْنِك راكبًا، ثم احلفْ أنها الدابة التي اعترضت عليها. وقال أبو عوانة، عن أبي مسكين: كنت عند إبراهيم (¬4)، وامرأته تُعاتبه ¬

_ (¬1) رواه في المخارج في الحيل (ص 6) عن يعقوب عن قيس بن الربيع عن الأعمش به. (¬2) رواه في المخارج في الحيل (ص 6 - 7) عن يعقوب عن عقبة بن أبي العيزار به. وذكره ابن بطال في شرح صحيح البخاري (9/ 358) وسماه: عقبة بن العيزار. وفي الأذكياء لابن الجوزي (ص 71): وقال إبراهيم بن هاشم: عن رجل قد سماه قال: كنا إذا خرجنا من عند إبراهيم يقول: إن سئلتم عني فقولوا ... وذكره. (¬3) رواه في المخارج في الحيل (ص 7) عن يعقوب عن عقبة به. (¬4) رواه الطبري في تهذيب الآثار (230 - مسند علي-) من طريق ليث عن طلحة بن مصرف عن إبراهيم. وانظر: شرح صحيح البخاري لابن بطال (8/ 83، 9/ 359)، =

في جاريةٍ له، وبيده مِرْوَحَة، فقال: أُشهِدكُم أنها لها، فلما خرجنا قال: علامَ شهدتم؟ قلنا: شهدنا أنك جعلت الجارية لها، قال: أما رأيتموني أُشير إلى المروحة؟ إنما قلتُ لكم: اشْهَدوا أنها لها، وأنا أعني المروحة. وقال محمد بن الحسن، عن عمر بن ذَرٍّ، عن الشعبي (¬1): من حلف على يمين لا يستثني، فالبِرّ والإثم فيها على علمه، قلت: ما تقول في الحيل؟ قال: لا بأس بالحيل فيما يحَلّ ويجوز، وإنما الحيل شيء يتخلص به الرجل من الحرام، ويخرج به إلى الحلال، فما كان من هذا ونحوه فلا بأس به، وإنما نَكْرَهُ من ذلك أن يحتال الرجل في حق لرجل حتى يُبطله، أو يحتال في باطل حتى يُمَوِّهَه، أو يحتال في شيء حتى يُدْخِل فيه شُبْهة، وأما ما كان على السبيل الذي قلنا فلا بأس بذلك. وكان حماد (¬2) رحمه الله إذا جاءه مَنْ لا يريد الاجتماع به وضَع يده على ضِرْسِه، ثم قال: ضِرْسي، ضِرْسي. ووجَّه الرشيدُ إلى شَريك (¬3) رجلًا ليُحْضره، فسأله شريكٌ أن ينصرف ويُدافع بحضوره، ففعلَ، فحبسَه الرشيدُ، ثم أرسل إليه رسولًا آخر فأحضره، وسأله عن تخلّفه لما جاءه رسوله؟ فحلف له بالأيمان المغلظة أنه ما رأى الرسول في اليوم الذي أرسله فيه، وعنى بذلك الرسول الثاني، فصدّقه، وأمر بإطلاق الرجل. ¬

_ = والمبسوط (30/ 183). (¬1) هذا القدر من كلام الشعبي ذكره السرخسي في المبسوط (30/ 185). (¬2) لم أقف عليه. (¬3) لم أقف عليه.

وأُحضر الثوري (¬1) إلى مجلس المهدي، فأراد أن يقومَ، فَمُنعَ، فحلف بالله أنه يعود، فترك نعله وخرج، ثم رجع فلبسها، ولم يَعُدْ، فقال المهدي: ألم يحلف أنه يعود؟ فقالوا: إنه عاد فأخذ نعله. قالوا: وليس مذهب من مذاهب الأئمة المتبوعين إلا وقد تضمَّن كثيرًا من مسائل الحيل. فأبعدُ الناس عن القول بها: مالك، وأحمد. وقد سُئل أحمد عن المروذي وهو عنده، ولم يرد أن يخرج إلى السائل، فوضع أحمدُ إصبعه في كفّه، وقال: ليس المروذي هاهنا، وماذا يصنع المروذي هاهنا؟ وقد سُئل أحمدُ عن رجل حلف بالطلاق ليَطأنّ امرأته في نهار رمضان، فقال: يُسافر بها ويطؤها في السفر. وقال صاحب "المستوعب" (¬2): وجدت بخط شيخنا أبي حكيم: حُكي أن رجلًا سأل أحمدَ عن رجل حلف أن لا يُفْطر في رمضان، فقال له: اذهب إلى بشر بن الوليد، فسَلْه ثم ائتني فأخبرني، فذهب فسأله، فقال له بشرٌ: إذا أفطر أهلك فاقعد معهم ولا تفطر، فإذا كان السَّحر فكلْ، واحتج بقول النبي - صلى الله عليه وسلم -: "هلمّ إلى الغداء المبارك" (¬3)، فاستحسنه أحمد. ¬

_ (¬1) ذكره العجلي في الثقات (1/ 412)، وعن العجلي رواه الخطيب في تاريخ بغداد (9/ 160). (¬2) طُبع منه أربع مجلدات خاصة بالعبادات، ولم أجد النص فيها. (¬3) رواه ابن أبي شيبة (2/ 275)، وأحمد (4/ 126، 127)، وأبو داود (2346)، والنسائي (2162)، والطحاوي في شرح المشكل (5503)، والطبراني في الكبير =

فصل: تقسيم منكري الحيل لها إلى ثلاثة أنواع

قالوا: وقد علّم الله سبحانه نبيّه يوسف عليه السلام الحيلة التي تَوصّل بها إلى أخذ أخيه، بإظهار أنه سارقٌ، ووضع الصُّواع في رَحْله، ولم يكن لذلك حقيقةٌ، لكن أظهر ذلك توصلًا به إلى أخذ أخيه، وجعله عنده. وأخبر الله سبحانه أن ذلك كيدٌ كاده سبحانه ليوسف؛ ليأخذ أخاه، ثم أخبر سبحانه أن ذلك من العلم الذي يرفع به درجاتِ مَنْ يشاء، وأن الناس متفاوتون فيه، ففَوْق كل ذي علمٍ عليمٌ. فصل (¬1) قال منكرو الحيل: الحيل ثلاثة أنواع: نوع: هو قربة وطاعة، وهو من أفضل الأعمال عند الله تعالى. ونوع: هو جائز مباح، لا حَرَجَ على فاعله، ولا على تاركه، وتَرَجُّحُ فعله على تركه أو عكس ذلك: تابعٌ لمصلحته. ¬

_ = (18/ 251)، وغيرهم من طريق يونس بن سيف عن الحارث بن زياد عن أبي رهم عن العرباض بن سارية، وأعلّه البزار، وابن القطان في بيان الوهم والإيهام (1805)، والمنذري في الترغيب (2/ 89)، والذهبي في الميزان (2/ 168)، وقال النووي في المجموع (6/ 361): " في إسناده نظر"، لكن شواهده كثيرة، وقد صحّحه ابن خزيمة (1938)، وابن حبان (3465)، وهو في صحيح سنن أبي داود (2030)، وفي الباب عن عمر وأبي الدرداء وعتبة بن عبد وابن عمر وأنس والمقدام بن معد يكرب وعائشة وشيبان بن مالك وعن ضمرة والمهاجر ابني حبيب مرسلًا. وانظر: السلسلة الصحيحة (2983، 3408). (¬1) "فصل" ساقطة من الأصل.

ونوع: هو مُحرّمٌ ومخادعة لله ورسوله، متضمّن لإسقاط ما أوْجبه، وإبطال ما شَرعه، وتحليل ما حَرّمه. وإنكار السلف والأئمة وأهل الحديث إنما هو لهذا النوع. فإن الحيلة لا تُذَمّ مطلقًا، ولا تحمَدُ مطلقًا، ولفظُها لا يُشعِرُ بمدحٍ ولا ذَمٍّ، وإن غلب في العرفِ إطلاقها على ما يكون من الطرق الخَفِيّة إلى حُصولِ الغرضِ، بحيث لا يُتفَطّن [85 ب] له إلا بنوع من الذّكاء والفِطنة. وأخص من هذا: تخصيصُها بما يُذَمّ من ذلك، وهذا هو الغالب على عُرف الفقهاء المنكرين للحيل؛ فإن أهلَ العرف لهم تصرفٌ في تخصيص الألفاظ العامة ببعض موضوعاتها، وتقييد مطلقها ببعض أنواعه. فإن الحيلة فِعْلَةٌ: من الحَوْلِ، وهو التصرف من حالٍ إلى حالٍ، وهي من ذوات الواو، وأصلها: حِوْلَة؛ فسكنت الواوُ، وانكسر ما قبلها، فقُلِبَتْ ياءً، كميزان، ومِيقات، وميعاد. قال في "المُحْكَم" (¬1): الحَوْلُ، والحَيْل، والحِوَلُ، والحَوْلة، والحِيلَة، والحَوِيل، والمَحَالة، والاحتيال، والتحيل، والتَحوُّل، كل ذلك: الحِذق، وجَودة النظَر، والقدرة على دقة (¬2) التصرف. قال: والحِوَل، والحِيلُ: جمع حِيلَة. ورجل حُوَّل، وحُوَلةَ، وحَوَاليٌّ، وحُواليٌّ، وحَولْوَلٌ: شديد الاحتيال. وما أحْوَله وأحْيَله، وهو أحولُ منك. انتهى. ¬

_ (¬1) المحكم (4/ 6) ط. دار الكتب العلمية. (¬2) في النسخ: "وجه". والتصويب من المحكم.

الخداع قسمان: محمود ومذموم

فالحيلة: فِعْلةٌ من الحول، وهو التحوّل من حالٍ إلى حالٍ، وكل من حاول أمرًا يريد فعله، أو الخلاصَ منه، فما يحاوله به: حيلة يَتَوَصّل بها إليه. فالحيلة معتبرة بالأمر المحتال بها عليه إطلاقًا ومنعًا، ومصلحة ومفسدة، وطاعة ومعصية. فإن كان المقصود أمرًا حسنًا كانت الحيلة حسنة، وإن كان قبيحًا كانت الحيلةُ قبيحةً، وإن كان طاعةً وقُربة كانت الحيلةُ عليه كذلك، وإن كانت معصيةً وفسوقًا كانت الحيلة عليه كذلك. ولما قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: "لا ترتكبوا ما ارتكبت اليهود؛ فتستحلّوا محارم الله بأدنَى الحيل" (¬1) صارت في عُرْف الفقهاء إذا أطلقت يُقْصَد بها الحيل التي يُستَحَلُ بها المحارم، كحيل اليهود. وكل حيلةٍ تتضمن إسقاط حقٍّ لله، أو لآدميّ فهي مما يستحلُّ بها المحارم. ونظير ذلك لفظ الخداع؛ فإنه ينقسم إلى محمود ومذموم، فإن كان بحقٍّ فهو محمود، وإن كان بباطل فهو مذمومٌ. ومن النوع المحمود قوله - صلى الله عليه وسلم -: "الحرب خدعة" (¬2)، وقوله في الحديث الذي رواه الترمذي (¬3) وغيره: "كلّ الكذب يُكْتَبُ على ابن آدم إلا ثلاث ¬

_ (¬1) سبق تخريجه. (¬2) سبق تخريجه. (¬3) سنن الترمذي (1939) من طريق عبد الله بن عثمان بن خثيم عن شهر بن حوشب عن أسماء بنت يزيد مرفوعا بمعناه، ورواه أيضًا ابن وهب في الجامع (532)، وابن =

خصال: رجل كذب على امرأتِه ليُرضيها، ورجل كلذب بين امرأين ليُصلح بينهما، ورجلٌ كذب في خَدْعة حَرب". ومن النوع المذموم قوله في حديث عِيَاض بن حِمارٍ، الذي رواه مسلم في "صحيحه" (¬1): "أهل النار خمسة ... " ذكر منهم رجلًا "لا يُصبح ولا يُمسي إلا وهو يُخادِعك عن أهلك ومالك"، وقوله تعالى: {يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَمَا يَخْدَعُونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ وَمَا يَشْعُرُونَ} [البقرة: 9]، وقوله تعالى: {وَإِنْ يُرِيدُوا أَنْ يَخْدَعُوكَ فَإِنَّ حَسْبَكَ اللَّهُ} [الأنفال: 62]. ومن النوع المحمود: خَدْعُ كَعْب بن الأشْرفِ وأبي رافع عَدُوَّيْ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حتى قُتِلا (¬2)، وقَتْلُ خالد بن سفيان الهُذَليّ (¬3). ¬

_ = أبي شيبة (5/ 327)، وأحمد (6/ 454، 459، 460)، وابن أبي الدنيا في الصمت (499)، والطبري في التهذيب (209، 210 - مسند علي-)، والطبراني في الكبير (24/ 164 - 166)، وابن عدي في مقدمة الكامل (1/ 40)، وغيرهم، واختُلف في إسناده فقيل: عن شهر عن أبي هريرة، وقيل: عنه عن الزبرقان عن النواس بن سمعان، وقيل: عنه مرسلًا، وقيل غير ذلك، وحسنه الترمذي، وأعلّه الطحاوي في شرح المشكل (7/ 370) بابن خثيم، وقال الهيثمي في المجمع (1/ 309): "فيه شهر بن حوشب، وقد وثِّق وفيه ضعف، وبقية رجاله ثقات". وفي الباب عن أنس وأبي أيوب وأم كلثوم بنت عقبة وعائشة. (¬1) برقم (2865). (¬2) حديث كعب بن الأشرف أخرجه البخاري (4537)، ومسلم (1801) عن جابر بن عبد الله. وحديث أبي رافع أخرجه البخاري (4039) عن البراء بن عازب. (¬3) الأصل، م: "سفيان بن خالد". والتصويب من النسخ الأخرى والمصادر. قتله عبد الله بن أنيس، وروى خبر قتله أحمد (3/ 496)، وأبو داود (1251) مختصرًا، =

ومن أحسن ذلك: خديعة مَعْبَد بن أبي معبد الخُزاعي لأبي سُفيان وعسكر المشركين حين هَمّوا بالرجوع ليستأصلوا المسلمين، فردَّهم من فورهم (¬1). ومن ذلك: خديعة نُعيم بن مسعود الأشجعي ليهود بني قُرَيظة، ولكفار قريش والأحزاب، حتى ألقى الخُلْفَ بينهم، وكان سببَ تفرقهم ورُجوعهم (¬2). ¬

_ = وأبو يعلى (905) - ومن طريقه الضياء في المختارة (9/ 28 - 30) -، والبيهقي في الكبرى (3/ 256، 9/ 38)، وغيرهم من طريق محمد لن جعفر عن ابن عبد الله بن أنيس عن أبيه، وصحّحه ابن خزيمة (982، 983)، وابن حبان (7160)، وحسن إسناده النووي في الخلاصة (2/ 750)، وابن كثير في تفسيره (1/ 656)، وأبو زرعة في طرح التثريب (3/ 136)، وابن حجر في الفتح (2/ 437، 7/ 380). وورد أيضا من طريق محمد بن كعب عن عبد الله بن أنيس، وانظر: السلسلة الصحيحة (2981). وفي الباب عن عروة وموسى بن عقبة والزهري مرسلًا. (¬1) رواه ابن إسحاق -كما في سيرة ابن هشام (4/ 53) - عن عبد الله بن أبي بكر معضلا، ومن طريق ابن إسحاق رواه الطبري في تفسيره (8243)، والبيهقي في الدلائل (3/ 315 - 316). (¬2) رواه البيهقي في الدلائل (3/ 445) عن ابن إسحاق عن رجل عن عبد الله بن كعب بن مالك، وذكره ابن هشام في السيرة (4/ 188) عن ابن إسحاق بغير إسناد. وذكره ابن سعد في الطبقات (2/ 73). وروى قصّةَ وقعةِ الأحزاب عبد الرزاق (5/ 367) عن الزهري عن ابن المسيب مرسلًا، وفيها أن الخديعة والإيقاع بين الطرفين كان من النبيّ - صلى الله عليه وسلم -، وكان نعيم أداةً في ذلك من غير أن يشعر، وكذلك رواه البيهقي في الدلائل (3/ 398) من طريق موسى لن عقبة عن الزهري مرسلًا، ورواه أيضا (3/ 447) من طريق ابن إسحاق عن يزيد بن رومان عن عروة عن عائشة. قال ابن كثير في البداية (4/ 129): "ما ذكره ابن إسحاق من قصة نعيم أحسن مما ذكره موسى بن عقبة".

المكر قسمان: محمود ومذموم

ونظائر ذلك كثيرة. وكذلك المكر: ينقسم إلى محمود ومذموم؛ فإن حقيقته إظهارُ أمر وإخفاء خلافه ليتوصل به إلى مراده. فمن المحمود: مكره تعالى بأهل المكر، مقابلةً لهم بفعلهم، وجزاءً لهم بجنس عملهم، قال تعالى: {وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ} [الأنفال: 30]، وقال تعالى: {وَمَكَرُوا مَكْرًا وَمَكَرْنَا مَكْرًا وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ} [النمل: 50]. وكذلك الكَيْدُ: ينقسم إلى نوعين، قال تعالى: {وَأُمْلِي لَهُمْ إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ} [الأعراف: 183]، وقال: {كَذَلِكَ كِدْنَا لِيُوسُفَ مَا كَانَ لِيَأْخُذَ أَخَاهُ فِي دِينِ الْمَلِكِ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ} [يوسف: 76]، وقال: {إِنَّهُمْ يَكِيدُونَ كَيْدًا (15) وَأَكِيدُ كَيْدًا} [الطارق: 15، 16]. فصل إذا عُرف ذلك: فلا إشكال أنه يجوز للإنسان أن يُظْهِر قولًا أو فعلًا، مقصودُه به [86 أ] مقصودٌ صالح، وإن كان ظاهرُه خلاف ما قصد به، إذا كانت فيه مصلحة دينية، مثل دَفْع الظلم عن نفسه، أو غيره، أو إبطال حِيلةٍ: محرمة. وإنما المحرّم: أن يقصد بالعقود الشرعية غير ما شرعها الله ورسوله له، فيصير مخادعًا لله، كائدًا لدينه، ماكرًا بشَرْعه، فإن مقصودَه حصولُ الشيء الذي حرمه الله تعالى ورسوله بتلك الحيلة، وإسقاط الذي أوجبه بتلك الحيلة.

المظلوم المحتاج ينفعه تأويله ويخلصه من الإثم

وهذا ضِدّ الذي قَبْله؛ فإن ذلك مقصوده التوصلُ إلى إظهار دين الله، ودفع معصيته، وإبطالُ الظلم، وإزالة المنكر. فهذا لونٌ، وذاك لونٌ آخر. ومثال ذلك: التأويل في اليمين، فإنه نوعان: نوع لا ينفعه ولا يُخلّصه من الإثم، وذلك إذا كان الحقّ عليه فجحده، ثم حَلفَ على إنكاره متأوّلًا؛ فإن تأويله لا يُسقط عنه إثم اليمين الغموس، والنية للمُسْتَحْلِفِ في ذلك باتفاق المسلمين، بل لو تأوّل من غير حاجة لم ينفعه ذلك عند الأكثرين. وأما المظلوم المحتاج فإنه ينفعه تأويله، ويُخَلّصه من الإثم، ويكون اليمين على نِيّته. فإذا استحلفه ظالم بأيمان البَيْعة، أو أيمان المسلمين، فتأوّل الأيمان بجمع يمين وهي اليد. أو حَلَّفه بأن كلّ امرأة له طالق، فتأوّل أنها طالق من وَثاق، أو طالق عند الولادة، أو طالق من غيري، ونحو ذلك. أو استحلفه بأن كلّ مملوك له حُرّ أو عَتيق، فتاوّل أنه عفيف أو كريم، من قولهم: فَرَس عتيق. أو استحلفه بأن تكون امرأته عليه كظَهْر أُمِّه، فتأوّل ظهر أمه بمركوبها. فإن ضَيّق عليه وألزمه أن يقول: إنه مُظاهر من امرأته؛ تأوّل بأنه قد ظاهر بين ثوبين أو جُبّتين من عند امرأته. وإن استحلفه بالحرام؛ تأوّل أن الحرامَ الذي حرّمه الله عليه يلزمه تحريمه.

فإن ضَيّق عليه بأن يُلزمه أن يقول: الحرامُ يلزمني من زوجي، أو أن تكون عليّ حرامًا؛ قَيّد ذلك بنيته: إذا أحْرَمَتْ، أو صامَت، أو قامت إلى الصلاة، ونحو ذلك. وإن استحلفه بأن كل مالٍ له أو كل ما يملكه صدقةٌ؛ تأوّل بأنه (¬1) صدقة من الله عليه. وإن قال له: قل: وأن جميعَ ما أملكه من دارٍ وعقاو وضَيْعةٍ وقفٌ على المساكين؛ تأوّل الفعل المضارع بما يملكه في المستقبل، بعد كذا وكذا سنة. فإن ضَيّق عليه وقال: جميعُ ما هو جاوفي ملكي الآن؛ نَوى إضافة الملك إلى الآن، لا إلى نفسه، والآن لا يملك شيئًا. فإن قال: ما هو في ملكي في هذا الوقت يكون وقفًا؛ أخرج معنى لفظ الوقْفِ عن المعهود إلى معنى آخر، والعربُ تُسَمّي سِوَار العاج وَقفًا. وإن استحلفه بالمشي إلى بيت الله؛ نوى مسجدًا من مساجد المسلمين. فإن قال قل: عليّ الحجّ إلى بيت الله؛ نوى بالحج القصدَ إلى المسجد. فإن قال: إلى البيت العتيق؛ نوى المسجد القديم. فإن قال: البيت الحرام؛ نوى الحرامَ هَدْمُه، واتخاذه دارًا، وحَمّامًا ونحو ذلك. وإن استحلفه بالأمانة؛ نوى بها الوديعة، أو اللُّقَطة، ونحو ذلك. وإن استحلفه بصوم سنةٍ؛ نوى بالصوم الإمساكَ عن (¬2) كلام يمكنه ¬

_ (¬1) في الأصل: "أنه". (¬2) "عن" ساقطة من م.

أمثلة ذلك في المحلوف عليه

الإمساك عنه سنةً أو دائمًا. هذا كله في المحلوف به. وأما المحلوف عليه فيجري هذا المجرى. فإذا استحلفه: ما رأيتَ فلانًا؛ نوى ما ضربتُ رِئته. أو: ما كلمته؛ نوى ما جرحته. أو: ما عاشرته ولا خالطته؛ نوى بالمعاشرة والمخالطة معاشرة الزوجة والسُّرِّيَّة. أو: ما بايعته ولا شاريته؛ نوى بذلك ما بايعته بَيعة اليمين، ولا شاريته من المشاراة، وهي اللَّجاج، أو الغضب، تقول: شَرِي على مثال عَلِم: إذا لَجّ أو استشاط غضبًا. وإن استحلفه لِصٌّ أنه لا يَدُلّ عليه، ولا يُعلِم به ولا يخُبر به أحدًا؛ نوى أنه لا يفعل [86 ب] ذلك ما دام معه. وإن ضَيّق عليه وقال: ما عاش، أو ما بقي، أو مادام في هذه البلدة؛ نوى قَطْع الظّرْف عما قبله، وأن لا يكون متعلقًا به، أو نوى بـ (ما): الذي؛ أي: لا أدل عليك الذي عاش أو بقي بعد أخذك. وإن استحلفه أن لا يطأ زوجته؛ نوى وطأها برجله. وإن استحلفه أن لا يتزوج فلانة؛ نوى أن لا يتزوجها نكاحًا فاسدًا. وكذلك إذا استحلفه أن لا يبيع كذا، أو لا يشتريه، أو لا يؤجره، ونحو ذلك. وكذلك لو استحلفه أن لا يدخل هذه الدار، أو البلد، أو المحلة؛ قَيّد الدخول بنوع معيَّن بالنية.

فصل: للمظلوم المستحلف مخرجان يتخلص بهما

ولو استحلفه: أنك لا تعلم أين فلان؟ نوى مكانه الخاص من داره، أو بلده، أو سوقه. ولو استحلفه: أنه ليس عنده في داره؛ نوى أنه ليس عنده إذا خرج من الدار. فإن ضيَّق عليه، وقال: الآن؛ نوى أنه ليس حاضرًا معه الآن، وقد بَرّ وصدق. وإن استحلفه: ليس لي به علم؛ نوى أنه ليس لي علمٌ بِسِرِّه، وما ينطوي عليه، وما يُضْمِرُه، أو ليس لي علم به على جهة التفصيل؛ فإن هذا لا يعلمه إلا الله وحده. فصل وللمظلوم المستحْلَف مخرجان يتخلص بهما: مخرج بالتأويل حالَ الحلف. فإن فاته فله مخرج يتخلَّص به بعده إن أمكنه، كما إذا استحلفه قُطَّاع الطريق أو اللصوص أن لا يخبر بهم أحدًا، فالحيلة في ذلك: أن يجمع الوالي المتهمين، ثم يسأله عن واحدٍ واحدٍ، فيُبرّئ البريء، ويسكت عن المتهم. وهذا المخرج أضيق من الأول. فإذا استحلفه ظالم أن لا يشكو غريمه، ولا يطالبه بحقِّه، فحلف ولم يتأوّل: أحال عليه بذلك الحق مَنْ يطالبه به، ولم يحنث في يمينه. وإذا استحلفه ظالم أن يبيعه شيئًا، فله أن يُملّكه زَوْجته، أو ولده، فإذا باعه بعد ذلك كان قَدْ بَرّ في يمينه، ويمنع من تسليمه مَنْ مَلّكه إياه.

فصل: أمثلة مما يتخلص به من مكر غيره

فصل وللحيل التي يُتخلص بها من مَكْر غيره والغَدْرِ به أمثلةٌ: المثال الأول: إن استأجر منه أرضًا أو بستانًا أو دارًا سنين، ثم لا يأمَن مَكره إذا صلحت الأرضُ والبستان، بنوع من أنواع المكْرِ والغَدْرِ، ولو لم يكن إلا بأن يَدّعي أن أجرةَ المِثْلِ في هذه الحال أكثرُ مما سَمّى. فالحيلةُ في أَمْنِه من ذلك: أن يُسَمّي لكل سنةٍ أجرًا معلومًا، ويجعلَ أُجرة السنين المتأخِّرة معظم الأجرة، وأقلّها للسنين الأُوَل، فلا يسهُل عليه المكر به بعد ذلك. وعكسه: إذا خاف المؤجِّر مَكْرَ المستأجر وغَدْره في المستقبل، جعل مُعظم الأجرة في السنين الأول، وأقلها في الأواخر. المثال الثاني: أن يخاف المؤجّر غيبة المستأجر، فلا يتمكن من مطالبة امرأته با لأجرة ولا من إخراجها؛ لأنها في أيديهم. فالحيلة في أمنه من ذلك: أن يُؤجّرها رَبّ الدار من المرأة، فإن دخل عليه تعذُّرُ مطالبتها بالأجرة؛ ضمن الزوج الأجرة، أو أخذ بها رَهْنًا، فإن كان قد آجَر من الزوج، وخاف غَيْبته، أشهدَ على إقرار المرأة أن الدار له، وأنهما في يدها بحكم إجارة الزوج إلى مُدّة كذا وكذا، وإن كَفّل المرأة وقتَ العقد أنها تَردّ إليه الدار عند انقضاء المدة نفعه ذلك.

المثال الثاني: أن يخاف غيبة المستأجر فلا يقدر على طلب الأجرة

المثال الثالث: أن يخافَ المستأجرُ أن يُزاد عليه في الأجرة، ويفسخ عَقْده، إما بكون المؤجَرة وقفًا عند مَنْ يرى ذلك، أو يتحيّل عليه، حتى يُبطل عَقده. فالحيلةُ في أمْنِه وتخلّصه: أن يُسَمّي للأجرة أكثر مما اتفقا عليه، ثم يُصارِفَه عليه بقدر المسمّى ويدفعه إليه، ويُشْهِد عليه أنه قبض المسمّى الذي وقَع عليه العَقْدُ، فإذا مَكَر به وطلب فسخ عقده بما قبضه من المسمّى طالبَه بما وقع عليه العقد، هذا إذا تعذّر عليه رفع تلك الإجارة إلى حاكم يحكم بلزومها، وعدم فسخها للزيادة. المثال الرابع: أن يخاف أن يُؤجِره ما لا يملك، فيأبى [87 أ] المالك ويفسخ العقد، ويرجع عليه بالأجرة. فالحيلة في تخلّصه: أن يُضمّن المؤجر دَرَكَ العين المستأجرة، وإن ضَمّن مَنْ يخاف منه الاستحقاق ومُطالبته كان أقوى. المثال الخامس: أن يخاف فَلَس المستأجر، ولم يجد من يُضمّنه الأجر. فالحيلةُ في فسخه: أن يُشهد عليه في العقد أنه متى تعذّر عليه القيام بأجرة شهر أو سنةٍ فله الفسخ، ويصحّ هذا الشرط ولو لم يشرط ذلك؛ فإنه يملك الفسخ عند تعذُّر قَبْضِ أجرة ذلك الشهر، أو السنة، ويكون حدوث الفلس عيبًا في الذمة، يتمكن به من الفسخ، كما يكون حدوث العيب في العين المستأجرة مُسوّغًا للفسخ.

المثال السادس: إذا خاف المستأجر عدم احتساب ما يعمر به الدار من الأجرة

وهذا ظاهرٌ إذا سَمّى لكل شهر أو سنة قسطًا معلومًا، ولا يُعيِّن مقدار المدة، بل يقول: آجرتك كل سنة بكذا، أو: كل شهر بكذا، تقوم لي بالأجرة في أول الشهر أو السنة، فإن أفلس قبل مضي شيء من المدة ملكَ المؤجرُ الفسخَ، وإن أفلس بعد مُضي شيء منها فهل يملك الفسخ؟ على وجهين: أحدهما: لا يملكه؛ لأن مُضي بعضها كتلف بعض المبيع، وهو يمنع الرجوع. والثاني: يملكه، وهو قول القاضي، وهو الصحيح؛ لأن المنافع إنما تُملَك شيئًا فشيئًا، بخلاف الأعيان، فإنها تمُلك في آنٍ واحد، فيتعذَّر (¬1) تجدد العقد عند تجدد المنافع. المثال السادس: إذا خاف المستأجر أن تَنْهَدم الدار، فيعمُرها، فلا يحتسب عليه المؤجر بما أنفق. فالحيلة في ذلك: أن يقول وقت العقد: وأذِنَ المؤجرُ للمستأجر أن يَعمُر ما تحتاجُ الدار إلى عمارته من أُجرتها، ويُقدّر لذلك قدرًا معلومًا، فيقول مثلًا: بمئة فما دونها، أو يقول: من عشرة إلى مئة، فإن لم يفعل ذلك واحتاجت إلى عمارة لا يتم الانتفاع إلا بها، فأشهد على ذلك وعلى ما أنفق عليها، وأنه غير مُتبرعٍ به، وحُسِب له من الأجرة. وكذلك إذا استأجر منه دابّة، واحتاجَتْ إلى علفٍ، وخاف أن لا يحتسب له به المؤجر، فعل مثل ذلك. فإن قال: أذنتُ لك أن تُنفق على الدار أو الدابة ما تحتاج إليه، فادّعى ¬

_ (¬1) م: "فيقدر". والمثبت من باقي النسخ.

المثال السابع: إذا خاف أن يحبس المستأجر الدار أو الدابة بعد مدة الإجارة

قدرًا وأنكره المؤجر، فالقول قول المؤجر. والحيلة في قبول قول المستأجر: أن يُسلِفَ رب الدار ما يعلم أنها تحتاج إليه من العمارة، ويُشهِد عليه بقبضه من الأجرة، ثم يدفعها إليه، ويُوَكّله أن ينفق منه على الدار أو الدابة ما تحتاج إليه، فالقول حينئذٍ قوله؛ لأنه أمين. فإن خاف المؤجر أن يستهلك المستأجرُ المالَ الذي قبضه، ويقول: إنه تلف، وهو أمانة، فلا يلزمني ضمانه؛ فالحيلة في أمنه من ذلك: أن يُقرضه إياه، ويجعله في ذمته، ثم يُوكّله أن ينفق على العين ما تحتاج إليه من ذلك. المثال السابع: إذا آجره دابّة، أو دارًا مُدة معلومة، وخاف أن يحبسها عنه بعد انقضاء المدة، فطريق التخلُّص من ذلك: أن يقول: فإذا انقضت المدة فأُجْرَتها بعدها لكل يوم دينار، أو نحوه، فلا يَسْهُل عليه حبسها بعد انقضاء المدة. المثال الثامن: إذا كان له عليه دين، فقال: اشْتر له به كذا، ففعل، لم يبرأ من الدَّين بذلك؛ لأنه لا يكون مُبْرئًا لنفسه من دَيْن الغير بفعله. فطريق التخلُّص: أن يُشهد على إقرار رب الدّين أن مَنْ عليه الدَّين بريء منه بعد شرائه لمستحقه كذا وكذا. والقياس أنه يبرأ بالشراء، وإن لم يفعل ذلك؛ لأنه بتوكيله له قد أقامه مقام نفسه، كما قام مقامه في التصرف قام مقامه في الإبراء، فهو لم يبرأ بفعل نفسه لنفسه، وإنما برئ بفعله لموكَّله القائم مقام فعل الموكِّل. المثال التاسع: إذا أراد أن يستأجر إلى مكان بأجرة [87 ب] معلومة، فإن

لم يبلغه وأقام دونه، فالأجرة كذا وكذا، فقالوا: لا يصحُّ العقد؛ لأنَّا لا نعلم على أيّ المسافتين وقع العقد؟ قالوا: والحيلة في تصحيحه: أن يُسمّي للمكان الأقرب أجرةً، ثم يسمّي منه إلى المكان الأبعد أجرةً أخرى، فيقول مثلًا: آجرتك إلى الرّمْلَة بمئة، ومن الرملة إلى مصر بمئة، لكن لا يأمن المستأجر مطالبة المؤجر له بالأجرة إلى المكان الأقمى، ويكون قد أقام في المكان الأقرب. فالحيلة في تخلّصه: أن يشترط عليه الخيار في العقد الثاني إن شاء أمضاه، وإن شاء فسخه. ويصحُّ اشتراط الخيار في عقد الإجارة، إذا كانت على مدة لا تلي العقد. والقياس يقتضي صحة الإجارة على أنه إن وصل إلى مكان كذا وكذا فالأجرة مئة، وإن وصل إلى مكان كذا وكذا فالأجرة مئتان، ولا غَرَرَ في ذلك، ولا جهالة. وكذا إذا قال: إن خِطْت هذا الثوب رُوميًّا؛ فلك درهمٌ، وإن خِطْته فارسيًا؛ فلك نصف درهم؛ فإن العمل إنما يقع على وجه واحد. وكذلك قطع المسافة، فإنه إما أن يقطع القريبة أو البعيدة، فلا يُشبه هذا قوله: بِعْتكَه بعشرة نقدًا، أو عشرين نسيئة؛ فإنه إذا أخذه لا يَدري بأيّ الثمنين أخذ، فيقع التنازع، ولا سبيل لنا إلى العلم بالمعيّن منهما، بخلاف عقد الإجارة؛ فإن استيفاء المعقود عليه لا يقع إلا معيَّنًا، فيجب أجرهُ (¬1). ¬

_ (¬1) بعدها في ح زيادة "عمله".

المثال العاشر: تصحيح إجارة الأرض وزرعها فيها قائم

المثال العاشر: إذا زرع أرضه، ثم أراد أن يُؤجِرها، والزرعُ قائم، لم يجز؛ لتعذُّر انتفاع المستأجر بالأرض. وطريق تصحيحها: أن يبيعه الزرع، ثم يؤجِره الأرض، فإن أحبّ بقاء الزرع على ملكه قَدّر لكماله مُدة معينةً، ثم آجَره الأرض بعد تلك المدة إجارة مُضافة. فإن خاف أن يفسخ عليه العقد حاكمٌ يرى بُطلان هذه الإجارة، فالحيلةُ: أن يبيعه الزرع، ثم يؤجره الأرض، فإذا تم العقد اشترى منه الزرع، فعاد الزرع إلى ملكه، وصحت الإجارة. المثال الحادي عشر: إذا أراد أن يُؤجِرهُ الأرض على أن خراجها على المستأجر لم يصح؛ لأن الخراج تابعٌ لرقْبَة الأرض، فهو على مالكها، لا على المنتفع بها من مُستأجر، أو مستعير. وطريق الجواز: أن يُؤجِره إياها بأجرة زائدة على أجرة مثلها، بقدر خراجها، ثم يُشهد عليه أنه قد أذن للمستأجر أن يدفع من أجرة الأرض في الخراج كل سنةٍ كذا وكذا. وكذلك لو استأجر دابةً على أن يكون عَلَفها على المستأجر لم يصح. وطريق الحيلة: أن يستأجرها بشيء مسمَّى، ثم يُقَدّر له ما تحتاج إليه الدابة، ويُوكّله في إنفاقه عليها. والقياس يقتضي صحة العقد بدون ذلك، فإنَّا نصحّحِ استئجار الأجير بطعامه وكسوته، كما آجَرَ موسى عليه السلام نفسَه بعِفّة فرْجِه وشِبَع بَطْنِه، فكذلك يجوز إجارة الدابة بعلفها، وكما يجوز أن يكون عَلَفُها جميع الأجرة يجوز أن يكون بعض الأجرة، والبعض الآخر شيءٌ مسمًّى.

المثال الثاني عشر: تصحيح إجارة أشجار الفواكه

المثال الثاني عشر: لا تجوز إجارة الأشجار؛ لأن المقصود منها الفواكه، وذلك بمنزلة بَيْعِها قبل بُدُوِّها. قالوا: والحيلة في جوازه: أن يُؤجِره الأرض، ويُساقيه على الشجر بجزءٍ معلوم. قال شيخ الإسلام: وهذا لا يُحتاج إليه، بل الصواب جواز (¬1) إجارة الشجر، كما فعل عمر بن الخطاب رضي الله عنه بحديقة أُسَيد بن حُضير، فإنه آجرها سنين (¬2)، وقضى بها دَيْنَه (¬3). قال: وإجارة الشجر لأجل (¬4) ثمرها بمنزلة إجارة الأرض لمغَلّها؛ فإن المستأجر يقوم على الشجر بالسقي والإصلاح والزِّيار (¬5) في الكَرْم، حتى تحصل الثمرة، كما يقوم على الأرض بالحَرْث والسّقي والبَذْرِ، حتى يحصل ¬

_ (¬1) "جواز" ساقطة من م. (¬2) م: "سنتين". (¬3) رواه ابن أبي شيبة (5/ 14) عن أبي أسامة عن هشام بن عروة عن سعد مولى عمر أن أسيد بن حضير مات وعليه دين، فباع عمر ثمرة أرضه سنتين. ورواه بن السكن -كما في الإصابة (1/ 83) - وابن عساكر في تاريخ دمشق (9/ 94) من طريقين عن هشام بن عروة عن أبيه قال: لما مات أسيد باع عمر ماله ثلاث سنين فوفى بها دينه، وقال: لا أترك بني أخي عالة، فرذَ الأرض وباع ثمرها. هذا لفظ ابن السكن، ولفظ ابن عساكر: أربع سنين. ورواه ابن سعد في الطبقات (3/ 606) من طريق عبد الله بن عمر عن نافع عن ابن عمر، وفيه أنه باعها أربع سنين. (¬4) في بعض النسخ: "لأخذ". (¬5) كل ما كان صلاحًا لشيء وعصمةً له.

الجواب على من فرق بينهما بأن المغل من البذر وهو ملك المستأجر، والثمرة من الشجرة وهي ملك المؤجر

[88 أ] المغَلّ، فثمرة الشجر تجرى مجرى مَغَلّ الأرض (¬1). فإن قيل: الفرق بين المسألتين: أن المغَلّ من البَذْرِ، وهو مِلك المستأجر، والمعقود عليه: الانتفاع بإيداعه في الأرض، وسَقيه، والقيام عليه، بخلاف استئجار الشجر؛ فإن الثمرة من الشجر، وهي ملك المؤجر. فالجواب من وجوه: أحدها: أن هذا لا تأثير له في صحة العقد وبطلانه، وإنما هو فرقٌ عديم التأثير. الثاني: أن هذا يبطل باستئجار الأرض لكلئها وعُشْبها الذي يُنْبته الله سبحانه وتعالى، بدون بَذْرٍ (¬2) من المستأجر، فهو نظيرُ ثمرة الشجر. الثالث: أن الثمرة إنما حصلت بالسقي والخدمة، والقيام على الشجرة، فهي مُتولدة من عمل المستأجر، ومن الشجرة، فللمستأجر سَعيٌ (¬3) وعملٌ في حصولها. الرابع: أن تولُّد الزرع ليس من البذر وحده، بل من البذر، والتراب، والماء، والهواء؛ فحصول الزرع من التراب الذي هو مِلكُ المؤجر كحصول الثمرة من الشجر، والبَذْرُ في الأرض قائمٌ مقام السقي للشجر، فهذا أودع في أرض المؤجر عينًا جامدةً، وهذا أوْدعَ في شجره عينًا مائعة، ثم حصلت الثمرة من أصل هذا، وماءِ المستأجر وعمله، كما حصل العمل من أرض ¬

_ (¬1) في ش بعدها زيادة: "بالحرث والسقي". (¬2) ح: "عناية". (¬3) ح: "سقي".

المثال الثالث عشر: إذا اشترى دارا أو أرضا وخاف أن تخرج وقفا أو مستحقة

هذا، وبذر المستأجر وعمله. وهذا من أصحِّ قياس على وجه الأرض. وبه يتبين أن الصحابة رضي الله عنهم أفقه الأمة وأعلمهم بالمعاني المؤثّرة في الأحكام، ولم ينكر أحد من الصحابة على عمر، فهو إجماع منهم. ثم إن هذه الحيلة التي ذكرها هؤلاء تتعذر غالبًا إذا كان البستان ليتيم أو وقفًا؛ فإن المؤجِر ليس له أن يحابي في المساقاة حينئذٍ. ولا يخلّص من ذلك محاباةُ المستحقّ في إجارة الأرض؛ فإنه إذا أربحه في عقد لم يجز له أن يُخسّره في عقدٍ آخر. ولا يخلِّص من ذلك اشتراطُ عقدٍ في عقد، بأن يقول: إنما أساقيك على جُزء من ألف جزء، وبشرط أن أُوجِرك الأرض بكذا وكذا، فإن هذا لا يصح. فعلى ما فعله الصحابة وهو مقتضى القياس الصحيح لا يحتاج إلى هذه الحيلة، وبالله التوفيق. المثال الثالث عشر: إذا اشترى دارًا أو أرضًا، وخاف أن تخرج وقفًا أو مستحقة؛ فتؤخذ منه هي وأجرتها. فالحيلة: أن يضمن البائع أو غيره دَرَك المبيع، وأنه ضامن لما غَرمه المشتري من ذلك، ويصح ضمان الدرك، حتى عند من يُبطل ضمان المجهول، وضمان ما لم يجب، للحاجة إلى ذلك. فإن ضمن مَن يخاف استحقاقه كان أقوى.

الأمة المشتراة إذا وطئها ثم استحقت لم يلزمه المهر

فإن خاف أن يظهر استحقاقٌ على وارثه بعد موته ضمن الدّرَك ورثةُ البائع، أو ورثة من يخاف استحقاقه إن أمكنه. فإن كان على ثقةٍ أنه متى استحق عليه المبيع رجع بثمنه، ولكن يغرم قيمة (¬1) المنفعة، وهي أجرة المثل لمدة استيلائه على العين. وهذا قولٌ ضعيف جدًّا؛ فإن المشتري إنما دخل على أن يستوفى المنفعة بلا عوض، والعِوضُ الذي بذله في مُقابلة العين لا للانتفاع، فإلزامه بالأجرة إلزام بما لم يلزمه، وكذلك نقول في المستعير: إذا استُحِقّت العين لم يلزمه عِوض المنفعة؛ لأنه إنما دخل على أن ينتفع مجانًا بلا عِوض، بخلاف المستأجر فإنه التزم الانتفاع بالعِوض، ولكن لا يلزمه إلا المسمّى الذي دخل عليه. وكذلك الأمَةُ المشتراة إذا وطئها، ثم استُحِقّت لم يلزمه المهر؛ لأنه دخل على أن يطأها مجِّانًا، بخلاف الزوج، فإنه دخل على أن الوطء في مقابلة المهر، ولكن لا يلزمه إذا استُحقّت إلا المسمّى. وعلى هذا فليس للمستحق أن يطالب المغرور؛ لأنه معذور غير ملتزم للضمان، وهو محسن غير ظا لم، فما عليه من سبيل، وهذا هو الصواب، فإن طالبه على القول [88 ب] الآخر رجع على من غرّه بما لم يلتزم ضمانه خاصة، ولا يرجع عليه بما التزم غرامته. فإذا غرم المودع أو المتّهِب قيمة العين والمنفعة رجع على الغارّ بهما، وإذا غرم المستأجر ذلك رجع بقيمة العين، دون قيمة المنفعة، إلا أنه يرجع ¬

_ (¬1) في الأصل: "فيه".

المثال الرابع عشر: إذا خاف الموكل في الزواج وشراء الجارية أن يتزوج الوكيل المرأة أو يأخذ الجارية لنفسه

بالزائد على المسمى، حيث لم يلتزم ضمانه، وإذا ضمن وهو مشترٍ أو مستعير قيمة العين والمنفعة رجع بقيمة المنفعة، دون قيمة العين، لكنه يرجع بما زاد على الثمن المسمى. والمقصود: أن هذا المشتري متى خاف أن يُطالب بقيمة المنفعة إذا استُحِقّ عليه المبيع؛ فالحيلة في تخلُّصه من ذلك: أن يستأجر منه الدار أو الأرض سنين معلومة بأجرة مُسماة، ثم يشتريها منه بعد ذلك، ويُشهِد عليه أنه أقبضه الأجرة، فمتى استُحقّت العينُ، وطولب بعِوض المنفعة طالبَ هو المؤجِر بما قبضه من الأجرة، لمّا ظهرت الإجارة باطلة. المثال الرابع عشر: إذا وكّله أن يتزوج له امرأةً معيّنة أو يشتري له جاريةً معينة، ثم خاف الموكِّل أن تعجب وكيله فيتزوجها، أو يشتريها لنفسه، فطريق التخلُّص من ذلك في الجارية أن يقول له: ومتى اشتريتها لنفسك فهي حُرَّة، ويصحّ هذا التعليق والعتق. وأما الزوجة: فمن صحّح هذا التعليق فيها كمالكٍ وأبي حنيفة نفعه، وأما على قول الشافعي وأحمد فإنه لا ينفعه. فطريق التخلُّص: أن يُشهد عليه أنها لا تحَلّ له، وأن بينهما سببًا يقتضي تحريمها عليه، وأنه متى نكحها كان نكاحه باطلًا. فإن أراد الوكيل أن يتزوجها أو يشتريها لنفسه، ولا يأثم فيما بينه وبين الله، فالحيلة: أن يَعزل نفسه عن الوكالة، ثم يعقد عليها لنفسه، ولو عقد عليها لنفسه كان ذلك عَزْلًا لنفسه عن الوكالة. فإن خاف أن لا يتمَّ له ذلك، بأن يرفعه إلى حاكم حَنفيّ يرى أنه لا يَملِك الوكيل عزل نفسه في غيبة الموكل، فأراد التخلُّص من ذلك فالطريق

المثال الخامس عشر: إذا وكله في بيع جارية ووكله آخر في شرائها

في ذلك: أن يشتريها لنفسه بغير جنس ما أذن له فيه، فإنه إذا اشتراها لنفسه بجنس ما أذن له فيه يضمن ذلك عَزْلَ نفسه في غيبة موكّله، وهو ممتنع، فإذا اشتراها بغير الجنس حصل الشراء له، ولم يكن ذلك عزلًا لنفسه. المثال الخامس عشر: إذا وكّله في بيع جارية، ووكّله آخر في شرائها، فإن قلنا: الوكيل يتولىَّ طرفي العقد جاز أن يكون بائعًا مشتريًا لهما. وإن منعنا ذلك فالطريق: أن يبيعها لمن يستوثق منه أن يشتريها منه، ثم يشتريها لموكّله، فإن خاف أن لا يفي له المشتري الذي يستوثق (¬1) منه، فالحيلة: أن يبيعه إياها بشرط الخيار، فإن وفىّ له بالبيع وإلا كان مُتمكِّنًا من الفَسْخ. المثال السادس عشر: لا يملك خُلْع ابنته بصداقها، فإن ظهرت المصلحة في ذلك لها فالطريق: أن يتملكه عليها، ثم يَخلعها من زَوجها به، فيكون قد اختلعها بماله. والصحيح: أنه لا يحتاج إلى ذلك، بل إذا ظهرت المصلحة في افتدائها من الزوج بصداقها جاز ذلك، وكان بمنزلة افتدائها من الأسر بما لها، وربما كان هذا خيرًا لها. المثال السابع عشر: إذا وكّله أن يشتري له متاعًا فاشتراه، ثم أراد أن يبعث به إليه، فخاف أن يهلك، فيضمنه الوكيل، فطريق التخلص من ذلك: أن يستأذن الوكيلُ أن يعمل في ذلك برأيه، ويُفوّض إليه ذلك، فإذا أذِن له فبعث به فتلف لم يضمنه. ¬

_ (¬1) في الأصل: "يوثق".

المثال الثامن عشر: من أسلم وعنده خمر وخنزير يريد أن لا تتلف عليه

المثال الثامن عشر: إذا أراد أن يُسلِم وعنده خمرٌ أو خنازير، وأراد أن لا يَتلف عليه، فالحيلة: أن يبيعها لكافر قبل الإسلام، ثم يسلم، وتكون له المطالبة بالثمن، سواءً أسلم المشتري أو بقي [89 أ] على كفره. نضَ على هذا أحمد في مجوسي باع مجوسيًّا خمرًا، ثم أسلما، يأخذُ الثمن الذي (¬1) قد وجب له يوم باعه. المثال التاسع عشر: إذا كان له عصيرٌ، فخاف أن يتخمّر، فلا يجوز له بعد ذلك أن يتخذه خلًا، فالحيلة: أن يُلقي فيه أولًا ما يمنع تخمُّره، فإن لم يفعل حتى تخمّر وجب عليه إراقته، ولم يجز له حَبْسه حتى يتخلّل، فإن فعل لم يطهر ولم يُبح؛ لأن حبسه معصية، وعَوده خلًّا نِعمةٌ، فلا يستباح بالمعصية. المثال العشرون: إذا كان له على رجل دينٌ مؤجل، وأراد رَبُّ الدين السفر، وخاف أن يَتْوَى (¬2) ماله، أو احتاج إليه، ولا يمكنه المطالبة قبل الحُلول، فأراد أن يضع عن الغريم البعف، ويُعجل باقيه، فقد اختلف السلف والخلف في هذه المسألة: فأجازها ابن عباس، وحزمها ابن عمر. وعن أحمد فيها روايتان، أشهرهما عنه: المنع، وهي اختيار جمهور أصحابه. والثانية: الجواز، حكاها ابنُ أبي موسى، وهي اختيار شيخنا. ¬

_ (¬1) "الذي" زيادة من ت. (¬2) في الأصل: "يفوت"، والمثبت من النسخ الأخرى.

الآثار في الوضع من الدين المؤجل لتعجيله

وحكى ابنُ عبد البر في "الاستذكار" (¬1) ذلك عن الشافعي قولًا. وأصحابه لا يكادون يعرفون هذا القول، ولا يحكونه! وأظن أن هذا إن صح عن الشافعي فإنما هو فيما إذا جرى ذلك بغير شرط، بل لو عَجّلَ له بعض دينه وذلك جائز، فأبرأهُ من الباقي، حتى لو كان قد شرَط ذلك قبل الوضع والتعجيل، ثم فعلاه بناءً على الشرط المتقدم، صحّ عنده؛ لأن الشرط المؤثّر في مذهبه: هو الشرط المقارن، لا السابق. وقد صرّح بذلك بعض أصحابه، والباقون قالوا: لو فعل ذلك من غير شرط جاز، ومرادُهُم الشرط المقارن. وأما مالك فإنه لا يُجوّزه مع الشرط، ولا دونه، سدًّا للذريعة. وأما أحمد فيجوّزه في دَين الكتابة، وفى غيره عنه روايتان. واحتج المانعون بالآثار والمعنى. أما الآثار: ففي "سنن البيهقي" (¬2) عن المقداد بن الأسود، قال: أسلفتُ رجلًا مئة دينار، ثم خرج سَهْمي في بعث بعثه رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فقلت له: عَجّل تسعين دينارًا، وأحُطّ عشرة دنانير، فقال: نعم. فذكرت (¬3) ذلك لرسول الله - صلى الله عليه وسلم -؟ فقال: "أكللت ربًا مقدادُ! وأطعمته". وفي سنده ضعف. ¬

_ (¬1) (20/ 262). (¬2) رواه البيهقي في الكبرى (6/ 28)، وقال: "في إسناده ضعف". (¬3) في الأصل: "فذكر".

من منع من جوازه من جهة المعنى

وصحّ عن ابن عمر (¬1): أنه قد سئل عن الرجل يكون له الدّين على رجل إلى أجلِ، فيضع عنه صاحبُه، ويُعجّل له الأجر، فكره ذلك ابن عمر، ونهى عنه. وصح عن أبي المنهال (¬2)، أنه سأل ابن عمر رضي الله عنهما، فقال: لرجل عليّ دينٌ، فقال لي: عَجّل لي لأضع عنك، قال: فنهاني عنه، وقال: نهى أمير المؤمنين يعنى عمر أن يبيع العين بالدين. وقال أبو صالح مولى السّفاح واسمه عُبيد: بعتُ بزًّا من أهل السوق إلى أجل، ثم أردت الخروج إلى الكوفة، فعرضوا عليّ أن أضع عنهم، ويَنْقُدوني، فسألت عن ذلك زيد بن ثابت، فقال: لا آمرك أن تأكل هذا ولا تُؤكِله. رواه مالك في "الموطأ" (¬3). وأما المعنى: فإنه إذا تعجّل البعض وأسقط الباقي فقد باع الأجل بالقدْر الذي أسقطه، وذلك عين الربا، كما لو باع الأجل بالقَدْر الذي يريده، إذا حلّ عليه الدين، فقال: زدني في الدين وأزيدك في المدة، فأي فرقٍ بين أن تقول: خُطّ من الأجل، وأحطّ من الدين، أو تقول: زد في الأجل، وأزيد في الدين؟ ¬

_ (¬1) رواه مالك (1352) عن عثمان بن حفص عن ابن شهاب عن سالم بن عبد الله عن اْبيه، ومن طريق مالك رواه الطحاوي في شرح المشكل (11/ 61)، والبيهقي في الكبرى (6/ 28). ورواه بعضهم من طريق ميسرة عن ابن عمر. (¬2) رواه عبد الرزاق (8/ 72) والبيهقي في الكبرى (6/ 28) عن ابن عيينة عن عمرو بن دينار عن أبي المنهال به. (¬3) الموطا (1351)، ورواه أيضًا عبد الرزاق (8/ 71)، ومن طريق مالك رواه الطحاوي في شرح المشكل (11/ 61، 62) والبيهقي في الكبرى (6/ 28).

حجج من جوز الوضع من الدين لتعجيله من الآثار والمعنى

قال زيد بن أسْلم: كان ربا الجاهلية: أن يكون للرجل على الرجُل الحقُ إلى أجل، فإذا حلّ الحقّ قال له غريمه: أتقضي أم تُربي؟ فإن قضاه أخذه، وإلا زاده في حقه، وأخّر عنه في الأجل، رواه مالك (¬1). وهذا الربا مُجمَعٌ [89 ب] على تحريمه وبطلانه، وتحريمه معلومٌ من دين الإسلام، كما يُعلم تحريمُ الزنى، واللواط، والسرقة. قالوا: فنقصُ الأجل في مقابلة نقصِ العِوض كزيادته في مقابلة زيادته، فكما أن هذا ربا، فكذلك الآخر. قال المبيحون: صحّ عن ابن عباس (¬2) رضي الله عنهما: أنه كان لا يرى بأسًا أن يقول: أُعَجّل لك وتضعُ عني، وهو الذي روى أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لمّا أمر بإخراج بني النضير من المدينة جاءه ناسٌ منهم، فقالوا: يا رسول الله! إنك أمرت بإخراجهم، ولهم على الناس ديون لم تحلّ، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: "ضعوا وتعجّلوا". ¬

_ (¬1) رواه مالك (1353) عنه، ومن طريق مالك رواه البيهقي في الكبرى (5/ 275). ورواه الطبري في تفسيره (7826) من طريق ابن وهب عن ابن زيد عن أبيه قال: "إنما كان الربا في الجاهلية في التضعيف وفي السن"، ثم بيّن ذلك. (¬2) رواه عبد الرزاق (8/ 72)، والطحاوي في شرح المشكل (11/ 61)، والبيهقي في الكبرى (6/ 28) من طريقين عن عمرو بن دينار عن ابن عباس. ورواه عبد الرزاق (8/ 72) عن معمر عن ابن طاوس عن أبيه عن ابن عباس. ورواه عبد الرزاق (8/ 429) وابن أبي شيبة (4/ 471) - ومن طريقه البيهقي (10/ 335) - من طريق جابر الجعفي عن عطاء عن ابن عباس في الرجل يقول لمكاتبه: عجِّل لي وأضع عنك: لا بأس به، وعزاه البوصيري في الإتحاف (5/ 461) للحاكم.

قال أبو عبد الله الحاكم (¬1): "هو صحيح الإسناد". قلت: هو على شرط "السنن". وقد ضعفه البيهقي. وإسناده ثقات، وإنما ضُعّف بمسلم بن خالد الزَّنجي، وهو ثقة فقيه، روى عنه الشافعي واحتجّ به. وقال البيهقي (¬2): "باب من عُجّل له أدنى من حَقه قبل محله، فوضع عنه، طيّبَةً به أنفسهما". وكأن مراده أن هذا وقع بغير شرط، بل هذا عَجّل، وهذا وَضَع، ولا محذور في ذلك. قالوا: وهذا ضد الربا؛ فإن ذلك يتضمن الزيادة في الأجل والدين، وذلك إضرار محضٌ بالغريم، ومسألتنا تتضمن براءة ذمة الغريم من الدين، وانتفاع صاحبه بما يتعجله، فكلاهما حصل له الانتفاع من غير ضرر، خلاف الربا المجمع عليه؛ فإن ضرره لاحقٌ بالمدين، ونفعه مختص برب الدين، فهذا ضد الربا صورةً ومعنًى. ¬

_ (¬1) رواه الطحاوي في شرح المشكل (4277)، والطبراني في الأوسط (817، 6755)، والحاكم (2325)، والبيهقي في الكبرى (6/ 28)، وخلاصة ما أُعلّ به الإرسال والاضطراب وضعف راويه وجهالة آخر، فرجّح أبو حاتم إرساله كما في العلل (1134)، وضعّفه العقيلي (3/ 251)، والدارقطني (3/ 46)، وابن القطان في بيان الوهم والإيهام (3/ 132)، والذهبي، وقال ابن كثير في البداية (4/ 87): "في صحته نظر"، وقال الهيثمي في المجمع (4/ 234): "فيه مسلم بن خالد وهو ضعيف وقد وُثِّق"، ومع ذلك قال المصنف في أحكام أهل الذمة (1/ 396): "إسناده حسن، ليس فيه إلا مسلم بن خالد، وحديثه لا ينحطّ عن رتبة الحسن". (¬2) السنن الكبرى (6/ 27).

قالوا: ولأن مقابلة الأجل (¬1) بالزيادة في الربا ذريعةٌ إلى أعظم الضرر، وهو أن يَصير الدرهمُ الواحدُ ألوفًا مؤلّفة، فتشتغل الذمة بغير فائدة، وفي "ضعْ وتعجَّل" تتخلّص ذمة هذا من الدَّين، وينتفع ذاك بالتعجيل له. قالوا: والشارع له تطلّع إلى براءة الذمم من الديون، وسَمّى الغريم المدين: أسيرًا، ففي براءة ذمته تخليصٌ له من الأسر، وهذا ضد شَغْلها بالزيادة مع الصبر. وهذا لازمٌ لمن قال: يجوز ذلك في دَين الكتابة، وهو قول أحمد، وأبي حنيفة؛ فإن المكاتب مع سَيّده كالأجنبي في باب المعاملات، ولهذا لا يجوز أن يبيعه درهمًا بدرهمين، ولا يُبايعه بالربا، فإذا جاز له أن يتعجل بعض كتابته، ويضمع عنه باقيها، لما له في ذلك من مصلحة تعجيل العتق، وبراءة ذمّته من الدّين، لم يمنع ذلك في غيره من الديون. ولو ذهب ذاهبٌ إلى التفصيل في المسألة، وقال: لا يجوز في دَين القرض، إذا قلنا بلزوم تأجيله، ويجوز في ثمن المبيع والأجرة، وعوض الخُلْع، والصَّداق: لكان له وجهٌ؛ فإنه في القرض يجب رَدّ المثل، فإذا عجّل له وأسقط باقيه خرج عن موجب العقد، وكان قد أقرضه مئة، فوَفّاه تسعين بلا منفعة حصلت للمُقرض، بل اختصّ المقترض بالمنفعة، فهو كالمُرْبي سواءً في اختصاصه بالمنفعة دون الآخر. وأما في البيع والإجارة فإنهما يملكان فسخ العقد، وجعل العوض حالًا أنقصَ مما كان، وهذا هو حقيقة الوضع والتعجيل، لكن تحيّلا عليه، والعبرة في ¬

_ (¬1) في الأصل: "الأصل".

تلخص في المسألة أربعة مذاهب

العقود بمقاصدها لا بصورها، فإن كان الوضع والتعجيل (¬1) مفسدة فالاحتيال عليه لا يزيل مفسدته، وإن لم يكن مفسدة لم يُحْتَجْ إلى الاحتيال عليه. فتلخَّص في المسألة أربعة مذاهب: المنع مطلقًا، بشرط وبدونه، في دَين الكتابة وغيره، كقول مالك. وجوازه في دَين الكتابة دون غيره، كالمشهور من مذهب أحمد، وأبي حنيفة. وجوازه في الموضعين، كقول ابن عباس، وأحمد في الرواية الأخرى. وجوازه بلا شرط، وامتناعه مع الشرط المقارن، كقول أصحاب [90 أ] الشافعي، والله أعلم. المثال الحادي والعشرون: إذا كان له عليه ألف درهم، فصالحه منها على مئة درهم يؤديها إليه في شهر كذا من سنة كذا، فإن لم يفعل فعليه مئتان: فقال القاضي أبو يَعلى: هو جائز، وقد أبطله قومٌ آخرون. والحيلة في جوازه على مذهب الجميع: أن يُعَجّل ربّ المال حطّ ثمان مئة بَتًّا، ثم يصالح عن (¬2) المطلوب من المئتين الباقيتين على مئة، يؤديها إليه في شهر كذا، على أنه إن أخّرها عن هذا الوقت فلا صلح بينهما. المثال الثاني والعشرون: إذا كاتَبَ عبده على ألف يؤديها إليه في سنتين، فإن لم يفعل فعليه ألفٌ أخرى فهي كتابة فاسدة، ذكره القاضي؛ لأنه علّق إيجاب المال بخطرٍ، ولا يجوز ذلك. ¬

_ (¬1) "والتعجيل" ساقطة من م. (¬2) "عن" ساقطة من الأصل.

المثال الثالث والعشرون: إذا صالحه على تأجيل دينه أو بعضه

والحيلة في جوازه: أن يكاتبه على ألفي درهم، ثم يصالحه منها على ألف درهم يؤديها إليه في سنتين، فإن لم يفعل فلا صلح بينهما، فيكون قد علّق الفسخ بخطر، فيجوز، وتكون كالمسألة التي قبلها. المثال الثالث والعشرون: إذا كان له عليه دَيْنٌ حالٌّ، فصالحه على تأجيله، أو تأجيل بعضه، لم يلزم التأجيل، فإن الحالّ لا يتأجل. والصحيح: أنه يتأجّل، كما يتأجل بدل القرض. وإن كان النزاع في الصورتين، فمذهب أهل المدينة في ذلك هو الراجح. وطريق الحيلة في صحة التأجيل ولزومه: أن يُشْهد على إقرار صاحب الدَّين أنه لا يستحق المطالبة به قبل الأجل الذي اتفقا عليه، وأنه متى طالب به قبله فقد طالب بما لا يستحق، فإذا فعل هذا أمِنَ رجوعه في التأجيل. المثال الرابع والعشرون: إذا اشترى من رجل دارًا بألف، فجاء الشفيعُ يطلبُ الشُّفعة، فصالحه المشتري على نصف الدار بنصف الثمن، جاز ذلك؛ لأن الشفيع صالَح على بعض حقه، كما لو صالَح من ألف على خمس مئة. فإن صالحَه على بيت من الدار بعينه بحصته من الثمن، يُقوَّم البيت ثم تخرج حِصّته من الثمن، جاز أيضًا، لأن حِصّته معلومة في أثناء الحال، فلا يضرّ كونها مجهولةً حالة الصلح، كما إذا اشترى شِقْصًا وسَيْفًا، فللشفيع أن يأخذ الشِّقص بحصته من الثمن، وإن كانت مجهولةً حال العقد، لأن مآلها إلى العلم. وقال القاضي وغيره من أصحابنا: لا يجوز، لأنه صالحه على شيء مجهول.

المثال الخامس والعشرون: يجوز تعليق الوكالة والولاية والإمارة على الشرط

ثم قال: والحيلة في تصحيح ذلك: أن يشتري الشفيع هذا البيت من المشتري بثمن مُسَمّى، ثم يُسَلّم الشفيع للمشتري ما بقي من الدار، وشراء الشفيع لهذا البيت تسليم للشُّفعة، ومساومته بالبيت تسليمٌ للشُّفعة. فإن أراد الشفيع شراء البيت المعيَّن وبقاءه على شُفعته في الباقي، فالحيلة أن لا يبدأ بالمساومة، بل يصبر حتى يبتدئ المشتري، فيقول: هذا البيت أخذته بكذا وكذا، فيقول الشفيع: قد استوجبته بما أخذته به، ولا يكون مُسَلّمًا للشفعة في باقي الدار، وليس في هذه الحيلة إبطال حق غيره، وإنما فيها التَّوصل إلى حقه. المثال الخامس والعشرون: يجوز تعليقُ الوكالة على الشرط، كما يجوز تعليقُ الولاية والإمارة على الشرط، وقد صحَّ عن النبي - صلى الله عليه وسلم - تعليق الإمارة بالشرط (¬1)، وهي وكالة وتفويضٌ وتوليةٌ، ولا محَذور في تعليق الوكالة بالشرط البتة. والحيلة في تصحيحها: أن يُنجز الوكالة، ويُعلّق الإذن في التصرف بالشرط؛ وهذا في الحقيقة تعليقٌ لها نفسها بالشرط؛ فإن مقصود الوكالة صحة التصرف ونُفُوذه، والتوكل وسيلةٌ [90 ب] وطريق إلى ذلك، فإذا لم يمتنعْ تعليقُ المقصود بالشرط؛ فالوسيلة أولى بالجواز. المثال السادس والعشرون: يجوز تعليق الإبْراءِ بالشرط ويصحّ، وفَعَله الإمام أحمد، وقال أصحابنا: لا يصح. ¬

_ (¬1) يشير إلى ما قاله النبي - صلى الله عليه وسلم - عن تأمير زيد بن حارثة، وقد أخرجه البخاري (4261) عن ابن عمر.

تعليق الوصية بالشرط، والمذاهب فيه

قالوا: فإذا قال: إن مِتُّ فأنت في حِلّ مما لي عليك، فإن علّقَ ذلك بموت نفسه صحّ؛ لأنه وصية. وإن علقه بموت مَنْ عليه الدين لم يصحّ؛ لأنه تعليق للبراءة بالشرط، ولا يصح، كما لا يصح تعليقُ الهبة. فيقال أولاً: الحكم في الأصل غير ثابت بالنصّ، ولا بالإجماع، فما الدليلُ على بُطلان تعليق الهبة بالشرط؟ وقد صحّ عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه علّق الهبةَ بالشرط في حديث جابرٍ (¬1)، قال: "لَوْ قَدْ جاءَ مالُ البَحْرين لأعطيتُك هكذا، ثم هكذا، ثم هكذا" ثلاث حَثَيات، وأنجز له الصديق رضي الله عنه لمّا جاء مالُ البحرين بعد وفاة النبي - صلى الله عليه وسلم -. فإن قيل: كان ذلك وعدًا. قلنا: نعم، والهبَة المعلّقة بالشرط وعدٌ، وكذلك فعل النبي - صلى الله عليه وسلم - لما بعث إلى النجاشي بهدية من مَسَك، وقال لأمّ سلمة: "إني قد أهديتُ إلى النجاشي حُلّة وأواقِيّ من مَسَك، ولا أرى النجاشي إلا قد مات، ولا أرى هديتي إلا مردودة، فإن رُدّتْ عليّ فهي لك"، وذكر الحديث. رواه أحمد (¬2). ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري (3164)، ومسلم (2314). (¬2) مسند أحمد (6/ 404) من حديث أمّ كلثوم، ورواه أيضًا ابن سعد في الطبقات (8/ 95)، وابن أبي عاصم في الأحاد والمثاني (3459)، وابن المنذر في الأوسط (895)، والطحاوي في شرح المشكل (323)، والطبراني في الكبير (25/ 81)، والبيهقي في الكبرى (6/ 26)، وغيرهم، وفي إسناده اختلاف، وصححه الحاكم (2766)، فتعقبه الذهبي بقوله: "منكر، ومسلم الزنجي ضعيف"، وصححه ابن حبان (5114) من حديث أم كلثوم عن أم سلمة، قال الهيثمي في المجمع (4/ 262): =

فالصحيح: صحةُ تعليق الهبة بالشرط عملًا بهذين الحديثين. وأيضًا فالوصية تمليكٌ، وهي في الحقيقة تعليقٌ للتمليك بالموتِ، فإنه إذا قال: إن متّ من مرضي هذا فقد أوصيتُ لفلان بكذا، فهذا تمليكٌ معلّق بالموت. وكذلك الصحيح: صحة تعليق الوقف بالشرط، نص عليه في رواية الميموني في تعليقه بالموت. وسائرُ التعليق في معناه، ولا فرق البتة، ولهذا طَرَدهُ أبو الخطاب، وقال: لا يصح تعليقه بالموت. والصواب طَرْدُ النص، وأنه يصح تعليقه بالموت وغيره، وهو أحد الوجهين في مذهب أحمد، وهو مذهب مالك، ولا يُعرفُ عن أحمد نصٌّ على عدم صحته، وإنما عدم الصحة قول القاضي وأصحابه. وفى المسألة وجهٌ ثالث: أنه يصح تعليقه بشرط الموت، دون غيره من الشروط، وهذا اختيارُ الشيخ مُوفّق الدين، وفرق بأن تعليقَه بالموت وصيّةٌ، والوصية أوسع من التصرف في الحياة، بدليل الوصية بالمجهول والمعدوم، والحَمْل. والصحيح: الصحة مطلقًا، ولو كان تعليقه بالموت وصيةً لامتنع على الوارث، ولا خلاف أنه يصحّ تعليقه بالشرط بالنسبة إلى البطون، بَطْنًا بعد ¬

_ = "فيه مسلم بن خالد الزنجي، وثقه ابن معين وغيره وضعفه جماعة، وأم موسى بن عقبة لم أعرفها، وبقية رجاله رجال الصحيح"، وحسّن إسناده ابن حجر في الفتح (5/ 222)، وضعفه الألباني في الإرواء (1620).

بطن، وأن كونه وقفًا على البطن الثاني مشروط بانقضاء الأول، وقد قال تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ} [المائدة: 1]، وقال - صلى الله عليه وسلم -: "المسلمون عند شروطهم" (¬1). والقياس الصحيح يقتضي صحة تعليقه؛ فإنه أشبه بالعتق منه بالتمليك، ولهذا لا يشترط فيه القبول إذا كان على جهةٍ اتفاقًا. وكذلك إذا كان على آدميّ معين، في أقوى الوجهين، وما ذاك إلا لشَبَهه بالعتق. والمقصود: أن تعليق الإبراء بالشرط أولى من ذلك كله، فمَنْعُه مخالف لموجب الدليل والمذهب. ويقال ثانيًا: لا يلزم من بُطلان تعليق الهبة بطلانُ تعليق الإبراء، بل ¬

_ (¬1) علقه مجزومًا به البخاري في كتاب الإجارة، باب: أجر السمسرة، ووصله أبو داود (3596)، والطحاوي في شرح المعاني (5408)، وابن عدي في الكامل (6/ 68)، والدارقطني (3/ 27)، والحاكم (2309)، والبيهقي في الكبرى (6/ 79، 166، 249)، وغيرهم من حديث أبي هريرة، وصححه ابن الجارود (637، 1051)، وابن قدامة في الكافي (2/ 213)، وابن دقيق العيد في الإلمام (1044)، قال النووي في المجموع (9/ 376): "إسناده حسن أو صحيح"، وقال ابن تيمية كما في المجموع (29/ 147): "أسانيده وإن كان الواحد منها ضعيفا فاجتماعها من طرق يشد بعضها بعضًا"، وصححه المصنف في الفروسية (ص 164)، وحسنه ابن كثير في إرشاد الفقيه (2/ 54)، وقال ابن حجر في التغليق (3/ 281): "رُوي من حديث أبي هريرة وعمرو بن عوف وأنس بن مالك ورافع بن خديج وعبد الله بن عمر وغيرهم، وكلّها فيها مقال، لكن حديث أبي هريرة أمثلها"، وصححه الألباني في الإرواء (1303)، وقد أبعد من بالغ وزعم أنه مكذوب.

المثال السابع والعشرون: إذا أرادت الزوجة فسخ النكاح لإعسار الزوج

القياس الصحيح يقتضي صحة تعليقه؛ لأنه إسقاط محض، ولهذا لا يفتقر إلى قبول المُبْرِئ ولا رضاه، فهو بالعتق والطلاق أشبَهُ منه بالتمليك. وعلى هذا: فيُسْتغنى بالصحة في ذلك كله عن الحيلة. فإن احتاج إلى التعليق، وخاف أن ينقض عليه، [91 أ] فالحيلة أن يقول: لا شيء لي عليه بعد هذا الشهر، أو العام، أو لا شيء لي عليه عند قدوم زيد، أو كل دعوى أدّعيها عليه بعد شهر كذا، أو عام كذا، أو عند قدوم زيد بسبب كذا، أو من دَين كذا: فهي دَعْوَى باطلة، أو يقول: كل دعوى أدّعيها في تَرِكَتِه بعد موته من دَيْن كذا أو عن كذا: فهي دعوى باطلة. وعلى ما قررناه: لا يحتاج إلى شيء من ذلك. المثال السابع والعشرون: إذا أعسر الزوجُ بنفقة المرأة ملكت الفسخ، فإن تحمّلها عنه غيره لم يَسْقُط مِلكها للفسخ؛ لأن عليها في ذلك مِنة، كما إذا أراد قضاء دينٍ عن الغير، فامتنع ربّه من قبوله لم يُجبر على ذلك. وطريق الحيلة في إبطال حَقّها من الفسخ: أن يحيلها بما وجب لها عليه من النفقة على ذلك الغير، فتصح الحوالة، وتلزمُ على أصلنا، إذا كان المُحالُ عليه غنيًّا. وطريق صحة الحوالة: أن يُقر ذلك الغير للزوج بقدر معين لنفقتها سنةً أو شهرًا، أو نحو ذلك، ثم يحيلها الزوج عليه، فإن لم يمكنه الإجبارُ على القبول لعدم من يرى ذلك، وكل الزوج الملتزم لنفقتها في (¬1) الإنفاق عليها، والزوج مُخيّر بين أن يُنفق عليها بنفسه، أو بوكيله. ¬

_ (¬1) "في" ساقطة من م.

المثال الثامن والعشرون: خوف المضارب تضمين المالك بما لا يملكه بعقد المضاربة

وهكذا العمل في مسألة أداء الدين عن الغريم سواءً. المثال الثامن والعشرون: إذا خاف المضاربُ أن يُضَمّنه المالك بسببٍ من الأسباب التي لا يملكها بعقد المضاربة، فخَلَطَ المال بغيره، أو اشترى به بأكثر من رأس المال، والاستدانة على مال المضاربة، أو دَفْعه إلى غيره مُضاربة أو إبضاعًا، أو إيداعه، أو السفر به. فطريق التخلّص من ضمانه في هذا كله: أن يُشهد على ربّ المال أنه قال له: اعمل برأيك، أو ما تراه مصلحةً. المثال التاسع والعشرون: إذا كان لكل من الرجلين عُروض، وأرادا أن يشتركا فيها شركة عنان، ففي ذلك روايتان: إحداهما: تصح الشركة، وتقوم العروض عند العقد، ويكون قيمتها هو رأس المال، فيقسم الرّبح على حَسْبه، أو على ما شرطاه. وإذا أرادا الفسخ رجع كلٌّ منهما إلى قيمة عروضه، واقتسما الربح على ما شرطاه. وهذا القول هو الصحيح. والرواية الثانية: لا تصح إلا على النقدين؛ لأنهما إذا تفاسخا الشركة، وأراد كل واحدٍ منهما الرجوع إلى رأس ماله، ويقتسما (¬1) الربح؛ لم يُعَلمْ ما مقدار رأس مال كلٍّ منهما إلا بالتقويم، وقد تزيد قيمة العروض وتنْقص قبل العمل، فلا يستقر رأس المال. ¬

_ (¬1) كذا بحذف النون.

وأيضًا فمقتضى عقد الشركة: أن لا ينفرد أحد الشريكين بربح مال الآخر، وهذه الشركة تُفضي إلى ذلك؛ لأنه قد تزيد قيمة عرض أحدهما، ولا تزيد قيمة عرض الآخر، فيشاركه مَن لم تزد قيمة عرضه، وهذا إنما يصح في المتقومات، كالرقيق، والحيوان، ونحوهما. فأما المِثْليّات فإن ذلك مُنتفٍ فيها، ولهذا كان الصحيح عند من منع الشركة بالعروض جوازها بالمثليات. والصحيح: الجوازُ في الموضعين؛ لأن مبنى عقد الشركة على العدل من الجانبين، وكل من الشريكين متردد بين الربح والخسران، فهما في هذا الجواز مستويان. فتجويز ربح أحدهما دون الآخر في مقابلة عكسه، فقد استويا في رجاء الغُنْم وخوف الغُرْم، وهذا هو العدل، كالمضاربة، فإنه يجوز أن يربحا، وأن يخسرا، وكذلك المساقاة والمزارعة. وطريق الحيلة في تصحيح هذه المشاركة عند من لا يجوّزها بالعرُوض: أن يبيع كلٌ منهما بعض عرضه ببعض عرض صاحبه، فإذا كان عَرضُ [91 ب] أحدهما يساوى خمسة آلاف، وعرضُ الآخر يساوي ألفًا، فيشتري صاحبُ العرض الذي قيمته خمسة آلاف من صاحبه خمسة أسداس عرضه الذي يساوي ألفًا بسُدس عرضه الذي يساوي خمسة آلاف، فإذا فَعَلا ذلك صارا شريكين، فيصير للذي يساوي متاعه ألفًا سدس جميع المتاع، وللآخر خمسةُ أسداسه، أو يبيع كل منهما صاحبه بعض عرضه بثمن مسمى، ثم يتقابضا فيصير مُشتركًا بينهما، ثم يأذن كل واحد منهما لصاحبه في التصرُّف، فما حصل من الربح يكون بينهما على ما شرطاه عند أحمد، وعلى قدر رؤوس أموالهما عند الشافعيّ، والخُسران على قَدْر المال اتفاقًا.

المثال الثلاثون: النكاح على الشرط جائز والشرط لازم، خلافا لأبي حنيفة ومالك والشافعي

المثال الثلاثون: إذا تزوجها على أن لا يخُرجها من دارها أو بلدها، أو لا يتزوج عليها، ولا يتسرى عليها، فالنكاح صحيحٌ، والشرط لازمٌ. هذا إجماع الصحابة رضي الله عنهم أجمعين؛ فإنه صحّ عن عمر (¬1)، وسعد (¬2)، ومعاوية (¬3)، ولا مُخالف لهم من الصحابة، وإليه ذهب عامةُ التابعين، وقال به أحمد. وخالف في ذلك الثلاثة، فأبطلوا الشرط، ولم يوجبوا الوفاء به. فإذا احتاجت المرأة إلى ذلك، ولم يكن عندها حاكمٌ يرى صحة ذلك ولزومه، فالحيلة لها في حصول مقصودها: أن تمتنع من الإذن، إلا أن تشترط بعد العقد أنه إن سافر بها، أو نقلها من دارها، أو تزوج عليها فهي طالق، أو لها الخيار في المُقام معه، أو الفسخ، فإن لم تثق به أن يفعل ذلك فإنها تطلب مهرًا كثيرَا جدًّا إن لم يفعل، وتطلب ما دونه إن فعل، فإن شرط ¬

_ (¬1) علّقه البخاري عن عمر مجزومًا به في كتابي الشروط والنكاح، باب: الشروط في المهر، وباب: الشروط في النكاح، وهو موصول عند عبد الرزاق (6/ 227، 228)، وسعيد بن منصور (662، 663، 680)، وابن أبي شيبة (3/ 499، 4/ 451)، والبيهقي في الكبرى (7/ 249)، وابن عبد البر في التمهيد (18/ 168)، وغيرهم، وصححه الألباني في الإرواء (1893). (¬2) رواه ابن أبي الدنيا في المحتضرين (256) وفي غيره من طريق ابن المبارك عن داود بن قيس عن أمه عن سعد، وفيه قصة، ومن طريق ابن أبي الدنيا رواه ابن عبد البر في التمهيد (18/ 168 - 169) وابن عساكر في تاريخ دمشق (20/ 350). (¬3) روى عبد الرزاق (6/ 228)، وسعيد بن منصور (664)، وابن أبي شيبة (3/ 499)، وابن حزم في المحلى (9/ 517) من طريق سعيد بن منصور، وغيرهم عن أبي عبيدة عن عبد الله بن مسعود قال: أتي معاوية في امرأة شرط لها زوجها أن لها دارَها، فسأل عمرو بن العاص فقال: أرى أن يفي لها شرطها.

المثال الحادي والثلاثون: خاف أن ترث ابنته جزءا من عبده الذي هو زوجها فينفسخ النكاح بينهما

لها ذلك رضيت بالمهر الأدنى، وإن لم يشرط ذلك طالبته بالأعلى، وجعلته حالًا ولها أن تمنع نفسها حتى تقبضه، أويشرط لها ما سألته. فإن قيل: فعلى أي المهرين يقع العقد؟ قيل: يقع على المهر الزائد؛ لتتمكن من إلزامه بالشرط. فإن خاف أن يشرط لها ما طلبت، ويستقرّ عليه المهر الزائد، فالحيلة: أن يُشهد عليها أنها لا تستحق عليه بعد الاشتراط شيئًا من المبلغ الزائد على الصداق الأدنى، وأنها متى ادّعت به فدعواها باطلةٌ، فيستوثق منها بذلك، ويُكتب هو والشرطُ. ولها أن تُطالب بالصداق الزائد، إذا لم يَف لها بالشرط؛ لأنها لم ترض بأن يكون الأدنى مهرًا إلا في مقابلة منفعة أخرى تُسَلَّم لها، وهي المُقامُ في دارها، أو بلدها، أو يكون الزوج لها وحدها، وهذا جارٍ مجرى بعض صَداقها، فإذا فاتها فلها المطالبة بالمهر الأعلى. المثال الحادي والثلاثون: إذا زوّج ابنته بعبده صح النكاح، فإن حضره الموتُ فخاف هو أو المرأة أن ترث جزءًا منه، فينفسخ النكاح: فالحيلة في بقائه: أن يبيع العبد من أجنبيٍّ، فإن شاء قبض ثمنه، وإن شاء جعله دينًا في ذمته، يكون حكمه حكم سائر ديونه، فإذا ورثت نصيبها من ثمنه لم ينفسخ نكاحها. وإن باع العبد من أجنبي قبل العقد، ثم زوّجه الابنة أمِنَ هذا المحذور أيضًا. وكذلك إذا أراد أن يزوِّج أمَتَه بابنه، وخاف أن يموت، فترث زوجته، فينفسخ النكاح، باعها من أجنبي، ثم زوّجها الابن، أو يبيعها من الأجنبي بعد العقد.

المثال الثاني والثلاثون: أراد التوثق لدينه المحال به على آخر

المثال الثاني والثلاثون إذا أحاله بدَينه، وخاف المحال أن يَتْوَى ماله عند المُحال عليه، وأراد التوثُّق لماله: فالحيلة في ذلك أن يقول: لا تُحِلْني بالمال، لكن وكّلني في المطالبة به، واجعل ما أقبضه في ذمّتي قرضًا، فيبرآن جميعًا بالمقاصة. فإن خاف المُحيل أن يهَلك المالُ في يد الوكيل قبل اقتراضه، فيرجع عليه بالدين: فالحيلة له: أن يقول [92 أ] للمحال عليه: اضمَنْ عني هذا الدّيْنَ لهذا الطالب، فيضمنه، فإذا قبضَه قبضَهُ لنفسه، فإن امتنع المحالُ عليه من الضمان احتالَ الطالبُ عليه؛ على أنه إن لم يُوَفّه حَقّهُ إلى وقت كذا وكذا فالمحيل ضامنٌ لهذا المال، ويصح تعليقُ الضمان بالشرط، فإن وفّاه المحال عليه، وإلا رجع إلى المحيل، وآخذه بالمال. المثال الثالث والثلاثون: إذا كان له دَين على أحدٍ، فرَهَنه به عبدًا، فخاف أن يموتَ العبد، فيُحاكمه إلى من يَرَى سقوط الدين بتلف الرهان: فالحيلة في تخليصِه من هذا المحذور: أن يشتري العبد منه بدينه، ولا يقبض العبد، فإن وَفّاه دَينه أقالَهُ في البيع، وإن لم يوفه الدَّين طالبه بالتسليم، وإن تلف العبدُ كان من ضمان البائع، ورجع المشتري إلى دينه الذي هو ثمنه. المثال الرابع والثلاثون: إذا كان له عليه دَين، فرهنه به رهنًا، ثم خاف أن يستحق الرهنُ فتبطل الوثيقة: فالحيلة فيه: أن يُضَمّنَ دَينه لمن يخاف منه استحقاق الرهن، فإذا

المثال الخامس والثلاثون: إذا جحده القدر الذي بالوثيقة من الدين

استحقه عليه طالبه بالمال، أو يُضَمنه دَرَك الرهن، أو يُشهد عليه أنه لا حق له فيه، ومتى ادعى فيه حقًّا فدعواه باطلة. المثال الخامس والثلاثون: إذا كان له عليه مئة دينارٍ، خمسون منها بوثيقة، وخمسون بغير وثيقة، وجحده الغريمُ القَدْرَ الذي بغير وثيقة: فالحيلة له في تخليص ماله: أن يوكّل رجلًا غريبًا بقَبْضِ المال الذي بالوثيقة، ويُشهد على وكالته علانيةً، ثم يُشهد شهودًا آخرين: أنه قد عزله عن الوكالة، ثم يطالب الوكيل المطلوب بذلك المال، ويُثبت شهود وكالته، فإذا قبض الخمسين دينارًا دفعها إلى مستحقَها وغاب، ثم يطالبه المستحقّ بالخمسين، فإن قال: دفعتها إلى وكيلك أقام البينة أنه كان قد عَزَله عن الوكالة، فيُلْزِمُه الحاكِم بالمال، ويقول له: اتْبَعِ القابض، فخُذ مالك منه. فإن كان الغريم حَذِرًا لم يدفع إلى الوكيل شيئًا خَشْيَة مثل هذا، ويقول: لا أدفع إليك إلا بحضرة الموكِّل وإقراره أنك وكيله، فتبطل هذه الحيلة. المثال السادس والثلاثون: إذا حضره الموتُ، ولبعض ورثته عليه دين، وأراد تخليص ذمته، فإن أقرّ له به لم يصح إقراره، وإن وصى له به كانت وصيةً لوارث. فالحيلة في خلاصه: أن يُواطِئه على أن يأتي بمن يثقُ به، فيقرّ له بذلك الدين، فإذا قبضه أوصله إلى مُستحقه، فإن خاف الأجنبيّ أن يُلزمه الحاكم أن يحلف (¬1) أن هذا الدين واجبٌ لك على الميت، ولم تبرئه منه، ولا من شيء منه، لم يَجُزْ له أن يحلف على ذلك، وانتقلنا إلى حيلة أُخرى، وهي أن ¬

_ (¬1) "أن يحلف" ساقطة من م.

المثال السابع والثلاثون: إذا نكح أمة غيره وخاف أن يسترق ولده منها

يقول له المريضُ: بعْ دارَك أو عبدك من وارثي، بالمال الذي له عليّ فيفعل، فإذا ألْزَمْتَهُ اليمين بعد هذا حلف على أمرٍ صحيح، فإن لم يكن له ما يبيعه إيّاه وهب له الوارثُ عبدًا أو أمَةً، فقبضه، ثم باعه من الوارث بالدَّين الذي على الميت. المثال السابع والثلاثون: إذا نكح أمَةً، حيثُ يجوز له نكاح الإماء، وخاف أن يَسْترِقّ سيدُها ولده: فالحيلة في ذلك: أن يسأل سيد الأمة أن يقول: كلُّ ولدٍ تلده منك فهو حرٌّ، فإذا قال هذا فما ولدته منه فهم أحرار. المثال الثامن والثلانون: إذا قال لامرأته: إن سألتِني الخُلعَ فأنت طالق ثلاثًا إن لم أخلعك، وقالت المرأة: كل مملوكٍ لها حُرّ، إن لم أسألك الخلعَ اليوم. فسُئل أبو حنيفة عنها، فقال للمرأة: سَلِيهِ الخُلع، فقالت: أسألك أن تخلعني، فقال للزوج: قل: خَلَعْتُكِ على ألف درهم، فقال ذلك، فقال أبو حنيفة للمرأة: قولي: لا أقبلُ، فقالت: لا أقبلُ، فقال أبو حنيفة: [92 ب] قومي مع زوجك، فقد برّ كل منكما في يمينه. المثال التاسع والثلاثون: سُئل أبو حنيفة عن أخَوين تزوجَا أختين، فزُفّت امرأةُ كل واحد منهما إلى الآخر، فوطئها، ولم يعلموا بذلك حتى أصبحوا، فقيل له: ما الحيلة في ذلك؟ فقال: أكلّ منهما راضٍ بالتي دخل بها؟ قالا: نعم، فقال: ليطلّقْ كل واحدٍ منهما امرأته طَلْقَة، ففعلا، فقال: ليتزوج كل منهما المرأة التي وَطِئها، فطابَتْ أنفسُهما.

المثال الأربعون: مدين أراد أن يجعل عقاره في يد دائنه ليستغله

المثال الأربعون: إذا كان لرجلِ على رجل مالٌ، وللذي عليه المال عقارٌ، فأراد أن يجعل عقاره في يَد غريمه يستغلّه، ويقبض غَلّته من دَيْنه، جاز ذلك؛ لأنه توكيل له فيه، فإن خاف الغريمُ أن يعزله صاحب العقار عن الوكالة: فالحيلة: أن يَسْتَرهنه منه ويستديم (¬1) قبضه، ثم يأذن له في قبض أجرته من دينه، ولو لم يأذن له فله أن يقبضها قصاصًا. وله حيلة أُخرى: أن يستأجره منه بمقدار دينه، فما وجب له عليه من الأجرة سقط من دينه بقدره قصاصًا. المثال الحادي والأربعون: إذا كان له جارية، فأراد وَطْأها، وخاف أن تحبلَ منه، فتصير أمَ ولدِ، لا يمكنه بيعها: فالحيلة: أن يبيعها لأبيه، أو أخيه، أو أخته، فإذا مَلَكَها سأله أن يُزَوّجه إيّاها فيطأها بالنكاح، ويكون ولَدُه منها حرًّا يَعتِقُون على البائع بالرّحِم، وهذا إذا كان ممن يجوز له نكاح الإماء، بأن لا يكون تحته حُرة عند أبي حنيفة، أو يكون خائفا للعَنَت، عادمًا لطَوْل حُرّةٍ عند الجمهور. المثال الثاني والأربعون: إذا بانت منه امرأته بَيْنُونة صُغرى، وأراد أن يجُدد نكاحها، فخاف إن أعلمها لم تتزوج به؛ فله في ذلك حيل: إحداها: أن يقول: قد حلفتُ بيمين، ثم استفتيتُ، فقيل لي: جَدّد نكاحك، فإن كانت قد بانت منك عاد النكاح، وإلا لم يَضُرك، فإن كان لها ولي جدّد نكاحها، وإلا فالحاكم أو نائبه. ¬

_ (¬1) في م: "يستدين". والمثبت من بقية النسخ.

حديث الهزل في الطلاق والنكاح والرجعة والكلام عليه

ومنها: أن يُظهر أنه يريدُ سفرًا، وأنه يريد أن يجعلَ لها شيئًا من ماله، وأن الاحتياط أن يجعله صَداقًا بعقْدِ يُظْهِرُه. ومنها: أن يُظهر مرضًا، وأنه يريدُ أن يُقِرّ لها بمال، أو يُوصي لها به، وأن ذلك لا يتم، والأحوطُ أن يُظهر عَقْدَ نكاحِ، وجعل ذلك صداقًا فيه. فإن قيل: إذا بانت منه ملكتْ نفسها، ولم يصح نكاحُها إلا برضاها، ولعلها لو علمت الحال لم ترضَ بالنكاح الثاني. قيل: رضاها بتجديد النكاح (¬1) للغرض (¬2) الذي يُريده يتضمنُ رضاها بالنكاح، وهي لو هَزَلَتْ بالإذن صح إذنها، وصح النكاح، مع أنها لم تقصده، كما لو هَزَلَ الزوجُ بالقبول صح نكاحُهُ، وهاهنا قد قصدت بقاء النكاح، ورضيت به، فهو أولى بالصحة. فإن قيل: فالرجل قاصد إلى النكاح، والمرأة غير قاصدة له. قيل: بل قصدت إلى تجديد نكاح يتم به غرضها، فلم تخرج بذلك عن القصد والرِّضا. ولو قال رجل لرجل هَزْلًا ومِزاحًا: زوّجْني ابنَتك على مئة درهم، أو قال: زوِّجني مُولِيتَك، وهي تسمع، فقال له مزاحَا وهزلًا قد زوجتكها، انعقدَ النكاح، وحَلَّ له وطؤها، لحديث أبي هريرة الذي رواه أهل "السنن" (¬3)، عن ¬

_ (¬1) في بقية النسخ: "العقد". (¬2) ث: "للعوض". (¬3) رواه أبو داود (2196)، والترمذي (1184)، وابن ماجه (2039)، والطحاوي في شرح المعاني (4297 - 4299)، والدارقطني (3/ 256، 257، 4/ 18، 19)، =

المثال الثالث والأربعون: خاف أن يحجر عليه وهو حسن التصرف

النبي - صلى الله عليه وسلم -: "ثلاثٌ جِدّهنّ جِدٌّ، وهَزْلهُنّ جِدٌّ: النكاحُ، والطلاقُ، والرّجعةُ". المثال الثالث والأربعون: إذا كان الرجل حَسَن التصرف في ماله، غيرَ مبذّرٍ له، فرُفع إلى الحاكم، وشُهِدَ أنه مُبَذّر، فخاف أن يحجُر عليه، فقال: إن حجرت علي فعبيدي أحرارٌ، ومالي صدقةٌ على المساكين، لم يَملك القاضي أن يحجُر عليه بعد ذلك؛ لأنه إنما يحجرُ عليه صيانةً [93 أ] لماله، وفى الحجر عليه إتلاف ماله، فهو يعودُ على مقصود الحجر بالإبطال. المثال الرابع والأربعون: يصحّ الصلح عندنا وعند أبي حنيفة ومالك على الإنكار، فإذا ادّعى عليه شيئًا فأنكره، ثم صالحه على بعضه جاز. والشافعي لا يُصَحّح هذا الصلح؛ لأنه لم يَثُبتْ عنده شيء، فبأيّ طريق يأخذ ما صالحه عليه؟ بخلاف الصلح على الإقرار، فإنه إذا أقرّ له بالدَّين أو العين، فصالحه على بعضه، كان قد وهبه، أو أبرأهُ من البعض الآخر. والجمهور يقولون: قد دل الكتاب والسنة والقياسُ على صحة هذا الصلح؛ فإن الله سبحانه وتعالى ندب إلى الإصلاح بين الناس، وأخبر أن الصلح خير، وقال: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ} [الحجرات: 10]، ¬

_ = والبيهقي في الكبرى (7/ 340)، وغيرهم من طريق عبد الرحمن بن حبيب عن عطاء بن أبي رباح عن ابن ماهك عن أبي هريرة، قال الترمذي: "حسن غريب"، وصححه ابن الجارود (712)، والحاكم (2800)، وابن دقيق العيد في الإلمام (1334)، قال الذهبي: "عبد الرحمن بن حبيب فيه لين"، وضعف إسناده ابن الملقن في البدر المنير (8/ 82)، وحسنه بشواهده الألباني في الإرواء (1826). وفي الباب عن عبادة بن الصامت وفضالة بن عبيد وأبي ذر وأبي الدرداء وعن الحسن مرسلاً. وقد أبعد من بالغ وزعم أنه مكذوب.

وقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: "الصلح بين المسلمين (¬1) جائز، إلا صلحًا أحلّ حرامًا أو حرّم حلالاً" (¬2). وأما القياس: فإن المدّعَى عليه يفتدي مُطالبتَه باليمين وإقامة البَيّنة وتوابع ذلك بشيء من ماله يبذله، ليتخلص من الدعوى ولوازمها، وذلك غرضٌ صحيح، مقصود عند العقلاء، وغاية ما يُقدّر أن يكون المدّعي كاذبًا، فهو يتخلّص من تحليفه له، وتعريضه للنكول، فيقضى عليه به، أو تُرد اليمين، بل عند الخِرَقي: لا يصحّ الصلح إلا على الإنكار، ولا يصح مع الإقرار، قال: لأنه يكون هضمًا للحق. فإذا صالحه مع الإنكار، فخاف أن يرفعه إلى حاكمٍ يُبطلُ الصلح فالحيلة في تخليصه من ذلك: أن يصالحَ أجنبي عن المنكر على مال، ويُقرّ الأجنبيّ لهذا المدّعي بما ادعاه على غريمه، ثم يصالحه مِن دعواه على مالٍ، ¬

_ (¬1) في بعض النسخ: "الناس". (¬2) رواه أحمد (2/ 366)، وأبو داود (3596) واللفظ له، وابن عدي في الكامل (6/ 68)، والدارقطني (3/ 27)، والحاكم (2309، 7058)، والبيهقي في الكبرى (6/ 63، 64)، وغيرهم عن كثير بن زيد عن الوليد بن رباح عن أبي هريرة، وصححه ابن الجارود (638، 1001)، وابن حبان (5091)، وابن دقيق في الإلمام (1042)، قال الذهبي: "كثير ضعفه النسائي ومشاه غيره"، وحسن إسناده ابن كثير في إرشاد الفقيه (2/ 54)، وصحّحه الألباني في الإرواء (1303). ورواه الدارقطني (3/ 27) عن عبد الله بن الحسين عن عفان عن حماد بن زيد عن ثابت عن أبي رافع عن أبي هريرة، وصححه الحاكم (2313)، وتبعه ابن دقيق العيد (1041)، وتعقبه الذهبي بقول ابن حبان في عبد الله: "يسرق الحديث،، وبمثل ذلك أعلّه ابن القيم في التهذيب (9/ 374)، وابن الملقن في البدر المنير (6/ 686)، وابن حجر في التغليق (3/ 282). وفي الباب عن عمرو بن عوف.

ولا يفتقر إلى إذن المدعى عليه (¬1)، ولا وكالته له، إن كان المدّعَى دينًا؛ لأنه يقول: إن كان كاذبًا فقد استنقذته من هذه الدعوى، وذلك بمنزلة فِكاك الأسير، وإن كان صادقًا فقد قضيتُ عنه بعضَ دينه، وأبرأه المدعي من باقيه، وذلك لا يفتقر إلى إذنه. وإن كان المدعَى عينًا لم يصحّ حتى يقول: قد وكَّلني المنكر؛ لأنه يقول: قد اشتريتُ له هذه العين المدَّعاة بالمال الذي أصالحك عليه، فإن لم يعترف أنه وكله، لم يصح. فإن لم يعترف بوكالته فطريق الصحة: أن يصالح الأجنبي لنفسه، فيكون بمنزلة شراء العين المغصوبة، فإن اعترف بها للمدعي باطنًا صار هو الخصمَ فيها، وإن لم يعترف بها له لم يَسَعْه أن يخاصم فيها المدّعَى عليه، ويكون اعترافه له بها ظاهرًا حيلةً على تصحيح الصلح. وعلى هذا: فإن كان المدعى دارًا خَلفها الميتُ لابنه وامرأته، فادعاها رجلٌ، فصالحاه من دعواه على مال، فإن كان صلحًا على الإنكار فالمال بينهما على ثمانية أسهم: على المرأة الثُّمُنُ، وعلى الابن سَبْعَةُ أثمان، وإن كان على الإقرار فالمال بينهما نصفان، والدار لهما نصفان. فإذا أراد لُزُوم الصلح على الإنكار (¬2) صالح عَنهما أجنبي على الإقرار، فلزم الصلح، وكان المال بينهما على سبعة أثمان، وكذلك الدار؛ فإنهما لم يُقِرَّا له بالدار، وإقرار الأجنبي لا يلزمهما حكمه. ¬

_ (¬1) "عليه" ساقطة من م. (¬2) "على الإنكار" ساقطة من الأصل.

المثال الخامس والأربعون: ادعى عليه أرضا أو دارا في يده فصالحه على بعض الدار والأرض

المثال الخامس والأربعون: إذا ادّعى عليه أرضًا في يده، أو دارًا، أو بستانًا، فصالحه على عشرة أذْرُعٍ أو أقَلّ أو أكثر جاز، وكذلك لو صالحه على عشرة أذرع من أرض أو دار أخرى جاز؛ لأنه يقول: قد أخذتُ بعض حَقّي وأسقطتُ البعض. فإن خاف أن يرفَعَه إلى حاكم حنفي، لا يَرى جواز ذلك بناءً على أنه لا يجوز بيعُ ذراع، ولا عشرة من أرضِ أو دارِ؛ فطريق الجواز: أن يَذرَع الدار التي صالحه على هذا القدر منها، ثم ينسبه إلى المجموع، فما أخرجته النسبة أوْقَع عقد الصلح عليه، ويصح [93 ب] ذلك ويلزم. المثال السادس والأربعون: إذا أوصى لرجل بخدمة عبده مُدّةً معينة أو ما عاش جاز ذلك، فإذا أراد الوارث أن يشتري من الموصي له خِدْمة العبد لم يصحّ؛ لأن حَقّ الموصي له إنما هو في المنافع، وبيعُ المنافع لا يجوز. والحيلة في الجواز: أن يُصالحه الوارث من وَصِيَّته على مال معيَّن، فيجوز ذلك. وكذلك لو أوصى له بحَمْل شاته، أو أمَتِه، أو بما يحمل شَجَرُه عامًا، فإذا أراد الوارث شراءه منه لم يصح، وله أن يُصالحه عليه؛ فإن الصلح وإن كان فيه شائبة من البيع فهو أوسع منه. المثال السابع والأربعون: لو شَجه رجل، فعفا المشجوج عن الشّجّة، وما يحدث منها، ثم مات منها، لم يلزم الشاج شيءٌ، ولو قال: عفوتُ عن هذه الجراحة، أو الشجّة، ولم يقل: وما يحدث منها، فكذلك في إحدى الروايتين.

المثال الثامن والأربعون: صلح الزوجة عن ميراثها من زوجها

وفى الأخرى: يضمن بقِسْطها من الدّية. ولو قال: عفوت عن هذه الجناية، فلا شيء له في السراية، روايةً واحدة. وعند أبي حنيفة: له المطالبة بالدّية في ذلك كله، إلا إذا قال: عفوت عنها، وعما يحدث منها. فالحيلة في تخلص المعفوِّ عنه: أن يشهد على المجني عليه: أنه عَفا عن هذه الجناية أو الشّجة وما يحدث منها، فيتخلص عند الجميع. المثال الثامن والأربعون: إذا مات وتَرك زوجةً وورثة، فأرادت الزوجة أن يُصالحها الورثةُ على حَقِّها، نظرنا في التَّرِكة، وفى الذي وقع عليه الصلح. فإن كان في التَركة أثمانٌ ذهبٌ وفضة (¬1)، فصالحَتْهم على شيء من الأثمان لم يصح، لإفضائه إلى الربا؛ لأن صلحها بيع نصيبها منهم. وإن صالحتْهم على عَرض أو عقارٍ، أو كان في التركة دراهم، فصالحتهم بدنانير، أو بالعكس جاز، ولا تَضُر جهالةُ حقها؛ لأن عقد الصلح أوسعُ من البيع كما تقدم. فإن كان في التركة ديون لم يَصِح الصلح؛ لأن بَيع الدَّين من غير الذي هو في ذِمّتِه لا يصح، ويحتمل أن يقول بصحته، كما يصح عن المجهول، وإن لم يصح بيعه (¬2). ¬

_ (¬1) م، ش: "أثمانًا ذهبًا وفضةً". والمثبت من باقي النسخ. (¬2) ح، ظ، ت: "بنفسه".

فالحيلة في صلحها عن الدَّين أيضًا: أن يُعَجّل لها حِصَّتها من الدَّين، يُقِرضها الورثة ذلك، وتُوكّلهم باقتضائه، ثم تُصالحهم من الأعيان على ما اتفقوا عليه؛ لأنهم إذا أقرضوها حِصّتها (¬1) من الدَّين، ثم وَكّلَتهم بقبض حِصّتها من الدَّين، فإذا قبضوا حِصّتها من الدين فقد حصل في أيديهم من مالها من جنس ما لهم عليها فيتقاضان، ويكون عقدُ الصلح قد وقع عن العروض والمتاع خاصة. فإن لم تَطِبْ أنفسهم أن يُقرضوها قَدْرَ حِصّتها من الدَّين، وأحبت تعجيل الصلح، صالحتهم من حقها من المتاع والعُروض، دون الديون، وكلما قُبض من الدين شيءٌ أخذت حقها منه، فإن تعسّر ذلك، وشقّ عليها، وأحبّت الخلاص، حابَوها في الصلح من الأعيان بأكثر من حقها منها، وأقرت أن الدّين حقّ للورثة دونها، من ثمن متاعٍ باعه الميت لهم. فإن أرادوا قسمة الدين في الذمم فالمشهور: أنه لا يصح؛ لأن الذّمم لا تتكافأ. وفيه رواية أخرى: تجوز قسمته، وهي الصحيحة، فإنه قد تكون مصلحة الورثة والغرماء في ذلك، وتفاوُتُ الذمم لا يمنعُ القسمة؛ فإن التفاوت في المحل، والمقسومُ واحد مُتماثلٌ، وإن اختلفت محالُّه. وإذا كان الغرماء كلهم مُوسِرين أو مُعْسِرين، أو بعضهم موسرًا، وبعضهم معسرًا، فأخذ كل من الورثة موسرًا ومعسرًا، كان هذا عَدْلًا غير ممتنع، وقد تراضوْا به، ولا وجه لبطلانه، وبالله التوفيق. ¬

_ (¬1) في الأصل: "حقها".

المثال التاسع والأربعون: إذا تصدق المدين بامر الدائن، هل تبرأ ذمته؟

المثال التاسع والأربعون: إذا كان لرجل على رجل دَين، [94 أ] فقال: تصدّق به عَنّي، ففعل، لم يَبْرأ، وكانت الصدقةُ عن المُخْرج ودَينُه باقٍ، قاله أصحابنا؛ لأنه لم يتعين، ولأنه لا يكون مُبرِئًا لنفسه بفعله. قالوا: وطريق الصحة أن يقول: تصدّق عنى بكذا بقدر دينه، ويكون ذلك اقتراضًا منه، فإذا فعل ثبت له في ذمته ذلك القَدْرُ، وعليه له مثله، فيتقاصّان. وكذلك لو قال له: ضارِبْ بالمالِ الذي عليك والربحُ بيننا، لم يصح. والحيلة في صحته أن يقول: أذنتُ لك في دَفْعه إلى ابنك، أو زوجتك وديعةً، ثم وكّلتك في أخذه والمضاربة به. والظاهر: أنه لا يحتاج إلى شيء من ذلك، ويكفي قبضه من نفسه لربّ المال، وإذا تصدق عنه بالذي قال كان على الأمر، هذا هو الصحيح، وهو تخريج لبعض أصحابنا ولا حاجة به إلى هذه الحيلة، فإذا عَيّنه بالنّية تعيَّن، وكان قابضًا من نفسه لموكله، وأيّ محذور في ذلك؟ المثال الخمسون: يجوز استئجار الأجير بطعامه وكسوته عندنا، وكذلك الدابّة بعلَفِها وكذلك المرضِعة، وهو مذهب مالك. وقال الشافعي: لا يجوز فيهما. وجوَّزه أبو حنيفة في الظِّئْرِ خاصة. فإذا عقد الإجارة كذلك، ثم خاف أن يرفعه إلى حاكم يرى بُطلانها، فيُلْزِمَه بأجرة مثله: فالحيلة في تصحيح ذلك: أن يستأجره بنقدِ معلوم، يكون بقدرِ الطعام

المثال الحادي والخمسون: للمستأجر أن يؤجر ما استأجره لغيره وللمؤجر

والكسوة، ثم يُشْهد عليه أنه وَكّله في إنفاق ذلك على نفسه وكسوته، وكذلك في الدابّة. المثال الحادي والخمسون: يجوز للمستأجر أن يُؤجِر ما استأجره للمؤجر، كما يجوز لغيره. وأبو حنيفة يبطل هذه الإجارة. فالحيلة في لزومها: أن يؤجِر ذلك لأجنبي غير المؤجر، ثم يؤجره إياه الأجنبيُّ. المثال الثاني والخمسون: إذا كَفَل اثنان واحدًا، فسلّمه أحدهما، برئ الآخر، كما لو ضمنا دينًا، فقضاه أحدهما، فإن خاف أن يرفعه إلى حاكم لا يرى ذلك، ويُلزم الآخر بتسليمه: فالحيلة في خلاصه: أن يَكْفلا بهذا المكفول به، على أنه إذا دفعه أحدهما فهما جميعًا بريئان، أو يُشهدا عليهما أن كل واحد منهما وكيل صاحبه في دفع المكفول به إلى الطالب، والتبرؤ إليه منه، فيَبْرآن على قول الجميع. المثال الثالث والخمسون: يصح ضمانُ المجهول، وضمان ما لم يجب عندنا، كما. يصح ضمان الدّرَك، فإذا قال: ما أعطيتَ لفلان فأنا ضامنٌ له صح ولزمه. وقال الشافعي: لا يصح. فالحيلة في صحته لئلا يُبطل ذلك حاكمٌ يرى بطلانه: أن يقول: ما أعطيت لفلان من درهم إلى ألف؛ فأنا ضامن له.

المثال الرابع والخمسون: خاف أحد شريكي شركة العنان موت الآخر في سفره

فإن ضمنه اثنان وأطلقا جاز، واستويا في الغُرْم، فإن ضمناه على أن على أحدهما الثلث، وعلى الآخر الثلثين، جاز ذلك؛ لأن المال إنما يجب على كل منها بالتزامه، فإذا التزماه على هذا الوجه صحَّ. فإن أراد أحد الضامِنَيْن أن يضمّن الآخر ما لزمه من هذا الضمان، فيصير ضامنًا، جاز ذلك أيضًا؛ لأن المال قد ثبت في ذِمة كل واحد منهما، فإذا ضمنه أحدهما جاز، كما يجوز في الأصل. المثال الرابع والخمسون: إذا اشترك رجلان شرِكَةَ عنان، فسافر (¬1) أحدهما بالمال بإذن شريكه، فخاف أن يموت المقيم، فيشتري بالمال بعد موته متاعًا، فيضمن؛ لأنه قد انتقل إلى الورثة، وبطلت الشركة. فالحيلة في تخلصه من ذلك: أن يُشهد على شريكه المقيم أن حِصّته في المال الذي بينه وبينه لولده الصغار، وقد أوصى إلى شريكه بالتصرف فيه، وأمره أن يشتري لهما (¬2) ما أحب في حياته وبَعْدَ وفاته، فإن كان [94 ب] ولده كبارًا أشهد على نفسه أن هذا المال لهم، ثم يأمر ولَدُه الكبارُ هذا الشريكَ أن يعمل لهم في مالهم هذا بما يرى، ويشتري لهم ما أحب. المثال الخامس والخمسون: إذا كان لرجلين على امرأة ألف درهم مثلًا، فتزوجها أحدهما على نصيبه في المال الذي عليها، صح النكاح، وبرئت ذمة المرأة من ذلك القدر، ولم يلزم الزوجَ أن يضمن لصاحبه شيئًا منه؛ لأنه لم يقبض شيئًا من نصيبه، ولم يحصل في ضمانه، فجرى مجرى إبرائها له منه. ¬

_ (¬1) م: "فأقر". والمثبت من باقي النسخ. (¬2) الأصل: "لها".

المثال السادس والخمسون: استحلف كل واحد منهما صاحبه إذا اشترى جارية أن تكون بينهما

وبعض الفقهاء يضمّنه نصيب شريكه من المهر، ويجعله كالمقبوض؛ لأنه عاوض عليه بالبُضْع، فهو كما لو اشترى منها به سِلْعة، فإنها تكون بينهما، وهاهنا تعذّرت مشاركته في البُضْع، فيشاركه في بدله، وهو المهر، فكأنها وفّته نصيبه من الدين. وطريق الحيلة في تخلصه من ذلك: أن يهبَ لها نصيبه مما عليها، ثم يتزوجها بعد ذلك على خمس مئة في ذمَّته، ثم تهَبَ له المرأة ما لها عليه من الصّداق؛ فإن أحد الشريكين إذا وهب نصيبه من المال المشترك لا يضمن لشريكه شيئًا؛ لأنه متبرِّع. فإن خاف أن يهبها أو يُبرئها فتغدر به، ولا تتزوج به: فالحيلة له (¬1): أن يُشهد على إقرارها أنه يستحق عليها ذلك المبلغ مادامت أجنبية منه، وأنه لا يستحق على زوجته فلانة شيئًا من ذلك المال. وأكثر ما فيه: أنه يسميها زوجة قبل العقد، فإذا تم العقدُ بَرِئَتْ من الدين. فإن خاف أن لا تُبرئه من الصّداق، وتطالبه به، ويسقط حقه من المال الذي عليها: فالحيلة له: أن يُشْهد عليها في العقد: أنه بَرِئ إليها من الصداق، وأنها لا تستحق المطالبة به. المثال السادس والخمسون: إذا أراد أن يشتري جارية، وعرض له آخر يريد شراءها، فاستحلف أحدُهما صاحبه: أنه إن اشتراها فهي بينه وبينه نصفين، فأراد أن يشتريها وتكون له، تأوّل في يمينه: أنه إن اشتراها بنفسه ¬

_ (¬1) "له" ساقطة من الأصل، م.

المثال السابع والخمسون: أراد المشتري أن يصالح أحد صاحبي العرض من جميع الثمن على بعضه على أن يضمن له الدرك من شريكه أو يرد عليه جميع الثمن

فهي بينه وبينه، فإذا وكّل من يشتريها له كانت له وحده. فإن استحلفه أنه إن ملكها فهو شريكه فيها، بطلت هذه الحيلة، فله أن يأمر مَنْ يثق به أن يشتريها لنفسه، ويؤدي عنه الثمن، ثم يُزَوّجه إياها، فإذا أراد بيعها اسْتَبرأها، ثم أمر ذلك الرجل أن يبيعها ويُرجع ثمنها إليه. المثال السابع والخمسون: إذا كان بينهما عَرض من العُروض، فاشتراه منهما أجنبي بمائة درهم، وقبضه، ثم إن المشتري أراد أن يُصالح أحدهما من جميع الثمن على بعضه، على أن يضمن له الدّرَك من شريكه، حتى يُخَلّصه منه، أو يَرُدّ عليه جميع الثمن الذي وقع العقد عليه. فقال القاضي: لا يجوز ذلك؛ لأن الضمان لما كان على شريكه إنما يجب بقبضه المال، وذلك لم يُوجد، فلا يكون مضمونًا عليه. فالحيلة للمشتري: أن يكون بريئًا، وإن أدركه دَرَك من شريكه، رَجَع به على الذي صالحه أن يكطّ الشريكُ المصالحُ عن المشتري نصيبه كلَّه من الثمن، ثم يدفع المشتري إليه نصيب صاحبه، قضاء له (¬1) على أنه ضامنٌ لما أدْرَكه من شريكه، حتى يُخلّصه منه، أو يَرُد عليه ما قَبضه منه، ويُبرئه هو من نصيبه؛ لأنه إذا أبرأه من نصيبه لم يبقَ من الدين إلا نصيب صاحبه، فإذا قَبضه كان مضمونًا عليه؛ لأنه قبضَ دَيْن الغير بغير أمْره. المثال الثامن والخمسون: إذا كان عبد بين شريكين مُوسرين، فأراد كل منهما عِتْقَ نصيبه، وأن لا يَغْرَمَ لشريكه شيئًا: فالحيلة: أن يوكِّلا رجلًا فيعتقه عنهما، ويكون [95 أ] ولاؤه بينهما. ¬

_ (¬1) ح، ت: "فصالحه".

المثال التاسع والخمسون: أراد أن يزوج عبده الأمة التي حلف أن لا يزوجه إياها

المثال التاسع الخمسون: إذا سأله عبده أن يُزَوّجه أمَتَه فحلف أن لا يفعل، ثم بَدَا له في تزويجه: فالحيلة: أن يبيع العبد والأمة لمن يَثقُ به، ثم يُزَوّجه المشتري، فإذا تم العقد أقالَه في البيع. ولا بأسَ بمثل هذه الحيلة، فإنها لا تتضمن إبطال حقٍّ، ولا تحليلَ مُحَرَّم، وذلك غيرُ ممتنع على أصلنا؛ لأن الصفة وهي عقد النكاح قد وُجدت في حال زوال ملكه، فلا يتعلق بها حِنثٌ، ولا يحنثُ أيضًا باستدامة التزويج بعد ملكهما؛ لأن التزويج عبارة عن العقد، وقد انقضى، وإنما بقي حكمه. ولهذا لو حلف: لا يتزوج، فاستدام التزويج، لم يحنث، وهذا بخلاف ما إذا حلف على عبده: أنه لا يدخلُ الدار، فباعه، ودخلها، ثم ملكه، فإن دخلها حَنِثَ؛ لأنه ابتدأ الدخول واليمينُ باقية، ولو دخلها في حال زوال ملكه، ثم ملكه وهو داخل فيها حَنِثَ؛ لأن الدخول عبارة عن الكَوْنِ، وذلك موجود بعد الملك الثاني، فيحنث به، كما لو كان موجودًا في الملك الأول. وقد قال أحمد في رواية مُهَنّا في رجل قال لامرأته: أنت طالق إن رهنتِ كذا وكذا، فإذا هي قد رَهَنَته قبل يمينه، فقال: أخاف أن يكون حَنِثَ. قال القاضي: وهذا محمول على أنه قال: إن كنتِ رهنْتِهِ، وهذا تأويل منه لكلام أحمد. وظاهر كلامه: أنه جعل استدامة الرّهن بمنزلة ابتدائه، كالدخول. المثال الستون: إذا كان له عليه مال، فمرض المستحق، وأراد أن يُبرئه منه، وهو يخرج من ثلثه، فخاف أن يكْتُم الورثة ماله، ويقولوا: لم يَدَعْ إلا

وكذلك إذا أراد المريض أن يعتق عبدا يخرج من الثلث وخاف من الورثة

الدَّينَ الذي على هذا. فالحيلة في خلاصه: أن يُخرِج المريض من ماله بقدر الدَّين الذي على غريمه، فيملّكه إياه، ثم يستوفيه منه، ويشهد على ذلك، وكذلك إذا أراد المريض أن يعتق عبدًا، وله مال، يُخرج من ثلثه، ويملِّكه ماله، فخاف أن يقول الورثة: لم يدع (¬1) الميت شيئًا غير هذا العبد: فالحيلة: أن يُملّكه (¬2) من رجل يثقُ به، ويقبض الثمن، فيهبه للمشتري ثم يعتقه المشتري. فإن كان على الميت دين، وله وفاء وفَضْل يخَرج العبدُ من ثلثه، فخاف المريضُ أن يُغَيّب الورثةُ ماله، ثم يقولوا: أعتق العبد ولا مال له غيره، فلا يجوز له ما صنع من ذلك: فالحيلة فيه: أن يبيع العبد من نفسه، ويقبض الثمن منه، بمحضر من الشهود، ثم يهب المريض للعبد ما قبض منه في السّرّ، فيأمن حينئذٍ من اعتراض الورثة، فإن لم يكن للعبد مال يشتري به نفسه وَهَبه السيد مالًا في السر، وأقْبَضه إياه، فيشتري به العبدُ نفسه من سيده. فإن لم يُردِ السيد عتقه، وأراد بيعه من بعض ورثته بمال للوارث على المريض، ليست له به بينة: فالحيلة في ذلك: أن يقبض وارثه ماله عليه في السرِّ، ثم يبيعه العبدُ ويُشْهد له على ذلك، ويقبض الثمن بمحضر من الشهود، فيتخلّص من ¬

_ (¬1) في م: "يخلف". (¬2) م: "يبيع المريض العبد".

المثال الحادي والستون: قال الموصى إن لم يقبل فلان أن يكون وصيا ففلان

اعتراض الورثة. المثال الحادي والستون: إذا أوصى إلى رجل، فخاف أن لا يقبل، فقال: إن لم يقبل ففلان وصيي، صح ذلك بسنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الصحيحة الصريحة التي لا تجوز مخالفتها، حيث عَلّق الإمارة بالشرط (¬1)، فتعليق الوصية أولى، لأنه يستفيد بالإمارة أكثر مما يستفيد بالوصية. وبعض الفقهاء يبطل ذلك. فالحيلة في ذلك: أن يُشهد المريض أنهما جميعًا وَصِيَّاه، فإن لم يقبل أحدهما، وقبِل الآخر، فالذي قَبِل منهما وصِي وحده، فإن قبِلا [95 ب] جميعًا فلكلِّ واحد منهما أن يَنْفَردَ بالتصرّف عن صاحبه، لأنه رَضي بتصرُّف كلِّ واحد منهما، قاله القاضي. فإن خاف أن يمنع ذلك مَن لا يرى انفرادَ أحدهما بالتصرّف، ويقول: قد شَرّك بينهما، وجعلهما بمنزلة وَصيٍّ واحد: فالحيلة في الجواز: أن يقول: أوصيتُ إليهما على الاجتماع والانفراد. المثال الثاني والستون: إذا تصرّف الوصي، وباع واشترى، وأنفق على اليتيم، فللحاكم أن يُحاسبه ويسأله عن وجوه ذلك، ولا يمنعه من مُحاسبته كونُه أمينًا؛ فإن النبي - صلى الله عليه وسلم - حاسب عُماله، كما ثبت في "صحيح البخاري" (¬2): أنه بعث ابن اللُّتْبِيَّةِ عاملًا على الصّدقة، فلما جاء حاسبه. ¬

_ (¬1) تقدم تخريجه. (¬2) برقم (7197) عن أبي حميد الساعدي.

المثال الثالث والستون: خاف من إبطال الوقف على نفسه

فإن أراد الوصي أن يتخلص من ذلك، فالحيلة له: أن يجعل غيره هو الذي يتولى بَيْع التركة، وقَبْضَ الدين والإنفاق، ولا يَشْهد على نفسه بوصول شيء من ذلك إليه، فإذا سأله الحاكم قال: لم يَصِلْ إليَّ شيءٌ من التركة، ولا تَصَرّفتُ فيها، فإن كانت التركة قد بِيعَتْ بأمره وقُبض ثمنُها بأمره، وصُرِفَ بأمره، فحلّفه الحاكم إنه لم يقبض، ولم يُوَكّل مَنْ قبض وتصرف وأنفق، فإن كان مُحسنًا قد وضع التركة موضعها ولم يَخُنْ، وسعه أن يتأوّل في يمينه، وإن كان ظالمًا؛ لم ينفعه تأويله. المثال الثالث والستون: يصحُّ وَقْفُ الإنسان على نفسه، على أصحّ الروايتين، ويجوز اشتراط النظر لنفسه، ويجوز أن يستثني الإنفاق منه على نفسه ما عاش، أو على أهله، وغيرنا يُنازعنا في ذلك، فإذا خاف من حاكم يُبطل الوقف على هذا الوجه: فالحيلة له: أن يُمَلّكه لولده أو زَوْجته، أو أجنبي يَقِفُه عليه، ويشترط له النظر فيه، وأن تُقدّم على غيره من الموقوف عليهم بِغَلَّتِه، أو بالإنفاقِ عليه، فيصحّ حينئذٍ، ولا يبقى للاعتراض عليه سبيل. المثال الرابع والستون: إذا اشترى جاريةً وقبضها، فوجد بها عَيْبًا، ولم يكن نَقَد ثمنها، فأراد رَدها، فصالحه البائعُ على أن يأخذ البائع الجارية بأقل من الثمن الذي اشتراها به. فقال القاضي: لا يجوز ذلك؛ لأن هذا في الصلح بمعنى البيع، وبيعُ المبيع من بائِعه بأقلَّ من ثمنه لا يجوز؛ لأنه ذَريعة إلى الرّبا، وهو كمسألة العِينة، فإن كان قد حدثَ بالجارية عيبٌ عند المشتري جاز ذلك؛ لأن مقدار الحَطّ يكون بإزاء العيب الذي حَدَثَ عند المشتري، فلا يؤدي إلى مسألة العِينة.

المثال الخامس والستون: لا تبرأ ذمة المضمون بمجرد الضمان، حيا كان المضمون أو ميتا

والحيلة في جواز ذلك، في الصورة الأولى على وجه لا يُشْبِهُ العينة: أن يخُرج الجارية من مُلْكه، فيبيعها لرجل بالثمن الذي يأخذها به البائع، فيصالح الذي في يده الجاريةُ البائع على أن يَقْبَلها بدون الثمن الذي وقعَ عليه العَقْدُ، ويجعل هذا الثمن الذي يأخذ به الجارية قضاء عن مُشتري الجارية؛ لأن المشتري الثاني متى صالح البائع، على أن يقبل الجارية بدون الثمن الذي اشتُريت به، فهو عَقْدٌ جرى بينهما مبتدًا، من غير بناء أحدِ العقدين على الآخر، فإذا اشتراها البائعُ من هذا الثاني حصل ثمنُها في ذمته له، وله هو على المشتري الأول ثمنُها، فإذا طالبه البائعُ بالثمن أحاله على المشتري الأول، فيتقاصّان. المثال الخامس والستون: الضمانُ لا يبرئ ذمة المضمون عنه بمجرَّده، حَيًّا كان المضمون عنه أو مَيِّتًا. وفيه روايةٌ أخرى: أنه يُبرئ ذمة الميت دون الحيّ، وهو مذهب [96 أ] أبي حنيفة. وفيه قول ثالث: أنه يبرئ ذمة الحي والميت، كالحَوالة، وهو مذهب داود. فإذا أراد الضامن أن يكون ضمانه مُبرئًا لذمِّة المضمون عنه، فالحيلة في ذلك أن يقول: لا أضمنُ دينَه إلا بشرط أن تبرئه منه، فمتى أبرأتَه منه فأنا ضامنٌ له. ويصح تعليقُ الضمان بالشرط في أقوى الوجهين، فإذا أبرأه صحَّت البراءة، ولزم الدينُ الضامن وحده.

الحيلة في تصحيح الضمان المعلق

فإن خاف رب الدين أن يرفعه إلى حاكم لا يَرى صحة الضمان المعلق، فيُبْطل دينه من ذمَّة الأصيل بالإبراء، ولا يثبت له في ذمة الضامن: فالحيلة: أن يكتبَ ضمانه ضمانًا مطلقًا، ويُشْهد عليه به من غير شرط، بعد إقراره ببراءة الأصل، فيحصل مقصودهما. المثال السادس والستون: الحوالة تَنْقُل الحق من ذِمة المُحيل إلى ذمة المُحال عليه، فلا يملك مطالبة المحيل بعد ذلك إلا في صورة واحدة، وهي: أن يشترط مَلاءة المُحال عليه فيتبين مُفْلسًا. وعند أبي حنيفة: إذا تَوَى المالُ على المحال عليه، بأن جحده حقه، وحلف عليه، أو مات مُفلسًا، رجع على المحيل. وعند مالك: إن ظن ملاءته، فبان مُفْلسًا، رجع، وإن طرأ عليه الفَلَسُ لم يكن له الرجوع. فإذا أراد صاحب الحق التوثُّق لنفسه، وأنه إن تَوى ماله على المحال عليه رجع على المحيل: فالحيلة له في ذلك: أن يحتالَ حوالة قبض، لا حوالة استيفاء، فيقول للمحيل: أحِلْني على غريمك أن أقبضَ لك ما عليه من الدَّين، فيُجيبه إلى ذلك، فما قبضه منه كان على مُلْك المحيل، فيأذن له في استيفائه. فإن خاف المحيل أن يهلكَ هذا المال في يَدِ القابض، ولا يغرمه، لأنه وكيل في قبضه: فالحيلة أن يقول له: ما قبضتُه فهو قَرْضٌ في ذمّتك، فيثبت في ذمّته نظيرُ مالَه عليه، فيتقاصّان.

المثال السابع والستون: لصاحب الدين مطالبة المدين وضامنه

فالحوالة ثلاثة أنواع: حوالة قَبض محض، فهي وكالة، وحوالة استيفاء، وهي التي تَنْقل الحقّ، وحوالة إقراض: فالأولى: لا تُثبِت المقبوض في ذمة المحال، والثانية: تجعل حَقّه في ذمة المحال عليه، والثالثة: تثبت المأخوذ في ذمته بحكم الاقتراض. المثال السابع والستون: إذا ضمِنَ الدين ضامنٌ فلمستحقّه مطالبة أيهما شاء. وعن مالك روايتان، إحداهما: كذلك، والثانية: أنه ليس له مطالبة الضامن إلا إذا تعذّر مُطالبة الأصل. فإن أراد الضامن أن يضمنَ على هذا الوجه، فالحيلة أن يقول: إن تعذّر مالُكَ قِبَلَهُ فأنا ضامن له. ويصح تعليق الضمان على الشرط على الأصحّ. فإن أراد أن يصحّح ذلك على كلّ قول، ويأمن رَفْعه إلى من يرى بطلان ذلك: فالحيلة فيه: أن يقول: ضمنتما يَتْوَى لك على فلان، أو يَعْجِزُ عن أدائه، فيصح ذلك، ولا يتمكن من مطالبته إلا إذا توى المالُ على الأصل، أو عجز عنه. المثال الثامن والستون: إذا بَذَتْ عليه امرأته، فقال: الطلاق يلزمني منك؛ لا تقولين لي شيئًا؛ إلا قلت لك مثله، فقالت: أنتَ طالق ثلاثًا: فقال بعضهم: يقول لها: أنتَ طالق ثلاثًا بفتح التاء، ولا تطلق؛ لأن الخطاب لا يصلح لها.

وهذا ضعيف جدًّا؛ لأن قوله: أنتَ طالق؛ إما أن يعنيها به، أو يعني غيرها، فإن لم يَعْنِها لم يكن قد قال لها مثل ما قالت، بل يكون القولُ لغيرها، فلا يَبرُّ به؛ وإن عَنَاها به طلقت للمواجهة، وفتح التاء لا يمنع صحة الخطاب، والمعنى: أنتَ أيها الشخصُ أو الإنسان! ثم يقول هذا القائل إذا قالت له: فعل الله بك كذا، فقال لها: فعل الله بك وفتح الكاف، هل يكون بازًا في يمينه بذلك؟ فإن قال: لا يَبَرّ، لزمه مثله في الطلاق. وإن قال: يبرُّ، كان قائلًا لها ذلك، فيكون مطلّقًا لها. وأجود من هذا: [96 ب] أن يكون قوله على التراخِي، ما لم يُقَيّده بالفَوْر، بلفظه أو نيّته. وقالت طائفة: يقول لها: أنت طالق ثلاثًا، إن لم أفعل كذا وكذا، وإن فعلتِ، لما لا تَقْدرُ هي عليه، فيكون قد قال لها مثل ما قالت، وزاد عليه. وفى هذا ضعف لا يخفى؛ لأن هذه الزيادة تنقص الكلام، فهي زيادةٌ في اللفظ ونُقصان في المعنى، فإنه إذا علّق الطلاق بشرط خرج من التّنْجيز إلى التعليق، وصار كله كلامًا واحدًا، وهي لم تُعلّق كلامها، وإنما نَجَّزته، فالمماثلة تقتضي تنجيزًا مثله. وأجود من هذا كله أن يقال: لا يدخل هذا الكلام الذي صدر منها في يمينه؛ لأنه لم يُرده قطعًا، ولا خطر بباله، فيمينهُ لم يتناوله، فهو غير محلوف عليه بلا شك، واللفظ العام يختص بالنية والعُرْف، والعرف في مثل هذا لا يدخل فيه قو لها له ذلك، والأيمان يُرجَع فيها إلى العرف والنية والسبب،

المثال التاسع والستون: يجوز استئجار الشاة ونحوها مدة معينة للبنها، بعلفها أو بدراهم

وهذا مُطّرِدٌ ظاهر على أصول مالك وأحمد، في اعتبارهم عرفَ الحالف ونيّته وسببَ يمينه، والله أعلم. المثال التاسع والستون: يجوز أن يستأجر الشاةَ والبقرة ونحوهما مُدّة معلومةً لِلَبَنِهَا، ويجوز أن يستأجرها لذلك بعَلَفِها وبدراهم مُسَمّاة، والعلفُ عليه، هذا مذهب مالك، وخالفه الباقون. وقوله هو الصحيح، واختاره شيخنا رحمه الله؛ لأن الحاجة تدعو إليه، ولأنه كاستئجار الظِّئْرِ للبنها مدة، ولأن اللبن وإن كان عينًا فهو كالمنافع في استخلافه وحدوثه شيئًا بعد شيء، ولأن إجارة الأرض لما يَنْبت فيها من الكلأ والشوك (¬1) جائزة، وهو عين، ولأن اللبن حصلَ بعلفه وخِدمته، فهو كحصول المُغَلِّ بِبذْرِه وخدمته، ولا فرق بينهما، فإن تولُّد اللبن من العلف كتولُّد المُغَلِّ من البَذر، فهذا من أصح القياس. وأيضًا فإنه يجوز أن يقفها، فينتفعَ الموقوف عليها بلبنها، وحق الواقف إنما هو في منفعة الموقوف مع بقاء عَيْنه. وأيضًا فإنه يجوز أن يمنحها غيره مُدّة معلومة لأجل لبنها، وهي باقيةٌ على ملك المانح، فتجري منيحتها مجرى إعارتها، والعارية إباحةُ المنافع، فإذا كان اللبن يجري مجرى المنفعة في الوقف والعارية جرَى مجراها في الإجارة. وأيضًا فإن الله سبحانه وتعالى قال: {فَإِنْ أَرْضَعْنَ لَكُمْ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ} [الطلاق: 6]، فسمى ما تأخُذه المُرْضعة في مقابلة اللبن أجرًا، ولم يُسَمّها ثمنًا. ¬

_ (¬1) "والشوك" ساقطة من م. والمثبت من ح، ت.

ويجوز أن يستاجر بئرا مدة لمائها، وبركة ليعيش فيها السمك

وأيضًا فيجوز أن يستاجر بئرًا مدةً معلومة لمائها، والماء لم يحصُل بعمله، فَلأنْ يجوز استئجار الشاة للبنها الحاصل بعلفه والقيام عليها أوْلىَ. وأيضَا فإنه يجوز أن يستأجر بِرْكَةَ يُعشش فيها السمك لأجله، فهذا أولى بالجواز؛ لأنه معلوم بالعُرْف، وهو حاصل بعلفه والقيام على الحيوان. وقياسُ المنع على تحريم بيع اللبن في الضّرْع قياسى فاسدٌ؛ فإن ذلك بيع مجهول لا يُعرف قدرُه، وما يَتَحَصّل منه، وهو بيع معدوم، فلا يجوز، والإجارة أوْسع من البيع ولهذا يجوزُ على المنافع المعدومة المستخلفة شيئًا بعد شيء، فاللبنُ في ذلك كالمنفعة سواءً، وإن كان عينًا، فهذا القول هو الصحيح. فإن خاف أن يَرْفَعَه إلى حاكم يُبطل هذا العقد: فالحيلة في لزومه: أن يُؤجِره الحيوان مُدة بدراهم مُسَمَّاة، ثم يأذن له في عَلَفه بها، ويُبيحَه اللبن. وهذه الحيلة تتأتى في إجارة البقرة، والناقة، والجاموس؛ إذ يمكن الحرثُ عليها وركوبهُا، وأما الشاة فلا يراد منها إلا الدّرّ والنّسْل، فلا تتهيأ الإجارة على منفعتها: فالطريق في ذلك: أن يستأجرها لرضاع سَخْلَة له مُدّة معلومة، ويُوَكله في النفقة عليها بأجرتها، أو ببعضها، ويُبيحه اللبن. المثال [97 أ] السبعون: إذا دفع إليه ثوبه، وقال: بِعْهُ بعشرة، فما زاد فَلَك:

المثال الحادي والسبعون: حصد الزرع بجزء منه، وإجارة الدابة ببعض ما يخرج من أجرتها، وأجرة خياطة الثوب وحياكته بجزء منه

فنصَّ أحمد على صحته، تبعًا لعبد الله بن عباس رضي الله عنهما (¬1)، ووافقه إسحاق، ومنعه أكثرهم. ووجه الخلاف: أن في هذا العقد شائبة الوكالة والإجارة والمضاربة، فمن رَجّح جانب الوكالة صَحّح العقد، ومن رجح جانب الإجارة أو المضاربة أبطله؛ لأن الأجرة والربح الذي جُعل له مجهول. والصحيح الجواز؛ لأن العَشَرَة تجري مجرى رأس المال في المضاربة، وما زاد فهو كالربح، فإذا جعله كلّه له كان بمنزلة الإبضاع، إذا دَفع إليه مالًا يُضارب به، وقال: ما رَبِحْتَ فهو لك، فليس العقدُ من باب الإجارات، بل هو بالمشاركات أشبه. فإن خاف أن يَرْفعه إلى حاكم يرى بطلانه: فالحيلة في ذلك: أن يقول: وكَّلتك في بيعه بعشرة، فإن بِعْته بأكثر فلا حقّ لى في الزيادة، فيصح هذا، وتكون الزيادة للوكيل. المثال الحادي والسبعون: قال الإمام أحمد رضي الله عنه في رواية مُهنَّا: لا بأس أن يحْصُد الزّرْعَ ويصرم النّخْلَ بسُدُس ما يخرجُ منه، وهو أحب إلي من المقاطعة. يعني: أن يقاطعه على كيل مُعَيَّن، أو دراهم أو عروض. ¬

_ (¬1) علَّقه البخاري عنه بصيغة الجزم في كتاب الإجارة: باب أجر السمسرة. ووصله عبد الرزاق (8/ 234) وأبو عبيد في غريب الحديث (4/ 232) - ومن طريقه البيهقي في السنن الكبرى (6/ 121) - وابن أبي شيبة (4/ 302) عن هشيم حدثنا عمرو بن دينار عن عطاء عن ابن عباس.

حديث قفيز الطحان

ولذلك نص في رواية الأثرم وغيره، في رجل دفع دابته إلى آخر ليعمل عليها، وما رَزَق الله بينهما نصفين: أن ذلك جائز. وقال أحمد أيضًا: لا بأس بالثوب يُدْفع بالثلث والرّبع، لحديث جابر رضي الله عنه: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أعطى خَيْبَر على الشّطر (¬1). ونقل عنه أبو داود فيمن يعطي فَرسه على النّصف من الغَنيمة: أرجو أن لا يكون به بأس. وقال في رواية إسحاق بن إبراهيم: إذا كان على النصف والربع؛ فهو جائز. ونقل عنه أحمد بن سعيد، فيمن دفع عبده إلى رجل ليكتسب عليه، ويكون له ثُلث الكسب، أو رُبعه: أنه جائز. ونقل عنه حَرْبٌ فيمن دفع ثوبًا إلى خَيّاط ليُفَصّله قمصانًا ويبيعها، وله نصفُ ربحها بحقّ عمله، فهو جائز. ونَصّ في رجل دفع غَزْله إلى رجل يَنْسِجُه ثوبًا بثُلثِ ثَمنه أو ربعه: أنه جائز. وقال في "المغني" (¬2): وعلى قياس قول أحمد يجوز أن يُعْطَى الطحّانُ أقْفِزَةً معلومة يطحنها بقفيز دقيق منها. وحُكِي عن ابن عقيل المنع منه، واحتج بأن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - نهى عن قَفيزِ الطّحان (¬3). ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري (2329)، ومسلم (2551) عن ابن عمر. (¬2) المغني (7/ 118). (¬3) رواه أبو يعلى (1024)، والطحاوي في شرح المشكل (2/ 187)، والدارقطني =

قال الشيخ (¬1) وهذا الحديث لا نعرفه، ولا يثبت عندنا صحّته. وقياس قول أحمد: جوازه، لما ذكرنا عنه من المسائل. وكذلك لو دفع شَبكَته إلى صَيّاد ليصيد بها، والسمكُ بينهما نصفين. قال في "المغني" (¬2): فقياس قول أحمد صحة ذلك، والسمكُ بينهما شَرِكة. وقال ابن عَقيل: السمك للصائد، ولصاحب الشبكة أجرة مثلها. ولو كان له على رجلٍ مالٌ، فقال لرجل: اقْبِضْه منه، ولك رُبُعه، أو ثلثه، أو قال: إن قبضته (¬3) منه فلك منه الربعُ أو الثلث، فهو جائز. ¬

_ = (3/ 47) - ومن طريقه البيهقي في الكبرى (5/ 339) - عن الثوري عن هشام أبي كليب عن ابن أبي نعم عن أبي سعيد الخدري قال: نُهِي عن قفيز الطحان، وفي إسناده اختلاف، فقيل: عن عطاء بن السائب عن ابن أبي نعم عن بعض أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم -، وقيل: عن عطاء عن ابن أبي نعم مرسلا، وقيل: عن عطاء عن بعض أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم -، وضعفه ابن قدامة في المغني (5/ 119)، وقال ابن تيمية كما في المجموع (30/ 113): "هذا الحديث باطل لا أصل له ... ليس من كلام النبيّ - صلى الله عليه وسلم -، وإنما هو من كلام بعض العراقيّين"، وقال الذهبي في الميزان (7/ 90): "هذا منكر، وراويه لا يعرف"، وقال ابن القيم فيما يأتي: "لا يصح"، وقال البوصيري في إتحاف الخيرة (3/ 3300): "مداره على عبد الرحمن الإفريقي وهو ضعيف"، وقال ابن حجر في الدراية (2/ 190): "في إسناده ضعف"، وحسنه بعضهم، وصححه الألباني في الإرواء (1476). (¬1) أي ابن قدامة في المغني (7/ 118). (¬2) (7/ 118). (¬3) ت، ظ: "أو ما اقتصته".

مذاهب العلماء في الإجارة على بعض ما يعمل الأجير

وكذلك لو غُصِبَتْ منه عَيْنٌ، فقال لرجل: خَلّصها لي، ولك نصفُها، جاز أيضًا. ولو غرق متاعه في البحر، فقال لرجل: ما خَلّصتَه منه فلك نصفُه أو ربعه، جاز. ولو أبقَ عبده، فقال لرجل أو قال: من رَدّه عليّ فله فيه نصفه أو ربعه، أو شَرَدَتْ دابَّته، فقال ذلك؛ صحّ ذلك كله. قلت: وكذلك يجوز أن يقولَ له: انفُضْ لي هذا الزيتون بالسدُس، أو الربع، أو اعْصره بالثلث أو الربع، أو اكسر هذا الحَطَب بالربع، أو اخْبزْ هذا العجين بالربع، وما أشبه ذلك، فكل هذا جائز على نُصوصه وأصوله، وهو أحب إليه من المقاطعة في بعض الصور. ولم يُجِز الشافعي وأبو حنيفة شيئًا من ذلك. وأما مالك فقال أصحابه عنه: إذا قال: احصُدْ زَرْعي ولك نصفُه فذلك جائز، وإن قال: احْصُد اليوم، فما حصدتَ فلك نصفُه، لم يجز عند ابن القاسم. [97 ب] وفى "العُتبية": أنه يجوز. فإن قال: الْقُطْ زَيْتوني، فما لَقَطْتَ فلك نصفه، فهو جائز عند ابن القاسم، وروى سُحْنون أنه لا يجوز. ولو قال: انفُضْ زيتوني، فما نقضتَ فلك نصفه، لم يجز عند ابن القاسم، وأجازه عبد الملك بن حبيب.

كانوا يستأجرون في الغزو البعير ببعض ما ينالون من الغنيمة

فإن قال: اقْبض لي المئة دينار التي على فلان، ولك عُشرها، جاز عند ابن القاسم وابن وَهْبٍ، وعند أَشْهَب: لا يجوز. فلو قال: اقبض ديني الذي على فلان، ولك من كل عَشرة واحد، ولم يبيّن قَدْر الدَّين، لم يَجُزْ عند ابن وَهْب، وأجازه ابن القاسم وأصبغُ. والذين منعوا الجواز في ذلك جعلوه إجارة، والأجر فيها مجهول. والصحيح: أن هذا ليس من باب الإجارات، بل من باب المشاركات، وقد نص أحمد على ذلك. فاحتجَّ على جواز دفع الثوب بالثلث والربع بحديث خَيْبَرَ (¬1)، وقد دَلّت السنّة على جواز ذلك، كما في "المسند" و"السنن" (¬2) عن رُويفع بن ثابت، قالْ إن كان أحدُنا في زمن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ليَأخُذُ نِضْوَ أخيه على أن له النّصف مما يَغْنَم ولنا النصف، وإن كان أحدُنا ليطير له النّصْلُ والريشُ وللآخر القِدْح. وأصل هذا كله: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - دفع أرض خيبر إلى اليهود، يَعْملونها بشَطْر ما يخرج منها من ثمرٍ أو زرع. ¬

_ (¬1) تقدم تخريجه. (¬2) مسند أحمد (4/ 108)، سنن أبي داود (36)، ورواه أيضًا ابن عبد الحكم في فتوح مصر (ص 72، 307)، والطبراني في الكبير (5/ 28)، والخطابي في غريب الحديث (2/ 169) والبيهقي في الكبرى (1/ 110) كلاهما من طريق أبي داود، وفي إسناده اختلاف، وحسنه النووي في المجموع (2/ 116)، وصحّح متنه ابن مفلح في الآداب الشرعية (3/ 141)، وهو في صحيح سنن أبي داود (27).

حديث قفيز الطحان موضوع

وأجمع المسلمون على جواز المضاربة، وأنها دفع ماله لمن يعمل عليه بجُزْءٍ من ربحه، فكلّ عينٍ تَنمي فائدتها من العمل عليها جاز لصاحبها دفعها لمن يعمل بجزء من ربحها. فهذا محضُ القياس، وموجَب الأدلة، وليس مع المانعين حُجّةٌ سوى ظنهم أن هذا من باب الإجارات بعوضٍ مجهول، وبهذا أبطلوا المساقاة والمزارعة. واستثنى قومٌ بعض صورها، وقالوا: المضاربة على خلاف القياس، لظنّهم أنها إجارة بعوضبى لا يُعْلم قَدْره. وأحمدُ رحمه الله عنده هذا الباب كله أطيبُ وأحلّ من المؤاجرة؛ لأنه في الإجارة يحصل المؤجر على سلامةِ العوض قطغا، والمستأجر مُتردِّدٌ بين سلامة العوض وهلاكه، فهو على خَطَرٍ. وقاعدةُ العدل في المعاوضات: أن يستوي المتعاقدان في الرّجاء والخوف، وهذا حاصل في المزارعة، والمساقاة، والمضاربة، وسائر هذه الصور الملحقة بذلك؛ فإن المنفعة إن سَلِمتْ سَلِمتْ لهما، وإن تَلِفتْ تَلِفتْ عليهما، وهذا من أحسن العدل. واحتج المتأخّرون من المانعين بحديث أبي سعيد الذي رواه الدارقطني (¬1): نُهي عن قفِيز الطحان، وهذا الحديث لا يصح. وسمعتُ شيخ الإسلام رحمه الله يقول: "هو موضوع" (¬2). ¬

_ (¬1) سنن الدارقطني (3/ 47). وقد تقدم تخريجه. (¬2) وحكم عليه بالوضع في منهاج السنة (7/ 311).

وحمله بعضُ أصحابنا على أن المنهي عنه طحن الصُّبرة لا يُعلم كَيْلُها بقَفِيز منها؛ لأن ما عداه مجهول، فهو كبيعها إلا قَفيزًا منها، فأما إذا كانت معلومة القُفْزانِ، فقال: اطحن هذه العشرة بقفيزٍ منها صح حَبًّا ودَقيقًا: أما إذا كان حَبًّا فقد استأجره على طحنِ تسعة أقفزةٍ بقفيز حِنْطة، وأما إذا كان دقيقًا فقد شاركه في ذلك على أن العُشُرَ للعامل وتسعةَ الأعشار للآخر، فيصير شريكه بالجزء المسمى. فإن قيل: فالشركة عندكم لا تصح بالعُروض. قيل: بل أصح الروايتين صحّتُها. وإن قلنا بالرواية الأخرى فإلحاق هذه بالمساقاة والمزارعة أوْلىَ منها بإلحاقها بالمضاربة على العروض؛ لأن المضاربة بالعُروض تتضمن التجارة والتصرّف في رِقْبَة المال بإبداله بغيره، بخلاف هذا. فإن قيل: دَفْعُ حَبِّهِ إلى مَنْ يطحنه بجزء منه مطحونًا، أو غَزْله إلى من يَنْسِجُه بجزء منه منسوجًا، يتضمنُ محذورين: أحدهما: أن يكون طحنُ قَدْرِ الأجرة ونسجُه مستحقًّا على العامل بحكم الإجارة، ومستَحقًّا له بحكم كونه أجرة، وذلك [98 أ]، تناقض؛ فإن كونه مستحقًّا عليه يقتضي مطالبة المستأجر به، وكونه مستحقًّا له يقتضي مطالبته للمؤجر به. الثاني: أن يكون بعض المعقود عليه هو العوضَ نفسه، وذلك ممتنع. قيل: إنما نشأ هذا من ظَنِّ كونه إجارةً، وقد بَيّنا أنه مشاركة لا إجارة، ولو سُلّم أنه من باب المؤاجرة فلا تناقض في ذلك؛ فإن جهة الاستحقاق مختلفة، فإنه يستحق له بغير الجهة التي يستحق بها عليه، فأي محذورٍ في ذلك؟

المثال الثاني والسبعون: ليس له أن يقبض دينه على الهارب من مديون لذلك الهارب

وأما كون بعض المعقود عليه يكون عِوضًا: فهو إنما عقد على عمله فالمعقود عليه العمل، والنفع بجزء من العين، وهذا أمر مُتَصوَّرٌ شرعًا وحِسًا. فظهر أن صحة هذا الباب هي مقتضى النص والقياس، وبالله التوفيق. وعلى هذا: فلا يُحتاج إلى حيلةٍ لتصحيح ذلك إلا إذا خيف غَدْرُ أحدهما، وإبطالُه للعقد، والرجوعُ إلى أجرة المِثْلِ. فالحيلة في التخلص من ذلك: أن يدفعَ إليه ربع الغَزْل والحب أو نصفه، ويقول: انسْجْ لي باقيَهُ بهذا القدر، فيصيران شريكين في الغَزْل والحب، فإذا تشاركا فيه بعد ذلك صح، وكان بينهما على قدر ما شرطاه. والعجب أن المانعين جَوَّزوا ذلك على هذا الوجه، وجعلوه مشاركة لا مؤاجرة، فَهلأ أجازوه من أصله كذلك؟ وهل الاعتبار في العقود إلا بمقاصدها وحقائقها، دون صُوَرها وألفاظها؟ وبالله التوفيق. المثال الثاني والسبعون: إذا كان لرجل على رجل دينٌ، فتوارَى عن غريمه، وله هو دينٌ على آخر، فأراد الغريم أن يقبض دينه من الدين الذي له على ذلك، لم يكن له ذلك إلا بحوالة أو وكالة، وقد توارَى عنه غريمه، فتعذّر عليه الحوالة والوكالة. فالحيلة له في اقتضاء دينه من ذلك: أن يوكله، فيقول: وكَلتك في اقتضاء ديني الذي على فلان، وبالخصومة فيه، ووكلتك أن تجعلَ ما له عليك قصاصًا مما لي عليه، وأجزتُ أمرك في ذلك، فيقبل الوكيل، ويُشهد عليه شهودًا، ثم يُشهد الوكيلُ أولئك الشهودَ، أو غيرهم: أن فلانًا وكلني

المثال الثالث والسبعون: للحاكم أن يحكم على الغائب مع بقائه على حجته

بقبض ما لَهُ على فلان، وأن أجعله قصاصًا بما لفلان عليّ، وأجاز أمري في ذلك، وقد قبلتُ من فلان ما جعل إليّ من ذلك، واشْهدُوا أن قد جعلت الألف درهم التي لفلان عليّ قصاصًا بالألف التي لفلانٍ موكلي عليه، فتصير الألف قصاصًا، ويتحول ما كان للرجل المتواري على هذا الوكيل: للرجل الذي وكّله. المثال الثالث والسبعون: إذا كان لرجل على رجل مالٌ، فغاب الذي عليه المال، وأراد الرجلُ أن يُثْبت ما لَه عليه، حتى يحكم الحاكمُ عليه وهو غائب، جاز للحاكم أن يحكمَ عليه في حال غَيْبَته مع بقائه على حُجّته، في أصح المذهبين، وهو قول أحمد في الصحيح عنه، ومالك، والشافعي. وعند أبي حنيفة: لا يجوز الحكم على الغائب. فإذا لم يكن في الناحية إلا حاكم يَرى هذا القول، ويَخْشَى صاحبُ الحق من ضياع حَقّه: فالحيلة: أن يجيء رجل، فيضمن لهذا الرجل الذي له المال جميعَ ما لَهُ على الرجل الغائب، ويُسميه ويَنْسبه، ويشهد على ذلك، ثم يُقدّمه إلى القاضي، فيمرّ الضامن بالضمان، ويقول: قد ضمنت له مالَهُ على فلان بن فلان، ولا أدري كم له عليه؟ ولا أدري: له عليه مال أم لا؟ فإن القاضي يُكلّفُ المضمون له أن يحضر بَيِّنتَه على ذلك بما لَهُ على فلان، فإذا أحضر البينة؛ قَبِلَها القاضي بمحضرٍ من هذا الضمين، وحكم على الغائب، وعلى هذا الضامن بالمال بموجَب ضمانه، ويجعل القاضي هذا الضمين بالمال خصمًا على الغائب؛ لأنه قد ضمن ما عليه.

المثال الرابع والسبعون: إذا جحد الغاصب في العلن وأقر في السر

ولا يجوز الحكم على هذا الضمين حتى يحكم على المضمون عنه، ثم يحكم بذلك على الضمين؛ لأنه فَرْعه، فما لم يثبت المال على الأصل لا يئبتُ على الفَرْع. [98 ب] المثال الرابع والسبعون: إذا غصبه متاعًا له، ويقول له في السرّ: بِعْنيه، ويجْحَده في العلانية، ويريد تخليص مالِهِ منه. فالحيلة له: أن يبيعه ممّن يثقُ به، ويُشهد له على ذلك بيّنة عادلة، ثم يبيعه بعد ذلك من الغاصب، ويكون بين البيعين من المدّة ما يَعْرِفه الشهود، ليُوَقتوا بذلك عند الأداء، فإذا أشْهَدَ للغاصب بالبيع في الوقت المعين جاء الذي باع منه المغصوب قَبْله ببينته، فيُحكم له لسَبق بَيِّنَتِهِ، فيرجع الغاصب على المغصوب منه بالثمن الذي دفعه إليه، ويُسِلّم العين للمغصوب منه. وكذلك لو أقرّ بها المغصوب منه لرجل يثِقُ به، ثم باعها بعد ذلك للغاصب، ثم جاء المقِرّ له، فأقام بينة على الإقرار السابق. فإن قيل: فلو خاف الغاصب من هذه الحيلة، وقال للمغصوب منه: لستُ أبتاع منك هذه السلعة خَشْية هذا الصنيع، ولكن آمُرُ من يبتاعها منك لي، فأراد المغصوب منه حيلةً يَرجع إليه بها سلعته: فالحيلة: أن يبيعها أولًا ممّنْ يثق به، ولا يكتب في كتاب التبايع قَبْضَهُ، ثمّ يبيعها بعد ذلك من الرجل الذي يريد شراءها للغاصب، ويكتب في هذا الشراء الثاني قَبض المشتري، فإنه إذا أقرّ وكيل الغاصب بقبض العين من المغصوب منه، ثم جاء الرجلُ الذي كتب له المغصوب منه الشراء، كان أولى بها من وكيل الغاصب؛ لأن وقت شرائه أقدمُ، وإقراره بقبضها وتسليمها إلى الرجل المشتري لها أوّلًا أولى، ويرجع وكيل الغاصب على

المثال الخامس والسبعون: إذا أقرضه ما، وأجله لزم تأجيله على أصح المذهبين

المغصوب منه بالثمن الذي دفعه إليه. المثال الخامس والسبعون: إذا أقرضه مالًا وأجَّله لزم تاجيله على أصح المذهبين، وهو مذهب مالك، وقولٌ في مذهب أحمد. والمنصوص عنه: أنه لا يتأجل، كما هو قول الشافعي، وأبي حنيفة. ويدل على التأجيل قوله تعالى: {أَوْفُوا بِالْعُقُودِ} [المائدة: 1]، وقوله تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لَا تَفْعَلُونَ (2) كَبُرَ مَقْتًا عِنْدَ اللَّهِ أَنْ تَقُولُوا مَا لَا تَفْعَلُونَ} [الصف: 2، 3]، وقوله: {وَأَوْفُوا بِالْعَهْدِ إِنَّ الْعَهْدَ كَانَ مَسْئُولًا} [الإسراء: 34]، وقوله - صلى الله عليه وسلم -: "المسلمون عند شُروطهم" (¬1)، وقوله: "آية المنافق ثلاثٌ: إذا حدّث كذَبَ، وإذا عاهد غدر، وإذا وعد أخلف" (¬2)، وقوله: "يُنْصَبُ لكلِّ غادر لوا" عند اسْتهِ يومَ القيامة بقدر غَدْرَته" (¬3)، وقوله: "لا تغدروا" (¬4)، وقوله: "إن الغدر لا يصلح" (¬5)، وقوله في صفة المنافق: "إذا وعد أخلف"، وإخلاف الوعد مما فطر الله العباد على ذَمّه واستقباحه، وما رآه المؤمنون قبيحًا فهو عند الله قبيح. ¬

_ (¬1) تقدم تخريجه. (¬2) أخرجه البخاري (33)، ومسلم (59) عن أبي هريرة. (¬3) أخرجه البخاري (711)، ومسلم (1735) عن ابن عمر. (¬4) أخرجه مسلم (1731) عن بريدة. (¬5) لم أقف عليه بهذا اللفظ، وروى الطبري في تاريخه (2/ 124 - 125) من طريق محمد بن إسحاق عن الزهري عن عروة بن الزبير عن المسور بن مخرمة ومروان بن الحكم، فذكر قصة الحديبية، وفيها قوله - صلى الله عليه وسلم - لأبي بصير: "ولا يصلح لنا في ديننا الغدر". وانظر: السيرة النبوية لابن هشام (4/ 292).

لو أحال على رجل إلى أجل جازت الحوالة

وعلى هذا: فلا حاجة إلى التحيُّل على لزوم التأجيل. وعلى القول الأخر: قد يُحتاج إلى حيلة يلزم بها التأجيل. فالحيلة فيه: أن يُحيل المستقرضُ صاحب المال بماله إلى سنةٍ أو نحوها، بقدر مدة التأجيل، فيكون المال على المحال عليه إلى ذلك الأجل، ولا يكون للطالب ولا لورثته على المستقرض سبيل، ولا على المحال عليه إلى الأجل؛ فإن الحوالة تنقُلُ الحقّ. ولو أحال المحالُ عليه صاحبَ المال على رجل آخر إلى ذلك الأجل جازت الحوالة، فإن مات المحال عليه الأول لم يكن لصاحب المال على تَرِكَتِه سبيل، ولا على المحال عليه الثاني. المثال السادس والسبعون: إذا رَهَنه دارًا أو سِلعة على دَين، وليس عنده من يشهد له على قَدْر الدَّين ويكتبه، فالقول قول المرتهن في قدره، ما لم يَدَّع أكثر من قيمته، هذا قول مالك. وقال الشافعي، وأبو حنيفة، وأحمد: القولُ قولُ الراهن. وقول مالك هو الراجح، وهو اختيار شيخنا رحمه الله؛ لأن الله سبحانه جعل الرهن بدلًا من الكتاب، يشهدُ بقدر الحق، والشهود التي تشهد به، وقائفا مقامه، فلو لم يُقبل قول المرتهن في ذلك بطلت التَّوْثِقَةُ من الرّهن، وادَّعى المرتهن أنه رهَن على أقل شيء، فلم يكن في الرهن فائدة، والله سبحانه [99 أ] قد قال في آية المُداينة التي أرشد بها عباده إلى حفظ حقوق بعضهم على بعض خشية ضياعها بالجحود أو النسيان، فأرشدهم إلى حفظها بالكتاب، وأكَّد ذلك بأن أمرَهَم بكتابة الدَّين، وأمر الكاتب أن يكتب، ثم أكد ذلك بأن نهاه أن يأبى أن يكتب، ثم أعاد الأمر بأن يكتب مرة أخرى،

أمره تعالى بالإشهاد عند التبايع خشية الجحود

وأمر مَن عليه الحق أن يُملِلَ، ويتقي ربه، ولا يبخس من الحق شيئًا، فإن تعذر إملاؤه لسفهه، أو صغره، أو جنونه، أو عدم استطاعته، فَوليُّه مأمور بالإملاء عنه. وأرشدهم إلى حفظها باستشهاد شهيدين من الرجال، أو رجل وامرأتين، فأمرهم بالحفظ بالنِّصاب التام، الذي لا يحتاج صاحبُ الحقّ معه إلى يمين، ونهى الشهود أن يأبوْا إذا دُعوا إلى إقامة الشهادة. ثم أكّد ذلك عليهم بنهيهم أن يمتنعوا من كتابة الحقير والجليل من الحقوق سآمة ومللاً. وأخبر أن ذلك أعدل عنده، وأقْوَم للشهادة، فيتذكرها الشاهد إذا عاين خَطه، فيقيمها، وفى ذلك تنبيهٌ على أن له أن يقيمها إذا رأى خطَّه وتيَقَّنه، وإلا لم يكن للتعليل بقوله: {وَأَقْوَمُ لِلشَّهَادَةِ} [البقرة: 282] فائدة. وأخبر أن ذلك أقرب إلى اليقين، وعدم الرّيب، ثم رفع عنهم الجُناح بترك الكتابة إذا كان بيعًا حاضرًا فيه التقابُضُ من الجانبين، يأمَنُ به كلُّ واحد من المتبايعين من جُحود الآخر ونِسْيانه. ثم أمرهم مع ذلك بالإشهاد إذا تبايعوا، خشية الجحود وغَدْر كل واحد منهما بصاحبه، فإذا أشهدَا على التبايع أمِنَا ذلك. ثم نهى الكاتبَ والشهيدَ عن أن يُضارّا، إما بأنْ يمتنعا من الكتابة والشهادة تحَمّلًا وأداءً أو أن يَطْلُبا على ذلك جُعْلًا يَضُرّ بصاحب الحق، أو يكتُم الشاهدُ بعض الشهادة، أو يؤخِّرا الكتابة والشهادة تأخيرًا يضرُّ بصاحب الحق، أو يَمْطُلا، ونحو ذلك.

ثم ذكر ما تحفظ به الحقوق عند عدم الكتابة والشهود

أو هو نَهْيٌ لصاحب الحق أن يُضارّ الكاتب والشهيد، بأن يَشْغَلهما عن ضرورتهما وحوائجهما، أو يُكلّفهما من ذلك ما يَشُقّ عليهما. ثم أخبر أن ذلك فسوق بفاعله. فهذا كله عند القدرة على الكتاب والشهود. ثم ذكر ما يحفظ به الحقوق عند عدم القدرة على الكتاب والشهود وهو السّفَر في الغالب، فقال: {وَإِنْ كُنْتُمْ عَلَى سَفَرٍ وَلَمْ تَجِدُوا كَاتِبًا فَرِهَانٌ مَقْبُوضَةٌ} [البقرة: 283]. فدل ذلك دلالة بَيّنة أن الرهن قائمةٌ مقام الكتاب والشهود، شاهدة مُخبرة بالحق، كما يُخبر به الكتاب والشهود. وهذا والله أعلم سرُّ تعييد الرّهن بالسّفَر؛ لأنه حالٌ يتعذر فيها الكتاب الذي يَنْطِقُ بالحق غالبًا، فقام الرهنُ مقامه، ونابَ منابَهُ، وأكَّد ذلك بكونه مقبوضا للمرتهن، حتى لا يتمكن الراهنُ من جحده. فلا أحسنَ من هذه النصيحة، وهذا الإرشاد والتعليم، الذي لو أخذَ به الناس لم يَضِعُ في الأكثر حقُّ أحد، ولم يتمكنِ المُبطِلُ من الجحود والنسيان. فهذا حكمه سبحانه المتضمنُ لمصالح العباد في معاشهم ومعادهم. والمقصود: أنه لو لم يُقْبَل قول المرتهن على الراهن في قَدْر الدَّين لم يكن وثيقةً ولا حافظًا لدينه، ولا بدلًا من الكتاب والشهود؛ فإن الراهن يتمكنُ من أخذه منه، ويقول: إنما رَهَنْته منه على ثَمن درهم ونحوه، ومَن يجعلُ القولَ قولَ الراهن فإنه يُصدّقه على ذلك، ويَقْبَل قوله في رَهْن الرُّبع، والصيغة على هذا القدر.

المثال السابع والسبعون: إذا خاف أن يجحد المرتهن الدين ويقول: إن هذا الرهن هوله ولكنه وديعة عندي أو عارية

فالذي نعتقده وندينُ الله به هو قول أهل المدينة. فإذا أراد الرجلُ حفظ حَقّه، وخاف أن يقع التحاكم عند حاكم لا يرى هذا المذهب؛ فالحيلة في قبول قوله: أن (¬1) يَسْتَرْهِنه المرتهن على قيمته، ويدفع إليه ما اتفقا عليه، ويُشْهدَ الراهن أن الباقي من قيمته أمانةٌ عنده، أو قَرْضٌ في ذمَّته [99 ب] يطالبه به متى شاء، فيتمكّن كل واحد منهما من أخذ حقَه، ويأمنُ ظلم الآخر له، والله أعلم. المثال السابع والسبعون: إذا كان لرجل على رجل ألفُ درهم، وفي يَده رَهنٌ بالألف، وطالبَ صاحبُ الدَّين الغريمَ بالألف، وقدَّمه إلى الحاكم، وقال: لي على هذا ألفُ درهم، وخاف أن يقول: وله عندي رَهْن بالألف وهو كذا وكذا، فيقول الغريم: ما له عليّ هذه الألف التي يَدّعيها، ولا شيءٌ منها، وهذا الذي ادّعى أنه لي رهنٌ في يده هو لي كما قال، ولكنه ليس برهن، بل وَديعة، أو عارية، فيأخذه منه، ويبطل حقه: فالحيلة في أمْنِه من ذلك: أن يدّعي بالألف، فيسأل الحاكمُ المطلوبَ عن المال، فإما أن يُقِرَّ به، وإما أن يُنكره، فإن أقرّ به وادّعى أن له رهنًا لزمه المال ودفع الرهن إلى صاحبه، أو بِيعَ في وَفائه، وإن أنكره وقال: ليس له علي شيءٌ، ولي عنده تلك العين إما الدار وإما الدابة، فليقل صاحبُ الحق للقاضي: سَلْهُ عن هذا الذي يَدّعي عليّ: على أيّ وجهٍ هو عندي؟ أعاريَّة، أم غَصبٌ، أم وَديعة، أم رَهنٌ؟ فإن ادّعى أنه في يده على غير وَجْه الرهن حُلّفَ على إبطال دَعواه، وكان صادقًا، وإن ادّعى أنه في يده على وجه الرهن، قال للقاضي: سَلْه على كَمْ هو رَهْنٌ؟ إن أقرّ بقدرِ الحق أقر له بالعين، وطالب ¬

_ (¬1) "أن" ساقطة من م.

المثال الثامن والسبعون: إذا باعه، أو آجره، أو زوجه، ولم يتسلم ما وقع عليه التعاقد، ثم اذعى عليه بالثمن أو الأجرة أو المهر، فخاف إن أنكر أن يستحلفه أو يقيم عليه البينة، إلخ

بحقه، وإن جحد بعضه حُلّف على نَفْي ما ادّعاه، وكان صادقًا. المثال الثامن والسبعون: إذا باعه سِلعةً ولم يُقْبِضه إياها، أو آجره دارًا ولم يتسلّمها، أو زوَّجه ابنته ولم يُسلّمها إليه، ثم ادّعى عليه بالثمن، أو الأجرة، أو المهر، فخاف إن أنكره أن يستحلفه، أو يُقيم عليه البيّنة بجريان هذه العقود، وإن أقرّ لزمه ما ادّعى عليه به: فالحيلة في تخلصه أن يقول في الجواب: إن ادعيت هذا المبلغ من ثمن مَبيع لم أقبضه، أو إجارة دار لم تسلمها إليّ، أو نكاح امرأة لم تسلمها إليّ، أو كانت المرأة هي التي ادَّعت، فقال: إن ادعيت هذا المبلغ من مَهْرٍ أو كُسْوةٍ أو نفقةٍ من نكاح لم تُسَلّمي إليّ نفسك فيه، ولم تُمكّنيني من استيفاء المعقود عليه، فأنا مُقرّ به، وإن كان غير ذلك فلا أقرّ به (¬1)، وهذا جواب صحيح يتخلّص به. فإن قيل: فهذا تعليق للإقرار بالشرط، والإقرار لا يصح تعليقه، كما لو قال: إن شاء الله أو إن شاء زيد فله عليّ ألف. قيل: بل يصح تعليق الإقرار بالشرط في الجملة، كقوله: إذا جاء رأس الشهر فله عليّ ألفٌ؛ فهذا إقرار صحيح، ولا يلزمه قبل مجيء الشهر، وكذا لو قال: إن شهد فلان عليّ بما ادّعاه صَدّقْتُه، صحَّ التعليق، فإذا شهد به عليه فلان كان مُقرًّا به، ولا فرق بين تقديم الشرط وتأخيره، كما في تعليق الطلاق والعتاق والخلع. وفيه وجه آخر: أنه إن أخّر الشرط لم ينفعه، وكان إقرارًا ناجزًا، وهذا ¬

_ (¬1) "به" ساقطة من م.

ضعيف جدًّا؛ فإن الكلام بآخِره، ولو بطل الشرط الملحق به لبطل الاستثناء والبَدَلُ والصفة؛ فإن ذلك يُغيّر الكلام، ويخرجه من العموم إلى الخصوص، والشرطُ يخرجه من الإطلاق إلى التقييد، فهو أولى بالصحة. وقد جاء تأخير الشرط في القرآن فيما هو أبلغ من الإقرار، كقوله تعالى حاكيًا عن نبيه شُعيب عليه السلام أنه قال لقومه: {قَدِ افْتَرَيْنَا عَلَى اللَّهِ كَذِبًا إِنْ عُدْنَا فِي مِلَّتِكُمْ} [الأعراف: 89]. وقد وافق صاحب هذا الوجه على أنه إذا قال: له علي ألفُ درهم إذا جاء رأسُ الشهر أنه يصح، وجهًا واحدًا، وهذا يُبطلُ تعليله بأن إلحاق الشرط بعد الخبر كالرجوع عن الإقرار. وعلى هذا فلو قال: له علي ألفٌ مؤجلة صحّ الإقرار، ولزمه الألف مؤجَّلًا. وقيل: [100 أ]، القول قول خصمه في حلوله، وشبهة هذا: أنه مُقرّ بالدَّين مُدّعٍ لحلوله. وهذا ظاهر البطلان؛ فإنه إنما أقرّ به على هذه الصفة، فلا يجوز إلزامه به مطلقًا، كما لو وصفها بنقدٍ غير النقد الغالب، أو استثنى منها شيئًا. وكذا لو قال: له عليّ ألفٌ من ثمن مبيع لم أقْبِضْهُ، أو أجرةٍ عن دار لم أتسلّمها، أو قال: هلك قبل التمكّن من قَبْضه، على أصحّ الوجهين؛ لأنه إنما أقرّ به على هذه الصفة، فلا يجوز إلزامه به مطلقًا. وكذا لو قال: كان له عليّ ألف فقَصيْتُه، لم يلزمه؛ لأنه إنما أقرّ به في الماضي، لا في الآن، هذا منصوص أحمد، وليس الكلام بمتناقض في نفسه، فيكون بمنزلة قوله: له علي ألف لا يلزمني، والفرق بين الكلامين أظهر من

إذا أقر بدين وادعى قضاءه

أن يحَتاج إلى بيان. وعن أحمد رواية أخرى: أنه مُقِرّ بالحق مُدّعٍ لقضائه، فلا يُقبل منه إلا ببينةٍ، وهذا قول الأئمة الثلاثة. وعنه رواية ثالثة: أن هذا ليس بجواب صحيح، فيُطالَبُ بردّ الجواب. وعلى هذا فإذا قال: له علي ألف قضيته إيّاه، ففيه ثلاثُ رواياتٍ منصوصات: إحداهن: أنه غير مُقِرٍّ، كما لو قال: كان له عليّ. والثانية: أنه مقِرٌّ مُدّع للقضاء، فلا يُقبل منه إلا ببينة. والثالثة: أنه لا يسمع منه دعوى القضاء، ولو أقام به بينةً، بل يكون مكذبًا لها. وعلى هذا إذا قال: كان له عليّ، ولم يَزد على هذا، فهو مُقرّ. وخُرّج أنه غير مُقِرٌّ من نَصّه، على أنه إذا قال: كان له عليّ وقضيته، أنه غير مُقِرٍّ. وهو تخريج في غاية الصحة؛ فإن أحمد لم يجعله غير مُقِرٍّ من قوله: وقضيته؛ فإن هذا دعوى منه للقضاء، وإنما جعله كذلك من جهة أنه أخبر عن الماضي لا عن الحال، فلا يُلزَم بكونه في ذمَّته في الحال، وهو لم يُقرّ به. والمقصود: أن المدَّعَى عليه إذا كان مظلومًا فالحيلة في تخلُّصه أن يقول: إن اذعيت كذا من جهة كذا وكذا فأنا غيرُ مُقِرٍّ به، وإن ادّعيته من جهة كذا وكذا فأنا مقر به: كان جوابًا صحيحًا، ولم يكن مُقرًّا على الإطلاق.

المثال التاسع والسبعون: يجبر البائع على تسليم المبيع، والمشتري على دفع الثمن

المثال التاسع والسبعون: قال أصحابنا: لا يملك البائع حبس المبيع على قبض ثمنه، بل يُجبَر على تسليمه إلى المشتري، ثم إن كان الثمن مُعينًا فتشاحنا في المبتدئ بالتسليم، جُعل بينهما عَدلٌ يقبضُ منهما، ويُسلّم إليهما، وإن كان دينًا أُجبر البائع على التسليم، ثم يُجبَرُ المشتري على دَفع الثمن، فإن كان مالُه غائبًا عن المجلس حُجر عليه في ماله كلُّه، حتى يُسلّم الثمن، وإن كان غائبًا عن البلد فَوْقَ مسافة القصر ثبت للبائع الفسخ، وإن كان دونها فهل يُحْجر عليه، أو يثبتُ للبائع الفسخ؟ على وجهين، وإن كان المشتري مُعسرًا فللبائع الفسخ والرجوع في عَيْن ماله، هذا منصوص أحمد والشافعي. وللشافعية وجه: أن تُباع السلعة، ويُقضى دينه من ثمنها، فإن فضل له فضلٌ أخذه، وإن فضل عليه شيء استقر في ذمته. والصحيح: أن البائع يملك حَبس السلعة على الثمن، حتى يقبضه، هذا هو مُوجب العدل، وإلا ففي تمكين المشتري من القبض قبل الإقباض إضرار بالبائع؛ فإنه قد يتلف المبيع بأن يكون طعامًا أو شرابًا فيستهلكه، ويتعذر أو يتعسر عليه (¬1) مطالبته بالثمن، فيضُرّ به ولا يزول ضرره إلا بحبس المبيع على ثمنه. وعلى هذا لو دفع الثمن إلا درهمًا منه، فله حَبْس المبيع كلُّه على باقي الثمن، كما نقول في الرهن. وفيه قول آخر: أنه يملك أن يتسلَّم من المبيع بقدر ما دفع من الثمن؛ ¬

_ (¬1) "عليه" ساقطة من م.

لأن كلّ جزء من المبيع في مقابلة كل جزء من أجزاء الثمن، فإذا سلّم بعض الثمن مَلَكَ تسلُّم ما يُقابله. والفرق بينه وبين الرهن: أن الرهن ليس بعوض [100 ب] من الدين، وإنما هو وثيقة، فملك حَبْسه إلى أن يستوفي جميع الدين، والأول هو الصحيح؛ لأنه إنما رضي بإخراج المبيع من ملكه إذا سُلّم له جميع الثمن، ولم يرضَ بإخراجه ولا إخراج شيء منه ببعض الثمن. فإذا خاف البائع أن يُجبر على التسليم، ثم يُحال على تقاضي المشتري؛ فالحيلة له في الأمن من ذلك: أن يبيعه العين بشرط أن يرتهنها على ثمنها، ويجوز شرط الرهن والضّمين في عَقْد البيع، ويصح رَهْنُه قبل قَبْضه على ثمنه في أصح الوجهين، كما يصح رهنه قبل القبض بدين آخر غير ثمنه، ومن غير البائع، بل رَهْنُه على ثمنه أولى؛ فإنه يملك حَبْسه على الثمن بدون الرهن كما تقدم، فلأن يصحَّ حبسُه على الثمن رهنًا أولى وأحرى. وأيضا فإذا جاز التصرّف فيه بالرهن من الأجنبي قبل القبض، فجوازه من البائع أولى، ولأن المشتري يملك من التصرف مع البائع قبل القبض بالإقالة وغيرها ما لا يملكه مع الأجنبي، ومَنْ مَنَعَ رَهْنه على ثمنه قبلَ قبضه لزمه أن يمنع رهنه على غير الثمن، أو من الأجنبيّ. فإن قيل: الفرق بينهما: أنه قَبْلَ القبض عُرضةٌ للتلف، فيكون من ضمان البائع، وكونه رهنًا يقتضى أن يكون من ضمان راهنه، فيتنا في الأمران، حيث يكون مضمونًا له ومضمونًا عليه من جهة واحدة، وهذا بخلاف رَهنه من أجنبي قبل القبض؛ فإنه يكون مضمونًا عليه للأجنبي ومضمونًا له من البائع، ولا تنافي بين أن يكون مضمونًا له لشخص، ومضمونًا عليه لغيره، كالعين المؤجرة إذا

فإذا خاف البائع أن يجبر على التسليم ثم يحال على تقاضي المشتري فالحيلة له رهن المبيع بيد البائع على الثمن وحكمه إذا تلف

أجّرها المستأجر صارت المنافع مضمونةٌ عليه للمستأجر الثاني، ومضمونةً له من المؤجّر الأول، وكذلك الثمار إذا بدا صلاحها جاز للمشتري بيعها، وهي مضمونة له على البائع الأول، ومضمونة عليه للمشتري الثاني. قيل: هذا هو الفرق الذي بُنيَ عليه هذا القول بالمنع (¬1)، ولكن يقال: أيُّ محذور في ذلك، وأن يكون مضمونًا له وعليه؟ وقولكم: إن ذلك من جهة واحدة، ليس كذلك؛ فإنه مضمون له من جهة كونه مشتريًا، فهو من ضمان البائع حتى يُمكّنه من قَبضه، ومضمونًا عليه من جهة كونه راهنًا، فإذا تلف تَلِفَ من ضمانه، حتى لو اتحِّدت الجهةُ لم يكن في ذلك محذور، بحيث يكون مضمونا له وعليه من جهة واحدة، كما قلتم: إنه يجوز للمستأجر إجارةُ ما استأجره لمؤجّره، فتكون المنافع مضمونة عليه وله، فأيّ محذور في ذلك؟ فإن قيل: فإذا تلف هذا الرهن، فمِنْ ضمان مَن يكون؟ فالبائع يقول للمشتري: يتلف من ضمانِك؛ لأنه رهن، والمشتري يقول: يتلف من ضمانك؛ لأنه مبيعٌ لم يُقبض، وليس أحدهما بترجيح جانبه أولى من الآخر، قيل: بل يكون تَلَفه من ضمان البائع؛ لأن ضمانه أسبقُ من ضمان الراهن؛ لأنه لمَّا باعه كان من ضمانه حتى يُسَلّمه، فحبْسُه على ثمنه لا يُسْقِط عنه ضمانه، كما لو حبسه من غير ارتهان، فارتهانه إيّاه لم يُسقط عنه ما لزمه بعقد البيع من التسليم؛ فإنه إنما احتاط لنفسه بعقد الرهن، والراهنُ لم يتعوّض عن الرهن بدين يكون الرهنُ في مقابلته، فإذا تلفَ كان قد انتفع بالدين الذي أخذه في مقابلة الرهن. ¬

_ (¬1) في جميع النسخ: "المسح".

الحيلة في تصحيح الرهن والوثيقة

فإن أراد الحيلة في تصحيح الرهن والوثيقة، وأن لا يعرّضه للبطلان؛ فالحيلة له: أن يقبضه من البائع، ثم يرهنه إياه على ثمنه بعد قبضه، فيصح الرهن، ولا يتوالىَ هناك ضمانان، فإذا تلف بعد ذلك تلف من ضمان المشتري، ولا يسقُط الثمن عنه، فإن خاف البائع أن يغيب المشتري، أو يُؤَخّر فكاك الرّهْن، كتب كتابًا وأشهد فيه شهودًا، [101 أ]، أنه إن مضى وقتُ كذا وكذا، ولم يَفتكَّ الرهن، فقد أذن له في بيعه وقبض دينه من ثمنه، وما بقي منه فهو أمانةٌ في يده. فإن خاف أن يُبطل هذه الوكالة مَنْ يرى أنه لا يصح تعليقها بالشرط، كتبَ في الكتاب: أنه قد وَكله الآن، ويُعلّق تصرّفه فيه بالبيع بمجيء الوقت، فيعلقُ التصرف، ويُنَجِّز التوكيل. فإن خاف أن يعزله الموكِّل فلا ينفذ تصرفه فيه، فالحيلة له: أن يوكّله وكالة دورية عند مَنْ يرى ذلك، فيقول: وكُلّما عزلْتُه فقد وكّلْتُه، وإن شاء أن يقول: وكّلته وكالة لا تقبل العزل، وإن شاء أن يقول: على أنّي متى عزلتُه فلا حق لي عنده ولا دعوى، وما أدَّعيه عليه من جهة كذا وكذا فدعوى باطلة، والله أعلم. المثال الثمانون: إذا ادّعت عليه المرأة أنه لم يُنفق عليها، ولم يَكْسُها مُدّة مُقامها معه أو سنينَ كثيرة، والحِسُّ والعُرفُ يكذّبها، لم يحَل للحاكم أن يسمع دعواها، ولا يطالبه بردّ الجواب؛ فإن الدعوى إذا ردّها الحِسّ والعادة المعلومة كانت كاذبة. وفى "الصحيح" (¬1) عنه - صلى الله عليه وسلم -: "من ادّعى دعوى كاذبة ليتكثَّر بها لم يزده الله بها إلا قِلّةً". ¬

_ (¬1) مسلم (110) عن ثابت بن الضحاك.

سماع دعوى المرأة التي يكذبها العرف والعادة من أقبح القبائح ومن شر ما يجرئ النساء على الرجال

وفى "الصحيح" (¬1) أيضًا عنه - صلى الله عليه وسلم -: "من ادّعى ما ليس له فليس منّا، وليتبوأ مقعده من النار". فلا يجوز لأحدٍ حاكمٍ ولا غيره أن يُساعد من ادّعى ما يشهدُ الحِسّ والعُرف والعادة أنه ليس له، وأن دعواه كاذبة، ففي سماع دعواه وإحضار المدَّعَى عليه وإحلافه أعظم مساعدة ومعاونة على ما يُكذّبه الحِسّ والعادة. ثم كيف يسع الحاكمَ أن يقبل قول المرأة إنها هي التي كانت تُنفقُ على نفسها، وتكسو نفسها هذه المدة كلَّها، مع شهادة العُرف والعادة المطّردة بكذبها؛ ولا يقبلُ قول الزَّوج إنه هو الذي كان ينفقُ عليها ويكسوها، مع شهادة العرف والعادة له، ومشاهدة! لجيران وغيرهم له: أنه كلّ وقت يُدخلُ إلى بيته الطعام والشراب والفاكهة، وغير ذلك؛ فكيف يُكذّبُ من معه مثل هذه الشهادة، ويقبل قول من يكذبُ دعواه ذلك؟ وكيف يمكن الزوج أن يتخلّص من مثل هذا النبلاء الطويل، والخَطْب الجليل، إلا بأن يشهد كلّ يوم بُكرةً وعَشِيّة شاهديْ عَدْل على الإنفاق وعلى الكُسْوة، أو يفرض لها كل شهر دراهم معلومة، يُقبضها إياها بإشهاد؟ ثم إما أن يمكِّنها أن تخرج من بيته كلَّ وقت تشتري لها ما يقوم بمصالحها، أو يتصدَّى هو لخدمتها وشراء حوائجها، فيكون هو المعَاشَر (¬2) الأسير المملوك (¬3)، وهي المالكة الحاكمة عليه. ¬

_ (¬1) مسلم (61) عن أبي ذر. (¬2) في بقية النسخ: "العاني". (¬3) في أكثر النسخ: "المالك". والمثبت من ح.

وكل هذا ضدّ ما قصده الشارع من النِّكَاح من الأُلفة والمودة والمعاشرة بالمعروف؛ فإن هذه المعاشرة من أنكر المعا شرة، وأبعدها من المعروف. ثم من العجب: أنها إذا ادّعت الكُسوة والنفقة لمدة مُقامها عنده، فقال الزوج للحاكم: سَلْها من أين كانت تأكل وتشرب وتلبس؟ فيقول الحاكم: لا يلزمها ذلك. فيا لله العجبُ! إذا كانت غير معروفة بالدخول والخروج، ولا يمكِّن الزوج أحدًا يدخل عليها، وهي في منزله عدد سنين، تأكل، وتشرب، وتلبس، كيف لا يسألها الحاكم: مَنِ الذي كان يقوم لك بذلك؟ ومتى سأله الزوج سؤالها وجب عليه ذلك، فمتى تَركَهُ كان تاركًا للحق. فإن سمّت أجنبيًّا غير الزوج؛ كَلّفها الحاكم البينة على ذلك، وإن قالت: أنا الذي كنت أُطعِمُ نفسي وأكسوها في هذه المدة كلها كان كذبها معلومًا، ولم يُقْبَل قولها، فإن النفقة والكسوة واجبان على الزوج، وهي تدعي أنها هي التي قامت عنه بهذا الواجب وأدّته مِنْ ما لها، وهو يدعي أنه هو الذي فعل [101 ب] هذا الواجب، وقام به، وأسقطه عن نفسه، ومعه الظاهر والأصل. أما الظاهر: فلا يمكن عاقلًا أن يكابر فيه، بل هو ظاهر ظهورًا قريبًا من القطع، بل يُقطع به في حق أكثر الناس. وأما الأصل: فهو أيضًا من جانب الزوج؛ فإنهما قد اتّفقا على القيام بواجب حَقّها، وهي تضيف ذلك إلى نفسها، أو إلى أجنبي، وهو يدعى أنه هو الذي قام بهذا الواجب، فقد اتفقا على وصول النفقة والكسوة إليها، وهي تقول: كان ذلك بطريق البدل والنيابة عنك، وهو يقول: لم يكن بطريق النيابة، بل بطريق الأصالة.

وهذا بخلاف ما إذا لم يُعلم وصولُ الحق إلى مستحقه كالديون والأعيان المضمونة؛ فإن قبول قول المنكر متوجِّه، ومعه الأصل. ونظيره: أن يعترف بقضاء الدّين ووصوله إليه، ثم ينكر أن يكون وصل إليه من جهة مَنْ عليه الدين، فيقول: وصل إليّ الدين الذي لي، لكن ليس من جهتك، بل غيرك أدّاه عنك، فهل يَقبل قوله هاهنا أحد، ويقال: الأصل بقاءُ الدين في ذمّته؟ وهذا نظير مسألة الإنفاق سواء بسواء؛ فإنها مُقِرَّة بوصول النفقة إليها، ولو أنكرتها لكَذّبها الحسّ، ومُدَّعية أن وصول ذلك إليّ لم يكن من جهتك، فدعواها تخالف الأصل والظاهر جميعًا، ولهذا لا يَقْبَلها مالك، وفقهاء أهل المدينة، وقولهم هو الصواب والحقُّ الذي نَدين الله به، ولا نعتقد سواه. وأيّ قبيح أعظم من دعوى امرأةٍ على الزوج تَرْكَ النفقة والكسوة ستين سنة أو أكثر، وهي لا تدخل ولا تخرج، ولا يمكنها تعيش عيش الملائكة، فيُطالَب الزوجُ بنفقة جميع المدة التي ادعت ترك الإنفاق فيها، وقد تستغرق جميع ماله وداره وثيابه ودوابّه، فيؤخذ ذلك كلُّه منه، ويُحبَس على الباقي، ويُجعل دينا مستقرًّا في ذمته، تطالبه به متى شاءت، وهي تعلم كذب دعواها، ووليّها يعلم ذلك، وجيرانها، والله، وملائكته، والذي يساعدها ويخاصم عنها؟ ولمَّا علم فقهاءُ العراق كأبي حنيفة وأصحابه ما في ذلك من الشر والفساد والضرر الذي لا تأتى به شريعة، أسقطوا النفقة والكسوة عن الزوج بمضيّ الزمان، فلم يسمعوا دعوى المرأة بذلك، كما يقوله منازعوهم في نفقة القريب، فنفّسوا الخناق عن الأزواج بهذا القول، وأشَمُّوهم رائحة الحياة،

ليس من السنة إلزام الزوج بالنفقة الماضية ولا حبسه في نفقة وما في ذلك من الضرر

ونفّسوا عنهم بعضَ الكَرب. ولقد أقام رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بعد أن أرسله الله تعالى إلى الناس ثلاث عشرة سنةً بمكة، وعشرًا بالمدينة، فما ألزم زوجًا قطّ بنفقة وكُسوة ماضية، ولا ادّعتها عنده امرأة، وكذلك خلفاؤه الراشدون من بعده، وكذلك عصر الصحابة جميعهم، وعصر التابعين، ولا حُبس على عهده وعهد أصحابه وتابعيهم رجل واحد على ذلك، ولا على صداق امرأته، مع صيانة نسائهم، ولزومهن بيوتَهنَّ، وعدم تبرجهن وتزينهن وخروجهن في الأسواق والطرقات، والأزواج في الحبوس، وهن مُسَيَّبات يخرجن ويذهبن حيث أردن. فوالله لو رأى هذا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لشقّ عليه غاية المشقة، ولعَظُم عليه وعَزّ عليه، ولكان إلى دفعه وإنكاره أسرع منه إلى غيره. وبالجملة فالدعوى إذا كانت مما تردُّها العادة والعرف والظاهر، لم يَجُزْ سماعها. ومن هاهنا قال أصحاب مالك: إذا كان رجلٌ حائزًا لدارٍ، متصرّفًا فيها مُدّة السنين الطويلة، بالبناء والهدم، والإجارة والعمارة، ويَنْسُبها إلى نفسه، ويُضيفها إلى ملكه، وإنسانٌ حاضرٌ يراه ويشاهد أفعاله فيها طول هذه المدة، وهو مع ذلك [102 أ] لا يُعارضه فيها، ولا يذكرُ أن له فيها حقًّا، ولا مانع يمنعه من مطالبته من خَوف سلطان، أو نحو ذلك من الضرر المانع من المطالبة بالحقوق، ولا بينه وبين المتصرّف في الدار قرابةٌ، ولا شركةٌ في ميراث، وما أشبه ذلك مما يتسامَحُ به القرابات وذَكرُ الصّهر بينهم في إضافة أحدهم أموال الشركة إلى نفسه، بل كان عَرِيًّا عن ذلك كلُّه، ثم جاء بعد طول هذه

المدة يدّعيها لنفسه، ويزعمُ أنها له، ويريد أن يُقيم بينة بذلك: فدعواهُ غيرُ مسموعة أصلًا، فضلًا عن بينةِ، وتُقَرّ الدار بيد حائزها. قالوا: لأن كل دَعْوى ينفيها العرفُ وتكذبها العادةُ فإنها مَرفوضة، غير مسمو عة، قال تعالى: {وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ} [الأعراف: 199]، وأوجبت الشريعة الرجوع إليه عند الاختلاف في الدعاوَى وغيرها. قلت: ومما يدلّ على ذلك: أن الظنّ المستفاد من هذا الظاهرِ أقوَى بكثير من الظنّ المستفاد من شاهدين، أو شاهدٍ ويمين، أو مجردِ النُّكول، أو الردّ. وأيضًا فإن البيَّنة على المدّعي، والبينةُ هي كل ما يُبَيِّن الحقّ، والعرف والعادة والظاهر القوي الذي إن لم يُقطع به فهو أقرب إلى القطع يدل على صدق الزوج، وكذب المرأة في إمساكها عن كسوتها والإنفاق عليها مُدّة سنين متطاولة، ولا يدخل عليها أحدٌ، ولا هي ممن تخرج تشتري لها ما تأكلُ وتشرب وتلبس. فالشريعة جاءت بما يُعَرف لا بما ينكر، وقد أخبر الله سبحانه أن للزوجة مثل الذي عليها بالمعروف، وليس من المعروف إلزام الزوج بنفقة ستين سنة وكسوتها. واجْتياحُ ماله كلُّه، وسلبه نعمة الله عليه، وجعله مسكينًا ذا مَتْربة، وجعله أسيرًا لها: يُنافي ما ادَّعت به، بل هذا من أنكر المنكر، ومما يراه المسلمون بل وغير المسلمين قبيحًا. وأيضًا فالرجل له ولاية الإنفاق على زوجته، كما له ولاية حبسها ومنعها

من شر الفساد أن يمكن الحاكم المرأة من الولاية على زوجها في النفقة وغيرها مع أنها سفيهة

من الخروج من بيته، فالشارع جعل إليه ذلك، وأمره أن يقوم على المرأة، ولا يؤتيها ماله، بل يرزقها ويكسوها فيه، وجعلها الله سبحانه في ذلك بمنزلة الصغير والمجنون مع وَلِيّه، كما قال تعالى: {وَلَا تُؤْتُوا السُّفَهَاءَ أَمْوَالَكُمُ الَّتِي جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ قِيَامًا وَارْزُقُوهُمْ فِيهَا وَاكْسُوهُمْ} [النساء: 5]، قال ابن عباس (¬1) رضي الله عنهما: لا تعمِد إلى مالك الذي خَوّلك الله، وجعله لك مَعيشة، فتعطيه امرأتك وبنيك؛ فيكونوا هم الذين يقومون عليك في كسوتهم ورزقهم ومُؤنتهم. فالسفهاء هم النساء والصبيان، وقد جعل الله سبحانه الأزواج قوَّامين عليهم، كما جعل وليّ الطفل قوَّامًا عليه، والقوام على غيره أميرٌ عليه، ومَنْ قَبِلَ قول الزوجة أو الطفل بعد البلوغ في عدم إيصال النفقة إليهما فقد جعلهما قوّامين على الأزواج والأولياء، ولولم يقبل قولُ الزوج لم يكن قوّامًا على المرأة؛ فإن المرأة إذا كانت غريمًا مقبول القول دون الزوج، كانت هي القوّامة. وبالجملة فلرجل على امرأته ولاية، حتى في مالها، فإن له أن يمنعها من التبرُّع به؛ لأنه إنما بذل لها المهر لمالها ونفسها، فليس لها أن تتصرف في ذلك بما يمنع الزوج من كمال استمتاعه، وقد سَوّى النبي - صلى الله عليه وسلم - بين نفقة الزوجات، ونفقة المماليك، وجعل المرأة عانيةً عند الزوج، والعاني: هو الأسير، وهو نوعٌ من الرق، فقال في المرأة: "تُطْعمُها مما تأكلُ، وتكسوها ¬

_ (¬1) رواه الطبري (8560)، وابن أبي حاتم (4791، 4793) من طريق علي بن أبي طلحة عن ابن عباس بنحوه، وعزاه في الدر المنثور (2/ 432) لابن المنذر.

مما تلبس" (¬1)، وكذلك قال في الرقيق سواءً (¬2)، فهو أمين على نفقة امرأته ورقيقه وأولاده، بحكم قيامه عليهم، ولم يوجب الله سبحانه على الأزواج تمليك النساء طعامًا وإدامًا، ولا دراهم أصلًا، وإنما أوجب إطعامهنّ [102 ب] وكسوتهنّ بالمعروف، وإيجاب التمليك مما لم يدل عليه كتابٌ، ولا سنة، ولا إجماع. وكذلك فرضُ النفقة وتقديرها بدراهم: لا أصل له في كتابٍ، ولا سُنة، ولا قول صحابي، ولا تابعٍ، ولا أحدٍ من الأئمة الأربعة. فإن الناس لهم قولان: منهم مَن يرى تقديرها بالحَبّ كالشافعي، ومنهم من يردّها إلى العرف وهم الجمهور، ولا يُعرف عن أحدٍ من السلف والأئمة تقديرها بالدراهم البتّة. ثم إنّ فيه إيجاب المعاوضة على الواجب لها بغير رضا الزوج، ومن ¬

_ (¬1) رواه البيهقي في الشعب (7/ 377) من حديث ابن عمر رضي الله عنهما به إلا أنه قال: "مما تكتسي". وروى أحمد (4/ 446، 447، 5/ 3)، وأبو داود (2144، 2145، 2146)، والنسائي في الكبرى (9151، 9171، 11104، 11431)، وابن ماجة (1850)، وغيرهم من حديث معاوية بن حيدة رضي الله عنه بمعناه، وفي إسناده اختلاف، وصححه ابن حبان (1268)، والدارقطني في العلل كما في التلخيص الحبير (4/ 17)، والحاكم (2764)، وحسنه النووي في رياض الصالحين (275)، والعراقي في المغني (1517)، وابن حجر في تغليق التعليق (4/ 431)، وصححه ابن دقيق العيد في الإلمام (1277)، وابن الملقن في البدر المنير (8/ 290)، وهو مخرَّج في الأرواء (2033). (¬2) أخرجه البخاري (30)، ومسلم 51661) عن أبي ذر.

مبنى الحكم في الدعاوى على غلبة الظن المستفادة من البراءة الأصلية، أو من الإقرار أو البينة

غير (¬1) اعتبار كون الدراهم قيمةَ الواجب لها من الحَبّ، أو الواجب بالعرف، ففرضُ الدراهم مخالفٌ لهذا وهذا، ولأقوال جميع السلف والأئمة، وفيه من الفساد ما لا يحصيه إلا الله؛ فإنه إن مَكّن المرأة تخرج كلّ وقتٍ تشتري لها طعامًا وإدامًا، دخل على الزوج والزوجة من الشرّ والفساد ما يشهدُ به العيان، وإن منعها من الخروج أضرّ بها وبالزوج، وجعله كالأجير والأسير معها. وبالجملة، فمبنى الحكم في الدعاوَى على غَلبة الظنّ المستفاد من براءة الأصل تارة، ومن الإقرار تارة، ومن البينة تارة، ومن النكول مع يمين الطالب المردودة، أو بدونها، وهذا كلُّه مما يُبيِّن الحق ظاهرًا؛ فهو بَيِّنَةٍ، وتخصيص البَيِّنة بالشهود عرفٌ خاص، وإلا فالبينة اسمٌ لما يبيِّن الحقّ، فمن كان ظنُّ الصدق من جانبه أقوى كان بالحكم أولى، ولهذا قدّمنا جانب المدّعى عليه، حيث لا بينة، ولا إقرار، ولا نُكول، ولا شاهد حال، استنادًا إلى الظن المستفاد من البراءة الأصلية. فإن كان في جانب المدّعي بَيّنةٌ شرعية قُدّم؛ لقوة الظن في جانبه بالبينة. وكذلك إذا كان في جانبه قرينةٌ ظاهرةٌ كاللَّوْث قُدِّم جانبه. وكذلك قُدِّم جانبه في اللِّعان إذا نكلت المرأة؛ فإنها تُرجَم بأيمانه، لقوّة الظن في جانبه بإقدامه على اللعان، مع نكول المرأة عن دفع الحدّ والعار عنها باليمين. وقد أجمع الناس على جواز وطء المرأة التي تُزَفّ إلى الزوج ليلة ¬

_ (¬1) م: "تحيز".

العُرْس، وإن لم يكن رآها، ولا وُصفَتْ له، من غير اشتراط شاهدَيْ عدل يشهدان أنها هي امرأته التي وقع عليها العقد، اكتفاءً بالظن الغالب، بل بالقَطْع المستفاد من شاهد الحال. وكذلك يجوز الأكلُ من الهدْي المنحور إذا كان بالفلاة، ولا أحدَ عنده، اكتفاءً بشاهدِ الحال. وكذلك دَرَجَ السلفُ والخلف على جوازِ أكل الفقير مما يدفعه إليه الصبيّ ويخرجُهُ من البيت من كِسرةٍ ونحوها، اعتمادًا على شاهدِ الحال. وكذلك يُكتفَى بشاهدِ الحال في بيع المحقَّرات بالمعاطاة، وهو عمل الأمة قديمًا وحديثًا. واكتفى الشارع بسكوت البكر في الاستئذان، وجعله دليلًا على رضاها (¬1)، اكتفاءً بشاهد الحال. واكتفت الأمَّة في الاعتماد على المعاملات، والهدايا، والتبرعات، بكونها بيد الباذل؛ لأن دلالتها على ملكه تورثُ ظنًّا ظاهرًا. واكتفتْ بمعاملة مجهول الحرية والرُّشد، وإقراره، وأكل طعامه، وقبول هديته، وإباحة الدخول إلى منزله، اعتمادًا على شاهد الحال، والظن الغالب. واكتفى الشارعُ بقول الخارص الواحد في مَحَلَّ الظن والخَرْصِ (¬2)، نظرًا إلى الظن المستفاد من خَرْصه. ¬

_ (¬1) كما في حديث عائشة الذي أخرجه البخاري (6971). وفي الباب عن غيرها. (¬2) أخرجه أبو داود (3410)، وابن ماجة (1820) عن ابن عباس.

واكتفت الأمّة بقول المقَؤَمين فيما دَق وجَلّ، اعتمادًا على الظنّ المستفاد من تقويمهم. وقد اكتفى الشارعُ بتقويم اثنين في جزاء الصَّيد، واكتفى بواحد في الخرْص، واكتفى بواحد في رؤية هلال رمضان. واكتفت الأمة بقول القاسم وحده، أو بقول اثنين، وكذلك القائف، أو القائفين، واكتفت بقول المؤذن الواحد. وقد اكتفى كثير من الفقهاء بانتساب [103 أ]، الصغير، ومَيْل طبعه إلى من ادّعاه من رجلين أو أكثر، اعتمادًا على الظن المستفاد من مَيْل طبعه، وهو من أضعف الظنون، ولذلك كان في آخر رُتب الإلحاق عندهم، عند عدم القائف. وكذلك الاعتماد في وجوب دَفع اللُّقَطَةِ أو جوازه على الظنّ المستفاد من وَصفِ الواصف لها. وكذلك الاعتماد على أمارات الطهارة، والنجاسة، والقبلة، والاعتماد على قول الكيّال والوزَّان، وقال كثير من الفقهاء بحبس المدعى عليه بشهادة المستورَيْن إلى أن يُعَدَّلا؛ إذ الغالب من المستورين العدالة. فاستجازوا عقوبة الرجل المسلم بمثل هذا الظن. وقالوا: نسمعُ الشهادة على المقرّ بالإقرار، من غير اشتراطِ ذكرِ الشاهدين أهْلِيّة المقرّ حال إقراره؛ اعتمادًا على ظن الرشد والاختيار. وقالوا: إذا كان الجدار حائلًا بين الطريق وبين ملك المدّعي، أو بين ملكه وبين مواتٍ، اختَصَّ به المدعي؛ لأن الظاهرَ أن الطريق والموات لا يحاط عليهما.

وقالوا: لو كان بين الملكين جدار متصل بأبنية أحد المُلكين اتصالًا بدَواخل وترصيف، اختص به صاحب الترصيف؛ لقوة الظن من جانبه؛ إذ معه دلالتان، إحداهما: الاتصال، والثانية: التداخل والترصيف، فلو تداخل من أحد طرفيه في ملك أحدهما، ومن الطرف الآخر في الملك الأخر اشتركا فيه؛ لتساويهما في الدلالتين. وقالوا: إن الأبواب المشرّعة في الدّروب غير النافذة دالَّة على الاشتراك في الدرب إلى حدّ كل باب منها، فيكون الأول شريكًا من أول الدرب إلى بابه، والثا في شريكًا إلى بابه، والذي في آخر الدرب شريك من أول الدرب إلى بابه، قولًا واحدًا، وإلى آخر الدرب على الصحيح وعلى كلٍّ؛ بناءً على الظنّ المستفاد من الاستطراق، وأنه بِحَقٍّ. وقالوا: إن الأجنحة المطِلّة على مُلك! لجار وعلى الدروب غير النافذة، أنها ملك لأصحّابها؛ اعتمادًا على غلبة الظن بذلك، وأنها وضعت باستحقاق. وكذلك القنوات والجداولُ الجارية في ملك الغير دالَّةٌ على اختصاصها بأرباب المياه؛ بناءً على الظن المستفاد من ذلك، وأن صورها دالَّة على أنها وُضعت باستحقاق. ومن ذلك: دلالة الأيدي على الاستحقاق، اعتمادًا على الظن الغالب، مع القطع بكثرة وَضْع الأيدي عدوانًا وظلمًا، ولا سيَّما ما اطَّردت العادة بإجارته وخروجه عن يد مالكه إلى يد مستأجره، كالأراضي، والدوابّ، والحوانيت، والرّباع، والحمامات، وأن الغالب فيها الخروج عن يد مالكها، وقد اعتبرتُم اليد، وقد استشكل كثير من فُضلاء أصحابكم هذا، واعترف بأن

الإقرار مقدم على الشهود، لأن وازعه طبيعي ووازع الشهود شرعي

جوابه مشكل جدًّا، ولما كان الظن المستفادُ من الشهود أقوى من الظن المستفاد من هذه الوجوه قُدِّم عليها. ولما كان الظن المستفاد من الإقرار أقْوَى من الظن المستفاد من الشهود، قُدِّم الإقرار عليها. ولذلك اكتفى كثيرٌ من الفقهاء بالمرّة الواحدة في الإقرار بالزنى والسرقة، لهذه القوة. قالوا: لأن وازع المقرّ طَبْعيٌ، ووازع الشهود شرعي، والوازع الطبعي أقوى من الوازع الشرعى. وكذلك يُقبل الإقرار من المسلم، والكافر، والبر، والفاجر؛ لقيام الوازع الطبعي. ولما كان الوازع عن الكذب على نفسه مخصوصًا بالمقرّ كان إقراره حجة قاصرة عليه وعلى من يتلقى عنه؛ لكونه فَرْعَهُ. ولما كان الوازع الشرعي عامًّا بالنسبة [103 ب] إلى جميع الناس كان حجة عامة؛ فإن خوف الله يزعُ الشاهدَ عن الكذب في حقِّ كل أحد، وكان قوله حجةً عامة لكل أحدٍ. ولما كان وازع الكذب مختصًّا بالمقرّ قُصِر عليه، فهو خاص قويّ، والشهادة عامّة ضعيفة بالنسبة إلى الإقرار، قوية بالنسبة إلى الأيدي، وإلى ما ذكرناه من الدلالات. ومعلوم أن الظنون لا تقع إلا بالأسباب، تُثيرها وتحركها. فمن أسبابها: الاستصحابُ، واطّراد العادة، أو كثرةُ وقوعها، أو قول الشاهد، أو شاهد الحال.

تعارض أسباب الظنون

ولا يقعُ في الظنون تعارض، وإنما يقع في أسبابها وعلاماتها. فإذا تعارضت أسبابُ الظنون: فإن حصل الشكّ لم يحُكم بشيء، وإن وُجد الظن في أحد الطرفين حُكم به، والحكم للراجح؛ لأن مرجوحيّة مقابله تدُلّ على ضعفه. فإذا تعارض سَبَبًا ظنٍّ وكان كل منهما مكذبًا للآخر تساقطا، كتعارُض البيّنتين والأمارتين. وإن لم يكن كلّ واحد منهما مكذبًا للآخر عُمل بهما على حسب الإمكان، كدابةٍ عليها راكبان، وعبدٍ مُمْسِكٍ بيديه اثنان، ودارٍ فيها ساكنان، وخَشَبةٍ لها حاملان، وجِدار متصل بملْكَين، ونظائر هذا. فإن كان أحدُهما أرجح من الآخر عُمِل بالراجح، كالشاهد مع البراءة الأصلية ومع اليد، يُقدّم عليهما لرجحانه. ولما كانت اليدُ لها مراتبُ في القوة والضعف، وكان اللّابس لثيابه، وعمامته، وخُفّه، ومِنْطَقته، ونعله، أقوى من يَدِ الجالس على البساط، والراكب على الدّابّة، ويدُ الراكب أقوى من يد السائق والقائد، ويدُ الساكن للدار أضعَفَ من تلك الأيدي، ويدُ مَنْ هو داخل الحمام والخانِ أضعف من هذا كلُّه، قُدّم أقوى الأيدي على أضعفها. فلو كان في الدار اثنان، وتنازعا فيها، وفى لباسهما الذي عليهما، جُعلت الدار بينهما؛ لاستوائهما في اليد، وكان القولُ قولَ كل منهما في لباسه المختص به؛ لقوة يده بالقُرْب والاتصال. ولو تنازع الراكب والسائق والقائد قدّمت يد الراكب، وكذلك قال الجمهور.

وإذا تنازع الزوجان في متاع البيت، أو الصانعان في حانوتٍ، كان القولُ قولَ مَنْ يدّعي منهما ما يَصلحُ له وَحدهُ؛ لغَلَبة الظنّ القريب من القطع باختصاصه به. وكذلك لو رأينا رجلًا شريفًا حاسِرَ الرأس، وأمامَه داعِرٌ على رأسه عمامةٌ، وبيده عمامةٌ لا تليق به، وهو هاربٌ، فتقديمُ يدِه على الظن المستفاد من كَوْنها يدًا عاديةً مما يُقطعُ ببطلانه. وكذلك فقيهٌ له كتبٌ في دارِه، وامرأتهُ غير معروفة بشيء من ذلك البتة، فتقديمُ يدها على شاهد حال الفقيه في غاية البعد. وأين الظنّ المستفاد من هذا وأمثاله إلى الظن المستفاد من النكول، ومن الظن المستفاد من اليد؟ بل أين ذاك الظن من الظن المستفاد من الشاهد واليمين؟ ومن الممتنع أن يُرتّبَ الشارعُ الأحكام على هذه الظنون، ولا يرتبها على الظنون التي هي أقوى منها بمراتبَ كثيرة، بل تكاد تقرب من القطع، كما أنه من المحال أن يحُرِّم التأليف للوالدين، ويُبيح شَتْمهما وضربهما. وهل تقديم قولِ المدعى في القسامة إلا اعتمادًا على الظن الواجب باللَّوث؟ وقُدّم هذا الظن على ظنّ البراءة الأصلية لقوَّته. وقد حكى الله سبحانه في كتابه عن الشاهد الذي شهد من أهل امرأة العزيز، وحكم بالقرائن الظاهرة على براءة يوسف عليه السلام، وكذَّب المرأة، بقوله: {إِنْ كَانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِنْ قُبُلٍ فَصَدَقَتْ وَهُوَ مِنَ الْكَاذِبِينَ (26) وَإِنْ كَانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِنْ دُبُرٍ فَكَذَبَتْ وَهُوَ مِنَ الصَّادِقِينَ (27) فَلَمَّا رَأَى قَمِيصَهُ قُدَّ

حكم نبي الله سليمان في المرأتين المتنازعتين على الولد، وكل واحدة تدعيه ابنها

مِنْ دُبُرٍ قَالَ إِنَّهُ مِنْ كَيْدِكُنَّ إِنَّ كَيْدَكُنَّ عَظِيمٌ} [يوسف: 26 - 28]، وسمّى الله سبحانه ذلك آيةً، وهي أبلغُ من البينة، فقال: {ثُمَّ بَدَا لَهُمْ مِنْ بَعْدِ مَا رَأَوُا الْآيَاتِ لَيَسْجُنُنَّهُ حَتَّى حِينٍ} [يوسف: 35]، وحكى الله سبحانه ذلك مُقررًا له غير منكر، وذلك يدل على رضاه به. ومن هذا: حكمُ نبي الله سليمان بن داود عليهما السلام بالولد الذي تنازع فيه المرأتان، فقضى به داود للكبرى، فخرجتا على سليمان، فقَصّتا عليه القصة، فقال سليمان عليه السلام: ائْتُونِي بالسّكين أشقَّه بينكما، فقالت الصغرى: لا تفعل يا نبي الله، هو ابنُها، فقضى به للصغرى (¬1)، ولم يكن سليمان ليفعل، ولكن أوهمهما ذلك، فطابت نفسُ الكبرى بذلك؛ استرواحًا منها إلى راحة التأسِّي والتسليّ بذهاب ابن الأخرى كما ذهب ابنها، ولم يَطِبْ قلب الصغرى بذلك، بل أدركتها شَفَقَةُ الأم ورحمتها، فناشدَتْه أن لا يفعل؛ استرواحًا إلى بقاء الولد، ومشاهدته حيًّا، وإن اتصل إلى الأخرى. وتأمّلْ حكم سليمان به للصغرى وقد أقرّت به للكُبرى تَجِدْ تحته: أن الإقرار إذا ظهرت أماراتُ كذبه وبطلانه لم يُلتفَتْ إليه، ولم يحكم به على المقرّ، وكان وجودُه كعدمه. وهذا هو الحق الذي لا يجوز الحكم بغيره. وكذلك إذا غلط المقرّ، أو أخطأ، أو نسي، أو أقرّ بما لا يعرف مضمونه، لم يُؤاخذ بذلك الإقرار، ولم يحكم به عليه، كما لو أقرّ مكرهًا. والله تعالى رَفع المؤاخذة بلَغْوِ اليمين؛ لكون الحالف لم يقصد موجَبها، وأخبر أنه إنما يؤاخذ بكسب القلب، والغالط والمخطئُ والناسي ¬

_ (¬1) أخرجه مسلم (1720) عن أبي هريرة.

طرق تخلص الزوج المظلوم من دعوى زوجته الكاذبة عليه بالنفقة والكسوة

والجاهل والمكره لم يكسب قلبه ما أقَرّ به أو حلف عليه، فلا يؤاخذ به. والمقصود: أن الزوج المظلوم المدّعَى عليه دَعْوَى كاذبة ظالمة بأنه ترك النفقة والكسوة تلك السنين كلَّها، أو مدة مُقامها عنده، إذا تبيّن كذب المرأة في دعواها لم يجز للحاكم سماعها، فضلًا عن مطالبته بردِّ الجواب. فله طُرق في التخلص من هذه الدعوى: أحدها هذا: أن يقول: كيف يَسُوغ سماع دعوى تُكذِّبها العادة والعرف ومشاهدة الجيران؟ الثاني: أن يقول للحاكم: سَلْها مَنْ كان يُنفِقُ عليها، ويكسوها في هذه المدة؟ فإن ادّعَتْ أن غيره كان يؤدي ذلك عنه لم يُسمع دعواها، وإن كانت الدعوى لذلك الغير، ولا يُقبل قولها على الزوج إن غيره قام بهذا الواجب عنه، وهذا مما لا خفاء به، ولا إشكال فيه. وإن قالت: أنا كنت أنفق على نفسي، قال الزوج: سَلْها هل كانت هي التي كانت تدخل وتخرجُ تشتري الطعام والإدام؟ فإن قالت: نعم، ظهر كذبها، ولاسيَّما إن كانت من ذوات الشرف والأقدار. وإن قالت: كنت أوكّل غيري في ذلك، أُلزمت ببيانه، وإلا ظهر كذبها وظلمها وعدوانها، وكانت معاونتها على ذلك معاونةً على الإثم والعدوان. فإن أعوز الزوج حاكمٌ عالمٌ مُتَحَرٍّ للحق لا تأخذه فيه لومة لامْ، فلْيَعْدل إلى التحيُّل بالخلاص بما يُبطل دعواها الكاذبة، إما بأن يجحد استحقاقها

لِمَا ادَّعَت به، ولا يعدل إلى الجواب المفصّل، فتحتاج هي إلى إقامة البينة على سبب الاستحقاق، وقد يتعذّر أو يتعسر عليها ذلك. فإن أحضرت الصداق وأقامت البينة، فإن كانت لم تنتقل معه إلى داره جحد تسليمها إليه، والقول قوله إذا لم تكن معه في منزله. فإن كانت قد انتقلت معه إلى منزله، وادّعَى نُشوزها تلك المدة، وأمكنه إقامة البينة بذلك، سقطت نفقتها في مدة النشوز، وإن لم يمكنه إقامة البينة، وادّعى عدم تمكينها له من الوطء، وادعت أنها مَكّنته فالقول قوله؛ لأن الأصل عدم التمكين، وهذا غير دعواه النشوز؛ فإن النشوز هو العصيان، والأصل عدمه، وهذا إنكار لاستيفاء حقه، والأصل عدمه فتأمله. فإن كان له منها ولد لم يمكنه هذا الإنكار. ومتى أحس بالشر والمكر احتال بأن يخُبئ شاهديَ عَدْل، بحيث يسمعان كلامها [104 ب]، ولا تراهما، ثم يدفع إليها مالًا، أو ترضى به، ويتلطَّف بها، ثم يقول: أريد أن يجعل كل منا صاحبه في حِلٍّ حتى تطيب أنفسنا، ولعل الموت يأتي بغتةً، ونحو ذلك من الكلام. وإن أمكنه أن يستنطقها بأنها لا تستحق عليه إلى ذلك الوقت نفقة، ولا كسوة، وأنه يرضيها من الآن، ويدفع إليها ما ترضى به، كان أقوى، ثم يأخذ خَطّ الشاهدين بذلك، ويكتمه منها، فإن أعجله الأمر عن ذلك، وأمكنه المبادرة برَفْعِها إلى حاكم مالكِيٍّ أو حَنفيٍّ، بادر إلى ذلك. وبالجملة، فالحازم من يستعدُّ لحِيَلِهِنَّ، ويُعدّ لها حيلًا يتخلص بها منها، وهذا لا بأس به، ولا إثم فيه، ولا في تعليمه؛ فإن فيه تخليص المظلوم، وإغاثة الملهوف، وإخزاء الظالم المعتدي، والله الموفق للصواب.

فصل: المقصود أن الله أغنانا بما شرعه من الحنيفية السمحة عن طرق المكر والخداع وعن كل باطل ومحرم وضار، بالحق والمباح النافع، وسياق أمثلة كثيرة على ذلك

وإنما أطَلْنا الكلام في هذا المثال لشدّة حاجة الناس إلى ذلك، ولعموم البلوى، وكثرة الفجور، وانتشار الضرر بتمكين المرأة من هذه الدعوى، أو سماعها، وجَعْلِ القول قوْ لها، وفى ذلك كفاية، وإلا فهي تحتمل أكثر من ذلك. فصل والمقصود بهذه الأمثلة وأضعافها مما لم نذكره: أن الله سبحانه أغنانا بما شَرَعه لنا من الحنيفية السمحة، وما يسّرَه من الدين على لسان رسوله - صلى الله عليه وسلم -، وسهَّله للأمة: عن الدخول في الآصار والأغلال، وعن ارتكاب طُرق المكر والخداع والاحتيال، كما أغنانا عن كل باطل ومحرم وضارٍّ، بما هو أنفعُ لنا منه من الحق، والمباح النافع. فأغنانا بأعياد الإسلام: عن أعياد الكفار والمشركين من أهل الكتاب، والمجوس، والصابئين، وعَبَدَة الأصنام. وأغنانا بوجوه التجارات، والمكاسب الحلال: عن الربا والميْسر والقِمار. وأغنانا بنكاح ما طاب لنا من النساء مَثْنى وثُلاث ورُباع، والتّسَرّي بما شئنا من الإماء: عن الزنى والفواحش. وأغنانا بأنواع الأشربة اللذيذة، النافعة للقلب والبدن: عن الأشربة الخبيثة المسكرة، المُذْهبة للعقل والدِّين. وأغنانا بأنواع الملابس الفاخرة من الكَتّان، والقُطن، والصوف: عن الملابس المحرّمة من الحرير، والذهب.

وأغنانا عن سماع الأبيات وقرآن الشيطان: بسماع الآيات وكلام الرحمن. وأغنانا عن الاستقسام بالأزلام طلبًا لما هو خيرٌ وأنفعُ لنا: باستخارته التي هي توحيد، وتفويض، واستعانة، وتوكُّل. وأغنانا عن طلب التنافس في الدنيا وعاجلها: بما أحبّه (¬1) لنا ونَدَبنا إليه من التنافس في الآخرة، وما أعدّ لنا فيها، وأباح الحسد في ذلك، وأغنانا به عن الحسد على الدنيا وشهواتها. وأغنانا بالفَرَح بفضله ورحمته وهما القرآن والإيمان: عن الفرَح بما يجمعه أهل الدنيا من المتاع والعقار والأثمان، فقال تعالى: {قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُوا هُوَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ} [يونس: 58]. وأغنانا بالتكبُّر على أعداء الله تعالى، وإظهار الفَخْر والخيلاء لهم: عن التكبُّر على أولياء الله تعالى، والفخر والخُيلاء عليهم، فقال - صلى الله عليه وسلم - لمن رآه يتبختر بين الصَّفَّين: "إنها لمِشْيَةٌ يبغضها الله إلا في مثل هذا الموطن" (¬2). ¬

_ (¬1) ح، ظ، ت: "أباحه". (¬2) رواه البخاري في التاريخ الكبير (3/ 154) والطبراني في الكبير (7/ 104) من طريق خالد بن سليمان بن عبد الله بن خالد بن سماك بن خرشة عن أبيه عن جده، قال الهيثمي في المجمع (6/ 157): "فيه من لم أعرفه". ورواه ابن إسحاق (4/ 13 سيرة ابن هشام) - ومن طريقه الطبري في تاريخه (2/ 63 - 64) - عن جعفر بن عبد الله بن أسلم عن رجل من الأنصار من بني سلمة به مرفوعًا. ورواه البيهقي في الدلائل (3/ 233، 234) والخطيب في المتفق والمفترق من طريق ابن إسحاق عن جعفر بن عبد الله بن أسلم عن معاوية بن معبد بن كعب به مرسلًا، ومعاوية بن معبد لا يُعرَف.

لو كان في الحيل فائدة لنا لجاءت بها سنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم -

وأغنانا بالفروسية الإيمانية، والشجاعة الإسلامية التي تأثيرُها في الغضب على أعدائه ونصرة دينه: عن الفروسية الشيطانية، التي يَبْعث عليها الهَوى وحَمِيَّة الجاهلية. وأغنانا بالخلوَة الشرعية حال الاعتكاف: عن الخلوة البِدْعِيَّةِ التي يُترك لها الحج والجهاد والجمعة والجماعة. وكذلك أغنانا بالطرق الشرعية: عن طُرق أهل المكر والاحتيال. فلا تشتد حاجة الأمة إلى شيء إلا وفيما جاء به الرسول - صلى الله عليه وسلم - يقتضي إباحته (¬1) وتَوسعته، بحيث لا يحوِجهم فيه إلى مكر واحتيال، ولا يُلزمهم الآصار والأغلال، فلا هذا من دينه ولا هذا. كما أغنانا بالبراهين والآيات التي أرشد إليها القرآن: عن الطرق المتكلَّفة المتعَسَّفة المعقَّدة، التي باطلها أضعاف [105 أ] حقِّها، من الطرق الكلامية التي الصحيحُ منها: "كلحم جملٍ غَثٍّ، على رأس جبل وَعْرٍ، لا سهل فيُرتقى، ولا سمين فيُنتقَل" (¬2). ونحن نعلم علمًا لا نشك فيه أن الحيل التي تتضمّن تحليل ما حرّمه الله تعالى، وإسقاط ما أوجبه، لو كانت جائزة لسَنّها الله سبحانه، وندب إليها؛ لما فيها من التَّوْسِعَةِ والفَرَجَ للمكروب، والإغاثة للملهوف، كما ندب إلى الإصلاح بين الخصمين. وقد قال المبعوث بالحنيفية السمحة - صلى الله عليه وسلم -: "ما تركتُ من شيء يُقَرّبكم ¬

_ (¬1) في الأصل: "حاجته". (¬2) جزء من حديث أم زرع الذي أخرجه البخاري (5189)، ومسلم (2448) عن عائشة.

لو كان مقصود الشارع إباحة المحرمات بالحيل لما حرمها أولا

إلى الجنة إلا وقد حدثتكم به، ولا تركتُ من شيء يبعدكم عن النار إلا وقد حدثتكم به" (¬1). "تركتكم على البيضاء، ليلُها كنهارها، لا يَزيغ عنها بعدي إلا هالك" (¬2). فهلّا ندبَ النبي - صلى الله عليه وسلم - إلى الحِيَل، وحَضّ عليها، كما حضّ على إصلاح ذات البَيْنِ؟ بل لم يزل يُحذّر من الخداع، والمكر، والنفاق، ومشابهة أهل الكتاب باستحلال محارمه بأدنى الحيل. ولو كان مقصود الشارع إباحة تلك المحرمات، التي رَتَّب عليها أنواع الذم والعقوبات، وسدّ الذرائع الموصّلة إليها، لم يحرمها ابتداء، ولا رتَّب عليها (¬3) العقوبة، ولا سدَّ الذرائع إليها، ولكان تركُ أبوابها مُفَتَّحةً أسهل من المبالغة في غلقها وسدِّها، ثم يفتح لها أنواع الحيل، حتى يُنقّب المحتال ¬

_ (¬1) ذكره بهذا اللفظ ابن تيمية كما في المجموع (5/ 156، 6/ 368، 27/ 372) وصححه (11/ 622)، ورواه ابن أبي شيبة (7/ 79)، وابن راهويه كما في إتحاف الخيرة (2722)، وهناد في الزهد (494)، والبيهقي في الشعب (7/ 299)، والبغوي في شرح السنة (4111، 4113)، وغيرهم من حديث ابن مسعود رضي الله عنه بنحوه، وفي إسناده اختلاف، وقال البوصيري وابن حجر في المطالب العالية (5/ 576): "فيه انقطاع"، ورواه الحاكم (2136) من طريق سعيد بن أبي أمية الثقفي عن يونس بن بكير عن ابن مسعود، وهو في السلسلة الصحيحة (2866). وفي الباب عن أبي ذر وعن المطلب بن حنطب وعمران صاحب معمر. (¬2) هو جزء من حديث العرباض بن سارية رضي الله عنه في موعظة النبي - صلى الله عليه وسلم - البليغة، وقد تقدم تخريجه. وفي الباب عن أبي الدرداء رضي الله عنه. (¬3) "عليها" ساقطة من م.

فصل: الطرق التي تدفع الظلم وتذب عن الدين وتدحض الباطل: من أنفع الطرق وأجلها علما وعملا وتعليما

عليها من كل ناحية، فهذا مما يُصان عنه الشرائع، فضلًا عن أكملها شريعة وأفضلها دينًا. وقد قدّمنا أن الضرر والمفاسد الحاصلة من تلك المحرمات لا يزول بالاحتيال والنَّقْبِ عليها، بل تقوى وتشتدُّ مفاسدها. فصل إذا عُرِفَ هذا فالطرقُ التي تتضمن نفعَ المسلمين، والذَّبَّ عن الدِّين، ونصرَ المظلومين، وإغاثةَ الملهوفين، ومعارضةَ المحتالين بالباطل ليُدحِضوا به الحق: من أنفع الطرق، وأجلّها علمًا وعملًا وتعليمًا. فيجوز للرجل أن يُظهر قولًا أو فعلًا مقصودُه به مقصود صالح، وإن ظن الناس أنه قصد به غير ما قصد به، إذا كان فيه مصلحة دينية، مثل دفع ظلم عن نفسه، أو عن مسلم، أو معاهد، أو نصرة حق، أو إبطال باطل من حيلة محرمة أو غيرها، أو دفع الكفار عن المسلمين، أو التوصُّل إلى تنفيذ أمر الله تعالى ورسوله. فكل هذه طرق جائزة، أو مستحبة، أو واجبة. وإنما المحرَّم أن يقصد بالعقود الشرعية غير ما شُرِعَت له، فيصير مخادعًا لله. فهذا مخادع لله ورسوله، وذاك مخادع للكفار والفجار والظلمة، وأرباب المكر والاحتيال، فبين هذا الخداع وذاك الخداع من الفرق كما بين البِرّ والإثم، والعدل والظلم، والطاعة والمعصية. فأين مَنْ قَصْدُهُ إظهارُ دين الله تعالى، ونصر المظلوم، وكسر الظالم، إلى من قصده ضد ذلك؟ إذا عُرف هذا فنقول: الحِيَل أقسام:

أحدها: الطرق الخفيَّة التي يتوصل بها إلى ما هو محرَّم في نفسه، فمتى كان المقصود بها محرَّمًا في نفسه فهي حرام باتفاق المسلمين، وصاحبها فاجر ظالم آثم. وذلك كالتحيّل على هلاك النفوس، وأخذ الأموال المعصومة، وفسادِ ذات البَيْنِ، وحيل الشياطين على إغواء بني آدم، وحيل المخادعين بالباطل على إدحاض الحق، وإظهار الباطل في الخصومات الدينية والدنيوية، فكلُّ ما هو محرَّم في نفسه فالتوصل إليه محرَّم بالطرق الظاهرة والخفية، بل التوصل إليه بالطرق الخفية أعظم إثمًا، وأكبر عقوبة؛ فإن أذَى المخادع وشَرَّه يصل إلى المظلوم من حيثُ لا يشعر، ولا يمكنه الاحتراز عنه، ولهذا قُطع السارق دون المنتهب والمختلس. ومن هذا: رأى مالك ومَنْ وافقه أن القاتل غِيلةً يُقتل، وإن قَتل مَنْ لا يكافئه؛ لمفسدة فعله، وعدم إمكان التحرز منه. ومن هذا: رأى عبد الله بن الزبير رضي الله عنه قَطْعَ يد الزُّغلي (¬1)؛ لعظم ضرره على الأموال، وعدم إمكان التحزُز منه، فهو أولى بالقطع من السارق، وقولُه قويٌّ جدًّا. ¬

_ (¬1) لم أقف عليه بهذا النصّ، والزُغليّ هو الغاشّ، فلعلّه يقصد ما رواه ابن أبي شيبة (5/ 519) وابن حزم في المحلى (11/ 321) عن سعيد بن ميناء قال: كان عبد الله بن الزبير يلي صدقةَ الزبير، وكانت في بيتٍ لا يدخله أحدٌ غيره وغير جارية له، ففَقَد شيئًا من المال، فقال للجارية: ما كان يدخل هذا البيت غيري وغيرك، فمن أخذ هذا المال؟ فأقرّت الجارية، فقال لي: يا سعيد، انطلق بها فاقطع يدها؛ فإنّ المال لو كان لي لم يكن عليها قطع.

وهذا النوع من الحيل إما أن يظهر مقصود صاحبه من الشر، كاللصوص والظلمة، أو لا يظهر مثل إقرار المريض لوارث إضرارا بالورثة ونحوه

[105 ب] ومن هذا: رأى الإمام أحمد قطعَ يد جاحد العاريَّة؛ لأنه لا يمكن الاحتراز منه، بخلاف جاحد الوديعة، فإنه هو الذي ائتمنه. والعُمدة في ذلك: على السنة الصحيحة التي لا معارض لها. والقصد أن التوصل إلى الحرام حرام، سواءً توصل إليه بحيلة خفيَّة أو بأمر ظاهر، وهذا النوع من الحيل ينقسم قسمين: أحدهما: ما يظهر فيه أن مقصود صاحبه الشر والظلم، كحيل اللصوص، والظلَمة، والخَوَنة. والثاني: ما لا يظهر ذلك فيه، بل يُظهر المحتال أن قصده الخير، ومقصودُه الظلم والبغْيُ، مثل إقرار المريض لوارثٍ لا شيء له عنده، قصدًا لتخصيصه بالمقرِّ به، أو إقراره بوارث وهو غير وارث، إضرارًا بالورثة. وهذا حرام باتفاق الأمة، وتعليمه لمن يفعله حرام، والشهادة عليه حرام، إذا علم الشاهد صورةَ الحال، والحكم بموجب ذلك حكم باطلٌ حرام، يأثمُ به الحاكم باتفاق المسلمين، إذا علم صورة الحال، فهذه الحيلة في نفسها محرَّمة لأنَّها كذبٌ وزور، والمقصود بها محرَّم لكونه ظلمًا وعدوانًا. ولكن لمَّا أمكن أن يكون صدقًا، اختلف العلماء في إقرار المريض لوارثٍ، هل هو باطل سدًّا للذريعة، وردًّا للإقرار الذي صادف حق الورثة فيما هو متهم فيه؛ لأنه شهادة على نفسه فيما تعلق به حقهم، فيردّ للتهمة، كالشهادة على غيره؟ أو هو مقبول إحسانًا للظن بالمقِرّ، ولا سيَّما عند الخاتمة؟

القسم الثالث: ما هو مباح في نفسه لكن صار محرما بقصد الحرام

ومن هذا الباب: احتيال المرأة على فَسْخ نكاح الزوج، مع إمساكه بالمعروف، بإنكارها الإذن للوليّ، أو إساءة عِشرة الزوج، ونحو ذلك. واحتيال البائع على فسخ البيع بدعواه أنه كان محجورًا عليه. واحتيال المشتري على الفسخ بأنه لم يَرَ المبيع. واحتيال المؤجّر على المستأجر في فسخ الإجارة، أو احتيال المستأجر عليه بأنه استأجر ما لم يره. واحتيال الراهن على المرتهن في فسخ الرهن بأن يُظهر أنه آجَرَه قبل الرهن، أو كان رَهنه عند زوجته، أو أمته (¬1)، ونحو ذلك. فهذا النوع لا يستريبُ أحدٌ أنه من كبائر الإثم، وهو من أقبح المحرَّمات، وهو بمنزلة لحم خنزير، من جهة أنه (¬2) في نفسه معصية؛ لتضمُّنه الكذب والزُّور، ومن جهة تضمُّنه إبطال الحق، وإثبات الباطل. القسم الثالث (¬3): ما هو مباحٌ في نفسه، لكن بقصد المحرم صار حرامًا، كالسفر لقطع الطريق، ونحو ذلك، فهاهنا المقصود حرامٌ، والوسيلة في نفسها غير محرَّمة، لكن لما توسّل بها إلى الحرام صارت حرامًا. القسم الرابع: أن يقصد بالحيلة أخذ حقٍّ، أو دفع باطل، لكن يكون الطريق إلى حصول ذلك محرّمة، مثل أن يكون له على رجل حقّ فيجحده، فيقيم شاهدين لا يعرفان غريمه ولم يرياه، يشهدان له بما ادّعاه، فهذا محرّم أيضًا، وهو عند الله تعالى عظيم، لأن الشاهدين يشهدان بالزور، وشهادة ¬

_ (¬1) في بعض النسخ: "ابنه". (¬2) في الأصل وبقية النسخ: "ميت حرام أنه". وهو تحريف لا معنى له. (¬3) لم يذكر المؤلف القسم الثاني. ولكن جعل القسم الأول قسمين، فقام مقامه.

أقوال الفقهاء فيمن ظفر بحقه عند من يمنعه منه أويظلمه إياه

الزور من الكبائر، وقد حملهما على ذلك. وكذلك لو كان له عند رجل دَين، فيجحده إياه، وله عنده وديعةٌ، فَجَحد الوديعة، وحلف أنه لم يودعه. أو كان له على رجل دَيْنٌ لا بيِّنة له به، ودين آخر به بينة، لكنه اقتضاه منه، فيدّعي هذا الدين، ويقيم به بينة، وينكر الاستيفاء. أو يكون قد اشترى منه شيئًا، فظهر به عيب تَلِفَ المبيع به، فادّعى عليه بثمنه، فأنكر أصل العقد، وأنه لم يشترِ منه شيئًا. أو تزوج امرأة، فأنفق عليها مدة طويلة، فادَّعت عليه أنه لم ينفق عليها شيئًا، فجحد نكاحها بالكلِّية. فهذا حرام أيضًا؛ لأنه كذب، ولاسيما إن حلف عليه، ولكن لو تأوَّل في يمينه لم يكن به بأس، فإنه مظلوم. فإن قيل: فما تقولون لو عامله معاملة رِبًا، فقبض رأس ماله، ثم ادّعى عليه بالزيادة المحرَّمة، هل يسوغُ له أن ينكر المعاملة أو يحلفَ عليها؟ قيل: يَسُوغُ له الحَلِفُ على عدم استحقاقها، وأن دعواها دعَوَى باطلة، فلولم يقبلْ منه الحاكمُ هذا الجوابَ ساغ له التأويل في [106 أ] اليمين؛ لأنه مظلوم، ولا يسوغُ له الإنكارُ والحلفُ من غير تأويل؛ لأنه كذب صريح، فليس له أن يُقابل الفجور بمثله، كما أنه ليس له أن يكذبَ على من كذب عليه، أو يقذف من قذفه، أو يَفجُر بزوجةِ مَنْ فَجَر بزوجته، أو بابنِ مَنْ فَجر بابْنِهِ. فإن قيل: فما تقولون في مسألة الظَّفَرِ؟ هل هي من هذا الباب، أو من القصاص المباح؟

حق الضيف في قراه إذا منعوه إياه

قيل: قد اختلف الفقهاء فيها على خمسة أقوال: أحدها: أنها من هذا الباب، وأنه ليس له أن يخون مَنْ خانه، ولا يجْحَد من جحده، ولا يغصب من غصبه، وهذا ظاهر مذهب أحمد ومالك. والثاني: يجوز له أن يَسْتَوْفي قدر حقَّه إذا ظفر بماله، سواءً ظفر بجنسه أو غير جنسه، وفى غير الجنس يدفعه إلى الحاكم يبيعه، ويستوفي ثمنه منه، وهذا قول أصحاب الشافعي. والثالث: يجوز له أن يستوفي قدر حقّه إذا ظفر بجنس ماله، وليس له أن يأخذ من غير الجنس، وهذا قول أصحاب أبي حنيفة. والرابع: أنه إن كان عليه دين لغيره لم يكن له الأخذ، وإن لم يكن عليه دَينٌ فله الأخذ، وهذا إحدى الروايتين عن مالك. والخامس: أنه إن كان سببُ الحق ظاهرًا كالنِّكَاح، والقرابة، وحق الضيف، جاز للمستحق الأخذ بقدر حقّه، كما أذن فيه النبي - صلى الله عليه وسلم - لهندٍ أن تأخذ من مال أبي سفيان ما يكفيها ويكفي بَنِيها (¬1)، وكما أذن لمن نزل بقوم ولم يُضيّفوه أن يُعْقِبَهم في مالهم بمثل قِراه، كما في "الصحيحين" (¬2) عن عقْبة بن عامر، قال: قلت للنبي: إنك تبعثنا، فننزلُ بقوم لا يَقْرونا، فما ترى؟ فقال لنا: "إن نزلتم بقوم، فأمروا لكم بما ينبغي للضيف، فاقبلوا، وإن لم يفعلوا فخذوا منهم حق الضيف الذي ينبغي لهم". ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري (2460)، ومسلم (1714) عن عائشة. (¬2) أخرجه البخاري (2461)، ومسلم (1727).

حديث: "أيما ضيف نزل بقوم" إلخ

وفي "المسند" (¬1) من حديث المِقْدام أبي كَريمة، أنه سمع النبي - صلى الله عليه وسلم - يقول: "من نزل بقوم فعليهم أن يَقْروه، فإن لم يَقروه فله أن يُعْقِبَهم بمثل قِراه". وفي "المسند" لأحمد (¬2) أيضًا من حديث أبي هريرة رضي الله عنه، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "أيُّما ضيفٍ نزل بقوم، فأصبح الضيف محرومًا، فله أن يأخذ بقدر قِراه، ولا حَرَج عليه". وإن كان سبب الحق خفيًّا، بحيث يُتّهم بالأخذ، وينسب إلى الخيانة ظاهرًا، لم يكن له الأخذ وتعريض نفسه للتهمة والخيانة، وإن كان في الباطن آخذًا حقَّه، كما أنه ليس له أن يتعرض للتهمة التي تُسلّط الناس على عِرْضه، وإن ادّعى أنه مُحِقٌّ غير مُتَّهم. ¬

_ (¬1) مسند أحمد (4/ 130)، ورواه أيضًا أبو داود (3806، 4606)، والطحاوي في شرح المعاني (6155) وفي شرح المشكل (7/ 248)، والطبراني في الكبير (20/ 282. 283) وفي مسند الشاميين (1061. 1563. 1881)، والدارقطني (4/ 287)، والبيهقي في الكبرى (9/ 332)، وغيرهم من طرقٍ عن عبد الرحمن بن أبي عوف الجرشي عن المقدام به، وورد من طريق الشعبي وسعيد بن المهاجر وأبي يحيى سليم بن عامر الكلاعي عن المقدام بمعناه، وهو في السلسلة الصحيحة (2870). (¬2) مسند أحمد (2/ 380) من طريق معاوية بن صالح عن أبي طلحة نعيم بن زياد عن أبي هريرة، وبهذا الإسناد رواه الطحاوي في شرح المعاني (6153، 6154) وفي شرح المشكل (7/ 248، 249)، وصححه الحاكم (7178)، وقال المنذري في الترغيب (3/ 251) والهيثمي في المجمع (8/ 321): "رجاله ثقات"، وهو في السلسلة الصحيحة (640).

حديث: "أد الأمانة إلى من ائتمنك ولا تخن من خانك" وشواهده

وهذا القول أصح الأقوال وأسدُّها، وأوفقها لقواعد الشريعة وأُصولها، وبه تجتمع الأحاديث. فإنه قد روى أبو داود في "سننه" (¬1) من حديث يوسف بن ماهَك، قال: كنت أكتب لفلان نفقة أيتامٍ كان وَليَّهم، فغالطوه بألف درهم، فأدّاها إليهم، فأدركتُ له من أموالهم مثلها، فقلت: اقبض الألف الذي ذهبوا به منك، قال: لا، حدّثني أبي، أنه سمع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: "أدِّ الأمانة إلى مَنِ ائتمنك، ولا تخنْ من خانك". وهذا وإن كان في حكم المنقطع فإن له شاهدًا من وجه آخر، وهو حديث طَلْق بن غَنّام (¬2). أخبرنا شريك، وقيس، عن أبي حَصين، عن أبي ¬

_ (¬1) سنن أبي داود (3536)، ورواه أيضًا أحمد (3/ 414)، والدولابي في الكنى (359)، والبيهقي في الكبرى (15/ 275) من طريق أبي داود وقال: "هذا الحديث في حكم المنقطع؛ حيث لم يذكر يوسف بن ماهك اسمَ من حدّثه، ولا اسمَ من حدَّث عنه من حدثه"، وقال ابن السكن كما في البدر المنير (7/ 300): "رُوِي من أوجه ثابتة". (¬2) رواه الدارمي (2597)، وأبو داود (3537)، والترمذي (1264)، والطحاوي في شرح المشكل (5/ 91، 92)، والطبراني في الأوسط (3595)، والدارقطني (3/ 35)، والبيهقي (15/ 271) وقال: "قيس ضعيف؛ وشريك لم يحتجّ به أكثر أهل العلم بالحديث، وإنما ذكره مسلم في الشواهد"، ونَقَل عن الشافعي قوله: "ليس بثابت عند أهل الحديث"، ونُقِل عن أحمد أنه قال: "هذا حديث باطل، لا أعرفه عن النبي - صلى الله عليه وسلم - من وجهٍ صحيح"، واستنكره أبو حاتم كما في العلل (1/ 375)، وضعفه ابن حزم في المحلى (8/ 182)، وابن الجوزي في العلل المتناهية (2/ 593)، وابن القطان في كان الوهم والإيهام (1314)، وقال الترمذي: "حسن غريب"، وصححه الحاكم (2296)، وابن دقيق العيد في الإلمام (1060)، وقواه الذهبي في تلخيص =

صالح، عن أبي هريرة رضي الله عنه، أن النبي - صلى الله عليه وسلم - يقال: "أدّ الأمانة إلى من ائتمنك، ولا تخن من خانك". وقيس هو ابن الرّبيع، وشريكٌ ثقةٌ، وقد قوي حديثه بمتابعة قيس له، وإن كان فيه ضعف. وله شاهد آخر من حديث أيوب بن سُويد، عن ابن شَوْذَب عن أبي التّياح، عن أنس رضي الله عنه، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - (¬1). وأيوب بن سُويد وإن كان فيه ضعف، فحديثه يصلح للاستشهاد به. وله شاهد آخر وإن كان فيه ضعف، فهو يقوَى بانضمام هذه الأحاديث إليه: رواه يحيى بن أيوب (¬2)، [106 ب] عن إسحاق بن أسيدٍ، عن أبي حفص ¬

_ العلل (581)، والسخاوي في المقاصد الحسنة (ص 76)، والشوكاني في النيل (6/ 29)، وهو في السلسلة الصحيحة (423). وفي الإرواء (1544). (¬1) رواه الطبراني في الصغير (475) وفي مسند الشاميين (1284)، وابن عدي في الكامل (1/ 362)، والدارقطني (3/ 35)، والحاكم (2297)، وأبو نعيم في الحلية (6/ 132)، والقضاعي في مسند الشهاب (743)، والبيهقي في الكبرى (15/ 271) وقال: "أيوب بن سويد ضعيف"، وقال ابن عدي: "هو منكر بهذا الإسناد"، وضعفه ابن الجوزي في العلل المتناهية (2/ 593). ورواه الطبراني في الكبير (1/ 261) - ومن طريقه الضياء في المختارة (2738) - من طريق ضمرة عن ابن شوذب به، قال الهيثمي في المجمع (4/ 256): "رجال الكبير ثقات"، فإن كانت هذه الطريق محفوظةً فهي عاضدة للطريق السابق والله أعلم. (¬2) رواه الطبراني في الكبير (8/ 127) وفي مسند الشاميين (3414) بدون القضة، قال البيهقي في الكبرى (15/ 271): "هذا ضعيف؛ لأنّ مكحولا لم يسمع من أبي أمامة شيئًا، وأبو حفص الدمشقي هذا مجهول"، وقال الهيثمي في المجمع (4/ 256): =

الدمشقي، عن مكحول: أن رجلًا قال لأبي أمامة الباهليّ: الرجلُ أستودعه الوديعة، أو يكون لي عليه دَين، فيجحدني، ثم يستودعني، أو يكون له عندي الشيء، فيجحد في، ثم يستودعني، أفأجحده؟ فقال: لا، سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: "أدّ الأمانة إلى من ائتمنك، ولا تخنْ من خانك". وله شاهد آخر مرسل (¬1): قال يحيى بن أيوب: عن ابن جُريج، عن الحسن، عن النبي - صلى الله عليه وسلم -: "أدّ الأمانة إلى من ائتمنك، ولا تخن من خانك". وله شاهد آخر، وهو ما رواه الترمذي (¬2) من حديث مالك بن نَضْلة، قال: قلت: يا رسول الله! الرجل أمُرّ به، فلا يَقريني، ولا يضيُّفني، فيمرّ بي، أجزيه؟ قال: "لا، اقْرِه". ¬

_ = فيه يحيى بن عثمان بن صالح المصري، قال ابن أبي حاتم: تكلَّموا فيه"، وضعّفه ابن حجر في التلخيص الحبير (3/ 213). (¬1) لم أقف عليه من هذه الطريق، ورواه عبد الرزاق في تفسيره (2/ 361، 362) عن هشام، وابن أبي شيبة (4/ 539) من طريق الربيع، والطبري في تفسيره (9850) من طريق قتادة، وابن حزم في المحلى (8/ 181) من طريق المبارك بن فضالة، أربعتهم عن الحسن مرسلًا. ورواه البيهقي في معرفة السنن (7/ 484) من طريق يحيى بن أيوب عن ابن جريج عن زياد بن أبي الحسن عن النبي - صلى الله عليه وسلم -، كذا هو في المطبوع. وفي الباب أيضًا عن أبي بن كعب رضي الله عنه. (¬2) سنن الترمذي (2056)، ورواه أيضًا الطيالسي (1304)، وعبد الرزاق (11/ 269)، وأحمد (3/ 473، 4/ 137)، وهناد في الزهد (1059)، والحربي في إكرام الضيف (44 - 48)، والطبراني في الكبير (19/ 276 - 279، 282)، وأبو نعيم في الحلية (7/ 1354)، والبيهقي في الكبرى (10/ 10)، وغيرهم، وصححه ابن حبان (3410، 5416)، والحاكم (7364)، وابن حجر في الأمالي المطلقة (ص 31).

قال الترمذي: "هذا الحديث حسن صحيح". وله شاهد آخر، وهو ما رواه أبو داود (¬1)، من حديث بشير (¬2) بن الخصاصِيَةِ، قال: قلت: يا رسول الله! إن أهل الصدقة يعتدون علينا، أفنكتُم من أموالنا بقدر ما يعتدون علينا؟ فقال: "لا". وله شاهد آخر من حديث بشير هذا أيضًا، قلت: يا رسول الله! إن لنا جيرانًا، لا يَدَعون لنا شاذّة ولا فاذّة إلا أخذوها، فإذا قدرنا لهم على شيء أنأخذه؟ فقال: "أدِّ الأمانةَ إلى من ائتمنَك، ولا تخنْ من خانك". ذكره شيخنا رحمه الله في كتاب "إبطال التحليل" (¬3). فهذه الآثار مع تعدد طرقها واختلاف مخارجها يَشُدّ بعضها بعضًا، ولا ¬

_ (¬1) سنن أبي داود (1589) من طريق عبد الرزاق عن معمر عن أيوب عن رجل يقال له: ديسم عن بشير به، وبهذا الإسناد رواه أحمد (5/ 83)، والبيهقي في الكبرى (4/ 154)، وهو في مصنف عبد الرزاق (4/ 15)، وحسن إسناده ابن مفلح في الفروع (4/ 327)، لكن ديسم لا يدرى من هو. وأعِلّ بالوقف، فرواه أحمد (5/ 83) وأبو داود (1588) من طريق حماد بن زيد عن أيوب به فلم يرفعه، وقد ضغفه ابن القطان في كان الوهم والإيهام (2296)، والألباني في ضعيف سنن أبي داود (277). (¬2) في بعض النسخ: "بشر"، وهو تصحيف. (¬3) ذكره بهذا اللَّفظ ابن تيمية في "بيان الدليل" (ص 195) وفي المجموع (30/ 372)، وعزاه للمسند، ولم أقف عليه فيه ولا في غيره، والذي في المسند (5/ 83) من طريق حماد عن أيوب عن ديسم قال: قلنا لبشير بن الخصاصية: إن لنا جيرةً من بني تميم لا تشذّ لنا قاصية إلا ذهبوا بها، وإنها تخفى لنا من أموالهم أشياء، أفنأخذها؟ قال: لا. وضعفه ابن حزم في المحلى (8/ 182).

حجة الذين جوزوا لمن ظفر بحقه أن يأخذه، وجوابهم عن حجج المانعين منه وقول الشافعي

يشبه الأخذُ فيها الأخذَ في الموضعين اللَّذَين أباح رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فيهما الأخذ؛ لظهور سبب الحق، فلا يُنسب الآخذ إلى الخيانة، ولا يتطرق إليه تهمة، ولتعسُّر الشكوى في ذلك إلى الحاكم، وإثبات الحق والمطالبة به. والذين جوَّزوه يقولون: إذا أخذ قدر حقِّه من غير زيادة لم يكن ذلك خيانة؛ فإن الخيانة أخذ ما لا يحل له أخذه. وهذا ضعيف جدًّا؛ فإنه يُبطل فائدة الحديث فإنه قال: "ولا تخن من خانك"، فجعل مقابلته له خيانة، ونهاه عنها، فالحديث نص بعد صحته. فإن قيل: فهلَّا جعلتموه مستوفيًا لحقه بنفسه إذ عَجَزَ عن استيفائه بالحاكم، كالمغصوب مالُه، إذا رآه في يد الغاصب، وقَدَر على أخذه منه قهرًا، فهل تقولون: إنه لا يحل له أخذ عين ماله، وهو يشاهده في يد الظالم المعتدي، ولا يحلّ له إخراجه من داره وأرضه؟ وكذلك إذا غصب زوجته، وحال بينه وبينها، وعقد عليها ظاهرًا، بحيث لا يُتَّهم، فهل يحرم على الزوج الأول انتزاع زوجته منه خشيةَ التهمة؟ وهذأ لا تقولونه أنتم، ولا أحد من أهل العلم. ولهذا قال الشافعي (¬1) وقد ذكر حديث هِنْدٍ (¬2): "وإذا دلَّت السنة وإجماع كثير من أهل العلم على أن يأخذ الرجل حقه لنفسه سرًّا، فقد دل أن ذلك ليس بخيانة. الخيانة أخذ ما لا يحل له أخذه". فالجواب: أنا نقول: يجوز له أن يستوفي قدر حقِّه، لكن بطريق مباح، ¬

_ (¬1) في كتاب الأم (6/ 270). (¬2) تقدم تخريجه.

أحكام الدنيا مبنية على الظاهر وأحكام الآخرة مرتبة على السرائر

فأما بخيانة وطريق محرمة فلا. وقولكم: ليس ذلك بخيانة، قلنا: بل هو خيانة حقيقة، ولغة، وشرعًا، وقد سمَّاه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - خيانة، وغايتها أنها خيانةُ مقابلةٍ ومُقاصّةٍ، لا خيانة ابتداء، فيكون كل واحد منهما مسيئًا إلى الآخر ظالمًا له، فإن تساوت الخيانتان قدرًا وصفة فقد يتساقط إثمهما والمطالبة في الآخرة، أو يكون لكل منهما على الآخر مثل ما للآخر عليه، وإن بقي لأحدهما فضل رجع به، فهذا في أحكام الثواب والعقاب. وأما في أحكام الدنيا فليس كذلك؛ لأن الأحكام فيها مرتبة على الظواهر، وأما السرائر فإلى الله، ولهذا قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: "إنكم تختصمون إليّ، وإنما أنا بَشَرٌ، أقْضي بنحو مما أسمع، ولعلّ بعضكم أن يكون ألْحَنَ بحجته من بعض، فمن قضيتُ له بشيء من حقِّ أخيه فلا يأخذه؛ فإنما أقطع له قطعةَ من النار" (¬1). فأخبر- صلى الله عليه وسلم - أنه يحكم بينهم [107 أ] بالظاهر، وأعلم المبطل في نفس الأمر: أن حكمه لا يُحِل له أخذ ما يُحكَم له به، وأنه مع حكمه له به فإنما يقطع له قطعة من النار، فإذا كان الحق مع هذا الخصم في الظاهر وجب على الحاكم أن يحكم له به، ويُقِرّه بيده، وإن كانت يدًا عادية ظالمة عند الله تعالى، فكيف يسوغ لخصمه أن يحكم لنفسه، ويستوفي لنفسه بطريق محرمة باطلة، لا يحكم بمثلها الحاكم، وإن كان محقًّا في نفس الأمر؟ وليس هذا بمنزلة من رأى عين ماله أو أمَتِهِ أو زوجته بيد غاصب ظالم، ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري (7169)، ومسلم (1713) عن أم سلمة.

القسم الخامس من الحيل: ما قصد به تحليل ما حرم الشارع أو إسقاط ما أوجب

فخلَّصها منه قهرًا، فإنه قد تعيَّن حقُّه في هذه العين، بخلاف صاحب الدَّين، فإن حقَّه لم يتعين في تلك العين التي يريد أن يستوفي منها، ولأنه لا يتكتّم بذلك، ولا يستخفي به، كما يفعل الخائن، بل يكابر صاحب اليد العادية ويغالبه، ويستعين عليه بالناس، فلا يُنسب إلى خيانة، والأول متكتِّم مُسْتخفٍ، متصورٌ بصورة خائن وسارق، فها لحاق أحدهما بالآخر باطل، والله أعلم. فصل القسم الخامس من الحيل: أن يقصد حِلَّ ما حرّمه الشارع، أو سقوط ما أوجبه، بأن يأتي بسبب نَصَبه الشارع سببًا إلى أمرٍ مباح مقصود، فيجعله المحتال المخادع سببًا إلى أمر محرم مقصودٍ اجتنابُه. فهذه هي الحيلُ المحرمة التي ذَمَّها السلف، وحَرّموا فعلها وتعليمها. وهذا حرام من وجهين: من جهة غايته، ومن جهة سببه: أما غايته: فإن المقصود به إباحة ما حرّمه الله ورسوله، وإسقاط ما أوجبه. وأما من جهة سببه: فإنه اتخذ آيات الله هُزُوًا، وقصد بالسبب ما لم يُشْرَعْ لأجله، ولا قصده به الشارعُ، بل قصد ضدَّه، فقد ضادّ الشارع في الغاية، والحكمة، والسبب جميعًا. وقد يكون أصحابُ القسم الأول من الحيل أحسنَ حالًا من كثير من أصحاب هذا القسم؛ فإنهم يقولون: إن ما نفعله حرام وإثم ومعصية، ونحن أصحاب تحيُّل بالباطل، عُصاة لله ورسوله، مخالفون لدينه.

هذا النوع من الحيل ينسب الشارع إلى العبث وإلى شرع ما لا فائدة فيه، وغايته إباحة ما حرمه الله ورسوله

وكثير من هؤلاء يجعلون هذا القسم من الدِّين الذي جاءت به الشريعة، وأن الشارع جَوّز لهم التحيُّل بالطرق المتنوعة على إباحة ما حرّمه، وإسقاط ما أوجبه. فأين حال هؤلاء من حال أولئك؟ ثم إن هذا النوع من الحيل يتضمن نسبةَ الشارع إلى العبث، وشرع ما لا فائدة فيه إلا زيادة الكلفة والعناء، فإن حقيقة الأمر عند أرباب الحيل الباطلة: أن تصير العقود الشرعية عبثًا لا فائدة فيها؛ فإنها لا يقصد بها المحتالُ مقاصدها التي شرعت لها، بل لا غَرض له في مقاصدها وحقائقها البتة، وإنما غرضُه التوصُّلُ بها إلى ما هو ممنوع منه، فجعلها سُترةً وجُنّةً يتستَّر بها من ارتكاب ما نُهي عنه صِرْفًا، فأخرجه في قالب الشرع. كما أخرجَت الجهمية التعطيلَ: في قالب التنزيه. وأخرج المنافقون النفاق: في قالب الإحسان والتوفيق والعقل المعيشي. وأخرج الظَّلمةُ الفَجَرة الظلم والعدوان: في قالب السياسة، وعقوبة الجُناة. وأخرج المكّاسُون أكلَ المكوس: في قالب إعانة المجاهدين، وسَدّ الثغور، وعمارة الحصون. وأخرج الروافضُ الإلحاد والكفر، والقدح في سادات الصحابة وحزب رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وأوليائه وأنصاره: في قالب محبة أهل البيت، والتعصب لهم، وموالاتهم.

وأخرجت المُبَاحيَّة وفَسَقةُ المنتسبين إلى الفقر والتَصوُّف بدَعهم وشَطْحَهم: في قالب الفقر، والزهد، والأحوال، والمعارف، ومحبة الله، ونحو ذلك. وأخرجت الاتحادية أعظمَ الكفر [107 ب] والإلحاد: في قالب التوحيد، وأن الوجود واحد لا اثنان، وهو الله وحده، فليس هاهنا وجودان: خالق ومخلوق، ولا رب وعبد، بل الوجود كُلُّه واحد، وهو حقيقة الرب. وأخرجت القَدَريةُ إنكار عموم قدرة الله تعالى على جميع الموجودات أفعالها وأعيانها: في قالب العَدْل، وقالوا: لو كان الربّ قادرَا على أفعال عباده لزم أن يكون ظالمَالهم، فأخرجوا تكذيبهم بالقَدَر: في قالب العدل (¬1). وأخرجت الجهمية جَحْدهم لصفات كماله سبحانه: في قالب التوحيد، وقالو!: لو كان له سبحانه سَمْع وبصرٌ، وقدرة، وحياة، وإرادة، وكلام يقوم به، لم يكن واحدًا، وكان آلهة متعددة. وأخرجت الفسقة والذين يتبعون الشهوات الفسوقَ والمعاصي: في قالب الرّجاء وحُسْن الظنّ بالله تعالى، وعدم إساءة الظن بعفوه، وقالوا: تجنُّب المعاصي والشهوات إزراءٌ بعفو الله تعالى، وإساءة للظنّ به، ونسبةٌ له إلى خلاف الجود والكرم والعفو. وأخرجت الخوارج قتال الأئمة، والخروج عليهم بالسيف: في قالب الأمر بالمعروف، والنهى عن المنكر. ¬

_ (¬1) م: "القدر".

فصل: هذا القسم من الحيل إما لحل ما هو حرام في الحال، أو حل ما انعقد سبب تحريمه، أو إسقاط ما هو واجب في الحال، أو إسقاط ما انعقد سبب وجوبه، أو الاحتيال على أخذ حقه أو بعضه أو بدله بخيانة، ولهذا الأخير صور كثيرة

وأخرج أرباب البدع جميعُهم بدعَهم: في قوالب متنوعة، بحسب تلك البدع. وأخرج المشركون شِرْكهم: في قالب التعظيم لله، وأنه أجلّ من أن يُتقرّب إليه بغير وسائط وشفعاء وآلهة تُقرِّبهم إليه. فكلّ صاحبِ باطل لا يتمكن من ترويج باطله إلا بإخراجه في قالب حق. والمقصود: أن أهل المكْرِ والحيل المحرّمة يُخرِجون الباطلَ في القوالب الشرعية، ويأتون بصور العقود، دون حقائقها ومقاصدها. فصل وهذا القسم من أقسام الحيل أنواع: أحدها: الاحتيالُ لحِلّ ما هو حرام في الحال، كالحيل الربوية، وحيلة التحليل. الثاني: الاحتيالُ على حِلّ ما انعقد سببُ تحريمه، فهو صائر إلى التحريم ولا بدّ، كما إذا علَّق طلاقها بشرط محقَّق، تعليقًا يقع به، ثم أراد منع وقوع الطلاق عند الشرط، فخالعها خُلعَ الحيلة، حتى بانتْ، ثم تزوَّجها بعد ذلك. الثالث: الاحتيالُ على إسقاط ما هو واجب في الحال، كالاحتيال على إسقاط الإنفاق الواجب عليه، وأداء الدَّين الواجب، بأن يُملّك ماله لزوجته أو ولده، فيصير مُعْسِرًا، فلا يجب عليه الإنفاق والأداء، وكمن يدخل عليه رمضان ولا يريد صومه، فسافر ولا غَرَض له سوى الفِطْر، ونحو ذلك.

الرابع: الاحتيالُ على إسقاط ما انعقد سبب وجوبه ولم يجب، لكنه صائر إلى الوجوب، فيحتالُ حتى يمتنع الوجوبُ، كالاحتيال على إسقاط الزكاة، بتمليكه ماله قبل مضيّ الحَوْل لبعض أهله، ثم استرجاعه بعد ذلك، وهذا النوع ضربان: أحدهما: إسقاط حق الله تعالى بعد وجوبه، أو انعقاد سببه. والثاني: إسقاط حقّ المسلم بعد وجوبه، أو انعقاد سببه، كالاحتيال على إسقاط الشفعة التي شُرعت دفعًا للضرر عن الشريك، قبل وجوبها أو بعده. الخامس: الاحتيالُ على أخذِ حقِّه أو بَعضه أو بَدله بخيانة، كما تقدم، وله صور كثيرة: منها: أن يجحده دَينه، كما جحده. ومنها: أن يخونه في وديعته، كما خانه. ومنها: أن يَغُشّه في بيع مَعيب كما غَشّه هو في بيع مَعِيب. ومنها: أن يسرق مالَه كما سرق ماله. ومنها: أن يستعمله بأجرة دون أجرة مثله ظلمًا وعدوانًا، أو غرورًا وخِداعًا، أو غَبْنًا، فيقدر المستأجر له على مال، فيأخذَ تمام أجرته. وهذا النوع يستعمله كثيرًا أرباب الديوان، ونُظّار الوقوف، والعمال، وجُباة الفَيْء والخراج والجزية والصدقة، وأمثالهم، فإن كان المال مشتركًا بين المسلمين؛ رَتعوا ورَبعوا، ورأى أحدهم أن من الغَبن أن يَفوته شيء منه، ويرى إن عدَل أن له نصفَ ذلك المال، ويسعى في السدس تكملةَ الثلثين،

فصل: الفرق بين الحيل التي تخلص من الظلم والعدوان والتي يحتال بها على إباحة الحرام وإسقاط الواجبات

كما قيل في بعضهم (¬1): [108 أ] لَهُ نِصْفُ بَيْتِ المالِ فَرْضٌ مُقَرَّرٌ ... وَفي سُدُسِ التَّكْمِيلِ يَسْعَى لِيَخْلُصَا مِنَ القَوْمِ مَنْ لَمْ يَثْنِهِمْ عَنْ مُرَادِهِمْ ... عُقُوبةُ سُلْطَانٍ بِسَوْطٍ وَلا عَصَا فصل وقد عُرف بما ذكرنا الفرقُ بين الحيل التي تخلّص من الظلم والبغي والعدوان، والحيل التي يُحتال بها على إباحة الحرام وإسقاط الواجبات، وإن جمعهما اسمُ الحيلة والوسيلة. وعُرف بذلك أن العِينة لا تخلّص من الحرام، وإنما يُتوسّل بها إليه، وهو المقصود الذي اتفقا عليه، ويعلمه الله تعالى من نفوسهما، وهما يعلمانه، ومَنْ شاهدهما يعلمه. وكذلك تمليكُ مالِهِ لولده عند قُرْب الحوْلِ فرارًا من الزكاة، لا يُخلّص من الإثم، بل يغمسه فيه؛ لأنه قَصَدَ إلى إسقاط فرض قد انعقد سببه. ولكق عُذْر من جوّز ذلك: أنه لم يُسقِطِ الواجب، وإنما أسقط الوجوب، وفرقٌ بين الأمرين، فإن له أن يمنع الوجوبَ، وليس له أن يمنع الواجب. وهكذا القولُ في التحيُّل على إسقاط الشّفعة قبل البيع؛ فإنه يمنع وجوبَ الاستحقاق، ولا يمنع الحقّ الذي وجب بالبيع، فذلك لا يجوز، وهو نظير منع الزكاة بعد وجوبها، فذلك لا يجوز بحيلة ولا غيرها. وكذلك التحيُّل على منع وجوب الجمعة عليه، بأن يسكن في مكانٍ لا ¬

_ (¬1) لم أجد البيتين فيما بين يديّ من المصادر.

وأما المانعون من الحيل مرة واحدة فيجيبون عن ذلك بأجوبة

يبلغه النداء، أولا يمكنه الذهابُ منه إلى الجمعة، والرجوع في يومه، أو السفر قبل دخول وقتها، ولا يجوز له التحيُّلُ على تركها بعد وجوبها عليه. وكذلك التحيُّل على منع وجوب الإنفاق على القريب، بأن لا يكتسب مالًا يجب فيه الإنفاق، ولا يجوز له التحيّلُّ على إسقاط ما وجب من ذلك. فهذا سِرّ الفرق اعتمده أصحاب الحيل. وأما المانعون فيجيبون عن ذلك بأن هذالو أجْدَى على المتحيِّلين لم يُعاقِبِ الله سبحانه وتعالى أصحاب الجنَة، الذين عزموا على صِرامها ليلًا لئلا يحَضُرهم المساكين، فهؤلاء قصدوا دفع الوجوب بعد انعقاد سببه، وهو نظير التحيُّل لإسقاط الزكاة بعد ثبوت سببها. وبأن هذا يُبطل حكمة الإيجاب؛ فإن الله سبحانه إنما أوجبها في أموال الأغنياء طُهْرَةً لهم وزكاةً، ورحمة للمساكين، وسَدًّا لفاقتهم، فالتحيُّل على منع وجوبها يعود على ذلك كلُّه بالإبطال. وبأن الشارع لو جوَّز التحيُّل على منع الإيجاب بعد انعقاد سببه لم يكن في الإيجاب فائدة؛ إذ ما مِنْ أحد إلا ويمكنه التحيُّل بأدنى حيلة على الدفع، فيكون الإيجاب عديم الفائدة؛ فإنه إذا أوجبه وجوّز إسقاطه بعد انعقاد سبب الإيجاب عاد ذلك بنقض ما قصده. وبأنه إذا انعقد سبب الوجوب فقد تعلق الوجوب بالمكلَّف، فلا يمكّنه الشارع من قطع هذا التعلق، ولاسيَّما إذا شارف وقت الوجوب وحضر، حتى كأنه داخل فيه، كما إذا بقي من الحول يوم أو ساعة فالإسقاط هاهنا في حكم الإسقاط بعد الحول سواءً، ومفسدته كمفسدته؛ فإن المصلحة الفائتة بالمنع بعد تلك الساعة كالمفسدة الحاصلة بالتسبُّب إلى المنع قبلها من كل وجه.

وبأن الحكم بعد انعقاد سببه كالثابت الذي قد صَحَّ ووُجِدَ. وبأن الوجوب قد تحقق بانعقاد سببه، ووإنما جوَّز له التأخير إلى تمام الحول توسعةً عليه، ولهذا يجوز له أداء الواجب قبل الحول، ويكون واقعًا موقعه. ولأن الفرار من الإ يجاب إنما يُقصد به الفرار من أداء الواجب، وأن يُسقط ما فرضه الله عليه عند مُضيّ الحول، وليس هذا كمن يترك اكتساب المال الذي يجبُ فيه الزكاة فرارًا من وجوبها عليه، أو ترك بيع الشّقْص فرارًا من أخذ الشفيع له، أو يترك التزوّج فرارًا من وُجوب الإنفاق، [108 ب] ونحو ذلك؛ فإن هذا لم ينعقد في حقه السبب، بل ترك ما يفضي إلى الإيجاب، ولم يتسبّب إليه، وهذا تحيُّل بعد السبب على إسقاط ما تعلّق به من أداء الواجب، واحتال على قطع سببه بعد ثبوتها. وأيضًا فإن قطع سببيّة السبب تغييرٌ لحكم الله، وإسقاط للسببيَّة بالتحيل، وليس ذلك للمكلّف؛ فإن الله سبحانه هو الذي جعل هذا سببًا بحكمه وحكمته، فليس له أن يبطل هذا الجَعْلَ بالحيلة والمخادعة، وهذا بخلاف ما إذا وَهَبه ظاهرًا وباطنًا أو أنفقه، فإنه لم يحتل بإظهار أمر وإبطان خلافه على منع الإيجاب، وأداء الواجب. وأيضًا فإنه إذا احتال على منع الإيجاب تضمن ذلك تحيُّلَه على منع أداء الواجب، ومعلوم أن منعَه أداء الواجب فقط أيسرُ من تحيُّله على الآمرين جميعًا. وأيضًا فإنه لا يصحُّ فراره من الوجوب مع إتيانه لسببه؛ فإن الفارّ من الشيء فارّ من أسبابه، وهذا أحرصُ شيء على الملك الذي هو سبب وجوب

الحقّ عليه، ومن حرصه عليه: تحيّلَ على ترك الإخراج حرصًا وشُحًّا، فهو فارٌّ من أداء الواجب، ظانًّا أنه يفر من وجوبه عليه، والأول حاصل له دون الثاني. ونُكْتَةُ الفرق: من جهة الوسيلة والمقصود؛ فإن المحتال على المحرمات وإسقاط الواجبات مقصوده فاسدٌ، ووسيلته باطلة؛ فإنه توسَّل بالشيء إلى غير مقصوده، وتوسل به إلى مقصود محرّم. فإن الله سبحانه إنما جعل النِّكَاح وسيلة إلى المودّة والرحمة، والمصاهرَة والنسل، وغضّ البصر، وحفظ الفرج، والتمتُّع، والإيواء، وغير ذلك من مقاصد النِّكَاح، والمحلِّل لم يتوسّل به إلى شيء من ذلك، بل إلى تحليل ما حرّمه الله تعالى؛ فإنه سبحانه حرّمها على المطلق ثلاثًا عقوبةً له، فتوسَّل هذا بنكاحها إلى تحليلها له، ولم يتوسّل به إلى ما شُرع له، فكان القصد محرّمًا، والوسيلة باطلة. وكذلك شرع الله البيع وسيلةً إلى انتفاع المشتري بالعين، والبائع بالثمن، فتوسل به المرابي إلى محض الرّبا، وأتى به لغير مقصوده؛ فإنه لا غرض له في تملُّك تلك العين، ولا الانتفاع بها، وإنما غرضه الربا، فتوصّل إليه بالبيع. وكذلك شرع سبحانه الأخذ بالشفعة دفعًا للضرر عن الشريك، فتوسَّل المبطل لها بإظهار الصّرْف الذي لا حقيقة له إلى إبطالها، فكانت وسيلةً باطلة، ومقصودُهُ محُرّمًا. وكذلك الزكاة فرضها رحمةً منه للمساكين، وطُهْرَةً للأغنياء، فتوسّل المسقط لها إلى إبطال هذا المقصود بإظهار عقدٍ لا حقيقة له من بيع أو هبة.

وكذلك القرض شرع الله سبحانه فيه العدل، وأن لا يزداد على مثل ما أقرض، فإذا احتال المقرض على الزيادة فقد احتال على مقصود محرّم بطريق باطلة. وكذلك بيعُ الثمر قبل بُدُوّ صلاحها باطل؛ لما يُفضي إليه من أكل المال بالباطل، فإذا احتال عليه بأن شَرَطَ القطع ثم تركه حتى يكمل، كان قد احتال على مقصود محرّم بشرط غير مقصود، بل قد علم المتعاقدان وغيرهما أنه لا يقطعه، ولا سيّما إن كان ممالا يُنتفع به قبل الصلاح بوجه، كالتُّوت والفِرْسِكِ، وغيرهما، فاشتراط قطعه خداع مَحْضٌ. وكذلك سائر الحيل التي تعود على مقصود الشارع وشرعه بالنقض والإبطال؛ غاياتها مُحَرَّمة، ووسائلها باطلة لا حقيقة لها. وكذلك الفدية والخلع التي شرعها الله ليخلّص كُلَّ واحدٍ من الزوجين من الآخر إذا وقع الشِّقَاق بينهما، فجعلوه حيلة للحنث في اليمين، وبقاء النِّكَاح، والله سبحانه إنما شرعه لقطع النِّكَاح، حيث يكون قطعه مصلحة لهما. وبهذا يتبين لك الفرق بين الحيل التي يُتوصل بها إلى تنفيذ أمر الله سبحانه تعالى ورسوله وإقامة دينه [109 أ]، والأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، ونصر المحق، وكسر المبطل؛ والحيل التي يُتوصل بها إلى خلاف ذلك. فتحصيل المقاصد المشروعة بالطرق التي جعلت موصلة إليها شيء، وتحصيل المقاصد الفاسدة بالطرق التي شرعت لغيرها شيء آخر.

فصل: في الحيلة لمن حلف بالطلاق ليشربن الخمر أو ليقتلن هذا الرجل

فالفرق بين النوعين ثابت من جهة الوسيلة والمقصود اللذين هما: المحتال به والمحتال عليه. فالطرق الموصلة إلى الحلال المشروع: هي الطرق التي لا خداع في وسائلها، ولا تحريم في مقاصدها، وبالله التوفيق. فصل وأما قولكم: إن مَنْ حلف بطلاق زوجته: ليشربنّ هذا الخمر، أو ليقتلنّ هذا الرجل أو نحو ذلك، كان في الحيلة تخليصُه من هذه المفسدة، ومن مَفسدة وقوع الطلاق. فيقال: نعم والله قد شرع الله له ما يتخلص به، ولخلاصه طرق عديدة، فلا تتعين الحيلة التي هي خداع ومكر لتخليصه، بل هاهنا طرق عدّة، قد سلك كلّ طريق منها طائفةٌ من الفقهاء، من سلف الأمة وخلفها: الطريق الأولى: طريقة من قال: لا تنعقد هذه اليمين بحالٍ ولا يجب فيها شيء (¬1)، سواءً كانت بصيغة الحلف، كقوله: الطلاق يلزمني لأفعلن، أو بصيغة التعليق المقصود، كقوله: إن طلعت الشمسُ، أو: إن حِضْتِ، أو إن جاء رأسُ الشهر، فأنت طالق، أو التعليق المقصود به من اليمين الحض والمنع، والتصديق والتكذيب، كقوله: إن لم أفعل كذا، أو: إن فعلتُ كذا فامرأتي طالق. وهذا اختيارُ أجلّ أصحاب الشافعي الذين جالسوه أو مَنْ هو مِنْ أجَلّهم: أبي عبد الر حمن، وهو من أجلّ أصحاب الوجوه المنتسبين إلى الشافعي، وهذا مذهبُ أكثر أهل الظاهر. ¬

_ (¬1) في بقية النسخ: "يحنث فيها بشيء"

من قال من علماء السلف: في اليمين بالطلاق والعتق كفارة يمين

فعندهم: أن الطلاق لا يقبل التعليق، كالنكاح، ولم يَرُدّ مخالفو هؤلاء عليهم بحجة تَشْفِي. الطريق الثانية: طريق من يقول: لا يقع الطلاق المحلوف به، ولا العتق المحلوف به، ويلزمه كفارة اليمين إذا حنث، وهذا مذهب ابن عمر، وابن عباس، وأبي هريرة، وعائشة، وزينب بنت أم سلمة، وحفصة، رضي الله عنهم أجمعين، في الحلف بالعتق الذي هو قُرْبةٌ إلى الله تعالى، بل مِنْ أحَبّ القُرب إلى الله، ويَسْري في ملك الغير، فما يقول هؤلاء في الحلف بالطلاق الذي هو أبغضُ الحلال إلى الله تعالى، وأحب الأشياء إلى الشيطان؟ والسائل لهؤلاء الصحابة إنما كان امرأةً، حلفت بأن كل مملوك لها حُرّ إن لم تُفَرّق بين عبدها وبين امرأته، فقالوا لها: كفِّري عن يمينك، وخَلِّي بين الرجل وبين امرأته (¬1). وهؤلاء الصحابةُ أفقهُ في دين الله، وأعلم من أن يُفْتوا بالكفارة في الحلف بالعتق ويرونه يمينًا، ولا يرون الحلفَ بالطلاق يمينًا، ويُلزِمون ¬

_ (¬1) هذه المرأة هي ليلى بنت العجماء، ومولاها الذي أرادت أن تفرّق بينه وبين امرأته هو أبو رافع، وقد روى عبد الرزاق (8/ 486، 487) والأثرم -كما في فتاوى ابن تيمية (33/ 188، 35/ 255، 338) - جوابَ ابن عمر وحفصة وزينبَ بنت أم سلمة عن مسألتها، وروى البيهقي في الكبرى (10/ 66) جوابهَم وجوابَ ابن عباس وأم سلمة وعائشة، وروى الدارقطني (4/ 163، 164) جوابهم جميعًا إلا زينب، واستنكر ابن عبد البر في الاستذكار (5/ 211) الرواية التي فيها سؤالهُا أمَّ سلمة وقال: "إنما هي زينب بنت أمّ سلمة"، ولم أقف على سؤالها أبا هريرة إلا ما ذكره ابن عبد البر في الاستذكار (5/ 182) وعزاه لعبد الرزاق. وقصّة ليلى هذه صحَّحها ابن حزم في المحلى (8/ 8)، وابن القيم في إعلام الموقعين (3/ 55).

مذهب طاووس وعكرمة: أن الحلف بالطلاق ليس شيئا، وتصحيح الرواية عنهما بذلك

الحانث بوقوعه؛ فإنه لا يجدُ فقيهٌ شَمّ رائحة العلم بين البابين والتعليقين فرقًا بوجه من الوجوه. وإنما لم يأخذ به أحمد؛ لأنه لم يصح عنده إلا من طريق سليمان التيّمي، واعتقد أنه تَفَرّد به، وقد تابعه عليه محمد بن عبد الله الأنصاري، وأشعثُ الحُمراني، ولهذا لمَّا ثبت عند أبي ثور قال به، وظن الإجماع في الحلف بالطلاق على لزومه، فلم يقل به. الطريق الثالثة: طريق من يقول: ليس الحلفُ بالطلاق شيئًا، وهذا صحيح عن طاوس، وعكرمة. أما طاوس (¬1) فقال عبد الرزاق: أخبرنا مَعمر، عن ابن جُريج، عن ابن طاوس، عن أبيه: أنه كان لا يرى الحلف بالطلاق شيئًا. وقد ردّ بعضُ المتعصبين لتقليدهم ومذاهبهم هذا النقل، بأن عبد الرزاق ذكره في (باب يمين المُكْرَه)، فحمله على الحلف بالطلاق مُكرَهًا. وهذا فاسدٌ، فإن الحجة ليست في التّرجمة، وإنما الاعتبارُ بما يُروَى في أثناء الترجمة، ولا سيَّما المتقدِّمين كابن أبي شيبة، وعبد الرزاق، ووكيع وغيرهم؛ فإنهم يذكرون في أثناء التراجم آثارًا لا تُطابق الترجمة، وإن كان لها بها نوعُ تعلّقٍ، وهذا في كتبهم لمن تأمّله أكثرُ وأشهر من أن يخفى، وهو في "صحيح البخاري" وغيره، وفى كتب الفقهاء، وسائر المصنّفين. ¬

_ (¬1) رواه عبد الرزاق (6/ 406) عن ابن جريج قال: أخبرني ابن طاوس عن أبيه أنه كان يقول: الحلف بالطلاق باطل ليس بشيء، قلت: أكان يراه يمينًا؟ قال: لا أدري. ليس فيه ذكر معمر، وصححه ابن تيمية كما في المجموع (33/ 127).

القياس والآثار على أن الحلف بالطلاق ليس شيئا، وإن خالفه الناس والسلطان،

ثم لو فَهِمَ عبد الرزاق هذا، وأنه في يمين المكَرهِ، لم تكن الحجة في فهمه، بل الأخذُ بروايته، وأيّ فائدةٍ في تخصيص الحلف بالطلاق بذلك؟ بل كل مكره حلف بأيّ يمين كانت فيمينه ليست بشيء. أما عِكْرمة (¬1) فقال سُنيد بن داود في "تفسيره": حدثنا عَبّاد بن عَبَّاد المهلَّبي، عن عاصم الأحْوَل، عن عكرمة، في رجل قال لغلامه: إن لم أجْلِدك مئة سَوْطٍ فامرأتي طالقٌ؟ قال: لا يجَلد غلامه، ولا يُطلّق امرأته، هذا من خُطوات الشيطان. فإذا ضممت هذا الأثر إلى أثر ابن طاوس عن أبيه، إلى أثر ابن عباس فيمن قالت لمملوكها: إن لم أُفرّق بينك وبين امرأتك فكل مملوك لي حُرّ، إلى الآثار المستفيضة عن ابن عباس في الحلف بتحريم الزوجة أنها يمينٌ يُكفّرها: تَبيّن لك ما كان عليه ابنُ عباس وأصحابُه في هذا الباب. فإذا ضممت ذلك إلى آثار الصحابة في الحلف بالتعليقات كالحج، والصوم، والصدقة، والهَدْي، والمشي إلى مكة حافيًا، ونحو ذلك أنها أيمانٌ مُكفِّرة، تبيّن لك حقيقة ما كان عليه الصحابة في ذلك. فإذا ضممتَ ذلك إلى القياس الصحيح الذي يستوي فيه حكم الأصل والفرع، تبيّن لك توافُقُ القياس وهذه الآثار. فإذا ارتفعت درجةً أخرى، ووزَنَت ذلك بالنصوص من القرآن والسنة، تَبيّن لك الراجحُ من المرجوح. ¬

_ (¬1) ذكره بهذا الإسناد الذهبي في سير أعلام النبلاء (5/ 36)، وقال: "هذا واضح في أنَّ عكرمة كان يرى أن اليمين بالطلاق في الغضب من نزغات الشيطان، فلا يقع بذلك طلاق".

مذهب أشهب المالكي: أنه لا يقع عليه الطلاق بفعلها ويقع عليه بفعل غيرها

ومع هذا كله، فلا يَدا لك بمقاومة السلطان، ومَنْ يقول: حكمتُ وثبتَ عندي. فالله المستعان! الطريق الرابعة: طريق من يُفرّق بين أن يحلفَ على فعل امرأته أو فعل نفسه، أو على غير الزوجة، فيقول: إن قال لامرأته: إن خرجتِ من الدار، أو كلّمت رجلًا، أو فعلت كذا، فأنت طالق؛ فلا يقع عليه الطلاق بفعلها ذلك، وإن حلف على فعل نفسه، أو غير امرأته، وحنث، لزمه الطلاق. وهذا قول أفقه أصحاب مالك على الإطلاق، وهو أشهبُ بن عبد العزيز، ومَحلُّه من الفقه والعلم غيرُ خافٍ. ومأخذُ هذا: أن المرأة إذا فعلتْ هذا لتطلّق نفسها لم يقع به الطلاقُ، معاقبةً لها بنقيض قصدها، وهذا جارٍ على أصول مالك، وأحمد، ومَنْ وافقهما في مُعاقبة الفارّ من التوريث والزكاة وقاتِلِ مُوَرّثه، والموصي له، ومَنْ دَبّره، بنقيض قصده. وهذا هو الفقه، لا سيَّما وهو لم يُردْ طلاقها، إنما أراد حَضّها أو منعها، وأن لا تَتَعرّض لما يُؤذيه، فكيف يكون فعلُها سببًا لأعظم أذاه؟ وهو لم يُمَلّكها ذلك بالتوكيل والخيار، ولا مَلّكها الله إيّاه بالفسخ، فكيف تكون الفرقَةُ إليها، إن شاءتْ أقامت معه، وإن شاءتْ فارقتهُ بمجرد حَضّها ومنعها؟ وأي شيء أحسن من هذا الفقه، وأطْرَدُ على قواعد الشريعة؟ الطريق الخامسة: طريق مَنْ يُفصّل بين الحلف بصيغة الشرطِ والجزاءِ، والحلف بصيغة الالتزام: فالأول: كقوله: إن فعلتُ كذا، أو إن لم أفعله، فأنت طالق.

والثاني: كقوله: الطلاق يلزمني، أوْ لي لازِمٌ، أو عليّ الطلاقُ إن فعلتُ، أو إن لم أفعل. فلا يلزمه الطلاق في هذا القسم إذا حنث دون الأول. وهذا أحد الوجوه الثلاثة لأصحاب الشافعي، وهو المنقول عن أبي حنيفة وقُدماء أصحابه، ذكره صاحب "الذخيرة"، وأبو الليث في "فتاويه". قال أبو الليث: "ولو قال: طلاقُك على واجبٌ أو لازمٌ أو فرضٌ أو ثابتٌ؛ فمن المتأخرين من أصحابنا مَنْ قال: يقع واحدة رجعيةً، نواه أو لم يَنْوِه، ومنهم من قال: لا يقع، نوى أو لم ينو، ومنهم من قال: في قوله واجب يقع بدون النية، وفي قوله لازم لا يقع وإن نوى، والفارقُ العرفُ". قال صاحب "الذخيرة": "وعلى هذا الخلاف، إذا قال: إن فعلتِ كذا فطلاقك علي واجبٌ، أو قال: لازم، ففعلت. وذكر القُدوريّ في "شرحه": أن على قول أبي حنيفة لا يقعُ الطلاق في الكل، وعند أبي يوسف: إن نوى الطلاق يقع في الكل، وعن محمد: أنه يقع في قوله: لازم، ولا يقع في: واجب. واختار الصدرُ الشهيدُ: الوقوع في الكل. وكان ظهيرُ الدين المرغيناني يُفتي بعدم الوقوع في الكلّ". هذا كله لفظ صاحب "الذخيرة". وأما الشافعية: فقال ابن يونس في "شرح التنبيه": "وإن قال: الطلاق والعتاق لازم لي، ونواه، لزمه؛ لأنهما يقعان بالكناية مع النية، وهذا اللفظُ محتملٌ، فجُعلَ كنايةً".

التزام التطليق لا يوجب وقوع الطلاق

وقال الروياني: الطلاق لازم لي: صريح، وعدَّ (¬1) ذلك في صرائح الطلاق، ولعل وَجهه غلبةُ استعماله لإرادة الطلاق. وقال القفّال في "فتاويه": "ليس بصريح ولا كناية، حتى لا يقعَ به الطلاق وإن نواه؛ لأن الطلاقَ لا بُدّ فيه من الإضافة إلى المرأة، ولم يتحقق". هذا لفظه. وحكى شيخنا هذا القول عن بعض أصحاب أحمد. فقد صار الخلافُ في هذا الباب في المذاهب الأربعة بنقل أصحابها في كتبهم. ولهذا التفريق مَأخذ آخر، أحسن من هذا الذي ذكره الشارح، وهو أن الطلاق لا يصح التزامه، وإنما يلتزم التطليق؛ فإن الطلاقَ هو الواقع بالمرأة، وهو اللازم لها، وإنما الذي يلتزمه الرجل هو التطليق، فالطلاقُ لازم لها إذا وَقَع. وإذا تبين هذا فالتزامُ التطليق لا يوجب وقوعَ الطلاق؛ فإنه لو قال: إن فعلتِ كذا فَعَليَّ أن أطلقك، أو فَلِلَّه عليّ أن أطلقك، أو فتطليقك لازم لي، أو واجبٌ عليّ، وحيث لم يقع عليه الطلاقُ، فهكذا إذا قال: إن فعلتِ كذا فالطلاق يلزمني؛ لأنه إنما التزم التطليق، ولا يقع بالتزامه. والموقعون يقولون: هو قد التزم حكم الطلاق، وهو خروج البُضْعِ من ملكه، وإنما يلزمه حكمه إذا وقع، فصارَ هذا الالتزام مستلزمًا لوقوعه. فقال لهم الآخرون: إنما يلزمه حكُمه إذا أتى بسببه، وهو التطليق، ¬

_ (¬1) م: "وغير"، وهو تحريف.

فصل: وممن ذكر الفرق بين الطلاق وبين الحلف بالطلاق: أبو الوليد هشام بن عبد الله القرطبي من أئمة الأندلس في كتابه "مفيد الحكام"

فحينئذٍ يلزمُه حكمه، وهو لم يأت بالتطليق مُنجَّزًا بلا ريب، وإنما أتى به مُعلِّقًا له، والتزام التطليق بالتنجيز لا يلزم، فكيف يلزم بالتعليق؟ والمنصف المتبصِّر لا يخفى عليه الصحيح، وبالله التوفيق. فصل وممن ذكر الفرقَ بين الطلاق وبين الحلف بالطلاق: القاضي أبو الوليد هشام بن عبد الله بن هشام الأزدي القرطبي في كتابه "مُفيد الحُكَّام فيما يَعْرِضُ لهم من نوازل الأحكام". فقال في كتاب الطلاق من ديوانه، وقد ذكر اختلافَ أصحاب مالك في الأيمان اللازمة. ثم قال: "ولا ينبغي أن تُتلقَّى هذه المسألة هكذا تَلقّيًا تقليديًّا؛ إلا أن يُشِمَّها نورُ الفهم ويُوضحها لسانُ البرهان، وأنا أُشير لك إلى نُكتةٍ تَسْعَدُ بالعرض فيها إن شاء الله تعالى. منها: الفرقُ بين الطلاق إيقاعًا، وبين اليمين بالطلاق، وفى "المدونة" كتابان موضوعان: أحدهما لنفس الطلاق، والثاني للأيمان بالطلاق، ووراء هذا الفنّ فقهٌ على الجملة، وذلك أن الطلاق صورته في الشّرع: حَلٌّ وارِدٌ على عَقْدٍ، واليمين بالطلاق عَقدٌ، فليُفْهم هذا. وإذا كان عقدًا لم يحصُل منه حَلٌّ، إلا أن يُنْقَل من موضع العقد إلى موضع الحلّ بنية يخرج بها اللفظُ من حقيقة إلى كناية، فقد نَجَمت هذه المسألة في أيام الحجّاج بعد أن استقل الشرع بأصوله وفروعه، وحقائقه ومجازاته في أيمان البيعة، وليس في أيمان الطلاق إلا ما أذكره لك، وذلك أن الطلاق على ضَرْبين: صريح وكناية.

ليس اليمين بالطلاق من صرائح الطلاق ولا من كناياته

فالصريح: كل لفظ استقل بنفسه في إثبات حُكمه تحديدًا. والكناية على ضربين: كناية غالبة، وغير غالبة: فالغالبة: كل ما أشْعَرَ بثبوت الطلاق في موضوع اللغة أو الشرع، كقوله: الحَقي بأهلك، واعْتَدّي. وغير الغالبة: كل ما لا يُشعر بثبوت الطلاق في وَضع اللغة والشرع، كقوله: ناوليني الثوب، وقال: أردتُ بذلك الطلاق. فإذا عرضنا لفظ الأيمان "يلزمني" على صريح الطلاق لم تكن من قِسْمه، وإن عرضناها على الكناية لم تكن من قسمها إلا بقرينة من شاهد حال، أو جاري عُرفٍ، أو نيَّة تقارن اللفظ، فإن اضطرب شاهدُ الحال، أو جاري العُرْف باحتمال يحتمله، فقد تعذر الوقوف على النية، ولا ينبغي لحاكم ولا لغيره أن يُمدَّ القلم في فتوى حتى يتأمل مثل هذه المعاني؛ فإن الحكم إن لم يقع مُسْتَوضحًا عن نورٍ فكريٍّ مُشْعرٍ بالمعنى المربوط اضمحلّ". ثم قال: "وأنا ذاكرٌ لك ما بلغني في هذه اليمين من كلام العلماء، ورأيته من أقوال الفقهاء، وهى يمينٌ محدثة، لم تقع في المصدر الأول". ثم ذكر اختلاف أهل العلم (¬1) في الحلف بالأيمان اللازمة. والمقصود: أنه ذكر الفرق الفطري العقلي الشرعي بين إيقاع الطلاق، والحلف بالطلاق، وأنهما بابان مفترقان بحقائقهما، ومقاصدهما، وألفاظهما، فيجب افتراقهما حكمًا. ¬

_ (¬1) "أهل العلم" ساقطة من م.

اليمين بالطلاق مخالف للإيقاع في الحقيقة والقصد واللفظ

أما افتراقهما بالحقيقة، فما ذكره من أن الطلاق حَلٌّ وفسخ، واليمين عقد والتزام، فهما إذن حقيقتان مختلفتان، قال تعالى: {وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا عَقَّدْتُمُ الْأَيْمَانَ} [المائدة: 89]. ثم أشار إلى الافتراق في الحكم بقوله: "وإذا كانت اليمين عقدًا لم يحصل بها حلّ، إلا أن ينقل من موضع العقد إلى موضع الحلّ، ومن البَيِّن أن الشارع لم ينقلها من العقد إلى الحلّ، فيجب بقاؤها على ما وضعت عليه. نعم، لو قصد الحالفُ بها إيقاع الطلاق عند الحنثِ فقد استعملها في العقد والحِلّ، فتصيرُ كنايةً في الوقوع، وقد نواه، فيقع به الطلاق؛ لأن هذا العقد صالح للكناية، وقد اقترنت به النية، فيقع الطلاق، أما إذا نوى مُجَرَّد العقد، ولم ينو الطلاق البتة بل هو أكْرَه شيء إليه؛ فلم يأت بما ينقل اليمين من موضوعها الشرعي، ولا نقلها عنها الشارع، فلا يلزمه غير موجب الأيمان". فليتأمل المُنْصفُ العالمُ هذا الفرق، ويُخْرِجْ قَلْبَهُ ساعةً من التعصب والتقليد، واتَّباع غير الدليل. والمقصود أن باب اليمين وباب الإيقاع يختلفان في الحقيقة والقصد واللفظ، فيجب اختلافهما في الحكم: أما الحقيقة فما تقدم. وأما القصد فلأن الحالف مقصوده الحض والمنع، والتصديق أو التكذيب، والمطلِّق مقصوده التخفُص من الزوجة من غير أن يخطر بباله حضّ ولا منع، ولا تصديق ولا تكذيب، فالتسوية بينهما لا يخفى حالها.

الطريق السادسة: أن يزول المعين الذي كانت اليمين لأجله

وأما اختلافهما لفظًا فإن لفظ اليمين لا بدَّ فيها من التزام قَسَمِيٍّ يأتي فيه بجواب القسم، أو تعليق شَرْطيٍّ يقصد فيه انتفاء الشرط والجزاء، أو وقوع الجزاء على تقدير وقوع الشرط، وإن كان يكرهه، ويقصد انتفاءه، فالمقدَّمُ في الصورة الأولى مؤخَّر في الثانية، والمنفيُّ في الأولى ثابت في الثانية، ولفظ الإيقاع لا يتضمن شيئًا من ذلك. ومن تصوَّر هذا حقَّ التصوُّر جزم بالحق في هذه المسألة، والله الموفق. الطريقة السادسة: أن يزول المعنى الذي كانت اليمين لأجله، فإذا فعل المحلوف عليه بعد ذلك لم يحنث؛ لأن امتناعه باليمين إنما كان لِعِلّةٍ، فيزول بزوالها، وهذا مطَّرِدٌ على أصول الشرع، وقواعد مذهب أحمد وغيره، ممن يعتبر النيَّة والقصد في اليمين تعميمًا وتخصيصًا، وإطلاقًا وتقييدًا. فإذا حلف: لا أكلِّم فلانة، وكان سبب اليمين أو الذي هَيّجَها كونهَا أجنبية، يخاف الوقوع في عرضه بكلامها، فتزوجها، لم يحنث بكلامها؛ إعمالًا لسبب اليمين وما هَيّجها في التقييد بكونها أجنبية، هذا إذا لم تكن له نِيّةٌ، فإن كانت له نيَّة ما دامت كذلك فلا إشكال في تقييد اليمين بها. ونظيره: أن يحلف: لا يكلِّم فلانًا، ولا يعاشره؛ لكونه صبيًّا، فصار رجلًا، وكانت نيَّته وسبب يمينه لأجل صباه. ونظيره: أن يحلف: لا دخلت هذه الدار؛ لأجل مَنْ يَظُنّ به التهمة لدخولها، فمات أو سافر، فدخلها، لم يحنث. وبذلك أفتى أبو حنيفة وأبو يوسف: من حلف: لا دخلت دار فلان هذه، ولا كلمت عبده هذا، فباع العبدَ والدار.

اعتبار الألفاظ بدلالتها على المقاصد

ونظير هذا: أن يحلف أن لا يكلم فلانًا، والحامل له على اليمين كونه تاركًا للصلاة، أو مرابيًا، أو خمَّارًا، أو واليًا، فتابَ من ذلك كله، وزالت الصفة التي حلف لأجلها، لم يحنث بكلامه. وكذلك إذا حلف: لا تزوجت فلانة، والحامل له على اليمين صفة فيها، مثل كونها بغيًا أو غير ذلك، فزالت تلك الصفة، لم يحنث بتزوُّجها. كل هذا مراعاة للمقاصد التي الألفاظ دالَّةٌ عليها، فإذا ظهر القصد كان هو المعتبر. ولهذا لو حلف: لَتقْضِيَنّه حقَّه في غدٍ، وقَصْدُه أو السببُ: أن لا يجاوزه، فقضاه قبله، لم يحنث. ولو حلف: لا يبيع عبده إلا بألف، فباعه بأكثر، لم يحنث. ولو حلف: أن لا يخرج من البلد إلا بإذن الوالي، والنية أو السبب: يقتضي التقييد ما دام كذلك، فإذا عُزل لم يحنث بالخروج بغير إذنه. وكذلك لو حلف على زوجته، أو عبده، أو أمته أن لا تخرج إلا بإذنه، فطلّق، أو أعتق، أو باع، لم يحنث بخروجهم بغير إذنه؛ لأن اقتضاء السبب والقصد للتقييد في غاية الظهور. ونظائر ذلك كثيرة جدًّا. وسائر الفقهاء يعتبرون ذلك، وإن خالفوه في كثير من المواضع. وهذا هو الصواب؛ لأن الألفاظ إنما اعتبرت لدلالتها على المقاصد، فإذا ظهر القصد كان الاعتبار له، وتقيَّد اللفظ به. ولهذا لو دُعي إلى غداء، فحلف: لا يتغدّى، تقيدت يمينه بذلك الغداء

فتوى ابن عقيل وغيره فيمن قال لامرأته: أنت طالق بسبب وشاية تبين له كذبها: أنه لا يقع عليه الطلاق

وحده؛ لأن النية والسبب وبساط (¬1) اليمين لا يقتضي غيره. وقد أخبر النبي - صلى الله عليه وسلم - أن الأعمال بالنيات، وإنما لامرئ ما نوى (¬2). وما لم ينوِه بيمينه، أو كان السبب لا يقتضيه، لا يجوز أن يُلزَم به، مع القطع بأنه لم يُرِدْهُ، ولا خطر على باله. وقد أفتى غير واحدٍ من الفقهاء منهم ابن عقيل وشيخنا وغيرهما، فيمن قيل له: إن امرأتك قد خرجت من بيتك، أو قد زنت بفلان، فقال: هي طالق، ثم تبيّن له أنها لم تخرج من البيت، وأن الذي رُميتْ به في بلد بعيد، لا يمكن وصوله إليها، أو أنه حين رميت به كان مَيْتًا، ونحو ذلك مما يعلم به أنها لم تَزْن: فإنه لا يقع عليه الطلاق؛ لأنه إنما طلقها بناء على هذا السبب، فهو كالشَرط في طلاقها. وهذا الذي قالوه هو الذي لا يقتضي المذهب وقواعد الفقه غيره؛ فإنهم قد قالوا: لو قال لها: أنت طالق، وقال: (أردتُ: إن قمتِ)، دُيِّنَ، ولم يقع به الطلاق، فهذا مثله سواءً. ونظير هذا ما قالوه: إن المكاتب لو أدّى إلى سيده المال، فقال: أنت حُرٌّ، فبان أن المال الذي أعطاه مستَحَقّ أو زُيوف، لم يقع العتق، وإن كان قد صرَّح به، ذكره أصحاب أحمد والشافعي؛ لأنه إنما أعتقه بناءً على سلامة العوض، ولم يسلَّم له. وقواعد الشريعة كلها مبنية على أن الحكم إذا ثبت لعلة زال بزوالها. ¬

_ (¬1) ح: "مناط". (¬2) أخرجه البخاري (1)، ومسلم (1907) عن عمر بن الخطاب.

هذه الطريقة أحسن من الطرق التي يتحيلون بها على عدم الحنث، وهي: التسريح، أو الخلع، أو التحيل لفساد النكاح، أو الاحتيال على فعل المحلوف عليه

وأمثلة ذلك أكثر من (¬1) أن تحصر. فهذه الطريقة تخلِّص من كثير من الحنث. وإذا تأملت هذه الطرق لرأيت أيّتَها سلكت أحسنَ من طرق الحيل التي يتحيَّلون بها على عدم الحنث، وهى أنواع: أحدها: التسريح. الثاني: خلع اليمين. الثالث: التحيُّل لفساد النكاح، إما أن يكون الولي كان قد فعل ما يفسق به، أو الشهود كانوا جلوسًا على مقعد حرير، ونحو ذلك، فيكون النكاح باطلًا، فلا يقع فيه الطلاق. الرابع: الاحتيال على فعل المحلوف عليه، بتغيير اسمه، أو صفته، أو نقله من مالكٍ إلى مالك، ونحو ذلك. فإذا غُلبوا عن شيء من هذه الحيل الأربعة فَزِعوا إلى التيس المستعار، فاستأجروه ليَسْفِدَ ويأخذ على سِفاده أجرًا. فليُوازِن من يعلم أنه موقوف بين يدي الله تعالى ومسؤول: بين هذه الطرق وتلك الطرق التي قبلها، ولْيَقُمْ لله ناظرًا ومناظرًا، مُتجرّدًا من العصبية والحَمِيّة، فإنه لا يكاد يخفى عليه الصواب، وبالله التوفيق. فصل وأما قوله تعالى لأيوب عليه السلام: {وَخُذْ بِيَدِكَ ضِغْثًا فَاضْرِبْ بِهِ وَلَا تَحْنَثْ} [ص: 44]. ¬

_ (¬1) "من" ساقطة من م.

قصة المخدج الذي زنى بجارية في عهد النبي لمجيم وكيف أقيم عليه الحد

فمن العجب أن يحَتجّ بهذه الآية مَنْ يقول: إنه لو حلف: ليضربنّه عشرةَ أسواط، فجمعها وضربه بها ضَرْبَةً واحدة لم يَبَرّ في يمينه. هذا قول أصحاب أبي حنيفة، ومالك، وأصحاب أحمد. وقال الشافعي: إن علم أنها مَسّته كلُّها برّ في يمينه، وإن علم أنها لم تمسّه لم يبرّ، وإن شكَّ لم يحنث. ولو كان هذا موجبًا لبِرّ الحالف لسقط عن الزاني والقاذف والشارب بعدد الضرب؛ بأن يجَمع له مئة سوط أو ثمانين، ويضرب بها ضربةً واحدة، وهذا إنما يجزئ في حق (¬1) المريض، كما قال الإمام أحمد في المريض عليه الحدّ: يُضرب بِعِثكالٍ يُسقط عنه الحدّ. واحتج بما رواه عن أبي أمامة بن سهل، عن سعيد بن سعد بن عُبادة، قال: كان بين أبياتنا رُوَيجلٌ ضعيف مُخْدَجٌ، فلم يَرُعِ الحيَّ إلا وهو على أمةٍ من إمائهم يَخبُثُ بها، قال: فذَكَرَ ذلك سعد بن عبادة لرسول الله - صلى الله عليه وسلم -؟ وكان ذلك الرجل مسلمًا، فقال: "اضربوه حدَّهُ"، فقالوا: يا رسول الله! إنه أضعفُ مما تحسِب، لو ضربناه مئةً قتلناه. فقال: "خذوا له عِثْكالًا فيه مئةُ شِمْراخ، ثم اضربوه ضربةً واحدةً"، ففعلوا (¬2). ¬

_ (¬1) "حق" ساقطة من م. (¬2) رواه أحمد (5/ 222)، والنسائي في الكبرى (7309)، وابن ماجه (2574)، وابن أبي عاصم في الآحاد والمثاني (2024)، والطبراني في الكبير (6/ 63)، والبيهقي في الكبرى (8/ 230)، وغيرهم، وفي إسناده اختلافٌ وعنعنةُ ابنِ إسحاق، ورجّح بعضهم إرساله، وحسنه ابن عبد الهادي في المحرر (1147) وقال: "لكن فيه اختلاف، وقد روِي مرسلًا"، قال ابن الملقن في البدر المنير (8/ 626): "الظاهر أنَّ =

ما في قصة أيوب من الفقه الدقيق

وأما قصة أيوب عليه السلام فلها فقهٌ دقيق؛ فإن امرأته كانت لشِدّة حرصها على عافيته وخَلاصِه من دائه، تلتمسُ له الدواء بما تقدِرُ عليه، فلما لَقِيَها الشيطانُ وقال ما قال أخبرت أيوب عليه السلام بذلك، فقال: إنه الشيطانُ، ثم حلف لئن شفاه الله تعالى ليَضربَنّها مئة سوط، فكانت معذورةً محسنةً في شأنه، ولم يكن في شرعهم كَفّارةٌ؛ فإنه لو كان في شَرْعهم كفارة لعدَل إلى التكفير، ولم يحتَجْ إلى ضَرْبهِا، فكانت اليمينُ موجِبةً عندهم كالحدود، وقد ثبت أن المحدود إذا كان معذورًا خُفّفَ عنه، بأن يجُمع له مئة شمْراخ أو مئة سوط، فيُضرَب بها ضربةً واحدة، وامرأةُ أيوبَ كانت معذورة، لم تعلم أنّ الذي خاطبها الشيطانُ، وإنما قصدت الإحسانَ، فلم تكن تستحقّ العقوبة، فأفتى الله سبحانه نبيَّه أيوب عليه السلام أن يُعاملها معاملة المعذور، هذا مع رِفْقها به، وإحسانها إليه، فجمع الله له بين البرّ في يمينه، والرفق بامرأته المحسنة المعذورة، التي لا تستحقّ العقوبة. فظهر موافقة نصّ القرآن في قصة أيوب عليه السلام لنَصّ السنة في شأنِ الضعيف الذي زَنَى، فلا يُتعدّى بهما عن مَحَلِّهِما. فإن قيل: فقولوا هذا في نظير ذلك ممن حلفَ: ليضربنّ امرأته أو أمته مئة، وكانا معذورَيْنِ، لا ذنب لهما: إنه يَبَرّ بجمع ذلك في ضربة بمئة شِمراخ. قيل: قد جعل الله له مخَرْجًا بالكفارة، ويجب عليه أن يُكفّر يمينه، ولا يعصي الله بالبر في يمينه هاهنا، ولا يحلّ له أن يبرّ فيها، بل بِرّه فيها هو حِنثه ¬

_ = هذا الاختلافَ لا يضرّه"، وحسنه ابن حجر في البلوغ (ص 155)، وهو في السلسلة الصحيحة (2986).

فصل: حديث بلال: "بع التمر بالدراهم ثم اشتر بالدراهم جنيبا" لا دلالة فيه على الاحتيال بالعقود التي ليست مقصودة لوجوه

مع الكفارة، ولا يحَلّ له أن يضرِبها، لا مُفرّقًا ولا مجموعًا. فإن قيل: فإذا كان الضربُ واجبًا كالحدّ، هل تقولون: ينفعه ذلك؟ قيل: إما أن يكون العذُر مرجوَّ الزوالِ، كالحَرّ والبرد الشديد والمرض اليسير، فهذا يُنتظرُ زواله، ثم يحدّ الحدّ الواجب، كما روى مسلم في "صحيحه" (¬1) عن علي رضي الله عنه: أن أمَةً لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - زَنَتْ، فأمرني أن أجلدها، فأتيتها، فإذا هي حديثةُ عهد بنِفاس، فخشِيْتُ إن جَلدتهُا أن أقتلها، فذكرتُ ذلك لرسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فقال: "أحسنتَ، اترُكْها حتى تمَاثَلَ". فصل وأما حديث بلال في شأن التمر، وقول النبي - صلى الله عليه وسلم - له: "بع التمرَ بالدراهم، ثم اشترِ بالدراهم جَنيبًا" (¬2). فقال شيخنا: ليس فيه دلالة على الاحتيال بالعقود التي ليست مقصودة، لوجوه: أحدها: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أمره أن يبيعَ سِلْعته الأولى، ثم يبتاعَ بثمنها سِلعةً أخرى، ومعلوم أن ذلك إنما يقتضي البيعَ الصحيح، ومتى وُجِد البيعان على الوجه الصحيح جاز ذلك بلا ريب، ونحن نقول: كلُّ بيع صحيح يُفيد الملك. لكن الشأن في بُيوع قد دلّت السنةُ وأقوالُ الصحابة على أن ظاهرها وإن كان بيعًا فإنها ربًا، وهى بيع فاسد، ومعلوم أن مثل هذه لا تدخل في الحديث، ولو اختلف رجلان في بيع مثل هذا، هل هو صحيح أو فاسد؟ ¬

_ (¬1) برقم (1705). (¬2) تقدم تخريجه.

الوجه الثاني: أن الحديث ليس فيه عموم، والأمر بالحقيقة المطلقة ليس أمرا بشيء من قيودها

وأراد أحدهما إدخاله في هذا اللفظ، لم يمكنه ذلك، حتى يُثبتَ أنه بيع صحيح، ومتى أثبت أنه بيع صحيح لم يحتَجْ إلى الاستدلال بهذا الحديث. فتبيَّن أنه لا حُجة فيه على صورة من صور النزاع البتة. قلت: ونظير ذلك أن يحتج به محتجٌّ على جواز بيع الغائب، أو على البيع بشرط الخيار أكثر من ثلاث، أو على البيع بشرط البراءة، وغير ذلك من أنواع البيوع المختلف فيها، ويقول: الشارع قد أطلق الإذن في البيع، ولم يقيِّده. وحقيقة الأمر أن يقال: إن الأموالمطلق بالبيع إنما يقتضي البيع الصحيح، ونحن لا نسلّم له أن هذه الصورة التي تواطآ فيها على ذلك بيع صحيح. الوجه الثاني: أن الحديث ليس فيه عموم؛ لأنه قال: "وابتع بالدراهم جَنيبًا"، والأمر بالحقيقة المطلقة ليس أمرًا بشيء من قيودها؛ لأن الحقيقة مشتركة بين الأفراد، والقدر المشترك ليس هو ما يميِّز كل واحد من الأفراد عن الآخر، ولا هو مستلزمًا له، فلا يكون الأمر بالمشترك أمرًا بالمميز بحال. نعم هو مستلزم لبعض تلك القيود لا بعينه، فيكون عامًّا لها على سبيل البدلِ، لكن ذلك لا يقتضي العموم بالأفراد على سبيل الجمع، وهو المطلوب. فقوله: بعْ هذا الثوب، لا يقتضي الأمر ببيعه من زيد أو عمرو، ولا بكذا وكذا، ولا بهذه السوق أو هذه؛ فإن اللفظ لا دلالة له على شيء من ذلك، لكن إذا أتى بالمسمى حصل ممتثلًا من جهة وجود تلك الحقيقة، لا من جهة وجود تلك القيود.

غلط من قال: إن عدم الأمر بالقيود يستلزم عدم الإجزاء

إذا تبين ذلك فليس في الحديث أنه أمره أن يبتاعَ من المشتري، ولا أمره أن يبتاع من غيره، ولا بنَقْدِ البلد ولا غيره، ولا بثمن حالٍّ أو مؤجَّل؛ فإن هذه القيود خارجة عن مفهوم اللفظ، ولو زعم زاعم أن اللفظ يَعُمّ هذا كله كان مبطلًا، لكن اللفظ لا يمنع الإجزاء إذا أتى بها. وقد قال بعض الناس: إن عدم الأمر بالقيود يستلزم عدم الإجزاء إذا أتى بها إلا بقرينة. وهذا غلط بيّن؛ فإن اللفظ لا تَعَرُّض فيه للقيود بنفي ولا إثبات، ولا الإتيان بها ولا تركُها من لوازم الامتثال، وإن كان المأمورُ به لا يخلو عن واحد منها، ضرورة وقوعه جزئيًّا مُشَخِّصًا، فذلك من لوازم الواقع، لا أنه مقصود للأمر، وإنما يستفاد الأمر بتلك اللوازم أو النهي عنها من دليل منفصل. وقد خرج بهذا الجوابُ عن قول من قال: لو كان الابتياعُ من المشتري حرامًا لنهى عنه، فإن مقصوده - صلى الله عليه وسلم - إنما هو بيان الطريق التي يحصل بها اشتراءُ التمر الجيِّد لمن عنده رديء، وهو أن يبيع الرديء بثمن، ثم يبتاع بالثمن جيِّدًا، ولم يتعرض لشروط البيع وموانعه، فلا معنى للاحتجاج بهذا الحديث على نفي شرط مخصوص، كما لا يحُتجّ به على نفي سائر الشروط. وهذا بمنزلة الاحتجاج بقوله تعالى: {وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ} [البقرة: 187] على جواز أكل كُلّ ذي نابٍ من السباع ومِخْلبِ من الطير، وعلى حِلّ ما اختُلِف فيه من الأشربة، ونحو ذلك؛ فالاستدلال بذلك استدلال غير صحيح، بل هو من أبطل الاستدلال؛ إذ لا تعرُّض للَّفظ لذلك، ولا أُريد به تحليل مأكول ومشروب، وإنما أُريد به بيان وقت الأكل والشرب وانتهائه.

وكذلك الاستدلال بقوله تعالى: {وأنكحوا الأيامى منكم}، وقوله: {وأحل الله البيع وحرم الربا}

وكذلك من استدل بقوله تعالى: {وَأَنْكِحُوا الْأَيَامَى مِنْكُمْ} [النور: 32] على جواز نكاح الزانية قبل التوبة، وصحة نكاح المحلِّل، وصحة نكاح الخامسة في عدة الرابعة، أو نكاح المتعة أو الشغار أو غير ذلك من الأنكحة الباطلة = كان استدلاله باطلًا. وكذلك من استدل بقوله تعالى: {وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ} [البقرة: 275] على حِلّ بيع الكلب أو غيره مما اختلف فيه = فاستدلاله باطل؛ فإن الآية لم يُرَدْ بها بيان ذلك، وإنما أريد بها الفرق بين عقد الربا وبين عقد البيع، وأنه سبحانه حَرّم هذا وأباح هذا، فأمَّا أن يُفْهم منه أنه أحلَّ بيع كل شيء فهذا غير صحيح. وهو بمنزلة الاستدلال بقوله تعالى: {وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلَا تُسْرِفُوا} [الأعراف: 31] على حل كل مأكولٍ ومشروب. وبمنزلة الاستدلال بقوله: "من استطاع منكم الباءةَ فليتزوَّجْ" (¬1) على حِلّ الأنكحة المختلف فيها. وبمنزلة الاستدلال بقوله تعالى: {إِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ} [الطلاق: 1] على جواز جمع الثلاث ونفوذه، وعلى صحة طلاق المكره والسكران. وبمنزلة الاستدلال بقوله تعالى: {وَلَا تَنْكِحُوا الْمُشْرِكَاتِ حَتَّى يُؤْمِنَّ} [البقرة: 221] على صحة النكاح بلا ولي، أو بلا شهود وغير ذلك من الصور المختلف فيها. ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري (1905)، ومسلم (1400) عن ابن مسعود.

وبمنزلة الاستدلال بقوله تعالى: {فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ} [النساء: 3] على حِلِّ (¬1) كل نكاح اختلف فيه، فيستدل به على صحة نكاح المتعة، والمحلل، والشغار، والنكاح بلا ولي وبلا شهود، ونكاح الأخت في عدة أختها، ونكاح الزانية، والنكاح المنفيِّ فيه المهرُ، وغير ذلك. وهذا كله استدلال فاسد في النظر والمناظرة. ومن العجب أن يُنْكِر مَنْ يسلكه على ابن حَزم استدلاله بقوله تعالى: {وَعَلَى الْوَارِثِ مِثْلُ ذَلِكَ} [البقرة: 233] على وجوب نفقة الزوجة على زوجها إذا أعسر بالنفقة، وكان لها ما تنفق منه، فإنها وارثة له. وهذا أصح من تلك الاستدلالات؛ فإنه استدلال بعام لفظًا ومعنى قد عُلّق الحكم فيه بمعنى مقصود يقتضي العموم، وتلك مطلقة لا عموم فيها لفظًا ولا معنى، ولم يقصد بها تلك الصور التي استدلُّوا بها عليها. إذا عُرف هذا فالاستدلال بقوله: "بع الجَمْع بالدراهم، ثم ابتع بالدراهم جَنيبًا" لا يدلّ على جواز بيع العِينة بوجه من الوجوه، فمن احتج به على جوازه وصحته فاحتجاجه باطل. وليس الغالب أن بائع التمر بدراهم يبتاع بها من المشتري، حتى يقال: هذه الصورة غالبة، بل الغالب أنّ من يفعل ذلك يعرضه على أهل السوق عامة، أو حيث يقصد، أو ينادي عليه، وإذا باعه لواحد منهم فقد تكون عنده السلعة التي يريدها، وقد لا تكون. ومثل هذا: إذا قال الرجل فيه لوكيله: بع هذا القطن، واشترِ بثمنه ثياب ¬

_ (¬1) "حل" ساقطة من م.

بطلان الاحتجاج بحديث بلال على جواز بيع العينة ومثله إذا قال: بع هذا القطن واشتر بثمنه ثياب قطن ونحو ذلك

قطن، أو بع هذه الحنطة العتيقة، واشتر بثمنها جديدة: لا يكاد يخطر بباله الاشتراء من ذلك المشتري بعينه، بل يشتري من حيث وجد غرضه، ووجود غرضه عند غيره أغلب من وجوده عنده. فإن قيل: فَهَبْ أن الأمر كذلك، فهلّا نهاه عن تلك الصورة وإن لم يدخل في لفظه؟ فإطلاقه يقتضي عدم النهي عنها. قيل: إطلاق اللفظ لا يقتضي المنع منها، ولا الإذنَ فيها، كما تقدم بيانه، فحكمها إذنًا ومنعًا يستفاد من مواضع آخر، فغاية هذا اللفظ: أن يكون قد سكت عنها، فقد عُلم تحريمها من الأدلة الدالة على تحريم العِينة. الوجه الثالث: أن قوله: "بع الجمع بالدراهم" إنما يفهم منه البيع المقصود الخالي عن شرطٍ يمنع كونه مقصودًا، بخلاف البيع الذي لا يُقصد؛ فإنه لو قال: بع هذا الثوب، أو بعتُ هذا الثوب، لم يفهم منه بيع المكره، ولا بيع الهازل، ولا بيع التَّلْجِئةِ، وإنما يُفْهَمُ منه البيع الذي يُقْصَد به نقل ملك العوض (¬1)، وقد تقدم تقرير هذا. يوضحه: أن مثل هذين قد يتراوضان أولًا على بيع التمر بالتمر متفاضلًا، ثم يجعلان الدراهم مُحلِّلًا غير مقصودِهِ، والمقصود إنما هو بيع صاع بصاعين، ومعلوم أن الشارع لا يأذن في مثل هذا، فضلًا عن أن يأمر به ويرشد إليه. الوجه الرابع: إن النبي - صلى الله عليه وسلم - نهى عن بيعتين في بيعة (¬2)، ومتى تواطآ على ¬

_ (¬1) م: "فعل ملك العوضين". والمثبت من بقية النسخ. (¬2) رواه أحمد (2/ 432، 475، 503)، والترمذي (1231)، والنسائي (4632)، وأبو يعلى (6124)، والبيهقي في الكبرى (5/ 343)، وغيرهم من حديث أبي هريرة =

الوجه الخامس: اقتضاء قوله - صلى الله عليه وسلم -: "بع الجمع بالدراهم" بيعا ينشئه ويبتدئه بعد البيع الأول

أن يبيعه بالثمن، ثم يبتاع به منه، فهو بيعتان في بيعة، فلا يكون داخلًا في الحديث؛ إذ المنهي عنه لا يتناوله المأذون فيه. يبيِّن ذلك: الوجه الخامس: وهو أنه - صلى الله عليه وسلم - قال: "بع الجمع بالدراهم، ثم ابتع بالدراهم جنيبًا"، وهذا يقتضي بيعًا يُنشئه ويبتدئه بعد انقضاء البيع الأول، ومتى واطأه من أول الأمر على أن أبيعك وأبتاع منك فقد اتفقا على العقدين معًا، فلا يكون داخلًا في حديث الإذن، بل في حديث النهى. الوجه السادس: أنه لو فرض أن في الحديث عمومًا لفظيًّا فهو مخصوص بصور لا تعدّ؛ فإن كل بيع فاسد فهو غير داخل فيه، فتضعُفُ دلالته، وتُخَصُّ منه الصورة التي ذكرناها بالأدلة التي هي نصوص، أو كالنصوص؛ فإخراجها من العموم أسهل الأشياء وبالله التوفيق. فصل وقد تبين بهذا بطلان الاستدلال على جواز الحيل الباطلة، بقوله تعالى: {إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً حَاضِرَةً تُدِيرُونَهَا بَيْنَكُمْ} [البقرة: 282]، وأن هذا يتناول صورة العِينة وغيرها؛ فإن المتبايعَيْن يُديران السلعة بينهما. ¬

_ = رضي الله عنه، قال الترمذي: "حديث حسن صحيح"، وصححه ابن الجارود (600)، وابن حبان (4973)، وابن عبد البر في التمهيد (24/ 388)، والبغوي في شرح السنة (2111)، وابن العربي في العارضة (3/ 191)، والنووي في المجموع (9/ 341)، وابن دقيق العيد في الإلمام (958)، وابن الملقن في البدر المنير (6/ 496)، وحسنه الألباني في الإرواء (5/ 149)، وهو في السلسلة الصحيحة (2326). وفي الباب عن ابن عمر وعبد الله بن عمرو وابن مسعود رضي الله عنهم.

معاملات التجارة واضحة المغايرة لمعاملات الربا مهما احتالوا على إخفائها

فإن الله سبحانه قسَّم البِيَاعَات المقصودة التي شرعها لعباده، ونصبها إقامةً لمصالحهم في معاشهم ومعادهم: إلى بيوع مُؤَجَّلة وبيوع حالَّة، ثم أمرهم أن يستوثقوا في البيوع المؤجّلة بالكتاب والشهود، وإن عدموا ذلك في السفر استوثقوا بالرهن؛ حفظًا لأموالهم، وتخلُّصَا من بطلان الحقوق بجحودِ أو نسيان، ثم أخبرهم أنه لا حرج عليهم في ترك ذلك في البيوع الحالَّة؛ لأمنهم فيها مَفسدة التجاحد والنسيان. والمراد بالتجارة الدائرة: البياعات التي تقع غالبًا بين الناس. ولم يفهم أحدٌ من أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ولا من التابعين، ولا تابعيهم، ولا أهل التفسير، ولا أئمة الفقهاء منها: المعاملة الدائرة بالربا بين المترابِيَيْن، بل فهموا تحريمها من نصوص تحريم الربا، ولا ريب أن دخولها في تلك النصوص أظهر من دخولها في هذه الآية. ومما يدلُّ عليه: أن هذه المعاملة الدائرة بينهما بالربا لا تكون في الغالب إلا مع أجل، بأن يبتاع منه سِلْعةً بثمن حالِّ، ثم يبيعها إياه بأكثر منه إلى أجل، وذلك في الغالب مما يطلب عليه الشهود والكتاب، خشية الجحود، والله سبحانه قال: {إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً حَاضِرَةً تُدِيرُونَهَا بَيْنَكُمْ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَلَّا تَكْتُبُوهَا} [البقرة: 282]، فاستثنى هذا من قوله: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا تَدَايَنْتُمْ بِدَيْنٍ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى فَاكْتُبُوهُ} [البقرة: 282]. وهذه المعاملة الربوية قد اتفقا فيها على التداين إلى أجل مسمّى، واتفقا فيها على المئة بمئة وثلاثين ونحو ذلك، فأين هي من التجارة الحاضرة، التي يعرف الناس الفرق فيها بين التجارة والربا؟

فصل: وأما استدلالكم با لمعاريض على جواز الحيل

فالتجارة في كلام الله ورسوله، ولغة العرب، وعرف الناس، إنما تنصرف إلى البياعات المقصودة التي يقصد فيها الثمن والمثمَّن، وأما ما تواطآ فيه على الربا المحض، ثم أظهرا بيعًا غير مقصود لهما البتة، يتوسَّلان به إلى أن يعطيه مئة حالّة بمئة وعشرين مؤجَّلة، فهذا ليس من التجارة المأذون فيها، بل من الربا المنهي عنه، والله أعلم. فصل وأما استدلالكم بالمعاريض على جواز الحيل، فما أبطله من استدلال! فأين المعاريض التي يتخلّص بها الإنسانُ من الظلم والكذب إلى الحيل التي يُسْقِط بها ما فرض الله تعالى، ويستحِلّ بها ما حرم الله؟ فالمعَرِّض تكلّم بحقًّ، ونطق بصدقٍ فيما بينه وبين الله تعالى، لا سيّما إذا لم يَنْوِ باللفظ خلاف ظاهره في نفسه، وإنما كان الظهور من ضعف فهم السامع وقُصوره في معرفة دلالة اللفظ، ومعاريضُ النبي - صلى الله عليه وسلم - ومزاحه عامّتُه كان من هذا الباب، كقوله: "نحن من ماء" (¬1)، و"إنا حاملوك على وَلَد الناقة" (¬2)، و"زوجُكِ الذي في عينه بياض" (¬3)، و"لا يدخلُ الجنة ¬

_ (¬1) تقدم تخريجه. (¬2) رواه أحمد (3/ 267)، والبخاري في الأدب المفرد (268)، وأبو داود (5000)، والترمذي (1991)، وأبو يعلى (3776)، والبيهقي في الكبرى (10/ 248)، والضياء في المختارة (1899 - 1901)، وغيرهم من حديث أنس رضي الله عنه، قال الترمذي: "هذا حديث حسن صحيح غريبٌ"، وتبعه البغوي في شرح السنة (3605)، وهو في صحيح الأدب المفرد (202). (¬3) ذكره ابن قتيبة في تأويل مختلف الحديث (ص 293) بغير إسناد، وذكره الغزالي في =

المعرض يقصد باللفظ ما جعل دالا عليه ومثبتا له في الجملة

عجوز" (¬1)؛ وأكثر معاريض السلف كانت من هذا. فالمعرِّض إنما يقصد باللفظ ما جُعل اللفظ دالاًّ عليه، ومثبتًا له في الجملة، فهو لم يخرُج بتعريضه عن حدود الكلام؛ فإن الكلام فيه الحقيقة والمجاز، والعام والخاص، والمطلق والمقيَّد، والمفرد والمشترك، والمتباين والمترادف، وتختلف دلالته تارةً بحسب اللفظ المفرد، وتارةً بحسب التأليف، فأين هذا من الحيل التي يُقصد بالعقد فيها ما لم يُشرَع العقدُ له أصلًا، ولا هو مقتضاه ولا مُوجَبه شرعًا ولا حقيقةً؟ وفرقٌ ثانٍ، وهو أن المعرِّض لو صرّح بقصده لم يكن باطلًا ولا محرّمًا، بخلاف المحتال، فإنه لو صرّح بما قصده بإظهار صورة العقد كان محرّمًا باطلًا؛ فإن المرابي بالحيلة لو قال: بعتك مئة حالّةً بمئة وعشرين إلى سنة ¬

_ = الإحياء (3/ 129) عن زيد بن أسلم مرسلا، قال العراقي: "أخرجه الزبير بن بكار في كتاب الفكاهة والمزاح، ورواه ابن أبي الدنيا من حديث عبيدة بن سهم الفهري مع اختلافٍ". (¬1) رواه الترمذي في الشمائل (230) - ومن طريقه البغوي في تفسيره (8/ 14) -، والثعلبي في تفسيره (9/ 210)، والبيهقي في البعث (346)، وغيرهم من طرق عن المبارك بن فضالة عن الحسن مرسلًا. ورواه الطبراني في الأوسط (5545) - وعنه أبو نعيم في صفة الجنة (422) - من طريق ابن أبي عروبة عن قتادة عن ابن المسيب عن عائشة، قال الهيثمي في المجمع (10/ 776): "فيه مسعدة بن اليسع وهو ضعيف"، قال الذهبي في الميزان (4/ 98): "هالك"، وروِي من غير طريقه عن ابن المسيب مرسلًا. ورواه الطبري في تفسيره (18/ 546) وأبو نعيم في أخبار أصبهان (2/ 107) والبيهقي في البعث (343) من طريق ليث عن مجاهد عن عائشة، ورواه غيرهم عن مجاهد أن النبي - صلى الله عليه وسلم - دخل على عائشة وعندها عجوز .. مرسل. وهو في السلسلة الصحيحة (2987).

المعرض قاصد دفع الشر والمحتال قاصد دفع الحق

كان حرامًا باطلًا، وذلك عينُ مقصوده ومقصود الآخر. وكذلك المُقرِضُ لو قال: أقرضتك ألفًا على أن تُعيدها إليّ، ومعها زيادة كذا وكذا، كان حرامًا باطلًا، وذلك نفسُ مقصوده. وكذلك المحلِّلُ لو قال: تزوجتها على أن أُحِلّها للمطلّق ثلاثًا. والمعرِّضُ لو صرح بمقصوده لم يكن حرامًا، فأين أحدهما من الآخر؟ وفرق ثالث، وهو أن المعرِّض قصد بالقول ما يحتمله اللفظ أو يقتضيه، والمحتال قصد بالعقد ما لا يحتمله، ولا جُعل مقتضيًا له، لا شرعًا، ولا عرفًا، ولا حقيقةً. وفرق رابع، وهو أن المعرّض مقصدُه صحيح، ووسيلته جائزة، فلا حَجْر عليه في مقصوده، ولا في توسله إلى مقصوده، بخلاف المحتال؛ فإن قصده أمرٌ محرَّم، ووسيلته باطلة، كما تقدم تقريره. وفرق خامس، وهو أن التعريض المباح ليس من مخادعة الله سبحانه في شيء، وإنما غايته أنه مخادعة لمخلوقٍ أباح الشارع مخادعته لظلمه، جزاءً له على ذلك، ولا يلزم من جواز مخادعة الظالم جوازُ المُحِقّ، فما كان من التعريض مخالفًا لظاهر اللفظ في نفسه كان قبيحًا إلا عند الحاجة، وما لم يكن كذلك كان جائزًا إلا عند تضمُّن مفسدةٍ. والذي يدخلُ في الحيل المذمومة إنما هو الأول، فالمعرِّض قاصدٌ لدفع الشر، والمحتالُ بالباطل قاصد لدفع الحق. والتعريضُ كما يكون بالقول يكون بالفعل، كما يُظهرُ المحاربُ أنه يريد وجهًا من الوجوه، ويسافر إلى تلك الناحية، لِيَحْسِب العدوّ أنه لا يريده، ثم يَكُرّ عليه.

قول سليمان للمرأتين: ائتوني بالسكين أشقه بينكما

ومثل أن يَسْتَطرد المبارز بين يدي خصمه ليظنّ هزيمته، ثم يعطفَ عليه. ومثل أن يظهر ضعفًا وعجزًا يتخلَّص به من تسخيره وأذاه، ونحو ذلك. وقد يكون التعريض بالقول والفعل معًا، كما قال سليمان عليه السلام: "ائتوني بالسكين أشُقَّه بينكما" (¬1). وقد يكون بإظهار الصّمم وأنه لا يسمع، وبإظهار النوم، وإظهار الشّبع، وإظهار الغنى، بحيث يحسبه الجاهل غنيًّا. وكما يقع الإجمال في الأقوال فكذلك يقعُ في الأفعال، كما أعطى النبي - صلى الله عليه وسلم - عمر رضي الله عنه حُلَّةً من حرير، فلمّا لبسها أنكر عليه، وقال: "لم أُعْطِكَها لتلبسها"، فكساها أخًا له مشركًا بمكة (¬2). فكل من الإجمال والاشتراك والاشتباه يقع في الألفاظ تارةً، وفى الأفعال تارةً، وفيهما معًا تارةً. ومن أنواع التعريض: أن يتكلم المتكلم بكلام حقٍّ، يقصدُ به حقيقته وظاهره، ويوهم السامع نسبته إلى غير قائله؛ ليقبله ولا يَرُدَّه عليه، أو ليتخلَّص به من شرِّه وظلمه، كما أنشد عبد الله بن رواحة رضي الله تعالى عنه امرأته تلك الأبيات، وأوهمها أنه يقرأ القرآن، فتخلَّص بذلك من شرّها (¬3). ¬

_ (¬1) تقدم تخريجه. (¬2) أخرجه البخاري (886)، ومسلم (2068) عن ابن عمر. وقد تقدم تخريجه. (¬3) تقدم تخريجه.

فصل: وأما احتجاجهم بقصة يوسف

وكذلك إذا كان الرجلُ يريد تنفيذ حقًّ صحيح، ولكن لا يُقبل منه، لكونه هو أو مَنْ لا يحسَنُ به الظن قائله، فإذا عَرّض للمخاطب بنسبة الكلام إلى معظّم يقبله منه كان من أحسن التعريض، كما علّمه أبو حنيفة رحمه الله أصحابه، حين شكَوْا إليه: إنا نقول لهم: قال أبو حنيفة، فيبادرون بالإنكار، فقال: قولوا لهم المسألة، فإذا استحسنوها ووقعت منهم بموقعٍ فقولوا: هذا قول أبي حنيفة. وكما يجري لأصحابنا مع الجهمية وفروخهم كثيرًا. فصل وأما استدلالهم بأن الله سبحانه علّم نبيَّه يوسف عليه السلام الحيلة التي تَوَصَّل بها إلى أخذ أخيه إلى آخره، فهذا قد ظنّ بعض أرباب الحيل أنه حجةٌ لهم في هذا الباب، وليس كما زعموا، والاستدلال بذلك من أبطل الباطل. فإن المحتجِّين بذلك لا يجوّزون شيئًا مما في هذه القصة البتة، ولا تُجَوزُها شريعتنا بوجه من الوجوه، فكيف يحتجّ المحتجّ بما يحرم العمل به، ولا يسوّغه بوجهٍ من الوجوه؟ والله سبحانه إنما سَوّغ ذلك لنبيه يوسف عليه السلام جزاءً لإخوته، وعقوبةً لهم على ما فعلوا به، ونَصْرًا له عليهم، وتصديقًا لرؤياه، ورفعةً لدرجته ودرجة أبيه صلوات الله وسلامه على نبينا وعليهم. وبعدُ، ففي قصته مع إخوته ضروبٌ من الحيل المستحسنة: أحدها: قوله لفتيانه: {اجْعَلُوا بِضَاعَتَهُمْ فِي رِحَالِهِمْ لَعَلَّهُمْ يَعْرِفُونَهَا إِذَا انْقَلَبُوا

إِلَى أَهْلِهِمْ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ} [يوسف: 62]؛ فإنه تسبب بذلك إلى رجوعهم، وقد ذكروا في ذلك معاني: منها: أنه تخوّفَ أن لا يكون عندهم وَرِقٌ يرجعون بها. ومنها: أنه خشي أن يَضُرَّ أخذُ الثمن بهم. ومنها: أنه رأى لُؤمًا أخذ الثمن منهم. ومنها: أنه أراهم كرمه في رَدّ البضاعة؛ ليكون أدعى لهم إلى العود. وقد قيل: إنه علم أن أمانتهم تحوِجُهم إلى الرجعة ليردُّوها إليه، فهذا المحتال به عمل صالح. والمقصود رجوعهم ومجيء أخيه، وذلك أمر فيه منفعة لهم ولأبيهم وله، وهو مقصود صالح، وإنما لم يُعَرّفهم نفسه لأسباب أُخر، فيها منفعة لهم ولأبيهم وله، وتمامٌ لما أراده الله تعالى بهم من الخير في هذا البلاء. وأيضًا، فلو عرّفهم نفسه في أول مرة لم يقع الاجتماعُ بهم وبأبيه ذلك الموقع العظيم، ولم يكلّ ذلك المَحَلّ، وهذه عادة الله سبحانه في الغايات العظيمة الحميدة: إذا أراد أن يوصل عبدَه إليها هيأ لها أسبابًا من المحن والبلايا والمشاقّ، فيكون وصوله إلى تلك الغايات بعدَها كوصول أهل الجنة إليها بعد الموت، وأهوال البرْزَخ، والبعث والنشور والموقف، والحساب، والصراط، ومقاساة تلك الأهوال والشدائد. وكما أدخل رسول - صلى الله عليه وسلم - إلى مكة ذلك المدخل العظيم، بعد أن أخرجه الكفارُ ذلك المخرج، ونصره ذلك النصر العزيز، بعد أن قاسى مع أعداء الله ما قاساه.

فصل: كان وضع يوسف الصواع في رحل أخيه بمواطأة الأخ وإذنه

وكذلك ما فعله برسله كنوح، وإبراهيم، وموسى، وهود، وصالح، وشعيب على نبينا وعليهم السلام، فهو سبحانه يوصل إلى الغايات الحميدة بالأسباب التي تكرهها النفوس وتشق عليها. كما قال تعالى: {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئًا وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ} [البقرة: 216]. ورُبَّمَا كَانَ مَكْرُوهُ النُّفُوسِ إِلىَ ... مَحْبُوبِهَا سَبَبًا مَا مِثْلُهُ سَبَبُ (¬1) وبالجملة، فالغايات الحميدة في خبايا الأسباب المكروهة الشاقة، كما أن الغايات المكروهة المؤلمة في خبايا الأسباب المشتهاة المستلذة. وهذا من حين خلق الله سبحانه الجنة وحَفَّها بالمكاره، والنار وحَفَّها بالشهوات (¬2). فصل ومنها: أنه لما جَهَّزَهُم في المرة الثانية بِجَهازهم جعل السِّقاية في رَحْل أخيه. وهذا القَدْر يتضمن اتهام أخيه بأنه سارق. وقد قيل: إنه كان (¬3) بمواطأةٍ من أخيه ورضاه منه بذلك، والحق كان له، وقد أذِن فيه، وطابت نفسُه به، ودلّ على ذلك قوله تعالى: {وَلَمَّا دَخَلُوا عَلَى يُوسُفَ آوَى إِلَيْهِ أَخَاهُ قَالَ إِنِّي أَنَا أَخُوكَ فَلَا تَبْتَئِسْ بِمَا كَانُوا ¬

_ (¬1) البيت للبحتري في ديوانه (1/ 171). وذكره المؤلف بلا نسبة في زاد المعاد (3/ 310)، وطريق الهجرتين (1/ 348). (¬2) كما في حديث أبي هريرة الذي أخرجه البخاري (6487)، ومسلم (2823). (¬3) "كان" ساقطة من م.

يَعْمَلُونَ} [يوسف: 69]، فهذا يَدَلُّ على أنه عَرّف أخاه نفسه. وقد قيل: إنه لم يصرِّح له بأنه يوسف، وأنه إنما أراد بقوله: {إِنِّي أَنَا أَخُوكَ} [يوسف: 69]؛ أي: أنا مكان أخيك المفقود. ومن قال هذا قال: إنه وضع السّقاية في رَحْل أخيهِ، والأخ لا يشعر بذلك. والقرآنُ يدل على خلاف هذا، والعدل يَرُدّه، وأكثر أهل التفسير على خلافه. ومن لطيف الكيد في ذلك: أنه لما أراد أخذ أخيه توصّل إلى أخذه بما يُقِرّ إخوتُه أنه حقٌّ وعدل، ولو أخذه بحكم قدرته وسلطانه لنُسِبَ إلى الظلم والجور، ولم يكن له طريق في دين الملك يأخذه بها، فتوصَّل إلى أخذه بطريق يعترف إخوته أنها ليست ظلمًا، فوضع الصُّواع في رحل أخيه بمواطأة منه له على ذلك، ولهذا قال له: {فَلَا تَبْتَئِسْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ}. ومن لطيف الكيد: أنه لم يُفَتِّشْ رحالهم وهم عنده، بل أمهلهم حتى جَهَّزَهُم بجهازهم، وخرجوا من البلد، ثم أرسل في آثارهم لذلك. قال ابن أبي حاتم في "تفسيره" (¬1): حدثنا علي بن الحسين، حدثنا محمد بن عيسى، حدثنا سَلَمة عن ابن إسحاق، قال: أمهلهم، حتى إذا ¬

_ (¬1) تفسير ابن أبي حاتم (11796)، ورواه أيضًا الطبري في تفسيره (19522) عن ابن حميد عن سلمة بنحوه.

ما في تأذينهم في العير بصوت عال وتفتيش متاع الإخوة من لطائف الكيد

انطلقوا فأمعنوا من القرية أمر فأُدرِكوا، ثم أُجلسوا، ثم ناداهم منادٍ: {أَيَّتُهَا الْعِيرُ إِنَّكُمْ لَسَارِقُونَ} [يوسف: 70] فوقفوا، وانتهى إليهم رسوله، فقال لهم فيما تذكرون: ألم نُكرم ضيافتكم، ونوفّكم كَيْلَكم ونحسن منزلتكم، ونفعلْ بكم ما لم نفعله بغيركم، وأدخلناكم علينا في بيوتنا ومنازلنا؟ قالوا: بلى، وما ذاك؟ قال: إنكم لسارقون. وذكر عن السُّدِّي (¬1): فلما ارتحلوا أذّن مؤذن: أيّتُها العير! والسياق يقتضى ذلك؛ إذ لو كان هذا وهُمْ بحضرته لم يحتَجْ إلى الأذان، وإنما يكون الأذان نداءً لبعيد، يطلب وقوفه وحَبْسَهُ. فكان في هذا من لطيف الكيد: أنه أَبْعَدُ من التهمة للطالب بالمواطأة والموافقة، وأنه لا يشعر بما فُقِدَ له، فكأنه لمَّا خرج القوم وارتحلوا، وفَصلوا عن المدينة احتاج الملك إلى صُواعه لبعض حاجته إليه، فالتمسه، فلم يجده، فسأل عنه الحاضرين، فلم يجدوه، فأرسلوا في إثْرِ القوم، فهذا أحسن وأبعد من التفطّن للحيلة من التفتيش في الحال قبل انفصالهم عنه، بل كما ازدادوا بعدًا عنه كان أبلغ في هذا المعنى. ومن لطيف الكيد: أنه أذن فيهم بصوت عالٍ رفيع، يسمعه جميعهم، ولم يقل لواحد واحد منهم؛ إعلامًا بأنَّ ذهاب الصّواع أمر قد اشتهر، ولم يَبْقَ به خفاء، وأنتم قد اشتهرتم بأخذه، ولم يُتَّهم به سواكم. ومن لطيف الكيد: أن المؤذن قال: {إِنَّكُمْ لَسَارِقُونَ}، ولم يعيِّن ¬

_ (¬1) رواه الطبري في تفسيره (19521)، وابن أبي حاتم في تفسيره (11795) من طريق أسباط عن السدي.

المسروق، حتى سألهم عنه القوم، فقالوا لهم: {مَاذَا تَفْقِدُونَ (71) قَالُوا نَفْقِدُ صُوَاعَ الْمَلِكِ} [يوسف: 71، 72]، فاستقر عند القوم أن الصواع هو المتَّهم به، وأنهم لم يفقدوا غيره، فإذا ظهر لم يكونوا ظالمين باتهامهم (¬1) بغيره، وظهر صدقهم وعدلهم في اتهامهم به وحده، وهذا من لطيف الكيد. ومن لطيف الكيد: قول المؤذن وأصحابه لإخوة يوسف عليه السلام: {فَمَا جَزَاؤُهُ إِنْ كُنْتُمْ كَاذِبِينَ} [يوسف: 74]؛ أي: ما عقوبة من ظهر عليه أنه سرقه منكم، ووُجد معه؟ أي: ما عقوبته عندكم وفي دينكم؟ {قَالُوا جَزَاؤُهُ مَنْ وُجِدَ فِي رَحْلِهِ فَهُوَ جَزَاؤُهُ} [يوسف: 75]؛ فأخذوهم بما حكموا به على أنفسهم، لا بحكم الملك وقومه. ومن لطيف الكيد: أن الطالب لما هَمّ بتفتيش رواحلهم بدأ بأوعيتهم يُفتِّشها قبل وعاء مَنْ هو معه؛ تطمينًا لهم، وبُعْدًا عن تهمة المواطأة. فإنه لو بدأ بوعاء من هوفيه لقالوا: وما يُدريه أنه في هذا الوعاء، دون غيره من أوعيتنا؟ وما هذا إلا بمواطأةٍ وموافقة! فأزال هذه التهمة بأن بدأ بأوعيتهم أولًا، فلما لم يجده فيها هَمّ بالرجوع قبل تفتيش وعاء مَنْ فيه الصواع، وقال: ما أراكم سارقين، وما أظن هذا أيضًا أخذ شيئًا، فقالوا: لا والله، لا نَدَعُكم حتى تفتِّشوا متاعه؛ فإنه أطيبُ لقلوبكم، وأظهر لبراءتنا، فلما ألحُّوا عليهم بذلك فتَّشوا متاعه، فاستخرجوا منه الصواع، وهذا من أحسن الكيد، فلهذا قال تعالى: {فَبَدَأَ بِأَوْعِيَتِهِمْ قَبْلَ وِعَاءِ أَخِيهِ ثُمَّ اسْتَخْرَجَهَا مِنْ وِعَاءِ أَخِيهِ كَذَلِكَ كِدْنَا لِيُوسُفَ مَا كَانَ لِيَأْخُذَ أَخَاهُ فِي دِينِ الْمَلِكِ إِلَّا أَنْ ¬

_ (¬1) م: "باتهامه".

يَشَاءَ اللَّهُ نَرْفَعُ دَرَجَاتٍ مَنْ نَشَاءُ وَفَوْقَ كُلِّ ذِي عِلْمٍ عَلِيمٌ [يوسف: 76]. فالعلم بالكيد الواجب أو المستحب الذي يُتوصّل ب إلى طاعة الله تعالى ورسوله، ونصر المحقّ وكسر المبطل: مما يرفع الله به درجة العبد. وقد ذكروا في تسميتهم سارقين وجهين: أحدهما: أنه من باب المعاريض، وأن يوسف عليه السلام نوى بذلك أنهم سرقوه من أبيه، حيث غَيّبوه عنه بالحيلة التي احتالوا بها عليه، وخانوه فيه، والخائن يسمى سارقًا، وهو من الاستعمال المشهور. الثاني: أن المنادي هو الذي قال ذلك، من غير أمر يوسف عليه السلام. قال القاضي أبو يعلى وغيره: أمر يوسفُ بعضَ أصحابه أن يجعل الصاع في رحل أخيه، ثم قال بعض الموكّلين به لمّا فقده، ولم يدر مَنْ أخذه: {أَيَّتُهَا الْعِيرُ إِنَّكُمْ لَسَارِقُونَ} على ظن منهم أنهم كذلك، ولم يأمرهم يوسف عليه السلام بذلك، ولعل يوسف عليه السلام قال للمنادي: هؤلاء قد سرقوا، وعنى سرقته من أبيه، والمنادي فَهِمَ سرقة الصواع، وصدق في قوله: {إِنَّكُمْ لَسَارِقُونَ} لما أخبره به يوسف، وصدق في قوله: {نَفْقِدُ صُوَاعَ الْمَلِكِ}. وتأمل قوله: {إِنَّكُمْ لَسَارِقُونَ}، ولم يقل: {صُوَاعَ الْمَلِكِ}، ثم لما جاء إلى ذلك المفقود قال: {نَفْقِدُ صُوَاعَ الْمَلِكِ}، وهو صادق في ذلك، فحذف المفعول في قوله: {لَسَارِقُونَ}، وذكره في قوله: {نَفْقِدُ صُوَاعَ الْمَلِكِ}.

ليس بكاذب من أصلح بين الناس

وكذلك قال يوسف عليه السلام لما عُرض عليه أن يأخذ أحدهم مكان أخيهم: {قَالَ مَعَاذَ اللَّهِ أَنْ نَأْخُذَ إِلَّا مَنْ وَجَدْنَا مَتَاعَنَا عِنْدَهُ} [يوسف: 79]، ولم يقل: أن نأخذ إلا من سرق؛ فإن المتاع كان موجودًا عنده، ولم يكن سارقًا، وهذا من أحسن المعاريض. وقد قال نصر بن حاجب: سئل سفيان بن عُيينة (¬1) عن الرجل يعتذر إلى أخيه من الشيء الذي قد فعله، ويحرف القول فيه ليرضيه؛ أيأثم في ذلك؟ فقال: ألم تسمع قوله عليه الصلاة والسلام: "ليس بكاذب من أصلح بين الناس، فكذب فيه" (¬2)؟ فإذا أصلح بينه وبين أخيه المسلم كان خيرًا من أن يصلح بين الناس بعضهم في بعض، وذلك أنه أراد به مَرْضاة الله، وكراهية أذى المؤمن، ويندم على ما كان منه، ويدفع شرَّه عن نفسه، ولا يريد بالكذب اتخاذ المنزلة عندهم، ولا طمعًا في شيء يصيب منهم؛ فإنه لم يرخَّص في ذلك، ورخَّص له إذا كره مَوجِدَتَهُمْ وخاف عداوتهم. قال حُذيفة بن اليمان (¬3) رضي الله عنه: إني أشتري ديني بعضه ببعض؛ ¬

_ (¬1) ذكره من هذه الطريق ابن تيمية في بيان الدليل (ص 209)، ورواه ابن عبد البر في التمهيد (16/ 250) بإسناده عن نعيم بن حماد قال: قلت لسفيان بن عيينة: أرأيت الرجل يعتذر إليّ من الشيء عسى أن يكون قد فعله ويحرّف فيه القول ... وذكره. (¬2) أخرجه البخاري (2692)، ومسلم (2605) عن أم كلثوم بنت عقبة. (¬3) رواه في المخارج في الحيل (ص 6) من طريق مسعر بن كدام، وابن أبي شيبة (6/ 474) والطبري في تهذيب الآثار (238 - مسند علي-) وأبو نعيم في الحلية (1/ 279) - وعنه ابن عساكر في تاريخه (12/ 294) - من طريق الأعمش، كلاهما =

احتج بعضهم بالقصة لجواز توصل الإنسان إلى حقه بما يمكنه، وهي حجة ضعيفة

مخافة أن أتقدم على ما هو أعظم منه. قال سفيان (¬1): وقال الملكان: {خَصْمَانِ بَغَى بَعْضُنَا عَلَى بَعْضٍ} [ص: 22]، أرَادَا مَعْنَى شيء، ولم يكونا خَصْمَين، فلم يصيرا بذلك كاذبين، وقال إبراهيم عليه السلام: {إِنِّي سَقِيمٌ} [الصافات: 89]، وقال: {بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هَذَا} [الأنبياء: 63]، وقال يوسف عليه السلام: {إِنَّكُمْ لَسَارِقُونَ}، أراد بمعنى أخيهم (¬2). فبيّن سفيان أن هذا كله من المعاريض المباحة، مع تسميته كذبًا، وإن لم يكن في الحقيقة كذبًا. وقد احتج بعضُ الفقهاء بقصة يوسف على أنه يجوز للإنسان التوصّلُ إلى أخذ حقِّه من الغير، بما يمكنه الوصول إليه بغير رضا من عليه الحق. قال شيخنا (¬3) رحمه الله: وهذه الحجة ضعيفة؛ فإن يوسف عليه السلام لم يكن يملك حبسَ أخيه عنده بغير رضاه، ولم يكن هذا الأخ ممن ظلم يوسف، حتى يقال: قد اقتصّ منه، وإنما سائر الإخوة هم الذين كانوا قد فعلوا ذلك، نعم كان تخلّفه عنهم مما يؤذيهم لتأذّي أبيهم، وللميثاق الذي ¬

_ = عن عبد الملك بن ميسرة عن النزال بن سبرة عن حذيفة بنحوه وفيه قضة. ورواه ابن أبي شيبة (6/ 474) وابن عبد البر في التمهيد (24/ 315) من طريق أبي قلابة عن حذيفة مختصرًا. (¬1) ذكره بهذا اللفظ ابن تيمية في بيان الدليل (ص 210)، ورواه ابن عبد البر في التمهيد (16/ 250، 251) بنحوه. وفيه: "وإنما أرادا الخير والمعنى الحسن". وهو أوضح. (¬2) كذا في الأصل. وفي بعض المراجع: "معنى أمرهم". (¬3) في بيان الدليل (ص 211).

أخذه عليهم، وقد استثنى في الميثاق بقوله: {إِلَّا أَنْ يُحَاطَ بِكُمْ} [يوسف: 66]، وقد أحيط بهم. ويوسف عليه السلام لم يكن قصده باحتباس أخيه الانتقام من إخوته؛ فإنه كان أكرمَ من هذا وإن كان في ضمن ما فعل من تأذّي أبيه أعظمُ من أذى إخوته؛ فإنما ذلك أمرٌ أمره الله تعالى به ليبلُغَ الكتاب أجله، ويَتِمّ البلاء الذي استحق به يوسف ويعقوب عليهما السلام كمال الجزاء، وعلوّ المنزلة، وتبلغ حكمة الله تعالى التي قدّرها وقضاها نهايتها. ولو فُرِضَ أن يوسف عليه السلام قصد الاقتصاص منهم بما فعل فليس هذا بموضع خلاف بين العلماء؛ فإن الرجل له أن يُعاقب بمثل ما عُوقب به، وإنما موضع الخلاف: هل له أن يخونه، كما خانه، أو يسرقه كما سرقه؟ ولم تكن قصة يوسف عليه السلام من هذا النوع. نعم، لو كان يوسف عليه السلام أخذ أخاه بغير أمره لكان لهذا المحتجّ شُبهةٌ، مع أنه لا شبهة له أيضًا على هذا التقدير؛ فإن مثل هذا لا يجوز في شرعنا بالاتفاق، ولو كان يوسف قد أخذ أخاه واعتقله بغير رضاه كان في هذا ابتلاءٌ من الله تعالى لذلك المعتقل، كأمر إبراهيم عليه السلام بذبح ابنه، فيكون المبيكله على هذا التقدير وحيًا خاضًا، كالوحي إلى إبراهيم عليه السلام بذبح ابنه (¬1)، وتكون حكمته في حق الأخ امتحانه وابتلاءه؛ لينال درجة الصبر على حكم الله، والرضا بقضائه، ويكون حالُه في هذا كحال أبيه يعقوب عليه السلام في احتباس يوسف عليه السلام عنه. ¬

_ (¬1) "فيكون المبيح ... ابنه" ساقطة من م.

نسبة الكيد إلى الله تعالى

وقد دل على هذا نسبةُ الله سبحانه ذلك الكيد إلى نفسه بقوله: {كَذَلِكَ كِدْنَا لِيُوسُفَ مَا كَانَ لِيَأْخُذَ أَخَاهُ فِي دِينِ الْمَلِكِ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ} [يوسف: 76]، وهو سبحانه ينسبُ إلى نفسه أحسن هذه المعاني، وما هو منها حكمة وحقٌّ وصوابٌ، وجزاءٌ للمسيء، وذلك غايةُ العدل والحق، كقوله: {إِنَّهُمْ يَكِيدُونَ كَيْدًا (15) وَأَكِيدُ كَيْدًا} [الطارق: 15، 16]، وقوله: {وَمَكَرُوا وَمَكَرَ اللَّهُ} [آل عمران: 54]، وقوله: {اللَّهُ يَسْتَهْزِئُبِهِمْ} [البقرة: 15]، وقوله: {إِنَّ الْمُنَافِقِينَ يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَهُوَ خَادِعُهُمْ} [النساء: 142]، وقوله: {وَأُمْلِي لَهُمْ إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ} [الأعراف: 183]. فهذا منه سبحانه في أعلى مراتب الحسن، وإن كان من العبد قبيحًا سيئًا؛ لأنه ظالم فيه، ومُوقعه بمن لا يستحقه، والرب تعالى عادل فيه، موقعه بأهله ومَن يستحقه، سواءً قيل: إنه مجاز للمشاكلة الصورية، أو للمقابلة، أو سماه كذلك مشاكلةً لاسم ما فعلوه، أو قيل: إنه حقيقة، وإنّ مسمّى هذه الأفعال ينقسم إلى مذموم ومحمود، واللفظ حقيقةٌ في هذا وهذا، كما قد بسطنا هذا المعنى، واستوفينا عليه الكلام في كتاب "الصواعق" (¬1). فصل وإذا عُرف ذلك، فيوسف صلوات الله عليه وسلامه كِيدَ من وجوه عديدة: أحدها: أن إخوته كادوه، حيثُ احتالوا في التفريق بينه وبين أبيه، كما قال له يعقوب صلوات الله وسلامه عليه: لَا تَقْصُصْ رُؤْيَاكَ عَلَى إِخْوَتِكَ فَيَكِيدُوا لَكَ كَيْدًا} [يوسف: 5]. ¬

_ (¬1) انظر مختصر الصواعق (ص 248 وما بعدها).

كيد امرأة العزيز ليوسف

وثانيها: أنهم كادوه، حيثُ باعوه بيعَ العبيد، وقالوا: إنه غلام لنا أبَقَ. وثالثها: كيد امرأة العزيز له بتغليق الأبواب، ودعائه إلى نفسها. ورابعها: كيدها له بقولها: {مَا جَزَاءُ مَنْ أَرَادَ بِأَهْلِكَ سُوءًا إِلَّا أَنْ يُسْجَنَ أَوْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} [يوسف: 25]، فكادته بالمراودة أولًا، وكادته بالكذب عليه ثانيًا، ولهذا قال لها الشاهد لما تبيَّن له براءة يوسف عليه السلام: {إِنَّهُ مِنْ كَيْدِكُنَّ إِنَّ كَيْدَكُنَّ عَظِيمٌ} [يوسف: 28]. وخامسها: كيدها له حيث جمعت له النسوة، وأخرجته عليهنّ، تستعين بهنّ عليه، وتستعذر إليهنّ من شغفها به. وسادسها: كيد النسوة له، حتى استجار بالله تعالى من كَيْدِهِنّ، فقال: {وَإِلَّا تَصْرِفْ عَنِّي كَيْدَهُنَّ أَصْبُ إِلَيْهِنَّ وَأَكُنْ مِنَ الْجَاهِلِينَ (33) فَاسْتَجَابَ لَهُ رَبُّهُ فَصَرَفَ عَنْهُ كَيْدَهُنَّ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ} [يوسف: 33، 34]، ولهذا لما جاءه الرسول بالخروج من السجن قال له: {ارْجِعْ إِلَى رَبِّكَ فَاسْأَلْهُ مَا بَالُ النِّسْوَةِ اللَّاتِي قَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ إِنَّ رَبِّي بِكَيْدِهِنَّ عَلِيمٌ} [يوسف: 50]. فإن قيل: فما كان مكر النسوة اللاتي مَكَرْن به، وسمعت به امرأة العزيز؟ فإن الله سبحانه لم يقصَّه في كتابه. قيل: بل قد أشار إليه بقوله: {وَقَالَ نِسْوَةٌ فِي الْمَدِينَةِ امْرَأَتُ الْعَزِيزِ تُرَاوِدُ فَتَاهَا عَنْ نَفْسِهِ قَدْ شَغَفَهَا حُبًّا إِنَّا لَنَرَاهَا فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ} [يوسف: 30]، وهذا الكلام متضمن لوجوه من المكر: أحدها: قولهنّ: {امْرَأَتُ الْعَزِيزِ تُرَاوِدُ فَتَاهَا عَنْ نَفْسِهِ}، ولم يسمُّوها

باسمها، بل ذكروها بالوصف الذي ينادي عليها بقبيح فعلها، بكونها ذات بَعْل، فصدور الفاحشة منها أقبح من صدورها ممَّن لا زوج لها. الثاني: أن زوجها عزيز مصر ورئيسها وكبيرها، وذلك أقبح لوقوع الفاحشة منها. الثالث: أن الذي همَّ (¬1) بها مملوك لا حُرّ، وذلك أبلغ في القبح. الرابع: أنه فتاها الذي هو في بيتها وتحت كَنَفها، فحكمه حكم أهل البيت، بخلاف من طلب ذلك من الأجنبي البعيد. الخامس: أنها هي المراوِدةُ الطالبة. السادس: أنها قد بلغ بها عشقها له كلَّ مبلغٍ، حتى وصل حُبّها له إلى شغاف قلبها. السابع: أنه في ضمن هذا أنه أعفَّ منها، وأبرّ، وأوفى، حيث كانت هي المراوِدة الطالبة، وهو الممتنع: عَفافًا وكرمًا وحياءَ، وهذا غاية الذمّ لها. الثامن: أنهنّ أتين بفعل المراودة بصيغة المستقبل الدالَّة على الاستمرار والوقوع حالًا واستقبالًا، وأن هذا شأنها، ولم يقلن: راودت فتاها. وفرقٌ بين قولك: فلان أضاف ضيفًا، وفلان يقرى الضيف، ويطعم الطعام، ويحمل الكَلّ، فإن هذا يدلُّ على أن هذا شأنه وعادته. التاسع: قو لهن: {إِنَّا لَنَرَاهَا فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ}، أي: إنا لنستقبح منها ذلك غاية الاستقباح، فَنَسَبْنَ الاستقباح إليهن، ومن شأنهِنّ مساعدة بعضهن بعضًا ¬

_ (¬1) "همَّ" ساقطة من النسخ، واستدركت من ح.

على الهوى، ولا يكَدْن يرين ذلك قبيحًا، كما يساعد الرجال بعضهم بعضًا على ذلك، فحيث استقبحن منها ذلك كان هذا دليلًا على أنه من أقبح الأمور، وأنه مما لا ينبغي أن تُساعَد عليه، ولا يحسن معاونتها عليه. العاشر: أنهنّ جمعن لها في هذا الكلام واللوم بين العشق المُفْرَط والطلب المُفْرَط، فلم تقتصد في حُبِّها ولا في طلبها، أما العشق فقولهن: {قَدْ شَغَفَهَا حُبًّا}، أي: وصل حُبّه إلى شغاف قلبها، وأما الطلب المفرط فقو لهن: {تُرَاوِدُ فَتَاهَا}، والمراودة: الطلب مرة بعد مرة، فنسبوها إلى شدة العشق، وشدة الحرص على الفاحشة. فلما سمعت بهذا المكر منهن هيأت لهنّ مكرًا أبلغ منه، فهيَّأت لهنَّ مُتكًا، ثم أرسلت إليهن، فجمعتهن، وخبأت يوسف عليه السلام عنهن، وقيل: إنها جَمّلته وألبسته أحسن ما تقدر عليه، وأخرجته عليهن فجأة، فلم يَرُعْهُنَّ إلا وأحسنُ خلق الله وأجملُه قد طلع عليهنَّ بغتةً، فراعهن ذلك المنظرُ البهيُّ، وفى أيديهن مُدًى يَقْطَعْنَ بها ما يأكلنه، فدُهِشْنَ حتى قَطَّعْنَ أيْدِيَهُنَّ وهُن لا يشعرن. وقد قيل: إنهن أبَنّ أيديهن، والظاهر خلاف ذلك، وإنما تقطيعهن أيديهن: جَرحُها وشقُّها بالمُدى لِدهَشِهنّ بما رأين، فقابلت مكرهن القولي بهذا المكر الفعلي، وكانت هذه في النساء غايةً في المكر. والمقصود أن الله سبحانه كاد ليوسف عليه السلام: بأن جمع بينه وبين أخيه، وأخرجه من أيدي إخوته بغير اختيارهم، كما أخرجوا يوسف من يد أبيه بغير اختياره.

فصل: كيد الله لا يخرج عن نوعين: أحدهما: أن يفعل الله فعلا خارجا عن قدرة العبد الذي كاد له، فيكون الكيد من باب القدر المحض لا من باب الشرع

وكاد له بأن أوقفهم بين يديه مَوْقِفَ الذليل الخاضع المُسْتَجْدي، فقالوا: {يَاأَيُّهَا الْعَزِيزُ مَسَّنَا وَأَهْلَنَا الضُّرُّ وَجِئْنَا بِبِضَاعَةٍ مُزْجَاةٍ فَأَوْفِ لَنَا الْكَيْلَ وَتَصَدَّقْ عَلَيْنَا إِنَّ اللَّهَ يَجْزِي الْمُتَصَدِّقِينَ} [يوسف: 88]، فهذا الذل والخضوع له في مقابلة ذلِّه وخضوعه لهم يومَ إلقائه في الجُبّ، وبيعِه بيعَ العبيد. وكاد له بأن هَيّأ له الأسباب التي سجدوا له هم وأبوه وخالته في مقابلة كيدهم له، حذرًا من وقوع ذلك، فإن الذي حملهم على إلقائه في الجبّ خشيتهم أن يرتفع عليهم حتى يسجدوا له كلهم، فكادوه خشية ذلك، فكاد الله تعالى له حتى وقع ذلك، كما رآه في منامه. وهذا كما كاد فرعون بني إسرائيل: {يُذَبِّحُ أَبْنَاءَهُمْ وَيَسْتَحْيِي نِسَاءَهُمْ} [القصص: 4]، خشية أن يخرج فيهم من يكون زوال ملكه على يديه، فكاده الله سبحانه بأن أخرج له هذا المولود، وربّاه في بيته، وفى حِجْره، حتى وقع به منه ما كان يحذره، كما قيل: وَإذَا خَشِيتَ مِنَ الأُمُورِ مُقَدَّرًا ... وَفَرَرْتَ مِنْهُ فَنَحْوَهُ تَتَوَجَّهُ (¬1) فصل وكيد الله سبحانه لا يخرج عن نوعين: أحدهما: أن يفعل سبحانه فعلًا خارجًا عن قدرة العبد الذي كاد له، فيكون الكيدُ قَدَرًا مَحْضًا، ليس من باب الشرع، كما كاد الذين كفروا بأن ¬

_ (¬1) البيت لابن الرومي في التمثيل والمحاضرة (ص 101)، والتذكرة الحمدونية (7/ 33)، ومجموعة المعاني (ص 11)، ونهاية الأرب (3/ 95). وليس في ديوانه.

استرقادتى الدائن للمدين في دينه وحديث بيع النبي جممأ سزدتى في دينه

انتقمَ منهم بأنواع العقوبات، وكذلك كانت قصةُ يوسف عليه السلام، فإن يوسف أكثرُ ما قدر عليه أن ألقى الصُّواع في رَحْل أخيه، وأرسل مؤذِّنًا يؤذِّن: {إِنَّكُمْ لَسَارِقُونَ} [يوسف: 70]، فلما أنكروا قال: {فَمَا جَزَاؤُهُ إِنْ كُنْتُمْ كَاذِبِينَ (74) قَالُوا جَزَاؤُهُ مَنْ وُجِدَ فِي رَحْلِهِ فَهُوَ جَزَاؤُهُ} [يوسف: 74، 75]، أي: جزاؤه استعبادُ المسروق ماله للسارق: إما مطلقًا، وإما إلى مُدَّةٍ، وهذه كانت شريعة آل يعقوب عليه السلام، حتى قيل: إن مِثْلَ هذا كان مشروعًا في أول الإسلام: أن المَدِين إذا أعسَرَ بالدين اسْترقّه صاحبُ الحق. وعليه حُمِلَ حديثُ بيع النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - سُرَّقًا (¬1). وقد قيل: بل كان بيعه إيّاه إيجاره (¬2) لمن يستعمله، وقضاء دينه بأجرته، وعلى هذا فليس بمنسوخ، وهو إحدى الروايتين عن أحمد رحمه الله تعالى: أن المفلِس إذا بقيت عليه ديون، وله صَنعة، أُجْبِر على إجارته نفسه، أو آجَره الحاكم، ووفىّ دينه من أجرته. ¬

_ (¬1) هو سُرَّق بضمّ أوّله وتشديد الراء المفتوحة وقيل: بتخفيفها، ابن أسد الجهني، وقيل غير ذلك، صحابي جليل سكن مصر، قَدِم المدينةَ وأخبر الصحابةَ أنّ ماله سيقدم، فبايعوه فاستهلك أموالهم، فأتوا به إلى النبيّ - صلى الله عليه وسلم - فقال: "أنت سُرّق"، وباعه بأربعة أبعرة، ثم أعتقوه. روى خبرَه هذا ابن عبد الحكم في فتوح مصر (ص 347)، والروياني (1487)، والطحاوي في شرح المعاني (5692)، وابن عدي في الكامل (4/ 299)، والدارقطني (3/ 62)، والبيهقي في الكبرى (6/ 50) وقال: "في إجماع العلماء على خلافه دليلٌ على ضعفه، أو نسخه إن كان ثابتًا"، وصححه الحاكم (2330)، وابن عبد الهادي في التنقيح (4/ 130)، وحسنه الألباني في الإرواء (1440). (¬2) م: "إعساره". وهو تحريف، والمثبت من باقي النسخ.

أنطق الله إخوة يوسف با لحجة عليهم لأخذ أخيه

وكان إلهامُ الله تعالى لإخوة يوسف عليه السلام قولهم: {مَنْ وُجِدَ فِي رَحْلِهِ فَهُوَ جَزَاؤُهُ} [يوسف: 75] كيدًا من الله تعالى ليوسف عليه السلام، أجراه على ألسُن إخوته، وذلك خارج عن قدرته، وكان يمكنهم أن يتخلَّصوا من ذلك بأن يقولوا: لا جزاءَ عليه حتى يثبت أنه هو الذي سَرَق، فإن مجرد وجوده في رحله لا يُوجِبُ أن يكون سارقًا، وقد كان يوسف عليه السلام عادلًا لا يأخذهم بغير حجة. وكان يمكنهم التخلُّص أيضًا بأن يقولوا: جزاؤه أن يُفعل به ما تفعلونه بالسُّرَّاق في دينكم، وقد كان من دين ملك مصر فيما ذُكِرَ: أن السّارق يُضْرَبُ ويُغرّم قيمة المسروق مرتين، فلو قالوا له ذلك لم يمكنه أن يُلزمهم بما لا يُلزِم به غيرهم، فلذلك قال سبحانه: {كِدْنَا لِيُوسُفَ مَا كَانَ لِيَأْخُذَ أَخَاهُ فِي دِينِ الْمَلِكِ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ} [يوسف: 76]، أي: ما كان ليمكنه أخذه في دين ملك مصر، لأنه لم يكن في دينه طريق إلى أخذه. وقوله: {إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ} [يوسف: 76] استثناء منقطع، أي: لكن إن شاء الله أخَذَه بطريق آخر. ويجوز أن يكون متصلًا، والمعنى: إلا أن يُهَيّئ الله سببًا آخر يؤخَذُ به في دين الملك غيرَ السرقة. وفي هذه القصة تنبيه على الأخذ باللَّوث الظاهر في الحدود، وإن لم تَقُمْ بَيّنة ولم يحصل إقرار، فإن وجود المسروق مع السارق أصدقُ من البينة، فهو بَيّنة لا تلحقها التهمة، وقد اعتبرَتْ شريعتنا ذلك في مواضعَ: منها: اللَّوْثُ في القَسامة، والصحيح: أنها يُقاد بها، كما دل عليه النص

أشبع المؤلف القول في هذا في كتاب "الإعلام باتساع طرق الأحكام"

الصحيح الصريح (¬1). ومنها: حد الصحابة رضي الله عنهم في الخمر بالرائحة والقَيْء (¬2). ومنها: حَدّ عمر رضي الله عنه في الزنى بالحَبَل، وجعله قَسيم الاعتراف والشهادة (¬3). فوجود المسروق مع السارق إن لم يكن أظهر من هذا كله، فليس دونه. فلما فتَّشوا متاعه فوجدوا فيه الصواع، كان ذلك قائمًا مقام البينة والاعتراف، فلهذا لم يمكنهم أن يتظلَّموا مِنْ أَخْذ، ولو كان هذا ظلمًا لقالوا: كيف يأخذه بغير بيِّنة ولا إقرار؟ وقد أشبعنا الكلام في ذلك في كتاب "الإعلام باتساع طرق الأحكام" (¬4). والمقصود: أنه ليس في قصة يوسف عليه السلام شبهة، فضلًا عن الحُجَّة لأرباب الحيل. فإنا إنما تكلّمنا في الحيل التي يفعلها العبد، وحكمها في الإباحة والتحريم، لا فيما يكيد الله سبحانه وتعالى لعبده، بل في قصة يوسف عليه ¬

_ (¬1) وهو حديث سهل بن أبي حثمة الذي أخرجه البخاري (6898)، ومسلم (1669). (¬2) أخرجه البخاري (5001)، ومسلم (801)، وأما بالقيء فأخرجه مسلم (1707/ 38). (¬3) أخرجه البخاري (6830)، ومسلم (1631). (¬4) لعله المطبوع بعنوان "الطرق الحكمية في السياسة الشرعية"، ففي أوله تفصيل الكلام في هذا الموضوع، وفيه ذكر جميع الطرق التي يحكم بها الحاكم، وقد بلغت ستًّا وعشرين طريقة. ومحتواه مناسب للعنوان المذكور هنا (الإعلام باتساع طرق الأحكام).

النوع الثاني: من كيد الله سبحانه لعبده: أن يلهمه أمرا مباحا أو مستحبا أو واجبا يوصله إلى المقصود الحسن، كما ألهم يوسف وضع الصواع في رحل أخيه

السلام تنبيه على أن من كاد غيره كيدًا مُحَرَّمًا فإن الله سبحانه وتعالى لا بدَّ أن يكيده، وأنه لا بدَّ أن يكيدَ للمظلوم إذا صبر على كيد كائده، وتلطّف به، فالمؤمن المتوكل على الله إذا كاده الخلق فإن الله تعالى يكيدُ له، ويَنتصر له، بغير حَوْل منه ولا قوة. فهذا أحد النوعين من كيده سبحانه لعبده. النوع الثاني: أن يُلهمه أمرًا مباحًا، أو مستحبًّا، أو واجبًا، يوصله إلى المقصود الحسن، فيكون على هذا إلهامه ليوسف عليه السلام أن يفعل ما فعل: هو من كيده سبحانه أيضًا، فيكون قد كاد له نَوْعَي الكيد، ولهذا قال سبحانه: {اسْتَخْرَجَهَا مِنْ وِعَاءِ أَخِيهِ} [يوسف: 76]. وفى ذلك تنبيه على أن العلم الدقيق بلطيف الحيل الموصلة إلى المقصود الشرعي، الذي يحبُّه الله تعالى ورسوله مِنْ نَصْر دينه، وكَسْر أعدائه، ونصر المحقّ، وقمع المبطل صفةُ مَدْحٍ يَرفعُ الله تعالى بها درجة العبد. كما أن العلم الذي يَخْصِمُ به المبطلَ، ويَدْحَض حجته، صفة مدح يرفعُ الله بها درجة عبده، كما قال سبحانه في قصة إبراهيم عليه السلام، ومناظرته قومَه، وكَسْر حُجْتهم: {وَتِلْكَ حُجَّتُنَا آتَيْنَاهَا إِبْرَاهِيمَ عَلَى قَوْمِهِ نَرْفَعُ دَرَجَاتٍ مَنْ نَشَاءُ} [الأنعام: 83]. وعلى هذا فيكون من الكيدِ ما هو مشروع، ولكن ليس هو الكيد الذي تُستحَلّ به المحرَّمات، وتسقط به الواجبات، فإن هذا كيدٌ لله تعالى ودينه، فالله سبحانه ودينه هو المَكِيدُ في هذا القسم، فمحالٌ أن يشرع الله سبحانه هذا النوع من الكيد.

الأمر المشروع عام لا يختص به شخص دون شخص

وأيضًا فإن هذا الكيد لا يتمّ إلا بفعلٍ يُقصد به غير مقصوده الشرعي، ومحالٌ أن يشرعَ الله تعالى لعبد أن يقصد بفعله ما لم يشرع الله ذلك الفعل له. وأيضًا فإن الأمر المشروع هو عامٌّ لا يختص به شخص دون شخص، فالشيء إذا كان مباحًا لشخص كان مباحًا لكلّ من كان حاله مثل حاله، فمن احتال بحيلةٍ فقهيةٍ محرّمة أو مباحة لم يكن له اختصاصٌ بتلك الحيلة، لا بفَهْمها ولا يعِلْمها. وإنما خاصِّيَّةُ الفقيه إذا حدثت حادثة أن يَتفطّنَ لاندراجها تحت الحكم العامِّ الذي يعلمه هو وغيره، والله سبحانه إنما كاد ليوسف عليه السلام كيدًا خاصًّا به، جزاءً له على صبره وإحسانه، وذَكَره في معرض المِنّة عليه، وهذه الأفعال التي فعلها يوسف عليه السلام والأفعالُ التي فعلها الله سبحانه له، إذا تأمَّلها اللبيب رآها لا تخرج عن نوعين: أحدهما: إلهامُ الله سبحانه له فعلًا، كان مباحًا له أن يفعله. الثاني: فعلٌ من الله سبحانه به، خارج عن مقدور العبد. وكلا النوعين مباين للحيل المحرَّمة، التي يُحتال بها على إسقاط الواجبات وإباحة المحرمات. فصل لعلك تقول: قد أطلتَ الكلام في هذا الفصل جدًّا، وقد كان يكفي الإشارة إليه. فيقال: بل الأمر أعظم مما ذكرنا، وهو بالإطالة أجدر، فإن بلاء الإسلام ومحنته عظمت من هاتين الطائفتين:

فصل: ومن مكايد الشيطان: ما فتن به عشاق الصور

أهل المكر والمخادعة وإلاحتيال في العَمَلِيَّات. وأهل التحريف والسَّفْسَطَةِ والقَرْمَطة في العِلْميَّات. فكلُّ فساد في الدين بل والدنيا فمَنْشَؤُه من هاتين الطائفتين. وبالتأويل الباطل قُتل عثمان رضي الله عنه، وعاثت الأمَّة في دمائها، وكفر بعضُها بعضًا، وتفرقت على بِضْع وسبعين فرقةً، فجرى على الإسلام من تأويل هؤلاء وخداع هؤلاء ومكرهم ما جرى، واستولت الطائفتان، وقويت شوكتهما، وعاقبوا من لم يوافقهم وأنكر عليهم، ويأبى الله إلا أن يُقيم لدينه من يَذُبُّ عنه، ويبيِّن أعلامه وحقائقه، لكيلا تبطل حجج الله وبَيّناته على عباده. فلْنرجع إلى ما نحن بصدده من بيان مكايد الشيطان ومصايده. فصل ومن مكايده ومصايده: ما فَتَن به عُشَّاقَ الصور. وتلك لَعَمْرُ الله الفتنةُ الكبرى، والبَلِيّةُ العظمى، التي استعبدت النفوسَ لغير خَلّاقها، وملّكت القلوبَ لمن يَسُومُها الهَوان من عُشَّاقها، وألقت الحرب بين العشق والتوحيد، ودعت إلى موالاة كل شيطان مَريد (¬1)، فَصَيّرت القلب للهوى أسيرًا، وجعلته عليه حاكمًا وأميرًا، فأوسعت القلوب محنة، وملأتها فِتْنة، وحالت بينها وبين رُشدها، وصرفتها عن طريق قصدها، ونادت عليها في سُوقِ الرَّقيق فباعتها بأبخس الأثمان، وأعاضتها بأخسِّ الحظوظ وأدنى المطالب عن المعالي في غُرَف الجِنان، فضلًا عمَّا هو فوق ¬

_ (¬1) "مريد" ساقطة من م.

ما يلقى عاشق النسوان والمردان من عذاب وشقاء في الدنيا والآخرة

ذلك من القُرْبِ من الرحمن، فسكنت إلى ذلك المحبوب الخسيس الذي ألمُها به أضعافُ لَذّتها، ونَيْلُه والوصول إليه أكبر أسباب مضرَّتها، فما أوْشَكَهُ حبيبًا يستحيل عدوًّا عن قريب، ويتبرَّأ منه مُحِبُّه لو أمكنه حتى كأنه لم يكن له بحبيب، وإن تمتّع به في هذه الدار فسوف يجدُ به أعظم الألم بعد حين، لا سيَّما إذا صار {الْأَخِلَّاءُ يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلَّا الْمُتَّقِينَ} [الزخرف: 67]. فيا حسرةَ المحبِّ الذي باع نفسه لغير الحبيب الأول بثمن بخس، وشهوة عاجلة، ذهبت لذتها وبقيت تَبِعتها، وانقضت منفعتها وبقيت مضرتها، فذهبت الشهوة وبقيت الشِّقوة، وزالت المسرّة (¬1) وبقيت الحسرة، فوارَحْمتاه لِصَبٍّ جُمعَ له بين الحسرتين: حسرةِ فوت المحبوب الأعلى والنعيم المقيم، وحسرة ما يقاسيه من النَّصب في العذاب الأليم! فهنالك يعلمُ المخدوعُ أيَّ بضاعة أضاع، وأن من كان مالكَ رِقِّه وقلبه لم يكن يصلح أن يكون له من جملة الخدم والأتباع، وأيّ مصيبة أعظم من مصيبة مَلِكٍ أُنْزِلَ عن سرير ملكه، وجُعل لمن لا يصلح أن يكون مملوكه أسيرًا، وجُعل تحت أوامره ونواهيه مقهورًا، فلو رأيت قلبه وهو في يد محبوبه لرأيته: كَعُصفُورَةٍ في كَفِّ طِفْلِ يَسُومُهَا ... حِيَاضَ الرَّدَى وَالطِّفْلُ يَلْهُو وَيَلْعَبُ (¬2) ¬

_ (¬1) م، ت: "السيرة". والمثبت من باقي النسخ. (¬2) ذكره المؤلف في روضة المحبين (ص 163)، والداء والدواء (ص 493). ونسب البيت إلى ابن الزيات في معجم الشعراء (ص 366)، والفتح بن خاقان في الزهرة (ص 85). وهو في اعتلال القلوب (ص 312) من إنشاد ابن الزيات. وللمجنون في ديوانه (ص 44).

ولو شاهدتَ حاله وعَيْشَه لقلت: وَمَا فِي الأرْضِ أشْقَى مِنْ مُحِبٍّ ... وَإنْ وَجَدَ الهوَى حُلْوَ المَذَاقِ تَرَاهُ بَاكِيًا في كُلِّ حِينٍ ... مخًافَةَ فُرْقَةٍ أَوْ لاشْتِيَاقِ فَيَبْكِى إنْ نَأَوْا شوقًا إِلَيْهِمْ ... وَيَبْكِي إنْ دنَوْا خَوْفَ الْفِرَاقِ (¬1) ولو شاهدت نومه وراحته لعلمت أن المحبة والمنام تعاهدا وتحالفا أن ليسا يلتقيان، ولو شاهدت فَيض مدامعه، ولهيب النار في أحشائه لقلت: سُبْحَانَ رَبِّ الْعَرْشِ مُتْقِنِ صُنْعِهِ ... وَمُؤَلِّفِ الأَضْدَادِ دُونَ تَعاندِ قَطْرٌ تَوَلَّدَ عَنْ لهَيبٍ فِي الحَشَا ... مَاءٌ ونارٌ فِي مَحَلٍّ وَاحِدِ (¬2) ولو شاهدت مسلك الحُبِّ في القلب وتَغَلْغُلَهُ فيه لعلمت أن الحُبَّ ألطفُ مسلكًا فيه من الأرواح في أبدانها. فهل يليق بالعاقل أن يبيع هذا المُلْكَ المُطَاع لمن يَسُومُهُ سُوءَ العذاب، ويوقعُ بينه وبين وليِّه ومولاه الحقِّ الذي لا غَنَاءَ له عنه ولا بد له منه أعظمَ الحجاب؟ فالمحب بمن أحبه قتيل، وهو له عبد خاضع ذليل، إن دعاه لَبّاه، وإن قيل له: ما تتمنى؟ فهو غاية ما يتمناه، ولا يأنس بغيره ولا يسكن إلى سواه. فحقيق به أن لا يُمَلّك رِقّه إلا لأجَلّ حبيب، وأن لا يبيع نصيبه منه بأخسّ نصيب. ¬

_ (¬1) كذا في م. وفي بقية النسخ: "حذر الفراق". وسبقت الأبيات. (¬2) لم أجد البيتين فيما بين يدي من المصادر.

فصل: الحب والإرادة مبدأ لجميع الأفعال والحركات، كما أن الكره والبغض مبدأ كل كف وترك

فصل إذا عُرف هذا، فأصل كلِّ فعل وحركة في العالم من الحبّ والإرادة، فهما مبدأ لجميع الأفعال والحركات، كما أن البغضَ والكراهية مبدأ كل ترك وكَفٍّ، إذا قيل: إن الترك والكفّ أمرٌ وجودي كما عليه أكثر الناس، وإن قيل: إنه عَدَميٌّ فيكفي في عدمِهِ عَدَمُ مُقتضيه. والتحقيق أن الترك نوعان: ترك هو أمرٌ وجوديّ، وهو كف النفس ومَنْعُهَا وحبسها عن الفعل، فهذا سببه أمر وُجوديٌّ، وتركٌ هو عدمٌ محضٌ، فهذا يكفي فيه عدم المقتضي. فانقسم الترك إلى قسمين: قسم يكفي فيه عدمُ السبب المقتضي لوجوده، وقسم يستلزم وجودَ السبب الموجب له من البُغْضِ والكراهة، وهذا السبب لا يقتضي بمجرده كَفّ النفس وحَبسها إلا لقيام سبب من المحبة والإرادة، يقتضي أمرًا هو أحبّ إليه من هذا الذي كفّ نفسه عنه، فيتعارضُ عنده الأمران، فيُؤْثرُ خيرهما وأعلاهما، وأنفعهما له، وأحبهما إليه على أدناهما، فلا يترك محبوبًا إلا لمحبوب هو أحبّ إليه منه، ولا يرتكب مبغوضًا إلا ليتخلّص به من مبغوض هو أكره إليه منه. ثم خاصِّيَّةُ العقل واللُّبِّ التمييز بين مراتب المحبوبات والمكروهات [118 ب] بقُوَّةِ العلم والتمييز، وإيثار أعلى المحبوبين على أدناهما، واحتمال أدنى المكروهين للتخلُّص من أعلاهما بقوة الصبر والثبات واليقين. فالنفس لا تتبرك محبوبًا إلا لمحبوب، ولا تتحمل مكروهًا إلا لتحصيل محبوب، أو التخلُّص من مكروه آخر، وهذا التخلُّص لا تَقْصِدُه إلا لمنافاته لمحبوبها، فصار سَعْيُها في تحصيل محبوبها بالذات، وأسبابه بالوسيلة،

المحبة والإرادة أصل للبغض والكراهة وعلة لهما من غير عكس

ودَفْعِ مبغوضها بالذات، وأسبابه بالوسيلة، فسَعيه في تحصيل محبوبه لما فيه من اللَّذَّة، وكذلك سَعْيه في دفع مكروهه أيضًا لما له في دفعه من اللذة، كدفع ما يُؤلمه من البَول، والنّجْو، والدم، والقيء، وما يؤلمه من الحَرّ، والبرد، والجوع، والعطش، وغير ذلك. وإذا علم أن هذا المكروه يُفضي إلى ما يحبُّه يصير محبوبًا له، وإن كان يكرهه، فهو يحبُّه من وجهٍ، ويكرهه من وجه، وكذلك إذا علم أن هذا المحبوب يُفضي إلى ما يكرهه يصير مكروهًا له، وإن كان يحبُّه، فهو يكرهه من وجه، ويحبه من وجه. فلا يترك الحيُّ ما يحبه ويهواه مع قدرته عليه إلا لما يُحبُّه ويهواه، ولا يرتكب ما يكرهه ويخشاه إلا حِذَارَ وُقوعه فيما يَكرهه ويخَشاه، لكن خاصية العقل أن يترك أدنى المحبوبين وأقلّهما نفعًا لأعلاهما وأعظمهما نفعًا، ويرتكب أدنى المكروهين ضررًا ليتخلص به (¬1) من أشدّهما ضررًا. فتبيّن بذلك أن المحبة والإرادة أصلٌ للبغض والكراهة، وعِلّةٌ لهما من غير عكسٍ، فكل بُغضٍ فهو لمنافاة البغيضِ للمحبوب، ولولا وجود المحبوب لم يكن البُغض، بخلاف الحبِّ للشيء فإنه قد يكون لنفسه، لا لأجل منافاته للبغيض، وبغض الإنسان لما يضادّ محبوبه مستلزمٌ لمحبته ولضدّه، وكلما كان الحب أقوى كان قوة (¬2) البغض للمنافي أشدّ. ولِهذا كان "أوثقُ عُرى الإيمان الحبّ في الله والبغض في الله" (¬3)، ¬

_ (¬1) "به" ساقطة من م. (¬2) "قوة" ساقطة من م. (¬3) أخرجه أحمد في مسنده (4/ 286) عن البراء بن عازب، وهو حسن بشواهده.

كمال الإيمان: أن يكون الحب والبغض والفعل والترك لله لا لغيره

وكان "مَنْ أحَبّ لله، وأبْغَضَ لله، وأعطى لله، ومنع لله، فقد استكمل الإيمان" (¬1). فإن الإيمان عِلمٌ وعمل، والعمل ثَمرة العلم، وهو نوعان: عملُ القلب حُبًّا وبغضًا، ويترتب عليهما عمل الجوارح فعلًا وتركًا، وهما العطاء والمنع. فإذا كانت هذه الأصول الأربعة لله تعالى كان صاحبها مستكمل الإيمان، وما نقص منها فكان لغير الله نَقَصَ من إيمانه بحسبه. فصل إذا عُرف هذا، فكل حركة في العالم العُلويّ والسُّفْليّ فسببُها المحبة والإرادة، وغايتها المحبة والإرادة. فإن الحركات ثلاث: إرادية، وطَبْعية، وقَسْريّة. فإن المتحرك إن كان له شعورٌ بحركته وإرادته لها فحركته إرادية. وإن لم يكن له شعورٌ بحركته، أو له بها شعورٌ وهو غير مريد لها، فحركته إما على وَفق طبعه، أو على خلافه، فالأولى طبعية، والثانية قَسرية. وأظهر من هذا أن يقال: مبدأ الحركة إما أن يكون أمرًا مباينًا للمتحرك، أو قوة فيه، فالأول: الحركةُ فيه قسريةٌ، والثاني: إما أن يكون له به شعور أو لا، فالأول: الحركة فيه إراديةٌ، والثاني: طبعيةٌ. فالحركة متى لازَمَت الشعور والإرادة فهي إرادية، ومتى انتفى عنها ¬

_ (¬1) أخرجه أبو داود (4681) عن أبي أمامة. وفي إسناده القاسم بن عبد الرحمن، وقد تكلم فيه غير واحد. والحديث حسن بشواهده، انظر السلسلة الصحيحة (380).

كل حركة في السماوات والأرض فهي ناشئة عن الملائكة الذين وكلهم الله بالسماوات والأرض وما فيهما

الأمران: فإن كانت بقوةٍ في المتحرك فهي الطبعية، وإن كانت من غير قوة في المحرّك فهي القسريّة. وكل حركة في السماوات والأرض من حركات الأفلاك، والنجوم، والشمس، والقمر، والرياح، والسحاب، والنبات، والحيوان، فهي ناشئة عن الملائكة الموكّلين بالسماوات والأرض، كما قال تعالى: {فَالْمُدَبِّرَاتِ أَمْرًا} [النازعات: 5]، وقال: {فَالْمُقَسِّمَاتِ أَمْرًا} [الذاريات: 4]، وهي الملائكة عند أهل الإيمان وأتباع الرسل عليهم السلام. وأما المكذِّبون للرسل المنكرون للصانع، فيقولون: هي النجوم. وقد أشبعنا الرد على هؤلاء في كتابنا الكبير المسمى بـ"المفتاح" (¬1). وقد دلّ الكتاب [119 أ] والسنة على أصناف الملائكة، وأنها موكّلة بأصناف المخلوقات، وأنه سبحانه وكّل بالجبال ملائكة، ووكّل بالسحاب والمطر ملائكة، ووكّل بالرحم ملائكة تُدَبّر أمر النطفة حتى يتم خلقها، ثم وكّل بالعبد ملائكة لحِفظه، وملائكةً لحفظ ما يعمله وإحصائه وكتابته، ووكّل بالموت ملائكةً، ووكّل بالسؤال في القبر ملائكةً، ووكّل بالأفلاك ملائكة يُحرّكونها، ووكّل بالشمس والقمر ملائكة، ووكّل بالنار وإيقادها ملائكة، وتعذيب أهلها وعمارتها ملائكة، ووكّل بالجنة وعمارتها وغراسها وعمل الأنهار فيها (¬2) ملائكة، فالملائكة أعظم جنود الله تعالى، ومنهم: المرسلات عرفا، والناشرات نشرا، والفارقات فرقا، والملقيات ذكرا، ومنهم: النازعات غرقا، والناشطات نشطا، والسابحات سبحا، فالسابقات ¬

_ (¬1) أي مفتاح دار السعادة (2/ 125 وما بعدها). (¬2) م: "آلاتها".

الملائكة إنما تنفذ أمر الله الواحد القهار

سبقا، فالمدبرات أمرا، ومنهم: الصافات صفا، فالزاجرات زجرا، فالتاليات ذكرا، ومنهم: ملائكة الرحمة وملائكة العذاب، وملائكةٌ قد وُكِّلوا بحمل العرش، وملائكةٌ قد وُكّلوا بعمارة السماوات بالصلاة والتسبيح والتقديس: إلى غير ذلك من أصناف الملائكة التي لا يحصيها إلا الله تعالى. فلفظ المَلَكِ يُشعر بأنه رسولٌ منفِّذ لأمر غيره، فليس لهم من الأمر شيء، بل الأمر كله لله الواحد القهّار، وهم ينفِّذون أمره {لَا يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ وَهُمْ بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ (27) يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلَا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضَى وَهُمْ مِنْ خَشْيَتِهِ مُشْفِقُونَ} [الأنبياء: 27، 28]، {يَخَافُونَ رَبَّهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ} [النحل: 50]، {لَا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ} [التحريم: 6]، لا تتنزل إلا بأمره، ولا تفعل شيئًا إلا من بعد إذنه، فهم عِبادٌ له مُكرمُون، منهم الصافّون، ومنهم المسبحون، ليس فيهم إلا مَن له مقام معلوم لا يتخطَّاه، وهو على عمل قد أُمِرَ به، لا يُقصّر عنه، ولا يتعداه، وأعلاهم الذين عنده سبحانه: {وَلَهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَنْ عِنْدَهُ لَا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِهِ وَلَا يَسْتَحْسِرُونَ (19) يُسَبِّحُونَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ لَا يَفْتُرُونَ} [الأنبياء: 19، 20]، ورؤساؤهم الأملاك الثلاث: جبريل، وميكائيل، وإسرافيل. وكان النبي - صلى الله عليه وسلم - يقول: "اللَّهمَّ ربَّ جبريل وميكائيل وإسرافيل! فاطِرَ السماوات والأرض! عالم الغيب والشهادة! أنت تحكم بين عبادك فيما كانوا فيه يختلفون، اهدني لما اختُلِفَ فيه من الحقّ بإذنك، إنك تهدي من تشاء إلى صراط مستقيم" (¬1). ¬

_ (¬1) أخرجه مسلم (770) عن عائشة.

جبريل وأمانته وكرمه على ربه، وقوته وطاعة أهل السماء له

فتوسّل إليه سبحانه بربوبيته العامة والخاصة لهؤلاء الأملاك الثلاثة الموكلين بالحياة: فجبريل موكّل بالوحي الذي به حياة القلوب والأرواح، وميكائيل موكّل بالقَطْر الذي به حياة الأرض والنبات والحيوان، وإسرافيل موكّل بالنفخ في الصّور الذي به حياة الخلق بعد مماتهم. فسأله رسوله بربوبيته لهؤلاء أن يهديَهُ لما اختُلف فيه من الحقّ بإذنه في ذلك من الحياة النافعة. وقد أثنى الله سبحانه على عبده جبريل في القرآن أحسنَ الثناء، ووصفه بأجمل الصفات، فقال: {فَلَا أُقْسِمُ بِالْخُنَّسِ (15) الْجَوَارِ الْكُنَّسِ (16) وَاللَّيْلِ إِذَا عَسْعَسَ (17) وَالصُّبْحِ إِذَا تَنَفَّسَ (¬1) (18) إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ (19) ذِي قُوَّةٍ عِنْدَ ذِي الْعَرْشِ مَكِينٍ (20) مُطَاعٍ ثَمَّ أَمِينٍ} [التكوير: 15 - 21]، فهذا جبريل، فوصفه بأنه رسوله، وأنه كريم عنده، وأنه ذو قوة ومكانةٍ عند ربه سبحانه، وأنه مطاع في السماوات، وأنه أمين على الوحي. فمن كرمه على ربه أنه أقرب الملائكة إليه. قال بعض السلف (¬2): منزلته من رَبِّهِ منزلة الحاجب من الملِك. ومن قوته: أنه رفع مدائن قوم لوط [119 ب] على جناحه، ثم قلبها عليهم، فهو قويّ على تنفيذ ما يؤمر به، غير عاجز عنه، إذ تطيعه أملاك السماوات فيما يأمرهم به عن الله تعالى. ¬

_ (¬1) في جميع النسخ: "فلا أقسم بما تبصرون وما لا تبصرون، إنه لقول رسول كريم ... " وهو خطأ ظاهر. (¬2) هو خالد بن أبي عمران، كما في الدر المنثور (1/ 494)، ولكن الكلام عن إسرافيل.

معنى قوله تعالى: {ذو مرة فاستوى}

قال ابن جرير في "تفسيره" (¬1): عن إسماعيل بن أبى خالد، عن أبى صالح: أمينٌ على أن يَدْخُلَ سبعين سُرادقًا من نور بغير إذن. ووصْفُه بالأمانة يقتضي صدقه ونصحه، وإلقاءه إلى الرسل ما أُمر به من غير زيادة ولا نقصان ولا كتمان. فالمكانةُ، والأمانة، والقوة، والقرب من الله. ونظير الجمع له بين المكانة والأمانة: قول العزيز ليوسف الصدّيق عليه السلام: {إِنَّكَ الْيَوْمَ لَدَيْنَا مَكِينٌ أَمِينٌ} [يوسف: 54]. والجمع بين القوة والأمانة: نظير قول ابنة شعيب في موسى عليه السلام: {إِنَّ خَيْرَ مَنِ اسْتَأْجَرْتَ الْقَوِيُّ الْأَمِينُ} [القصص: 26]. وقال تعالى في وصفه: {عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوَى (5) ذُو مِرَّةٍ فَاسْتَوَى} [النجم: 5، 6]. قال ابن عباس (¬2) رضي الله عنهما: ذو منظر حسن. وقال قتادة (¬3): ذو خلق حسن. وقال ابن جرير: عَنَى بالمِرّة: صحة الجسم وسلامته من الآفات والعاهات، والجسم إذا كان كذلك من الإنسان كان قويًا. ¬

_ (¬1) تفسير الطبري (24/ 259). (¬2) رواه الطبري في تفسيره (22/ 499) من طريق علي بن أبي طلحة عن ابن عباس، وعزاه في الدر المنثور (7/ 643) لابن المنذر وابن أبي حاتم. (¬3) رواه الطبري في تفسيره (22/ 499) ولفظه: "ذو خلق طويل حسن"، وعزاه في الدر المنثور (7/ 643) لعبد بن حميد وابن المنذر.

حديث: "لا تحل الصدقة لغني ولا لذي مرة سوي"

والمِرّة: واحدة المِرَرِ، وإنما أُريد به ذو مِرّة سوِيّة، ومنه قول النبي - صلى الله عليه وسلم -: "لا تحَلّ الصدقة لغنيٍّ، ولا لذي مِرّة سَوِيٍّ" (¬1). قلت: هذا حجة من قال: المِرَّة القوة في الآية. وهو قول مجاهد (¬2)، وابن زيد (¬3)، وهو قول ضعيف، لأنه قدْ وصفه قبل ذلك بأنه {شَدِيدُ الْقُوَى} [النجم: 5]. ولا ريب أن المِرَّة في الحديث هي القوّة، لا المنظر الحسن. فإما أن يقال: المِرَّة تقال على هذا وعلى هذا، وإما أن يقال وهو الأظهر: إن المِرَّة هي الصحة والسلامة من الآفات والعاهات الظاهرة والباطنة، ¬

_ (¬1) رواه الطيالسي (2271)، وعبد الرزاق (4/ 110)، وابن أبي شيبة (2/ 424، 7/ 323)، وأحمد (2/ 164، 192)، والدارمي (1639)، والبخاري في التاريخ الكبير (3/ 329)، وأبو داود (1636)، والترمذي (652)، والحربي في غريب الحديث (1/ 81)، والطحاوي في شرح المعاني (2761)، وغيرهم من طريق ريحان بن يزيد عن عبد الله بن عمرو مرفوعًا، وفي لفظ: "لذي مرّة قويّ"، وأُعلَّ بالوقف، قال الترمذي: "حديث حسن"، وتبعه البغوي في شرح السنة (1599)، وصححه ابن الجارود (363)، والطبري في التهذيب (750 - 754 - الجزء المفقود-)، وابن عبد البر في التمهيد (4/ 109)، وابن كثير في تفسيره (7/ 444)، وحسنه ابن حجر في التلخيص الحبير (3/ 238)، وهو مخرج في الإرواء (877). وفي الباب عن أبي هريرة وجابر وطلحة بن عبيد الله وابن عمر وحبشي بن جنادة وعبد الرحمن بن أبي بكر ورجل من بني هلال وعن رجلين من الصحابة. (¬2) علقه البخاري عنه في كتاب التفسير، باب: تفسير سورة النجم، ووصله الطبري في تفسيره (22/ 499) من طريق ابن أبي نجيح عنه، وعزاه في الدر المنثور (7/ 643) للفريابي وعبد بن حميد. (¬3) رواه الطبري في تفسيره (22/ 499).

عداوة اليهود لجبريل

وذلك يستلزم كمال الخلقة وحسنها وجمالها، فإن العاهة والآفة إنما تكون من ضعف الخلقة والتركيب، فهي قوة وصحة تتضمن جمالًا وحسنًا، والله تعالى أعلم. وقالت اليهود للنبي - صلى الله عليه وسلم -: مَنْ صاحبك الذي يأتيك من الملائكة؟ فإنه ليس من نبيٌّ إلا يأتيه مَلَكٌ بالخبر؟ قال: "هو جبريل". قالوا: ذاك الذي ينزل بالحرب والقتال، ذاكَ عَدُوُّنا، لو قلت: ميكائيل الذي ينزل بالنبات والقطْر والرحمة! فأنزل الله تعالى: {قُلْ مَنْ كَانَ عَدُوًّا لِجِبْرِيلَ فَإِنَّهُ نَزَّلَهُ عَلَى قَلْبِكَ} إلى قوله: {مَنْ كَانَ عَدُوًّا لِلَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَرُسُلِهِ وَجِبْرِيلَ وَمِيكَالَ فَإِنَّ اللَّهَ عَدُوٌّ لِلْكَافِرِينَ} [البقرة: 97، 98] (¬1). والمقصود أن الله سبحانه وَكّل بالعالم العُلوي والسفليّ ملائكةً عليهم من الله أفضل الصلاة والسلام، فهي تُدَبِّر أمر العالم بإذنه ومشيئته وأمره، فلهذا يُضيف التدبير إلى الملائكة تارةً لكونهم هم المباشرين للتدبير، ¬

_ (¬1) رواه أحمد (1/ 274) - ومن طريقه الضياء في المختارة (10/ 69) - والنسائي في الكبرى (9072) وابن أبي حاتم في تفسيره (952) والطبراني في الكبير (12/ 45) - وعنه أبو نعيم في الحلية (4/ 305) - وغيرهم من طريق بكير بن شهاب عن سعيد بن جبير عن ابن عباس، قال ابن منده في التوحيد (44): "هذا إسناد متصل ورواته مشاهير ثقات". ورواه الطيالسي (2731) وابن سعد في الطبقات (1/ 174 - 176) وأحمد (1/ 278) والطبري في تفسيره (1605) والطبراني في الكبير (12/ 246) من طريق شهر بن حوشب عن ابن عباس نحوه، وحسنه البوصيرى في إتحات الخيرة (7/ 34)، وروِي عن شهر موسلًا. وورد بمعناه من طريق الضّحاك عن ابن عباس. وورد هذا السبب أيضًا عن القاسم بن أبي بزّة ومجاهد وقتادة مرسلًا.

الله المدبر أمرا وإذنا ومشيئة، والملائكة المدبرات مباشرة وامتثالا

كقوله: {فَالْمُدَبِّرَاتِ أَمْرًا} [النازعات: 5]، ويضيف التدبير إليه كقوله: {إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يُدَبِّرُ الْأَمْرَ مَا مِنْ شَفِيعٍ إِلَّا مِنْ بَعْدِ إِذْنِهِ ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ} [يونس: 3]، وقوله: {قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ أَمَّنْ يَمْلِكُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَمَنْ يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ} إلى قوله: {وَمَنْ يُدَبِّرُ الْأَمْرَ فَسَيَقُولُونَ اللَّهُ} [يونس: 31]، فهو المدبّر أمرًا وإذنًا ومشيئةً، والملائكةُ المدبِّراتُ مباشرة وامتثالًا. وهذا كما أضاف التّوفيّ إليهم تارة، كقوله: {تَوَفَّتْهُ رُسُلُنَا} [الأنعام: 61]، وإليه تارة، كقوله: {اللَّهُ يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ} [الزمر: 42]، ونظائره. والملائكةُ الموكَّلة بالإنسان من حين كَوْنه نطفةً إلى آخر أمره، لهم وله شأنٌ آخرُ، فإنهم مُوكَّلون بتَخْليقه، ونَقله من طَوْر إلى طور، وتصويره، وحِفظه في أطباق الظلماتِ الثلاث، وكتابة رِزْقه، وعمله، وأجله، وشقاوته، وسعادَتِه، وملازمته في جميع أحواله، وإحصاء أقواله وأفعاله، وحفظه في حياته، وقَبْضِ روحه عند وَفاته، [120 أ] وعَرْضها على خالقه وفاطره، وهم الموكلون بعذابه ونعيمه في البرزَخ وبعد البَعْث، وهم الموكّلون بعمل آلات العذاب، وهم المثبِّتون للعبد المؤمن بإذن الله، والمعلِّمون له ما ينفعه، والمقاتلون الذّابُّون عنه، وأولياؤه في الدنيا والآخرة، وهم الذين يُرُونه في مَنامه ما يخافُهُ ليَحْذرَه، وما يُحبُّه ليَقوى قلبه، ويزداد شكرًا، وهم الذين يَعِدُونه بالخير ويَدْعُونه إليه، ويَنْهَونه عن الشر ويحذِّرونه منهُ. فهم أولياؤُه، وأنصاره، وحَفَظته، ومُعَلِّموه، وناصحوه، والدّاعون له، والمستغفرون له، وهم الذين يُصَلّون عليه ما دامَ في طاعة رَبّه، ويُصَلّون عليه

ما في السماء موضع أربع أصابع إلا وملك قائم أو راكع أو ساجد

ما دام يُعَلِّم الناس الخير، ويُبَشّرونه بكرامة الله تعالى في مَنامه، وعند مَوْته، ويوم بَعْثه، وهم الذين يُزَهّدونه في الدنيا، ويُرغّبونه في الآخرة، وهم الذين يُذَكّرُونه إذا نَسِيَ، وينشطونه إذا كسل، ويثبتونه إذا جزع، وهم الذين يَسْعَون في مصالح دُنياه وآخرته. فهم رسل الله في خلقه وأمره، وسفراؤه بينه وبين عباده، تتنزّل بالأمر من عنده في أقطار العالم، وتصعد إليه بالأمر، قد أطّتْ بهم السماوات، وحُقّ لها أن تَئِطّ، ما فيها موضع أربع أصابع إلا وملكٌ قائمٌ، أو راكعٌ، أو ساجدٌ، ويدخل البيت المعمور كلّ يوم منهم سبعون ألف ملك، لا يعودون إليه آخرَ ما عليهم. والقرآن مملوء بذكر الملائكة، وأصنافهم، وأعمالهم، ومراتبهم، كقوله: {وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً قَالُوا أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لَا تَعْلَمُونَ (30) وَعَلَّمَ آدَمَ الْأَسْمَاءَ كُلَّهَا ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَى الْمَلَائِكَةِ فَقَالَ أَنْبِئُونِي بِأَسْمَاءِ هَؤُلَاءِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (31) قَالُوا سُبْحَانَكَ لَا عِلْمَ لَنَا إِلَّا مَا عَلَّمْتَنَا إِنَّكَ أَنْتَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ (32) قَالَ يَاآدَمُ أَنْبِئْهُمْ بِأَسْمَائِهِمْ فَلَمَّا أَنْبَأَهُمْ بِأَسْمَائِهِمْ قَالَ أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ غَيْبَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَأَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ (33) وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ ...} إلى آخر القصة [البقرة: 30 - 34]، وقوله: {تَنَزَّلُ الْمَلَائِكَةُ وَالرُّوحُ فِيهَا بِإِذْنِ رَبِّهِمْ} [القدر: 4]، وما بين هاتين السورتين في سور القرآن، بل لا تخلو سورةٌ من سور القرآن عن ذكر الملائكة صريحًا، أو تلويحًا وإشارة.

القران مملوء بذكر الملائكة وأعمالهم ومراتبهم

وأما ذكرهم في الأحاديث النبوية على صاحبها أفضل الصلاة والسلام، فأكثر وأشهر من أن تُذكر. ولهذا كان الإيمان بالملائكة عليهم السلام أحدَ الأصول الخمسة التي هي أركان الإيمان، وهي: الإيمان بالله، وملائكته، وكُتبه، ورُسُله، واليوم الآخر. فلنرجع إلى المقصود، وهو أن حركاتِ العالم العُلوي والسفلي بالملائكة. فالحركات الإرادية كلها تابعةٌ للإرادة التي تُحرك المريد إلى فعل ما يفعله. والحركة الطبْعيَّة سَببها ما في المتحرك من الميل والطلب بكماله وانتهائه، كحركة النار، وحركة النبات، وحركة الرياح، وكذلك حركة الجسم الثقيل إلى أسفل، فإنه بطبعه يطلب مُسْتَقَرّه من المركز، ما لم يَعُقْه عنه عائقٌ. وأما الحركة القسرية فكحركته بالقسر إلى العلوّ، فتابعةٌ لإرادة القاسر له، فلم تَبْق حركة أصليةٌ إلا عن الإرادة والمحبة. فصل فإذا عُرف ذلك، فالمحبة هي التي تُحَرِّكُ المحبَّ في طلب محبوبه الذي يَكْمُل (¬1) بحصوله له، فتُحرّك مُحِبّ الرحمن، ومُحِبّ القرآن، ومُحب العلم والإيمان، ومحب المتاع والأثمان، ومحب الأوثان والصُّلْبان، ومحب النسوان [120 ب] والمُرْدان، ومحب الأوطان، ومحبّ الإخوان، فتثير من كل قلبٍ حركةً إلى محبوبه من هذه الأشياء، فيتحركُ عند ¬

_ (¬1) في النسخ: "التي تكمل".

فصل: المحبة هي التي تحرك المحب في طلب محبوبه الذي يكمل بحصوله له

ذكر محبوبه منها دون غيره، ولهذا تجدُ محبّ النسوان والصبيان، ومحبّ قُرآن الشيطان بالأصوات والألحان، لا يتحرّك عند سماع العلم وشواهد الإيمان، ولا عند تلاوة القرآن، حتى إذا ذُكِرَ له محبوبه اهتزّ له ورَبَا، وتحَرّك باطنه وظاهره شوقًا إليه، وطربًا لذكره. فكل هذه المَحَابِّ باطلة مُضْمَحِلّة، سوى محَبة الله وما والاها من محَبة رسوله، وكتابه، ودينه، وأوليائه، فهذه المحبة تدوم، وتدوم ثمرتهُا ونعيمها بدوام مَنْ تَعَلّقت به، وفَضْلُها على سائر المحابّ كفضل مَنْ تَعَلّقت به على ما سواه، وإذا انقطعتْ علائق المحبِّين، وأسبابُ توادّهم ومحابهّم، لم تَنْقَطع أسبابهُا، قال تعالى: {إِذْ تَبَرَّأَ الَّذِينَ اتُّبِعُوا مِنَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا وَرَأَوُا الْعَذَابَ وَتَقَطَّعَتْ بِهِمُ الْأَسْبَابُ} [البقرة: 166]. قال عطاء، عن ابن عباس (¬1) رضي الله عنهما: المودّة. وقال مجُاهد (¬2): تواصلهم في الدنيا. وقال الضّحَّاك (¬3): يعني: تَقطّعتْ بهم الأرحام، وتَفَرّقت بهم المنازل في النار. ¬

_ (¬1) رواه الطبري في تفسيره (2423)، وابن أبي حاتم في تفسيره (1492)، وصحّحه الحاكم (3576)، وعزاه في الدر المنثور (1/ 402) لعبد بن حميد وابن المنذر، وضعف إسناده ابن حجر في الفتح (11/ 393). (¬2) رواه سعيد بن منصور في السنن (2/ 641)، والطبري في تفسيره (2417 - 2419، 2422)، وابن أبي حاتم في تفسيره (1493)، وأبو نعيم في الحلية (3/ 285)، والخطيب في تاريخه (14/ 8)، وعزاه في الدر المنثور (1/ 452) لوكيع وعبد بن حميد. (¬3) رواه ابن أبي حاتم في تفسيره (1495) من طريق جويبر عن الضحاك.

فصل: أصل المحبة المحمودة: هي محبة الله وحده المتضمنة لعبادته دون ما سواه

وقال أبو صالح (¬1): الأعمال. والكل حق، فإن الأسباب هي الوُصَل التي كانت بينهم في الدنيا، تَقَطّعَتْ بهم أحوجَ ما كانوا إليها. وأما أسبابُ الموحِّدين المخلصين لله فاتّصلتْ بهم، ودامَ اتصالها بدوام معبودهم ومحبوبهم، فإن السبب تبعٌ لغايته في البقاء والانقطاع. فصل إذا تبيّن هذا، فأصلُ المحبّة المحمودة التي أمَر الله تعالى بها، وخَلَق خَلْقَه لأجلها: هي محَبّتُه وحدَه لا شريك له، المتضمنّةُ لعبادته دون عِبادةِ ما سواه. فإن العبادة تَتَضَمّن غاية الحُبّ بغاية الذّلّ، ولا يصلحُ ذلك إلا لله عز وجل وحده. ولما كانت المحبة جنسًا تحته أنواعٌ مُتفاوتة في القَدْر والوصف، كان أغلبُ ما يُذكر فيها في حق الله تعالى: ما يختَصّ به ويليقُ به، كالعبادة والإنابةِ والإخْباتِ، ولهذا لا يُذكر فيها لفظ العشق، والغرام، والصَّبابة، والشَّغَف، والهوى، وقد يذكر لها لفظ المحبة، كقوله تعالى: {يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ} [المائدة: 54]، وقوله: {قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ} [آل عمران: 31]، وقوله: {وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا لِلَّهِ} [البقرة: 165]. ومدارُ كُتُب الله تعالى المنزّلة من أوّلها إلى آخرها: على الأمر بتلك ¬

_ (¬1) رواه ابن أبي حاتم في تفسيره (1498) من طريق السدي عن أبي صالح، وعزاه في فتح الباري (11/ 393) لعبد بن حميد.

حديث: "ثلاث من كن فيه وجد حلاوة الإيمان" الحديث

المحبّة ولوازمها، والنهي عن محبّة ما يضادّها ويلازمها، وضرب الأمثال والمقاييس لأهل المحبتين، وذِكْرِ قصصهم، ومآلهم، ومنازلهم، وثوابهم، وعقابهم. ولا يجدُ حَلاوة الإيمان بل لا يَذُوق طَعْمَه إلا مَن كان الله ورسوله أحبَّ إليه مما سواهما، كما في "الصحيحين" (¬1) من حديث أنس رضي الله عنه، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "ثلاثٌ مَنْ كُنّ فيه وَجَد حلاوة الإيمان، وفي لفظ: لا يجد طَعم الإيمان إلا مَن كلان فيه ثلاث: مَنْ كان الله ورسوله أحبّ إليه مما سواهما، وأن يحُبَّ المرءَ لا يحبُّه إلا لله، وأن يَكْرَه أن يرجعَ في الكفر بعد إذ أنقذه الله تعالى منه، كما يكره أن يُلقى في النار". وفى "الصحيحين" (¬2) أيضًا عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "والذي نفسي بيده، لا يؤمن أحدكم حتى أكون أحبَّ إليه من ولده ووالده والناس أجمعين". ولهذا اتفقت دعوة الرسل من أولهم إلى آخرهم - صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين - على عبادة الله وحده لا شريك له. وأصل العبادة وتمامها وكمالها هو المحبة، وإفرادُ الربِّ سبحانه بها، فلا يشرك العبد به فيها غيره. والكلمة المتضمنة لهذين الأصلين: هي الكلمة التي لا يدخل في الإسلام إلا بها، ولا يعصم دمَه ومَالَه إلا بالإتيان بها، ولا ينجو [121 أ] من ¬

_ (¬1) البخاري (21)، ومسلم (43). (¬2) البخاري (15)، ومسلم (44).

سورة: {قل هو الله أحد} تعدل ثلث القرآن

عذاب الله إلا بتحقيقها بالقلب واللسان، وذِكْرُها أفضلُ الذكر، كما في "صحيح ابن حِبّان" (¬1) عنه - صلى الله عليه وسلم -: "أفضل الذكر لا إله إلا الله". والآية المتضمنة لها ولتفضيلها سيدة آي القرآن (¬2)، والسورة المختصَّة بتحقيقها تعدل ثلث القرآن (¬3)، وبها أرسل الله سبحانه جميع رسله، وأنزل جميع كتبه، وشرع جميع شرائعه، قيامًا بحقِّها وتكميلًا لها. وهي التي يدخل بها العبد على ربِّه، ويصير في جواره، وهي مَفْزع أوليائه وأعدائه، فإن أعداءه إذا مسّهم الضّرّ في البرّ والبحر فزِعوا إلى توحيده، وتبرَّأوا من شركهم، ودَعَوْه مخلصين له الدين. وأما أولياؤه فهي مفزعهم في شدائد الدنيا والآخرة. ولهذا كانت دعواتُ المكروب: "لا إله إلا الله العظيم الحليم، لا إله إلا الله رب العرش العظيم، لا إله إلا الله رب السماوات، ورب الأرض، رب العرش الكريم" (¬4). ودعوة ذي النون التي ما دعا بها مكروب إلا فَرّج الله كربه: "لا إله إلا ¬

_ (¬1) صحيح ابن حبان (846)، ورواه أيضًا الترمذي (3383)، والنسائي في الكبرى (10667)، وابن ماجه (3800)، والبيهقي في الشعب (4/ 90)، وغيرهم من طرق عن موسى بن إبراهيم بن كثير عن طلحة بن خراش عن جابر بن عبد الله، قال الترمذي: "حسن غريب"، وتبعه البغوي في شرح السنة (1269)، وصححه الحاكم (1834، 1852)، وهو في السلسلة الصحيحة (1497). (¬2) يقصد بها آية الكرسي. (¬3) أي سورة الإخلاص. (¬4) أخرجه البخاري (7426)، ومسلم (2730) عن ابن عباس.

حديث: "كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا راعه أمر قال: الله ربي لا أشرك به" الحديث

أنت سبحانك! إني كنت من الظالمين" (¬1). وقال ثوبان (¬2) رضي الله عنه: كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا راعَه أمر قال: "الله ربي، لا أُشرِك به شيئًا"، وفى لفظ (¬3) قال: "هو الله لا شريك له". وقالت أسماء بنت عُمَيْس (¬4): علَّمني رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كلماتٍ أقولها عند الكرب: "الله، الله ربي، لا أُشرِك به شيئًا". وفى "الترمذي" (¬5) من حديث إبراهيم بن محمد بن سعد، عن أبيه، عن ¬

_ (¬1) أخرجه أحمد (1/ 170)، والترمذي (3505)، والنسائي في الكبرى (10491) عن سعد بن أبي وقاص. وهو حديث حسن. (¬2) رواه النسائي في الكبرى (10493)، والطبراني في الدعاء (1031) وفي مسند الشاميين (424)، وأبو الشيخ في طبقات المحدثين بأصبهان (4/ 297)، وأبو نعيم في الحلية (5/ 219)، كلّهم من طريق سهل بن هاشم عن الثوري عن ثور بن يزيد عن خالد بن معدان عن ثوبان به مرفوعا، وأُعِلّ بالوقف، وهو في السلسلة الصحيحة (2070). (¬3) هذا اللفظ ذكره الذهبي في الميزان (3/ 336) في ترجمة سهل بن هاشم الشامي، وعزاه للأزدي. (¬4) رواه ابن أبي شيبة (6/ 20)، وابن راهويه (2135)، وأحمد (6/ 369)، والبخاري في التاريخ الكبير (4/ 239)، وأبو داود (1527)، والنسائي في الكبرى (10483، 10485)، وابن ماجه (3882)، والطبراني في الكبير (24/ 135)، وأبو نعيم في الحلية (5/ 360)، والبيهقي في الشعب (7/ 257)، وغيرهم، واختُلف في إسناده، وصححه الألباني في السلسلة الصحيحة (6/ 696). وفي الباب عن ابن عباس وأنس وعائشة رضي الله عنهم. (¬5) سنن الترمذي (3505)، وبهذا الإسناد رواه أحمد (1/ 170)، والبزار (1186)، =

دعوة ذي النون لم يدع بها مسلم في شيء إلا استجيب له

جده، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "دعوة يونس إذ نادى في بطن الحوت: لا إله إلا أنت سبحانك! إني كنت من الظالمين، فإنه لم يَدْعُ بها مسلم في شيء إلا استُجيب له". وفى "مسند الإمام أحمد" (¬1) مرفوعًا: "دعوات المكروب: اللهم! رحمتَكَ أرجو، فلا تَكِلني إلى نفسي طرفة عين، وأصلح لي شأني كلَّه، لا إله إلا أنت". فالتوحيد ملجأ الطالبين، ومفزع الهاربين، ونجاة المكروبين، وغياث الملهوفين، وحقيقته إفراد الرب سبحانه بالمحبة والإجلال والتعظيم، والذل والخضوع. ¬

_ = والنسائي في الكبرى (10492)، وأبو يعلى (772)، والطبراني في الدعاء (124)، والبيهقي في الشعب (1/ 432، 7/ 256)، والضياء في المختارة (1041، 1042)، وفي إسناده بعض الاختلاف، وصحّحه الحاكم (1862، 3444, 4121)، وقال الهيثمي في المجمع (7/ 167, 10/ 244): "رجاله رجال الصحيح، غير إبراهيم بن محمد بن سعد وهو ثقة"، وحسنه ابن حجر كما في الفتوحات الربانية (4/ 11)، وهو في السلسلة الصحيحة (1744). وقد جاء أيضًا من طريق مصعب بن سعد، ومن طريق سعيد بن المسيب، ومن طريق أبي أمامة بن سهل، ثلاثتهم عن سعد بنحوه. (¬1) مسند أحمد (5/ 42) من حديث أبي بكرة رضي الله عنه، ورواه أيضًا الطيالسي (869)، وابن أبي شيبة (6/ 20)، والبخاري في الأدب المفرد (701)، وأبو داود (5092)، والنسائي في الكبرى (10487)، والطبراني في الدعاء (1032)، وغيرهم، وصححه ابن حبان (970)، وحسنه الهيثمي في المجمع (10/ 197)، والألباني في الإرواء (3/ 357).

فصل: لابد للنفس من محبوب مراد لنفسه، وإلا لزم الدور والتسلسل في العلل والغايات

فصل فإذا عُرف أن كل حركة أصلها الحب والإرادة، فلا بد من محبوب مراد لنفسه، لا يُطلب ويُحَبُّ لغيره، إذ لو كان كل محبوب يُحَبُّ لغيره لزم الدور أو التسلسل في العلل والغايات، وهو باطل باتفاق العقلاء. والشيء قد يُحَبُّ من وجه دون وجه، وليس شيءٌ يُحَبُّ لذاته من كل وجه إلا الله عز وجل وحده، الذي لا تصلح الألوهية إلّا له، فلو كان في السماوات والأرض آلهة إلا الله فسدتا. والإلهية التي دعت الرسلُ أُمَمَهم إلى توحيد الرَّبِّ بها: هي العبادة والتألُّه. ومن لوازمها: توحيد الربوبية الذي أقَرّ به المشركون، فاحتجَّ الله عليهم به، فإنه يلزم من الإقرار به الإقرارُ بتوحيد الإلهية. فصل وكل حيٍّ فله إرادة وعمل بحسبه، وكل متحرك فله غاية يتحرك إليها، ولا صلاح له إلا أن تكون غاية حركته ونهاية مطلبه هو الله وحده، كما لا وجود له إلا أن يكون الله وحده هو ربَّه وخالقه، فوجوده بالله وحده، وكماله أن يكون لله وحده، فما لا يكون به لا يكون، وما لا يكون له لا ينفع ولا يدوم، ولهذا قال تعالى: {لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتَا} [الأنبياء: 22]، ولم يقل: لعُدمتا، إذ هو سبحانه قادر على أن يبقيهما على وجه الفساد، لكن لا يمكن أن تكونا صالحتين إلا بأن يكون فاطرُهما وخالقُهما هو المعبودَ وحده لا شريك له، فإن صلاح الأعمال والحركات بصلاح نيَّاتها ومقاصدها، فكلُّ عمل فهو تابع لنيَّة عامله وقصده وإرادته.

وتقسيم الأعمال إلى صالح وفاسد: هو باعتبارها [121 ب] في ذواتها تارة، وباعتبار مقاصدها ونياتها تارة. وأما تقسيم المحبة والإرادة إلى نافعة وضارة، فهو باعتبار متعلَّقها ومحبوبها ومرادها، فإن كان المحبوب المراد هو الذي لا ينبغي أن يُحَبَّ لذاته ويراد لذاته إلا هو -وهو المحبوب الأعلى، الذي لا صلاح للعبد ولا فلاح ولا نعيم ولا سرور إلا بأن يكون هو وحده محبوبه ومراده وغاية مطلوبه- كانت محبته نافعة له، وإن كان محبوبه ومراده ونهاية مطلوبه غيره كانت محبته ضارَّة له وعذابًا وشقاءً. فالمحبة النافعة: هي التي تجلب لصاحبها ما ينفعه من السعادة والنعيم. والمحبة الضارّة: هي التي تجلب لصاحبها ما يضرُّه من الشقاء والألم والعناء. فصل إذا تبيّن هذا، فالحي العالِمُ الناصح لنفسه لا يُؤْثِرُ محبة ما يضرّه، ويشقى به، ويتألم به، ولا يقع في ذلك إلا من فساد تصوُّره ومعرفته، أو من فساد قصده وإرادته، فالأول جهل، والثاني ظلم. والإنسان خلق في الأصل ظلومًا جهولًا، ولا ينفكّ عن الجهل والظلم إلا بأن يعلِّمه الله ما ينفعه، ويُلْهمه رُشْده. فمتى أراد به الخير علَّمه ما ينفعه، فخرج به من الجهل، ونفعه بما علَّمه، فخرج من الظلم. ومتى لم يُرِدْ به خيرًا أبقاه على أصل الخلقة، كما في "المسند" (¬1) من حديث عبد الله بن عمرو، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - ¬

_ (¬1) مسند أحمد (2/ 176، 197)، ورواه أيضًا الطيالسي (2291)، والترمذي (2642)، =

فصل: الحي العالم الناصح لنفسه لا يؤثر محبة ما يضره إلا من فساد تصوره ومعرفته بالجهل، أو فساد قصده وإرادته بالظلم

قال: "إن الله خلق خَلْقه في ظلمةٍ، ثم ألقى عليهم من نوره، فمن أصابه ذلك النور اهتدَى، ومن أخطأه ضَلّ". فالنفس تهوَى ما يضرُّها ولا ينفعها، لجهلها بمضرَّته لها تارة، ولفساد قصدها تارة، ولمجموعهما تارة، وقد ذَمّ الله تعالى في كتابه مَنْ أجاب داعيَ الجهل والظلم، فقال: {فَإِنْ لَمْ يَسْتَجِيبُوا لَكَ فَاعْلَمْ أَنَّمَا يَتَّبِعُونَ أَهْوَاءَهُمْ وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنِ اتَّبَعَ هَوَاهُ بِغَيْرِ هُدًى مِنَ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ} [القصص: 50]، وقال: {إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَمَا تَهْوَى الْأَنْفُسُ وَلَقَدْ جَاءَهُمْ مِنْ رَبِّهِمُ الْهُدَى} [النجم: 23]. فأصلُ كل خير هو العلمُ والعدلُ، وأصلُ كل شرٍّ هو الجهلُ والظلم. وقد جعل الله سبحانه للعدْلِ المأمور به حَدًّا، فمن تجاوزه كان ظالمًا معتديًا، وله من الذمّ والعقوبة بحسب ظلمه وعدوانه الذي خرج به عن العدل، ولهذا قال سبحانه وتعالى: {وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلَا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ} [الأعراف: 31]، وقال فيمن ابتغى سوى زوجته أو ملك يمينه: {فَمَنْ ¬

_ = وابن أبي عاصم في السنة (241 - 244)، والطبراني في مسند الشاميين (532)، والآجري في الشريعة (337، 338)، وابن بطة في الإبانة (1408، 1409)، واللالكائي في أصول الاعتقاد (1077 - 1079)، والبيهقي في الأسماء والصفات (229)، وغيرهم، ورُوي موقوفًا، قال الترمذي: "هذا حديث حسن"، وصحّحه ابن حبان (6169، 6170)، والحاكم (83)، والبوصيري في إتحاف الخيرة (1/ 166)، وقال الهيثمي في المجمع (7/ 398): "رجال أحد إسنادَي أحمد ثقات"، وقال ابن حجر في فتاويه كما في الفيض (2/ 292): "إسناده لا بأس به"، وهو في السلسلة الصحيحة (1076).

قد قيل: إن فساد القصد من فساد العلم

ابْتَغَى وَرَاءَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْعَادُونَ} [المؤمنون: 7]، وقال: {وَلَا تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ} [البقرة: 190]. والمقصود أن محبة الظلم والعدوان سببها فسادُ العلم، أو فساد القصد، أو فسادهما جميعًا. وقد قيل: إن فساد القَصْدِ من فساد العلم، وإلا فلو عَلِمَ ما في الضارّ من المضرّة ولوازمها حقيقةَ العلم لما آثره، ولهذا مَن علم مِنْ طعامِ شَهِيٍّ لذيذ أنه مسموم فإنه لا يُقْدِمُ عليه، فضعْفُ علمه بما في الضارِّ من وجوه المضرة، وضعفُ عَزمه على اجتنابه يوقعه في ارتكابه، ولهذا كان الإيمان الحقيقي هو الذي يحمل صاحبه على فعل ما ينفعه، وترك ما يَضُرُّهُ، فإذا لم يفعل هذا ولم يترك هذا، لم يكن إيمانه على الحقيقة، وإنما معه من الإيمان بحسب ذلك. فإن المؤمن بالنار حقيقةَ الإيمان حتى كأنه يراها، لا يسلك طريقها الموصلة إليها، فضلًا عن أن يسعى فيها بجهده. والمؤمن بالجنة حقيقةَ الإيمان لا تطاوعه نفسُه أن يقعدَ عن طلبها، وهذا أمر يجدُه الإنسانُ في نفسه فيما يسعى فيه في الدنيا من المنافع، أو التخلُّص منه من المضارّ. فصل إذا تبيَّن هذا، فالعبدُ أحوجُ شيء إلى معرفة ما يَضُرّه ليجتنبه، وما يَنفَعُه ليحرصَ عليه ويفعله، فيُحبّ النافع، [122 أ]، ويُبْغضَ الضارّ، فتكون محبته وكراهته موافقتين لمحبة الله تعالى وكراهته، وهذا من لوازم العبودية

وإلى ذلك طريقان: العقل، والشرع، والشرع أصدق من العقل

والمحبة، ومتى خرجَ عن ذلك أحبّ ما يُسْخِطُ ربَّه، وكره ما يحبه، فنقصَتْ عبوديته بحسب ذلك. وهاهنا طريقان: العقلُ والشرع. أما العقلُ: فقد وضع الله سبحانه في العقول والفِطَر استحسان الصدق، والعدل، والإحسان، والبر، والعفّة، والشجاعة، ومكارم الأخلاق، وأداء الأمانات، وصلة الأرحام، ونصيحة الخَلْق، والوفاء بالعهد، وحِفْظ الجوار، ونَصر المظلوم، والإعانة على نوائب الحقّ، وقِرَى الضيف، وحمل الكَلّ، ونحو ذلك. ووَضَع في العقول والفِطَر استقباح أضدادِ ذلك، ونسبةُ هذا الاستحسان والاستقباح إلى العقول والفِطَر كنسبة استحسان شربِ الماء البارد عند الظَّمَأ، وأكل الطعام اللذيذ النافع عند الجوع، ولُبْس ما يُدْفِئُه عند البَرْد، فكما لا يمكنه أن يَدْفع عن نفسه وطبعه استحسان ذلك ونفعه، فكذلك لا يَدْفَعُ عن نفسه وفِطرته استحسانَ صفاتِ الكمال ونفعها واستقباح أضدادها. ومن قال: إن ذلك لا يُعْلَم بالعقل ولا بالفطرَة، وإنما عُرفَ بمجرَّد السمع، فقولُه باطل، وقد بيّنّا بطلانه في كتاب "المفتاح" (¬1) من ستين وجهًا، وبَيّنا هناك دلالةَ القرآن والسنة والعقول والفِطَرِ على فساد هذا القول. والطريق الثاني لمعرفة الضار والنافع من الأعمال السمعُ، وهو أوْسَعُ وأبينُ وأصدق من الطريق الأول، لخفاء صفات الأفعال وأحوالها ونتائجها، وأن العالمَ بذلك على التفصيل ليس هو إلا الرسول صلوات الله وسلامه عليه. ¬

_ (¬1) مفتاح دار السعادة (2/ 2 - 118).

أهل الشبهات والأهواء المخالفون للسنة علما وعملا

فأعلم الناس وأصَحّهم عقلًا ورأيًا واستحسانًا: مَنْ كان عقله ورأيه واستحسانه وقياسه موافقًا للسنة. كما قال مجاهد (¬1): أفضل العبادة الرأيُ الحَسَن، وهو اتباع السنة. قال تعالى: {وَيَرَى الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ الَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ هُوَ الْحَقَّ} [سبأ: 6]. وكان السلف يُسَمُّون أهل الآراء المخالفة للسنة وما جاء به الرسولُ في مسائل العلم الخَبَرِيَّة، ومسائل الأحكام العمَلية، يسمونهم أهل الشبهات والأهواء، لأن الرأي المخالف للسنة جهلٌ لا علم، وهَوًى لا دينٌ، فصاحبه ممن اتَّبعَ هواه بغير هُدًى من الله، واتَّبع هواه بغير علم، وغايتُه الضلالُ في الدنيا والشقاء في الآخرة. وإنما ينتفي الضلالُ والشقاء عمَّن اتّبع هُدَى الله الذي أرْسل به رُسله، وأنزلَ به كتبه، كما قال تعالى: {قَالَ اهْبِطَا مِنْهَا جَمِيعًا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدًى فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلَا يَضِلُّ وَلَا يَشْقَى (123) وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى} [طه: 124، 123]. واتّباع الهوى يكون في الحب والبغض، كما قال تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ لِلَّهِ وَلَوْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ أَوِ الْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ إِنْ يَكُنْ غَنِيًّا أَوْ فَقِيرًا فَاللَّهُ أَوْلَى بِهِمَا فَلَا تَتَّبِعُوا الْهَوَى أَنْ تَعْدِلُوا وَإِنْ تَلْوُوا أَوْ ¬

_ (¬1) رواه ابن أبي شيبة (6/ 168) وابن قتيبة في مختلف الحديث (ص 57) وأبو نعيم في الحلية (3/ 293) من طريق الأعمش عن مجاهد.

فصل: من المحبة النافعة: محبة الزوجة وما ملكت اليمين

تُعْرِضُوا فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا} [النساء: 135]، وقال: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ لِلَّهِ شُهَدَاءَ بِالْقِسْطِ وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلَّا تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ} [المائدة: 8]. والهوى المنهيُّ عن اتباعه كما يكون هو هَوى الشخص في نفسه، فقد يكون أيضًا هوَى غيره، فهو منهيّ عن اتباع هذا وهذا، لمضادّة كلٍّ منهما لهُدَى الله الذي أرْسلَ به رسله، وأنزل به كُتبه. فصل فمن المحبة النافعة: محبة الزوجة وما ملكت يمينُ الرجل، فإنها مُعينة على ما شرع الله سبحانه له من النكاح وملك اليمين، من إعفاف الرجل نفسه وأهله، فلا تطمح نفسه إلى سواها من الحرام، ويُعِفّها فلا تطمح نفسها إلى غيره، وكلما كانت المحبة بين [122 ب] الزوجين أتمّ وأقوى كان هذا المقصود أتمَّ وأكمل، قال تعالى: {هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَجَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا لِيَسْكُنَ إِلَيْهَا} [الأعراف: 189]، وقال: {وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً} [الروم: 21]. وفى "الصحيح" (¬1) عنه - صلى الله عليه وسلم - أنه سئل: من أحبُّ الناس إليك؟ فقال: "عائشة". ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري (3662) ومسلم (2384) عن عمرو بن العاص.

عائشة الصديقة بنت الصديق المبرأة من فوق سبع سموات

ولهذا كان مسروق رحمه الله يقول (¬1) إذا حدث عنها: حدثتني الصِّدِّيقة بنت الصِّدِّيق، حبيبة رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، المُبرَّأة من فوق سبع سماوات. وصحَّ عنه - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: "حُبّبَ إليّ من دنياكم: النساءُ والطيبُ، وجُعلت قُرّة عيني في الصلاة" (¬2). ¬

_ (¬1) رواه ابن سعد في الطبقات (8/ 66)، وأحمد (6/ 241)، والطبراني في الكبير (23/ 181) وفي الأوسط (5411)، وأبو نعيم في الحلية (2/ 44)، والبيهقي في الكبرى (2/ 458)، وابن عبد البر في التمهيد (13/ 35)، وابن قدامة في إثبات صفة العلو (ص 110)، وغيرهم من طرق عن مسروق، وفي بعض هذه المصادر: "المبرّأة في كتاب الله"، وصحّحه الذهبي في العلو (317)، وابن القيم في اجتماع الجيوش الإسلامية (ص 163)، والألباني في السلسلة الصحيحة (6/ 1010). (¬2) رواه ابن سعد (1/ 398) وأحمد (3/ 128، 199، 285) والنسائي (3949) وأبو يعلى (3482، 3530) وأبو عوانة (4020) والعقيلي في الضعفاء (2/ 160) وغيرهم عن سلام أبي المنذر عن ثابت عن أنس، وقوّى إسناده الذهبي في الميزان (3/ 255)، وصحّحه ابن الملقن في البدر المنير (1/ 501)، وابن حجر في الفتح (3/ 15، 11/ 345)، والهيتمي في الفتاوى الحديثية (ص 197)، والألوسي في تفسيره (6/ 187، 14/ 87). ورواه ابن أبي عاصم (235) وابن عدي في الكامل (3/ 305) وأبو الشيخ في أخلاق النبيّ (ص 98) عن سلام بن أبي الصهباء عن ثابت به. ورواه النسائي (3950) - وعنه الضياء في المختارة (1608) - وأبو عوانة (4021) عن جعفر بن سليمان عن ثابت به، صححه الحاكم (2676)، وحسنه ابن مفلح في الآداب الشرعية (2/ 383)، وابن الملقن (1/ 502)، والعراقي في المغني (1419). ورواه ابن عدي (3/ 303) عن سلام بن أبي خبزة عن ثابت وعلي بن زيد عن أنس. وروِي عن يوسف بن عطية عن ثابت به وفيه زيادة، وعن ثابت مرسلا، قال الدارقطني في العلل (12/ 41): "المرسل أشبه بالصواب"، قال ابن الملقن: "ما أدري ما وجه ذلك! ". ورواه المروزي في الصلاة (321)، والعقيلي (4/ 420)، =

لا عيب على الرجل في عشق زوجته إلا إذا شغله عن محبة الله ورسوله

فلا عيب على الرجل في محبته لأهله وعشقه لها، إلا إذا شغله ذلك عن محبة ما هو أنفع له من محبة الله ورسوله، وزاحم حبَّه وحبَّ رسوله، فإن كل محبة زاحمت محبة الله ورسوله بحيث تضعفها وتنقصها فهي مذمومة، وإن أعانت على محبة الله ورسوله وكانت من أسباب قوتها فهي محمودة. وكذلك كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يحب الشراب البارد الحلو، ويحب الحلوى والعسل، ويحب الخيل، وكان أحبَّ الثياب إليه القميص، وكان يحب الدُّبَّاء، فهذه المحبة لا تزاحم محبة الله، بل قد تجمع الهمّ والقلب على التفرغ لمحبة الله، فهذه محبة طبيعية تتبع نيّة صاحبها وقصده بفعل ما يحبه. فإن نوى به القوة على أمر الله تعالى وطاعته كانت قُرْبة، وإن فعل ذلك بحكم الطبع والميل المجرد لم يُثَبْ ولم يعاقب، وإن فاته درجةُ مَنْ فعله متقربًا به إلى الله. فالمحبة النافعة ثلاثة أنواع: محبة الله، ومحبة في الله، ومحبة ما يعين على طاعة الله تعالى واجتناب معصيته. والمحبَّة الضارة ثلاثة أنواع: المحبة مع الله، ومحبة ما يبغضه الله، ومحبة ما تقطع محبته عن محبة الله تعالى أو تنقصها. ¬

_ = والطبراني في الصغير (741)، والأوسط (5772)، والخطيب في تاريخه (12/ 371، 14/ 189)، والضياء (1532، 1533) عن الأوزاعي عن إسحاق بن عبد الله بن أبي طلحة عن أنس به مختصرًا عند أكثرهم. وانظر: السلسلة الصحيحة (1107، 1809، 3329). وفي الباب عن المغيرة بن شعبة وعن ليث مرسلًا.

المحبة مع الله أصل الشرك،

فهذه ستة أنواع، عليها مدار محابِّ الخلق: فمحبة الله عز وجل: أصل المحابِّ المحمودة، وأصل الإيمان والتوحيد، والنوعان الآخران تَبَعٌ لها. والمحبة مع الله: أصل الشرك والمحابِّ المذمومة، والنوعان الآخران تبع لها. ومحبة الصور المحرمة وعشقها من موجِبات الشرك، وكلَّما كان العبد أقربَ إلى الشرك وأبعد من الإخلاص كانت محبَّتُه بعشق الصور أشدَّ، وكلَّما كان أكثر إخلاصًا وأشدَّ توحيدًا كان أبعدَ من عشق الصور. ولهذا أصاب امرأة العزيز ما أصابها من العشق لشركها، ونجا منه يوسف الصديق عليه السلام بإخلاصه. قال تعالى: {كَذَلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشَاءَ إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُخْلَصِينَ} [يوسف: 24]. فالسوء: العشق، والفحشاء: الزنى. فالمخلص قد خلَّص حبه لله، فخَلَصَ من فتنة عشق الصور. والمشرك قلبه معلَّق بغير الله، لم يُخلِص توحيده وحبَّه لله عز وجل. فصل ومن أبلغ كيد الشيطان وسُخْريته بالمفتونين بالصور: أنه يُمَنّي أحدهم أنه إنما يحب ذلك الأمْرَدَ أو تلك المرأة الأجنبية لله تعالى، لا لفاحشة، ويأمره بمواخاته.

اعتقادهم أن هذا قربة لله: من أعظم الضلال والغي وتبديل الدين

وهذا من جنس المخادنة، بل هو مخادنة باطنة، كذوات الأخدان اللاتي قال الله تعالى فيهن: {مُحْصَنَاتٍ غَيْرَ مُسَافِحَاتٍ وَلَا مُتَّخِذَاتِ أَخْدَانٍ} [النساء: 25]، وقال في حق الرجال: {مُحْصِنِينَ غَيْرَ مُسَافِحِينَ وَلَا مُتَّخِذِي أَخْدَانٍ} [المائدة: 5]، فيُظهرون للناس أن محبتهم تلك الصورة لله تعالى، ويُبطنون اتخاذها خِدنًا! يتلذذون بها فعلًا، أو تقبيلًا، أو تمتُّعًا بمجرد النظر والمحادثة والمعاشرة. واعتقادهم أن هذا لله وأنه قربة وطاعة: هو من أعظم الضلال والغَيّ وتبديل الدين، حيث جعلوا ما كرهه الله سبحانه محبوبًا له، وذلك [123 أ] من نوع الشرك، والمحبوبُ المُتَّخَذُ من دون الله طاغوتٌ، فإن اعتقاد كون التمتع بالمحبة والنظر والمخادنة وبعض المباشرة لله وأنه حُبٌّ فيه: كفر وشرك، كاعتقاد مُحِبّي الأوثان في أوثانهم. وقد يبلغ الجهل بكثير من هؤلاء إلى أن يعتقد أن التعاون على الفاحشة تعاونٌ على الخير والبر، وأن الجالب محسن إلى العاشق، جدير بالثواب، وأنه ساعٍ في دوائه وشفائه، وتفريج كرب العشق عنه، وأن "من نَفّس عن مؤمن كُرْبة من كرب الدنيا نَفّس الله عنه كربةً من كُرَب يوم القيامة" (¬1). فصل ثم هُمْ بعد هذا الضلال والغيّ أربعة أقسام: قوم يعتقدون أن هذا لله، وهذا كثير في طوائف العامة، والمنتسبين إلى الفقر والتصوف، وكثير من الأتراك. ¬

_ (¬1) أخرجه بهذا اللفظ مسلم (2699) عن أبي هريرة.

وقوم يعلمون في الباطن أنه لغير الله ولكن يظهرون ذلك خداعا

وقوم يعلمون في الباطن أن هذا ليس لله، وإنما يظهرون أنه لله خداعًا ومكرًا وتستُّرًا. وهؤلاء من وجهٍ أقربُ إلى المغفرة من أولئك، لما يُرْجَى لهم من التوبة، ومن وجهٍ أخبث، لأنهم يعلمون التحريم ويأتون المحرّم. وأولئك قد اشتبه الأمر على بعضهم، كما اشتبه على كثير من الناس أن استماع أصوات الملاهي قربة وطاعة، ووقع في ذلك مَنْ شاء الله من الزهّاد والعُبّاد، وكذلك اشتبه على من هو أضعف علمًا وإيمانًا أن التمتع بعشق الصور ومشاهدتها ومعاشرتها عبادة وقُربة. القسم الثالث: مقصودهم الفاحشة الكبرى، فتارة يكونون من أولئك الضالِّين، الذين يعتقدون أن هذه المحبة التي لا وَطْء فيها لله تعالى، وأن الفاحشة معصية، فيقولون: نفعل شيئًا لله تعالى، ونفعل أمرًا لغير الله تعالى، وتارة يكونون من أهل القسم الثاني الذين يظهرون أن هذه المحبة لله، وهم يعلمون أن الأمر بخلاف ذلك، فيجمعون بين الكذب والفاحشة. وهم في هذه المخادنة والمواخاة مُضاهِئون للنكاح، فإنه يحصل بين هذين من الاقتران والازدواج والمخالطة نظير ما يحصل بين الزوجين، وقد يزيد عليه تارة في الكَمّ والكيف، وقد ينقص عنه، وقد يحصل بينهما من الاقتران ما يشبه اقتران المتواخيين المتحابَّين في الله، لكن الذين آمنوا أشدُّ حبًّا لله، فإن المتحابَّين في الله يعظم تحابهُّما ويقوى ويثبت، بخلاف هذه المواخاة والمحبة الشيطانية. ثم قد يشتدُّ بينهما الاتصال حتى يسمُّونه زواجًا، ويقولون: تزوّج فلان بفلان، كما يفعله المستهزئون بآيات الله تعالى ودينه من مُجَّان الفسقة،

حديث: "إذا أحب الله عبدا" الحديث

ويُقرّهما الحاضرون على ذلك، ويضحكون منه، ويُعجِبهم مثل ذلك المزاح والنكاح. وربما يقول بعض زنادقة هؤلاء: الأمرد حبيب الله، والملتحي عدو الله، وربما اعتقد كثير من المردان أن هذا صحيح، وأنه مراد بقوله: "إذا أحب الله العبد نادى: يا جبريل! إني أحب فلانًا ... " الحديث (¬1)، وأنه توضع له المحبة في الأرض، فيعجبه أن يُحبّ، ويفتخر بذلك بين الناس، ويعجبه أن يقال: هو معشوق، أو حُظْوة البلد، وأن الناس يتغايرون على محبته ونحو ذلك. وقد آل الأمر بكثير من هؤلاء إلى ترجيح وطء المُرْدان على نكاح النسوان، وقالوا: هو أسلم من الحَبَل والولادة، ومَؤُونة النكاح، والشكوى إلى القاضي، وفرض النفقة، والحبس على الحقوق. وربما قال بعضهم: إن جماع النساء يأخذ من القوة أكثر مما يأخذ جماع الصبيان، لأن الفرج [123 ب] يجذب من القوة والماء أكثر مما يجذب المحل الآخر بحكم الطبيعة. وقسّمت هذه الطائفة المفعولَ به إلى ثلاثة أقسام: مؤاجر، ومملوك، ومعشوق خاص. فالأول: إزاء البغايا المؤجِّرات أنفسهن. والثا ني: بإزاء الأمة والسُّرِّيَّة. والثالث: بإزاء الزوجة، أو الأجنبية المعشوقة. ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري (3209)، ومسلم (2637) عن أبي هريرة.

صنف بعضهم كتابا في إتيان المردان، ونسبتهم ذلك كذبا إلى مذهب مالك

وتعوض كلٌّ منهم بقسم عن نظيره من الإناث، وربما فضَّل بعضهم اتخاذ المردان واستفراشهم على النساء من وجوه. وهذا مضادَّة ومحادَّة لله، ودينه، وكتبه، ورسله. وصنَّف بعضهم كتابًا في هذا الباب، وقال في أثنائه: "باب في المذهب المالكي"، وذكر فيه الجماع في الدُبُر من الذكور والإناث. وقد عُلِم أن مالكًا رحمه الله تعالى من أشدِّ الناس وأشدِّهم مذهبًا في هذا الباب، حتى إنه يوجب قتل اللوطي حدًّا، بكرًا كان أو ثيبًا، وقوله في ذلك هو أصح المذاهب، كما دلت عليه النصوص، واتفق عليه أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وإن اختلفت أقوالهم في كيفية قتله، كما سنذكره إن شاء الله تعالى. وسبب غلط هذا وأمثاله: أنه قد نُسب إلى مالك رحمه الله تعالى القول بجواز وطء الرجل امرأته في دبرها. وهو كذب على مالك وعلى أصحابه، فكتبهم كلها مصرحة بتحريمه. ثم لما استقر عند هؤلاء أن مالكًا يبيح ذلك، نقلوا الإباحة من الإناث إلى الذكور، وجعلوا الباب بابًا واحدًا. وهذا كفر وزندقة من قائله بإجماع الأمة. ونظير هذا: ما يتوهَّمه كثير من الفسقة وجُهَّال التُّرْك وغيرهم: أن مذهب أبى حنيفة رحمه الله تعالى أن هذا ليس من الكبائر، وغايته أن تكون صغيرة من الصغائر. وهذا من أعظم الكذب والبَهْت على الأئمة، فقد أعاذ الله أبا حنيفة وأصحابه من ذلك.

الشبهة التي أوقعتهم في هذا الكتاب من أن أبا حنيفة لم يوجب فيه الحد

وشبهة هؤلاء الفسقة الجهلة: أنهم لمَّا رأوا أبا حنيفة رحمه الله تعالى لم يوجب فيه الحدّ، ركّبوا على ذلك أنه ليس من كبائر الذنوب، بل من صغائرها، وهذا ظن كاذب، فإن أبا حنيفة لم يُسقط فيه الحدّ لخفَّة أمره، وإن جُرْمه عنده وعند جميع أهل الإسلام أعظم من جرم الزنى، ولهذا عاقب الله سبحانه أهله بما لم يعاقب به أمّة من الأمم، وجمع عليهم من أنواع العذاب ما لم يجمعه على غيرهم. وشبهة من أسقط فيه الحد: أن فُحش هذا مركوز في طباع الأمم، فاكتُفِيَ فيه بالوازع الطَّبْعي، كما اكتُفِيَ بذلك في أكل الرّجيع وشرب البول والدم، ورُتب الحدّ على شرب الخمر، لكونه مما تدعو إليه النفوس. والجمهور يجيبون عن هذا: بأن في النفوس الخبيثة المتعدية حدود الله أقوى الداعي لذلك، فالحدّ فيه أولى من الحدّ في الزنى، ولذلك وجب الحدّ على من وطئ أمه وابنته وخالته وجَدّته، وإن كان في النفوس وازعٌ وزاجر طَبْعي عن ذلك، بل حَدُّ هذا: القتل بكل حال، بِكْرًا كان أو مُحْصَنًا، في أصح الأقوال، وهو مذهب أحمد وغيره. هذا، ونُفْرة النفوس عن ذلك أعظم بكثير من نُفرتها عن المُرْدان. ونظيرُ هذا الظنّ الكاذب، والغلطِ الفاحش: ظنّ كثير من الجهال أن الفاحشة بالمملوك كالمباحة أو مباحةٌ، أو أنها أيسَرُ من ارتكابها من الحرّ، وتأولتْ هذه الفرقةُ القرآن على ذلك، وأدخلت المملوك في قوله: {إِلَّا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ} [المؤمنون: 6]، حتى إن بعض النساء لتُمَكِّنُ عَبْدَها من نَفْسِها، وتتأولُ القرآن على ذلك، كما رُفع إلى عمر بن الخطاب رضي الله عنه امرأةٌ تزوّجت عبدَها، وتأوّلت هذه الآية،

من تأول هذه الآية على وطء المملوك فهو كافر باتفاق الأمة

ففرق عمرُ بينهما، وأدّبها، [124 أ] وقال: وَيحكِ! إنما هذا للرجال لا للنساء (¬1). ومن تأوّل هذه الآية على وَطْء الذُّكران من المماليك فهو كافر باتفاق الأمة. قال شيخنا رحمه الله: ومن هؤلاء من يتأول قوله تعالى: {وَلَعَبْدٌ مُؤْمِنٌ خَيْرٌ مِنْ مُشْرِكٍ وَلَوْ أَعْجَبَكُمْ} [البقرة: 221] على ذلك، قال: سألني مرةً بعضُ الناس عن هذه الآية، وكان ممن يقرأ القرآن، فظن أن معناها في إباحة ذُكران العبيد المؤمنين. قال: ومنهم من يجعل ذلك مسألة نزاعٍ، يبيحه بعضُ العلماء ويُحَرّمه بعضهم، ويقول: اختلافُهم شُبهة. وهذا كذبٌ وجهلٌ، فإنه ليس في فِرَق الأمة مَن يبيح ذلك، بل ولا في ديني من أديان الرسل صلوات الله وسلامه عليهم، وإنما يبيحه زنادقةُ العالم، الذين لا يؤمنون بالله ورسله وكتبه واليوم الآخر. قال: ومنهم مَن يقول: هو مباحٌ للضرورة، مثل أن يبقى الرجلُ أربعين ¬

_ (¬1) رواه عبد الرزاق (7/ 209) عن معمر عن قتادة قال: تسرّت امرأة غلامًا لها، فذُكِرت لعمر، فسألها: ما حملك على هذا؟ فقالت: كنت أرى أنه يحلّ لي ما يحلّ للرجال من مِلك اليمين، فاستشار عمر فيها أصحاب النبيّ - صلى الله عليه وسلم -، فقالوا: تأوّلت كتاب الله تعالى على غير تأويله، فقال عمر: لا جرم والله لا أحلّك لحرٍّ بعده أبدًا، كأنه عاقبها بذلك، ودرأ الحدَّ عنها وأمر العبد أن لا يقربها. ورواه الطبري في تفسيره (11277) من طريق سعيد عن قتادة به، وفيه أنه غَرَّب العبدَ وجزَّ رأسه. قال ابن كثير في تفسيره (5/ 463): "هذا أثر غريب منقطع".

تبديل الدين من اتباع الأقوال الخاطئة والظنون الكاذبة، والأهواء الغالبة

يومًا لا يجامع، إلى أمثال هذه الأمور التي خاطبني فيها وسألني عنها طوائف من الجند والعامة والفقراء. قال: ومنهم من قد بلغه خلافُ بعض العلماء في وجوب الحدّ فيه، فظنّ أن ذلك خلافٌ في التحريم، ولم يعلم أن الشيء قد يكون من أعظم المُحَرَّمات كالميتة والدم ولحم الخنزير، وليس فيه حَدٌّ مقدَّرٌ. ثم ذلك الخلافُ قد يكون قولًا (¬1) ضعيفًا، فيتولّد من ذلك القول الضعيف الذي هو من خطأ بعض المجتهدين، وهذا الظنّ الفاسد الذي هو خطأ بعض الجاهلين: تبديل الدِّين، وطاعة بعض الشياطين، ومعصية ربّ العالمين، فإذا انضافت الأقوال الباطلة إلى الظنون الكاذبة، وأعانتها الأهوية الغالبة، فلا تسأل عن تبديل الدين بعد ذلك، والخروج عن جملة الشريعة بالكلية. ولما سَهُل هذا الأمر في نفوس كثير من الناس صار كثير من المماليك يتمدَّح بأنه لا يعرف غير سَيِّده، وأنه لم يطأه سواه، كما تتمدّح المرأة والأمة بأنها لا تعرف غير سيدها وزوجها. وكذلك كثيرٌ من المردان يتمدَّح بأنه لا يعرف غير خَدينه وصديقه، أو مواخيه، أو معلِّمه، وكذلك كثيرٌ من الفاعلين يتمدح بأنه عفيفٌ عما سوى خِدْنه الذي هو قرينهُ وعشيره كالزوجة، أو عمَّا سوى مملوكه الذي هو كَسُرِّيَّته. ومنهم من يرى أن التحريم إنما هو إكراه الصبي على (¬2) فعل الفاحشة، فإذا كان مختارًا راضيًا لم يكن بذلك بأسٌ، فكأن المُحَرَّم عنده من ذلك إنما ¬

_ (¬1) "قولًا" ساقطة من م. (¬2) "على" ساقطة من م.

استهزاء النصير الطوسي بحكم النبي - صلى الله عليه وسلم - في الحدود

هو الظلم والعدوان بإكراه المفعول به. قال شيخنا رحمه الله: وحَكى لي مَن أثق به أن بعض هؤلاء أخُذِ على هذه الفاحشة، فحُكم عليه بالحدِّ، فقال: والله هو ارتضى بذلك، وما أكرهته ولا غصبته، فكيف أعاقب؟ فقال نصير المشركين وكان حاضرًا: هذا حكم محمد بن عبد الله! وليس لهؤلاء ذنبٌ! ومن هؤلاء مَنْ يعتقد أن العشق إذا بلغ بالعاشق إلى حدٍّ يخافُ معه التَّلَف، أُبيح له وطء معشوقه للضرورة، وحفظ النفس، كما يباح له الدمُ والميتةُ ولحم الخنزير في المخمصة. وقد يُبيح هؤلاء شربَ الخمر على وجه التدواي وحفظ الصحة، إذا سلم من مَعَرّة السكر. ولا ريب أن الكفر والفسوق والمعاصي درجات، كما أن الإيمان والعمل الصالح درجات، كما قال تعالى: {هُمْ دَرَجَاتٌ عِنْدَ اللَّهِ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِمَا يَعْمَلُونَ} [آل عمران: 163]، وقال: {وَلِكُلٍّ دَرَجَاتٌ مِمَّا عَمِلُوا وَمَا رَبُّكَ بِغَافِلٍ عَمَّا يَعْمَلُونَ} [الأنعام: 132]، وقال: {إِنَّمَا النَّسِيءُ زِيَادَةٌ فِي الْكُفْرِ} [التوبة: 37]، وقال: {وَإِذَا مَا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ فَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ أَيُّكُمْ زَادَتْهُ هَذِهِ إِيمَانًا فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَزَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَهُمْ يَسْتَبْشِرُونَ (124) وَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزَادَتْهُمْ رِجْسًا إِلَى رِجْسِهِمْ} [التوبة: 124, 125]، ونظائره في القرآن كثيرة. ومن أخف هؤلاء جُرمًا: مَن يرتكب ذلك معتقدًا تحريمه، وأنه إذا قضى حاجته قال: أستغفر الله!

اتخاذ الأخدان من النساء والرجال أقل شرا من المسافحات والمسافحين

فكأنّ ما كان لم يكن! فقد تلاعب الشيطان بأكثر هذا الخلق، كتلاعب الصبيان بالكُرة، وأخرج لهم أنواع الكفر والفسوق والعصيان في كل قالب. وبا لجملة فمراتب الفاحشة متفاوتةٌ بحسب مفاسدها: فالمتخذ خِدْنًا من النساء، والمتخذة خِدنًا من الرجال: أقلّ شرًّا من المسافح والمسافحة مع كل أحد. والمستخفي بما يرتكبه أقل إثمًا من المجاهر المُسْتَعْلِن. والكاتم له أقلّ إثمًا من المخبر به، المحدّث للناس به، فهذا بعيدٌ من عافية الله تعالى وعفوه، كما قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: "كلُّ أمتي معافىً إلا المجاهرين، وإن من المجاهرة أن يستر الله تعالى عليه، ثم يُصبح يكشف سِتر الله عنه، يقول: يا فلان! فعلتُ البارحة كذا وكذا، فيبيت ربُّه يستره، ويُصبح يكشف سِتر الله عن نفسه" (¬1) أو كما قال. وفي الحديث الآخر عنه - صلى الله عليه وسلم -: "من ابتُلي من هذه القاذورات بشيء فليَسْتَتِرْ بستر الله، فإنه مَنْ يُبدِ لنا صَفحته نُقِمْ عليه كتاب الله" (¬2)، ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري (6069)، ومسلم (2990) عن أبي هريرة. (¬2) رواه الطحاوي في شرح المشكل (91) والعقيلي في الضعفاء (2/ 248) والبيهقي في الكبرى (8/ 330) من طرق عن يحيى بن سعيد عن عبد الله بن دينار عن ابن عمر بنحوه مرفوعًا، وروِي عن عبد الله بن دينار مرسلا، قال الدارقطني في العلل (12/ 386): "هو أشبهها بالصواب"، وصحّحه ابن السكن كما في البدر المنير (8/ 619) وليس فيه الشطر الأخير، والحاكم (7615، 8158)، وحسن إسناده الذهبي في المهذب (13720)، والعراقي في المغني (2983)، وزكريا الأنصاري في أسنى المطالب (4/ 131)، والهيتمي في الزواجر (2/ 762)، والشربيني في =

حديث: "إن الخطيئة إذا خفيت لم تضر إلا صاحبها" إلخ

وفي الحديث الآخر: "إن الخطيئة إذا أُخفيت لا تَضُرّ إلا صاحبها، ولكن إذا أُعلنت فلم تُنكَر ضرّت العامة" (¬1). وكذلك الزنى بالمرأة التي لا زوج لها أيسرُ إثمًا من الزنى بذات الزوج، لما فيه من ظلم الزوج والعدوان عليه، وإفسادِ فراشه عليه، وقد يكون إثمُ هذا أعظم من إثم مجرد الزنى أو دونه. والزنا بحليلة الجار أعظم من الزنى ببعيدة الدار، لما اقترن بذلك من أذى الجار، وعدم حفظ وصية الله تعالى ورسوله به. وكذلك الزنى بامرأة الغازي في سبيل الله أعظمُ إثمًا عند الله من الزنى بغيرها، ولهذا "يقام له يوم القيامة، ويقال له: خُذْ من حسناته ما شئت" (¬2). وكما تختلف درجاته بحسب المَزنيِّ بها، فكذلك تتفاوت درجاته بحسب الزمان والمكان والأحوال، وبحسب الفاعل، فالزنى في رمضان ليلًا أو نهارًا أعظم إثمًا منه في غيره، وكذلك في البقاع الشريفة المفضّلة هو أعظم إثمًا منه فيما سواها. ¬

_ = مغني المحتاج (4/ 150)، وهو في السلسلة الصحيحة (663). وروي عن غير عبد الله بن دينار مرسلًا، وفي الباب عن أبي هريرة رضي الله عنه. (¬1) رواه ابن أبي الدنيا في العقوبات (40) والطبراني في الأوسط (4770) من طريق مروان بن سالم عن الأوزاعي عن يحيى بن أبي كثير عن أبي سلمة عن أبي هريرة مرفوعًا، قال الهيثمي في المجمع (7/ 528): "فيه مروان بن سالم الغفاري وهو متروك"، وحكم عليه الألباني بالوضع في السلسلة الضعيفة (1612). ورواه ابن المبارك في الزهد (1350) وغيره عن الأوزاعي عن بلال بن سعد قولَه. (¬2) أخرجه مسلم (1897) عن بريدة بن الحصيب.

حديث: "ثلاثة لا يكلمهم الله يوم القيامة: الشيخ الزاني" إلخ

وأما تفاوته بحسب الفاعل: فالزنى من الحرّ أقبح منه من العبد، ولهذا كان حَدّه على النصف من حدِّه، ومن المحصَن أقبحُ منه من البِكْر، ومن الشيخ أقبحُ منه من الشاب، ولهذا كان أحدَ الثلاثة الذين لا يُكَلّمهم الله يوم القيامة ولا يُزكّيهم ولهم عذاب أليم: الشيخ الزاني (¬1)، ومن العالم أقبح منه من الجاهل، لعلمه بقبحه وما يترتب عليه، وإقدامه على بصيرة، ومن القادر على الاستغناء عنه أقبح من الفقير العاجز. فصل ومما ينبغي أن يُعلم: أنه قد يقترن بالأيسر إثمَا ما يجعله أعظم إثمًا ممَّا هو فوقه. مثاله: أنه قد يقترن بالفاحشة من العشق الذي يوجب اشتغال القلب بالمعشوق، وتألهُّه له وتعظيمه، والخضوع له، والذل له، وتقديم طاعته وما يأمر به على طاعة الله تعالى ورسوله وأمره، فيقترن بمحبة خِدْنه وتعظيمه، وموالاة من يواليه، ومعاداة من يعاديه، ومحبة ما يحبه، وكراهة ما يكرهه، ما قد يكون أعظم ضررًا على صاحبه من مجرَّد ركوب الفاحشة. فإن المحبوبات لغير الله قد أثبتَ الشارعُ فيها اسم التعبُّد، كقوله - صلى الله عليه وسلم - في الصحيح: "تَعِسَ عبد الدينار، تعس عبد الدراهم، تعس عبد القطيفة، [125 أ] تعس عبد الخميصة، تعس وانتكَسَ، وإذا شِيكَ فلا انتَقَشَ، إن أُعطيَ رضيَ، وإن مُنِع سخط". رواه البخاري (¬2). ¬

_ (¬1) كما في حديث أبي هريرة الذي أخرجه مسلم (107). (¬2) برقم (2886، 2887) عن أبي هريرة.

إذا شغف القلب بمحبة غير الله كان فيه من التعبد له بقدر ذلك

فسمّى هؤلاء الذين إن أعطوا رضوا وإن مُنعوا سخطوا عبيدًا لهذه الأشياء، لانتهاء محبتهم ورضاهم ورغبتهم إليها. فإذا شُغف الإنسان بمحبة صورة لغير الله، بحيث يرضيه وُصولُهُ إليها وظَفَرُه بها، ويُسخِطه فَوَات ذلك، كان فيه من التعبُّد لها بقدر ذلك. ولهذا يجعلون الحب مراتب: أوله العلاقة، ثم الصبّابة، ثم الغرام، ثم العشق، وآخر ذلك: التَّتيُّم، وهو التعبُّد للمعشوق، فيصير العاشق عبدًا لمعشوقه. والله سبحانه إنما حكى عشق الصور في القرآن عن المشركين: فحكاه عن امرأة العزيز، وكانت مشركة على دين زوجها، وكانوا مشركين، وحكاه عن اللوطيَّة، وكانوا مشركين، فقال تعالى في قصَّتهم: {لَعَمْرُكَ إِنَّهُمْ لَفِي سَكْرَتِهِمْ يَعْمَهُونَ} [الحجر: 72]. وأخبر سبحانه أنه يصرفه عن أهل الإخلاص، فقال: {كَذَلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشَاءَ إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُخْلَصِينَ} [يوسف: 24]. وقال عن عدوه إبليس إنه قال: {قَالَ فَبِعِزَّتِكَ لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ (82) إِلَّا عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ} (¬1) [ص: 82، 83]، وقال تعالى: {إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ إِلَّا مَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْغَاوِينَ} [الحجر: 42]، والغاوي ضدّ الراشد، والعشق المحرَّم من أعظم الغَيّ. لهذا كان أتباعُ الشعراء وأهل السماع الشعريّ غاوين، كما سماهم تعالى ¬

_ (¬1) بكسر اللام على قراءة أبي عمرو.

إصرار العاشق على محبة الزنا وتوابعه قد يكون أعظم ضررا من فعل الفاحشة ألف مرة

بذلك في قوله: {وَالشُّعَرَاءُ يَتَّبِعُهُمُ الْغَاوُونَ} [الشعراء: 224]، فالغاوون يتَّبعون الشعراء، وأصحابَ السماع الشعري الشيطاني، وهؤلاء لا ينفكّون عن طلب وصالٍ، أو سؤال نَوال، كما قال أبو تمَّام لرجل: أما تعرفني؟ فقال: ومن أعْرَفُ بك مني؟ أَنْتَ بَيْنَ اثْنتين تَبْرُزُ لِلنَّا ... سِ وَكِلْتَاهُما بِوَجه مُذَالِ لَسْتَ تَنْفَكُّ طَالِبًا لِوِصَالٍ ... مِنْ حَبِيب أَوْ رَاجِيًا لِنَوَالِ أيُّ مَاءٍ يَبْقَى لِوَجْهِكَ هَذَا ... بَيْنَ ذُلِّ الهوَى وَذُلِّ السُّؤَالِ (¬1) والزنى بالفرْج وإن كان أعظم من الإلمام بالصغيرة، كالنظرة والقبلة واللمس، لكنَّ إصرار العاشق على محَبَّة الفعل وتوابعه ولوازمه، وتمنيه له، وحديث نفسه به أنه لا يتركه، واشتغالَ قلبه بالمعشوق: قد يكون أعظمَ ضررًا من فعل الفاحشة مَرّةً بشيء كثير، فإن الإصرار على الصغيرة قد يساوي إثْمُهُ إثمَ الكبيرة، أو يُرْبي عليها. وأيضا، فإن تعبُّد القلب للمعشوق شِرْكٌ، وفعل الفاحشة معصيةٌ، ومفسدة الشرك أعظمُ من مفسدة المعصية. وأيضًا، فإنه قد يتخلص من الكبيرة بالتوبة والاستغفار، وأما العشقُ إذا تمكَّن من القلب فإنه يَعِزّ عليه التخلُّص منه، كما قال القائل: تَاللهِ مَا أسَرَتْ لَوَاحِظُكِ امْرَأً ... إلا وَعَزّ على الوَرَى استنقَاذُهُ (¬2) ¬

_ (¬1) الأبيات لعبد الصمد بن المعذّل في أخبار أبي تمام (ص 241، 242)، ووفيات الأعيان (2/ 13). (¬2) البيت من ذالية مشهورة لظافر الحداد في ديوانه (ص 127)، ومعجم الأدباء =

سلطان الشيطان على الذين يتولونه من الغاوين أتباع الهوى والشهوات

بل يصير تعبدًا لازمًا للقلب لا ينفكّ عنه، ومعلومٌ أن هذا أعظم ضررًا وفسادًا من فاحشة يرتكبها مع كراهيته لها، وقلبه غير متعبّد لمن ارتكبها منه. وقد أخبر الله سبحانه أن سلطان الشيطان إنما هو: {عَلَى الَّذِينَ يَتَوَلَّوْنَهُ وَالَّذِينَ هُمْ بِهِ مُشْرِكُونَ} [النحل: 100]، وأن سلطانه إنما هو على من اتبعه من الغاوين، والغَيّ اتباع الهوى والشهوات، كما أن الضَّلال اتباعُ الظنون والشبهات. وأصلُ الغيّ من الحبّ لغير الله، فإنه يَضعفُ الإخلاصُ به، ويقوَى الشرك بقوَّته. فأصحاب العشق الشيطاني لهم مِن تَوَلَّي الشيطان والإشراك به بقَدْر ذلك، لما فيهم من الإشراك [125 ب] بالله، ولما فاتهم من الإخلاص له، ففيهم نصيب من اتخاذ الأنداد، ولهذا ترى كثيرًا منهم عبدًا لذلك المعشوق، مُتَيمًا فيه، يصرخُ في حضوره ومغيبه: أنه عبده، فهو أعظم ذكرًا له من ربّه، وحُبّه في قلبه أعظم من حبّ الله فيه، وكفى به شاهدًا بذلك على نفسه فالإنسان على نفسه بصيرة، ولو ألقى معاذيره. فلو خُيّر بين رضَاهُ ورضا الله لاختار رضا معشوقه على رضا ربِّه، ولقاءُ معشوقه أحبّ إليه من لقاء ربِّه، وتمنّيه لقُربه أعظم من تمنِّيه لقرب ربِّه، وهَرَبُه من سخَطِه عليه أشدّ من هربه من سَخط ربِّه عليه، يُسْخِط رَبّه بمرضاة ¬

_ = (4/ 1464)، ووفيات الأعيان (2/ 541)، والمقفى (4/ 45). ووهم ابن باطيش فنسب أبياتًا منها إلى أبي بكر محمد بن أحمد بن الحداد الشافعي في المغني (2/ 333).

لسان العاشق في الصلاة لربه وقلبه مع معشوقه، وجسمه إلى القبلة ووجه قلبه إلى المعشوق، لذلك ينقر الصلاة ويحب طول الوقوف مع معشوقه

معشوقه، وُيقدّم مصالح معشوقه وحوائجَهُ على طاعةِ ربّه، فإنْ فَضَلَ من وقته فضلةٌ وكان عنده قليل من الإيمان، صرف تلك الفضلة في طاعة ربه، وإن استغرق الزمانَ حوائج معشوقه ومَصالحه صرفَ زمانه كلَّه فيها، وأهمل أمرَ الله تعالى، يَجُود لمعشوقه بكلّ نفيسة ونفيس، ويجعل لربِّه من ماله إن جعل له كلّ رذيلة وخسيس، فلمعشوقه لُبّه وقلبه، وهَمّه ووقته، وخالصُ ماله، وربّه على الفَضْلة، قد اتخذهُ وراءه ظهريًا، وصار لذكره نَسِيًّا، إن قام في خِدمته في الصلاة، فلسانه يُناجيه وقلبُه يناجي معشوقه، ووجْهُ بَدَنه إلى القبلة ووجْهُ قلبه إلى المعشوق، ينقُر خدمة رَبّه حتى كأنه واقفٌ في الصلاة على الجمر، من ثِقلها عليه وتكلُّفه لفعلها، فإن جاءت خِدْمَة المعشوق أقبل عليها بقلبه وبَدَنه فَرِحًا بها، ناصحًا له فيها، خفيفة على قلبه، لا يَسْتثقلها ولا يَسْتطيلُها. ولا رَيبَ أن هؤلاء من الذين اتخذوا من دون الله أندادًا، يُحبُّونهم كحِّبُ الله، والذين آمنوا أشدّ حبًّا لله. وعِشْقُهم يجَمعُ المحرمات الأربع: من الفواحش الظاهرة والباطنة، والإثم والبغي بغير الحق، والشرك بالله ما لم يُنزّل به سلطانًا، والقول على الله ما لا يعلمون، فإن هذا من لوازم الشرك، فكل مشرك يقولُ على الله ما لا يعلمُ، فكثيرًا ما يوجد في هذا العشق من الشرك الأكبر والأصغر، من قتلِ النفوس تغايرًا على المعشوق، وأخذِ أموال الناس بالباطل ليصرفها في رضا المعشوق، ومن الفاحشة والكذب والظلم، ما لا خفاء به. وأصل ذلك كله من خُلُوّ القلب من محبّة الله تعالى والإخلاص له، والتشريك بينه وبين غيره في المحبة، ومن محبّة ما يحبّ لغير الله، فيقومُ ذلك بالقلب، ويعمل بموجبه بالجوارح، وهذا هو حقيقةُ اتباع الهوى.

عشاق الصور المتيمون تنطبق عليهم آية {أفرأيت من اتخذ إلهه هواه} الآية

وفى الأثر: "ما تحت أديم السماء إلهٌ يُعْبَدُ أعظمُ عند الله من هوًى مُتّبعٍ" (¬1). وقال تعالى: {أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ وَأَضَلَّهُ اللَّهُ عَلَى عِلْمٍ وَخَتَمَ عَلَى سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ وَجَعَلَ عَلَى بَصَرِهِ غِشَاوَةً فَمَنْ يَهْدِيهِ مِنْ بَعْدِ اللَّهِ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ} [الجاثية: 23]. وإذا تأمَّلت حال عُشَّاق الصُّور المتيّمين فيها وجدتَ هذه الآية مُنطبقةً عليهم، مخبرةً عن حالهم. قال بعض العلماء: ليس شيءٌ من المحبوبات يَستوعبُ محبته القلب إلا محبة الله أو محبة بشرٍ مثلك. أما محبة الله فهي التي خُلق لها العبادُ، وبها غايةُ سعادتهم، وكمالُ نعيمهم. وأما البشر المماثل من ذكر أو أنثى فإن فيه من المشاكلة والمناسبة بين العاشِق وبينه، ما ليسَ مثله بينه وبين جنسٍ آخر من المخلوقات. ولهذا لا يُعرف في محبة شيء من المحبوبات المخالفة للمحبّ في الجنس ما يزيلُ العقل، ويُفسد الإدراك، ويوجب انقطاع الإرادة لغير ذلك ¬

_ (¬1) رواه ابن أبي عاصم في السنة (3)، وأبو يعلى كما في إتحاف الخيرة (257)، والطبراني في الكبير (8/ 103)، وابن عدي في الكامل (2/ 301، 3/ 69)، وأبو نعيم في الحلية (6/ 118)، وغيرهم من حديث أبي أمامة رضي الله عنه، وأشار المنذري في الترغيب (85) إلى ضعفه، وضعفه ابن رجب في كلمة الإخلاص (ص 26)، وقال الهيثمي في المجمع (1/ 447): "فيه الحسن بن دينار وهو متروك الحديث"، وحكم عليه بالوضع ابن الجوزي في الموضوعات (3/ 139)، والشوكاني في الفوائد المجموعة (67)، والألباني في السلسلة الضعيفة (6538).

قد يبذل العاشق نفسه للقتل والتلف

المحبوب، وإنما يُعْرَفُ ذلك في محبته لجنسه، فتستوعبُ قلبه، وتسلُب لُبّه، وتُصيِّره لمعشوقه سامعًا مطيعًا، كما قال: [126 أ] إنَّ هَوَاكَ الَّذِي بِقَلبي ... صَيَّرَنى سَامِعًا مُطِيعَا (¬1) ويقوَى هذا السمعُ والطاعة عند كثير من العُشَّاق، حتى يَبْذُلَ نفسه، ويُسلمها للتلف في طاعة معشوقه، كما يبذُل المجاهد نفسه لربه، حتى يُقتل في سبيله، وإذا كان النبي - صلى الله عليه وسلم - قد قال في الحديث الذي رواه أحمد وغيره (¬2): "شارب الخمر- أو قال: مُدمِنُ الخمر- كعابدِ وثَن". ومرّ علي بن طالب رضي الله عنه بقوم يلعبون بالشِّطْرنج، فقال (¬3): ¬

_ (¬1) لم أجد البيت فيما بين يدي من المصادر. (¬2) مسند أحمد (1/ 272) عن محمد بن المنكدر قال: حُدِّثت عن ابن عباس أنّ النبيّ - صلى الله عليه وسلم - قال: "مدمن الخمر إن مات لقي الله كعابد وثن"، وبهذا الإسناد رواه عبد بن حميد (708)، وابن الجوزي في العلل المتناهية (1116) من طريق أحمد. ورواه عبد الرزاق (9/ 239) عن ابن المنكدر عن ابن عباس. ورواه ابن حبان (5347) - ومن طريقه الضياء في المختارة (356) - وابن عدي فى الكامل (4/ 209) عن عبد الله بن خراش عن العوام بن حوشب، والبزار (5085) وأبو نعيم في الحلية (9/ 253) وابن الجوزي (1119) عن حكيم بن جبير، والطبراني في الكبير (12/ 45) عن ثوير بن أبي فاختة، ثلاثتهم عن سعيد بن جبير عن ابن عباس، وصححه ابن دقيق العيد في الإلمام (1497)، والهيتمي في الزواجر (2/ 777)، وهو في السلسلة الصحيحة (677). وفي الباب عن أنس بن مالك وعلي وجابر بن عبد الله وأبي هريرة وفيه اختلاف وعن بعض الصحابة. (¬3) رواه ابن سعد في الطبقات (6/ 224) وابن أبي شيبة (5/ 278) وابن أبي الدنيا في ذم الملاهي (92) والآجري في تحريم النرد (ص 135)، والخلال في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر (ص 79)، والضياء في المختارة (744) من طرق عن =

سكرة العشق أشد من سكرة الخمر

{مَا هَذِهِ التَّمَاثِيلُ الَّتِي أَنْتُمْ لَهَا عَاكِفُونَ} [الأنبياء: 52]. فما الظن بالعاشق المتيّم الفاني في معشوقه؟ ولهذا قرن الله سبحانه بين الخمر والأنصاب، وهي الأصنام التي تُعبدُ من دون الله، فقال: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصَابُ وَالْأَزْلَامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (90) إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ وَيَصُدَّكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَعَنِ الصَّلَاةِ فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ} [المائدة: 91، 90]. ومعلومٌ أن شاربَ الخمر لا يدوم سكْرُه بها، بل لا بدّ أن يُفيق، ولعل أوقات إفاقته أكثر من أوقات سُكره، وأمَّا سكرة العِشْقْ فقَلّ أن يستفيق صاحبها، إلا إذا جاءت الرسُل تطلبه للقدوم على الله تعالى. ولهذا استمرت سَكْرُة اللوطية حتى فَجَأهم عذابُ الله وعقوبته وهُمْ في سَكرتهم يَعْمَهون، فكيف إذا خرج العشق إلى حد الجنون المطبق؟ كما أنشد محمد بن جعفر الخرائطى في كتاب "اعتلال القلوب" (¬1)، قال: ¬

_ = فضيل بن مرزوق عن ميسرة بن حبيب النهدي عن علي، وميسرة لم يدرك عليًّا. ورواه ابن أبي الدنيا (93) من طريق سعد بن طريف عن الأصبغ بن نباتة عن علي، وهذا إسناد ضعيف جدًّا، ومن طريق ابن أبي الدنيا رواه البيهقي في الكبرى (10/ 212) وفي الشعب (5/ 241). قال أحمد كما في المغني (12/ 36): "أصحّ ما في الشطرنج قول عليّ"، وصحّحه ابن حزم في المحلى (9/ 63)، وابن تيمية كما في المجموع (32/ 218، 244) وفي غيره، وابن القيم في الفروسية (ص 312)، وضعّفه الألباني في الإرواء (8/ 288). (¬1) ص 326. والبيتان لمجنون ليلى في ديوانه (ص 218)، والأغاني (2/ 32)، ومصارع =

العشق أعظم مما بالمجانين

أنشدني الصيدلاني: قَالَتْ: جُنِنْتَ عَلىَ رَأْسِي فَقُلْتُ لهَا: ... العِشْقُ أَعْظَمُ ممِّا بِالمَجَانِين الْعِشْقُ لَيْسَ يُفيقُ الدَّهْرَ صَاحِبُهُ ... وَإنَما يُصْرَعُ المَجْنُونُ في الحِين فصاحبه أحقّ بأن يُشَبَّه بعابد الوَثن، والعاكِف على التماثيل، فإن عكوف قلب العاشق على صورة محبوبه وتمثاله يُشْبه عكوفَ عابد الصَّنم على صَنمه. وإذا كان الشيطانُ يريدُ أن يوقع العدواة والبغضاء بين المسلمين في الخمر والميسر، ويصدّهم بذلك عن ذكر الله وعن الصلاة، فالعدواةُ والبغضاءُ والصّدّ الذي يُوقعه بالعشق أعظم بكثير. وجميع المعاصي يجتمعُ فيها هذان الوصفان، وهما العدواة والبغضاء، والصّدّ عن ذكر الله وعن الصلاة، فإن التَّحابَّ والتآلُفَ إنما هو بالإيمان والعمل الصالح، كما قال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَيَجْعَلُ لَهُمُ الرَّحْمَنُ وُدًّا} [مريم: 96]، أي: يُلْقِي بينهم المحبة، فيُحبّ بعضهم بعضًا، فيتراحمون، ويتعاطفون، بما جعل الله لبعضهم في قلوب بعضٍ من المحبة. وقال ابن عباس (¬1): يُحبّهم ويحبّبُهم إلى عباده. ¬

_ = العشاق (1/ 126، 2/ 181). وانظر: روضة المحبين (ص 70). (¬1) رواه ابن أبي شيبة (7/ 137) وهناد في الزهد (478) والبيهقي في الزهد (812) من طريق ابن أبي ليلى عن المنهال عن سعيد بن جبير عن ابن عباس، ورواه ابن أبي الدنيا في الأولياء (32) والطبري في تفسيره (18/ 262) والبيهقي في الزهد (811) وغيرهم من طريق ابن أبي ليلى عن الحكم عن سعيد بن جبير عن ابن عباس.

قول هرم بن حيان: "ما أقبل عبد بقلبه على الله إلا أقبل الله بقلوب المؤمنين إليه" إلخ

قال هَرِم بن حَيّان (¬1): ما أقبلَ عبد بقلبه إلى الله عز وجل إلا أقبلَ الله بقلوب المؤمنين إليه، حتى يرزقَهُ مودّتهم ورحمتهم. وأهل المعاصي والفسوق وإن كان بينهم نوعُ مودّةٍ وتحابٍّ، فإنها تنقلبُ عداوةً وبغضًا، وفى الغالب يتعجل لهم ذلك في الدنيا قبل الآخرة، وأما في الآخرة فـ {الْأَخِلَّاءُ يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلَّا الْمُتَّقِينَ} [الزخرف: 67]. وقال إمام الحُنفاء لقومه: {وَقَالَ إِنَّمَا اتَّخَذْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْثَانًا مَوَدَّةَ بَيْنِكُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ثُمَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكْفُرُ بَعْضُكُمْ بِبَعْضٍ وَيَلْعَنُ بَعْضُكُمْ بَعْضًا وَمَأْوَاكُمُ النَّارُ وَمَا لَكُمْ مِنْ نَاصِرِينَ} [العنكبوت: 25]. فالمعاصي كلها توجب ذلك، وتصدّ عن ذكر الله وعن الصلاة، وذكْرُ ذلك في الخمر والميسر اللذين هما من أواخر المحرّمات: تنبيهٌ على ما في غيرهما من ذلك، مما حُرّم قبلهما، وهو أشد تحريمًا منهما، فإن ما يوقعه قتلُ النفوس، وسرقة [126 ب] الأموال، وارتكابُ الفواحش من ذلك، وما يَصُدّ به عن ذكر الله وعن الصلاة، أضعافُ أضعافِ ما يقتضيه الخمرُ والميسرُ، والواقعُ شاهدٌ بذلك. وكم وقع وهو واقعٌ بين الناس بسبب عشق الصور: من العداوة ¬

_ (¬1) رواه أحمد في الزهد (ص 232) والطبري في تفسيره (18/ 262) عن قتادة قال: ذُكر لنا أنّ هرم بن حيان كان يقول ... وذكره، ورواه البيهقي في الزهد (799) عن قتادة عن هرم بن حيان.

فصل: في بيان أن أصل الفواحش محبة غير الله، لأنها في المشركين أكثر منها في المؤمنين

والبغضاء، وزوال الألفة والمحبة، وانقلابها عداوةً. وأما صَدّه عن ذكر الله، فقلبُ العاشق ليس فيه موضعٌ لغير معشوقه، كما قيل: مَا فِي الْفُؤَادِ لِغَيْرِ حُبِّكَ مَوْضِعٌ ... كَلّا وَلا أَحَدٌ سِوَاكَ يَحِلُّهُ (¬1) وأما صدّه عن الصلاة، فهو إن لم يَصُدّ عن صورتها وأعمالها الظاهرة فإنه يَصُدّ عن حقيقتها ومقاصدها الباطنة. فصل ومما يبيّن أن هذه الفواحش أصلها المحبة لغير الله تعالى، سواءً كان المطلوب المشاهدة أو المباشرة أو غير ذلك: أنها في المشركين أكثرُ منها في المخلصين، ويوجدُ فيهم منها ما لا يوجدُ مثله في المخلصين. قال تعالى: {يَابَنِي آدَمَ لَا يَفْتِنَنَّكُمُ الشَّيْطَانُ كَمَا أَخْرَجَ أَبَوَيْكُمْ مِنَ الْجَنَّةِ يَنْزِعُ عَنْهُمَا لِبَاسَهُمَا لِيُرِيَهُمَا سَوْآتِهِمَا إِنَّهُ يَرَاكُمْ هُوَ وَقَبِيلُهُ مِنْ حَيْثُ لَا تَرَوْنَهُمْ إِنَّا جَعَلْنَا الشَّيَاطِينَ أَوْلِيَاءَ لِلَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ (27) وَإِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً قَالُوا وَجَدْنَا عَلَيْهَا آبَاءَنَا وَاللَّهُ أَمَرَنَا بِهَا قُلْ إِنَّ اللَّهَ لَا يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاءِ أَتَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ} [الأعراف: 27 - 29]، {قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالْإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَنْ تُشْرِكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ} [الأعراف: 33]. فأخبر سبحانه أنه جعل الشياطين أولياء للذين لا يؤمنون، وهو قوله: ¬

_ (¬1) لم أجد البيت فيما بين يديّ من المصادر.

تحذير الله في سورة الكهف المؤمنين أن يتخذوا الشيطان وذريته أولياء من دونه وهم لهم عدو

{أَفَتَتَّخِذُونَهُ وَذُرِّيَّتَهُ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِي وَهُمْ لَكُمْ عَدُوٌّ بِئْسَ لِلظَّالِمِينَ بَدَلًا} [الكهف: 50]، وقال تعالى في الشيطان: {إِنَّمَا سُلْطَانُهُ عَلَى الَّذِينَ يَتَوَلَّوْنَهُ وَالَّذِينَ هُمْ بِهِ مُشْرِكُونَ} [النحل: 100]، وأخبرَ عنه أنه أقسم بعزّة ربه أنه يُغْوي عباده أجمعين، واستثنى أهلَ الإخلاص منهم. وأخبرَ سبحانه عن أولياء الشيطان أنهم إذا فعلوا فاحشةً احتجُّوا بتقليد أسلافهم، وزعموا أن الله سبحانه أمَرَهُمْ بها، فاتبعوا الظن الكاذب والهوى الباطل. قال شيخنا رحمه الله: وفى هذا الوصف نصيب كبير لكثير من المنتسبين إلى القبلة: من الصوفية، والعبّاد، والأمراء، والأجناد، والمتفلسفة، والمتكلمين، والعامة، وغيرهم، يستحلّون من الفواحش ما حَرّمه الله ورسوله، ظانِّين أن الله أباحه، أو تقليدًا لأسلافهم، وأصله العشقُ الذي يُبغضه الله، فكثيرٌ منهم يجعله دينًا، ويرى أنه يَتَقَرّب به إلى الله، إما لزعمه أنه يُزَكِّي النفس ويهُذّبها، وإما لزعمه أنه يجمعُ بذلك قلبه على آدميٍّ، ثم ينتقل إلى عبادة الله وحده، وإما لزعمه أن الصور الجميلة مظاهرُ الحق ومَشاهدهُ، ويسميها مظاهر الجمال الأحَدِيّ، وإما لاعتقاده حُلولَ الربّ فيها أو اتحاده بها. ولهذا تجد بين نُسّاك هؤلاء وفقرائهم وأمرائهم وأصحابهم توافقًا وتآلفًا على اتخاذ أنداد من دون الله، يحبُّونهم كحبّ الله، إما تَدَيُّنًا، وإما شهوةً، وإما جمعًا بين الأمرين، ولهذا يتآلفون ويجتمعون على السماع الشيطانيّ، الذي يهيِّج الحب المشترك، فُيَهيِّج من كل قلب ما فيه من الحُب.

إذا وجد القلب حلاوة الإيمان بالله أغناه ذلك عن اتخاذ الأنداد

وسبب ذلك: خلوّ القلب مما خُلق له من عبادة الله تعالى، التي تجمع محبته، وتعظيمه، والخضوع، والذلّ له، والوقوف مع أمره ونهيه [128 أ] ومحابّه ومساخطه، فإذا كان في القلب وجدَ حلاوة الإيمان وذَوْق طعمه، فأغناه ذلك عن محبة الأنداد وتألهُّها، وإذا خلا القلب من ذلك احتاج إلى أن يستبدل به ما يهواه، ويتخذه إلهه، وهذا من تبديل الدِّين، وتغيير فِطْرة الله التي فطر عليها عباده. قال تعالى: {فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ} [الروم: 30]، أي: نفسُ خلق الله لا تبديل له، فلا يخلق الخلق إلا على الفطرة، كما أن خلقه للأعضاء على السلامة من الشّقّ والقطع، ولا تبديل لنفس هذا الخلق، ولكن يقع التغيير في المخلوق بعد خلقه، كما قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: "كل مولود يُولَدُ على الفطرة، فأبواه يُهَوّدانه، ويُنَصِّرانه، ويُمَجّسانه، كما تُنْتَجُ البيهمةُ بهيمةً جَمْعاءَ، هل تُحسّون فيها من جَدْعاء؟ حتى تكونوا أنتم تَجْدَعُونها" (¬1). فالقلوب مفطورة على محبة إلهها وفاطرها وتألُّهه، فصرفُ ذلك التألُّه والمحبة إلى غيره تغيير للفطرة. ولما تغيرت فِطَرُ الناس بعث الله الرسل بصلاحها، وردِّها إلى حالتها التي خُلقت عليها، فمن استجاب لهم رجع إلى أصل الفطرة، ومن لم يستجب لهم استمرَّ على تغيير الفطرة وفسادها. ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري (1385)، ومسلم (2658) عن أبي هريرة.

فصل: الفتنة بعشق الصور ثنا في أن يكون الدين كله لله

فصل والفتنة بعشق الصور تنافي أن يكون دين العبد كلُّه لله، بل ينقص من كون دينه لله بحسب ما حصل له من فتنة العشق، وربما أخرجت صاحبه من أن يبقى معه شيء من الدين لله، قال تعالى: {وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لَا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّهِ} [الأنفال: 39]. فناقَضَ بين كون الفتنة وبين (¬1) كون الدين كله لله فكلٌّ منهما يناقض الآخر. والفتنة قد فُسِّرَتْ بالشرك. فما حصلت به فتنة القلوب، فهو إما شرك، وإما من أسباب الشرك. وهى جنس تحته أنواع من الشبهات والشهوات. وفتنة الذين اتخذوا من دون الله أندادًا يحبُّونهم كحبِّ الله: من أعظم الفتن. ومنه فتنة أصحاب العِجْل، كما قال تعالى لموسى: {فَإِنَّا قَدْ فَتَنَّا قَوْمَكَ مِنْ بَعْدِكَ وَأَضَلَّهُمُ السَّامِرِيُّ} [طه: 85]. وكذلك فتنة العشق من أعظم الفتن، قال تعالى: {وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ ائْذَنْ لِي وَلَا تَفْتِنِّي أَلَا فِي الْفِتْنَةِ سَقَطُوا} [التوبة: 49]، نزلت في الجَدّ بن قَيْس، لما غزا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - تَبُوك قال له: "هل لك يا جَدُّ في جِلاد بني الأصفر، تتخذ منهم السَّرَارِي والوُصفَاءَ؟ "، فقال جَذٌ: ائْذَنْ لي في القعود ¬

_ (¬1) م: "وهي"، وهو تحريف.

معنى الفتنة: الامتحان الذي خلص صاحبه من الافتتان، كقوله تعالى لموسى: {وفتناك فتونا}، والامتحان الذي حصل معه افتتان كقوله تعالى: {وقاتلوهم حتى لا تكون فتنة}

عنك، فقد عرف قومي أني مُغْرَم بالنساء، وإني أخشى إن رأيت بنات الأصفر أن لا أصبر عنهن! فأنزل الله تعالى هذه الآية (¬1). قال ابن زيد (¬2): يريد: لا تفتنّي بصباحة وجوههن. وقال أبو العالية (¬3): لا تُعَرّضني للفتنة. وقوله تعالى: {أَلَا فِي الْفِتْنَةِ} [التوبة: 49]، قال قتادة (¬4): ما سقط فيه من الفتنة بتخلُّفه عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - والرغبة بنفسه عنه أعظمُ. فالفتنة التي فَرّ منها بزعمه هي فتنة محبة النساء، وعدم صبره عنهن، والفتنة التي وقع فيها هي فتنة الشرك والكفر في الدنيا، والعذاب في الآخرة. ولفظ الفتنة في كتاب الله تعالى يراد بها الامتحان الذي لم يفتتن صاحبه، بل خلص من الافتتان، ويراد بها الامتحان الذي حصل معه افتتان: ¬

_ (¬1) رواه ابن أبي حاتم في تفسيره (9600) عن جابر بن عبد الله بنحوه. ورواه الطبراني في الكبير (2/ 275، 12/ 122)، والأوسط (5604)، عن ابن عباس. وروِي من أوجه متعدّدة مرسلًا. وانظر: السلسلة الصحيحة (2988). (¬2) لم أقف عليه. ونقله القرطبي (8/ 158) عن محمد بن إسحاق. (¬3) ذكره الواحدي في البسيط (10/ 478). (¬4) لم أقف عليه من كلام قتادة، وروى البيهقي في الدلائل (5/ 213، 214) - ومن طريقه ابن عساكر في تاريخ دمشق (2/ 33. 32) - من طريق ابن إسحاق عن عاصم بن عمر بن قتادة وعبد الله بن أبي بكر بن حزم ... فذكرا قصة الجد بن قيس، ثم قالا: فأنزل الله عز وجل: {وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ ائْذَنْ لِي وَلَا تَفْتِنِّي أَلَا فِي الْفِتْنَةِ سَقَطُوا} يقول: ما وقع فيه من الفتنة بتخلّفه عن رسول الله ورغبته بنفسه عن نفسه أعظم مما يخاف من فتنة نساء بني الأصفر. وانظر تفسير الطبري (11/ 492).

معنى الفتنة في أول سورة العنكبوت وفي قول موسى: {إن هي إلا فتنتك}

فمن الأول: قوله تعالى لموسى عليه السلام: {وَفَتَنَّاكَ فُتُونًا} [طه: 40]. ومن الثاني: قوله تعالى: {وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لَا تَكُونَ فِتْنَةٌ} [الأنفال: 39]، وقوله: {أَلَا فِي الْفِتْنَةِ سَقَطُوا} [التوبة: 49]. ويُطلق على ما يتناول الأمرين، كقوله تعالى: {الم (1) أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ (2) وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ} [العنكبوت: 1 - 3]، ومنه قول موسى: {إِنْ هِيَ إِلَّا فِتْنَتُكَ تُضِلُّ بِهَا مَنْ تَشَاءُ وَتَهْدِي مَنْ تَشَاءُ} [الأعراف: 155]، أي: امتحانك وابتلاؤك، أُضِلَّ بها من وقع فيها، وهُدِيَ من نجا منها. وتُطلَق الفتنة على أعمَّ من ذلك، كقوله تعالى: {إِنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلَادُكُمْ فِتْنَةٌ} [التغابن: 15]. قال مقاتل (¬1): أي: بلاء وشغل عن الآخرة. قال ابن عباس (¬2): فلا تطيعوهم في معصية الله تعالى. وقال الزَّجَّاج (¬3): أعلَمَهُمُ الله عز وجل أن الأموال والأولاد ممَّا يُفتنون به. وهذا عامٌ في جميع الأولاد، فإن الإنسان مفتون بولده، لأنه ربما عصى ¬

_ (¬1) أقوال المفسرين والتعليق عليها إلى قوله "مضلات الفتن" مأخوذة من البسيط للواحدي (21/ 487 - 488) وقول مقاتل في تفسيره (3/ 370). (¬2) انظر: تفسير الرازي (30/ 25). (¬3) معاني القرآن (5/ 182).

معنى قوله تعالى: {أنما أموالكم وأولادكم فتنة}

الله تعالى بسببه، وتناول الحرام لأجله، ووقع في العظائم، إلا من عَصَمه الله تعالى. ويشهد لهذا ما رُوي أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يخطب، فجاء الحسن والحسين، وعليهما قميصان أحمران يَغْثُران، فنزل النبي - صلى الله عليه وسلم - إليهما، فأخذهما فوضعهما في حِجْره على المنبر، وقال: "صدق الله: {إِنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلَادُكُمْ فِتْنَةٌ}، رأيت هذين الصَّبيين فلم أصبر عنهما" (¬1). وقال ابن مسعود (¬2): لا يقولنّ أحدُكم: اللهم إني أعوذ بك من الفتنة، فإنه ليس أحد منكم إلا وهو مُشَتمِلٌ على فتنة، لأن الله تعالى يقول: {إِنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلَادُكُمْ فِتْنَةٌ}، فأيكم استعاذ فليَسْتَعِذْ بالله تعالى من مُضِلّات الفتن. ¬

_ (¬1) رواه ابن أبي شيبة (6/ 379)، وأحمد (5/ 354)، وأبو داود (1111)، والترمذي (3774)، والنسائي (1413، 1585)، وابن ماجه (3600)، وغيرهم من طريق الحسين بن واقد عن عبد الله بن بريدة عن أبيه، قال الترمذي: "حديث حسن غريب، إنما نعرفه من حديث الحسين بن واقد"، وصححه ابن خزيمة (1456، 1801)، وابن حبان (6038، 6039)، والحاكم (1059، 7396)، والنووي في الخلاصة (2/ 804)، وابن عبد الهادي في التنقيح (1295)، وهو في صحيح سنن أبي داود (1016). (¬2) رواه الطبري في تفسيره (15912، 15934)، وابن أبي حاتم في تفسيره (8984)، والطبراني في الكبير (9/ 189)، وعزاه في الدر المنثور (4/ 50، 8/ 185) لأبي الشيخ وابن المنذر، قال الهيثمي في المجمع (7/ 449): "إسناده منقطع، وفيه المسعودي وقد اختلط".

قول ابن مسعود: "أيكم استعاذ فليستعذ بالله من مضلات الفتن"

ومنه قوله تعالى: {وَجَعَلْنَا بَعْضَكُمْ لِبَعْضٍ فِتْنَةً} [الفرقان: 20]، وهذا عامٌّ في جميع الخلق، امتحن بعضهم ببعض: فامتحنَ الرُّسُل بالمرسَل إليهم ودعوتهم إلى الحق، والصبر على أذاهم، وتحمُّل المشاقّ في تبليغهم رسالات ربهّم. وامتحن المرسلَ إليهم بالرسُل، وهل يطيعونهم، وينصرونهم، ويُصَدّقونهم؟ أم يكفرون بهم، ويرُدّون عليهم، ويقاتلونهم؟ وامتحن العلماء بالجُهّال، يعلِّمونهم، ويَنصحونهم، ويَصبرون على تعليمهم، ونُصحهم، وإرشادهم، ولوازم ذلك. وامتحَن الجهال بالعلماء، هل يطيعونهم، ويهتدون بهم؟ وامتحن الملوكَ بالرّعية، والرعيةَ بالملوك. وامتحن الأغنياءَ بالفقراء، والفقراءَ بالأغنياء. وامتحن الضعفاءَ بالأقوياء، والأقوياءَ بالضعفاء. والسادةَ بالأتباع، والأتباعَ بالسادة. وامتحن المالكَ بمملوكه، ومملوكَه به. وامتحن الرجلَ بامرأته، وامرأته به. وامتحنَ الرجالَ بالنساء، والنساءَ بالرجال. والمؤمنين بالكفار، والكفار بالمؤمنين. وامتحنَ الآمرين بالمعروف بمن يأمرونهم، وامتحن المأمورين بهم. ولذلك كان فقراء المؤمنين وضعفاؤهم من أتباع الرسل فتنةً لأغنيائهم ورؤسائهم، امتنعوا من الإيمان بعد معرفتهم بصدق الرّسُل، وقالوا: {لَو كاَنَ

قول قوم نوح: {قالوا أنؤمن لك واتبعك الأرذلون}

{خَيْرًا مَا سَبَقُونَا إِلَيْهِ} [الأحقاف: 11] هؤلاء، وقالوا لنوح: {قَالُوا أَنُؤْمِنُ لَكَ وَاتَّبَعَكَ الْأَرْذَلُونَ} [الشعراء: 111]. قال تعالى: {وَكَذَلِكَ فَتَنَّا بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لِيَقُولُوا أَهَؤُلَاءِ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنْ بَيْنِنَا} [الأنعام: 53]، فإذا رأى الشريفُ الرئيسُ المسكينَ الذليلَ قد سبقه إلى الإيمان ومتابعة الرسول حَمِيَ وأنِفَ أن يُسْلم فيكون مثله، وقال: أُسلم فأكون أنا وهذا الوضيع على حدٍّ سواء! قال الزَّجَّاج (¬1): كان الرجلُ الشريف رُبّما أراد الإسلام، فيمتنع منه لئلا يقالَ: أسلم قبله مَنْ هو دونه، فيقيمُ على كفره، لئلا يكون للمسلم السابقةُ عليه في الفضل. ومِنْ كون بعض الناس لبعضهم فتنةً أن الفقير يقول: لِمَ لَمْ أكنْ مثل الغني؟ ويقول الضعيف: هلَّا كنتُ مثل القوي؟ ويقول المبتلىَ: هلّا كنتُ مثل المعافى؟ وقال الكفار: {لَنْ نُؤْمِنَ حَتَّى نُؤْتَى مِثْلَ مَا أُوتِيَ رُسُلُ اللَّهِ} [الأنعام: 124]. قال مُقاتل (¬2): نزلت في افتتانِ المشركين بفقراء المهاجرين نحو بلالٍ، وخَبّابٍ، وصُهيبٍ، وأبى ذَرٍّ، وابن مسعود، وعَمّارٍ؛ كان كُفار قريشٍ يقولون: انظروا إلى هؤلاء الذين اتبعوا محمدًا من موالينا [128 أ] وأراذلنا! قال تعالى: {إِنَّهُ كَانَ فَرِيقٌ مِنْ عِبَادِي يَقُولُونَ رَبَّنَا آمَنَّا فَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا ¬

_ (¬1) معاني القرآن (4/ 62). (¬2) انظر: تفسير مقاتل (1/ 348. 2/ 433).

قرن الله الفتنة بالصبر في سورة الفرقان وفي سورة النمل

وَأَنْتَ خَيْرُ الرَّاحِمِينَ (109) فَاتَّخَذْتُمُوهُمْ سِخْرِيًّا حَتَّى أَنْسَوْكُمْ ذِكْرِي وَكُنْتُمْ مِنْهُمْ تَضْحَكُونَ (110) إِنِّي جَزَيْتُهُمُ الْيَوْمَ بِمَا صَبَرُوا أَنَّهُمْ هُمُ الْفَائِزُونَ} [المؤمنون: 109 - 111]، فأخبر سبحانه أنه جزاهم على صبرهم، كما قال تعالى: {وَجَعَلْنَا بَعْضَكُمْ لِبَعْضٍ فِتْنَةً أَتَصْبِرُونَ} [الفرقان: 20]. قال الزَّجَّاج (¬1): أي: أتصبرون على البلاء؟ فقد عرفتم ما وجد الصابرون. قلت: قَرَنَ الله سبحانه الفتنةَ بالصبر هاهنا، وفى قوله: {ثُمَّ إِنَّ رَبَّكَ لِلَّذِينَ هَاجَرُوا مِنْ بَعْدِ مَا فُتِنُوا ثُمَّ جَاهَدُوا وَصَبَرُوا} [النحل: 110]، فليس لمن قد فُتن بفتنةٍ دواءٌ مثل الصبر، فإن صبر كانت الفتنة مُمَحِّصةَ له، ومُخلّصة من الذنوب، كما يُخلّص الكيرُ خَبَثَ الذهب والفضة. فالفتنةُ كِيْر القلوب، ومَحَكّ الإيمان، وبها يَتبيّن الصادق من الكاذب. قال تعالى: {وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ} [العنكبوت: 3]. فالفتنةُ قَسَمت الناس إلى صادقٍ وكاذبٍ، ومؤمن ومنافق، وطيبٍ وخبيثٍ، فمن صبر عليها كانت رحمةً في حَقِّه، ونجا بصبره من فتنةٍ أعظم منها، ومن لم يَصْبر عليها وقع في فتنةٍ أشدّ منها. فالفتنة لا بدّ منها في الدنيا والآخرة، كما قال تعالى: {يَوْمَ هُمْ عَلَى النَّارِ ¬

_ (¬1) معاني القرآن (4/ 63).

من لم يصبر على فتنة الدنيا له النار

{يُفْتَنُونَ (13) ذُوقُوا فِتْنَتَكُمْ هَذَا الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تَسْتَعْجِلُونَ} [الذاريات: 13، 14]، فالنار فتنةُ مَنْ لم يصبر على فتنة الدنيا، قال تعالى في شجرة الزقوم: {إِنَّا جَعَلْنَاهَا فِتْنَةً لِلظَّالِمِينَ} [الصافات: 63]. قال قتادة (¬1): لمَّا ذكر الله تعالى هذه الشجرة افتتنَ بها الظَّلمةُ، فقالوا: يكون في النار شجرةٌ والنار تأكل الشجر؟ فأنزل الله عز وجل: {إِنَّهَا شَجَرَةٌ تَخْرُجُ فِي أَصْلِ الْجَحِيمِ} [الصافات: 64]، فأخبرهم أن غِذاءها من النار، أي: غُذَيِت بالنار. قال ابن قتيبة (¬2): قد تكون شجرةُ الزقوم نبتًا من النار، ومن جَوْهرٍ لا تأكله النار، وكذلك سلاسل النار وأغلالها وأنكالها، وعقاربها وحيّاتها، ولو كانت على ما نعلم لم تَبْقَ على النار، وإنما دلَّنا الله على الغائب عنده بالحاضر عندنا، فالأسماءُ مُتفقةٌ للدّلالة، والمعاني مختلفةٌ، وما في الجنة من ثمرها وفُرُشها وشجرها وجميع آلاتها على مثل ذلك. والمقصود أن هذه الشجرة فتنةٌ لهم في الدنيا بتكذيبهم بها، وفتنة لهم في الآخرة بأكلهم منها. وكذلك إخباره سبحانه بأن عِدّة الملائكة الموكّلين بالنار تسعة عشر كان فتنةً للكفار، حيث قال. عدوّ الله أبو جهل (¬3) عليه لعنة الله: أيُخَوّفكم ¬

_ (¬1) رواه الطبري في تفسيره (17/ 486، 21/ 52)، وعزاه في الدر المنثور (7/ 95) لعبد بن حميد وابن أبي حاتم. (¬2) تأويل مشكل القرآن (ص 70). (¬3) رواه الطبري في تفسيره (24/ 28) من طريق عطية العوفي عن ابن عباس بنحوه، =

قول المؤمنين: {ربنا لا تجعلنا فتنة للذين كفروا}

محمدٌ بتسعة عشر، وأنتم الدُّهْمُ؟ أفيعجز كل مئةٍ منكم أن يبطشوا بواحد منهم، ثم تخرجون من النار؟ فقال أبو الأشُدَّينِ (¬1) لعنه الله؛ يا معشر قريش! إذا كان يوم القيامة فأنا أمشي بين أيديكم على الصراط، فأدفع عشرة بمَنكبي الأيمن، وتسعة بمنكبي الأيسر في النار، ونمضي فندخل الجنة. فكان ذكرُ هذا العدد فتنةً لهم في الدنيا، وفتنةً لهم يوم القيامة. والكافرُ مفتونٌ بالمؤمن في الدنيا، كما أن المؤمن مفتون به، ولهذا سأل المؤمنون ربهّم أن لا يجعلهم فتنةً للدَّين كفروا، كما قال الحنفاء: {رَبَّنَا عَلَيْكَ تَوَكَّلْنَا وَإِلَيْكَ أَنَبْنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ (4) رَبَّنَا لَا تَجْعَلْنَا فِتْنَةً لِلَّذِينَ كَفَرُوا} [الممتحنة: 4، 5]،، وقال أصحاب موسى: {فَقَالُوا عَلَى اللَّهِ تَوَكَّلْنَا رَبَّنَا لَا تَجْعَلْنَا فِتْنَةً لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (85)} [يونس: 85]. قال مجاهد (¬2): المعنى: لا تعذِّبنا بأيديهم، ولا بعذابٍ من عندك، فيقولوا لو كان هؤلاء على الحق ما أصابهم هذا. ¬

_ = ورواه عبد الرزاق في تفسيره (3/ 329) والطبري (24/ 28، 29) عن قتادة بمعناه مرسلًا. (¬1) عزاه في الدر المنثور (8/ 333) لابن أبي حاتم عن السدي بنحوه. (¬2) أقوال المفسرين في البسيط للواحدي (21/ 411)، وقول مجاهد علّقه البخاري عنه بصيغة الجزم في كتاب التفسير، باب: تفسير سورة الممتحنة، وهو موصول عند الحربي في غريب الحديث (3/ 939) والطبري في تفسيره (15/ 169، 170، 23/ 319، 320) وابن أبي حاتم في تفسيره (10522) من طرق عن مجاهد، وعزاه في الدر المنثور (4/ 382، 8/ 129) لابن أبي شيبة وعبد بن حميد وابن المنذر وأبي الشيخ.

فتن الله أصحاب الشهوات بالصور الجميلة وفتن أولئك بهم

وقال الزَّجاج (¬1): معناه: لا تُظهرهم علينا، فيظنوا أنهم على حقٍّ، فيفتتنوا بذلك. وقال الفرّاء (¬2): لا تُظهر علينا الكفار، فيَرَوْا أنهم على حقٍّ وأنا على باطل. [128 ب] وقال مقاتل (¬3): لا تُقَتِّرْ علينا الرزق وتبسطه عليهم، فيكون ذلك فتنةً لهم. وقد أخبر الله سبحانه أنه قد فَتن كلًا من الفريقين بالفريق الآخر، فقال: {وَكَذَلِكَ فَتَنَّا بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لِيَقُولُوا أَهَؤُلَاءِ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنْ بَيْنِنَا} , وقال تعالى: {أَلَيْسَ اللَّهُ بِأَعْلَمَ بِالشَّاكِرِينَ} [الأنعام: 53]. والمقصود أنه سبحانه فتنَ أصحاب الشهوات بالصور الجميلة، وفتن أولئك بهم، فكلٌّ من النوعين فتنةٌ للآخر، فمن صبر منهم على تلك الفتنة نجا مما هو أعظم منها، ومن أصابته تلك الفتنةُ سقط فيما هو شرّ منها، فإن تدارك ذلك بالتوبة النصوح، وإلا فبسبيل مَنْ هلك، ولهذا قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: "ما تركتُ بعدي فتنةً أضرّ من النساءِ على الرجال" (¬4) أو كما قال. فالعبدُ في هذه الدار مفتونٌ بشهواته، ونفسه الأمّارة، وشيطانه المُغوِي المزَيِّن، وقُرنائه، وما يراه ويشاهده مما يعجز صبره عنه، ويتفق مع ذلك ¬

_ (¬1) معاني القرآن له (5/ 157). (¬2) معاني القرآن (3/ 150). (¬3) تفسير مقاتل (3/ 350). وفيه: فيكون ذلك فتنة لنا. (¬4) أخرجه البخاري (5096)، ومسلم (2740) عن أسامة بن زيد.

فصل: الفتنة نوعان: فتنة الشبهات وفتنة الشهوات

ضعف الإيمان واليقين، وضعف القلب، ومرارة الصبر، وذَوْقُ حلاوة العاجل، وميل النفس إلى زهرة الحياة الدنيا، وكون العِوض مؤجّلًا في دار أخرى غير هذه الدار التي منها خلق، وفيها نشأ، فهو مكلفٌ بأن يترك شهوته الحاضرة المشاهدة لغيب طُلب منه الإيمان به: فَوَ اللهِ لَوْلا اللهُ يُسْعِدُ عَبْدَهُ ... بِتَوْفِيقِه وَاللهُ بِالْعَبْدِ أَرْحَمُ لمَا ثَبَتَ الإيمَانُ يَوْمًا بِقَلْبِهِ ... عَلىَ هذِه العِلاّتِ وَالأَمْرُ أَعْظَمُ وَلا طَاوَعَتْهُ النّفْسُ في تَرْكِ شَهْوَةٍ ... مَخَافَةَ نَارٍ جَمْرُها يَتَضَرَّمُ ولا خاف يومًا من مقامِ إلهه ... عليه بحكمِ القسطِ إذ ليس يظلم فصل والفتنة نوعان: فتنةُ الشبهات وهى أعظم الفتنتين، وفتنة الشهوات. وقد يجتمعان للعبدِ، وقد ينفردُ بإحداهما: ففتنة الشبهات: من ضعفِ البصيرة، وقلة العلم، ولا سيَّما إذا اقترن بذلك فسادُ القصد، وحصولُ الهوى، فهنالك الفتنةُ العظمى، والمصيبةُ الكبرى، فقُلْ ما شئت في ضلال سيِّئ القصد، الحاكم عليه الهوى لا الهُدَى، مع ضعف بصيرته، وقلة علمه بما بعث الله به رسوله، فهو من الذين قال الله تعالى فيهم: {إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَمَا تَهْوَى الْأَنْفُسُ} [النجم: 23]. وقد أخبر الله سبحانه أن اتباع الهوى يُضلّ عن سبيل الله، فقال: {يَادَاوُودُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ وَلَا تَتَّبِعِ الْهَوَى فَيُضِلَّكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ إِنَّ الَّذِينَ يَضِلُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ بِمَا نَسُوا يَوْمَ الْحِسَابِ} [ص: 26].

جميع الباع إنما نشات عن فتنة الشبهات

وهذه الفتنة مآلها إلى الكفر والنفاق، وهي فتنة المنافقين، وفتنة أهل البدع، على حسب مراتب بدعهم، فجميعهم إنما ابْتدعُوا من فتنة الشبهات التي اشتبه عليهم فيها الحق بالباطل، والهدى بالضلال. ولا يُنجي من هذه الفتنة إلا تجريد اتّباع الرسول، وتحكيمُه في دِقّ الدين وجِلّه، ظاهره وباطنه، عقائده وأعماله، حقائقه وشرائعه، فيتلقى عنه حقائق الإيمان، وشرائع الإسلام، وما يُثبتُه الله من الصفات والأفعال والأسماء، وما ينفيه عنه، كما يتلقّى عنه وجوب الصلوات وأوقاتها وأعدادها، ومقادير نُصُب الزكوات ومُسْتَحقِّيها، ووجوب الوضوء والغسل من الجنابة، وصوم رمضان، فلا يجعله رسولًا [129 أ] في شيء دون شيء من أمور الدِّين، بل هو رسول في كل شيء تحتاج إليه الأمّة في العلم والعمل، لا يُتَلقّى إلا عنه، ولا يُؤخذ إلا منه، فالهُدى كله دائرٌ على أقواله وأفعاله، وكلّ ما خرج عنها فهو ضلال. فإذا عقدَ قلبه على ذلك، وأعرض عمَّا سواه، ووزَنَه بما جاء به الرسول، فإن وافقه قبله، لا لِكَوْن ذلك القائل قالَهُ، بل لموافقته للرسالة، وإن خالفه رَدّه، ولو قاله مَنْ قاله، فهذا الذي يُنْجيه من فتنة الشّبُهات، وإن فاته ذلك أصابه من فتنتها بحسب ما فاته منه. وهذه الفتنة تنشأُ تارةً من فَهْم فاسدٍ، وتارةً من نقل كاذب، وتارةً من حقِّ فائت خفي على الرجل فلم يَظفر به، وتارةً من غرضٍ فاسد وهَوًى مُتّبع، فهي من عمًى في البصيرة، وفسادٍ في الإرادة.

فصل: النوع الثاني: فتنة الشهوات

فصل وأما النوع الثاني من الفتنة ففتنة الشهوات. وقد جمع سبحانه بين ذكر الفتنتين في قوله: {كَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ كَانُوا أَشَدَّ مِنْكُمْ قُوَّةً وَأَكْثَرَ أَمْوَالًا وَأَوْلَادًا فَاسْتَمْتَعُوا بِخَلَاقِهِمْ فَاسْتَمْتَعْتُمْ بِخَلَاقِكُمْ كَمَا اسْتَمْتَعَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ بِخَلَاقِهِمْ وَخُضْتُمْ كَالَّذِي خَاضُوا أُولَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ} [التوبة: 69]، أي: تمتعوا بنصيبهم من الدنيا وشهواتها، والخَلاقُ: هو النصيبُ المقدَّر، ثم قال: {وَخُضْتُمْ كَالَّذِي خَاضُوا}، فهذا الخوضُ بالباطل، وهو الشبهات. فأشارَ سبحانه في هذه الآية إلى ما يحصلُ به فساد القلوب والأديان، من الاستمتاع بالخَلاق، والخوض بالباطل، لأن فساد الدِّين إما أن يكون باعتقاد الباطل والتكلُّم به، أو بالعمل بخلاف العلم الصحيح: فالأول: هو البدعُ وما والاها، والثاني: فسقُ الأعمال. فالأول: فسادٌ من جهة الشبهات، والثاني: من جهة الشهوات. ولهذا كان السلف يقولون: احذروا من الناس صنفين: صاحب هَوًى قد فتنه هواه، وصاحبَ دُنيا أعْمتَه دُنياه. وكانوا يقولون: احذروا فتنة العالم الفاجر، والعابد الجاهل، فإن فتنتهما فتنةٌ لكل مفتون (¬1). ¬

_ (¬1) أُثر هذا القول عن سفيان الثوري، وقد تقدم تخريجه.

أصل كل فتنة تقديم الرأي على الشرع وتقديم الهوى على العقل

وأصلُ كل فتنة إنما هو من تقديم الرأي على الشرع، والهَوَى على العقلِ: فا لأول: أصل فتنة الشبهة، والثاني: أصلُ فتنة الشهوة. ففتنة الشبهات: تُدفعُ باليقين، وفتنة الشهوات: تُدفع بالصبر. ولذلك جعل سبحانه إمامة الدِّين منوطةَ بهذين الأمرين، فقال: {وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يُوقِنُونَ} [السجدة: 24]. فدل على أنه بالصبر واليقين تُنالُ الإمامة في الدين. وجمع بينهما أيضًا في قوله: {وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ} [العصر: 3]، فتواصوا بالحق الذي يَدْفعُ الشبهات، وبالصبر الذي يكفّ عن الشهوات. وجمع بينهما في قوله: {وَاذْكُرْ عِبَادَنَا إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ أُولِي الْأَيْدِي وَالْأَبْصَارِ} [ص: 45]. فالأيدي: القُوَى والعزائم (¬1) في ذات الله، والأبصارُ: البصائر في أمر الله. وعباراتُ السلف تدور على ذلك. قال ابن عباس (¬2): أولي القوّة في طاعة الله، والمعرفة بالله. ¬

_ (¬1) م: "القوائم". والمثبت من باقي النسخ. (¬2) أقوال المفسرين نقلها المؤلف من البسيط للواحدي (19/ 221) ببعض الاختلاف. وقول ابن عباس رواه الطبري في تفسيره (21/ 215) وابن أبي حاتم في تفسيره (18364) من طريق ابن أبي طلحة، والثعلبي في تفسيره (8/ 212) من طريق عمر بن عطاء، كلاهما عن بن عباس قال: "أولي الأيدي: أولي القوّة في العبادة، =

وقال الكلبي: أولى القوة في العبادة، والبصر فيها. وقال مجاهد (¬1): الأيدي: القوة في طاعة الله، والأبصار: البصرُ في الحق. وقال سعيد بن جُبير (¬2): الأيدي: القوة في العمل، والأبصار: بصرهم بما هم فيه من دينهم. وقد جاء في حديث مرسل (¬3): "إن الله يُحِبُّ [129 ب] البصر النافذ عند ¬

_ = والأبصَار: الفقه في الدين"، ولفظ الثعلبي: "والأبصَار: التبصّر في العلم والدين"، وعزاه في الدر المنثور (7/ 197) لابن المنذر. (¬1) رواه الطبري في تفسيره (21/ 216) من طريق ابن أبي نجيح عن مجاهد، وروى ابن أبي الدنيا في العقل (7) والطبري (21/ 216) من طريقين عن منصور عن مجاهد قال: "الأيدي: القوّة في أمر الله، والأبصار: العقول"، وعزاه في الدر المنثور (7/ 198) لعبد بن حميد. (¬2) رواه ابن المبارك في الزهد (1516) عن شريك عن سالم عن سعيد، وعزاه في الدر المنثور (7/ 197، 198) لعبد بن حميد. (¬3) رواه ابن جميع في معجمه (ص 88، 89)، والسلمي في الأربعين (ص 6)، وأبو نعيم في الحلية (6/ 199)، والقضاعي في مسند الشهاب (1080، 1081)، والبيهقي في الزهد الكبير (954)، وغيرهم من طريق عمر بن حفص العبدي عن حوشب ومطر عن الحسن عن عمران بن حصين به مرفوعًا، قال البيهقي: "تفرّد به عمر بن حفص"، وقال العراقي في المغني (4299): "ضعّفه الجمهور". ورواه الحكيم الترمذي عن الزبير بن العوام مرفوعًا كما في الدر المنثور (6/ 707 - 708). ولم أقف عليه مرسلًا كما ذكره المصنف، وقبلَه ابن تيمية حيث قال كما في المجموع (7/ 540): "رواه البيهفي مرسلًا"، إلا أن يكون المقصود الانقطاع، فإن الحسن لم يسمع من عمران، والله أعلم.

فصل: الهدى والرحمة اللذين بهما سعادة العبد وفلاحه إنما يحصلان بسلامته من الشهوات والشبهات

ورُود الشبهات، ويحب العقل الكامل عند حُلول الشهوات". فبكمال العقل والصبر تُدفع فتنةُ الشهوة، وبكمال البصيرة واليقين تُدفع فتنة الشبهة. والله المستعان. فصل إذا سلم العبدُ من فتنة الشبهات والشهوات حصل له أعظمُ غايتين مطلوبتين، بهما سعادته وفلاحه وكماله، وهما الهُدى والرحمة. قال تعالى عن موسى وفتاه: {فَوَجَدَا عَبْدًا مِنْ عِبَادِنَا آتَيْنَاهُ رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنَا وَعَلَّمْنَاهُ مِنْ لَدُنَّا عِلْمًا} [الكهف: 65]، فجمع له بين الرحمة والعلم، وذلك نظيرُ قول اصحاب الكهف: {رَبَّنَا آتِنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً وَهَيِّئْ لَنَا مِنْ أَمْرِنَا رَشَدًا} [الكهف: 10]، فإن الرشد: هو العلم بما ينفع والعمل به. والرشد والهُدى إذا أُفْرِدَ كُلّ منها تضمّن الآخر، وإذا قُرن أحدهما بالآخر فالهدى هو العلم بالحقّ، والرشد هو العمل به، وضدهما: الغيّ واتباع الهوى. وقد يقابَل الرشد بالضّر والشر، قال تعالى: {قُلْ إِنِّي لَا أَمْلِكُ لَكُمْ ضَرًّا وَلَا رَشَدًا} [الجن: 21]، وقال مؤمنو الجن: {وَأَنَّا لَا نَدْرِي أَشَرٌّ أُرِيدَ بِمَنْ فِي الْأَرْضِ أَمْ أَرَادَ بِهِمْ رَبُّهُمْ رَشَدًا} [الجن: 10]. فالرشد يقابل الغيَّ تارةً، كما في قوله: {وَإِنْ يَرَوْا سَبِيلَ الرُّشْدِ لَا يَتَّخِذُوهُ سَبِيلًا وَإِنْ يَرَوْا سَبِيلَ الْغَيِّ يَتَّخِذُوهُ سَبِيلًا} [الأعراف: 146].

الغي سبب حصول الضر والشر

ويقابل الضرّ والشرّ، كما تقدم، وذلك لأن الغي سببُ حصول الشرّ والضّرّ، ووقوعهما بصاحبه. فالضّر والشرّ غاية الغي وثمرته، كما أن الرحمة والفلاح غاية الهدى وثمرته. فلهذا يُقابَلُ كل منهما بنقيضه وسبب نقيضه. فيقابل الهدى بالضلال، كقوله: {يُضِلُّ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ} [النحل: 93] وقوله: {إِنْ تَحْرِصْ عَلَى هُدَاهُمْ فَإِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي مَنْ يُضِلُّ} [النحل: 37]، وهو كثير. ويقابل بالغضب (¬1) والعذاب، كقوله: {فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلَا يَضِلُّ وَلَا يَشْقَى} [طه: 123]، فقابل الهدى بالضلال والشقاء. وجمع سبحانه بين الهدى والفلاح، والهدى والرحمة، كما يجمع بين الضلال والشقاء، والضلال والعذاب: كقوله: {إِنَّ الْمُجْرِمِينَ فِي ضَلَالٍ وَسُعُرٍ} [القمر: 47]، فالضلال ضدّ الهدى، والسُّعُر العذاب، وهو ضدّ الرحمة. وقال: {وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى} [طه: 124]. والمقصود: أن من سَلِمَ من فتنة الشبهات والشهوات جُمع له بين الهدى والرحمة، والفلاح والهدى. ¬

_ (¬1) كذا في النسخ، والسياق يقتضي "بالضلال".

الهدى العام والهدى الخاص بأهل اليقين والمتقين

قال تعالى عن أوليائه: {رَبَّنَا لَا تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا وَهَبْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ} [آل عمران: 8]، وقال تعالى: {وَلَمَّا سَكَتَ عَنْ مُوسَى الْغَضَبُ أَخَذَ الْأَلْوَاحَ وَفِي نُسْخَتِهَا هُدًى وَرَحْمَةٌ لِلَّذِينَ هُمْ لِرَبِّهِمْ يَرْهَبُونَ} [الأعراف: 154]، وقال تعالى: {هَذَا بَصَائِرُ لِلنَّاسِ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ} [الجاثية: 20]، وقال تعالى: {لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِأُولِي الْأَلْبَابِ مَا كَانَ حَدِيثًا يُفْتَرَى وَلَكِنْ تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ كُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ} [يوسف: 111]، وقال تعالى: {يَاأَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَتْكُمْ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَشِفَاءٌ لِمَا فِي الصُّدُورِ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ} [يونس: 57]. فقوله: {هَذَا بَصَائِرُ لِلنَّاسِ} عام مطلق، وقوله: {وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ} خاص بأهل اليقين. ونظير ذلك قوله: {يَاأَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَتْكُمْ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَشِفَاءٌ لِمَا فِي الصُّدُورِ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ} [يونس: 57]. ونظيره في الخصوص قوله تعالى: {هُدًى لِلْمُتَّقِينَ} [البقرة: 2]، وقوله: {يَهْدِي بِهِ اللَّهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ السَّلَامِ} [المائدة: 16]. ونظيره أيضًا قوله: {هَذَا بَيَانٌ لِلنَّاسِ وَهُدًى وَمَوْعِظَةٌ لِلْمُتَّقِينَ} [آل عمران: 138]. وقد أخبر أنه هُدًى عامٌّ لجميع المكلَّفين، فقال: {إِنْ هِيَ إِلَّا أَسْمَاءٌ

البصائر جمع بصيرة، وهي فدلة بمعنى مفعلة

سَمَّيْتُمُوهَا أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ بِهَا مِنْ سُلْطَانٍ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَمَا تَهْوَى الْأَنْفُسُ وَلَقَدْ جَاءَهُمْ مِنْ رَبِّهِمُ الْهُدَى} [النجم: 23]. فأخبر سبحانه أن القرآن بصائر لجميع الناس، والبصائر: جمع بَصيرة، وهى فعيلة بمعنى مُفْعِلَة، أي: مُبصِرة لمن يبصر، ومنه قوله تعالى: {وَآتَيْنَا ثَمُودَ النَّاقَةَ مُبْصِرَةً} [الإسراء: 59]، أي: مُبَيّنةَ مُوجِبة للتّبصُّر. وفعل الإبصار يستعمل لازمًا ومتعديًا، يقال: أبصرته، بمعنى: رأيْتُه، وأبصرته، بمعنى: أرَيْتُه. فـ {مُبْصِرَةً} في الآية، بمعنى: مُرِيَة، لا بمعنى: رائية، والذين ظنُّوها بمعنى: رائية غلطوا في الآية، وتحيَّروا في معناها. فإنه يقال: بَصُرَ به، وأبصره، فيُعَدّى بالباء تارة والهمزة تارة، ثم يقال: أبصرتُه كذا، أي: أريته إياه، كما يقال: بَصَّرته به، وبَصُر هو به. فهنا بَصيرة، وتَبْصرة، ومُبصرة، فالبَصيرة: المبينة التي تُبْصر، والتبصرةُ: مصدرٌ مثلُ التذكرة، وسُمّي بها ما يُوجب التبصرة، فيقال: هذه الآية تَبصرةٌ، لكونها آلة التبصُّرِ ومُوجبه. فالقرآن بصيرةٌ وتَبصرة، وهُدًى وشفاءٌ ورحمةٌ، بمعنى عام وبمعنى خاصٍّ، ولهذا يَذكر الله سبحانه هذا وهذا، فهو هدًى للعالمين، وهُدًى للمتقين، وشفاءٌ للعالمين، وشفاءٌ للمؤمنين، وموعظةٌ للعالمين، وموعظةٌ للمتقين، فهوفي نفسه هُدًى ورحمةٌ، وشِفَاءٌ وموعظةٌ. فمن اهتدَى به واتّعظ واشتفى كان بمنزلة مَن استعمل الدوّاء الذي يحصُل به الشفاء، فهو دواءٌ بالفعل. وإن لم يستعمله فهو دواء له بالقوة.

القرآن هدى بالفعل لمن اهتدى وبالقوة لمن لم يهتد

وكذلك الهُدى، فالقرآن هدًى بالفعل لمن اهْتدَى به، وبالقوّة لمن لم يَهْتَد به، فإنما يهتدي به ويُرْحَم ويَتّعِظُ المتقون الموقنون. والهدَى في الأصل: مصدرُ هَدَى يهدي هُدًى. فمن لم يعمل بعلمه لم يكن مُهْتديًا، كما في الأثر: "من ازداد علمًا، ولم يزدد هُدًى لم يزدَدْ من الله تعالى إلا بعدًا" (¬1). ولكن يسمَّى هُدَى لأن مِنْ شأنه أن يهدي. وهذا أحسنُ من قول من قال: إنه هُدًى، بمعنى هادٍ، فهو مَصْدرٌ بمعنى الفاعل، كعَدْل بمعنى العادل، وزَوْر بمعنى الزائر، ورجُل صَوْمٌ أي: صائم! فإن الله سبحانه قد أخبر أنه يهدي به، فالله الهادي، وكتابه الهُدَى الذي يهدي به على لسان رسوله - صلى الله عليه وسلم -. فهاهنا ثلاثةُ أشياء: فاعلٌ، وقابلٌ، وآلةٌ. فالفاعل: هو الله تعالى، والقابل: قلبُ العبد، والآلة: هو الذي يحصل به الهدى، وهو الكتاب المنزّل، والله سبحانه يهدي خلقَه هُدًى، كما يقال: دَلهَّم دلالة، وأرشدهم إرشادًا، وبيّن لهم بيانًا. ¬

_ (¬1) ذكره السبكي في طبقاته (6/ 289) في أحاديث الإحياء التي لم يجد لها إسنادًا، وقال العراقي في المغني (140): "رواه الديلمي في مسند الفردوس من حديث علي بإسناد ضعيف"، وضعفه الفتني في التذكرة (ص 24)، والشوكاني في الفوائد المجموعة (56)، وخرجه الألباني في السلسلة الضعيفة (4541) من حديث أنس وقال: "ضعيف جدًّا". ورُوي نحوه من كلام بشر بن الحارث عند الدينوري في المجالسة (1287).

إذا لم يكن المحل قابلا لم يؤثر فيه الهدى كما لا يؤثر الغذاء في غير محله

والمقصود أن المحل القابلَ هو قلبُ العبد المتقي، المُنيب إلى رَبّه، الخائف منه، الذي يَبتغي رضاه، ويهرُب من سخطه، فإذا هداه الله بكتابه فكأنّه وصل أثرُ فعله إلى محلٍّ قابل، فيتأثر به، فصار هُدًى له وشفاءً ورحمةً وموعظةً، بالوجود والفعل والقبول. وإذا لم يكن المحل قابلًا وصل إليه الهُدَى فلم يُؤثّر فيه، كما يصلُ الغِذاءُ إلى محلِّ غير قابل للاغتذاء، فإنه لا يؤثرُ فيه شيئًا، بل ولا يزيده إلا ضعفًا وفسادًا إلى فساده. كما قال تعالى في الآية التي نَزّلها (¬1): {وَإِذَا مَا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ فَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ أَيُّكُمْ زَادَتْهُ هَذِهِ إِيمَانًا فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَزَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَهُمْ يَسْتَبْشِرُونَ (124) وَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزَادَتْهُمْ رِجْسًا إِلَى رِجْسِهِمْ وَمَاتُوا وَهُمْ كَافِرُونَ} [التوبة: 124، 125]. وقال: {وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ وَلَا يَزِيدُ الظَّالِمِينَ إِلَّا خَسَارًا} [الإسراء: 82]. فتخلُّفُ الاهتداء يكون لعدم قَبول المحل تارة، ولعدم آلة الهدى تارة، ولعدم فعل الفاعل وهو الهادي تارة، ولا يحصلُ الهُدى على الحقيقة إلا عند اجتماع هذه الأمور الثلاثة. وقد قال سبحانه: {وَلَوْ عَلِمَ اللَّهُ فِيهِمْ خَيْرًا لَأَسْمَعَهُمْ وَلَوْ أَسْمَعَهُمْ لَتَوَلَّوْا وَهُمْ مُعْرِضُونَ} [الأنفال: 23]، فأخبر سبحانه أنه قطع عنهم [130 ب] مادّة ¬

_ (¬1) ح، ظ: "ينزلها".

اتصال الهدى بالرحمة في حق المؤمنين

الاهتداء، وهو إسماعُ قلوبهم وإفهامُها ما يَنفعها، لعدم قَبول المحلّ، فإنه لا خير فيه، فإن الرجل إنما ينقادُ للحقّ بالخير الذي فيه، والميل إليه، والطلب له، ومحبته، والحرص عليه، والفرح بالظَّفَر به، وهؤلاء ليس في قلوبهم شيءٌ من ذلك، فوصل الهُدَى إليها ووقع عليها، كما يصلُ الغيثُ النازلُ من السماء، ويقعُ على الأرض الغليظة العالية، التي لا تمُسكُ ماءً، ولا تُنبتُ كلاً، فلا هي قابلةٌ للماء ولا للنبات، فالماء في نفسه رحمةٌ وحياةٌ، ولكن ليس فيها قبولٌ له. ثم أكّد الله هذا المعنى في حَقِّهم بقوله: {وَلَوْ أَسْمَعَهُمْ لَتَوَلَّوْا وَهُمْ مُعْرِضُونَ}، أي: فيهم مع عدم القبول والفهم آفةٌ أخرى، وهى الكِبْرُ والإعراضُ وفسادُ القَصْد، فلو فهموا لم ينقادُوا، ولم يَتّبعوا الحق، ولم يعملوا به. فالهدى في حق هؤلاء هُدى بيانٍ وإقامة حُجّة، لا هدى توفيق وإرشادٍ، فلم يتّصل الهُدَى في حقهم بالرحمة. وأما المؤمنون فاتّصل الهدى في حَقِّهم بالرحمة، فصار القرآنُ لهم هُدًى ورحمةً، ولأولئك هدًى بلا رحمة. والرحمةُ المقارنةُ للهدى في حَقِّ المؤمنين: عاجلة وآجلة. فأما العاجلة فما يعطيهم الله تعالى في الدنيا من محبة الخير والبرّ، وذَوْق طعم الإيمان، ووجدان حلاوته، والفرح والسرور بأن هداهم الله تعالى لما أضلّ عنه غيرهم، ولما اختُلِف فيه من الحقّ بإذنه، فهم يتقلّبون في نور هُداه، ويمشون به في الناس، ويرون غيرهم مُتحيّرًا في الظلمات،

معنى قوله تعالى في سورة يونس: {قل بفضل الله وبرحمته فبذلك فليفرحوا}

فهم أشدّ الناس فرحًا بما آتاهم رَبهُّم من الهدى، قال تعالى: {قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُوا هُوَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ} [يونس: 58]، فأمر سبحانه عباده المؤمنين المهتدين أن يَفرحوا بفَضْله ورَحمته. وقد دارَتْ عبارات السلف على أن الفضل والرحمة هو العلم، والإيمانُ، والقرآن، واتباعُ الرسول، وهذا من أعظم الرحمة التي يَرحَمُ الله بها مَنْ يشاء من عباده، فإن الأمْنَ والعافية والسرورَ ولذةَ القلب ونعيمه وبهجته وطُمأنِينَتَهُ مع الإيمان والهدى إلى طريق الفلاح والسعادة. والخوف والهمّ والغمّ والبلاء والألم والقلق: مع الضلال والحَيْرة. ومُثِّلَ هذا بمسافِرَيْنِ، أحدهما: قد اهتدى لطريق مقصده، فسار آمنًا مطمئنًا، والآخرُ: قد ضل الطريق فلم يَدْر أينَ يتوجّهُ؟ كما قال تعالى: {قُلْ أَنَدْعُو مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَنْفَعُنَا وَلَا يَضُرُّنَا وَنُرَدُّ عَلَى أَعْقَابِنَا بَعْدَ إِذْ هَدَانَا اللَّهُ كَالَّذِي اسْتَهْوَتْهُ الشَّيَاطِينُ فِي الْأَرْضِ حَيْرَانَ لَهُ أَصْحَابٌ يَدْعُونَهُ إِلَى الْهُدَى ائْتِنَا قُلْ إِنَّ هُدَى اللَّهِ هُوَ الْهُدَى وَأُمِرْنَا لِنُسْلِمَ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ} [الأنعام: 71]. فالرحمة التي تحصل لمن حصل له الهدى هي بحسب هداه، فكلَّما كان نصيبه من الهدى أتمّ كان حظّه من الرحمة أوفر، وهذه هي الرحمة الخاصة بعباده المؤمنين، وهى غيرُ الرحمة العامة بالبَرّ والفاجر. وقد جمع الله سبحانه لأهل هدايته بين الهدى والرحمة والصلاة عليهم، فقال تعالى: {أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ} [البقرة: 157].

قول عمر: "نعم العدلان ونعمت العلاوة"

قال عمر بن الخطاب (¬1) رضي الله تعالى عنه: نعم العِدْلان، ونعمت العِلاوة. فبالهدى خَلَصُوا من الضلّال، وبالرحمة نَجَوْا من الشّقاء والعذابِ، وبالصلاة عليهم نالُوا منزلةَ القُرْب والكرامة. والضالُّون حصل لهم ضدّ هذه الثلاثة: الضلالُ عن طريق السعادة، والوقوعُ في ضِدّ الرحمة من الألم والعذاب، والذمُّ واللعنُ الذي هو ضد الصلاة. ولما كان نصيب كل عبد من الرحمة على قدر نصيبه من الهدى، كان أكملُ المؤمنين إيمانًا أعظمهم رحمة، كما قال تعالى في أصحاب رسوله - صلى الله عليه وسلم -: {مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ} [الفتح: 29]. وكان الصدّيق رضي الله عنه [131 أ] من أرحم الأمة، وقد روي عن النبي أنه قال: "أرحم أمتي بأمتي أبو بكر" رواه الترمذي (¬2). ¬

_ (¬1) علّقه البخاري بصيغة الجزم في كتاب الجنائز، باب: الصبر عند الصدمة الأولى، وهو موصول عند البيهقي في الكبرى (4/ 65) وفي الشعب (2/ 221) من طريق مجاهد عن ابن المسيب عن عمر، وصححه الحاكم (3068) وقال: "لا أعلم خلافًا بين أئمّتنا أن سعيد بن المسيب أدرك أيامَ عمر، وإنما اختلفوا في سماعه منه"، وقال ابن حجر في تغليق التعليق (2/ 470): "هذا إسناد صحيح ... وقد صحّ سماع ابن المسيب عن عمر". وروِي عن مجاهد عن عمر، وعن نعيم بن أبي هِند عن عمر. (¬2) سنن الترمذي (3791) عن أنس، ورواه أيضًا الطيالسي (2096)، وابن سعد في الطبقات (3/ 176)، وأحمد (3/ 184، 281)، والنسائي في الكبرى (8242، 8287)، وابن ماجه (154، 155)، وابن أبي عاصم في السنة (1252، 1283)، والطحاوي في شرح المشكل (2/ 279)، والضياء في المختارة (2240 - 2242، =

وسع ربنا كل شيء رحمة وعلما

وكان أعلمَ الصحابة باتفاق الصحابة، كما قال أبو سعيد الخدري رضي الله عنه: وكان أبو بكر رضي الله عنه أعلمنا به يعني النبي - صلى الله عليه وسلم - (¬1). فجمع الله له بين سَعة العلم والرحمة. وهكذا الرجل، كما اتَّسع علمه اتَّسعَتْ رحمته. وقد وَسِعَ رَبُّنا كلَّ شيء رحمةً وعلمًا، فوسعت رحمته كل شيء، وأحاط بكلِّ شيء علمًا، فهو أرحم بعباده من الوالدة بولدها، بل هو أرحم بالعبد من نفسه، كما هو أعلم بمصلحة العبد من نفسه. والعبد لجهله بمصالح نفسه وظلمه لها يسعى فيما يضرّها ويؤلمها، ويَنْقُصُ حظّها من كرامته وثوابه، ويُبعدها من قربه، وهو يَظنّ أنه ينفعها ويُكرمها. وهذا غاية الجهل والظلم، والإنسان ظلوم جَهول، فكم من مُكرم لنفسه بزعمه وهو لها مُهين، ومُرَفّهِ لها وهو لها مُتعب، ومعطيها بعض غرضها ولذتها وقد حال بينها وبين جميع لذّاتها، فلا علم له بمصالحها التي هي مصالحها، ولا رحمة عنده لها، فما يبلغ عدوّه منه ما يبلغ هو من نفسه. فقد بخسَها حظَّها، وأضاع حقَّها، وعطَّل مصالحَها، وباع نعيمها الباقي ولذتها الدائمة الكاملة بلذةٍ فانية مَشُوبة بالنغص، إنما هي كأضغاث أحلام، أو كطيفٍ زار في المنام. ¬

_ = 2568)، وغيرهم، وأُعلّ بالإرسال، وصححه الترمذي، وابن حبان (7131، 7137، 7252)، والحاكم (5784)، والذهبي في السير (4/ 474)، قال ابن حجر في الفتح (7/ 93، 8/ 167): "إسناده صحيح إلا أن الحفاظ قالوا: إن الصواب في أوّله الإرسال"، وهو في السلسلة الصحيحة (1224). وفي الباب عن عمر وابن عمر وجابر وأبي سعيد الخدري وابن عباس وشداد بن أوس وأبي محجن وعبد الرحمن بن أبي بكر الصديق. وأبي أمامة البلوي، ومرسل الحسن البصري. (¬1) أخرجه البخاري (3654)، ومسلم (2382).

فصل: الرحمة صفة تقتضي إيصال الخير إلى العبد وإن كره ذلك

وليس هذا بعجيب من شأنه، وقَد فَقَدَ نصيبه من الهدى والرحمة، فلو هُدِي ورُحم لكان شأنه غير هذا الشأن، ولكن الربّ تعالى أعلمُ بالمحلِّ الذي يصلح للهدى والرحمة، فهو الذي يؤتيهما العبد، كما قال عن عبده الخضر: {فَوَجَدَا عَبْدًا مِنْ عِبَادِنَا آتَيْنَاهُ رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنَا وَعَلَّمْنَاهُ مِنْ لَدُنَّا عِلْمًا} [الكهف: 65]. {رَبَّنَا آتِنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً وَهَيِّئْ لَنَا مِنْ أَمْرِنَا رَشَدًا} [الكهف: 10]. فصل ومما ينبغي أن يُعلم: أن الرحمة صفةٌ تقتضي إيصال المنافع والمصالح إلى العبد، وإن كرهتها نفسه، وشَقّت عليها، فهذه هي الرحمة الحقيقية، فأرْحَمُ الناس بك من شَقّ عليك في إيصال مصالحك، ودَفْعِ المضارّ عنك. فمن رحمة الأب بولده: أن يُكرِهه على التأدّب بالعلم والعمل، ويشقّ عليه في ذلك بالضّرب وغيره، ويمنعه شهواته التي تعود بضرره، ومتى أهمل ذلك من ولده كان لقلة رحمته به، وإن ظنّ أنه يرحمه ويُرفّهُه ويُريحه، فهذه رحمة مقرونة بجهل، كرحمة الأم. ولهذا كان من إتمام رحمة أرحم الراحمين: تسليطُ أنواع البلاء على العبد، فإنه أعلم بمصلحته، فابتلاؤه له وامتحانه ومنعه من كثير من أعراضه وشهواته: من رحمته به، ولكنّ العبد لجهله وظُلمه يتّهم ربَّه، ولا يعلم إحسانه إليه بابتلائه وامتحانه. وقد جاء في أثر (¬1): "إن المبتلى إذا دُعي له: اللهم ارحَمه، يقول الله ¬

_ (¬1) ذكره أبو طالب المكي في قوت القلوب (2/ 39) بغير إسناد فقال: رُوي أنّ موسى =

في الأثر: "إذا أحب الله عبذا حماه طيبات الدنيا"

سبحانه: كيف أرحمُه مِن شيء به أرحَمُه؟ ". وفى أثر آخر (¬1): "إن الله إذا أحب عبده حماه الدنيا وطيّباتهِا وشهواتها، كما يحمِيْ أحدُكم مريضَه". فهذا من تمام رحمته به، لا من بُخْله عليه. كيف وهو الجواد الماجد، الذي له الجودُ كلّه، وجُودُ جميع الخلائق في جَنب جُودِهِ أقلُّ من ذَرةٍ في جبال الدنيا ورمالها. فمن رحمته سبحانه بعباده: ابتلاؤهم بالأوامر والنواهي رحمةً وحِمْيةً، لا حاجةً منه إليهم بما أمرهم به، فهو الغني الحميد، ولا بُخلًا منه عليهم بما نهاهم عنه، فهو الجواد الكريم. ¬

_ = عليه السلام نظر إلى عبد عظيمٍ البلاء فقال: يا ربّ ارحمه، فأوحى الله عز وجلّ إليه: كيف أرحمه ممّا به أرحمه. (¬1) هو أثر مرفوع، رواه البخاري في التاريخ الكبير (7/ 185)، والترمذي (2036)، وابن أبي الدنيا في الزهد (38)، وابن أبي عاصم في الزهد (190، 191)، وعبد الله في زوائد الزهد (ص 11)، والطبري في التهذيب (483 - مسند ابن عباس-)، والطبراني في الكبير (19/ 12)، والبيهقي في الشعب (7/ 320)، وغيرهم من طريق محمود بن لبيد عن قتادة بن النعمان مرفوعا: "إذا أحبَّ الله عبدًا حماه الدنيا كما يظل أحدكم يحمي سقيمَه الماء"، ورُوِي عن محمود عن عقبة بن رافع، وعنه عن رافع بن خديج، وعنه عن أبي سعيد الخدري، قال الترمذي: "حديث حسن غريب، وقد روِي عن محمود بن لبيد عن النبي - صلى الله عليه وسلم - مرسلاً .. ومحمود قد أدرك النبي - صلى الله عليه وسلم - ورآه وهو غلام صغير"، وصححه ابن حبان (669)، والحاكم (7464، 7857)، وحسن إسناده ابن مفلح في الآداب الشرعية (2/ 344). وفي الباب عن حذيفة.

من رحمته تعالى بالمؤمنين ابتلاؤهم بالأوامر والنواهي، وأن نغص عليهم الدنيا لئلا يسكنوا إليها، وأن حذرهم نفسه لئلا يغتروا به

ومن رحمته: أن نَغّص عليهم الدنيا وكدَّرها، لئلَّا يسكنوا إليها، ولا يطمئنوا إليها، ويرغبوا في النّعيم المُقيم في داره وجواره، فساقهم إلى ذلك بسياط الابتلاء والامتحان، فمنَعهم ليُعطيَهُمْ، وابتلاهُم ليُعافيَهُمْ، وأماتهم ليُحْييَهُمْ. ومن رحمته بهم: أن حذَّرهم [131 ب] نفسه، لئلا يغترّوا به، ويعاملوه بما لا تَحْسُنُ معاملته به، قال الله تعالى: {وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ وَاللَّهُ رَءُوفٌ بِالْعِبَادِ} [آل عمران: 30]. قال غير واحد من السلف: من رأفته بالعباد حذّرهم الله من نفسه، لئلا يغتروا به (¬1). فصل ولما كان تمام النعمة على العبد إنما هو بالهدى والرحمة، كان لهما ضدان: الضلال والغضب. فأمرنا الله سبحانه أن نسأله كل يوم وليلةٍ مراتٍ عديدةً: أن يهدينا صراط الذين أنعم عليهم، وهم أولو الهُدى والرحمة، ويُجنّبنا طريق المغضوب عليهم وهم ضد المرحُومين، وطريق الضالين وهم ضد المهتدين، ولهذا كان هذا الدعاء من أجمع الدعاء، وأفضله، وأوجبه. وبالله التوفيق. ¬

_ (¬1) روى عبد الرزاق في تفسيره (1/ 118) - ومن طريقه الطبري في تفسيره (6844) - عن ابن عيينة عن عمرو عن الحسن البصري قال: "مِن رأفته بهم أن حذّرهم نفسَه"، ورواه ابن أبي حاتم في تفسيره (33/ 98) من طريق الفضيل بن عياض عن الحسن، وعزاه في الدر المنثور (2/ 177) لابن المنذر.

فصل: "كل حي إنما يعمل لما فيه تنعمه ولذته

فصل إذا كان كلّ عمل فأصله المحبّة والإرادة، والمقصود به التنعّم بالمراد المحبوب، فكل حيٍّ إنما يعمل لما فيه تنعُّمه ولذته، فالتنعُّم هو المقصود الأول من كلِّ قصد وكلّ حركة، كما أن العذاب والتألُّم هو المكروه المقصود أولًا بكلّ بغض وكلّ امتناع وكفٍّ. ولكن وقع الجهلُ والظلم من بني آدم بجنسين (¬1): بالدِّين الفاسد، والدُّنيا الفاجرة، طلبوا بهما النعيم، وفى الحقيقة فإنما فيهما ضدّه، ففاتهم النعيم من حيث طلبوه وآثروه، ووقعوا في الألم والعذاب من حيث هربوا منه. وبيان ذلك: أن الأعمال التي يعملها جميع بني آدم إما أن يتّخذوها دينًا، أو لا يتخذوها دينًا. والذين يتخذونها دينًا إما أن يكون الدِّين بها دينَ حقٍّ، وإما أن يكون دينًا باطلًا. فنقول: النعيمُ التامُّ هو في الدِّين الحق علمًا وعملًا، فأهلُهُ هم أصحاب النعيم الكامل، كما أخبر الله تعالى بذلك في كتابه في غير موضع، كقوله: {اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ (6) صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ} [الفاتحة: 6، 7]، وقوله عن المتقين المهتدين بالكتاب: {أُولَئِكَ عَلَى هُدًى مِنْ رَبِّهِمْ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} [البقرة: 5]، وقوله: {فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي ¬

_ (¬1) في أكثر النسخ: "بمعنيين". والمثبت من م.

ما يصيب كثيرا من المؤمنين من المصائب وكثيزا من الكفار والفساق من الرياسة والمال وغير ذلك

{هُدًى فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلَا يَضِلُّ وَلَا يَشْقَى} [طه: 123]، وفى الآية الأخرى: {فَمَنْ تَبِعَ هُدَايَ فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ} [البقرة: 38]، وقوله: {إِنَّ الْأَبْرَارَ لَفِي نَعِيمٍ (13) وَإِنَّ الْفُجَّارَ لَفِي جَحِيمٍ} [الانفطار: 13، 14]، والقرآن مملوء من هذا. فوعدُ أهل الهُدى والعمل الصالح بالنعيم التامّ في الدار الآخرة، وَوَعْدُ أهل الضلال والفجور بالشقاء في الدار الآخرة، مما اتّفقت عليه الرسل من أوّلهم إلى آخرهم، وتضمّنته الكتب، ولكن نذكر هاهنا نُكتةً نافعة (¬1): وهى: الإنسان قد يسمع ويرى ما يُصيب كثيرًا من أهل الإيمان في الدنيا من المصائب، وما ينال كثيرًا من الكفار والفجار والظلَمَة في الدُّنيا من الرياسة والمال، وغير ذلك، فيعتقد أن النعيم في الدُّنيا لا يكون إلا للكفار والفجار، وأن المؤمنين حظهم من النّعيم في الدُّنيا قليل، وكذلك قد يعتقد أن العِزّة والنّصرة في الدُّنيا قد تستقرّ للكفار والمنافقين على المؤمنين. فإذا سمع في القرآن قوله تعالى: {وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ} [المنافقون: 8]، وقوله: {وَإِنَّ جُنْدَنَا لَهُمُ الْغَالِبُونَ} [الصافات: 173]، وقوله: {كَتَبَ اللَّهُ لَأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ} [المجادلة: 21]، وقوله: {وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ} [القصص: 83]، ونحو هذه الآيات، وهو ممن يُصدّق بالقرآن = حَمَلَ ذلك على أن حصوله في الدار الآخرة فقط، وقال: أما الدنيا فإنا نرى الكفار والمنافقين يغلبون فيها ويظهرون، ويكون لهم النَّصر والظَّفرُ، والقرآن لا يَرِدُ ¬

_ (¬1) هذه النكتة من كلام شيخ الإسلام في "قاعدة في المحبة" ضمن جامع الرسائل (2/ 324 وما بعدها).

ظن بعض الناس أن ما وعد الله من العزة والنصرة والفلاح للمؤمنين هو في الآخرة فقط

بخلاف الحِسّ، ويعتمد على هذا الظن إذا أُديل عليه عدوٌّ من جنس الكفار والمنافقين أو الفجرة الظالمين، وهو عند نفسه من أهل الإيمان والتقوى، فيرَى أن صاحب الباطل قد على [132 أ] على صاحب الحق، فيقول: أنا على الحقّ، وأنا مغلوبٌ، فصاحب الحقّ في هذه الدنيا مغلوبٌ مقهورٌ، والدَّوْلة فيها للباطل. فإذا ذُكّر بما وَعَده الله تعالى من حُسْنِ العاقبة للمتقين والمؤمنين قال: هذا في الآخرة فقط! وإذا قيل له: كيف يفعل الله تعالى هذا بأوليائه وأحبّائه وأهل الحق؟ فإن كان ممن لا يُعَلِّلُ أفعال الله تعالى بالحِكَم والمصالح قال: يفعلُ الله في مُلكه ما يشاء، ويحكم ما يريد: {لَا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ} [الأنبياء: 23]. وإن كان ممن يُعلِّل الأفعال قال: فعلَ بهم هذا ليُعَرِّضهم بالصبر عليه لثواب الآخرة وعلُوّ الدرجات، وتَوْفيةِ الأجر بغير حساب. ولكل أحدٍ مع نفسه في هذا المقام مُباحثاتٌ وإيرادات وإشكالات وأجوبة، بحسب حاصله وبضاعته من المعرفة بالله تعالى وأسمائه وصفاتِه وحكمته والجهل بذلك، فالقلوب تَغْلِي بما فيها، كالقدور إذا استجمعَتْ غَلَيانًا. فلقد بَلغنَا وشاهَدْنَا من كثير من هؤلاء من التظلُّم لِلرَّبِّ تعالى، واتهّامه ما لا يَصْدُرُ إلا من عَدُوٍّ، فكان الجَهْمُ يخرج بأصحابه، فيقِفُهم على الجَذْمَى وأهل البلاء، ويقول: انظروا، أرْحَمُ الراحمين يفعلُ مثل هذا؟ إنكارًا لرحمته، كما أنكر حِكمته. فليس الله عند جهمٍ وأتباعه حَكيمًا ولا رحيمًا.

قول بعض كبار الضلال: "ما على الخلق أضر من الخالق"

وقال آخرُ من كبار القوم (¬1): ما على الخلق أضرُّ من الخالق. وكان بعضهم يتمثل: إذَا كَانَ هذَا فِعْلَهُ لِمُحِبِّهِ ... فمَاذا تُرَاهُ في أَعَادِيهِ يَصْنَعُ (¬2) وأنت تشاهد كثيرًا من الناس إذا أصابه نوعٌ من البلاء يقول: تُرى ما كان ذنبي حتى فَعَلْتَ بي هذا؟ وقال لي غير واحد: إذا تبتُ إليه، وأنَبْتُ وعملتُ صالحًا، ضيّق عليّ رزقي، ونَكّد على معيشتي، وإذا راجَعْتُ معصيته، وأعطيتُ نفسي مُرادها، جاءني الرّزْقُ والعَوْنُ، أو نحو هذا. فقلت لبعضهم: هذا امتحان منه، ليَرى صِدْقك وصَبرك، وهل أنتَ صادقٌ في مجيئك إليه، وإقبالك عليه، فتصبر على بلائه، فتكون لك العاقبةُ، أم أنت كاذبٌ، فترجع على عقبك. وهذه الأقوال والظنون الكاذبةُ الحائدة عن الصواب مَبْنيَّةٌ على مُقدِّمتين: إحداهما: حُسْنُ ظَنّ العبد بنفسه ودينه، واعتقادُه أنه قائمٌ بما يجبُ عليه، وتارك ما نُهيَ عنه، واعتقادُه في خَصْمه وعَدُوّه خلاف ذلك، وأنه تارك للمأمور، مرتكب للمحظور، وأنه نفسه أولىَ بالله ورسوله ودينه منه. والمقدمة الثانية: اعتقاده (¬3) أن الله سبحانه وتعالى قد لا يُؤَيِّد صاحبَ ¬

_ (¬1) هو أبو طالب المكي، كما في تاريخ بغداد (3/ 89)، والبداية والنهاية (15/ 467). (¬2) لم أجد البيت فيما بين يدي من المصادر. (¬3) "اعتقاده" ساقطة من م.

العبد وإن آمن بالآخرة لابد له من الدنيا

الدِّين الحق ويَنْصُره، وقد لا يجعلُ له العاقبة في الدنيا بوجهٍ من الوجوه، بل يَعيشُ عُمُرَهُ مظلومًا مقهورًا مُسْتضامًا، مع قيامه بما أُمِرَ به ظاهرًا وباطنًا، وانتهائه عما نُهِيَ عنه باطنًا وظاهرًا. فهو عند نفسه قائمٌ بشرائع الإسلام وحقائق الإيمان، وهو تحت قَهْر أهل الظلم والفجور والعُدْوان. فلا إله إلا الله، كم فَسد بهذا الاغترار مِنْ عابدٍ جاهلٍ! ومُتَدَين لا بصيرة له! ومُنْتسب إلى العلم لا مَعْرِفة له بحقائق الدين! فإنه من المعلوم أن العبدَ وإن آمَن بالآخرة، فإنه طالبٌ في الدنيا لما لا بُدّ له منه من جَلْبِ النفْع ودَفع الضرر، بما يعتقدُ أنه مُسْتَحَبّ أو واجب أو مباحٌ، فإذا اعتقد أن الدِّينَ الحقّ واتّباع الهدى والاستقامة على التوحيد ومتابَعة السّنة: ينافي ذلك، وأنه يُعادي جميع أهل الأرض، ويتعرّضُ لما لا يقدر عليه من البلاء، وفوات حظوظه ومنافعه العاجلة، لزم من ذلك إعراضه عن الرغبة في كمال دينه، وتجرُّده لله ورسوله، فيُعْرِضُ قلبه عن حال السابقين المقرّبين، [132 ب] بل قد يُعْرِضُ عن حال المقتصدين أصحاب اليمين، بل قد يدخُل مع الظالمين، بل مع المنافقين، وإن لم يكن هذا في أصل الدِّين كان في كثيرٍ من فُروعه وأعماله، كما قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: "بادِرُوا بالأعمال فِتنًا كقطع الليل المُظلم، يُصبحُ الرجل مؤمنًا ويُمسي كافرًا، ويمسي مؤمنًا ويُصبح كافرًا، يبيع دينَه بعرضٍ من الدنيا" (¬1). وذلك أنه إذا اعتقد أن الدِّين الكامل لا يحصلُ إلا بفساد دُنياه، من ¬

_ (¬1) أخرجه مسلم (118) عن أبي هريرة.

أصل هذه الفتنة ناشئ من جهل حقيقة الدين، وجهل حقيقة النعيم

حصول ضررٍ لا يحتمله، وفواتِ مَنْفعة لابُدّ له منها: لم يُقدِم على احتمال هذا الضرر، ولا تفويت تلك المنفعة. فسبحان الله! كم صَدّت هذه الفتنة الكثير من الخلق بل أكثرهم عن القيام بحقيقة الدين؟ وأصلها ناشيءٌ من جَهْلين كبيرين: جهل بحقيقة الدِّين، وجهل بحقيقة النّعيم الذي هو غايةُ مطلوب النفوس وكمالها، وبه ابتهاجُها والتذاذُها، فيتولّدُ من بين هذين الجهلين: إعراضُهُ عن القيام بحقيقة الدِّين، وعن طلب حقيقة النعيم. ومعلومٌ أن كمال العبد هو بأن يكون عارفًا بالنعيم الذي يطلُبُه، والعمل الذي يُوصلُ إليه، وأن يكون مع ذلك فيه إرادة جازمة لذلك العمل، ومحبّةٌ صادقة لذلك النعيم، وإلا فالعلمُ بالمطلوب وطريقه لا يُحَصّله إن لم يقترن بذلك العملُ، والإرادةُ الجازمة لا تُوجِب وجودَ المراد إلا إذا لازمها الصبر. فصارت سعادةُ العبد وكمالُ لذّته ونعيمه موقوفًا على هذه المقامات الخمسة: علمه بالنعيم المطلوب، ومحَبّته له، وعلمه بالطريق الموصل إليه، وعمله به، وصبره على ذلك. قال الله تعالى: {وَالْعَصْرِ (1) إِنَّ الْإِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ (2) إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ} [العصر: 1 - 3]. والمقصود أن المقدمتين اللّتين بُنِيتْ عليهما هذه الفتنة، أصلهما الجهل بأمر الله ودينه، وبوَعْده ووعيده. فإن العبدَ إذا اعتقدَ أنه قائمٌ بالدِّين الحقّ فقد اعتقد أنه قد قام بفعل

ما يكون من جهل العبد بأمر الله ودينه وبوعده ووعيده من الفتنة

المأمور باطنًا وظاهرًا، وتركِ المحظور باطنًا وظاهرًا، وهذا مِنْ جَهله بالدِّين الحق وما لله عليه وما هو المراد منه، فهو جاهل بحق الله عليه، جاهلٌ بما معه من الدِّين، قَدْرًا ونوعًا وصفةً. وإذا اعتقد أن صاحب الحق لا ينصُره الله تعالى في الدنيا والآخرة، بل قد تكون العاقبة في الدنيا للكفار والمنافقين على المؤمنين، وللفجّار الظالمين على الأبرار المتقين، فهذا من جَهله بوَعْد الله تعالى ووَعِيده. فأما المقام الأول: فإن العبدَ كثيرًا ما يتركُ واجباتٍ لا يعلمُ بها ولا بوجوبها، فيكون مقصّرًا في العلم، وكثيرًا ما يتركُها بعد العلم بها وبوجوبها، إما كسَلًا وتهاونًا، وإما لنوع تأويل باطل، أو تقليد، أو لظنّه أنه مشتغلٌ بما هو أوجبُ منها، أو لغير ذلك. فواجبات القلوب أشدّ وجوبًا من واجبات الأبدانِ وآكدُ منها، وكأنها ليست من واجبات الدِّين عند كثير من الناس، بل هي من باب الفضائل والمستحبات. فتراهُ يتحرّجُ من ترْكِ واجب (¬1) من واجبات البدن، وقد ترك ما هو أهمّ واجبات القلوب وأفْرَضها، ويتحرّجُ من فعل أدنى المحرمات، وقد ارتكب من محرمات القلوب ما هو أشد تحريمًا وأعظم إثمًا. بل ما اكثر مَنْ يتعبدُ لله عز وجل بترك ما أوْجَبَ عليه، فيتخلّى وينقطع عن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، مع قُدرته عليه، ويزعم أنه مُتقرّبٌ إلى الله تعالى بذلك، مجتمعٌ على رَبّه، تاركٌ ما لا يَعْنيه! فهذا من أمْقت ¬

_ (¬1) ت: "فرض أو واجب".

ما أكثر من يتعبد الله بما حرمه عليه ويعتقد أنه طاعة، وهو شر ممن يعتقده معصية ويفعله

الخلق إلى الله تعالى، وأبغضهم له، مع ظَنّه أنه قائمٌ بحق [133 أ] الإيمان، وشرائع الإسلام، وأنه من خواص أوليائه وحِزْبه. بل ما أكثر من يتعبّدُ لله بما حَرّمه الله عليه، ويعتقد أنه طاعةٌ وقُرْبَة! وحالُه في ذلك شرٌّ من حالِ مَنْ يعتقد ذلك معصيةً وإثمًا، كأصحاب السماع الشِّعري الذي يتقربون به إلى الله تعالى، ويظنّون أنهم من أولياء الرحمن، وهم في الحقيقة من أولياء الشيطان. وما أكثر مَنْ يعتقد أنه هو المظلوم المُحِقُّ من كل وجه، ولا يكون الأمر كذلك، بل يكون معه نوعٌ من الحقّ ونوعٌ من الباطل والظلم، ومع خَصمه نوعٌ من الحقّ والعدل، وحُبُّك الشيء يُعمي ويُصِمّ. والإنسان مجبولٌ على حُبِّ نفسه، فهو لا يرى إلا محاسنها، ومُبْغِضٌ لخصمه، فهو لا يرى إلا مساوئه، بل قد يَشْتَدّ به حُبّه لنفسه، حتى يرى مساوئها محاسن، كما قال تعالى: {أَفَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ فَرَآهُ حَسَنًا} [فاطر: 8]، ويشتد به بغضُ خصمه حتى يرى محاسنه مساوئ، كما قال: نظَرُوا بِعَيْنِ عَدَاوَةٍ وَلَوَ انَّهَا ... عَيْنُ الرِّضَا لاسْتَحْسَنُوا مَا اسْتَقْبَحُوا (¬1) وهذا الجهل مقرون بالهوَى والظلم غالبًا، فإن الإنسان ظلوم جهولٌ. وأكثر ديانات الخلق إنما هي عاداتٌ أخذوها عن آبائهم وأسلافهم، وقلَّدوهم فيها، في الإثبات والنفي، والحبّ والبغض، والموالاة والمعاداة. والله سبحانه إنما ضَمِنَ نصر دينه وحِزْبه وأوليائه بدينه علمًا وعملًا، لم ¬

_ (¬1) لم أجد البيت فيما بين يدي من المصادر.

مذهب أهل السنة: أن الإيمان يزيد وينقص

يضمن نصْرَ الباطل ولو اعتقد صاحبه أنه مُحِقّ، وكذلك العِزّة والعُلُوّ إنما هما لأهل الإيمان الذي بعث الله به رُسُلَه، وأنزل به كتبه، وهو علمٌ وعملٌ وحالٌ. قال تعالى: {وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} [آل عمران: 139]، فللعبد من العلوّ بحسب ما معه من الإيمان. وقال تعالى: {وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ} [المنافقون: 8]، فله من العزة بحسب ما معه من الإيمان وحقائقه، فإذا فاتَهُ حَظّ من العلوّ والعزة، ففي مُقابلة ما فاته من حقائق الإيمان علمًا وعملًا، ظاهرًا وباطنًا. وكذلك الدفعُ عن العبد هو بحسب إيمانه، قال تعالى: {إِنَّ اللَّهَ يُدَافِعُ عَنِ الَّذِينَ آمَنُوا} [الحج: 38]. فإذا ضَعف الدفعُ عنه فهو من نَقْص إيمانه. وكذلك الكفاية والحَسْبُ هي بقَدْرِ الإيمان، قال تعالى: {يَاأَيُّهَا النَّبِيُّ حَسْبُكَ اللَّهُ وَمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ} [الأنفال: 64]، أي: حَسْبُك الله وحَسْبُ أتباعك، أي كافيك وكافيهم، فكفايته لهم بحسب اتّباعهم لرسوله، وانقيادهم له، وطاعتهم له، فما نقص من الإيمان عاد بنقصان ذلك كلِّه. ومذهب أهل السنة والجماعة: أن الإيمان يزيدُ وينقص. وكذلك ولاية الله تعالى لعبده هي بحسب إيمانه، قال تعالى: {وَاللَّهُ وَلِيُّ الْمُؤْمِنِينَ} [آل عمران: 68]، وقال الله تعالى: {اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا} [البقرة: 257] وكذلك مَعِيّتهُ الخاصة هي لأهل الإيمان، كما قال تعالى: {وَأَنَّ اللَّهَ مَعَ

ولاية الله ومعيته الخاصة ونصره الكامل إنما هو لأهل الإيمان الكامل

الْمُؤْمِنِينَ} [الأنفال: 19]، فإذا نقص الإيمانُ وضعُفَ كان حَظّ العبد من ولاية الله له ومَعِيّته الخاصة بقدر حَظّه من الإيمان. وكذلك النصر والتأييد الكامل إنما هو لأهل الإيمان الكامل، قال تعالى: {إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهَادُ} [غافر: 51]، وقال: {فَأَيَّدْنَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَى عَدُوِّهِمْ فَأَصْبَحُوا ظَاهِرِينَ} [الصف: 14]، فمن نقص إيمانُه نقص نصيبه من النصر والتأييد. ولهذا إذا أصيبَ العبد بمصيبةٍ في نفسه أو ماله أو بإدالة عَدُوّه عليه، فإنما هي بذنوبه، إما بترك واجبٍ، أو فعل محرم، وهو من نقْص إيمانه. وبهذا يزول الإشكال الذي يُورده كثير من الناس على قوله تعالى: {وَلَنْ يَجْعَلَ اللَّهُ لِلْكَافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلًا} [النساء: 141]. ويجيبُ عنه كثيرٌ منهم بأنه لن يَجْعَلَ لهم عليهم سبيلًا في الآخرة. ويجيب آخرون بأنه [133 ب] لن يجعل لهم عليهم سبيلًا في الحجة. والتحقيق: أنها مثل هذه الآيات، وأن انتفاء السبيل عن أهل الإيمان الكامل، فإذا ضعف الإيمان صار لعدوّهم عليهم من السبيل بحسب ما نقص من إيمانهم، فهم جعلوا لهم عليهم السبيل بما تركوه من طاعة الله تعالى. فالمؤمن عزيز عالٍ مُؤَيَّدٌ منصور مَكْفِيٌّ مَدْفوعٌ عنه بالذات أين كان، ولو اجتمع عليه مَنْ بأقطارها، إذا قام بحقيقة الإيمان وواجباته، ظاهرًا وباطنًا. وقد قال تعالى للمؤمنين: {فَلَا تَهِنُوا وَتَدْعُوا إِلَى السَّلْمِ وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ وَاللَّهُ مَعَكُمْ وَلَنْ يَتِرَكُمْ أَعْمَالَكُمْ} [محمد: 35]. فهذا الضمان إنما هو بإيمانهم وأعمالهم، التي هي جُندٌ من جنود الله، يحفظهم بها، ولا يُفْرِدُها عنهم،

فصل: المقام الثاني الذي وقع فيه الغلط ظن كثير من الناس أن أهل الدين والحق يكونون في الدنيا أذلاء، وهذا من عدم الوثوق بوعد الله، ومن سوء الفهم لكتابه

ويقتطعها عنهم، فيُبْطِلها عليهم، كما يَتِرُ الكافرين والمنافقين أعمالهم، إذ كانت لغيره، ولم تكن مُوافقةً لأمره. فصل وأما المقام الثاني الذي وقع فيه الغلطُ: فكثيرٌ من الناس يَظنّ أن أهل الدِّين الحق يكونون في الدنيا أذِلّاءَ مقهورين مغلوبين دائمًا، بخلاف مَنْ فارقهم إلى سبيل أُخرى، وطاعة أخرى. فلا يَثِقُ بوعد الله بنصر دينه وعباده، بل إما أن يجعل ذلك خاصًّا بطائفة دون طائفة، أو بزمان دون زمانٍ، أو يجعله مُعَلَّقًا بالمشيئة، وإن لم يُصرح بها. وهذا من عَدم الوثوقِ بوعد الله تعالى، ومن سوء الفهم في كتابه. والله سبحانه قد بَيّن في كتابه أنه ناصرُ المؤمنين في الدنيا والآخرة: قال تعالى: {إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهَادُ} [غافر: 51]. وقال تعالى: {وَمَنْ يَتَوَلَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا فَإِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْغَالِبُونَ} [المائدة: 56]. وقال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يُحَادُّونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولَئِكَ فِي الْأَذَلِّينَ (20) كَتَبَ اللَّهُ لَأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي} [المجادلة: 20، 21]، وهذا كثيرٌ في القرآن. وقد بَيِّن سبحانه فيه أنّ ما أصاب العبد من مصيبة، أو إدالة عَدوٍّ، أو كسرٍ وغير ذلك، فبذنوبه. فبين سبحانه في كتابه كلا المقدّمتين، فإذا جَمَعْتَ بينهما تبيَّن لك

قد ذم الله من يطلب النصرة والعزة من غير المؤمنين بقوله في سورة المائدة: {ياأيها الذين آمنوا لا تتخذوا اليهود والنصارى أولياء} الآيات

حقيقة الأمر، وزال الإشكالُ بالكُلِّيَّةِ، واستغنيتَ عن تلك التكلُّفات الباردة والتأويلات البعيدة. فقرر سبحانه المقام الأول بوجوه من التقرير: منها: ما تقدم. ومنها: أنه ذَمّ مَنْ يطلبُ النّصر والعزّ من غير المؤمنين، كقوله: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ} إلى قوله: {فَتَرَى الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ يُسَارِعُونَ فِيهِمْ يَقُولُونَ نَخْشَى أَنْ تُصِيبَنَا دَائِرَةٌ} إلى قوله: {وَمَنْ يَتَوَلَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا فَإِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْغَالِبُونَ} [المائدة: 56]. فأنكر على مَنْ طلب النصر من غير حِزْبه، وأخبر أن حزبه هم الغالبون. ونظير هذا قوله: {بَشِّرِ الْمُنَافِقِينَ بِأَنَّ لَهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا (138) الَّذِينَ يَتَّخِذُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ أَيَبْتَغُونَ عِنْدَهُمُ الْعِزَّةَ فَإِنَّ الْعِزَّةَ لِلَّهِ جَمِيعًا} [النساء: 138، 139]. وقال تعالى: {يَقُولُونَ لَئِنْ رَجَعْنَا إِلَى الْمَدِينَةِ لَيُخْرِجَنَّ الْأَعَزُّ مِنْهَا الْأَذَلَّ وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَلَكِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَا يَعْلَمُونَ} [المنافقون: 8]. وقال سبحانه: {مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْعِزَّةَ فَلِلَّهِ الْعِزَّةُ جَمِيعًا إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ} [فاطر: 10]، أي: مَنْ كان يُريدُ العِزّة فليَطْلُبها بطاعة الله من الكلم الطيب والعمل الصالح. وقال تعالى: {هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ} [الفتح: 28]

قوله في سورة الصف: {ياأيها الذين آمنوا هل أدلكم على تجارة تنجيكم من عذاب أليم} والآيات

وقال: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى تِجَارَةٍ تُنْجِيكُمْ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ (10) تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ} [الصف: 10، 11] إلى قوله: {وَأُخْرَى تُحِبُّونَهَا نَصْرٌ مِنَ اللَّهِ وَفَتْحٌ قَرِيبٌ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ} [الصف: 13]، أي: ويعطيكم أخرى فوق مَغْفِرَةِ الذنوب ودُخول الجنة، وهى النّصْرُ والفتح، إلى قوله: {فَأَيَّدْنَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَى عَدُوِّهِمْ فَأَصْبَحُوا ظَاهِرِينَ} [الصف: 14]. وقال تعالى للمسيح: {إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرَافِعُكَ إِلَيَّ وَمُطَهِّرُكَ مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا وَجَاعِلُ الَّذِينَ اتَّبَعُوكَ فَوْقَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ ثُمَّ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأَحْكُمُ بَيْنَكُمْ فِيمَا كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ} [آل عمران: 55]، فلما كان للنصارى نصيب ما من اتباعه كانوا فوق اليهود إلى يوم القيامة، ولما كان المسلمون أتبع له من النصارى كانوا فوق النصارى إلى يوم القيامة. وقال تعالى للمؤمنين: {وَلَوْ قَاتَلَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوَلَّوُا الْأَدْبَارَ ثُمَّ لَا يَجِدُونَ وَلِيًّا وَلَا نَصِيرًا (22) سُنَّةَ اللَّهِ الَّتِي قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلُ وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلًا} [الفتح: 22، 23]، فهذا خطابٌ للمؤمنين الذين قاموا بحقائق الإيمان ظاهرًا وباطنًا. وقال تعالى: {وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ} [القصص: 83]، وقال: {وَالْعَاقِبَةُ لِلتَّقْوَى} [طه: 132]. والمراد: العاقبةُ في الدنيا قبلَ الآخرة، لأنه ذكر ذلك عَقِيبَ قصة نوح، ونصره وصبره على قومه، فقال تعالى: {تِلْكَ مِنْ أَنْبَاءِ الْغَيْبِ نُوحِيهَا إِلَيْكَ مَا كُنْتَ تَعْلَمُهَا أَنْتَ وَلَا قَوْمُكَ مِنْ قَبْلِ هَذَا فَاصْبِرْ إِنَّ الْعَاقِبَةَ لِلْمُتَّقِينَ} [هود: 49] , أي: عاقبة النصر لك ولمن مَعك، كما كانت لنوح عليه السلام ومَنْ آمن معه.

قوله في سورة آل عمران: {وإن تصبروا وتتقوا}

وكذلك قوله: {وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلَاةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْهَا لَا نَسْأَلُكَ رِزْقًا نَحْنُ نَرْزُقُكَ وَالْعَاقِبَةُ لِلتَّقْوَى} [طه: 132]. وقال تعالى: {وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا لَا يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئًا} [آل عمران: 120]. وقال: {بَلَى إِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا وَيَأْتُوكُمْ مِنْ فَوْرِهِمْ هَذَا يُمْدِدْكُمْ رَبُّكُمْ بِخَمْسَةِ آلَافٍ مِنَ الْمَلَائِكَةِ مُسَوِّمِينَ} [آل عمران: 125]. وقال إخبارًا عن يوسف عليه السلام أنه نُصِرَ بتقواه وصبره، فقال: {أَنَا يُوسُفُ وَهَذَا أَخِي قَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْنَا إِنَّهُ مَنْ يَتَّقِ وَيَصْبِرْ فَإِنَّ اللَّهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ} [يوسف: 90]. وقال: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَتَّقُوا اللَّهَ يَجْعَلْ لَكُمْ فُرْقَانًا وَيُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ} [الأنفال: 29]، والفرقان: هو العزّ والنصر والنجاة والنور الذي يُفرِّق بين الحقّ والباطل. وقال تعالى: {وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا (2) وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ إِنَّ اللَّهَ بَالِغُ أَمْرِهِ قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْرًا} [الطلاق: 2، 3]. وقد روى ابن ماجه وابن أبي الدنيا (¬1) عن أبى ذر رضي الله عنه، عن ¬

_ (¬1) سنن ابن ماجه (4220) والفرج بعد الشدة (9) من طريق أبي السليل عن أبي ذرّ بنحوه، وبهذا الإسناد رواه أحمد (5/ 178)، والدارمي (2725)، والنسائي في الكبرى (11603)، وأبو نعيم في الحلية (1/ 166)، والبيهقي في الشعب =

قول النبي - صلى الله عليه وسلم -: "لو عمل الناس كلهم بهذه الآية لوسعتهم"

النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "لو عَمِل الناسُ كلهم بهذه الآية لَوسِعَتْهم". فهذا في المقام الأول. وأما المقام الثاني، فقال تعالى في قصة أُحُدٍ: {أَوَلَمَّا أَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُمْ مِثْلَيْهَا قُلْتُمْ أَنَّى هَذَا قُلْ هُوَ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ} [آل عمران: 165]. وقال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ تَوَلَّوْا مِنْكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ إِنَّمَا اسْتَزَلَّهُمُ الشَّيْطَانُ بِبَعْضِ مَا كَسَبُوا} [آل عمران: 155]. وقال تعالى: {وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ} [الشورى: 30]. وقال: {ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ} [الروم: 41]. وقال: {وَإِنَّا إِذَا أَذَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنَّا رَحْمَةً فَرِحَ بِهَا وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ فَإِنَّ الْإِنْسَانَ كَفُورٌ} [الشورى: 48]. وقال: {وَإِذَا أَذَقْنَا النَّاسَ رَحْمَةً فَرِحُوا بِهَا وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ إِذَا هُمْ يَقْنَطُونَ} [الروم: 36]. ¬

_ = (2/ 112)، وغيرهم، وصححه ابن حبان (6669)، والحاكم (3819)، قال ابن مفلح في الآداب الشرعية (3/ 529) والبوصيري في المصباح (4/ 241): "رجاله ثقات، إلا أنه منقطع، أبو السليل لم يدرك أبا ذر"، وهو في ضعيف الترغيب والترهيب (1056).

قوله في سورة الشورى: {أو يوبقهن بما كسبوا} الآية

وقال: {أَوْ يُوبِقْهُنَّ بِمَا كَسَبُوا وَيَعْفُ عَنْ كَثِيرٍ} [الشورى: 34]. وقال: {مَا أَصَابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللَّهِ وَمَا أَصَابَكَ مِنْ سَيِّئَةٍ فَمِنْ نَفْسِكَ} [النساء: 79]. ولهذا أمر الله سبحانه رسولَه والمؤمنين باتباع ما أُنزل إليهم، وهو طاعته وهو المقدمة الأولى، [134 ب] وأمر بانتظار وَعده، وهو المقدمة الثانية، وأمر بالاستغفار والصبر، لأن العبد لا بدّ أن يحصل له نوع تقصير وسَرَف يزيله الاستغفار، ولا بدّ في انتظار الوعد من الصبر، فبالاستغفار تتمّ الطاعة، وبالصبر يتمّ اليقين بالوعد، وقد جمع الله سبحانه بينهما في قوله: {فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ بِالْعَشِيِّ وَالْإِبْكَارِ} [غافر: 55]. وقد ذكر الله سبحانه في كتابه قصص الأنبياء وأتباعهم، وكيف نجَّاهم بالصبر والطاعة، ثم قال: {لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِأُولِي الْأَلْبَابِ} [يوسف: 111]. فصل وتمام الكلام في هذا المقام العظيم يتبين بأصول نافعة جامعة: الأصل الأول: أن ما يصيبُ المؤمنين من الشرور والمحن والأذى دون ما يصيب الكفار، والواقع شاهد بذلك، وكذلك ما يصيب الأبرار في هذه الدنيا دون ما يصيب الفجار والفساق والظَّلَمة بكثير. الأصل الثاني: أن ما يصيب المؤمنين في الله تعالى مقرونٌ بالرضا

الأصل الثالث: أذى المؤمن محمول عنه بحسب ما في قلبه من حقائق الإيمان

والاحتساب، فإن فاتَهُم الرضا فمعَوَّلهم على الصبر والاحتساب، وذلك يُخفِّف عنهم ثقلَ البلاء ومَؤُونته، فإنهم كما شاهدوا العِوَض هان عليهم تحمُّل المشاقّ والبلاء، والكفار لا رضا عندهم ولا احتساب، وإن صبروا فكصبر البهائم، وقد نبَّه سبحانه على ذلك بقوله: {وَلَا تَهِنُوا فِي ابْتِغَاءِ الْقَوْمِ إِنْ تَكُونُوا تَأْلَمُونَ فَإِنَّهُمْ يَأْلَمُونَ كَمَا تَأْلَمُونَ وَتَرْجُونَ مِنَ اللَّهِ مَا لَا يَرْجُونَ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا} [النساء: 104]. فاشتركوا في الألم، وامتاز المؤمنون برجاء الأجر والزُّلْفَى من الله تعالى. الأصل الثالث: أن المؤمن إذا أُوذي في الله فإنه محمول عنه بحسب طاعته وإخلاصه، ووجود حقائق الإيمان في قلبه، حتى يُحْمَل عنه من الأذى ما لو كان شيء منه على غيره لعجَز عن حمله، وهذا من دَفع الله عن عبده المؤمن، فإنه يدفع عنه كثيرًا من البلاء، وإذا كان لابدّ له من شيء منه دَفع عنه ثقله ومَؤُونته ومشقَّته وتبعته. الأصل الرابع: أن المحبَّة كلَّما تمكَّنت في القلب ورَسَخت فيه كان أذى المُحِبِّ في رضا محبوبه مُسْتحلىً غير مسخوط، والمحبُّون يَفْتَخِرُون عند أحبابهم بذلك، حتى قال قائلهم: لَئنْ سَاءَني أَنْ نِلْتِنِي بَمسَاءةٍ ... لَقَدْ سَرّنيِ أَنيِّ خَطَرْتُ بِبَالِكِ (¬1) فما الظنّ بمحبة المحبوب الأعلى، الذي ابتلاؤه لحبيبه رحمةٌ منه له وإحسانٌ إليه؟ الأصل الخامس: أن ما يصيبُ الكافر والفاجرَ والمنافق من العِزِّ والنصر ¬

_ (¬1) البيت لابن الدمينة في ديوانه (ص 17). وانظر: روضة المحبين (ص 113).

قول الحسن: "إنهم وإن هملجت بهم البغال وطقطقت بهم" إلخ

والجاه دون ما يحصلُ للمؤمنين بكثير، بل باطن ذلك ذُلٌّ وكسرٌ وهوانٌ، وإن كان في الظاهر بخلافه. قال الحسن (¬1) رحمه الله: إنهم وإن هَمْلَجتْ بهم البغالُ، وطَقْطَقَت بهم النِّعال، إنّ ذلّ المعْصية لفي قلوبهم، أبَى اللهُ إلا أن يُذِلّ مَنْ عصاه. الأصل السادس: أن ابتلاء المؤمن كالدّواء له يستخرج منه الأدواء التي لو بقيت فيه أهلكته، أو نقصَت ثوابه، وأنزلت درجته، فيستخرج الابتلاءُ والامتحانُ منه تلك الأدواء، ويستعدُّ به لتمام الأجر وعلوّ المنزلة. ومعلوم أن وجود هذا خير للمؤمن من عدمه، كما قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: "والذي نفسي بيده لا يَقضي الله للمؤمن قضاءً إلا كان خيرًا له، وليس ذلك إلا للمؤمن، إن أصابته سَرّاءُ شكر فكان خيرًا له، وإن أصابته ضرّاءُ صبر فكان خيرًا له" (¬2). فهذا الابتلاء والامتحان من تمام نصره وعزِّه وعافيته، ولهذا كان "أشد الناس بلاءً الأنبياء، ثم الأقرب إليهم فالأقرب، يُبتلى المرءُ على حسب دينه، فإن كان في دينه صلابة شُدّد عليه البلاء، وإن كان في دينه رِقَّة خُفِّف عنه، ولا يزال البلاء بالمؤمن، حتى يمشي على وجه الأرض وما عليه خطيئة" (¬3). الأصل السابع: [135 أ] أن ما يصيب المؤمنَ في هذه الدار من إدالة عَدوِّه عليه، وغلبته له، وأذاه له في بعض الأحيان، أمرٌ لازم لابدَّ منه، وهو ¬

_ (¬1) تقدم تخريجه. (¬2) أخرجه مسلم (2999) عن صهيب. (¬3) هذا لفظ الحديث الذي أخرجه الترمذي (2398)، وابن ماجه (4023) وغيرهما عن سعد بن أبي وقاص. وصححه الترمذي وابن حبان والحاكم. وانظر: فتح الباري (10/ 111).

لو تجرد الخير في هذا العالم عن الشر لكان عالما غير هذا العالم

كالحَرِّ الشديد، والبرد الشديد، والأمراض والهموم والغموم، فهذا أمر لازم للطبيعة والنشأة الإنسانية في هذه الدار، حتى للأطفال والبهائم، لما اقتضته حكمةُ أحكم الحاكمين. فلو تجرَّد الخيرُ في هذا العالم عن الشرّ، والنفعُ عن الضرّ، واللَّذَّة عن الألم، لكان ذلك عالمًا غير هذا، ونشأة أخرى غير هذه النشأة، وكانت تَفوتُ الحكمة التي مُزج لأجلها بين الخير والشرّ، والألم واللذة، والنافع والضار. وإنما يكون تخليص هذا من هذا وتمييزه في دارٍ أخرى غير هذه الدار، كما قال تعالى: {لِيَمِيزَ اللَّهُ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ وَيَجْعَلَ الْخَبِيثَ بَعْضَهُ عَلَى بَعْضٍ فَيَرْكُمَهُ جَمِيعًا فَيَجْعَلَهُ فِي جَهَنَّمَ أُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ} [الأنفال: 37]. الأصل الثامن: أن ابتلاء المؤمنين بغلبة عَدُوّهم لهم وقهرهم وكَسرهم لهم أحيانًا، فيه حِكَم عظيمةٌ، لا يعلمها على التفصيل إلا الله عز وجل. فمنها: استخراج عُبوديّتهم وذُلهم لله، وانكِسارهم له، وافتقارهم إليه، وسؤالهم نصرَهم على أعدائهم، ولو كانوا دائمًا منصورين قاهرين غالبين لبَطِروا وأَشِرُوا، ولو كانوا دائمًا مَقهورين مَغلوبين منصورًا عليهم عدوُّهم لما قامت للدِّين قائمةٌ، ولا كانت للحقّ دولةٌ. فاقتضت حكمة أحكم الحاكمين أن صرّفهم بين غلبتهم تارةً، وكونهم مغلوبين تارةً، فإذا غُلِبوا تضرّعُوا إلى ربهم، وأنابوا إليه، وخضعوا له، وانكسروا له، وتابوا إليه، وإذا غَلَبوا أقامُوا دينه وشعائره، وأمروا بالمعروف، ونهوا عن المنكر، وجاهدوا عَدُوّه، ونصروا أولياءه.

ومنها: لو كانوا دائما منصورين لدخل معهم من ليس قصده الدين

ومنها: أنهم لو كانوا دائمًا منصورين غالبين قاهرين، لدخل معهم من ليس قَصْدُهُ الدِّين ومتابعةَ الرسول، فإنه إنما ينضاف إلى مَن له الغلبة والعزة، ولو كانوا مقهورين مغلوبين دائمًا لم يَدخُل معهم أحدٌ، فاقتضت الحكمة الإلهية أن كانت لهم الدولة تارةً، وعليهم تارة، فيتميّز بذلك بين من يريد الله ورسوله، ومن ليس له مراد إلا الدنيا والجاه. ومنها: أنه سبحانه يُحِبّ مِنْ عباده تكميلَ عُبوديتهم على السراء والضراء، وفى حال العافية والبلاء، وفى حال إدالتهم والإدالة عليهم، فلله سبحانه على العباد في كلتا الحالين عُبُودِيّة بمقتضى تلك الحال، لا تحصلُ إلا بها، ولا يستقيم القلب بدونها، كما لا تستقيمُ الأبدان إلا بالحَرّ والبَرْد، والجوع والعطش والنَّصب وأضدادها، فتلك المِحَنُ والبلايا شَرطٌ في حصول الكمال الإنساني، والاستقامة المطلوبة منه، ووجود الملزوم بدون لازمه ممتنعٌ. ومنها: أن امتحانهم بإدالة عَدُوّهم عليهم يُمحّصهم ويُخلّصهُم ويُهَذّبهم، كما قال تعالى في حِكمة إدالة الكفار على المؤمنين يوم أُحد: {وَلَا تَهِنُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (139) إِنْ يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ قَرْحٌ مِثْلُهُ وَتِلْكَ الْأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَتَّخِذَ مِنْكُمْ شُهَدَاءَ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ (140) وَلِيُمَحِّصَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَمْحَقَ الْكَافِرِينَ (141) أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جَاهَدُوا مِنْكُمْ وَيَعْلَمَ الصَّابِرِينَ} إلى قوله: {وَسَيَجْزِي اللَّهُ الشَّاكِرِينَ} [آل عمران: 139 - 144]

بيان ما في هذه الآيات من مقاصد

فذكر سبحانه أنواعًا من الحِكَم التي لأجلها أُدِيلَ عليهم الكُفار، بعد أن ثبَّتهم وقَوّاهم، وبشَّرهم بأنهم الأعلوْن بما أُعطوا من الإيمان، وسلّاهم بأنهم وإن مسّهم القَرْحُ في طاعته وطاعة رسوله، فقد مسَّ أعداءهم القرحُ في عداوته وعداوة رسوله. ثم أخبرهم أنه سبحانه بحكمته يجعل الأيام دُوَلًا بين الناس، فيصيب كُلًّا منهم نصيبُه (¬1) منها، كالأرزاق والآجال. ثم أخبرهم أنه فعل ذلك ليعلم المؤمنين منهم، وهو سبحانه بكل شيء عليم قبل كَونه وبعد كونه، ولكنه أراد أن يَعْلَمهم موجودين مُشاهَدين، فيعلم إيمانهم واقعًا. ثم أخبر أنه يُحِبّ أن يتّخذ منهم شهداء، فإن الشهادة درجة عالية عنده، ومنزلة رفيعة لا تُنال إلا بالقتل في سبيله، فلولا إدالة العَدُوّ لم تحصل درجة الشهادة التي هي من أحب الأشياء إليه، وأنفعها للعبد. ثم أخبر سبحانه أنه يريد تمحيص المؤمنين، أي تَخليصهم من ذنوبهم، بالتوبة والرجوع إليه، واستغفاره من الذنوب التي أديل بها عليهم العدو، وأنه مع ذلك يريد أن يَمْحقَ الكافرين ببغيهم وطغيانهم وعُدوانهم إذا انتصروا. ثم أنكر عليهم حسبانهم وظنّهم دخول الجنة بغير جهاد ولا صبر، وأن حكمته تأبى ذلك، فلا يدخلونها إلا بالجهاد والصبر، ولو كانوا دائمًا منصورين غالبين لما جاهدهم أحد، ولما ابْتُلوا بما يصبرون عليه من أذى أعدائهم. ¬

_ (¬1) "منهم نصيبه" ساقطة من م.

الأصل التاسع: إنما خلق الله السموات والأرض والموت والحياة لابتلاء عباده

فهذا بعض حِكَمِه في نصر عدوهم عليهم، وإدالته في بعض الأحيان. الأصل التاسع: أنه سبحانه وتعالى إنما خلق السماوات والأرض، وخلق الموت والحياة، وزين الأرض بما عليها، لابتلاء عباده وامتحانهم، ليعلم من يريده ويريد ما عنده ممن يريد الدنيا وزينتها. قال تعالى: {وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى الْمَاءِ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا} [هود: 7]. وقال: {إِنَّا جَعَلْنَا مَا عَلَى الْأَرْضِ زِينَةً لَهَا لِنَبْلُوَهُمْ أَيُّهُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا} [الكهف: 7]. وقال: {الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا} [الملك: 2]. وقال تعالى: {وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً وَإِلَيْنَا تُرْجَعُونَ} [الأنبياء: 35]. وقال تعالى: {وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ حَتَّى نَعْلَمَ الْمُجَاهِدِينَ مِنْكُمْ وَالصَّابِرِينَ وَنَبْلُوَ أَخْبَارَكُمْ} [محمد: 31]. وقال تعالى: {الم (1) أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ (2) وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ} [العنكبوت: 1 - 3]. فالناس إذا أُرسل إليهم الرسل بين أمرين: إما أن يقول أحدهم: آمنتُ، أولا يؤمن بل يستمر على السيئات والكفر، ولابد من امتحان هذا وهذا. فأما من قال: آمنتُ فلا بد أن يَمتحنه الربُّ ويبتليَهُ، ليتبيّن هل هو صادقٌ في قوله: آمنت أو كاذبٌ؟

امتحان الكافر في الآخرة بالعذاب

فإن كان كاذبًا رجع على عَقِبَيْهِ، وفَرّ من الامتحان كما يَفِرّ من عذاب الله، وإن كان صادقًا ثبت على قوله، ولم يزده الابتلاء والامتحان إلا إيمانًا على إيمانه. قال تعالى: {وَلَمَّا رَأَى الْمُؤْمِنُونَ الْأَحْزَابَ قَالُوا هَذَا مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَصَدَقَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَمَا زَادَهُمْ إِلَّا إِيمَانًا وَتَسْلِيمًا} [الأحزاب: 22]. وأما من لم يؤمن فإنه يُمتحن في الآخرة بالعذاب ويُفْتَنُ به، وهي أعظم المحنتين، هذا إذا سَلِم من امتحانه بعذاب الدنيا ومصائبها وعقوباتها، التي أوقعها الله بمن لم يَتَّبع رسله وعصاهم، فلا بُدّ من المحنة في هذه الدار وفى البرزخ وفى القيامة لكل أحدٍ. ولكن المؤمن أخفُّ محنةً وأسهلُ بليّةً، فإن الله يَدْفَعُ عنه بالإيمان، ويحمل عنه به، ويرزقه من الصبر والثبات والرضا والتسليم ما يُهَوِّنُ به عليه محنته. وأما الكافر والمنافق والفاجر، فتشتد محنته وبَلِيَّتُه وتدوم، فمِحْنةُ المؤمن خفيفةٌ منقطعة، ومحنة الكافر والمنافق والفاجر شديدة متَصلة. فلا بد من حصول الألم والمحنة لكل نفس آمنت أو كفرت، لكن المؤمن يحصل له الألم في الدنيا ابتداءً، ثم تكون له عاقبة الدنيا والآخرة، والكافر والمنافق والفاجر تحصل له اللذة والنعمة ابتداءً، ثم يصير إلى الألم، فلا يطمع أحد أنه يَخْلُص من المحنة والألم البتة. يوضحه: الأصل العاشر: وهو أن الإنسان مدنىٌّ بالطبع، لا بدّ له أن يعيش مع الناس، والناس لهم إراداتٌ، وتصورّات، واعتقادات، فيطلبون منه أن

اعتبر هذا بمن يطلبون موافقته على الظلم والزور

يوافقهم عليها، فإن لم يوافقهم آذَوه وعذَّبوه، وإن وافقهم حصل له الأذى والعذاب من وجه آخر، فلا بد له من الناس ومخالطتهم، ولا ينفك عن موافقتهم أو مخالفتهم، وفى الموافقة ألم وعذاب إذا كانت على باطل، وفى المخالفة ألم وعذاب إذا لم يُوافق أهواءهم واعتقاداتهم، ولا ريب أن ألم المخالفة لهم في باطلهم أسهلُ وأيسرُ من الألم المُرَتَّب على موافقتهم. واعتبر هذا بمَنْ يطلبون منه الموافقة على ظلم، أو فاحشة، أو شهادة زُور، أو المعاونة على محرّم، فإن لم يوافقهم آذَوه وظلموه وعادَوْه، ولكن تكون له العاقبة والنصرة عليهم إن صبر واتقى، وإن وافقهم فرارًا من ألم المخالفة أعْقَبه ذلك من الألم أعظم مما فرّ منه، والغالبُ أنهم يُسلَّطون عليه، فيناله من الألم منهم أضعافُ ما ناله من اللذة أولا بموافقتهم. فمعرفة هذا ومُرَاعاتُه من أنفع ما للعبد، فألمٌ يسيرٌ يُعْقِبُ لذةً عظيمة دائمة أولى بالاحتمال من لذة يسيرة تُعقِبُ ألمًا عظيمًا دائمًا، والتوفيق بيد الله. الأصل الحادي عشر: أن البلاء الذي يُصيبُ العبدَ في الله لا يخرجُ عن أربعة أقسام: فإنه إما أن يكون في نفسه، أو في ماله، أو في عِرْضه، أو في أهله ومَنْ يُحِب، والذي في نفسه قد يكون بتَلَفِها تارةً، وبتألمُّها بدون التلف. فهذا مجموع ما يُبتلى به العبد في الله. وأشدّ هذه الأقسام: المصيبةُ في النفس. ومن المعلوم أن الخلق كلّهم يموتون، وغاية هذا المؤمن أن يُسْتَشْهَدَ في الله، وتلك أشرفُ الموتات وأسهلُها، فإنه لا يجد الشهيد من الألم إلا مثل ألم القَرْصة، فليس في قتل الشهيد مصيبة زائدة على ما هو مُعتادٌ لبني آدم.

قول الله تعالى: {قل لن ينفعكم الفرار إن فررتم من الموت أو القتل}

فمن عَدَّ مصيبة هذا القتل أعظم من مصيبة الموت على الفراش فهو جاهل، بل موتُ الشهيد من أيسر الموتات وأفضلها وأعلاها، ولكن الفارّ يظن أنه بفراره يطول عمره، فيتمتع بالعيش! وقد أكذب الله سبحانه هذا الظن، حيث يقول: {قُلْ لَنْ يَنْفَعَكُمُ الْفِرَارُ إِنْ فَرَرْتُمْ مِنَ الْمَوْتِ أَوِ الْقَتْلِ وَإِذًا لَا تُمَتَّعُونَ إِلَّا قَلِيلًا} [الأحزاب: 16]. فأخبر الله أن الفرار من الموت بالشهادة لا ينفعُ، فلا فائدة فيه، وأنه لو نفع لم ينفع إلا قليلا، إذ لابدّ له من الموت، فيفوته بهذا القليل ما هو خيرٌ منه وأنفع، من حياة الشهيد عند ربه. ثم قال: {قُلْ مَنْ ذَا الَّذِي يَعْصِمُكُمْ مِنَ اللَّهِ إِنْ أَرَادَ بِكُمْ سُوءًا أَوْ أَرَادَ بِكُمْ رَحْمَةً وَلَا يَجِدُونَ لَهُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيًّا وَلَا نَصِيرًا} [الأحزاب: 17]. فأخبر سبحانه أن العبد لا يعصمه أحدٌ من الله، إن أراد به سوءًا غيرَ الموت الذي فرّ منه، فإنه فَرّ من الموت لمّا كان يسوؤُهُ، فأخبر الله سبحانه أنه لو أراد به سوءًا غيره لم يعصمه أحد من الله، وأنه قد يَفرّ مما يسوؤُه من القتل في سبيل الله، فيقع فيما يسوؤه مما هو أعظم منه. وإذا كان هذا في مصيبة النفس، فهكذا الأمر في مصيبة المال والعرض والبدن، فإن مَنْ بَخِلَ بماله أن يُنْفِقه في سبيل الله تعالى وإعلاء كلمته سَلَبَه الله إياه، أو قَيّضَ له إنفاقه فيما لا ينفعه دنيا ولا أخرى، بل فيما يعود عليه بمضرَّته عاجلاً وآجلاً. وإن حبسه وادّخره منعه التَّمتُّعَ به، ونقله إلى غيره، فيكون له مَهْنَؤه وعلى مخَلِّفه وزْرُه.

من رفه بدنه وعرضه وآثر راحته على التعب لله أتعبه الله أضعاف ذلك

وكذلك من رَفّه بَدَنه وعِرْضه، وآثر راحته على التعب لله وفى سبيله، أتعبه الله سبحانه أضعافَ ذلك في غير سبيله ومرضاته، وهذا أمر يعرفه الناس بالتجارب. قال أبو حازم (¬1): لمَا يَلْقَى الذي لا يتقي الله مِنْ مُعالجة الخلق أعظمُ مما يَلْقى الذي يتقي الله من معالجة التقوى. واعتبرْ ذلك بحال إبليس، فإنه امتنع من السجود لآدم فِرارًا أن يخضع له ويذلّ، وطلب إعزازَ نفسه، فصيّره الله أذلّ الأذلين، وجعله خادمًا لأهل الفسوق والفجور من ذُرِّيَّته، فلم يرضَ بالسجود له، ورضي أن يَخدِم هو وبَنُوه فُسّاقَ ذريَّته. وكذلك عُبّادُ الأصنام أنِفُوا أن يتَّبعوا رسولًا من البشر، وأن يعبدوا إلهًا واحدًا سبحانه، ورضُوا أن يعبدوا إلهًا من الأحجار. وكذلك كل من امتنع أن يَذِلّ لله، أو يبذل مالَه في مَرْضاته، أو يُتعِبَ نفسه في طاعته، لابدّ أن يذلّ لمن لا يَسْوَى، ويبذل له ماله، ويُتعب نفسه وبدنه في طاعته ومرضاته عقوبةً له. كما قال بعض السلف (¬2): من امتنع أن يمشي مع أخيه خُطُواتٍ في حاجته أمْشاه الله تعالى أكثرَ منها في غير طاعته. فصل في خاتمةٍ لهذا الباب هي الغايةُ المطلوبة، وجميع ما تقدّم كالوسيلة إليها. ¬

_ (¬1) رواه أبو نعيم في الحلية (3/ 245) بنحوه. (¬2) لم أقف عليه.

قول الله لرسوله: ({ثم أوحينا إليك أن اتبع ملة إبراهيم حنيفا}

وهي أن محبة الله سبحانه والأُنسَ به، والشوقَ إلى لقائه، والرضا به وعنه: أصلُ الدين، وأصلُ أعماله وإرادته، كما أن معرفته والعلم بأسمائه وصفاته وأفعاله أجلُّ (¬1) عُلومِ الدِّين كلِّها. فمعرفته أجلّ المعارف، وإرادةُ وجهه أجلّ المقاصد، وعبادته أشرف الأعمال، والثناء عليه بأسمائه وصفاته ومدحه وتمجيده أشرفُ الأقوال، وذلك أساس الحنيفية ملة إبراهيم عليه السلام. وقد قال تعالى لرسوله: {ثُمَّ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ أَنِ اتَّبِعْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ} [النحل: 123]. وكان النبي - صلى الله عليه وسلم - يُوصي أصحابه إذا أصْبحوا أن يقولوا: "أصبحنا على فِطْرة الإسلام، وكلمة الإخلاص، ودين نبينا محمد، وملّة أبينا إبراهيم حنيفًا مسلمًا وما كان من المشركين" (¬2). وذلك هو حقيقةُ شهادة أن لا إله إلا الله، وعليها قامَ دينُ الإسلام الذي هو دينُ جميع الأنبياء والمرسلين، وليس لله دين سواه ولا يَقبلُ من أحدٍ دينًا غيره: ¬

_ (¬1) م: "أصل". (¬2) رواه الطبراني في الدعاء (294) من حديث عبد الرحمن بن أبزى رضي الله عنه، ورواه ابن أبي شيبة (5/ 324) وأحمد (3/ 406، 407) والدارمي (2688) والنسائي في الكبرى (9829 - 9831، 10175 , 10176) وغيرهم عن عبد الرحمن بن أبزى أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يقول ذلك، وفي إسناده اختلاف، قال الهيثمي في المجمع (10/ 156): "رواه أحمد والطبراني ورجالهما رجال الصحيح"، وصححه النووي في الأذكار (225)، والعراقي في تخريج الإحياء (1150)، وحسنه ابن حجر في نتائج الأفكار (2/ 401)، وهو في السلسلة الصَّحيحة (2989). وفي الباب عن ابن مسعود رضي الله عنه.

محبة الرسول تابعة لمحبة الله، ولا يكون الإيمان إلا بها، فما الظن بمحبة الله

{وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلَامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ} [آل عمران: 85]. فمحبته سبحانه بل كونهُ أحبُّ إلى العبد من كل ما سواه على الإطلاق مِن أعظم واجباتِ الدِّين، وأكبر أصوله، وأجلّ قواعده. ومن أحبَّ معه مخلوقًا مثلَما يحُبُّه فهو من الشرك الذي لا يُغْفَر لصاحبه، ولا يُقبل معه عمل. قال تعالى: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْدَادًا يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا لِلَّهِ} [البقرة: 165]. وإذا كان العبدُ لا يكون من أهل الإيمان حتى يكون الله ورسولُه أحبَّ إليه من نفسه وأهله وولده ووالده والناس أجمعين، ومحَبّته تبعٌ لمحبة الله، فما الظنّ بمحبَّته سبحانه؟ وهو سبحانه لم يخلق الجنّ والإنْسَ إلا لعبادته، التي تتضمّنُ كمال محبته، وكمال تعظيمه، والذلّ له، ولأجل ذلك أرسل رسله، وأنزل كتبه، وشرع شرائعه، وعلى ذلك وضع الثواب والعقاب، وأُسّست الجنةُ والنار، وانقسم الناس إلى شقيٍّ وسعيدٍ. وكما أنه سبحانه ليس كمثله شيءٌ، فليس كمحبته وإجلاله محبة وإجلالٌ ومخافة. فالمخلوق كلَّما خِفتَه استوحشتَ منه وهربتَ منه، والله سبحانه كلما خفتَه أنِسْتَ به وفَررْت إليه. والمخلوق يُخاف ظلمُه وعدوانه، والرب سبحانه إنما يُخاف عَدْلُهُ وقسْطُهُ.

محبة المخلوق إذا لم تكن لله فهي عذاب للمحب ووبال

وكذلك المحبة فإن محبة المخلوق إذا لم تكن لله فهي عذاب للمُحبِّ ووبال عليه، وما يحصل له بها من التألمُّ أعظمُ ممَّا يحصل له من اللذة، وكلما كانت أبعدَ عن الله كان ألمها وعذابها أعظم. هذا إلى ما في محبته من الإعراض عنك، والتَّجنِّي عليك، وعدم الوفاء لك إما لمزاحمة غيرك من المحبِّين له، وإما لكراهته ومعاداته لك، وإما لاشتغاله عنك بمصالحه وما هو أحبُّ إليه منك، وإما لغير ذلك من الآفات. وأما محبة الرب سبحانه فشأنها غير هذا الشأن، فإنه لا شيء أحبُّ إلى القلوب من خالقها وفاطرها، فهو إلهها ومعبودها، ووليُّها ومولاها، وربّها ومدبرها ورازقها، ومميتها ومحييها، فمحبته نعيم النفوس، وحياة الأرواح، وسرور النفوس، وقوت القلوب، ونور العقول، وقرة العيون، وعمارة الباطن. فليس عند القلوب السليمة والأرواح الطيبة والعقول الزاكية أحلى، ولا ألذ، ولا أطيب، ولا أسرُّ، ولا أنعم، من محبَّته والأنس به والشوق إلى لقائه. والحلاوة التي يجدها المؤمن في قلبه بذلك فوق كل حلاوة، والنعيم الذي يحصل له بذلك أتَّم من كل نعيم، واللذة التي تَناله أعلى من كل لذة، كما أخبر بعض الواجدين عن حاله بقوله: إنه ليَمُرّ بي (¬1) أوقات أقول فيها: إن كان أهل الجنة في مثل هذا إنهم لفي عيش طيب (¬2). وقال آخر: إنه ليمرُّ بالقلب أوقات، يَهتزّ فيها طربًا بأنسه بالله وحبِّه له (¬3). ¬

_ (¬1) كذا في م. وفي بقية النسخ: "بالقلب". (¬2) تقدّم تخريجه. (¬3) انظر: مجموع الفتاوى (10/ 647، 28/ 31).

قول آخر: "مساكين أهل الغفلة خرجوا من الدنيا وما ذاقوا أطيب ما فيها"

وقال آخر: مساكين أهل الغفلة! خرجوا من الدنيا وما ذاقوا أطيبَ ما فيها (¬1). وقال آخر: لو علم الملوك وأبناء الملوك ما نحن فيه لجالدونا عليه بالسيوف (¬2). ووَجْدُ هذه الأمور وذوقها هو بحسب قوة المحبة وضعفها، وبحسب إدراك جمال المحبوب والقرب منه، وكلما كانت المحبَّةُ أكملَ، وإدراكُ المحبوب أتمَّ، والقربُ منه أوفرَ، كانت الحلاوةُ واللذة والسرور والنعيم أقوى. فمن كان بالله سبحانه وأسمائه وصفاته أعرف، وفيه أرغب، وله أحبُّ، وإليه أقرب = وجد من هذه الحلاوة في قلبه ما لا يمكن التعبير عنه، ولا يُعْرَفُ إلا بالذوق والوجد. ومتى ذاق القلبُ ذلك لم يُمكِنْه أن يقدّم عليه حبًّا لغيره، ولا أُنسًا به، وكلما ازداد له حبًّا ازداد له عبوديةً وذلاًّ، وخضوعًا ورِقًّا له، وحريَّةً عن رقِّ غيره. فالقلب لا يفلح، ولا يصلح، ولا يتنعَّم، ولا يبتهج، ولا يلتذُّ، ولا يطمئنُّ، ولا يسكن إلا بعبادة ربه، وحبه، والإنابة إليه. ولو حصل له جميع ما يلتذ به من المخلوقات لم يطمئن إليها، ولم يسكن إليها، بل لا تزيده إلا فاقة وقلقًا، حتى يظفر بما خُلق له، وهُيّئ له، من كون الله وحده نهاية مراده وغاية ¬

_ (¬1) تقدم تخريجه. (¬2) رواه أبو نعيم في الحلية (7/ 370) والبيهقي في الزهد الكبير (80) والخطيب في الزهد (115) من قول إبراهيم بن أدهم، ومن طريق البيهقي والخطيب رواه ابن عساكر في تاريخ دمشق (6/ 302، 303، 365، 366).

في القلب فقر ذاتي إلى ربه من حيث هو معبوده ومحبوبه، ومن حيث هو ربه وخالقه ورازقه

مطالبه، فإن فيه فقرًا ذاتيًّا إلى ربه وإلهه، من حيث هو معبوده ومحبوبه وإلهه ومطلوبه، كما أن فيه فقرًا ذاتيًّا إليه، من حيث هو ربُّه وخالقه ورازقه ومدبِّره، وكلما تمكنت محبة الله من القلب وقويت فيه خرج منه تألهه لما سواه، وعبودبته له: فَأَصْبَحَ حُرًّا عِزَّةً وَصِيَانَةً ... عَلىَ وَجْهِهِ أَنْوَارُهُ وَضِيَاؤُهُ (¬1) وما من مؤمن إلا وفى قلبه محبة لله تعالى، وطمأنينة بذكره، وتنعُّم بمعرفته، ولذة وسرور بذكره، وشوق إلى لقائه، وأُنْسٌ بقربه، وإن لم يحُسّ به لاشتغال قلبه بغيره، وانصرافه إلى ما هو مشغول به، فوجودُ الشيء غيرُ الإحساس والشعور به. وقوة ذلك وضعفه وزيادته ونقصانه، هو بحسب قوة الإيمان وضعفه وزيادته ونقصانه. ومتى لم يكن الله وحده غايةَ مراد العبد، ونهاية مقصوده، وهو المحبوب المراد له بالذات والقصد الأول، وكل ما سواه فإنما يحبه ويريده ويطلبه تبعًا لأجله = لم يكن قد حقق شهادة أن لا إله إلا الله، وكان فيه من النقص والعيب والشرك، وله من موجَبات ذلك من الألم والحسرة والعذاب، بحسب ما فاته من ذلك. ولو سعى في هذا المطلوب بكل طريق، واستفتح من كل باب، ولم يكن مستعينًا بالله، متوكلاً عليه، مفتقرًا إليه في حصوله، متيقنًا أنه إنما يحصل بتوفيقه ومشيئته وإعانته، لا طريق له سوى ذلك بوجه من الوجوه = لم ¬

_ (¬1) البيت مع آخر في طريق الهجرتين (1/ 96).

لذة المعصية وشهوتها تستر لذة الحلاوة الإيمانية أو تنقصها أو تذهبها

يحصل له مطلوبه، فإنه ما شاء الله كان، وما لم يشأ لم يكن، فلا يوصل إليه سواه، ولا يدل عليه سواه، ولا يُعبد إلا بإعانته، ولا يطاع إلا بمشيئته: {لِمَنْ شَاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَسْتَقِيمَ (28) وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ} [التكوير: 28, 29]. فإذا عُرف هذا، فالعبد في حال معصيته واشتغاله عنه بشهوته ولذّته، تكون تلك اللّذة والحلاوة الإيمانية قد اسْتَترت عنه وتوارَت، أو نقَصَت أو ذهبت، فإنها لو كانت موجودة كاملةً لما قَدّم عليها لَذّةً وشهوةً لا نِسبة بينها بوجهٍ ما، بل هي أدْنَى من حبة خَرْدَلٍ بالنسبة إلى الدنيا وما فيها. ولهذا قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: "لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن، ولا يَسرِق السارق حين يسرقُ وهو مُؤمن، ولا يشرب الخمر حين يشربها وهو مؤمن " (¬1)، فإنَّ ذوق حقيقة الإيمان ومباشرته لقلبه يمنعه من أن يُؤثر عليه ذلك القدر الخسيس، وينهاه عما يُشَعِّثه وينقصه. ولهذا تجد العبد إذا كان مُخلصًا لله، منيبًا إليه، مطمئنًّا بذكره، مشتاقًا إلى لقائه قلبه، منصرفًا عن هذه المحرمات = لا يلتفت إليها، ولا يُعَوّل عليها، ويرى استبداله بها عَمّا هوفيه كاستبداله البَعْر الخسيس بالجوهر النّفيس، وبيعه الذهب بأعقاب الجَزر، وبَيعه المسك بالرّجيع. ولا ريب أن في النفوس البشرية من هو بهذه المثابة، إنما يصبو إلى ما يناسبه، ويميل إلى ما يشاكله، يَنفِرُ من المطالب العالية واللذات الكاملة، كما ينفر الجُعَلُ من رائحة الورد. وشاهدنا من يُمسك بأنفه عند وجود المسك، ويتكرّه بها لما يناله بها من المضَرّة. ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري (2475)، ومسلم (57) عن أبي هريرة.

من حصل له حلاوة الإيمان عدم اقتضاء الذنب، وهو صاحب النفس المطمئنة

فمن خُلق للعمل في الدّباغة لا يجيء منه العمل في صناعة الطِّيب، ولا يليق به، ولا يتأتَّى منه، والنفس لا تترك محبوبًا إلا لمحبوب هو أحبّ إليها منه، أو للخوف من مكروهٍ هو أشقّ عليها من فوات ذلك المحبوب. فالذنب يُعدم لعدم المقتضي له تارة، لاشتغال القلب بما هو أحبّ إليه منه، ولوجود المانع تارة، من خوف فوات محبوبٍ هو أحب إليه منه: فالأول: حالُ من حَصلَ له من ذوق حلاوة الإيمان وحقائقه والتنعم به ما عوّض قلبه عن مَيْله إلى الذنوب. والثاني: حالُ من عنده داعٍ وإرادةٌ لها، وعنده إيمان وتصديق بوعد الله تعالى ووعيده، فهو يخاف إن واقعها أن يقع فيما هو أكره إليه، وأشقّ عليه. فالأول للنفوس المطمئنة إلى ربها، والثاني لأهل (¬1) الجهاد والصبر. وهاتان النفسان هما المخصوصتان بالسعادة والفلاح. قال الله تعالى في النفس الأولى: {يَاأَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ (27) ارْجِعِي إِلَى رَبِّكِ رَاضِيَةً مَرْضِيَّةً (28) فَادْخُلِي فِي عِبَادِي (29) وَادْخُلِي جَنَّتِي} [الفجر: 27 - 30]. وقال في الثانية: {ثُمَّ إِنَّ رَبَّكَ لِلَّذِينَ هَاجَرُوا مِنْ بَعْدِ مَا فُتِنُوا ثُمَّ جَاهَدُوا وَصَبَرُوا إِنَّ رَبَّكَ مِنْ بَعْدِهَا لَغَفُورٌ رَحِيمٌ} [النحل: 110]. فالنفوس ثلاثة: نفس مطمئنة إلى ربِّها، وهى أشرف النفوس وأزكاها، ونفسٌ مجاهدة صابرة، ونفس مفتونة بالشهوات والهوى، وهى النفس الشقيّة، التي حَظُّها الألم والعذاب، والبعد عن الله تعالى والحجاب. ¬

_ (¬1) م: "لأجل". والمثبت من باقي النسخ.

فصل: في بيان كيد الشيطان لنفسه قبل كيده للأبوين

فصل فى بيان كيد الشيطان لنفسه، قبل كَيده للأبوين، ثم لم يَقتصر على ذلك، حتى كاد ذُرّيَة نفسه وذرية آدم، فكان مشؤومًا على نفسه، وعلى ذريته، وأوليائه، وأهل طاعته من الجنّ والإنس. أما كيده لنفسه: فإن الله سبحانه لمَّا أمره بالسجود لآدم عليه السلام كان في امتثال أمره وطاعته سعادتُه وفلاحه وعِزُّه ونجاته، فسوَّلتْ له نفسه الجاهلة الظالمة أن في سجوده لآدم عليه السلام غَضاضةً عليه، وهَضْمًا لنفسه، إذ يخَضع ويقعُ ساجدًا لمن خُلق من طينٍ، وهو مخلوقٌ من نار، والنار بزعمه أشرف من الطين، فالمخلوق منها خيرٌ من المخلوق منه، وخضوع الأفضل لمن هو دونه غَضاضَةٌ عليه، وهضْمٌ لمنزلته! فلما قام بقلبه هذا الهَوَسُ، وقارنَه الحسد لآدم لِمَا رأى ربَّه سبحانه قد خصّه به من أنواع الكرامة، فإنه خَلَقه بيده، ونفخ فيه من رُوحه، وأسْجَدَ له ملائكته، وعلَّمه أسماء كلّ شيء، وميّزه بذلك عن الملائكة، وأسكنه جنته، فبلغ الحسد من عَدُوّ الله كلَّ مبلغٍ، وكان عدو الله يُطيفُ به وهو صلصالٌ كالفَخّار، فيعجب منه، ويقول: لأمرٍ عظيم قد خُلق هذا، ولئن سُلِّط علىّ لأعصينّه، ولئن سُلِّطتُ عليه لأُهْلِكَنّه، فلما تَمّ خلقُ آدم عليه السلام في أحسن تقويم وأكمل صورة وأجملها، وكمَلت محاسِنُه الباطنة بالعلم والحلم والوقار، وتولى رُّبه سبحانه خَلْقَهُ بيده، فجاء في أحسن خلق، وأتمّ صورة، طوله في السماء ستون ذراعًا، قد أُلبس رداءَ الجمال والحسن والمهابة والبهاء، فرأت الملائكة منظرًا لم يشاهدوا أحسن منه ولا أجمل، فوقعوا كلُّهم سجودًا له بأمْرِ ربهم تبارك وتعالى، فشَقّ الحسودُ قميصَهُ من

معارضة الشيطان وحزبه للنصوص بالمعقول والرأي الفاسد، وفي ذلك اعتراض على العليم الحكيم

دُبُرٍ، واشتعلت في قلبه نيران الحسد المتين، فعارض النص بالمعقول بزعمه، كفعل أوليائه من المبطلين، وقال: {أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نَارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ} [الأعراف: 12]، فأعرض عن النصِّ الصريح، وقابله بالرأي الفاسد القبيح، ثم أردف ذلك بالاعتراض على العليم الحكيم، الذي لا تجدُ العقول إلى الاعتراض على حكمته سبيلًا، فقال: {أَرَأَيْتَكَ هَذَا الَّذِي كَرَّمْتَ عَلَيَّ لَئِنْ أَخَّرْتَنِ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ لَأَحْتَنِكَنَّ ذُرِّيَّتَهُ إِلَّا قَلِيلًا} [الإسراء: 62]. وتحت هذا الكلام من الاعتراض معنى: أخبرني لِمَ كرّمتَه؟ وغَوْرُ هذا الاعتراض: أن الذي فعلتَهُ ليس بحكمة ولا صواب، وأن الحكمة كانت تقتضي أن يسجد هو لي، لأن المفضول يخضع للفاضل، فلم خالفتَ الحكمة؟ ثم أردف ذلك بتفضيل نفسه عليه وإزرائه به، فقال: {أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ}. ثم قرَّر ذلك بحجَّته الداحضة، في تفضيل مادَّته وأصله على مادة آدم عليه السلام وأصله، فأنتجت له هذه المقدِّمات إباءه وامتناعه من السجود، ومعصية الرب المعبود، فجمع بين الجهل والظلم، والكِبْرِ والحسد والمعصية، ومعارضة النص بالرأي والعقل. فأهانَ نفسَه كلَّ الإهانة من حيث أراد تعظيمها، ووضعها من حيث أراد رفعتها، وأذلَّها من حيث أراد عزتها، وآلمها كل الألم من حيث أراد لذتها، ففعل بنفسه ما لو اجتهد أعظمُ أعدائه في مَضَرَّته لم يبلغ منه ذلك المبلغَ، ومن كان هذا غِشَّه لنفسه فكيف يسمع منه العاقل ويقبل ويواليه؟

فصل: وأما كيده للأبوين فمناهما بالخلود في الجنة، وحلف أنه ناصح، فجرت عليهما المحنة ثم تداركهما الله، فعلمهما: {ربنا ظلمنا أنفسنا وإن لم تغفر لنا وترحمنا لنكونن من الخاسرين}

قال تعالى: {وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ كَانَ مِنَ الْجِنِّ فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ أَفَتَتَّخِذُونَهُ وَذُرِّيَّتَهُ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِي وَهُمْ لَكُمْ عَدُوٌّ بِئْسَ لِلظَّالِمِينَ بَدَلًا} [الكهف: 50]. فصل وأما كيده للأبوين: فقد قَصّ الله سبحانه علينا قِصّته معهما، وأنه لم يزَل يخدعهما ويَعِدهما ويُمَنّيهما الخلود في الجنة، حتى حلف لهما بالله جَهْدَ يمينه أنه ناصح لهما، حتى اطمأنّا إلى قوله، وأجاباه إلى ما طلبَ منهما، فجرى عليهما من المحنة، والخروج من الجنة، ونزْع لباسهما عنهما ما جرى، وكان ذلك بكَيْده ومكره الذي جرى به القلمُ، وسبقَ به القدر، ورَدّ الله سبحانه كيده عليه، وتدارك الأبوين برحمته ومغفرته، فأعادهما إلى الجنة على أحسن الأحوال وأجملها، وعاد عاقبةُ مكره عليه، {وَلَا يَحِيقُ الْمَكْرُ السَّيِّئُ إِلَّا بِأَهْلِهِ} [فاطر: 43]! وظن عدو الله بجهله أن الغَلَبة والظَّفَر له في هذا الحرب، ولم يعلم بكَمين جيش: {رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنْفُسَنَا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ} [الأعراف: 23]، ولا بإقبال دَوْلَة: {ثُمَّ اجْتَبَاهُ رَبُّهُ فَتَابَ عَلَيْهِ وَهَدَى} [طه: 122]. وظن اللعين بجهله أن الله سبحانه يتخلىّ عن صَفِيِّه وحبيبه الذي خلقه بيده، ونفخ فيه من رُوحه، وأسجد له ملائكته، وعَلّمه أسماء كل شيء، من أجل أَكْلَةٍ أكلَها. وما علم أن الطبيب قد عَلّم المريض الدواءَ قبل المرض، فلما أحسّ بالمرض بادر إلى استعمال الدواء، لمّا رماهُ العدُوُّ بسهمه وقعَ في غير مَقتل،

بلي العدو بالذنب فأصر وعارض، ولم يسأل الإقالة ولا ندم، وبلي الحبيب بالذنب فاعترف وندم، وتضرع، وفزع إلى التوحيد والاستغفار

فبادر إلى مُداواة الجُرْح، فقام كأنْ لم يكُن به قَلَبَةٌ. بُلي العدوّ بالذنب فأصرّ، واحتج وعارَض الأمر، وقَدَح في الحكمة، ولم يسأل الإقالة، ولا ندم على الزّلّة. وبُلي الحبيبُ بالذنب، فاعترف وتاب وندم، وتضرّع واستكان وفَزع إلى مَفْزَع الخليقة، وهو التوحيد والاستغفار، فأُزيل عنه العَيبُ، وغُفر له الذنب، فقُبل منه المتاب، وفُتح له من الرحمة والهداية كلُّ باب. ونحن الأبناء، ومن أشبه أباه فما ظلم، ومَنْ كانت شِيمتُهُ التوبة والاستغفار فقد هُدي لأحسن الشيم. فصل ثم كاد أحدَ وَلَدَيْ آدم، ولم يَزل يتلاعبُ به حتى قتلَ أخاه، وأسخَطَ أباهُ، وعصَى مولاه، فَسَنّ للذرية قتل النفوس، وقد ثبت في "الصحيح" (¬1) عنه - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: "ما مِنْ نفسٍ تُقتلُ ظلمًا إلا كان على ابنِ آدمَ الأوّلِ كفْلٌ من دَمِها، لأنه أوّلُ مَنْ سَنَّ القتل". فكاد العدوّ هذا القاتل بقطيعة رحمه، وعقوق والديه، وإسخاط ربّه، ونقص عَدَدِه (¬2)، وظلم نفسه، وعَرّضه لأعظم العقاب، وحَرَمَه حظّه من جزيل الثواب. فصل ثم جرى الأمرُ على السداد والاستقامة، والأمّة واحدةٌ، والدينُ واحدٌ، والمعبود واحد، قال تعالى: {وَمَا كَانَ النَّاسُ إِلَّا أُمَّةً وَاحِدَةً فَاخْتَلَفُوا ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري (3335) ومسلم (1677) عن ابن مسعود. (¬2) م، ح: "وبغض عدوه". والمثبت من الأصل، ت، ظ. ومحلها في ش ساقط.

قول قتادة: كان بين آدم ونوح عشرة قرون كلهم على الهدى، إلخ

وَلَوْلَا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ فِيمَا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ} [يونس: 19]، وقال تعالى: {كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً فَبَعَثَ اللَّهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ وَأَنْزَلَ مَعَهُمُ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِيَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ فِيمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ} [البقرة: 213]. قال سعيد عن قتادة (¬1): ذُكِرَ لنا أنه كان بين آدم ونوح عليهما السلام عشرةُ قرون، كلهم على الهُدَى وعلى شريعة من الحقّ، ثم اختلفوا بعد ذلك، فبعثَ الله عز وجل نوحًا، وكان أولَ رسول بعثه الله تعالى إلى أهل الأرض، وبُعِث عند الاختلاف بين الناس وترْك الحق. وقال ابن عباس (¬2): {كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً} كانوا على الإسلام كلهم. وهذا هو القول الصحيح في الآية. وقد روى عطية، عن ابن عباس (¬3) رضي الله عنهما: كانوا أمة واحدة ¬

_ (¬1) رواه ابن أبي حاتم في تفسيره (1987، 1989، 7316، 10287). وروى عبد الرزاق في تفسيره (1/ 82) - ومن طريقه الطبري في تفسيره (4049) وابن أبي حاتم في تفسيره (1985) - عن معمر عن قتادة قال: "كانوا على الهدى جميعًا، فاختلفوا، فبعث الله النبيين مبشرين ومنذرين، وكان أول نبي بعث نوح عليه السلام". وعزاه في الدر المنثور (1/ 583) لعبد بن حميد. (¬2) سيأتي تخريجه. (¬3) ذكره الثعلبي في تفسيره (2/ 133) والبغوي في تفسيره (1/ 243) وغيرهما بلا إسناد فقالا: رُوِي عن ابن عباس .. وعزاه في الدر المنثور (1/ 583) للطبري وابن أبي حاتم، قال ابن تيمية في منهاج السنة (5/ 177): "هذا ليس بشيء، وتفسير عطية عن ابن عباس ليس بثابت". والذي في تفسير الطبري (4055) من طريق عطية عن ابن عباس قال: "كان دينًا واحدًا، فبعث الله النبيين مبشرين ومنذرين".

قول الحسن وعطاء: كانوا على ملة واحدة هي الكفر، وهو ضعيف

كانوا كفارًا. وهذا قول الحسن، وعَطاء، قالا (¬1): كان الناس من وقت وفاة آدم إلى مبعث نوح عليهما السلام أمة واحدة، على مِلّة واحدة، وهى الكفر، كانوا كفارًا كلهم أمثال البهائم، فبعث الله نوحًا، وإبراهيم، والنبيين. وهذا القول ضعيف جدًّا، وهو منقطع عن ابن عباس، والصحيح عنه خلافه. قال ابن أبي حاتم (¬2): حدثنا أبو زُرعة، حدثنا شَيبان بن فَرُّوخ، حدثنا هَمَّامٌ، حدثنا قتادة، عن عكرمة، عن ابن عباس، قال: كانوا على الإسلام كلهم. وهذا هو الصواب قطعًا، فإن في قراءة أُبي بن كعب: "فاختلفوا فبعث الله النبيين مبشرين ومنذرين". ¬

_ (¬1) انظر: تفسير الثعلبي (2/ 132، 133)، وتفسير البغوي (243). (¬2) في المطبوع من تفسير ابن أبي حاتم (1983) بهذا الإسناد عن ابن عباس قال: "كانوا كفارًا، فبعث الله النبيين مبشرين ومنذرين"، فلعله حصل فيه سقط، لأن السيوطي عزاه في الدر (1/ 582) لابن أبي حاتم باللفظ الذي ذكره المصنف، ورواه أيضًا أبو يعلى (2606) والطبراني في الكبير (11/ 309) عن شيبان به، ورواه البزار (4815) والطبري في تفسيره (4048) وابن أبي حاتم في تفسيره (15184) عن هَمّام به ولفظه: "كان بين آدم ونوح عشرة قرون، كلّهم على شريعة من الحق"، وصححه الحاكم (3654، 4009)، وابن تيمية في منهاج السنة (5/ 177)، وقال ابن كثير في تفسيره (1/ 569): "هذا القول عن ابن عباس أصحّ سندًا ومعنى"، وصححه السيوطي، والألباني في السلسلة الصحيحة (13/ 92).

المقصود أن العدو كادهم بعبادة الأصنام وإنكار البعث حتى انقسموا إلى مؤمن وكافر

ويشهد لهذه القراءة قوله تعالى في سورة يونس: {وَمَا كَانَ النَّاسُ إِلَّا أُمَّةً وَاحِدَةً فَاخْتَلَفُوا} [يونس: 19]. والمقصود أن العدوّ كادهم وتلاعَبَ بهم، حتى انقسموا قسمين: كفارًا ومؤمنين، فكادهم بعبادة الأصنام، وإنكار البعث. وكان أول ما كاد به عُبّاد الأصنام من جهة العكوف على القبور، وتصاوير أهلها، ليتذكروهم بها، كما قصّ الله سبحانه قصتهم في كتابه، فقال: {وَقَالُوا لَا تَذَرُنَّ آلِهَتَكُمْ وَلَا تَذَرُنَّ وَدًّا وَلَا سُوَاعًا وَلَا يَغُوثَ وَيَعُوقَ وَنَسْرًا} [نوح: 23]. قال البخاري في "صحيحه" (¬1) عن ابن عباس رضي الله عنهما: هذه أسماء رجال صالحين من قوم نوح، فلما هلكوا أوحَى الشَّيطانُ إلى قومهم أن انصِبُوا إلى مجالسهم التي كانوا يجلسون أنصابًا، وسمُّوها بأسمائهم، ففعلوا، فلم تُعْبَد، حتى إذا هلك أولئك ونُسِخَ العلم عُبِدَتْ. وقال ابن جرير (¬2): عن محمد بن قَيْس، قال: كانوا قومًا صالحين من بني آدم، كان لهم أتباعٌ يقتدون بهم، فلما ماتوا قال أصحابهم: لو صوّرناهم كان أشوقَ لنا إلى العبادة إذا ذكرناهم، فصوَّروهم، فلما ماتوا وجاء آخرون دَبّ إليهم إبليسُ، فقال: إنما كانوا يعبدونهم، وبهم يُسْقَون المطر، فعبدوهم. وقال هشام بن محمد بن السائب الكلبي (¬3): أخبرني أبي، قال: أول ما ¬

_ (¬1) تقدم تخريجه. (¬2) تقدم تخريجه. (¬3) كتاب الأصنام (ص 50)، وعنه رواه ابن الجوزي في تلبيس إبليس (ص 49).

ما روى الكلبي أن أولاد شيث كانوا يأتون جسد آدم في المغارة التي دفنوه فيها من أرض الهند ويعظمونه، وأن رجلا من بني قابيل نحت صنما لبني قابيل

عُبدت الأصنام أن آدم عليه السلام لمَّا مات جعله بنو شِيْث بن آدم في مغارة في الجبل الذي أُهبط عليه آدم بأرض الهند، ويقال للجبل: نوذ، وهو أخصب جبل في الأرض. قال هشام (¬1): فأخبرني أبي، عن أبي صالح، عن ابن عباس، قال: فكان بنو شيث عليه السلام يأتون جسد آدم في المغارة، فيعظِّمونه، ويترحمون عليه، فقال رجل من بني قابيل: يا بني قابيل! إن لبني شيث دُوَّارًا يدورون حولَه ويعظمونه، وليس لكم شيء، فنحَتَ لهم صنمًا، فكان أول من عملها. قال هشام (¬2): وأخبرني أبي، قال: كان ودٌّ، وسواعٌ، ويغوث، ويعوق، ونسرٌ قومًا صالحين، فماتوا في شهر، فجزع عليهم ذوو أقاربهم، فقال رجل من بني قابيل: يا قوم! هل لكم أن أعمل لكم خمسة أصنام على صورهم؟ غير أني لا أقدِرُ أن أجعل فيها أرواحًا، قالوا: نعم، فنحَتَ لهم خمسة أصنام على صورها، ونصبها لهم، فكان الرجل يأتي أخاه وعمه وابن عمه، فيعظمه ويسعى حوله، حتى ذهب ذلك القرن الأول، وكانت عُملت على عهد يَرْد بن مهلائيل بن قَينان بن أنوش بن شيث بن آدم، ثم جاء قرن آخر فعظموهم أشدّ من تعظيم القرن الأول، ثم جاء من بعدهم القرن الثالث، فقالوا: ما عظَّم أوّلونا هؤلاء إلا يرجون شفاعتهم عند الله تعالى، فعبدوهم، وعظَّموا أمرهم، واشتدّ كفرهم، فبعث الله إليهم إدريس عليه السلام فدعاهم، فكذبوه، فرفعه الله مكانا عليًّا. ¬

_ (¬1) كتاب الأصنام (ص 51)، وعنه رواه ابن الجوزي في تلبيس إبليس (ص 50). (¬2) كتاب الأصنام (ص 51 - 53)، وعنه رواه ابن الجوزي في تلبيس إبليس (ص 50).

بعث الله نوحا وهو ابن أربعمائة وثمانين سنة

ولم يزل أمرهم يشتد -فيما قال الكلبي، عن أبي صالح، عن ابن عباس- حتى أدرك نوح، فبعثه الله تعالى نبيًّا، وهو يومئذٍ ابن أربع مئة وثمانين سنةً، فدعاهم إلى الله تعالى في نبوّته عشرين ومئة سنةٍ، فعصوه وكذبوه، فأمره الله تعالى أن يصنع الفلك، ففرغ منها وركبها، وهو ابن ست مئة سنة، وغرق من غرق، ومَكث بعد ذلك ثلاث مئة وخمسين سنة، وكان بين آدم ونوح ألفا سنة ومئتا سنة، فأهبط الماء هذه الأصنام من أرض إلى أرض، حتى قذفها إلى أرض جُدّة، فلما نضب الماء وبقيت على الشَّطّ فَسَفت الريحُ عليها حتى وارَتهْا. قلت: ظاهر القرآن يدلُّ على خلاف هذا، وأن نوحًا عليه السلام لبث في قومه ألف سنة إلا خمسين عامًا، وأن الله عز وجل أهلكهم بالغرق بعد أن لبث فيهم هذه المدة. قال الكلبي (¬1): وكان عمرو بن لُحَيٍّ كاهنًا، وله رَئيٌّ من الجنّ، فقال له: عَجِّل المسيرَ والظَّعْنَ من تهامة، بالسعد والسلامة، ائتِ جُدّة، تجدْ فيها أصنامًا معدَّة، فأورِدْها تِهامة ولا تهَبْ، ثم ادعُ العرب إلى عبادتها تُجَبْ. فأتى نهر جُدّة فاستثارها، ثم حملها حتى وَرَدَ تهامة، وحضر الحجّ، فدعا العرب إلى عبادتها قاطبةً، فأجابه عوفُ بن عُذرَةَ بن زيد اللَّات، فدفع إليه وَدًّا فحمله، فكان بوادي القُرى بدُومة الجَندل، وسمى ابنه عبد وَدّ، فهو أول من سُميّ به، وجعل عوفٌ ابنه عامرًا سادنًا له، فلم يزل بنوه يَسْدُنونه حتى جاء الله بالإسلام. ¬

_ (¬1) كتاب الأصنام (ص 54 - 55)، وعنه رواه ابن الجوزي في تلبيس إبليس (ص 50 - 51).

كان أهل الجاهلية يبعثون باللبن إلى ود

قال الكلبي (¬1): فحدثني مالك بن حارثة أنه رأى وَدًّا، قال: وكان أبي يبعثني باللبن إليه، فيقول: اسْقِهِ إلهك، فأشربُه، قال: ثم رأيت خالد بن الوليد رضي الله عنه كَسَرَه فجعله جُذاذًا، وكان رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - بعث خالد بن الوليد لهدمه، فحالت بينه وبين هدمه بنو عبد ودّ وبنو عامر، فقاتلهم فقتلهم، وهدمه وكسره. قال الكلبي (¬2): فقلت لمالك بن حارثة: صِفْ لي ودًّا، حتى كأني أنظر إليه، قال: كان تمثال رجل كأعظم ما يكون من الرجال، قد زُبِرَ أي نُقِش (¬3) عليه حُلَّتان، مُتّزِرٌ بحلة، مُرْتَدٍ بأخرى، عليه سيفٌ قد تقلده، وقد تنكب قوسًا، وبين يديه حَرْبة فيها لواء، ووَفْضَةٌ فيها نَبْلٌ، يعني جَعْبةَ. وأجابت عمرَو بن لُحَيٍّ: مُضَرُ بن نزار، فدفع إلى رجل من هُذيل -يقال له: الحارث بن تميم بن سعد بن هذيل بن مُدركة بن الْيَأس بن مُضَر- سُواعًا، فكان بأرض يقال لها: رُهاط من بطن نخلة، يعبده من يليه من مُضر، وفى ذلك يقول رجل من العرب: تَرَاهُمْ حَوْلَ قِبْلَتهِمْ عُكُوفًا ... كَمَا عَكَفَتْ هُذَيْلُ عَلىَ سُوَاعِ (¬4) وأجابته مَذْحِج، فدفع إلى أنْعُمَ بن عمرو المرادي: يغوث، وكان بأكمة ¬

_ (¬1) كتاب الأصنام (ص 55)، وعنه رواه ابن الجوزي في تلبيس إبليس (ص 51). (¬2) كتاب الأصنام (ص 56 - 58)، وعنه رواه ابن الجوزي في تلبيس إبليس (ص 51 - 52). (¬3) م: "دثر أي لفف". (¬4) البيت بلا نسبة في كتاب الأصنام (ص 57)، ومعجم البلدان (3/ 276)، وتاج العروس (سوع).

دفع عمرو بن لحي يعوق إلى مالك بن مرثد الهمداني، فكان بخيوان من اليمن

باليمن، تعبده مَذْحِج ومن والاها. وأجابته هَمْدان، فدفَع إلى مالك بن مرثد بن جُشَم: يعوق، فكان بقرية يقال لها: خَيْوان، فعبده هَمْدان ومن والاها من اليمن. وأجابت حِمْيَر، فدفع إلى رجل من ذي رُعَين يقال له مَعْدِي كَرِبَ: نسرًا، فكان بموضع من أرض سبأ يقال له: بَلْخَع، تعبده حمير ومن والاها، فلم يزل يعبدونه حتى هَوَّدهم ذو نُواس. فلم تزل هذه الأصنام تُعبَد، حتى بعث الله النبي - صلى الله عليه وسلم -، فهدمها وكسرها (¬1). قلت: هذا شرح ما ذكره البخاري في "صحيحه" (¬2) عن ابن عباس، قال: صارت الأوثان التي كانت في قوم نوح في العرب بعدُ: أما وَدّ فكانت لكَلْبٍ بدُومة الجَنْدَل، وأما سُواع فكانت لهذيل، وأما يَغوث فكان لمراد، ثم لبني غُطيف بالجُرف عند سبأ، وأما يَعوق فكانت لهمدان، وأما نسر فكانت لحِمْيرَ لآل ذي الكلاع، قال: وهؤلاء أسماء رجال صالحين من قوم نوح، وذكر ما تقدم. وفى "صحيح البخاري" (¬3) عن أبي هريرة رضي الله عنه، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "رأيتُ عمرو بن عامر الخُزاعى يجُرُّ قُصْبَهُ في النار، وكان أولَ مَنْ سَيَّبَ السوائب". وفى لفظٍ: "وَغَيّر دينَ إبراهيم". ¬

_ (¬1) إلى هنا انتهى كلام الكلبي في كتاب الأصنام (ص 58). (¬2) برقم (4920). (¬3) برقم (4623، 2522).

كان أكثم بن الجون الخزاعي يشبه عمرو بن لحي ولا يضره شبهه

وقال ابن إسحاق (¬1): حدثني محمد بن إبراهيم بن الحارث التّيمي، أن أبا صالح السمّان حدثه، أنه سمع أبا هريرة يقول: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول لأكثَمَ بن الجَوْنِ الخُزَاعِيّ: "يا أكثم! رأيت عَمرو بن لحُيِّ بن قَمْعَة بن خِنْدَف يجُرّ قُصْبَه في النار، فما رأيت رجلاً أشبه برجل منك به، ولا به منك "، فقال أكثمُ: عسى أن يَضُرّني شَبهُه يا رسول الله؟ قال: "لا، إنك مؤمن وهو كافر، إنه كان أولَ مَنْ غَيّر دين إسماعيل، فنصبَ الأوثانَ، وبَحّر البحيرة، وسَيّب السائبة، ووصل الوصيلة، وحمى الحامي". قال ابن هشام (¬2): وحدثني بعض أهل العلم: أن عمرو بن لُحَىٍّ خرج من مكة إلى الشام في بعض أموره، فلما قدم مآبَ من أرض البَلْقاء، وبها يومئذٍ العماليقُ، وهم وَلَدُ عملاق بن لاوذ بن سام بن نوح، رآهم يعبدون الأصنام، فقال لهم: ما هذه الأصنام التي تعبدون؟ فقالوا: نَستمطر بها فتُمطرنا، ونستنصرها فتنصرنا، فقال: أفلا تُعطوني منها صنمًا، فأسير به إلى أرض العرب فيعبدونه؟ فأعطوه صنمًا يقال له: هُبَلُ، فقدم به مكة، فنصبه، وأمر الناس بعبادته وتعظيمه. ¬

_ (¬1) السيرة النبوية لابن هشام (1/ 201 - 202)، ومن طريق ابن إسحاق رواه ابن أبي عاصم في الأوائل (83)، والبزار (8991)، والطبري في تفسيره (12820، 12827)، وأبو عروبة في الأوائل (29)، وحسن إسناده سليمان آل الشيخ في التيسير (ص 268)، والألباني في السلسلة الصحيحة (4/ 243). ورواه أبو يعلى (6121) والطبري (12822) والدارقطني في المؤتلف والمختلف (1/ 126) من طريق محمد بن عمرو عن أبي سلمة عن أبي هريرة، وصححه ابن حبان (7490)، والحاكم (8789)، وحسنه الألباني في السلسلة الصحيحة (4/ 243). وفي الباب عن أبي بن كعب وجابر وابن مسعود وابن عباس. (¬2) السيرة النبوية (1/ 202).

قول الكلبي: إنه لم يكن أحد من ولد إسماعيل يظعن من مكة إلا حمل معه حجرا من الحرم يعظمه ويطوف به حيث كان مع تعظيمهم للبيت وحجه، ثم عبدوا ما استحسنوا من الأوثان ونسوا دين إبراهيم، واستخرجوا ما كان يعبد قوم نوح

قال هشام (¬1): وحدثني أبي وغيره: أن إسماعيل عليه السلام لما سكن مكة، ووُلِدَ بها أولادُهُ، فكثروا، حتى ملأوا مكة، ونَفَوْا من كان بها من العماليق: ضاقت عليهم مكة، ووقعت بينهم الحروب والعداوات، وأخرج بعضهم بعضا، فتفسحوا في البلاد والتماس المعاش، فكان الذي حملهم على عبادة الأوثان والحجارة أنه كان لا يَظعنُ من مكة ظاعن إلا احتمل معه حجرًا من حجارة الحرم، تعظيمًا للحرم، وصبَابَةً بمكة، فحيثما حلّوا وضعوه وطافُوا به كطوافهم بالبيت، حُبًا للبيت، وصبابةً به، وهم على ذلك يعظِّمون البيت ومكة، ويحُجُّون ويعتمرون، على إرث إبراهيم وإسماعيل عليهما السلام، ثم عبدوا ما استحسنوا، ونسوا ما كانوا عليه، واستبدلوا بدين إبراهيم غيرَهُ، فعبدوا الأوثان، وصاروا إلى ما كانت عليه الأمم من قبلهم، واستخرجوا ما كان يعبد قوم نوح عليه السلام، وفيهم على ذلك بقايا من عهد إبراهيم وإسماعيل يتنسكون بها من تعظيم البيت والطواف به، والحجّ والعمرة، والوقوف بعرفة والمزْدلفة، وإهداء البُدْن. وكانت نِزَارُ تقول في إهْلالها: لَبّيْكَ اللهُم لبيْكَ، لا شريك لك إلا شريكٌ هو لك، تملكه وما ملك! وكان أولَ مَنْ غَيّر دين إسماعيل فنَصبَ الأوثان، وسَيّب السائبة، ووصل الوصيلة، وحَمَى الحامي: عمرو بن ربيعة، وهو لحيّ بن حارثة، وهو أبو خُزاعة، وكانت أم عمرو فُهيرة بنت عمرو بن الحارث، وكان الحارث الذي يَلي أمر الكعبة، فلما بلغ عمرو بن لُحيّ نازعه في الولاية، وقاتل جرهم ببني إسماعيل، فظفر بهم، وأجلاهم عن الكعبة، ونفاهم من ¬

_ (¬1) كتاب الأصنام (ص 6 - 8)، وعنه رواه ابن الجوزي في تلبيس إبليس (ص 52).

مرض عمرو بن لحي واستشفاؤه بأرض الشام، وجلبه الأصنام إلى مكة منها

بلاد مكة، وتولّى حِجابة البيت، ثم إنه مرض مرضًا شديدًا، فقيل له: إن بالبلقاء من الشام حَمّةً (¬1)، إن أتيتها بَرأت، فأتاها فاستَحَمّ فيها، فبرأ، ووجد أهلها يعبدون الأصنام، فقال: ما هذه؟ فقالوا: نستسقي بها المطر، ونستنصر بها على العدو، فسألهم أن يعطوه منها، ففعلوا، فقدم بها مكة، ونصبها حول الكعبة. واتخذت العربُ الأصنام، فكانت أقدمُها مناةَ، وكان منصوبًا على ساحل البحر من ناحية المشلَّل بقُدَيْدٍ بين مكة والمدينة، وكانت العربُ جميعها تعظمه، وكانت الأوس والخزرج ومن ينزل المدينة ومكة وما قارب من المواضع يعظمونه، ويذبحون له، ويهُدون له، ولم يكن أحدٌ أشدّ إعظامًا له من الأوس والخزرج (¬2). قال هشام (¬3): وحدثنا رجلٌ من قريش، عن أبي عُبيدة بن عبد الله بن أبي عبيدة بن محمد بن عَمّار بن ياسر، قال: كانت الأوس والخزرج ومَنْ جاورهم من عرب أهل يثرب وغيرها يحجون، فيقفون مع الناس المواقف كلها، ولا يحلقون رؤوسهم، فإذا نفروا أتوه، فحلقوا عنده رؤوسهم، وأقاموا عنده، لا يرون لحجّهم تمامًا إلا بذلك. وكانت مناةُ لهُذَيْلٍ وخُزاعة، فبعث رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عليًّا، فهدمها عام الفتح، ثم اتخذوا اللات بالطائف، وهى أحدث من مناة، وكانت صخرةً مُرَبّعة، وكان سدنتها من ثقيفٍ، وكانوا قد بَنَوْا عليها، وكانت قريش وجميع ¬

_ (¬1) الحمة: عين ماء حارة تنبع من الأرض، يُستشفى بالاغتسال من مائها. (¬2) كتاب الأصنام (ص 13)، وانظر: تلبيس إبليس (ص 53). (¬3) كتاب الأصنام (ص 14 - 18)، وعنه رواه ابن الجوزي في تلبيس إبليس (ص 53).

كانت قريش وجميع العرب تعظم اللات ويسمون تيم اللات

العرب تعظمها، وبها كانت العرب تسمّي زَيد اللات، وتَيْم اللات، وكانت في موضع منارة مسجد الطائف اليُسرى اليوم، فلم تزل كذلك حتى أسلَمَت ثقيفٌ، فبعث رسول الله - صلى الله عليه وسلم - المغيرة بن شعبة، فهدمها وحرّقها بالنار. ثم اتخذوا العُزّى، وهى أحدثُ من اللات ومناة، اتخذها ظالمُ بن أسعد، وكانت بوادٍ من نخلة، فوق ذاتِ عِرْقٍ، وبنوا عليها بيتًا، وكانوا يسمعون منه الصوْت. قال هشام (¬1): وحدثني أبي، عن أبي صالح، عن ابن عباس، قال: كانت العُزّى شيطانةٌ، تأتى ثلاث سَمُراتٍ ببطن نخلةَ، فلما افتتح رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مكة بعث خالد بن الوليد، فقال: "ائتِ بطنَ نخلة، فإنك ستجد ثلاث سَمُرات، فاعضد الأولى"، فأتاها فعضدها، فلما جاء إليه قال: "هل رأيت شيئًا؟ "، قال: لا، قال: "فاعضد الثانية"، فأتاها فعضدها، ثم أتى النبي - صلى الله عليه وسلم -، فقال: "هل رأيت شيئًا؟ "، قال: لا. قال: "فاعضد الثالثة"، فأتاها، فإذا هو بحبشيةٍ نافشةٍ شعرها، واضعةٍ يَديْها على عاتقها، تصرفُ بأنيابها، وخلفها سادِنُها، فقال خالد: يا عُزَّى كُفْرَانَكِ لا سُبْحَانَكِ، إنيِّ رَأَيْتُ اللهَ قَدْ أَهَانَكِ. ثم ضربها، ففلق رأسها، فإذا هي حُمَمَةٌ، ثم عضد الشجرة، وقتل السادن، ثم أتى النبي - صلى الله عليه وسلم - فأخبره، فقال: "تلك العُزّى، ولا عُزّى بعدها للعرب". قال هشام (¬2): وكانت لقريش أصنامٌ في جَوف الكعبة وحولها، وأعظمها عندهم: هُبَلُ، وكان فيما بلغني من عَقيقٍ أحمر، على صورة إنسانٍ ¬

_ (¬1) كتاب الأصنام (ص 25 - 26)، وعنه رواه ابن الجوزي في تلبيس إبليس (ص 53 - 54). (¬2) كتاب الأصنام (ص 27 - 29)، وانظر: تلبيس إبليس (ص 54).

أول من نصب هبل خزيمة بن مدركة

مكسور اليد اليُمنَى، أدركته قريشٌ كذلك، فجعلوا له يدًا من ذهب، وكان أولُ مَنْ نصبه خُزَيمة بن مُدْرِكة بن اليأس بن مُضر، وكان في جوف الكعبة، وكان قُدَّامه قِدَاحٌ مكتوبٌ في أحدها: صريحٌ، وفى الآخر: مُلْصَقٌ، فإذا شكُّوا في مولودٍ أهدوا له هَدية، ثم ضربوا بالقداح، فإن خرج "صريح" ألحقوه، وإن كان "ملصقا" دفعوه. وكانوا إذا اختصموا في أمرٍ أو أرادوا سفرًا أتوه، فاستقسموا بالقداح عنده، وهو الذي قال له أبو سفيان يوم أُحُدٍ: اعْلُ هُبَلُ! فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "قولوا له: الله أعْلَى وأجَلّ" (¬1). وكان لهم إسافٌ، ونائِلةُ. قال هشام (¬2): فحدّث الكلبي، عن أبي صالح، عن ابن عباس: أن إسافًا رجلٌ من جُرْهُم يقال له: إسافُ بن يَعْلىَ، ونائلةُ بنتُ زيد من جرْهم، وكان يتعشقها في أرض اليمن، فأقبلوا حُجّاجًا، فدخلا البيت، فوجدا غَفْلَةً من الناس وخَلْوةً من البيت، ففَجَر بها في البيت، فمُسِخَا حجرين، فأصبحوا، فوجدوهما مِسْخين، فأخرجوهما فوضعوهما موضعهما، فعبدتهما خُزاعة وقُرَيش، ومَنْ حجّ البيت بعدُ من العرب. قال هشام (¬3): لما مُسِخا حجرين وُضعا عند الكعبة ليتعظ بهما الناس، فلما طال مُكثهما وعُبدت الأصنام عُبدا معها، وكان أحدهما مُلصقًا بالكعبة، والآخر في موضع زَمزم، فنقلت قريش الذي كان مُلصقًا بالكعبة إلى الآخر، فكانوا يذبحون وينحرون عندهما. ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري (4043، 3039) عن البراء. (¬2) كتاب الأصنام (ص 9)، وعنه رواه ابن الجوزي في تلبيس إبليس (ص 54). (¬3) كتاب الأصنام (ص 29)، وانظر: تلبيس إبليس (ص 54).

كان من الأصنام ذو الخلصة، حجرا أبيض منقوشا عليه كهيئة التاج على سبع ليال من مكة إلى اليمن

وكان من تلك الأصنام: ذو الخَلَصَة (¬1)، وكان مَرْوَةً بيضاء منقوشةً، عليها كهيئة التاج، وكان له بيت بين مكة واليمن على مسيرة سبع (¬2) ليالٍ من مكة، وكانت تعظمه وتُهدي إليه خَثْعم وبَجِيلة، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لجرير (¬3): "ألا تكفيني ذا الخَلَصة؟ " (¬4)، فسار إليه بأحمَس، فقاتلته خثعم وباهلة، فظفر بهم، وهدم بيت ذي الخلصة، وأضرم فيه النار فاحترق. وذو الخلصة اليوم عتبة باب مسجد تَبالَة. وكان لدَوْس صَنمٌ يقال له: ذو الكَفّين، فلما أسلموا بعث رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الطُّفيل بن عمرِو فحرقه. وكان لبني الحارث بن يَشْكُر صنم يقال له: ذو الشِّرَى. وكان لقُضاعة ولَخْمٍ وجُذامٍ وعامِلةَ وغَطَفان صنمٌ في مشارف الشام، يقال له: الأُقيصر. وكان لمُزَيْنة صنمٌ يقال له: نُهمٌ، وبه كانت تُسَمّى عبد نُهْم. وكان لعنزة صنم يقال له: سُعَير. وكان لطيِّئٍ صنم - يقال له: الفِلْس (¬5). وكان لأهل كلّ دار من مكة صنم في دارهم يعبدونه، فإذا أراد أحدهم ¬

_ (¬1) كتاب الأصنام (ص 34 - 36)، وانظر: تلبيس إبليس (ص 54). (¬2) م: " تسع". (¬3) "لجرير" ساقطة من م. (¬4) أخرجه البخاري (3020)، ومسلم (2476) عن جرير بن عبد الله. (¬5) انظر عن هذه الأصنام: كتاب الأصنام لابن الكلبي (ص 37 - 59).

صنم عم أنس لخولان يقسمون له من أنعامهم وحرثهم بينه وبين الله

السفر كان آخر ما يصنعُ في منزله: أن يتمسّح به، وإذا قدِم من سفره كان أول ما يصنع إذا دخل منزله: أن يتمسح به (¬1). قال ابن إسحاق (¬2): وكان لخولان صنمٌ يقال له: عَمّ أنس، بأرض خَوْلان، يَقسمون له من أنعامهم وحروثهم قَسْمًا بينه وبين الله بزعمهم، فما دَخلَ في حق الله من حق عم أنس ردّوه عليه، وما دخل في حقِّ الصنم من حقَ الله الذي سمَّوه له تركوه له، وفيهم أنزل الله سبحانه: {وَجَعَلُوا لِلَّهِ مِمَّا ذَرَأَ مِنَ الْحَرْثِ وَالْأَنْعَامِ نَصِيبًا} إلى قوله: {سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ} [الأنعام: 136]. قال ابن إسحاق (¬3): وكان لبني مَلْكان بن كِنانة بن خُزيمة بن مُدركة صنم يقال له: سعد، صخرة بفلاة من الأرض طويلة، فأقبل رجل من بني مَلْكان بإبلٍ له مُؤَبّلَة، ليقفها عليه ابتغاء بركته فيما يزعم، فلما رأته الإبل وكان يُهراق عليه الدماء نَفَرتْ منه، فذهبت في كل وجه، فغضب رَبهّا، فأخذ حجرًا فرماه به، ثم قال: لا بارك الله فيك! نَفّرت عني إبلي، ثم خرج في طلبها حتى جمعها، فلما اجتمعت له قال: أتيْنَا إِلىَ سَعْدٍ لِيَجْمَعَ شَمْلَنَا ... فَشَتَتَنَا سَعْدٌ فَلاَ نَحْنُ مِنْ سَعْدِ وَهَلْ سَعْدُ إِلا صَخْرَةٌ بِتَنُوفَةٍ ... مِنَ الأَرْضِ لا تَدْعُو لِغَيٍّ وَلا رُشْدِ (¬4) ¬

_ (¬1) كتاب الأصنام (ص 33). وانظر: تلبيس إبليس (ص 55). (¬2) انظر: السيرة النبوية لابن هشام (1/ 206). (¬3) انظر: السيرة النبوية لابن هشام (1/ 206 - 207). (¬4) البيتان في المصدر السابق والبداية والنهاية (3/ 196).

كان لعمرو بن الجموح السلمي الأنصاري صنم من خشب اسمه مناة، كان يذهب به بنوه إلى الحفر ويلطخونه بالعذرات فكان ذلك سبب إسلام عمرو وهدايته

قال ابن إسحاق (¬1): وكان عمرو بن الجموح سيدًا من سادات بني سلمة، وشريفًا من أشرافهم، وكان قد اتخذ في داره صنمًا من خشب يقال له: مَناة، فلما أسلم فِتيان بنى سلمة: معاذ بن جبل وابنه معاذ بن عمرو، وغيرهم ممن أسلم وشهد العَقَبة، وكانوا يُدلِجون بالليل على صنم عمرو ذلك، فيحملونه، فيطرحونه في بعض حُفَرِ بني سلمة، وفيها عَذِرات الناس مُنكسًا على رأسه، فإذا أصبح عمرو قال: ويلكم! مَنْ عدا على إلهتنا هذه الليلة؟ قال: ثم يغدو يلتمسه، حتى إذا وجده غسله وطَهّره وطيَّبه، ثم قال: والله لو أعلم من فعل هذا بك لأُخْزِينّه، فإذا أمسى ونام عَدَوا ففعلوا بصنمه مثل ذلك، فيغدو يلتمسه، فيجد به مثل ما كان فيه من الأذى، فيغسله ويطهره ويطيبه، فيعدون عليه إذا أمسى، فيفعلون به ذلك، فلما طال عليه استخرجه من حيث ألْقَوْهُ، فغسله وطهره وطيبه، ثم جاء بسيفه، فعلقه عليه، ثم قال له: والله إني لا أعلم مَنْ يصنَعُ بك ما ترى، فإن كان فيك خيرٌ فامتنع، فهذا السيف معك، فلما أمسى ونام عَدَوا عليه، فأخذوا السيف من عنقه، ثم أخذوا كلبًا ميتًا، فقرنوه به بحبل، ثم ألقوه في بئر من آبار بني سَلمة، فيها عَذِرٌ من عَذر الناس، وغدا عمروٌ، فلم يجده في مكانه الذي كان به، فخرج يتَّبعه، حتى وجده في تلك البئر مُنكَسًا، مقرونًا بكلب ميتٍ، فلما رآه أبصر شأنه، وكلّمه مَنْ أسْلَمَ من قومه، فأسلم، وحسن إسلامه، فقال حين أسلم وعَرَف من الله ما عرف، وهو يذكر صنمه ذلك، وما أبصر من أمره، ويشكر الله إذ أنقذه مما كان فيه من العَمَى والضلالة: وَاللهِ لَوْ كُنْتَ إِلهًا لم تَكُنْ ... أَنْتَ وَكَلْبٌ وَسْطَ بِئْرٍ في قَرَنْ ¬

_ (¬1) انظر: السيرة النبوية لابن هشام (2/ 300 - 302).

اتخذت العرب بيوتا تعظمها مع الكعبة وتهدي لها وتسدنها، وتطوف بها، كما تصنع بالكعبة وكان بعضهم يسميها كعبة

أُفٍ لِمَلْقَاكَ إِلهًا مُسْتَدَنْ ... الآنَ فَتَّشْنَاكَ عَنْ سُوءِ الغَبَنْ الْحَمدُ للهِ الْعَليّ ذِي المِنَنْ ... الوَاهِبِ الرَّزَاقِ دَيَّانِ الدِّيَنْ هُوَ الذي أَنْقَذَني مِنْ قَبْلِ أنْ ... أَكُونَ في ظُلْمَةِ قَبْرٍ مُرْتَهَنْ (¬1) قال ابن إسحاق (¬2): واتخذ أهلُ كل دارٍ في دارهم صنمًا يعبدونه، فإذا أراد رجل منهم سفرًا تمسّح به، وإذا قدم من سفر تمسّح به، فيكون آخرُ عهدِهِ به، وأولُ عهده به، فلما بعث الله محمدًا - صلى الله عليه وسلم - بالتوحيد قالت قريش: {أَجَعَلَ الْآلِهَةَ إِلَهًا وَاحِدًا إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عُجَابٌ} [ص: 5]. وكانت العرب قد اتخذت مع الكعبة طواغيت، وهى بيوتٌ تعظمها كتعظيم الكعبة، لها سدنة وحُجّاب، ويُهدى لها كما يُهدى للكعبة، ويُطاف بها كما يُطاف بالكعبة، ويُنحر عندها كما يُنحر عند الكعبة. وكان الرجل إذا سافر فنزل منزلًا، أخذَ أربعة أحجار، فنظر إلى أحسنها، فاتخذه رَبًّا، وجعل الثلاثة أثافيّ لقِدْره، فإذا ارتحل تركه، فإذا نزل منزلًا آخر فعل مثل ذلك (¬3). قال حنبل (¬4): حدثنا حسن بن الربيع، قال: حدثنا مهديّ بن ميمون، ¬

_ (¬1) الأبيات في المصدر السابق والبداية والنهاية (4/ 414) والأشطار الثلاثة الأولى في كتاب العين (5/ 141). (¬2) انظر: السيرة النبوية لابن هشام (1/ 209). (¬3) انظر: كتاب الأصنام (ص 33)، وتلبيس إبليس (ص 55). (¬4) رواه البيهقي في الدلائل (5/ 333) وابن الجوزي في تلبيس إبليس (ص 55) من طريق حنبل، ورواه البخاري (4117) عن الصلت بن محمد عن مهدي بن ميمون به نحوه.

قول أبي رجاء العطاردي: "كنا نعبد الأحجار في الجاهلية فإذا وجدنا حجرا هو أحسن نلقي ذلك ونأخذه، فإذا لم نجد حجرا جمعنا كثبة تراب ثم حلبنا عليها، ثم طفنا بها"

قال: سمعت أبا رجاء العُطارِديّ يقول: لما بُعث النبي - صلى الله عليه وسلم - فسمعنا به لحقنا بمسيلِمة الكذاب، فلحقنا بالنار، قال: وكنا نعبدُ الحجر في الجاهلية، فإذا وجدنا حجرًا هو أحسن منه نُلقي ذلك ونأخذه، فإذا لم نجد حجرًا جمعنا حَثْيَةً من تُراب، ثم جئنا بغَنَم، فحلبناها عليه، ثم طُفنا به. وقال أبو رجاء (¬1) أيضا: كنا نَعْمِد إلى الرّملِ فنجمعه، ونحلب عليه، فنعبده، وكنا نعمد إلى الحجر الأبيض، فنعبده زمانًا، ثم نلقيه. وقال أبو بكر بن أبى شيبة (¬2): حدثنا يزيد بن هارون، أخبرنا الحجاج بن أبى زينب، قال: سمعت أبا عثمان النّهديّ يقول: كنا في الجاهلية نعبدُ حجرًا، فسمعنا مناديًا ينادي: يا أهل الرحال! إن ربكم قد هلك، فالتمسوا ربًّا، قال: فخرجنا على كل صعب وذلول، فبينما نحن كذلك نطلبه، إذا نحن بمنادٍ ينادي: إنا قد وجدنا ربكم، أو شِبْهه، فإذا حجرٌ، فنحرنا عليه الجُزُر. وقال محمد بن سعد (¬3): أخبرنا محمد بن عمر، قال: حدثني ¬

_ (¬1) رواه أبو نعيم في الحلية (2/ 306)، ومن طريقه ابن الجوزي في تلبيس إبليس (ص 55 - 56). (¬2) مصنف ابن أبي شيبة (7/ 17)، ومن طريقه رواه الخطيب في تاريخه (10/ 204) وابن الجوزي في تلبيس إبليس (ص 56). ورواه ابن سعد في الطبقات (7/ 97) عن يزيد بن هارون به. ورواه الدينوري في المجالسة (1009) عن زيد بن إسماعيل، وأبو نعيم في معرفة الصحابة من طريق زياد بن أيوب، وابن عساكر في تاريخه (35/ 471) من طريق محمد بن عبد الملك الواسطي، ثلاثتهم عن يزيد بن هارون به. (¬3) الطبقات الكبرى (4/ 217)، ومن طريقه رواه ابن عساكر في تاريخ دمشق (46/ 264) وابن الجوزي في تلبيس إبليس (ص 56).

تكسير رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الأصنام التي كانت فوق الكعبة وحولها يوم فتح مكة

الحجاج بن صفوان، عن ابن أبى حسين، عن شَهر بن حَوْشب، عن عمرو بن عَبَسة، قال: كنت امرءًا ممن عبد الحجارة، فينزل الحي ليس معهم إله، فيخرجُ الرجل منهم، فيأتي بأربعة أحجار، فينصب ثلاثة لقِدْره، ويجعل أحسنها إلهَا يعبده، ثم لعلّه يجد ما هو أحسنُ منه قبل أن يرتحل، فيتركه ويأخذ غيره. ولما فتح رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مكة وجد حول البيت ثلاث مئة وستين صنمًا، فجعل يَطعَنُ بِسِيَةِ قَوْسه في وُجوهها وعيونها، ويقول: {جَاءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْبَاطِلُ إِنَّ الْبَاطِلَ كَانَ زَهُوقًا} [الإسراء: 81]، وهى تتساقط على رؤوسها، ثم أمر بها، فأُخْرِجت من المسجد وحُرّقت (¬1). فصل وتلاعُبُ الشيطان بالمشركين في عبادة الأصنام له أسباب عديدة، تلاعبَ بكل قوم على قدر عقولهم: فطائفةٌ دعاهم إلى عبادتها من جهة تعظيم الموتى، الذين صوّرُوا تلك الأصنام على صورهم، كما تقدم عن قوم نوح عليه السلام، ولهذا لعنَ النبي - صلى الله عليه وسلم - المتخذين على القبور المساجدَ والسُّرج، ونهى عن الصلاة إلى القبور، وسأل ربه سبحانه أن لا يجعل قبره وثنًا يُعبد، ونهى أمّته أن يتخذوا قبره عيدًا، وقال: "اشتدَّ غضبُ الله على قوم اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد"، وأمر بتسوية القبور، وطَمْسِ التماثيل (¬2). ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري (2478)، ومسلم (1781) عن ابن مسعود. (¬2) تقدم تخريج هذه الأحاديث.

خواصق المشركين اتخذوا الأصنام على صور الكواكب، وجعلوا لها بيوتا وسدنة وحجا

فأبى المشركون إلا خلافَه في ذلك كله، إما جهلًا، وإما عنادًا لأهل التوحيد، ولم يضرّهم ذلك شيئًا، وهذا السبب هو الغالبُ على عوامِّ المشركين. وأما خواصّهم: فإنهم اتخذوها بزعمهم على صُور الكواكِب المؤثِّرة في العالم عندهم، وجعلوا لها بيوتًا، وسَدَنَةً، وحُجّابًا، وحَجًّا، وقُربانًا، ولم تزل هذه في الدنيا قديمًا وحديثًا. فمنها: بيتٌ على رأس جبل بأصبهان، كان به أصنام، أخرجها بعض ملوك المجوس، وجعله بيت نارٍ. ومنها: بيتٌ ثان وثالثٌ ورابعٌ بصنعاء، بناه بعض المشركين على اسم الزهرة، فخرَّبه عثمان بن عفان (¬1) رضي الله تعالى عنه. ومنها: بيت بناه قابوس الملك على اسم الشمس بمدينة فَرْغَانَة، فخرَّبَهُ المعتصم. وأشد الأمم في هذا النوع من الشرك: الهند. قال يحيى بن بِشْر: إن شريعة الهند وضعها لهم رجلٌ يقال له: بَرَهْمَنْ، ووضعَ لهم أصنامًا، وجعل أعظم بيوتها بيتًا بمدينة من مدائن السِّنْدِ، وجعل فيه صنمهم الأعظم، وزَعم أنه بصورة الهَيُولَى الأكبر، وفُتحت هذه المدينة في أيام الحجاج، واسمها المُلْتان، فأراد المسلمون قَلْعَ الصنم، فقيل لهم: إن تركتموه ولم تقلعوه جعلنا لكم ثُلُثَ ما يجتمع له من المال، فأمر ¬

_ (¬1) انظر: مروج الذهب للمسعودي (2/ 535)، والملل والنحل للشهرستاني (2/ 234)، وتلبيس إبليس (ص 56)، وتفسير الرازي (2/ 105)، ومعجم البلدان (4/ 211).

الهند تحج إليه من ألفي فرسخ وتحمل معها الأموال العظيمة

عبد الملك بن مروان بتركه، فالهند تحجُّ إليه من نحو ألفي فرسخ، ولا بدَّ لمن يحجه أن يحمل معه من النقد ما يمكنه، من مئةٍ إلى عشرة آلاف، لا يكون أقل من هذا ولا أكثر، فيلقيه في صندوق عظيم هناك، ويطوف بالصنم، فإذا ذهبوا ورجعوا إلى بلادهم قُسم ذلك المال، فثلثه للمسلمين، وثلثه لعمارة المدينة وحصونها، وثلثه لسَدَنة الصنم ومصالحه. وأصل هذا المذهب من مشركي الصابئة، وهم قومُ إبراهيم عليه السلام، الذين ناظرهم في بطلان الشرك، وكسر حجتهم بعلمه، وآلهتهم بيده، فطلبوا تحريقه. وهو مذهب قديم في العالم، وأهله طوائف شتَّى. فمنهم عُبّاد الشمس، زعموا أنها مَلَك من الملائكة، لها نفس وعقل، وهى أصلُ نور القمر والكواكب، وتكوُّن الموجودات السفلية كلها عندهم منها، وهي عندهم ملك الفلك، فيستحق التعظيم والسجود والدعاء. ومن شريعتهم في عبادتها: أنهم اتخذوا لها صنمًا، بيده جَوْهَر على لون النار، وله بيت خاص قد بنوه باسمه، وجعلوا له الوقوف الكثيرة من القُرَى والضياع، وله سَدنة وقُوّام وحَجَبة، يأتون البيت ويصلُّون فيه لها ثلاث كَرّات في اليوم، ويأتيه أصحاب العاهات، فيصومون لذلك الصنم ويصلُّون، ويدعونه ويستسقون به، وهم إذا طلعت الشمس سجدوا كلهم لها، وإذا غربت، وإذا توسطت الفَلَك، ولهذا يقارنها الشيطان في هذه الأوقات الثلاثة، لتقع عبادتهم وسجودهم له، ولهذا نهى النبي - صلى الله عليه وسلم - عن تحرّي الصلاة في هذه الأوقات (¬1)، قطعًا لمشابهة الكفار ظاهرًا، وسدًّا لذريعة الشرك وعبادة الأصنام. ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري (3272)، ومسلم (828) عن ابن عمر. وفي الباب أحاديث أخرى.

فصل: عباد القمر اتخذوا له صنما وزعموا أن له تدبير العالم السفلي

فصل وطائفة أخرى: اتخذت للقمر صنمًا، وزعموا أنه يستحق التعظيم والعبادة، وإليه تدبير هذا العالم السفلي. ومن شريعة عبّاده: أنهم اتخذوا له صنمًا على شكل عِجْلٍ، ويجرُّه أربعة، وبيد الصنم جوهرة، ويعبدونه، ويسجدون له، ويصومون له أيامًا معلومة من كل شهر، ثم يأتون إليه بالطعام والشراب، والفرح والسرور، فإذا فرغوا من الأكل أخذوا في الرقص والغناء وأصوات المعازف بين يديه. ومنهم من يعبد أصنامًا اتخذوها على صورة الكواكب وروحانيتها بزعمهم، وبنوا لها هياكلَ ومتعبَّداتٍ، لكل كوكب منها هيكل يخصُّه، وصنم يخصُّه، وعبادة تخصُّه. ومتى أردت الوقوف على هذا فانظر في كتاب "السرّ المكتوم في مخاطبة النجوم" المنسوب إلى ابن خطيب الرَّيّ؛ تعرف سرَّ عبادة الأصنام، وكيفية تلك العبادة وشرائطها. وكل هؤلاء مرجعهم إلى عبادة الأصنام، فإنهم لا تستمرّ لهم طريقة إلا بشخص خاص على شكل خاص، ينظرون إليه، ويعكفون عليه. ومن هاهنا اتخذ أصحاب الروحانيات والكواكب أصنامًا، زعموا أنها على صورها. فوَضْعُ الصنم إنما كان في الأصل على شكل معبودٍ غائب، فجعلوا الصنم على شكله وهيأته وصورته، ليكون نائبًا منابَه، وقائمًا مقامه. وإلا فمن المعلوم أن عاقلًا لا ينحتُ خشبة أو حجرًا بيده، ثم يعتقد أنه إلهه ومعبوده.

من أسباب عبادتها أن الشيطان يكلمهم من جوفها، ويخبرهم ببعض المغيبات

ومن أسباب عبادته أيضًا: أن الشياطين تدخل فيها، وتخاطبهم منها، وتخبرهُم ببعض المغيَّبات، وتَدُلهُّم على بعض ما يخفى عليهم، وهم لا يشاهدون الشياطين. فجهلتهم وسقطهم يظنُون أن الصنم نفسه هو المتكلم المخاطِب! وعقلاؤهم يقولون: إن تلك روحانيات الأصنام! وبعضهم يقول: إنها ملائكة! وبعضهم يقول: إنها العقول المجرّدة! وبعضهم يقول: هي روحانيات الأجرام العلوية! وكثير منهم لا يسأل عمّا عهد، بل إذا سمع الخطاب من الصنم، اتخذه إلهًا، ولا يسأل عمّا وراء ذلك. وبالجملة فأكثر أهل الأرض مفتونون بعبادة الأصنام والأوثان، ولم يتخلّص منها إلا الحُنفاء أتباع مِلّة إبراهيم عليه السلام. وعبادتها في الأرض مِنْ قَبْلِ نوح عليه السلام، كما تقدم، وهياكلها ووقوفها وسدنتها وحُجّابها والكتب المصنفة في شرائع عبادتها طَبَّقَ الأرض. قال إمام الحنفاء: {وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَنْ نَعْبُدَ الْأَصْنَامَ (35) رَبِّ إِنَّهُنَّ أَضْلَلْنَ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ} [إبراهيم: 35, 36]. والأمم التي أهلكها الله بأنواع الهلاك كلهم كانوا يعبدون الأصنام، كما قَصّ الله تعالى ذلك عنهم في القرآن، وأنجى الرسُلَ وأتباعهم من الموحدين. ويكفي في معرفة كثرتهم وأنهم أكثر أهل الأرض: ما صحّ عن النبي - صلى الله عليه وسلم -: "أن بَعْثَ النار من كل ألفٍ تسع مئة وتسعة وتسعون" (¬1). ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري (3348)، ومسلم (222) عن أبي سعيد.

قول الله: {وإن تطع أكثر من في الأرض يضلوك عن سبيل الله} ونحوها

وقد قال تعالى: {فَأَبَى أَكْثَرُ النَّاسِ إِلَّا كُفُورًا} [الإسراء: 89]، وقال تعالى: {وَإِنْ تُطِعْ أَكْثَرَ مَنْ فِي الْأَرْضِ يُضِلُّوكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ} [الأنعام: 116]، وقال: {وَمَا أَكْثَرُ النَّاسِ وَلَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِينَ} [يوسف: 103]، وقال: {وَمَا وَجَدْنَا لِأَكْثَرِهِمْ مِنْ عَهْدٍ وَإِنْ وَجَدْنَا أَكْثَرَهُمْ لَفَاسِقِينَ} [الأعراف: 102]. ولو لم تكن الفتنةُ بعبادة الأصنام عظيمة لما أقدَم عُبّادها على بَذْلِ نفوسهم وأموالهم وأبنائهم دونها، فهم يشاهدون مصارعَ إخوانهم وما حلّ بهم، ولا يزيدهم ذلك إلا حُبًّا لها وتعظيمًا، ويُوصي بعضهم بعضًا بالصبر عليها، وتحمّل أنواع المكاره في نُصرتها وعبادتها، وهم يسمعون أخبار الأمم التي فُتنت بعبادتها، وما حَلّ بهم من عاجل العقوبات، ولا يَثنيهم ذلك عن عبادتها. ففتنة عبادة الأصنام أشدّ من فتنة عِشْق الصّوَر، وفتنة الفجور بها، والعاشق لا يَثْنِيه عن مُراده خَشْيَةُ عقوبة في الدنيا ولا في الآخرة، وهو يشاهدُ ما يحِلّ بأصحاب ذلك من الآلام والعقوبات، والضرب، والحبس، والنكال، والفقر، غيرَ ما أعدّ الله له في الآخرة وفي البَرْزخ، ولا يزيده ذلك إلا إقدامًا وحرصًا على الوصول والظفر بحاجته. فهكذا الفتنة بعبادة الأصنام وأشدّ، فإن تالُّهَ القلوب لها أعظمُ من تألهُّها للصور التي يريدُ منها الفاحشة بكثير. والقرآن بل وسائر الكتب الإلهية من أوّلها إلى آخرها مصرّحة ببطلان هذا الدِّين وكفر أهله، وأنهم أعداءُ لله ورُسله، وأنهم أولياء الشيطان وعُبّاده،

أباح الله لرسوله وأتباعه دماءهم وأموالهم ونساءهم وأبناءهم

وأنهم هم أهل النار الذين لا يخرجون منها، وهم الذين حَلّت بهم المَثُلاتُ، ونزلت بهم العقوبات، وأن الله سبحانه بريء منهم هو وجميع ملائكته، وأنه سبحانه لا يغفرُ لهم، ولا يقبل لهم عملًا. وهذا معلوم بالضرورة من الدِّين الحنيف. وقد أباح الله عز وجل لرسوله وأتباعه من الحنفاء دماءَ هؤلاء، وأموالهم، ونساءهم، وأبناءهم، وأمَرَهُمْ بتطهير الأرض منهم حيث وُجِدوا، وذَمَّهم بسائر أنواع الذمّ، وتوعدهم بأعظم أنواع العقوبة، فهؤلاء في شِقٍّ، ورسل الله تعالى كلهم في شِقٍّ. فصل ومن أسباب عبادة الأصنام: الغلوّ في المخلوق، وإعطاؤه فوقَ منزلته، حتى جُعل فيه حَظّ من الإلهية، وشبّهوه بالله سبحانه وتعالى، وهذا هو التشبيه الواقعُ في الأمم، الذي أبطله الله سبحانه، وبعثَ رُسله، وأنزل كتبه بإنكاره والرد على أهله. فهو سبحانه يَنْفي وينهى أن يجُعل غيرُه مِثْلًا له، ويدًّا له، وشبْهًا له، لا أن يُشَبَّه هو بغيره، إذ ليس في الأمم المعروفة أمة جعلته سبحانه مِثلاً لشيء من مخلوقاته، فجعلت المخلوق أصلًا وشَبَّهتْ به الخالق، فهذا لا يُعرفُ في طائفة من طائفة بني آدم. وإنما الأولُ هو المعروف في طوائف أهل الشرك، غُلوًّا فيمن يُعظِّمونه ويحبُّونه، حتى شبَّهوه بالخالق، وأعطوه خصائص الإلهية، بل صرّحوا أنه إله، وأنكروا جَعْلَ الآلهة إلهًا واحدًا، وقالوا: {وَاصْبِرُوا عَلَى آلِهَتِكُمْ} [ص: 6]، وصرحوا بأنه إله معبود، يُرجَى ويُخافُ،

كل مشرك فهو مشبه لإلهه ومعبوده بالله سبحانه، وإن لم يشبهه به من كل وجه

ويُعظّم ويُسجدُ له، ويُحلَف باسمه، وتُقرَّب إليه القرابين، إلى غير ذلك من خصائص العبادة التي لا تنبغي إلا لله تعالى. فكل مشرك فهو مُشَبِّهٌ إلهه ومعبوده بالله سبحانه، وإن لم يُشَبّهه به من كل وجه، حتى إن الذين وصفوه سبحانه بالنقائص والعيوب، كقولهم: إنه فقيرٌ، وإن يده مغلولةٌ، وإنه استراح لمَّا فرغ من خلق العالم، والذين جعلوا له ولدًا وصاحبة، تعالى الله عن ذلك علوًّا كبيرًا: لم يكن قصدُهم أن يجعلوا المخلوق أصلاً، ثم يشبهون به الخالق تعالى، بل وصفوه بهذه الأشياء استقلالاً، لا قصدًا أن يكون غيرُه أصلاً فيها وهو مشبَّه به. ولهذا كان وصفه سبحانه بهذه الأمور من أبطل الباطل، لكونها في نفسها نقائصَ وعيوبًا، ليس جهة البطلان في اتصافه بها هو التشبيه والتمثيل، فلا يُتَوَقَّفُ في نفيها عنه على ثبوت انتفاء التشبيه، كما يفعله بعض أهل الكلام الباطل، حيث صرَّح بأنه لا يقوم دليل عقلي على انتفاء النقائص والعيوب عنه، وإنما تُنفى عنه لاستلزامها التشبيه والتمثيل. وهؤلاء إذا قال لهم الواصفون لله سبحانه بهذه الصفات: نحن نُثبتها له على وجهٍ لا يُماثل فيها خلقه، بل نُثبت له فقرًا وصاحبةً وإيلادًا لا يماثل فيه خلقه، كما تثبتون أنتم له علمًا وقدرة وحياة وسمعًا وبصرًا لا يماثل فيه خلقه، فقولنا في هذا كقولكم فيما أثبتموه سواءً = لم يتمكنوا من إبطال قولهم، ويصيرون أكفاء لهم في المناظرة، فإنهم قد أعْطوهم أنه لا يقوم دليل عقلي على انتفاء النقائص والعيوب، وإنما ننفي ما نُفي عنه لأجل التشبيه والتمثيل، وقد أثبتوا له صفاتٍ على وجه لا يستلزم التشبيه، فقال أولئك: وهكذا نقول نحن.

أهل السنة يقولون: إن تنزيهه سبحانه عن النقائص والعيوب واجب لذاته كما أن صفات الحمد والكمال واجبة لذاته

ولمّا عرف (¬1) بعضهم أن هذا لازم له لا محالة استروح إلى دليل الإجماع، وقال: إنما نفينا النقائص والعيوب عنه بالإجماع، وعندهم أن الإجماع أدلّته ظنية لا تفيدُ اليقين، فليس عند القوم يقين وقطعٌ بأن الله سبحانه منزَّه عن النقائص والعيوب. وأهلُ السنة يقولون: إن تنزيهه سبحانه عن العيوب والنقائص واجبٌ لذاته، كما أن إثباتَ صفات الكمال والحمد واجب له لذاته، وهو أظهرُ في العقول، والفِطَر، وجميع الكتب الإلهية، وأقوال الرسل من كل شيء. ومن العَجَب أن هؤلاء جاءوا إلى ما عُلم بالاضطرار أن الرسل جاءوا به، ووصفوا الله سبحانه به، ودلّت عليه العقول والفِطرُ والبراهينُ؛ فنفوه، وقالوا: إثباته يستلزم التجسيم والتشبيه، فلم يثبت لهم قدَم البتة فيما يثبتونه له سبحانه وينفونه عنه، وجاءوا إلى ما عُلم بالاضطرار، والفطر، والعقول، وجميع الكتب الإلهية، مِنْ تنزيه الله سبحانه عن كل نقص وعيب، فقالوا: ليس في أدلة العقل ما ينفيه، وإنما ننفيه بما ننفي به التشبيه. وليس في الخذلان فوق هذا، بل إثباتُ هذه العيوب والنقائص يُضادّ كماله المقدَّس، وهو سبحانه موصوفٌ بما يُضادُّها ويناقضها من كل وجه، ونفيُها أظهر وأبينُ في العقول من نفي التشبيه، فلا يجوز أن يثبت له على وجه لا يشابه فيه خلقه. والمقصود أنه لم يكن في الأمم مَنْ مَثّله بخلقه، وجعل المخلوق أصلاً ثم شَبّهه به، وإنما كان التمثيلُ والتشبيهُ في الأمم، حيث شبَّهوا أوثانهم ¬

_ (¬1) في م: "اعترف".

إنما قصد القرآن إلى إبطال ما عليه المشركون العادلون بالله غيره

ومعبودهم به في الإلهية، وهذا التشبيه هو أصل عبادة الأصنام، فأعرض عنه وعن بيان بطلانه أهل الكلام، وصرفوا العناية إلى إنكار تشبيهه بالخلق الذي لم تُعرف أمةٌ من الأمم عليه، وبالغوا فيه، حتى نفوا به عنه صفات الكمال. وهذا موضع مهمٌّ نافع جدًّا، به يُعرف الفرق بين ما نَزّهَ الرب سبحانه نفسه عنه، وذمّ به المشركين المشبِّهين العادلين به خلقه، وبين ما ينفيه الجهمية المعطلة من صفات كماله، ويزعمون أن القرآن دلّ عليه وأُريد به نفيه. والقرآن مملوءٌ من إبطال أن يكون في المخلوقات ما يُشبه الرب تعالى أو يماثله، فهذا هو الذي قُصد بالقرآن إبطالًا لما عليه المشركون والمشبهون العادلون بالله تعالى غيره. قال تعالى: {فَلَا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْدَادًا وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ} [البقرة: 22]، وقال: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْدَادًا يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ} [البقرة: 165]. فهؤلاء جعلوا المخلوق مِثْلًا للخالق، فالنِّدُّ: الشّبْهُ، يقال فلان نِدُّ فلان ونديده، أي: مثله وشبهه، ومنه قول حسان بن ثابت (¬1): أَتهجُوهُ وَلَسْتَ لَهُ بِنِدٍّ ... فَشَرُّكُمَا لِخَيْرِكُمَا الْفِداءُ ومنه قول النبي - صلى الله عليه وسلم - لمن قال له: ما شاء الله وشئت: "أجعلتني له نِدًا؟ " (¬2). ¬

_ (¬1) في ديوانه (ص 76) طبعة حنفي حسنين. (¬2) رواه ابن أبي شيبة (5/ 340، 6/ 74) وأحمد (1/ 214، 224، 283، 347) والبخاري في الأدب المفرد (783) والنسائي في الكبرى (10825) وابن ماجه =

قول ابن مسعود وابن عباس في قوله تعالى: {فلا تجعلوا لله أندادا}: "لا تجعلوا لله أكفاء من الرجال تطيعونهم في معصية الله"

وقال جرير (¬1): أَأَنْتُمْ تجعَلُونَ إِليّ نِدًّا ... وَمَا تَيْمٌ لِذِي حَسَبٍ نَدِيدُ قال ابن مسعود وابن عباس (¬2): لا تجعلوا لله أكفاءَ من الرجال، تطيعونهم في مَعْصِية الله. وقال ابن زيد (¬3): الأنداد: الآلهة التي جعلوها معه. وقال الزجَّاج (¬4): أي لا تجعلوا لله أمثالًا. فالذي أنكره الله سبحانه عليهم: تشبيه المخلوق به، حتى جعلوه ندًّا لله تعالى، يَعْبُدونه كما يعبدون الله. وكذلك قوله في الآية الأخرى: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْدَادًا يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ} [البقرة: 165]، فأنكر هذا التشبيه عليهم، وهو أصلُ عبادة الأصنام. ¬

_ = (2117) وابن أبي الدنيا في الصمت (342) والطحاوي في شرح المشكل (1/ 218) والطبراني في الكبير (12/ 244) وأبو نعيم في الحلية (4/ 99) وغيرهم من طرق عن الأجلح الكندي عن يزيد بن الأصم عن ابن عباس مرفوعا، وقيل: عن الأجلح عن أبي الزبير عن جابر، والأجلح مختلف فيه، وصححه ابن القيم في المدارج (1/ 344) وفي الجواب الكافي (ص 93)، وحسنه العراقي في المغني (3066)، وهو في السلسلة الصحيحة (139). وفي الباب عن جابر بن سمرة وحذيفة وقُتيلة رضي الله عنهم. (¬1) ديوانه (1/ 164) طبعة الصاوي. (¬2) رواه الطبري في تفسيره (482) عنهما وعن ناسٍ من أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم -. (¬3) رواه الطبري في تفسيره (483)، وابن أبي حاتم في تفسيره (7089، 16510). (¬4) معاني القرآن (1/ 99).

قول الله تعالى: {ثم الذين كفروا بربهم يعدلون}، ومعناها

ونظيرُ هذا قولهُ سبحانه: {الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَجَعَلَ الظُّلُمَاتِ وَالنُّورَ ثُمَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ} [الأنعام: 1]، أي: يعدلون به غيره، فيجعلون له من خَلقِه عِدْلًا وشِبْهًا. قال ابن عباس (¬1): يريد: عدلوا بي مِنْ خَلْقِي الحجارةَ والأصنامَ، بعد أن أقرُّوا بنعمتي وربوبيتي. وقال الزجاج (¬2): أعلم الله سبحانه أنه خالق ما ذكر في هذه الآية، وأن خالقها لا شيء مثله، وأعلم أن الكفار يجعلون له عديلًا. والعَدْلُ: التسويةُ، يقال: عدَل الشيءَ بالشيء: إذا سَوّاه، ومعنى يعدلون به: يشركون به غيره. قاله مجاهد (¬3). قال الأحمر: يقال: عَدلَ الكافرُ بربِّه عدلًا وعدولًا، إذا سوّى به غيره فعبَده. وقال الكِسائيّ: عدلتُ الشيء بالشيء أعدِله عدولًا، إذا ساويته به. ومثله قوله تعالى عن هؤلاء المشبِّهين إنهم يقولون في النار لآلهتهم: {تَاللَّهِ إِنْ كُنَّا لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (97) إِذْ نُسَوِّيكُمْ بِرَبِّ الْعَالَمِينَ} [الشعراء: 97, 98]، فاعترفوا أنهم كانوا في أعظم الضلال وأبينه، إذ جعلوا لله شِبْهًا وعِدْلًا من ¬

_ (¬1) أقوال المفسرين منقولة من البسيط للواحدي (8/ 9، 10). (¬2) معاني القرآن (2/ 227). (¬3) رواه الطبري في تفسيره (13044) وابن أبي حاتم في تفسيره (7088، 16509) من طريق ابن أبي نجيح عن مجاهد، وعزاه في الدر المنثور (3/ 248) لابن أبي شيبة وعبد بن حميد وابن المنذر وأبي الشيخ.

قوله تعالى: {هل تعلم له سميا}

خلقه، سَوَّوهم به في العبادة والتعظيم. وقال تعالى: {رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا فَاعْبُدْهُ وَاصْطَبِرْ لِعِبَادَتِهِ هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيًّا} [مريم: 65]. قال ابن عباس (¬1): شبهًا ومثلًا، وهو مَنْ يُسامِيْه. وذلك نفي عن المخلوق أن يكون مشابهًا للخالق ومماثلًا له، بحيث يستحقّ العبادة والتعظيم، ولم يقل سبحانه: هل تعلمه سَمِيًّا أو مشبَّهًا لغيره، فإن هذا لم يقله أحد، بل المشركون المشبّهون جعلوا بعض المخلوقات مُشابهًا له مساميًا وندًّا وعِدْلًا، فأنكر عليهم هذا التشبيه والتمثيل. وكذلك قوله {وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَمْلِكُ لَهُمْ رِزْقًا مِنَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ شَيْئًا وَلَا يَسْتَطِيعُونَ (73) فَلَا تَضْرِبُوا لِلَّهِ الْأَمْثَالَ} [النحل: 73, 74]، فنهاهم أن يضربوا له مثلًا من خلقه، ولم ينههم أن يضربوه هو مثلًا لخلقه، فإن هذا لم يقله أحدٌ، ولم يكونوا يفعلونه، فإن الله سبحانه أجل وأعظم وأكبر من كل شيء في فِطَر الناس كلهم، ولكن المشبِّهون المشركون يَغْلُون فيمن يعظمونه، فيشبّهونهم بالخالق، والله تعالى أجلّ في صدور جميع الخلق من أن يجعلوا غيره أصلًا، ثم يشبهونه سبحانه بغيره. ¬

_ (¬1) رواه الطبري في تفسيره (18/ 226) وابن مردويه -كما في تغليق التعليق (4/ 34) - والبيهقي في الشعب (1/ 143) وفي الأسماء والصفات (610) وفي الاعتقاد (ص 45) من طريق علي بن أبي طلحة عن ابن عباس، ورواه الطبري (18/ 226) أيضًا من طريق الحسن بن عمارة عن رجل عن ابن عباس، وعزاه في الدر المنثور (5/ 532) لابن المنذر وابن أبي حاتم.

المشبه الله بغيره إن قصد التعظيم لم يكن تعظيما

فإن الذي يشبِّهه بغيره: إن قصد تعظيمه لم يكن في هذا تعظيم، لأنه مَثّل أعظم العظماء بما هو دونه، بل بما ليس بينه نسبة في العظمة والجلالة، وعاقلٌ لا يفعل ذلك. وإن قصد التنقُّص شبَّهه بالناقصين المذمومين، لا بالكاملين الممدوحين. ومن هنا يُعلم أن إثبات صفات الكمال له لا يتضمن التشبيه والتمثيل، لا بالكاملين ولا بالناقصين، وأن نفي تلك الصفات يستلزمُ تشبيهه بأنقص الناقصين. فانظر إلى الجهمية وأتباعهم، جاءوا إلى التشبيه المذموم، فأعرضوا عنه صفحًا، وجاءوا إلى الكمال والمدح، فجعلوه تشبيهًا وتمثيلًا، عكس ما بيَّنه القرآن، وجاء به من كُلّ وجهٍ. ومن هذا قوله تعالى: {وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ} [الإخلاص: 4]، هو سَلْبٌ عن المخلوق مكافأته ومماثلته للخالق سبحانه، ولم يقل: ولم يكن هو كفوًا لأحد، فينفي عن نفسه مشابهته للمخلوق ومكافأته له، إذ كان ذلك أبين وأظهر من أن يُحتاج إلى نفيه. وسرُّ ذلك أن المقصود أن المخلوق لا يماثله سبحانه في شيء من صفاته وخصائصه، وأما كونه سبحانه هو لا يماثل المخلوق ولا يشابهه، ولا هو نِدًّا له ولاكفؤًا، فليس فيه مدح له. فإنه لو مُدِح بعضُ الملوك أو غيرهم بأنه لا يشبه الحيوانات، ولا الحجارة، ولا الخشب، ونحو ذلك = لم يُعَدّ هذا مدحًا، ولا ثناءً عليه، ولا كمالًا له. بخلاف ما إذا قيل: لا تجعل للملك نِدًّا، ولا كفؤًا، ولا شبيهًا من

قوله: {ليس كمثله شيء وهو السميع البصير} لم يقصدبه نفي صفات كماله وعلوه على خلقه ونحوها، وإنما قصد به نفي شريك يستحق العبادة معه

رعيَّته، تعظّمه كتعظيمه، وتطيعه كطاعته، فإنه ليس في رعيته من يُساميه، ولا يماثله، ولا يكافيه = كان هذا غاية المدح. وكذلك قول سبحانه: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} [الشورى: 11] , إنما قصد به نفي أن يكون معه شريك أو معبود يستحق العبادة والتعظيم، كما يفعله المشبِّهون والمشركون، ولم يقصد به نفي صفات كماله، وعلوّه على خلقه، وتكلُّمه بكتبه، وتكليمه لرسله، ورؤية المؤمنين له جَهْرةً بأبصارهم، كما يُرى الشمس والقمر في الصّحْو، فإنه سبحانه إنما ذكر هذا في سياق ردّه على المشركين، الذي اتخذوا من دونه أولياء، يوالونهم من دونه، فقال تعالى: {وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ اللَّهُ حَفِيظٌ عَلَيْهِمْ وَمَا أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِوَكِيلٍ (6) وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لِتُنْذِرَ أُمَّ الْقُرَى وَمَنْ حَوْلَهَا وَتُنْذِرَ يَوْمَ الْجَمْعِ لَا رَيْبَ فِيهِ فَرِيقٌ فِي الْجَنَّةِ وَفَرِيقٌ فِي السَّعِيرِ (7) وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَعَلَهُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَكِنْ يُدْخِلُ مَنْ يَشَاءُ فِي رَحْمَتِهِ وَالظَّالِمُونَ مَا لَهُمْ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا نَصِيرٍ (8) أَمِ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ فَاللَّهُ هُوَ الْوَلِيُّ وَهُوَ يُحْيِ الْمَوْتَى وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (9) وَمَا اخْتَلَفْتُمْ فِيهِ مِنْ شَيْءٍ فَحُكْمُهُ إِلَى اللَّهِ ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبِّي عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ (10) فَاطِرُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا وَمِنَ الْأَنْعَامِ أَزْوَاجًا يَذْرَؤُكُمْ فِيهِ لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} [الشورى: 6 - 11]. فتأمل كيف ذكر هذا النفي تقريرًا للتوحيد، وإبطالًا لما عليه أهلُ الشرك، من تشبيه آلهتهم وأوليائهم به حتى عبدوهم معه، فحرّفها المحرّفون وجعلوها تُرْسًا لهم في نفي صفات كماله، وحقائق أسمائه وأفعاله.

نهي النبي - صلى الله عليه وسلم - أن يسجد أحد لمخلوق أو يحلف به، أو يصلي إلى قبره، أو يتخذ قبره مسجدا، أو يعلق عليه قنديل

وهذا التشبيه الذي أبطله الله سبحانه نَفيًا ونهَيًا هو أصل شرك العالم وعبادة الأصنام، ولهذا نهَى النبي - صلى الله عليه وسلم - أن يسجُدَ أحدٌ لمخلوق مثله (¬1)، أو يحلف بمخلوق، أو يُصليّ إلى قبرٍ، أو يتخذ عليه مسجدًا، أو يُعلّق عليه قنديلا، أو يقول القائل ما شاء الله وشاء فلان، ونحو ذلك، حذرًا من هذا التشبيه الذي هو أصلُ الشرك. أما إثبات صفات الكمال فهو أصل التوحيد. فتبين أن المشبّهة هم الذين يُشَبّهون المخلوق بالخالق في العبادة، والتعظيم، والخضوع، والحَلِف به، والنّذْر له، والسجود له، والعُكوف عند بيته، وحلق الرأس له، والاستغاثة به، والتشريك بينه وبين الله في قولهم: ليس لي إلا الله وأنت، وأنا مُتكلٌ على الله وعليك، وهذا من الله ومنك، وأنا في حسب الله وحسبك، وما شاء الله وشئت، وهذا لله ولك، وأمثال ذلك. فهؤلاء هم المشبِّهة حقَّا، لا أهل التوحيد المثبتون لله ما أثبت لنفسه، والنافون عنه ما نفاه عن نفسه، الذين لا يجعلون له ندًّا من خلقه، ولا عدلًا، ولا كُفؤًا، ولا سَمِيًّا، وليس لهم من دونه وليّ ولا شفيع. ¬

_ (¬1) كما في حديث: "ما ينبغي لأحد أن يسجدَ لأحد ... " رواه الترمذي (1159) والبزار (8023) والبيهقي في الكبرى (7/ 291) من طريق محمد بن عمرو عن أبي سلمة عن أبي هريرة، قال الترمذي: "حديث حسن غريب"، وصححه ابن حبان (4162) واللفظ له، وحسنه الهيثمي في المجمع (8/ 561)، والألباني في الإرواء (1998). وفي الباب عن أنس بن مالك وجابر وأبي واقد ومعاذ بن جبل وعبد الله بن أبي أوفي وبريدة وقيس بن سعد وابن عباس وسراقة بن مالك وزيد بن أرقم وصهيب وغيلان بن سلمة وعصمة بن مالك وعائشة وغيرهم.

فصل: ومن كيده ما كاد به عباد النار

فمن تدبَّر هذا الفصل حَقّ التدبر تبيَّن له كيف وقعت الفتنة في الأرض بعبادة الأصنام، وتبيّن له سرُّ القرآن في الإنكار على هؤلاء المشبهة الممثلة، ولا سيَّما إذا جمعوا إلى هذا التشبيه تعطيلَ الصفات والأفعال، كما هو الغالب عليهم، فيجمعون بين تعطيل الرب سبحانه عن صفات كماله، وتشبيه خلقه به. فصل ومن كيده وتلاعبه: ما تلاعب بعبّاد النار، حتى اتخذوها آلهةً معبودةً. وقد قيل: إن هذا كان من عهد قابيل، كما ذكر أبو جعفر محمد بن جرير (¬1): أنه لما قتلَ قابيلُ هابيلَ وهرب من أبيه آدم عليه السلام، أتاه إبليس، فقال له: إن هابيل إنما قُبل قُرْبانه وأكلته النار، لأنه كان يخدُمها ويعبدها، فانصِبْ أنت أيضًا نارًا تكون لك ولعَقِبك، فبنى بيت نار، فهو أوّلُ من نصب النار وعبدها. وسرى هذا المذهب في المجوس، فبنوا لها بيوتًا كثيرة، واتخذوا لها الوقوف والسدنة والحُجّاب، فلا يدعونها تَخْمُدُ لحظةً واحدة، فاتخذ لها أفريدون بيتًا بطوس، وآخر ببخارى، واتخذ لها بهمنُ بيتًا بسجستان، واتخذ لها أبو قباذ بيتًا بناحية بُخارى، واتُّخذت لها بيوت كثيرة. ¬

_ (¬1) في تاريخه (1/ 165). ويعارضه قول ابن عباس: "كان بين آدم ونوح عشرة قرون كلهم على الإسلام". أخرجه الحاكم في المستدرك (2/ 442، 546). قال ابن كثير في البداية والنهاية (1/ 238): "هذا يردُّ قول من زعم من أهل التواريخ وغيرهم من أهل الكتاب أن قابيل وبنيه عبدوا النار، والله أعلم".

بشار بن برد الشاعر كان يرمى بتعظيم النار

وعُبّاد النار يُفَضّلونها على التراب، ويعظِّمونها، ويصوِّبون رأي إبليس. وقد رُمي بَشَّار بن بُرْد بهذا المذهب لقوله في قصيدته (¬1): الأَرْضُ سَافِلَةٌ سَوْدَاءُ مُظْلِمَةٌ ... وَالنَّارُ مَعْبُودَةٌ مُذْ كانَتِ النَّارُ ويقولون: إنها أوسع العناصر خيرًا، وأعظمها جِرْمًا، وأوسعها مكانًا، وأشرفها جوهرًا، وألطفها جسمًا، ولا كوْن في العالم إلا بها، ولا نُموَّ ولا انعقادَ إلا بممازجتها. ومن عبادتهم لها: أن يحفروا لها أُخدودًا مُرَبّعًا في الأرض، ويطوفون به. وهم أصنافٌ مختلفة: فمنهم: من يُحرّم إلقاء النفوس فيها، وإحراق الأبدان بها، وهم أكثر المجوس. وطائفة أخرى منهم مَن تبلغُ بهم عبادتهم لها إلى أن يُقرّبوا أنفسهم وأولادهم لها، وهؤلاء أكثر ملوك الهند [145 ب] وأتباعهم، ولهم سُنة معروفة في تقريب نفوسهم، وإلقائهم فيها، فيَعمِدُ الرجل الذي يريد أن يفعل ذلك بنفسه أو بولده أو حبيبه، فيُجَمّله ويُلبسه أحسن اللباس، وأفخر الحُليِّ، ويركب أعلى المراكب، وحول المعازف والطبول والبوقات، فيُزَفّ إلى النار أعظم من زفافه ليلة عرسه، حتى إذا ما قابلها ووقف عليها وهى تأجَّجُ ¬

_ (¬1) البيت في البيان والتبيين (1/ 16) وكامل المبرد (3/ 1111) والأغاني (3/ 145) ووفيات الأعيان (1/ 273)، وملحقات ديوان بشار (4/ 78). قال الشيخ محمد الطاهر بن عاشور: "ولا إخاله صحيح النسبة إليه".

فصل: ومن كيده وتلاعبه بعئاد الماء، وكيفية عبادتهم

طرحَ نفسه فيها، فضجَّ الحاضرون ضَجّةً واحدةً بالدعاء له، وغِبْطةً على ما فعل، فلم يلبث إلا يسيرًا، حتى يأتيهم الشيطان في صورته وشكله وهيأته، لا ينكرون منه شيئًا، فيأمرهم بأمره، ويوصيهم بما يوصيهم به، ويوصيهم بالتمسُّك بهذا الدين، ويخبرهم أنه صار إلى جَنّة ورياض وأنهار، وأنه لم يتألم بمسّ النار له، فلا يَهولنَّهم ذلك، ولا يمنعنَّهم عن أن يفعلوا مثله. ومنهم: زُهّاد وعبَّاد، يجلسون حول النار صائمين عاكفين عليها. ومن سُنّتهم: الحث على الأخلاق الجميلة، كالصدق، والوفاء، وأداء الأمانة، والعفة، والعدل، وترك أضدادها، ولهؤلاء شرائعُ في عبادتها ونواميس وأوضاع لا يُخِلّون بها. فصل ومن كَيده وتلاعبه: تلاعبه بطائفة أخرى تَعْبُدُ الماء من دون الله، وتُسَمّى الحلبانية. وتزعم أن الماء لما كان أصل كل شيء، وبه كلُّ ولادة ونموّ ونشوء، وطهارة وعمارة (¬1)، وما من عمل في الدنيا إلا ويحتاج إلى الماء، فكان حقه أن يُعبَد. ومن شريعتهم في عبادته: أن الرجل منهم إذا أراد عبادته تجرَّد، وستر عورته، ثم دخل فيه، حتى يصير إلى وسطه، فيقيم هناك ساعتين، أو أكثر، بقدر ما أمكنه، ويكون معه ما يمكنه أخذه من الرياحين، فيقطعها صغارًا، فيلقيها فيه شيئًا فشيئًا، وهو يُسبّحه ويمجِّده، فإذا أراد الانصراف حرك الماء بيديه، ثم أخذ منه، فيضعه على رأسه ووجهه وجسده، ثم يسجد وينصرف. ¬

_ (¬1) م: "عبادة". والمثبت من باقي النسخ.

فصل: ومن كيده وتلاعبه تلاعبه بعباد الحيوان، الخيل والبقر

فصل ومن تلاعبه: تلاعبُهُ بعبّاد الحيوانات، فطائفة عبدت الخيل، وطائفة عبدت البقر، وطائفة عبدت البشر الأحياء والأموات، وطائفة تعبد الشجر، وطائفة تعبدُ الجن، كما قال سبحانه: {وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ جَمِيعًا ثُمَّ يَقُولُ لِلْمَلَائِكَةِ أَهَؤُلَاءِ إِيَّاكُمْ كَانُوا يَعْبُدُونَ (40) قَالُوا سُبْحَانَكَ أَنْتَ وَلِيُّنَا مِنْ دُونِهِمْ بَلْ كَانُوا يَعْبُدُونَ الْجِنَّ أَكْثَرُهُمْ بِهِمْ مُؤْمِنُونَ} [سبأ: 40، 41]. وقال تعالى: {أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يَابَنِي آدَمَ أَنْ لَا تَعْبُدُوا الشَّيْطَانَ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ (60) وَأَنِ اعْبُدُونِي هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ} [يس: 60، 61]. وقال تعالى: {وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ جَمِيعًا يَامَعْشَرَ الْجِنِّ قَدِ اسْتَكْثَرْتُمْ مِنَ الْإِنْسِ وَقَالَ أَوْلِيَاؤُهُمْ مِنَ الْإِنْسِ رَبَّنَا اسْتَمْتَعَ بَعْضُنَا بِبَعْضٍ وَبَلَغْنَا أَجَلَنَا الَّذِي أَجَّلْتَ لَنَا قَالَ النَّارُ مَثْوَاكُمْ خَالِدِينَ فِيهَا إِلَّا مَا شَاءَ اللَّهُ إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَلِيمٌ} [الأنعام: 128]، يعنى قد استكثرتم من إضلالهم وإغوائهم. قال ابن عباس (¬1)، ومجاهد (¬2)، والحسن (¬3)، وغيرهم: أضللتم منهم كثيرًا. ¬

_ (¬1) رواه الطبري في تفسيره (13885) وابن أبي حاتم في تفسيره (7890) من طريق علي بن أبي طلحة عن ابنعباس، وعزاه في الدر المنثور (3/ 357) لابن المنذر وأبي الشيخ. (¬2) رواه الطبري في تفسيره (13887، 13888) وابن أبي حاتم في تفسيره (7891) من طريق ابن أبي نجيح عن مجاهد. (¬3) رواه الطبري في تفسيره (13889).

هذه الآية منطبقة على أصحاب الأحوال الشيطانية الذين يحسبهم الجهال أولياء الرحمن

فيُجِيبه سبحانه أولياؤهم من الإنس بقولهم: {رَبَّنَا اسْتَمْتَعَ بَعْضُنَا بِبَعْضٍ}، يَعْنُونُ: استمتاع كل نوعٍ بالنّوْع الآخر. فاستمتاع الجن بالإنس: طاعَتُهم لهم فيما يأمرونهم من الكفر، والفسوق، والعصيان، فإن هذا أكبرُ أغراض الجنّ من الإنس، فإذا أطاعوهم فيه فقد أعطَوْهُم مُناهُمْ. واستمتاع الإنس بالجنّ: أنهم أعانوهم على معصية الله تعالى، والشرك به بكل ما يقدرون عليه من التحسين، والتزيين، والدعاء، وقضاء كثير من حوائجهم، واستخدامهم بالسحر والعزائم، وغيرها [146 أ]، فأطاعَهُم الإنسُ فيما يُرضيهم من الشّرك، والفواحش، والفجور، فأطاعتهُم الجن فيما يُرضيهم من التأثيرات، والإخبار ببعض المغَيَّبات. فتمتع كلٌّ من الفريقين بالآخر. وهذه الآية منطبقةٌ على أصحاب الأحوال الشيطانية، الذين لهم كُشوفٌ شيطانية وتأثيرٌ شيطاني، فيحسبهم الجاهلُ أولياء الرحمن، وإنما هُم من أولياء الشيطان، أطاعوه في الإشراك، ومعصية الله، والخروج عمّا بعث به رسله، وأنزل به كتبه، فأطاعهم في أن خدمهم بإخبارهم بكثير من المغيبات والتأثيرات. واغترّ بهم مَنْ قلّ حَظّه من العلم والإيمان، فوالىَ أعداء الله، وعادى أولياءه، وحَسّنَ الظنّ بمن خرج عن سبيله وسنته، وأساء الظن بمن اتبع سُنة الرسول وما جاء به، ولم يَدَعْها لأقوال المختلفين، وآراء المتحيرين، وشَطَحات المارقين، وتُرّهات المتصوفين.

الذي نور الله بصيرته بالعلم والإيمان لا يروج عليه زغلهم

والبصيرُ الذي نوّر الله بصيرته بنور الإيمان والمعرفة إذا عرف حقيقة ما عليه أكثرُ هذا الخلق، وكان ناقدًا لا يروجُ عليه الزّغلُ، تبين له أنهم داخلون تحت حكم هذه الآية، وهي منطبقة عليهم. فالفاسقُ يستمتع بالشيطان، بإعانته له على أسباب فسوقه، والشيطانُ يستمتع به في قبوله منه، وطاعته له، فيسُرّه ذلك، ويفرحُ به منه. والمشرك يستمتع به الشيطان، بشركه به، وعبادته له، ويستمتع هو بالشيطان في قضاء حوائجه، وإعانته له. ومَنْ لم يُحِط علمًا بهذا لم يعلم حقيقة الإيمان والشرك، وسرّ امتحان الرب سبحانه كُلًا من الثقلين بالآخر. ثم قالوا: {وَبَلَغْنَا أَجَلَنَا الَّذِي أَجَّلْتَ لَنَا}، وهو يتناول أجلَ الموت وأجل البعث، فكلاهما أجلٌ أجّله الله تعالى لعباده، وهما الأجَلان اللذان قال الله فيهما: {قَضَى أَجَلًا وَأَجَلٌ مُسَمًّى عِنْدَهُ} [الأنعام: 2]. وكأن هذا والله أعلم إشارةٌ منهم إلى نوع استعطاف وتوبة، فكأنهم يقولون: هذا أمر قد كان إلى وقت، وانقطع بانقطاع أجله، فلم يستمرّ، ولم يدُم، فبلغ الأمر الذي كان أجَلُه، وانتهى إلى غايته، ولكل شيء آخرٌ، فقال تعالى: {النَّارُ مَثْوَاكُمْ خَالِدِينَ فِيهَا}، فإنه وإن انقطع زمنُ التمتع وانقضى أجله، فقد بقي زمنُ العقوبة، فلا يُتَوهّم أنه إذا انقضى زمن الكفر والشرك، وتمتع بعضكم ببعض، أن مفسدته زالت بزواله، وانتهت بانتهائه. والمقصود أن الشيطان تلاعب بالمشركين، حتى عبدوه، واتخذوه وذريته أولياء من دون الله.

فصل: ومن تلاعبه بهم أن زين لهم عبادة الملائكة

فصل ومن تلاعبه بهم: أن زيَّن لقوم عبادة الملائكة، فعبدوهم بزعمهم، ولم تكن عبادتهم في الحقيقة لهم، ولكن كانت للشياطين، فعبدوا أقبح خَلق الله وأحقَّهم باللعن والذم. قال تعالى: {وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ جَمِيعًا ثُمَّ يَقُولُ لِلْمَلَائِكَةِ أَهَؤُلَاءِ إِيَّاكُمْ كَانُوا يَعْبُدُونَ (40) قَالُوا سُبْحَانَكَ أَنْتَ وَلِيُّنَا مِنْ دُونِهِمْ بَلْ كَانُوا يَعْبُدُونَ الْجِنَّ أَكْثَرُهُمْ بِهِمْ مُؤْمِنُونَ} [سبأ: 40، 41]. وقال تعالى: {وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ فَيَقُولُ أَأَنْتُمْ أَضْلَلْتُمْ عِبَادِي هَؤُلَاءِ أَمْ هُمْ ضَلُّوا السَّبِيلَ (17) قَالُوا سُبْحَانَكَ مَا كَانَ يَنْبَغِي لَنَا أَنْ نَتَّخِذَ مِنْ دُونِكَ مِنْ أَوْلِيَاءَ وَلَكِنْ مَتَّعْتَهُمْ وَآبَاءَهُمْ حَتَّى نَسُوا الذِّكْرَ وَكَانُوا قَوْمًا بُورًا (18) فَقَدْ كَذَّبُوكُمْ بِمَا تَقُولُونَ فَمَا تَسْتَطِيعُونَ صَرْفًا وَلَا نَصْرًا وَمَنْ يَظْلِمْ مِنْكُمْ نُذِقْهُ عَذَابًا كَبِيرًا} [الفرقان: 17 - 19]. وهذه الآيات تحتاج إلى تفسير [146 ب] وبيان: فقوله سبحانه: {وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ} عامٌّ في كل عابدٍ ومن عبده من دون الله. وأما قوله: {فَيَقُولُ أَأَنْتُمْ أَضْلَلْتُمْ عِبَادِي هَؤُلَاءِ أَمْ هُمْ ضَلُّوا السَّبِيلَ}: فقال مجاهد فيما رواه وَرْقاء، عن ابن أبى نجيح، عنه (¬1) قال: هذا ¬

_ (¬1) رواه الطبري في تفسيره (19/ 247) وابن أبي حاتم في تفسيره (15027)، والأثر عزاه في الدر المنثور (6/ 241) للفريابي وابن أبي شيبة وعبد بن حميد وابن المنذر.

قال عكرمة والضحاك والكلبي: هو عام في الأوثان وعبدتها

خطاب لعيسى، وعُزَير، والملائكة. وروى عنه ابن جُريج نحوه (¬1). وأما عكرمة، والضحاك (¬2)، والكلبي (¬3)، فقالوا: هو عامٌّ في الأوثان وعبدتها. ثم يأذن سبحانه لها في الكلام، فيقول: {أَأَنْتُمْ أَضْلَلْتُمْ عِبَادِي هَؤُلَاءِ}. قال مقاتل (¬4): يقول سبحانه: أأنتم أمر تموهم بعبادتكم؟ {أَمْ هُمْ ضَلُّوا السَّبِيلَ}: أم هُمْ أخطأوا الطريق؟ فأجاب المعبودون بما حكى الله عنهم من قولهم: {سُبْحَانَكَ مَا كَانَ يَنْبَغِي لَنَا أَنْ نَتَّخِذَ مِنْ دُونِكَ مِنْ أَوْلِيَاءَ}. وهذا الجواب إنما يحسن من الملائكة، والمسيح، وعُزير، ومن عبدهم المشركون من أولياء الله. ولهذا قال ابنُ جرير: يقول تعالى: قالت الملائكة وعيسى للذين كان هؤلاء المشركون يعبدونهم من دون الله: {مَا كَانَ يَنْبَغِي لَنَا أَنْ نَتَّخِذَ مِنْ دُونِكَ مِنْ أَوْلِيَاءَ} نواليهم، بل أنت ولينا من دونهم. ¬

_ (¬1) رواه الطبري في تفسيره (19/ 247). (¬2) انظر تفسيرهما في: الكشف والبيان (7/ 127)، ومعالم التنزيل (6/ 76)، وزاد المسير (6/ 78)، والجامع لأحكام القرآن (13/ 10). (¬3) انظر: الكشاف للزمخشري (3/ 273). (¬4) تفسير مقاتل (2/ 433).

القراءات في قوله (نتخذ) بالبناء للفاعل وبالبناء للمفعول، وما ورد على كل من القراءتين من إشكال والجواب عن ذلك

وقال ابن عباس (¬1)، ومقاتل (¬2): نَزّهوا الله وعظَّموه أن يكون معه إلَهٌ. وفيها قراءتان: أشهرهما: {نَتَّخِذَ}: بفتح النون وكسر الخاء، على البناء للفاعل (¬3)، وهي قراءة السبعة. والثانية: {نَتَّخِذَ}: بضم النون وفتح الخاء، على البناء للمفعول (¬4)، وهي قراءة الحسن ويزيد بن القعقاع. وعلى كُلّ واحدةٍ من القراءتين إشكالٌ: فأما قراءة الجمهور (¬5): فإن الله سبحانه إنما سَألهم هل أضلُّوا المشركين بأمرهم إياهم بعبادتهم، أم هم ضلُّوا باختيارهم وأهوائهم؟ وكيف يكون هذا الجواب مطابقًا للسؤال؟ فإنه لم يسألهم: هل اتخذتم من دوني من أولياءَ؟ حتى يقولوا: {مَا كَانَ يَنْبَغِي لَنَا أَنْ نَتَّخِذَ مِنْ دُونِكَ مِنْ أَوْلِيَاءَ}، وإنما سألهم: هل أمرتم عبادي هؤلاء بالشرك، أم هم أشركوا من قِبَل أنفسهم؟ فالجواب المطابق أن يقولوا: لم نأمرهم بالشرك، ولكنهم آثروه وارتضَوْهُ، أو لم نأمر بعبادتنا، كما قال في الآية الأخرى عنهم: {تَبَرَّأْنَا إِلَيْكَ مَا كَانُوا إِيَّانَا يَعْبُدُونَ} [القصص: 63]. ¬

_ (¬1) انظر البسيط للواحدي (16/ 433). (¬2) تفسير مقاتل (2/ 433). (¬3) م، ظ: "للمفعول". والمثبت من باقي النسخ. (¬4) "على البناء للمفعول" زيادة من ش. (¬5) من هنا إلى بداية الفصل الجديد مستفاد من البسيط (16/ 433 - 439).

جواب من قرأها بالبناء للفاعل من وجوه

فلما رأى أصحابُ القراءة الأخرى ذلك فَرُّوا إلى بناء الفعل للمفعول، وقالوا: الجوابُ يصحّ على ذلك ويُطابقُ، إذ المعنى: ليس يصلحُ لنا أن نُعْبَد ونُتَّخذ آلهةً، فكيف نأمرُهم بما لا يَصْلُح لنا، ولا يحسُنُ منّا؟ ولكن لزم هؤلاء من الإشكال أمرٌ آخر، وهو قوله: "مِنْ أَوْلِيَاءَ"، فإن زيادة "مِنْ" لا يحسن إلا مع قَصدِ العموم، كما تقول: ما قام من رجل، وما ضربتُ من رجل، فأما إذا كان النفيُ واردًا على شيء مخصوصٍ فإنه لا يحسن زيادةُ "من" فيه، وهم إنما نَفَوْا عن أنفسهم ما نُسب إليهم من دعوى المشركين: أنهم أمروهم بالشرك، فنفَوا عن أنفسهم ذلك بأنّه لا يحْسُنُ منهم ولا يليق بهم أن يُعبدوا، فكيف ندعو عبادك إلى أن يعبدونا؟ فكان الواجب على هذا أن تُقرأ: "مَا كانَ يَنْبَغِي لَنَا أَنْ نُتَّخَذَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِكَ" أو: "مِنْ دُونِكَ أَوْلِيَاءَ". فأجاب أصحاب القراءة الأولى بوجوه: أحدها: أن المعنى: ما كان ينبغي لنا أن نَعْبُدَ غيرك، ونتخذ غيرك وليًّا ومعبودًا، فكيف ندعو أحدًا إلى عبادتنا؟ إذ كُنّا نحنُ لا نعبُدُ غيركَ، فكيف ندعو أحدًا إلى أن يعبدَنا؟ والمعنى: أنهم إذا كانوا لا يروْن لأنفسهم عبادة غير الله تعالى، فكيف يدعُون غيرهم إلى عبادتهم؟ هذا جواب الفراء (¬1). وقال الجُرجاني: هذا [147 أ] بالتدريج يصيرُ جوابًا للسؤال الظاهر، وهو أن مَنْ عبد شيئًا فقد تولّاه، وإذا تولاه العابدُ صار المعبود وليًّا للعابد، يدُلّ ¬

_ (¬1) معاني القرآن (2/ 264).

قول الزخاج: قراءة (نتخذ) - بضم النون وفتح الخاء - خطأ

على هذا قوله تعالى: {وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ جَمِيعًا ثُمَّ يَقُولُ لِلْمَلَائِكَةِ أَهَؤُلَاءِ إِيَّاكُمْ كَانُوا يَعْبُدُونَ (40) قَالُوا سُبْحَانَكَ أَنْتَ وَلِيُّنَا مِنْ دُونِهِمْ بَلْ كَانُوا يَعْبُدُونَ الْجِنَّ أَكْثَرُهُمْ بِهِمْ مُؤْمِنُونَ} [سبأ: 40، 41]، فدل على أن العابد يصير وليًّا للمعبود. ويصير المعنى كأنهم قالوا: ما كان ينبغي لنا أن نأمر غيرنا باتخاذنا أولياء، وأن نتخذ من دونك وليًّا يعبدنا، وهذا أبسط، لقول ابن عباس في هذه الآية قال: يقولون: ما تولَّيناهم، ولا أحببنا عبادتهم. قال: ويحتملُ أن يكون قولهُم: {مَا كَانَ يَنْبَغِي لَنَا أَنْ نَتَّخِذَ مِنْ دُونِكَ مِنْ أَوْلِيَاءَ} أن يريدوا مَعْشَرَ العبيد لا أنفسهم، أي: نحن وهم عبيدك، [فكان لا ينبغي لعبيدك] (¬1) أن يتخذوا من دونك أولياء، ولكنهم أضافوا ذلك إلى أنفسهم تواضعًا منهم، كما يقول الرجل لمن أتى مُنكرًا: ما كان ينبغي لي أن أفعل مثل هذا، أي: أنت مثلي عبد محاسب، فإذا لم يحسنْ من مثلي أن يفعل هذا لم يحسن منك أيضًا. قال: ولهذا الإشكال قرأ مَنْ قرأ {نَتَّخِذَ} بضم النون، وهذه القراءةُ أقربُ في التأويل. لكن قال الزّجَّاج (¬2): هذه القراءة خطأ، لأنك تقول: ما اتخذتُ من أحدٍ وليًّا، ولا يجوز ما اتخذتُ أحدًا من ولي، لأن (من) إنما دخلت لأنها تنفي واحدًا من معنى جميع، تقول: ما من أحد قائمًا، وما من رجل محبًّا لما يضرّهُ، ولا يجوز: ما رجل من محب لما يضره ولا وجه عندنا لهذا البتة، ¬

_ (¬1) ساقطة من النسخ، والاستدراك من البسيط. (¬2) معاني القرآن له (4/ 60، 61).

"من" لا تدخل إلا على مفعول لا مفعول دونه

ولو جاز هذا لجاز في {فَمَا مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ عَنْهُ حَاجِزِينَ}: ما أحدٌ عنه من حاجزين، فلو لم تدخل (من) لصحّتْ هذه القراءة. قال صاحب "النظم" (¬1): العِلّةُ في سقوط هذه القراءة: أن (مِن) لا تدخل إلا على مفعول لا مفعول دونه، فإذا كان قبل المفعول مفعولٌ سواه لم يحسن دخول (مِنْ) كقوله: {مَا كَانَ لِلَّهِ أَنْ يَتَّخِذَ مِنْ وَلَدٍ} [مريم: 35]، فقوله: {مِنْ وَلَدٍ} لا مفعول دونه سواه، ولو قال: ما كان لله أن يتخذ أحدًا من ولدٍ لم يحسُنْ فيه دخول (مِنْ)، لأن فعلَ الاتخاذ مشغولٌ بـ: (أحَدٍ). وصحَّح آخرون هذه القراءة لفظًا ومعنًى، وأجروْها على قواعد العربية. قالوا: وقد قرأ بها مَنْ لا يُرتاب في فصاحته، فقرأ بها زيدُ بن ثابت، وأبو الدرداء، وأبو جعفر، ومجُاهد، ونصر بن عَلقمة، ومكحول، وزيد بن علي، وأبو رجاء، والحسن، وحَفْص بن حُميد، ومحمد بن علي، على خلافٍ عن بعض هؤلاء، ذكر ذلك أبو الفتح بن جني (¬2)، ثم وَجّهها بأن يكون {مِنْ دُونِكَ مِنْ أَوْلِيَاءَ} في موضع الحال، أي: ما كان ينبغي لنا أن نتخذ من دونك أولياء، ودخلت (مِنْ) زائدةً لمكان النفي، كقولك: اتخذت زيدًا وكيلًا، فإذا نَفَيْتَ قلت: ما اتخذتُ زيدًا من وكيل، وكذلك أعطيته درهمًا، وما أعطيته من درهم، وهكذا في المفعول فيه. قلت: يعني أن زيادتها مع الحال كزيادتها مع المفعول. ¬

_ (¬1) المقصود به حسن بن يحيى الجرجاني صاحب كتاب "نظم القرآن". وقد نقل عنه المؤلف آنفًا بواسطة البسيط. (¬2) في المحتسب (2/ 119).

قرأ (نتخذ) - بضم النون - زيد بن ثابت وأبو الدرداء وجماعة ذكرهم ابن جني

ونظير ذلك أن تقول: ما ينبغي لي أن أخدمك متثاقلاً، فإذا أكّدت قلت: من مُتثاقل. فإن قيل: فقد صَحّت القراءتان لفظًا ومعنًى، فأيهّما أحسن؟ قلت: قراءة الجمهور أحسن وأبلغ في المعنى والمقصود، والبراءة مما لا يليق بهم، فإنهم على قراءة الضم يكونون قد نفوا حُسْنَ اتخاذ المشركين لهم أولياء، وعلى قراءة الجمهور: يكونون قد أخبروا أنهم لا يليقُ بهم، ولا يحسُن منهم أن يتخذوا أولياء من دونه، بل أنت وحدك [147 ب] وليَّنا ومعبودنا، فإذا لم يحسن بنا أن نُشرك بك شيئًا فكيف يليق بنا أن ندعو عبادك إلى أن يعبدونا من دونك؟ وهذا المعنى أجلّ من الأول وأكبرُ، فتأمَّلْه. والمقصود أنه على القراءتين، فهذا الجواب من الملائكة ومَنْ عبد من دون الله من أوليائه. وأما كونه من الأصنام فليس بظاهر. وقد يقال: إن الله سبحانه أنطقها بذلك تكذيبًا لهم، وردًّا عليهم، وبراءةً منهم، كقوله: {إِذْ تَبَرَّأَ الَّذِينَ اتُّبِعُوا مِنَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا} [البقرة: 166]، وفي الآية الأخرى: {تَبَرَّأْنَا إِلَيْكَ مَا كَانُوا إِيَّانَا يَعْبُدُونَ} [القصص: 63]. ثم ذكر المعبودون سبب ترك العابدين الإيمان بالله تعالى بقولهم: {وَلَكِنْ مَتَّعْتَهُمْ وَآبَاءَهُمْ حَتَّى نَسُوا الذِّكْرَ وَكَانُوا قَوْمًا بُورًا} [الفرقان: 18]. قال ابن عباس (¬1): أطلتَ لهم العمر، وأفضلت عليهم، ووسَّعت لهم في الرزق. ¬

_ (¬1) انظر البسيط للواحدي (16/ 437).

قول الله للعابدين: {فقد كذبوكم بما تقولون}

وقال الفراء (¬1): ولكنك متعتهم بالأموال والأولاد، حتى نسُوا ذكرك. {وَكَانُوا قَوْمًا بُورًا}، أي: هَلْكَى فاسدين، قد غلب عليهم الشقاء والخذلان، والبَوارُ: الهلاك والفساد، يقال: بارت السلعة، وبارت المرأة: إذا كسدَتْ، ولم يحصل لها مَنْ يتزوجها. قال قتادة (¬2): والله ما نسي قومٌ ذكر الله عز وجل إلا باروا وفسدوا. والمعنى: ما أضللناهم ولكنهم ضلُّوا. قال الله سبحانه: {فَقَدْ كَذَّبُوكُمْ بِمَا تَقُولُونَ} [الفرقان: 19]، أي: كذَّبكم المعبودون بقولكم فيهم: إنهم آلهة، وإنهم شركاء، أو بما تقولون: إنهم أمروكم بعبادتهم، ودعوكم إليها. وقيل: الخطاب للمؤمنين في الدنيا، أي: فقد كَذّبكم أيها المؤمنون هؤلاء المشركون بما تقولونه، مما جاء به محمد - صلى الله عليه وسلم - عن الله من التوحيد والإيمان. والأول أظهرُ، وعليه يدل السياق. ومن قرأها بالياء آخر الحروف فالمعنى: فقد كذَّبوكم بقولهم. ثم قال: {فَمَا تَسْتَطِيعُونَ صَرْفًا وَلَا نَصْرًا} (¬3): إخبارًا عن حالهم يومئذٍ، وأنهم لا يستطيعون صرف العذاب عن أنفسهم، ولا نصرها من الله. ¬

_ (¬1) في معاني القرآن له (2/ 264). (¬2) رواه ابن أبي حاتم في تفسيره (15037)، وعزاه في الدر المنثور (6/ 242) لعبد بن حميد. (¬3) "يستطيعون" بالياء على قراءة أبي عمرو، وهي قراءة ابن القيم.

ينادي مناد يوم القيامة: {ما لكم لا تناصرون (25) بل هم اليوم مستسلمون}

قال ابن زيد (¬1): ينادي منادٍ يوم القيامة، حين يجتمع الخلائق: {مَا لَكُمْ لَا تَنَاصَرُونَ} [الصافات: 25]، قال: مَن عبد من دون الله لا ينصرُ اليوم مَنْ عبده، والعابد لا ينصرُ إلهه، {بَلْ هُمُ الْيَوْمَ مُسْتَسْلِمُونَ} [الصافات: 26]. فهذا حال عُبَّاد الشيطان يوم لقاء الرحمن، فوا سُوءَ حالهم حين امتيازهم عن المؤمنين! إذا سمعوا النداء: {وَامْتَازُوا الْيَوْمَ أَيُّهَا الْمُجْرِمُونَ (59) أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يَابَنِي آدَمَ أَنْ لَا تَعْبُدُوا الشَّيْطَانَ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ (60) وَأَنِ اعْبُدُونِي هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ (61) وَلَقَدْ أَضَلَّ مِنْكُمْ جِبِلًّا كَثِيرًا أَفَلَمْ تَكُونُوا تَعْقِلُونَ} [يس: 59 - 62]. فصل ومن تلاعبه وكيده: تلاعُبه بالثّنَويّة. وهم طائفة قالوا: الصانع اثنان، ففاعل الخير نورٌ، وفاعل الشر ظُلْمَةٌ، وهما قديمان، لم يزالا، ولن يزالا قويَّين حاسَّين، مدركينِ، سميعينِ، بصيرين، وهما مختلفان في النفس والصورة، متضادّان في الفعل والتدبير. فالنور: فاضل، حسن، نقيٌّ، طيِّب الريح، حسن المنظر، ونفسه خيّرة، كريمة، حكيمة، نفّاعة، منها الخيراتُ، والمسرَّاتُ، والصلاح، وليس فيها شيء من الضرر، ولا من الشر. والظلمة على ضد ذلك: من الكَدَرِ، والنقص، ونَتْنِ الرّيح، وقُبْحِ المنظر، ونفسها نفسٌ شريرة، بخيلة، سفيهة، منتنة، مُضِرَّة، منها الشر والفساد. ¬

_ (¬1) رواه الطبري في تفسيره (19/ 251)، وابن أبي حاتم في تفسيره (15042).

اختلفوا في نسبة النور إلى الظلمة، هل هو فوقها أو بجانبها؟

ثم اختلفوا: فقالت فِرْقة منهم: إن النور لم يزَلْ فوق الظلمة. وقالت فرقة: بل كلّ واحد منهما إلى جانب الآخر. وقالت فرقة: النور لم يزل مرتفعًا في ناحية الشمال، والظلمة منحطة [148 أ] في الجنوب، ولم يزل كل واحد منهما مباينًا لصاحبه. وزعموا أن لكل واحد منهما أربعة أبدان، وخامس: هو الروح. فأبدان النور الأربعة: النار، والنور، والريح، والماء، وروحه: السبح، ولم يزل يتحرك في هذه الأبدان. وأبدان الظلمة الأربعة: الحريق، والظلمة، والسَّمُوم، والضباب، وروحها: الدخان. وسمَّوا أبدان النور ملائكة، وسمَّوا أبدان الظلمة شياطين وعفاريت. وبعضهم يقول: الظلمة تتولد شياطين، والنور يتولدُ ملائكة، والنور لا يقدر على الشرّ، ولا يجيء منه، والظلمة لاتقدر على الخير، ولا يجيء منها. ولهم مذاهب سخيفة جدًّا. وفرض عليهم صوم سُبع العمر، وأن لا يؤذي أحدهم ذا روح البتة. ومن شريعتهم: أن لا يدّخروا إلا قوت يومٍ، وتجنّب الكذب، والبُخل، والسّحر، وعبادة الأوثان، والزنى، والسرقة. واختلفوا: هل الظُلمة قديمة أو حادثةٌ؟ فقالت فرقةٌ منهم: هي قديمةٌ، لم تزَلْ مع النور.

مدار مذهبهم يدور على أن خير الموجودات كفء لشرها وأخبثها وضد له ومناوئ له، وأن النور لا يصدر منه الشر ثم جعلوه منبع الشر

وقالت فرقة: بل النور هو القديم، ولكنه فَكّرَ فكرةً رديئةً حدثت منها الظُّلمة. فدار مذهبهم على أصلين من أبطل الباطل: أحدهما: أن شر الموجودات، وأخبثها، وأردأها: كُفْؤٌ لخير الموجودات، وضدٌّ له ومُناوئٌ له، يُعارضه، ويُضادّه، ويناقضه دائمًا، ولا يستطيعُ دفعه. وهذا أعظم من شرك عُبّاد الأصنامٍ، الذين عبدوها لتُقَرّبهم إلى الله تعالى، فإنهم جعلوها مملوكةً له، مربوبةً مخلوقة، كما كانوا يقولون في تلبيتهم: لبّيكَ اللهم لبيك، لبيك لا شريك لك، إلا شريكٌ هو لَكَ، تَمْلكهُ وما ملَكَ (¬1). والأصل الثاني: أنهم نزّهوا النور أن يَصْدُرَ منه شرٌّ، ثم جعلوه مَنْبَعَ الشرّ كله، وأصلَه ومُوَلِّدَهُ، وأثبتوا إلهين، ورَبّينِ، وخالقين، فجمعوا بين الكفر بالله تعالى، وأسمائه وصفاته، ورسله، وأنبيائه، وملائكته، وشرائعه، وأشركوا به أعظم الشرك. وحكى أربابُ المقالات عنهم: أن قومًا منهم يقال لهم: الدِّيصَانِيّةُ زعموا أن طينةَ العالم كانت طينةً خَشِنَةً، وكانت تحُاكي جسم النور الذي هو الباري عندهم زمانًا، فتأذّى بها، فلما طال ذلك عليه قصد تنحيتها عنه، فتوحّل فيها، واختلط بها، فتركّب من بينهما هذا العالم المشتملُ على النور والظلمة، فما كان من جهة الصلاح فمن النور، وما كان من جهة الفساد فمن الظلمة. ¬

_ (¬1) كما في الحديث الذي أخرجه مسلم (1185) عن ابن عباس.

شناعاتهم في سبب خلق النور والظلمة والشيطان

قال: وهؤلاء يَغتالون الناس، ويخنقونهم، ويزعمون أنهم يُحْسنون إليهم بذلك، وأنهم يُخَلّصون الروح النورانيّة من الجسد المظلم، وقال بعضهم: إن الباري سبحانه لما طالَتْ وَحْدَتُه استوحش، ففكر فِكْرة سوءٍ، فتجسّمت فكرته، فاستحالت ظُلْمَةً، فحدث منها إبليسُ، فرام الباري إبعاده عن نفسه، فلم يستطع، فتحرّز منه بخلق الجنود والخيرات، فشرع إبليس في خلق الشر. وأصل عقد مذهبهم الذي عليه خواصّهم: إثبات القدماء الخمسة: الباري، والزمان، والخلاء، والهيُولَى، وإبليس. فالباري خالق الخيرات، وإبليس خالق الشرور. وكان محمد بن زكريا الرازي على هذا المذهب، لكنه لم يُثبت إبليس، فجعل مكانه النفس، وقال بقِدم الخمسة، مع ما رسَّخه به من مذاهب الصابئة، والدّهرية، والفلاسفة، والبراهمة، فكان قد أخذ من كل دين شرّ ما فيه، وصنَّف كتابًا في إبطال [148 ب] النبوَّات، ورسالة في إبطال المعاد، فركّب مذهبّا مجموعًا من زنادقة العالم. وقال: أنا أقول: إن الباري، والنفس، والهيولىَ، والمكان، والزمان: قدماء، وأن العالم محدث. فقيل له: فما العلة في إحداثه؟ فقال: إن النفس أشبهتْ أن تَحْبَلَ في هذا العالم، وحَرّكتها الشهوة لذلك، ولم تعلم ما يلحقها من الوبال إذا حبلت فيه، فاضطربت، وحرّكت الهيولَى حركاتٍ مشوشة مضطربة على غير نظام، وعجزت عما أرادت، فأعانها الباري على إحداث هذا العالم، وحملها على النظام والاعتدال،

حكاية هذه السخافات ليعرف المؤمن قدر نعمة الله عليه

وعلم أنها إذا ذاقتْ وَبالَ ما اكتسبته عادت إلى عالمها، وسكن اضطرابها، وزالت شهوتها، واستراحت، فأحدثت هذا العالم بمعاونة الباري لها. قال: ولولا ذلك لما قدرت على إحداث هذا العالم، ولولا هذه العلة لما حدث هذا العالم. ولولا أن الله سبحانه يحكي عن المشركين والكفار أقوالًا أسخف من هذا وأبطل لاستحيا العاقلُ من حكاية مثل هذا، ولكن الله سبحانه سَنّ لنا حكاية أقوال أعدائه. وفي ذلك من قُوّة الإيمان، وظُهور جلالته، ومعرفة قَدْرِه، وتمام نعمة الله تعالى على أهله به، ومعرفة قَدْر خِذلانه للعبد، وإلى أيّ شيء يُصَيّره الخِذلانُ، حتى يصير ضُحْكَةً لكل عاقل، فأيّ ضلالٍ وأي خِذلانٍ أعجبُ ممن يفني عُمُره في النظر والبحث، وهذا غايةُ علمه بالله عز وجل وبالمبدأ والمعاد؟ فصل والمجوس تُعَظّم الأنوار، والنيران، والماء، والأرض، ويُقِرّون بنبوة (زرادَشْت)، ولهم شرائع يصيرون إليها، وهم فِرَقٌ شَتّى. منهم: المَزْدَكيَّة، أصحاب مَزْدَك الموبَذ، والموبذ عندهم: العالِمُ القدوة، وهؤلاء يَرَوْن الاشتراك في النساء والمكاسب كما يُشْتركُ في الهواء والطرق وغيرها. ومنهم: الخُرّمِيّة أصحاب بابك الخُرّمِيّ، وهم شرّ طوائفهم، لا يُقِرّون بصانع، ولا مَعادٍ، ولا نُبوةٍ، ولا حلالٍ، ولا حرام.

ومن هؤلاء القرامطة والإسماعيلية والنصيرية، وسائر فروع العبيديين الذين كانوا يسمون الفاطميين

وعلى مذهبهم: طوائف القرامِطَة، والإسماعيلية، والنُّصَيرية، والبَشْكية، والدُّرْزية، والحاكمية، وسائر العُبَيدية، الذين يسمُّون أنفسهم الفاطمية، وهم من أكفر الكفار، كما ستأتي ترجمتهم. فكل هؤلاء يجمعهم هذا المذهب، ويتفاوتون في التفصيل، فالمجوس شيوخ هؤلاء كلّهم، وأئمتهم، وقُدوتهم، وإن كان المجوس قد يتقيدون بأصل دينهم وشرائعهم، وهؤلاء لا يتقيدون بدين من ديانات العالم، ولا بشريعة من الشرائع.

تلاعب الشيطان بالصابئة، وأصل دينهم وفرقهم

ذكر تلاعبه بالصابئة وهذه أُمّةٌ كبيرة من الأمم الكبار، وقد اختلف الناسُ فيهم اختلافًا كثيرًا، بحسب ما وصل إليهم من معرفة دينهم. وهم منقسمون إلى مؤمن وكافر، قال الله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالنَّصَارَى وَالصَّابِئِينَ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَعَمِلَ صَالِحًا فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ} [البقرة: 62]. فذكرهم في الأمم الأربعة الذين تنقسمُ كل أمةٍ منهم إلى ناجٍ وهالك. وذكرهم أيضًا في الأمم الستة، التي انقسمت جملتهم إلى ناجٍ وهالك، كما في قوله: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالصَّابِئِينَ وَالنَّصَارَى وَالْمَجُوسَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا إِنَّ اللَّهَ يَفْصِلُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ} [الحج: 17] فذكر الأمّتين اللّتين لا كتاب [149 أ] لهم، ولا ينقسمون إلى شقيٍّ وسعيد، وهما: المجوس والمشركون، في آية المَفْصلِ، ولم يذكرهما في آية المَوْعِدِ بالجنة، وذكر الصابئين فيهما، فَعُلِمَ أن فيهم الشقيّ والسعيد. وهؤلاء كانوا قوم إبراهيم الخليل، وهم أهلُ دعوته، وكانوا بحَرَّانَ، فهي دار الصابئة. وكانوا قسمين: صابئةً حُنفاء، وصابئةً مشركين، والمشركون منهم يُعَظِّمُون الكواكب السبعة، والبروج الاثني عشر، ويصوّرونها في هياكلهم. ولتلك الكواكب عندهم هياكل مخصوصة، وهي المتعبّدَات الكبار، كالكنائس للنصارى، والبِيَعِ لليهود.

من الصابئة من يوافق المسلمين في صوم رمضان واستقبال الكعبة والحج وغير ذلك

فلهم هيكلٌ كبير للشمس، وهيكلٌ للقمر، وهيكلٌ للزُّهَرَة، وهيكلٌ للمُشْتري، وهيكل للمرّيخ، وهيكلٌ لعُطادر، وهيكلٌ لزُحَل وهيكلٌ للعلة الأولى. ولهذه الكواكب عندهم عباداتٌ ودعواتٌ مخصوصة، ويصوِّرونها في تلك الهياكل، ويتخذون لها أصنامًا تخصّها، ويقرّبون لها القرابين، ولها صلواتٌ خمسٌ في اليوم والليلة، نحو صلوات المسلمين. وطوائفُ منهم يصومون شهر رمضان، ويستقبلون في صلواتهم الكعبة، ويعظّمون مكة، ويرون الحجّ إليها، ويُحرّمون الميتة والدم ولحم الخِنزير، ويحرِّمون من القَرابات في النكاح ما يُحَرّمه المسلمون. وعلى هذا المذهب كان جماعة من أعيان الدولة ببغداد، منهم هلالُ بن المحسن الصابئ صاحب الديوان الإنشائي، وصاحب الرسائل المشهورة، وكان يصوم مع المسلمين، ويُعيِّدُ معهم، ويزَكِّي، ويحُرّم المحرمات، وكان الناس يتعجبون من موافقته للمسلمين، وليس على دينهم. وأصل دين هؤلاء فيما زعموا: أنهم يأخذون بمحاسن ديانات العالم ومذاهبهم، ويخرجون من قبيح ما هُمْ عليه قولًا وعملًا، ولهذا سُمُّوا صابئة أي: خارجين، فقد خرجوا عن تقيُّدهم بجملة كل دين وتفصيله إلا ما رأوه فيه من الحق. وكانت كفَّار قريش تُسمّي النبي - صلى الله عليه وسلم - الصابئ، وأصحابَه الصُّبَاةَ. يقال: صبأ الرجل بالهمز: إذا خرج من شيء إلى شيء، وصبا يصبو: إذا مال، ومنه قوله: {وَإِلَّا تَصْرِفْ عَنِّي كَيْدَهُنَّ أَصْبُ إِلَيْهِنَّ} [يوسف: 33]، أي:

أكثر الصباة فلاسفة

أمِلْ، والمهموز والمعتل يشتركان، فالمهموز: ميل عن الشيء، والمعتل: ميلٌ إليه، واسم الفاعل من المهموز: صابئ بوزن قارئ، ومن المعتل: صابٍ بوزن قاضٍ، وجمع الأول: صابئون كقارئون، والثاني: صابُون كقاضُون، وقد قرئ بهما. والمقصود أن هذه الأمة قد شاركت جميع الأمم وفارقتهم، فالحنفاءُ منهم: شاركوا أهل الإسلام في الحنيفية، والمشركون: شاركوا عُبَّاد الأصنام، ورأوا أنهم على صواب. وأكثر هذه الأمة فلاسفة، والفلاسفة يأخذون بزعمهم محاسنَ ما دلَّت عليه العقول، وعقلاؤهم يوجبون اتباع الأنبياء وشرائعهم، وبعضهم لا يوجب ذلك ولا يحرِّمه، وسفهاؤهم وسِفْلتهم يمنعون ذلك، كما سيأتي ذكرُ تلاعب الشيطان بهم بعد هذا. ولهذا لم يكن هؤلاء ولا الصابئة من الأمم المستقلّة التي لها كتاب ونبيٌّ، وإن كانوا من أهل دعوة الرسل. فما مِن أمة إلا وقد أقام الله سبحانه عليها حجَّته، وقطع عنها حجّتها: {لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ} [النساء: 165]، وتكون حجته عليهم. والمقصود أن الصابئة فِرَقٌ: فصابئة حنفاء، وصابئة مشركون، وصابئة فلاسفة، وصابئة يأخذون بمحاسن ما عليه أهل الملل والنِّحَلِ من غير تقيد بملَّة ولا نِحْلَة. ثم منهم من يُقِرّ بالنبوَّات جملةً ويتوقف في التفصيل، ومنهم من يقرّ بها جملة وتفصيلًا، ومنهم من ينكرها [149 ب] جملة وتفصيلًا.

قول المشركين منهم: لا وصول لنا إلى الله لجلاله وعظمته إلا بالوسائط الروحانية القريبة منه، فهم آلهتنا وأربابنا، وهو إلههم وربهم، وما نعبدهم إلا ليقربونا إلى الله زلفى

وهم يقرّون أن للعالم صانعًا، فاطرًا، حكيمًا، مقدَّسًا عن العيوب والنقائص. ثم قال المشركون منهم: لا سبيل لنا إلى الوصول إلى جلاله إلا بالوسائط، فالواجب علينا أن نتقرب إليه بتوسُّطات الروحانيات القريبة منه، وهم الروحانيُّون المقرَّبون المقدَّسون عن المواد الجِسْمانية، وعن القوى الجسدانية، بل قد جُبلوا على الطهارة، فنحن نتقرّب إليهم، ونتقرّب بهم إليه، فهم أربابنا وآلهتنا وشفعاؤنا عند رب الأرباب وإله الآلهة، فما نعبدهم إلا ليقرِّبونا إلى الله زُلْفَى، فالواجب علينا أن نُطَهّر نفوسنا عن الشهوات الطبيعية، ونهذِّب أخلاقنا عن علائق القوى الغضبية، حتى تحصل المناسبة بيننا وبين الروحانيات، وتتصل أرواحنا بهم، فحينئذٍ نسأل حاجتنا منهم، ونعرض أحوالنا عليهم، ونَصْبوفي جميع أمورنا إليهم، فيشفعون لنا إلى إلهنا وإلههم. وهذا التطهير والتهذيب لا يحصل إلا باستمداد من جهة الروحانيات، وذلك بالتضرُّع والابتهال بالدعوات، من الصلوات، والزكوات، وذبح القرابين، والبخورات، والعزائم، فحينئذٍ يحصل لنفوسنا استعدادٌ واستمدادٌ من غير واسطة الرسل، بل نأخذ من المَعْدِن الذي أخذت منه الرسل، فيكون حكمنا وحكمهم واحدًا، ونحن وإياهم بمنزلة واحدة. قالوا: والأنبياء أمثالنا في النوع، وشركاؤنا في المادة، وأشكالنا في الصورة، يأكلون مما نأكل، ويشربون مما نشرب، وما هم إلا بشر مثلنا، يريدون أن يتفضلوا علينا. وزادت الاتحادية أتباع ابن عربي، وابن سِبعين، والعفيف التِّلمساني،

قولهم: الأنبياء بشر مثلنا يريدون أن يتفضلوا علينا

وأضرابهم على هؤلاء بما قاله شيخ الطائفة محمد بن عربي: أن الولي أعلى درجة من الرسول، لأنه يأخذ من المَعْدِنِ الذي يأخذ منه المَلَكُ الذي يوحي إلى الرسول، فهو أعلى منه بدرجتين. فجعل هؤلاء الملاحدة أنفسهم وشيوخهم أعلى في التلقِّي من الرسل بدرجتين، وإخوانهُم من المشركين جعلوا أنفسهم في ذلك التلقِّي بمنزلة الأنبياء، ولم يدّعوا أنهم فوقهم. والمقصود: أن هؤلاء كفروا بالأصلين اللذين جاءت بهما جميع الرسل والأنبياء، من أولهم إلى آخرهم. أحدهما: عبادةُ الله وحده لا شريك له، والكفر بما يُعبدُ من دونه من إله. والثاني: الإيمان برسله، وما جاءوا به من عند الله تصديقًا وإقراراً، وانقيادًا وامتثالًا. وليس هذا مختصًّا بمشركي الصابئة، كما غلط فيه كثيرٌ من أرباب المقالات، بل هذا مذهب المشركين من سائر الأمم، لكن شرك الصابئة كان من جهة الكواكب العُلْوِيّات، ولذلك ناظرَهُمْ إمام الحنفاء صلوات الله، وسلامه عليه في بُطلان إلهيتها بما حكاه الله سبحانه في سورة الأنعام أحسن مناظرةٍ وأبْيَنَهَا، ظهرت فيها حُجّته، ودَحضَت حجتهم، فقال بعد أن بَيّن بطلان إلهية الكواكب والقمر والشمس بأفُولها، وأن الإله لا يليقُ به أن يغيب ويأفُل، بل لا يكونُ إلا شاهدًا غير غائب، كما لا يكون إلا غالبًا قاهرًا، غير مغلوب ولا مقهور، نافعًا لعابده، يملك لعابده الضّرّ والنفع، فيسمع كلامه، ويرى مكانه، ويَهْدِيه، ويُرْشِدُهُ، ويدفع عنه كل ما يضُرّه ويؤذيه، وذلك ليس إلا الله وحده، فكل معبودٍ سواه باطلٌ.

كفرهم بأصل الدين الذي جاءت به الرسل، وهما عبادة الله وحده، واتباع رسله فيما جاؤوا به من عند الله

فلما رأى إمامُ الحنفاء أن الشمس والقمر والكواكب ليست بهذه المثابة، صعد منها إلى فاطرها وخالقها ومبدعها، فقال: {إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ} [الأنعام: 79]. وفي ذلك إشارة إلى أنه سبحانه خالق أمكنتها ومحَالهِّا، التي هي [150 أ] مفتقرة إليها، ولا قِوام لها إلا بها، فهي محتاجة إلى محل تقوم به، وفاطر يخلقها ويدبِّرها ويَرُبُّها، والمحتاج المخلوق المربوب المدبَّر لا يكون إلهًا، فحاجّه قومه في الله، ومن حاجّ في عبادة الله فحجَّته داحضة، فقال إبراهيم عليه السلام: {قَالَ أَتُحَاجُّونِّي فِي اللَّهِ وَقَدْ هَدَانِ}؟ وهذا من أحسن الكلام، أي: أتريدون أن تصرفوني عن الإقرار بربي وبتوحيده، وعن عبادته وحده، وتُشكّكوني فيه، وقد أرشدني وبيّن لي الحق، حتى استبان لي كالعيان، وبيّن لي بطلان الشرك وسوء عاقبته، وأن آلهتكم لا تصلح للعبادة، وأن عبادتها توجب لعابديها غاية الضرر في الدنيا والآخرة. فكيف تريدون مني أن أنصرف عن عبادته وتوحيده إلى الشرك به، وقد هداني إلى الحق وسبيل الرشاد؟ فالمحاجَّة والمجادلة إنما فائدتها طلب الرجوع والانتقال من الباطل إلى الحق، ومن الجهل إلى العلم، ومن العمى إلى الإبصار، ومجادلتكم إيّاي في الإله الحق الذي كلّ معبود سواه باطل تتضمن خلاف ذلك! فخَوَّفوه بآلهتهم أن تصيبه بسوء، كما يخوِّفُ المشركُ الموحدَ بإلهه الذي يَأْلَهُهُ مع الله أن يناله بسوء، فقال الخليل: {وَلَا أَخَافُ مَا تُشْرِكُونَ بِهِ}، فإن آلهتكم أقلّ وأحقر من أن تَضُرَّ مَنْ كفر بها وجحد عبادتها، ثم رد

قلب إبراهيم حجتهم عليهم، وتخويفهم من الله والشرك به ما لم ينزل به عليهم سلطانا

الأمر إلى مشيئة الله وحده، وأنه هو الذي يخُاف ويُرجَى، فقال: {إِلَّا أَنْ يَشَاءَ رَبِّي شَيْئًا}، وهذا استثناء منقطع، والمعنى: لا أخاف آلهتكم، فإنها لا مشيئة لها ولا قدرة، لكن إن شاء ربي شيئًا نالني وأصابني، لا آلهتكم التي لا تشاء ولا تعلم شيئًا، وربي له المشيئة النافذة، وقد وَسع كل شيءٍ علمًا، فمن أولى بأن يخُاف ويعبد؟ هو سبحانه أم هي؟ ثم قال: {أَفَلَا تَتَذَكَّرُونَ} [الأنعام: 80]، فتعلمون بطلان ما أنتم عليه من إشراك مَنْ لا مشيئة له ولا يعلم شيئًا، ممن له المشيئة التامة والعلم التامُّ؟ ثم قال: {وَكَيْفَ أَخَافُ مَا أَشْرَكْتُمْ وَلَا تَخَافُونَ أَنَّكُمْ أَشْرَكْتُمْ بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ عَلَيْكُمْ سُلْطَانًا فَأَيُّ الْفَرِيقَيْنِ أَحَقُّ بِالْأَمْنِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ} [الأنعام: 81]؟ وهذا من أحسن قَلْبِ الحجة، وجعل حجة المبطل بعينها دالَّةً على فساد قوله، وبطلان مذهبه، فإنهم خوفوه بآلهتهم التي لم يُنزل الله عليهم سلطانًا بعبادتها، وقد تبيّن بطلانُ إلهيتها ومضرّة عبادتها، ومع هذا فلا تخافون شرككم بالله وعبادتكم معه آلهةً أخرى؟ فأيّ الفريقين أحق بالأمن وأولى بأن لا يلحقه الخوف؟ فريق الموحدين أم فريق المشركين؟ فَحَكَم الله سبحانه بين الفريقين بالحُكْم العدل، الذي لا حكم أصحّ منه، فقال: {الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ} أي: بشرك {أُولَئِكَ لَهُمُ الْأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ} [الأنعام: 82].

قول ابن حزم: كان الذي ينتحله الصابئة أقدم الأديان على وجه الدهر

ولمَّا نزلت هذه الآية شقّ أمرها على الصحابة، وقالوا: يا رسول الله! وأيُّنا لم يظلم نفسه؟ فقال: "إنما هو الشرك، ألم تسمعوا إلى قول العبد الصالح: {إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ} [لقمان: 13]؟ ". فحكمَ سبحانه للموحِّدين بالهدى والأمن، وللمشركين بضدّ ذلك، وهو الضلال والخوف. ثم قال: {وَتِلْكَ حُجَّتُنَا آتَيْنَاهَا إِبْرَاهِيمَ عَلَى قَوْمِهِ نَرْفَعُ دَرَجَاتٍ مَنْ نَشَاءُ إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَلِيمٌ} [الأنعام: 83] قال أبو محمد بن حَزْمٍ (¬1): وكان الذي ينتحلُه الصابئون أقدمَ الأديان على وجْه الدّهْر، والغالبَ على الدنيا، إلى أن أحْدَثوا الحوادث، وبدّلوا شرائعه، فبعث الله إليهم إبراهيم خليله بدين الإسلام، الذي نحن عليه اليوم، وتَصْحيح ما أفسدوه، وبالحنيفيّة السَّمْحَة التي أتانا بها محمدٌ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من عند الله تعالى، وكانوا في ذلك الزمان وبَعْدَه يُسَمَّون الحنفاء. قلت: هم قسمان: صابئة مشركون، وصابئة حُنفاء، وبينهم مناظرات [150 ب]. وقد حكى الشّهْرِسْتَانيّ بعض مناظراتهم في كتابه (¬2). * * * * ¬

_ (¬1) في الفصل (1/ 36، 37). (¬2) الملل والنحل (ص 263 - 298).

فصل: في ذكر تلاعب الشيطان بالدهرية الذين عطلوا المصنوعات عن صانعها

فصل في ذِكْرِ تلاعُبه بالدّهْرِيّةِ وهؤلاء قوم عَطّلوا المصنوعات عن صانعها، وقالوا ما حكاهُ الله سبحانه عنهم: {وَقَالُوا مَا هِيَ إِلَّا حَيَاتُنَا الدُّنْيَا نَمُوتُ وَنَحْيَا وَمَا يُهْلِكُنَا إِلَّا الدَّهْرُ} [الجاثية: 24]. وهؤلاء فرقتان: فرقة قالت: إن الخالق سبحانه لمَّا خلق الأفلاك مُتَحرّكةً أعظم حركةٍ، دارت عليه فأحْرَقتْهُ، ولم يقدر على ضبطها وإمساك حركاتها. وفرقة قالت: إن الأشياء ديس لها أول البتة، وإنما تخرج من القوة إلى الفعل، فإذا خرج ما كان بالقوة إلى الفعل تكوَّنت الأشياء مركباتها وبسائطها من ذاتها، لا من شيء آخر. وقالوا: إن العالم دائم لم يَزل ولا يزالُ، لا يتغيَّر، ولا يضمحلُّ، ولا يجوز أن يكون المُبْدع يفعل فعلًا يبطلُ ويضمحلّ إلا وهو يبطلُ ويضمحلّ مع فعله، وهذا العالم هو الممسك لهذه الأجزاء التي فيه. وهؤلاء هم المعطلة حقًا، وهم فحول المعطلة، وقد سَرى هذا التعطيل إلى سائر فرق المعطلة، على اختلاف آرائهم وتباينهم في التعطيل، كما سرى داءُ الشرك تأصيلًا وتفصيلًا في سائر فرق المشركين على اختلاف مذاهبهم فيه، وكما سرى جَحْدُ النبوات تأصيلًا وتفصيلًا في سائر مَنْ جحد النبوة أو صفة من صفاتها، وأقرّ بها جملة وجحد مقصودها وزُبدتها أو بعضه.

سرى داء هؤلاء الدهرية في أكثر الناس ولم ينج منه إلا أتباع الرسل

فهذه الفرق الثلاث سَرَى داؤها وبلاؤها في الناس، ولم ينجُ منه إلا أتباع الرسول العارفون بحقيقة ما جاء به، المتمسِّكون به دون ما سواه، ظاهرًا وباطنًا. فداءُ التعطيل، وداء الإشراك، وداءُ مخالفة الرسول، وجحد ما جاءَ به أو شيء منه: هي أصل بلاء العالم، ومنبع كل شرٍّ، وأساس كل باطل، فليست فرقة من فرق أهل الإلحاد والباطل والبدع إلا وقولها مشتقٌّ من هذه الأصول الثلاثة، أو من بعضها: فإِنْ تَنْجُ مِنْهَا تَنْجُ مِنْ ذِي عَظِيمَةٍ ... وَإِلَّا فَإِنِّي لاَ أظُنُّكَ نَاجِيا (¬1) فصل فَسَرَتْ هذه البلايا الثلاثة في كثير من طوائف الفلاسفة، لا في جميعهم، فإن الفلسفة من حيث هي لا تُعطي ذلك، فإن معناها: محبةُ الحِكْمَة، والفيلسوف أصله: فِيْلاسوفا، أي: محب الحكمة، فـ (فيلا) هي الحبّ، و (سُوفا) هي الحكمة. والحكمة نوعان: قولية وفعلية، فالقولية: قول الحقّ، والفعلية: فعل الصواب، وكل طائفةٍ من الطوائف لهم حكمة يتقيّدُون بها. وأصحّ الطوائف حكمةً: من كانت حِكمتُهم أقرب إلى حكمة الرسل التي جاءوا بها عن الله تعالى. ¬

_ (¬1) البيت للأسود بن سريع في البيان والتبيين (1/ 367). وسرقه الفرزدق كما في المعارف (ص 557). وهو لعسعس بن سلامة في المستقصى (1/ 385). انظر تعليق المحقق على طبقات فحول الشعراء (ص 182).

الحكمة التي جاءت بها الرسل

قال تعالى عن نبيه داود عليه السلام: {وَآتَيْنَاهُ الْحِكْمَةَ وَفَصْلَ الْخِطَابِ} [ص: 20]. وقال عن المسيح عليه السلام: {وَيُعَلِّمُهُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَالتَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ} [آل عمران: 48]. وقال عن يحيى عليه السلام: {وَآتَيْنَاهُ الْحُكْمَ صَبِيًّا} [مريم: 12]، والحُكم هو الحكمة. وقال لرسوله محمد - صلى الله عليه وسلم -: {وَأَنْزَلَ اللَّهُ عَلَيْكَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ} [النساء: 113]. وقال: {يُؤْتِي الْحِكْمَةَ مَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْرًا كَثِيرًا} [البقرة: 269] وقال لأهل بيت رسوله - صلى الله عليه وسلم -: {وَاذْكُرْنَ مَا يُتْلَى فِي بُيُوتِكُنَّ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ وَالْحِكْمَةِ} [الأحزاب: 34]. فالحكمة التي جاءت بها الرسُلُ هي الحكمةُ الحقّ، المتضمنة للعلم النافع والعمل الصالح، للهُدَى ودين الحق، لإصابة الحق اعتقادًا وقولًا وعملًا، وهذه الحكمة فَرّقها الله سبحانه بين أنبيائه ورسله، وجمعها لمحمدٍ - صلى الله عليه وسلم -، كما جمع له من المحاسن ما فَرّقَه في الأنبياء قبله، وجمعَ في كتابه من العلوم والأعمال ما فَرّقه في الكُتُب قبله، فلو جُمِعت كلّ حكمةٍ صحيحةٍ في العالم من كلّ طائفةٍ، لكانت في الحكمة التي أوتيها صلوات الله وسلامه عليه جزءًا يسيرًا [151 أ] جدًّا، لا يُدْركُ البشر نسبته.

أصل معنى الفلسفة محبة الحكمة

والمقصود أن الفلاسفة اسم جنسٍ لمن يُحِبُّ الحكمة ويُؤْثِرُها. وقد صار هذا الاسم في عُرف كثير من الناس مختصًّا بمن خَرج عن ديانات الأنبياء، ولم يذهب إلا إلى ما يقتضيه العقل في زعمه. وأخصّ من ذلك: أنه في عُرف المتأخرين اسمٌ لأتباع أرسطو، وهم المشّاءون خاصّة، وهم الذين هذّب ابنُ سينا طريقتهم، وبسَّطها، وقَرّرها، وهي التي يعرفها بل لا يعرف سواها المتأخرون من المتكلمين. وهؤلاء فرقةٌ شاذّة من فرق الفلاسفة، ومقالتهم واحدةٌ من مقالات القوم، حتى قيل: إنه ليس فيهم من يقول بقدم الأفلاك غير أرسطو وشيعته، فهو أول من عُرف أنه قال بقدم هذا العالم. والأساطين قبله كانوا يقولون بحدوثه، وإثبات الصانع، ومُباينته للعالم، وأنه فوق العالم، وفوق السَّماوات بذاته، كما حكاه عنهم أعلم الناس في زمنه بمقالاتهم: أبو الوليد بن رُشد في كتابه "مناهج الأدلة" (¬1)، فقال فيه: "القولُ في الجهة: وأما هذه الصفة فلم يزل أهل الشريعة من أول الأمر يُثبتونها لله سبحانه، حتى نفتها المعتزلة، ثم تبعهم على نفيها متأخرو الأشعرية كأبي المعالي ومن اقتدى بقوله"، إلى أن قال: "والشرائع كلها مبنيَّةٌ على أن الله سبحانه في السماء، وأن منه تنزل الملائكة بالوحي إلى النبيين، وأن من السَّماوات نزلت الكتب، وإليها كان الإسراء بالنبي - صلى الله عليه وسلم -، حتى قَرُبَ من سدرَة المُنتهى، وجميع الحكماء اتفقوا ¬

_ (¬1) الكشف عن مناهج الأدلة (ص 83 وما بعدها).

فصل: كان أساطين الفلاسفة يعظمون الأنبياء ولا يتكلمون في الإلهيات

على أن الله سبحانه والملائكة في السماء، كما اتفقت جميع الشرائع على ذلك". ثم ذكر تقرير ذلك بالمعقول، وبَيّن بُطلان الشبهة التي لأجلها نفتها الجهميّة ومَن وافقهم، إلى أن قال: "فقد ظهر لك من هذا أن إثبات الجهة واجبٌ بالشرع والعقل، وأنه الذي جاء به الشرع، وانبنى عليه، وأن إبطال هذه القاعدة إبطالٌ للشرائع". فقد حكى لك هذا المطلع على مقالات القوم الذي هو أعرف بالفلسفة من ابن سينا وأضرابه: إجماع الحكماء على أن الله سبحانه في السماء فوق العالم. والمطفّفون في حكايات مقالات الناس لا يحكون ذلك: إما جهلًا، وإما عمدًا، وأكثرُ من رأيناه يحكي مذاهب الناس ومقالاتهم مطفِّفٌ. وكذلك الأساطين منهم متفقون على إثبات الصفات والأفعال، وحدوث العالم، وقيام الأفعال الاختيارية بذاته سبحانه، كما ذكره فيلسوف الإسلام في وقته: أبو البركات البَغدادي، وقررّه غاية التقرير، وقال: "لا يستقيم كونُ الرب سبحانه ربّ العالمين إلا بذلك، وأن نفي هذه المسألة ينفي ربوبيته"، قال: "والإجلال من هذا الإجلال، والتنزيه من هذا التنزيه: أولى". فصل وكذلك كان أساطينهم ومُتَقدّموهم العارفون فيهم مُعظِّمين للرسل والشرائع، موجبين لاتّباعهم، خاضعين لأقوالهم، معترفين بأن ما جاءوا به

كان أرسطو مشركا يعبد الأصنام

طَوْرٌ آخر وراء طَوْرِ العقل، وأن عقول الرّسل وحِكمتهم فوق عُقول العالمين وحكمتهم. وكانوا لا يتكلمون في الإلهيات، ويُسْلِمون باب الكلام فيها إلى الرُّسل، ويقولون: علومُنا إنما هي الرياضيات والطبيعيات وتوابعها، وكانوا يُقِرُّون بحدوث العالم. وقد حكى أرباب المقالات أن أول من عُرف عنه القولُ بقدم هذا العالم: أرسطو، وكان [151 ب] مُشركًا يعبد الأصنام، وله في الإلهيّات كلامٌ كله خطأ من أوله إلى آخره، قد تَعقبّه بالردّ عليه طوائف المسلمين، حتى الجهميّةُ، والمعتزلة، والقدرية، والرافضة، وفلاسفة الإسلام، أنكروه عليه، وجاء فيه بما يسخر منه العقلاء. وأنكر أن يكون الله سبحانه يعلم شيئًا من الموجوادت، وقَرّر ذلك بأنه لو علم شيئًا لكَمَلَ بمعلوماته، ولم يكن كاملًا في نفسه، وبأنّه كان يَلحقه التعب والكَلالُ من تصور المعلومات. فهذا غاية عقل هذا المعلم الأستاذ. وقد حكى ذلك أبو البركات، وبالغ في إبطال هذه الحجج وردِّها. فحقيقة ما كان عليه هذا المعلم لأتباعه: الكفرُ بالله تعالى، وملائكته، وكتبه، ورسله، واليوم الآخر، ودَرج على أثره أتباعُهُ من الملاحدة، ممن يتستّر باتِّباع الرسل، وهو مُنْحَلٌّ من كلّ ما جاءوا به. وأتباعه يعظِّمونه فوق ما يعظِّم به الأنبياء، ويرون عَرْضَ ما جاءت به الرسل والأنبياء على كلامه، فما وافقه منها قبلوه، وما خالفه لم يَعْبأُوا به شيئًا.

فساد ميزان المنطق وعوجه وتعويجه للعقول

ويسمُّونه المعلم الأول، لأنه أول من وضع لهم التعاليم المنطقية، كما أن الخليل بن أحمد أول من وضع عَروض الشعر. وزعم أرسطو وأتباعه أن المنطق ميزان المعاني، كما أن العروض ميزان الشعر. وقد بيّن نُظّار الإسلام فساد هذا الميزان وعِوجَهُ، وتعويجه للعقول، وتخبيطه للأذهان، وصنفوا في ردِّه وتهافته كثيرًا. وآخر من صنف في ذلك شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله، ألّف في رده وإبطاله كتابين كبيرًا وصغيرًا (¬1)، بيّن فيه تناقضه وتهافته، وفساد كثير من أوضاعه. ورأيت فيه تصنيفًا لأبى سعيد السِّيرافي (¬2). والمقصود أن الملاحدة درجت على أثَرِ هذا المعلم الأول، حتى انتهت نَوْبَتُهُم إلى معلمهم الثاني أبي نصر الفارابي، فوضع لهم التعاليم الصّوتية، كما أن المعلِّم الأول وضع لهم التعاليم الحرفية، ثم وسّع الفارابي الكلام في صناعة المنطِق، وبسَّطها، وشرح فلسفة أرسطو وهذّبها، وبالغ في ذلك، وكان على طريقة سلفه: من الكفر بالله تعالى، وملائكته، وكتبه، ورسله، واليوم الآخر. فكل فيلسوف لا يكون عند هؤلاء كذلك فليس بفيلسوف في الحقيقة، ¬

_ (¬1) هما: الرد على المنطقيين، ونقض المنطق. (¬2) هو المناظرة بينه وبين متى بن يونس التي حكاها أبو حيان التوحيدي في الإمتاع والمؤانسة (1/ 107 - 129).

الزندقة والإلحاد عندهم جزء من مسمى الفضيلة أو شرط فيها

وإذا رأوه مؤمنًا بالله، وملائكته، وكتبه، ورسوله، ولقائه (¬1)، متقيِّدًا بشريعة الإسلام، نسبوه إلى الجهل والغباوة، فإن كان ممن لا يشكُّون في فضيلته ومعرفته، نسبوه إلى التلبيس والتنميس بناموس الدِّين، استمالةً لقلوب العوامِّ. فالزندقة والإلحاد عند هؤلاء جزء من مسمى الفضيلة أو شرط. ولعلّ الجاهل يقول: إنا تحامَلْنا عليهم في نسبة الكفر بالله وملائكته وكتبه ورسله إليهم، وليس هذا من جهله بمقالات القوم، وجهله بحقائق الإسلام ببعيد. فاعلم أن الله -سبحانه وتعالى عما يقولون- عندهم كما قرّره أفضلُ متأخِّريهم ولسانهم وقدوتهم الذي يقدِّمونه على الرسل أبو علي بن سينا هو: الوجود المطلق بشرط الإطلاق، وليس له عنده صفة ثبوتية تقوم به، ولا يفعل شيئًا باختياره البتة، ولا يعلم شيئَا من الموجوادت أصلًا، لا يعلم عدد الأفلاك، ولا شيئًا من المغَيَّبات، ولا له كلامٌ يقوم به، ولا صفةٌ. ومعلوم أن هذا إنما هو خيالٌ مقدَّر في الذهن، لا حقيقة له، وإنما غايَتُهُ أن يفرضه الذّهن ويقَدّره، كما يفرض الأشياء المقدّرة، [152 أ] وهذا ليس هو الربّ الذي دعت إليه الرُّسل وعرفته الأمم، بل بين هذا الرب الذي دعت إليه الملاحدة وجرّدته عن الماهيّة، وعن كل صفة ثُبوتية، وكل فعلٍ اختياريٍّ، وأنه لا داخل العالم ولا خارجه، ولا متصل به ولا مباين له، ولا فوقه ولا تحته، ولا أمامه ولا خلفه، ولا عن يمينه ولا عن شماله، وبين ربّ العالمين وإله المرسلين من الفَرق ما بين الوجود والعدم والنفي والإثبات. ¬

_ (¬1) م: "وآياته". والمثبت من باقي النسخ.

ابن سينا قرب مذاهب الملاحدة إلى دين الإسلام بجهده

فأيّ موجودٍ فُرِض كان أكملَ من هذا الإله الذي دعت إليه الملاحدة، ونَحتَتْه أفكارهم، بل منحوت الأيدي من الأصنام له وجودٌ، وهذا الرب ليس له وجودٌ، ويستحيل وجوده إلا في الذهن. هذا، وقول هؤلاء الملاحدة أصلحُ من قول مُعلّمهم الأول أرسطو، فإن هؤلاء أثبتوا وجودًا واجبًا، ووجودًا ممكنًا هو معلولٌ له وصادرٌ عن صدور المعلول عن العلة، وأما أرسطو فلم يُثبته إلا من جهة كونه مبدأً عقليًا للكثرة، وعِلَّةَ غائيةً لحركة الفلك فقط، وصرَّح بأنه لا يعقل شيئًا، ولا يفعل باختياره. وأما هذا الذي يوجد في كتب المتأخرين من حكاية مذهبه، فإنما هو من وَضع ابن سينا، فإنه قَرّب مذهب سلفه الملاحدة من دين الإسلام بجَهْده، وغايةُ ما أمكنه أنْ قرّبه من أقوال الجهمية الغالين في التّجهُّم، فهم في غُلوِّهم وفي تعطيلهم ونفيهم أسدُّ مذهبًا، وأصحُّ قولًا من هؤلاء. فهذا ما عند هؤلاء من خبر الإيمان بالله عز وجل. وأما الإيمان بالملائكة: فهم لا يعرفون الملائكة، ولا يؤمنون بهم، وإنما الملائكة عندهم ما يَتصوَّره النبي بزعمهم في نفسه من أشكال نُورانية، هي العقول عندهم، وهي مجرّدات ليست داخل العالم، ولا خارجه، ولا فوق السماوات، ولا تحتها، ولا هي أشخاص تتحرك، ولا تصعد، ولا تنزل، ولا تدبّر شيئًا، ولا تتكلم، ولا تكتب أعمال العبد، ولا لها إحساس، ولا حركة البتة، ولا تنتقل من مكان إلى مكان، ولا تَصُفّ عند ربها، ولا تصليِّ، ولا لها تصرُّف في أمر العالم البتة، فلا تقبض نفس العبد، ولا تكتب رزقه وأجله وعمله، ولا عن اليمين وعن الشمال قعيد، كل هذا لا حقيقة له عندهم البتة.

وربما تقرب بعضهم إلى الإسلام فقال: إنها القوى الخيرة الفاضلة، والشياطين هي القوى الشريرة

وربما تقرّب بعضُهم إلى الإسلام، فقال: الملائكة هي القُوى الخيّرة الفاضلة التي في العبد، والشياطين هي القوى الشرِّيرة الرديئة. هذا إذا تقرّبوا إلى الإسلام وإلى الرسل. وأما الكتب فليس لله عندهم كلام أنزله إلى الأرض بواسطة الملك، فإنه ما قال شيئًا، ولا يقول، ولا يجوز عليه الكلام. ومن تقرّب منهم إلى المسلمين يقول: الكتب المنزلة: فَيْضٌ فاضَ من العقل الفَعّال على النفس المستعدِّة الفاضلة الزكيّة، فتصوَّرت تلك المعاني، وتشكَّلت في نفسه، بحيث توهمها أصواتًا تُخاطبه، وربما قَوِيَ الوهم حتى يراها أشكالًا نورانية تُخاطبه، وربما قوي ذلك، حتى يُخَيّلها لبعض الحاضرين، فيرونها ويسمعون خطابها، ولا حقيقة لشيء من ذلك في الخارج. وأما الرسل والأنبياء صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين، فللنبوّة عندهم ثلاث خصائص، من استكملها فهو نبيّ: أحدها: قوة الحَدْس، بحيث يُدرك الحد الأوسط بسرعة. الثانية: قوة التخيُّل والتخييل، بحيث يتخيل في نفسه أشكالًا نورانية تخاطبه، ويسمع الخطاب منها، ويخيِّلها إلى غيره. الثالثة: قوة التأثير بالتصرّف في هَيُولىَ العالم، وهذا يكون عندهم بتجرُّد النفس عن العلائق، واتصالها [152 ب] بالمفارقات من العقول والنفوس المجردة. وهذه الخصائص تحصل بالاكتساب، ولهذا طلب النبوة مَن تصوّف

قولهم: الفلسفة نبوة الخاصة، والنبوة فلسفة العامة

على مذهب هؤلاء: ابن سَبْعِين، وابن هُود، وأضرابهما. والنبوة عند هؤلاء صنعةٌ من الصنائع، بل من أشرف الصنائع، كالسياسة، بل هي سياسة العامة، وكثير منهم لا يرضى بها، ويقول: الفلسفة نُبُوّةُ الخاصة، والنبوة فلسفة العامة. وأما الإيمان باليوم الآخر فهم لا يُقرُّون بانفطار السماوات، وانتثار الكواكب، وقيامة الأبدان، ولا يُقرُّون بأن الله خلق السماوات والأرض في ستة أيام، وأوجد هذا العالم بعد عدمه. فلا مبدأ عندهم، ولا معاد، ولا صانع، ولا نبوة، ولا كتب نزلت من السماء، تكلم الله بها، ولا ملائكة تنزّلت بالوحي من الله تعالى. فدين اليهود والنصارى بعد النسخ والتبديل خير من دين هؤلاء. وحَسْبك جهلًا بالله تعالى وأسمائه وصفاته وأفعاله من يقول: إنه سبحانه لو علم الموجودات لَحِقَه الكَلُّ والتعب، واستكمل بغيره. وحسبك خذلانًا وضلالًا وعمًى: السير خلف هؤلاء، وإحسان الظن بهم، وأنهم أولو العقول. وحسبك عجبًا من جهلهم وضلالهم: ما قالوه في سلسلة الموجودات، وصدور العالم عن العقول والنفوس، إلى أن أَنْهَوا صدور ذلك إلى واحد من كل جهة، لا علم له بما صدر عنه، ولا قدرة له عليه، ولا إرادة، وأنه لم يصدر عنه إلا واحد. فذلك الصادر إن كان فيه كثرة بوجه ما فقد بطل ما أصَّلوه، وإن لم يكن فيه كثرة البتة لزم أن لا يصدر عنه إلا واحد مثله.

أرسطو معطل مشرك جاحد للنبوات

وتكثُّر الموجودات وتعدّدها يكذِّب هذا الرأي الذي هو ضحكةٌ للعقلاء، وسُخْرِيَةٌ لأولي الألباب. مع أن هذا كله من تخليط ابن سينا، وأراد به تقريب هذا المذهب من الشرائع، وهيهات! وإلا فالمعلم الأول لم يُثبت صانعًا للعالم البتة. فالرجل معطّل، مُشرك، جاحد للنبوات والمعاد، ولا مبدأ عنده، ولا معاد، ولا رسول، ولا كتاب. والرازي وفروخه لا يعرفون مذهب الفلاسفة غير طريقه. ومذاهبهم وآراؤهم كثيرة جدًّا، قد حكاه أصحاب المقالات، كالأشعري في "مقالاته" الكبيرة، وأبى عيسى الورّاق، والحسن بن موسى النَّوبَخْتِيِّ. وأبو الوليد بن رشد يحكي مذهب أرسطو غير ما حكاه ابنُ سينا، ويُغَلّطه في كثيرٍ من المواضع، وكذلك أبو البركات البغدادي يحكي نفس كلامه على غير ما يحكيه ابن سينا. فصل والفلاسفة لا تختصُّ بأمةٍ من الأمم، بل هم موجودون في سائر الأمم، وإن كان المعروف عند الناس الذين اعتنوا بحكاية مقالاتهم هم فلاسفة اليونان، فهم طائفة من طوائف الفلاسفة، وهؤلاء أمة من الأمم، لهم مملكة وملوك، وعلماؤهم فلاسفتهم. ومن ملوكهم: الإسكندر المقدوني، وهو ابن فِيلِبُّس، وليس هو بالإسكندر ذي القرنين الذي قصّ الله تعالى نبأه في القرآن، بل بينهما قرونٌ

كان أرسطو وزيرا للإسكندر المقدوني

كثيرةٌ، وبينهما في الدِّين أعظم تَباين. فذُو القرنين كان رجلًا صالحًا موحِّدًا لله تعالى، يؤمن بالله تعالى وملائكته، وكتبه، ورسله، واليوم الآخر، وكان يغزو عُبّاد الأصنام، وبلغ مشارق الأرض ومغاربها، وبني السّدّ بين الناس وبين يأجوج ومأجوج. وأما هذا المقدوني فكان مُشركًا يعبد الأصنام هو وأهل مملكته، وكان بينه وبين المسيح نحو ألف سنة وست مئة سنة، والنصارى تؤرّخ [153 أ] له، وكان أرسطاطاليسُ وزيره، وكان مشركًا يعبد الأصنام، وهو الذي غزا دارا بن دارا ملك الفرس في عُقر داره، ففَلَّ عرشه، ومَزّق مُلكه، وفرّق جمعه، ثم دخل إلى الصين، والهند، وبلاد الترك، فقتل وسبى. وكان لليونانيين في دولته عِزٌّ وسَطوة بسبب وزيره أرسطو، فإنه كان مُشيره ووزيره، ومُدبِّر مملكته. وكان بعده لليونان عدة ملوك يُعْرَفون بالبطالمة، واحدهم بَطْلِيْمُوس، كما إن كسرى: ملكُ الفرس، وقيصر: ملك الروم. ثم غلبهم الروم، واستولوا على ممالكهم، فصاروا رَعيّةً لهم، وانقرضَ مُلكهم، فصارت المملكة للروم، وصارت المملكة واحدة، وهم على شركهم من عبادة الأصنام، وهو دينهم الظاهر (¬1) ودين آبائهم، فنشأ فيهم سُقراط أحد تلامذة فِيثاغُورس، وكان من عُبّادهم ومُتألهّيهم، وجاهرهم بمخالفتهم في عبادة الأصنام، وقابَل رؤساءهم بالأدلة والحجج على بُطلان عبادتها، فثار عليه العامَّة، واضطرُّوا الملك إلى قَتله، فأودعه السجن ليكُفّهم ¬

_ (¬1) "الظاهر" ساقطة من م.

مذهب سقراط في الصفات كان قريئا من مذهب أهل الإثبات

عنه، ثم لم يرضَ المشركون إلا بقتله، فسقاه السُّم خوفًا من شرهم، بعد مناظراتٍ طويلة جرت له معهم. ومذهبه في الصفات قريب من مذهب أهل الإثبات، فقال: "إنه إله كل شيء، وخالقه، ومقدّره، وهو عزيز أي منيع ممتنع أن يُضام، وحكيم أي مُحكم أفعاله على النظام". وقال: "إن علمه، وقدرته، ووجوده، وحكمته: بلا نهاية، لا يبلغ العقل أن يصفها". وقال: "إن تناهي المخلوقات بحسب احتمال القوابل، لا بحسب الحكمة والقدرة، فلما كانت المادة لا تحتمل صُوَرًا بلا نهاية تناهت الصور، لا من جهة بُخلٍ في الواهب، بل لقصور في المادة". قال: "وعن هذا اقتضت الحكمة الإلهية أنها (¬1) وإن تناهت ذاتًا وصورةً وحيِّزًا ومكانًا، إلا أنها لا تتناهى زمانًا في آخرها، لا من نحو أوّلها، فاقتضت الحكمة استبقاء الأشخاص باستبقاء الأنواع، وذلك بتجدُّد أمثالها، ليُحفظ الأشخاص ببقاء الأنواع، ويُستبقى الأنواع بتجدد الأشخاص، فلا تبلغ القدرة إلى حد النهاية، ولا الحكمة تقف على غاية". ومن مذهبه: أن أخصّ ما يوصف به الرب سبحانه هو كونه حَيًّا قيومًا، لأن العلم، والقدرة، والجود، والحكمة: تندرج تحت كونه حيًّا قيومًا، فهما صفتان جامعتان للكُلِّ. وكان يقول: "هو حي ناطق من جوهره، أي من ذاته، وحياتنا ونطقنا ¬

_ (¬1) "أنها" ساقطة من م.

أفلاطون كان معروفا بالتوحيد وإنكار عبادة الأوثان وإثبات حدوث العالم

وحياتنا لا من جوهرنا، ولهذا يتطرق إلى حياتنا ونطقنا العدم والدثور والفساد، ولا يتطرق ذلك إلى حياته ونطقه". وكلامه في المعاد والصفات والمبدأ أقربُ إلى كلام الأنبياء من كلام غيره. وبالجملة، فهو أقرب القوم إلى تصديق الرسل صلوات الله وسلامه عليهم، ولهذا قتله قومه. وكان يقول: "إذا أقبلت الحكمة خدمت الشهواتُ العقولَ، وإذا أدبرت خدمت العقولُ الشهواتِ". وقال: "لا تُكرهوا أولادكم على آثاركم، فإنهم مخلوقون لزمان غير زمانكم". وقال: "ينبغي أن نغتمّ بالحياة ونفرح بالموت، لأن الإنسان يحيا ليموت، ثم يموت ليحيا". وقال: "قلوب المغرقين (¬1) في المعرفة بالحقائق منابر الملائكة، وقلوب المؤثرين للشهوات مقاعد للشياطين". وقال: "للحياة حَدَّان، أحدهما: الأمل، والآخر: الأجل، فبالأول بقاؤها، وبالآخر فناؤها" [153 ب]. وكذلك أفلاطون كان معروفًا بالتوحيد، وإنكار عبادة الأصنام، وإثبات حدوث العالم، وكان تلميذ سُقراط، ولما هلك سقراط قام مقامه، وجلس على كُرْسِيِّه. ¬

_ (¬1) م: "المغرمين".

خالف أرسطو أستاذه أفلاطون، وتبعه ملاحدة الفلاسفة من المنتسبين إلى الملل حتى انتهت النوبة إلى ابن سينا

وكان يقول: "إن للعالم صانعًا مُحْدِثًا، مُبْدِعًا أزليًا، واجبًا بذاته، عالمًا بجميع المعلومات". قال: "وليس في الوجود رسم ولا طَلَل إلا ومثاله عند الباري". يشير إلى وجود صور المعلومات في علمه. فهو مُثبتٌ للصفات، وحدوث العالم، ومُنْكِرٌ لعبادة الأصنام، ولكن لم يواجِه قومَهُ بالردِّ عليهم وعَيْبِ آلهتهم، فسكتوا عنه، وكانوا يعرفون له فضله وعلمه. وصرَّح أفلاطون بحدوث العا لم، كما كان عليه الأساطين، وحكى ذلك عنه تلميذه أرسطو، وخالفه فيه، فزعم أنه قديم، وتبعه على ذلك ملاحدة الفلاسفة من المنتسبين إلى الملل وغيرهم، حتى انتهت النوبة إلى أبي علي ابن سينا، فرام بجهده تقريب هذا الرأي من قول أهل الملل، وهيهات اتفاق النقيضين، واجتماع الضدين! فرسل الله تعالى وكتبه وأتباع الرسل في طرف، وهؤلاء القوم في طرف. وكان ابن سينا كما أخبر عن نفسه قال: أنا وأبي من أهل دعوة الحاكم، فكان من القرامطة الباطنية، الذين لا يؤمنون بمبدأ ولا معاد، ولا ربٍّ خالق، ولا رسولٍ مبعوث جاء من عند الله تعالى. وكان هؤلاء زنادقة يتستَّرون بالرَّفْض، ويُبْطِنُون الإلحاد المَحْض، وينتسبون إلى أهل بيت الرسول - صلى الله عليه وسلم - وهو وأهل بيته برآءُ منهم نسبًا ودينًا، وكانوا يقتلون أهل العلم والإيمان، ويَدَعون أهل الإلحاد والشرك والكفران، لا يُحرِّمون حرامًا، ولا يُحِلُّون حلالًا، وفي زمنهم ولخواصِّهم وُضِعَتْ "رسائل إخوان الصفا".

النصير الطوسي وزير هولاكو نصير الشرك والكفر

ولما انتهت النوبة إلى نَصِير الشرك والكفر الملحد، وزير الملاحدة، النّصير الطُّوسي، وزير هُولاكو شفَى نفسَه من أتباع الرسول وأهل دينه، فعَرَضَهم على السّيف، حتى شفَى إخوانه من الملاحدة، واشتفى هو، فقتل الخليفة والقُضَاة والفُقهاء والمحدّثين، واستَبْقَى الفلاسفة والمنجِّمين والطبائعيين والسّحَرة، ونقلَ أوقافَ المدارس والمساجد والرُّبُطِ إليهم، وجعلهم خاصّته وأولياءه، ونصرَ في كُتبه قِدَم العالَم، وبطلان المعاد، وإنكار صفات الرب جل جلاله، من علمه، وقدرته، وحياته، وسمعه، وبصره، وأنه لا داخل العالم ولا خارجه، وليس فوق العرش إلهٌ يُعبد البتة. واتخذ للملاحدة مدارسَ، ورامَ جَعْلَ "إشارات" إمام الملحدين ابن سينا مكان القرآن، فلم يَقْدِرْ على ذلك، فقال: "هي قرآنُ الخواصّ، وذاك قرآنُ العوامّ"، ورَامَ تغيير الصلاة، وجعلها صلاتين، فلم يتم له الأمر، وتَعلّم السحر في آخر الأمر، فكان ساحرًا يعبد الأصنام. وصارعهُ محمدٌ الشهرستاني في كتاب سماه "المُصَارعة"، أبطلَ فيه قوله بقدَمِ العالمَ وإنكار المعاد، ونفي علم الرب تعالى وقدرته، وخلقه للعالمَ، فقام له نصير الإلحاد وقعد، ونقضه بكتاب سماه "مُصارعة المصارع (¬1) "-ووقفنا على الكتابين- نصر فيه: أن الله تعالى لم يخلق السماوات والأرض في ستة [154 أ] أيام، وأنه لا يعلم شيئًا، وأنه لا يفعلُ بقدرته واختياره، ولا يبعثُ مَنْ في القبور. وبالجملة فكان هذا الملحد هو وأتباعه من الملحدين الكافرين بالله، وملائكته، وكتبه، ورسله، واليوم الآخر. ¬

_ (¬1) في الأصل: "التضارع" تحريف.

دين مشركي العرب خير من خير أقوال هؤلاء

والفلسفة التي يقرؤها أتباع هؤلاء اليوم: هي مأخوذة عنه وعن إمامه ابن سينا، وبعضُها عن أبي نصر الفارابي، وشيءٌ يَسِيرٌ منها من كلام أرسطو، وهو مع قلته وغَثاتته ورَكَاكة ألفاظه كثير التطويل، لا فائدة فيه. وخيارُ ما عند هؤلاء: فالذي عند مشركي العرب من كُفار قريشٍ وغيرهم خير منه، فإنهم يدأبون حتى يُثبتوا واجب الوجود، ومع إثباتهم له فهو عندهم وجود مطلق، لا صفة له ولا نعت، ولا فعل يقوم به، لم يخلق السماوات والأرض بعد عدمهما، ولا له قُدرةٌ على فعلٍ، ولا يعلم شيئًا. وعُبّاد الأصنام كانوا يثبتون ربًّا خالقًا، مُبدعًا، عالمًا، قادرًا، حَيًّا، يشركون به في العبادة. فنهاية أمر هؤلاء: الوصولُ إلى شيء بَرّزَ عليهم فيه عُبّاد الأصنام. وهم فِرق شَتّى لا يحُصيهم إلا الله عز وجل. وأحصى المعتنون بمقالاتِ الناس منهم اثنتي عشرة فِرقةً، كلُّ فِرقةً منها مختلفة اختلافًا كثيرًا. فمنهم: أصحاب الرّواق، وأصحاب الظُّلَّة، والمشاءون، وهم شيعة أرسطو، وفلسفتهم هي الدائرة اليوم بين الناس، وهي التي يحكيها ابن سينا، والفارابي، وابن الخطيب، وغيرهم. ومنهم: الفيثاغورية، والأفلاطونية. ولا تكاد تجدُ منهم اثنين متفقين على رأي واحد، بل قد تلاعبَ بهم الشيطانُ كتلاعب الصبيان بالكُرة، ومقالاتُهم أكثر من أن نذكرها على التفصيل. وبالجملة، فملاحدَتُهم هم أهل التعطيل المحض، فإنهم عَطّلوا الشرائع، وعطلوا المصنوع عن الصانع، وعطَّلوا الصانع عن صفات كماله،

وعطلوا العالَم عن الحق الذي خلقَه له ربه، فعطَّلوه عن مبدئه ومعاده، وعن فاعله وغايته. ثم سرى هذا الداءُ منهم في الأمم، وفي فرق المعطلة: فكان منهم إمام المعطّلين: فرعون، فإنه أخرج التعطيل إلى العمل، فصرَّح به، وأذّن به بين قومه، ودعا إليه، وأنكر أن يكون إلهٌ غيره، وأنكر أن يكون الله تعالى فوق سماواته على عرشه، وأن يكون كلّم عبده موسى تكليمًا، وكذّبَ موسى في ذلك، وطلب من وزيره هامان أن يبني له صرحًا ليطّلع بزعمه إلى إله موسى عليه السلام، وكذّبه في ذلك. فاقتدى به كلُّ جهميٍّ مكذب أن يكون الله مُكَلّمًا متكلمًا، أو أن يكون فوق سماواته على عرشه، بائنًا من خلقه، ودَرَج قومه وأصحابه على ذلك، حتى أهلكهم الله تعالى بالغرق، وجعلهم عِبْرَةً لعباده المؤمنين، ونكالًا لأعدائه المعطلين. ثم استمر الأمر على عهد نبوّة موسى كليم الرحمن على التوحيد وإثبات الصفات، وتكليم الله لعبده موسى تكليمًا، إلى أن تُوفي موسى عليه السلام، ودخل الداخل على بني إسرائيل، ورفع التعطيلُ رأسه بينهم، وأقبلوا على علوم المعطلة أعداءِ موسى عليه السلام، وقدّموها على نصوص التوراة، فسلط الله تعالى عليهم مَنْ أزال مُلكهم، وشرّدهم من أوطانهم، وسبى ذراريَّهُم، كما هي عادته سبحانه وسُنّتُه في عباده إذا أعرضوا عن الوَحْي، وتعوّضوا عنه بكلام الملاحدة والمعطلة من الفلاسفة وغيرهم. كما سَلّط النصارى على بلاد العرب لمّا ظهرت فيها الفلسفة والمنطق، واشتغلوا بها، فاستولت النصارى على أكثر بلادهم، وأصاروهم رعيَّة لهم.

جدد عيسى لبني إسرائيل دينهم فكذبوه وعادوه، وراموا قتله فطهره الله من أيديهم واستقام الأمر بعده نحو ثلاثمائة سنة

وكذلك لما ظهر ذلك [154 ب] ببلاد المشرق سلّط عليهم عساكر التتار، فأبادوا أكثر البلاد الشرقية، واستولوا عليها. وكذلك في أواخر المئة الثالثة، وأول الرابعة، لما اشتغل أهل العراق بالفلسفة وعلوم أهل الإلحاد سَلَّط عليهم القرامطة الباطنية، فكسروا عسكر الخليفة عدة مرات، واستولوا على الحاجّ، واستعرضوهم قتلًا وأسرًا، واشتدت شوكتهم، واتُّهِمَ بموافقتهم في الباطن كثير من الأعيان من الوزراء، والكتّاب، والأدباء وغيرهم، واستولى أهلُ دعوتهم على بلاد الغرب، واستقرت دار مملكتهم بمصر، وبُنِيت في أيامهم القاهرة، واستولوا على الشام والحجاز واليمن والمغرب، وخُطب لهم على منبر بغداد. والمقصود أن هذا الداء لمَّا دخل في بني إسرائيل كان سبب دمارهم وزوال مملكتهم. ثم بعث الله سبحانه عبدَهُ ورسوله وكلمته المسيحَ ابن مريم صلوات الله وسلامه عليه، فجدد لهم الدِّين، وبيَّن لهم معالمه، ودعاهم إلى عبادة الله وحده، والتبرّي من تلك الأحداث والآراء الباطلة، فعادَوْه وكذَّبوه، ورموه وأمَّه بالعظائم، ورامُوا قتله، فطهَّره الله تعالى منهم، ورفعه إليه، فلم يَصِلُوا إليه بسوء، وأقام الله تعالى للمسيح أنصارًا دَعَوْا إلى دينه وشريعته، حتى ظهر دينه على من خالفه، ودخل فيه الملوك، وانتشرت دعوتُه، واستقام الأمرُ على السداد بعده نحو ثلاث مئة سنة. ثم أخذ دينُ المسيح في التبديل والتغيير، حتى تَناسَخ واضمحلّ، ولم يَبْقَ بأيدي النصارى منه شيء، بل رَكّبوا دينًا بين دين المسيح ودين الفلاسفة عُبّاد الأصنام، وراموا بذلك أن يَتَلَطّفوا للأمم، حتى يدخلوهم في النصرانية،

فنقلوهم من عبادة الأصنام المجسَّدة إلى عبادة الصور التي لا ظِلّ لها، ونقلوهم من السجود للشمس إلى السجود إلى جهة المشرق، ونقلوهم من القول باتحاد العاقل والمعقول والعقل إلى القول باتحاد الأب والابن وروح القدس. وهذا، ومعهم بقايا من دين المسيح، كالختان، والاغتسال من الجنابة، وتعظيم السبت، وتحريم الخنزير، وتحريم ما حرّمته التوراة، إلا ما أُحِلّ لهم بنصِّها. ثم تناسخت الشريعة إلى أن استحلُّوا الخنزير، وأحَلُّوا السبت، وعُوّضوا منه يوم الأحد، وتركوا الختان والاغتسال من الجنابة. وكان المسيح يُصَليِّ إلى بيت المقدس، فصلّوا هم إلى المشرق. ولم يُعَظّم المسيح عليه السلام صليبًا قَطّ، فعظّموا هم الصليب، وعبدوه. ولم يَصُم المسيح عليه السلام صَوْمهم هذا أبدًا، ولا شَرَعه، ولا أمر به البتة، بل هم وضعوه على هذا العدد، ونقلوه إلى زمن الرّبيع، فجعلوا ما زادوا فيه من العدد عِوَضًا عن نقله من الشهور الهلالية إلى الشهور الرومية. وتعبَّدوا بالنجاسات، وكان المسيح عليه السلام في غاية الطهارة والطيب والنظافة، وأبعد الخلق عن النجاسة، فقصدوا بذلك تغيير دين اليهود، ومُراغَمتَهم، فغيَّروا دين المسيح. وتقرّبوا إلى الفلاسفة عُبَّاد الأصنام، بأن وافقوهم في بعض الأمر، ليرضوهم به، وليستنصروا بذلك على اليهود.

ثم كان للنصارى عذة مجامع يتفرقون منها على الاختلاف والتلاعن

ولما أخذ دين المسيح عليه السلام في التغيير والفساد، اجتمعت النصارى عدّة مجامع تزيد على ثمانين مَجْمَعًا، ثم يتفرقون على الاختلاف والتلاعُن، يلعنُ بعضُهم بعضًا، حتى قال فيهم بعض العقلاء: لو اجتمع عشرة من النصارى، يتكلمون في حقيقة ما هم عليه، لتفرّقوا عن أحد عشر مذهبًا! حتى جمعهم قُسْطَنْطِين الملكُ آخر ذلك من الجزائر والبلاد وسائر الأقطار؛ فجمع كل بَتْرك [155 أ] وأسقُفٍّ وعالمٍ، فكانوا ثلاث مئة وثمانية عشر. فقال: أنتم اليوم علماء النصرانية، وأكابر النصارى فاتفِقُوا على أمر تجتمع عليه كلمة النصرانية، ومن خالفها لَعنتموه وحَرَمتموه، فقاموا وقعدوا، وفكّرُوا وقدّروا، واتفقوا على وضع الأمانة التي بأيديهم اليوم، وكان ذلك بمدينة نِيقيَة، سنة خمس عشرة من مُلك قسطنطين (¬1). وكان أحد أسباب ذلك أن بِطْريق الإسكندرية منع أرْيوس من دخول الكنيسة ولعنَه، فخرج أريوس إلى قسطنطين الملك مُسْتعديًا عليه، ومعه أسقُفَّان فشكوه إليه، وطلبوا مناظرته بين يدي الملك، فاستحضره الملك، وقال لأريوس: اشرح مقالتك، فقال أريوس: أقول: إن الأب كان إذ لم يكن الابن، ثم أحدثَ الابن، فكان كلمةً له، إلا أنه مُحدَث مخلوق، ثم فوّض الأمر إلى ذلك الابن المسمّى كلمةً، فكان هو خالق السماوات والأرض وما بينهما، كما قال في إنجيله، إذ يقول: "وَهبْ لي سلطانا على السماوات والأرض"، فكان هو الخالق لهما بما أُعطيَ من ذلك، ثم إن تلك الكلمةَ بعدُ اتحدت من مَريم العَذْراء، ومن رُوح القُدُس، فصار ذلك مسيحًا واحدًا، ¬

_ (¬1) انظر أخبار هذا المَجمع وغيرها من المجامع العشرة في: تاريخ ابن البطريق (1/ 120 وما بعدها) والجواب الصحيح (4/ 214 وما بعدها) وهداية الحيارى (ص 398 - 425).

فالمسيح الآن معنيان: كلمة وجسد، إلا أنهما جميعًا مخلوقان. فقال بِطْرِيقُ الإسكندرية حبريا: أيما أوجبُ علينا عندك عبادةُ مَنْ خَلَقَنا، أو عبادةُ مَنْ لم يخلقنا؟ فقال أريوس: بل عبادةُ مَنْ خلقنا. فقال: فعبادةُ الابن الذي خلقنا وهو مخلوق أوجبُ من عبادة الأب الذي ليس بمخلوق، بل تصيرُ عبادة الأب الخالق كفرًا، وعبادةُ الابن المخلوق إيمانًا. فاستحسن الملكُ والحاضرون مقالته، وأمرهم الملكُ أن يَلْعنوا أرْيُوسَ وكُلَّ من يقول مقالَته. فلما انتصر البطريق قال للملك: استحِضر البطارقة والأساقفة، حتى يكون لنا مجمعٌ، ونصنع قِصّة نشرح فيها الدِّين، ونُوضّحه للناس، فحشرَهم قُسطنطين من سائر الآفاق، فاجتمع عنده بعد سنةٍ وشهرين ألفان وثمانية وأربعون أُسْقُفًا، وكانوا مختلفي الآراء، متباينين في أديانهم، فلما اجتمعوا كثر اللَّغَطُ بينهم، وارتفعت الأصوات، وعَظُم الاختلاف، فتعجب الملك من شِدّة اختلافهم، فأجرى عليهم الأنزال، وأمرهم أن يَتناظروا، حتى يعلم الدِّين الصحيح مع مَنْ منهم؟ فطالت المناظرةُ بينهم، فاتّفق منهم ثلاث مئة وثمانية عشر أسقُفًا على رأي واحد، فناظروا بقية الأساقفة، فظهروا عليهم، فَعَقَد الملك لهؤلاء الثلاث مئة والثمانية عشر مجلسًا خاصًّا وجلس في وسطه، وأخذ خاتمه وسيفه وقَضِيبَهُ، فدفعه إليهم، وقال لهم: قد سَلّطتكم على المملكة، فاصنعوا ما بدا لكم مما فيه قِوام دينكم وصلاحُ أمّتكم، فبارَكوا عليه وقلّدُوه سَيْفه، وقالوا له: أظْهِرْ دين النصرانية وذُبَّ عنه، ودفعوا إليه الأمانة التي اتفقوا على

وضعها، فلا يكون عندهم نصرانيًّا مَنْ لم يُقِرَّ بها، ولا يتم لهم قُربانٌ إلا بها، وهي هذه: "نؤمن بالله الواحد الأب، مالك كل شيء، صانع ما نرى وما لا نرى، وبالرب الواحد يسوع المسيح ابن الله الواحد، بكر الخلائق كُلّها، الذي وُلد من أبيه قبلَ العوالِم كلها، وليس بمصنوعٍ، إله حقٌ من إله حقٍّ، من جوهر أبيه، الذي بيده أُتْقنت العوالمُ، وخُلق كل شيء، الذي من أجْلِنا معشر الناس، ومن أجل خلاصنا نزل من السماء، وتجسّد من رُوح القدُس، وصار إنسانًا وحُملَ به، ثم وُلد من مَريم البَتُول، وأَلِمَ، وشُجَّ، وقُتل، وصُلب، ودُفن، وقام في اليوم الثالث، وصعد إلى السماء، وجلس عن يمين أبيه، وهو مُستعدٌّ للمجيء تارةً أخرى للقضاء بين الأموات والأحياء، ونؤمن بروح القُدُس الواحد، روح الحق الذي يخرج من أبيه، روح محبته، وبمعمودية واحدةٍ لغُفران الخطايا، وبجماعة واحدةٍ قدّيسيّة جاثليقيّةٍ، وبقيامةِ أبداننا، والحياة الدائمة إلى أبَدِ الآبدين". فهذا العقدُ الذي أجمع عليه الملكية، والنّسْطُورية، واليعقوبية. وهذه الأمانة التي ألّفها أولئك البتاركة والأساقِفة والعلماء، وجعلوها شعار النصرانية، وكان رؤساء هذا المجمع: بَتْرَكَ الإسكندرية، وبترك أنْطاكية، وبترك بيت المقدس، فافترقوا عليها، وعلى لَعْنِ من خالفها، والتّبَرِّي منه، وتكفيره. ثم ذهب أرْيُوس يدعو إلى مقالته، ويُنفّر النصارى عن أولئك الثلاث مئة والثمانية عشر، فجمع جمعًا عظيمًا، وصاروا إلى بيت المقدس، وخالف كثيرٌ من النصارى لأولئك المجمع.

الخيانة الكبرى - التي يسميها النصارى الأمانة - التي وضعها مجمع قسطنطين وجعلوها شعار النصرانية

فلما اجتمعوا قال أريوس: إن أولئك النفر تَعدَّوا عليّ، وظلموني، ولم يُنْصفوني في الحِجاج، وحرموني ظُلمًا وعُدوانًا، ووافقه كثيرٌ من الذين معه، وقالوا: صَدَقَ، فوثبوا عليه فضربوه، حتى كاد أن يُقْتَل لولا ابن أخت الملك خلّصه، وافترقوا على هذه الحال. ثم كان لهم مجمعٌ ثالث بعد ثمانٍ وخمسين سنة من المجمع الأول، اجتمع الوُزراء والقُوّادُ إلى الملك، وقالوا: إن مقالة الناس قد فَسَدَت، وغلب عليهم مقالة أريوس، فاكتُب إلى جميع البتاركة والأساقفة أن يجتمعوا، ويوضحوا دين النصرانية، فكتب الملك إلى سائر بلاده، فاجتمع بقُسطنطينية مئةٌ وخمسون أُسْقُفًا، وكان مُقَدَّموهم: بَتْرَك الإسكندرية، وبترك أنطاكية، وبترك بيت المقدس، فنظروا في مقالة أريوس. وكان من مقالته: أن روح القدس مخلوق مصنوع، ليس بإله. فقال بترك الإسكندرية: ليس لروح القدس عندنا معنًى غير روح الله تعالى، وليس روح الله تعالى شيئًا غير حياته، فإذا قلنا: إن رُوح القُدُس مخلوقٌ فقد قلنا: إن روح الله مخلوقٌ، وإذا قلنا: إن رُوح الله مخلوقة، فقد قلنا: إن حياته مخلوقةٌ، فقد جعلناه غير حَيٍّ، ومن جعله غير حيٍّ فقد كفر، ومن كفر وجب عليه اللعنُ. فلعنوا بأجمعهم أريوسَ وأشياعَهُ وأتباعَهُ، والبتاركة الذين قالوا بمقالته، وبينوا أن روح القدس خالق غير مخلوق، إله حقٌ، وأن طبيعة الأب والابن جَوْهرٌ واحدٌ، وطبيعة واحدةٌ، وزادوا في الأمانة التي وضعها الثلاث مئة والثمانية عشر: "ونؤمن بروح القدس الربّ المحيي، الذي من الأب المنبثق، الذي مع الابن والأب، وهو مسجود ومُمَجّد".

زيادتهم ونقصهم وتحليلهم ما كان محرما

وكان في الأمانة الأولى: "وبروح القدس" فقط. وبينوا أن الأب والابن وروح القدس ثلاثة أقانيم، وثلاثة وجوه، وثلاثة خواصّ، وحدة في تثليثٍ، وتثليثٌ في وحدة، وزادوا ونقصوا في الشريعة. وأطلق بترك الإسكندرية للرهبان والأساقفة والبتاركة أكلَ اللحم، وكانوا على مذهب مَانِيْ، لا يرون أكل ذوات الأرواح. فانفَضّ هذا المجمع، وقد لعنوا فيه أكثر أساقفتهم وبتاركتهم، ومضوا على تلك الأمانة. ثم كان لهم مجمعٌ رابع بعد إحدى وخمسين سنة من هذا المجمع على نَسْطُورس. وكان مذهبه: "أن مريم ليست بوالدةِ الإله على الحقيقة، ولكن ثمة اثنان، الإله الذي هو موجود من الأب، والآخر إنسانٌ الذي هو موجود من مريم، وأن هذا الإنسان الذي نقول: إن المسيح متوحِّد مع أب الإله، وابن الإله ليس ابنًا على الحقيقة، لكن على سبيل الموْهبة والكرامة، واتفاق الاسمين". فبلغ ذلك بتاركَةَ سائر البلاد، فجرت بينهم مراسلاتٌ، واتفقوا على تَخْطِئته، واجتمع منهم مئتا أُسقُفٍّ في مدينة أفْسِيس، وأرسلوا إلى نَسْطُورس للمناظرة، فامتنع ثلاث مرات، فأوجبوا عليه الكفر، فلعنوه ونفوه، وحرموه، وثَبّتوا: "أن مريم ولدت إلهًا، وأن المسيح إله حقٌّ، وإنسان معروفٌ بطبيعتين، مُتَوحّد في الأقنوم". فلما لعنوا نَسْطُورس غضب له بَتْركُ أنطاكية، فجمع أساقفته الذين قدموا معه، وناظَرَهُم، فقطعهم، فتقاتلوا، ووقع الحرب والشر بينهم، وتفاقم أمرهم، فلم يزل الملك حتى أصلح بينهم، فكتب أولئك صحيفة: بأن "مريم

النصارى المشارقة نسطورية

القِدِّيسة ولدت إلهًا، وهو رَبُّنا يَسُوع المسيح، الذي هو مع أمِّه في الطبيعة، ومع الناس في الناسوت"، وأنفذوا لَعْنَ نسطورس. فلما نُفِي نسطورس سار إلى أرض مصر، وأقام بإخميم سبع سنين، ودُفن بها، ودَرَسَت مقالته، إلى أن أحياها ابن صَرما، مُطران نَصيبين، وبثَّها في بلاد المشرق، فأكثر نصارى العراق والمشرق نسطورية. وانفضّ ذلك الجمع أيضًا على لعن نسطورس ومَنْ قال بقوله. وكل مجامعهم كانت تجتمع على الضلال، وتفترق على اللعن، فلا ينفضُّ المجمع إلا وهُم ما بين لاعنٍ وملعون. ثم كان لهم مجمعٌ خامس، وذلك أنه كان بالقسطنطينية طبيب راهب يقال له: أوطيسوس، يقول: إن جسد المسيح ليس هو مع أجسادنا في الطبيعة، وإن المسيح قَبْل التّجَسُّد طبيعتان، وبعد التجسد طبيعة واحدة. وهذه مقالة اليعقوبية. فرحل إليه أسْقُف دَوْلته، فناظره فقَطعه، وأدْحَضَ حُجَّتَهُ. ثم سار إلى قسطنطينية، فأخبر بتركها بالمناظرة وبانقطاعه، فأرسل بترك الإسكندرية إليه، فاستحضره، وجمع جمعًا عظيمًا، وسأله عن قوله، فقال: إن قلنا: إن المسيح طبيعتان فقد قلنا بقول نسطورس، ولكنا نقول: إن المسيح طبيعة واحدة، وأقنومٌ واحد، لأنه من طبيعتين كانتا قبل التجسد، فلما تجسّد زالت عنه الاثْنَيْنِيّة، وصار طبيعةً واحدةً، وأقنومًا واحدًا. فقال له بترك القسطنطينية: إن كان المسيحُ طبيعةً واحدة فالطبيعةُ القديمة هي الطبيعة المحدَثة، وإن كان القديم هو المحدث فالذي لم يَزَلْ

هو الذي لم يَكُنْ، ولو جاز أن يكون القديم هو المحدث لكان القائم هو القاعد، والحارُّ هو البارد، فأبى أن يرجع عن مقالته، فلعنوه، فاسْتَعْدى إلى الملك، وزعم أنهم ظلموه، وسأله أن يكتب إلى جميع البتاركة للمناظرة. فاستحضر الملك البتاركة والأساقفة من سائر البلاد إلى مدينة أفسيس، فثبّت بطريقُ الإسكندرية مقالة أوطيسوس، وقطع بتاركة القسطنطينية وأنطاكية وبيت المقدس، وسائر البتاركة والأساقفة، وكتب إلى بترك رُومية وإلى جماعة البتاركة والأساقفة، فحرَمهم ومنعهم من القُربان إن لم يقبلوا مقالة أوطيسوس. ففسدت الأمانة، وصارت المقالة مقالة أوطيسوس، وخاصة بمصر والإسكندرية، وهو مذهب اليَعْقوبية. فافترق هذا المجمع الخامس وهم ما بين لاعنٍ وملعونٍ، وضالٍّ ومُضلٍّ، وقائلٍ يقول: الصواب مع اللاعنين، وقائلٍ يقول: الحقُّ مع الملاعين. ثم كان لهم بعد هذا مجمع سادسٌ في دولة مَرْقيون. فإنه اجتمع إليه الأساقفة من سائر البلاد، فأعلموه ما كان من ظلم ذلك المجمع، وقلة الإنصاف، وأن مقالة أوطيسوس قد غَلبتْ على الناس، وأفسدت دين النصرانية، فأمر الملك باستحضار سائر البتاركة والمطارنة والأساقفة إلى حضرته، فاجتمع عنده ست مئة وثلاثون أسقفًا، فنظروا في مقالة أوطيسوس وبترك الإسكندرية، التي قطع بها جميع البتاركة، فأفسدوا مقالتهما ولعنوهما، وأثبتوا "أن المسيح إله وإنسان، ومع الله في اللاهوت،

ثم كان لهم مجمع سابع في أيام أنسطاس الملك على مناظرة سورس القسطنطيني

ومعنا في الناسوت، له طبيعتان تامَّتان. فهو تامٌّ باللاهوت، تامٌّ بالناسوت، وهو مسيح واحد". وثبتوا قول الثلاث مئة والثمانية عشر أُسْقُفا، وقبلوا قولهم: "بأن الابن مع الله في المكان، وأنه إله حقٌّ من إله حقٍّ". ولعنوا أريوس وقالوا: "إن روح القدس إله"، وقالوا: "إن الأب والابن وروح القُدس واحدٌ بطبيعةٍ واحدةٍ، وأقانيم ثلاثة". وثبَّتوا قول أهل المجمع الثالث، وقالوا: "إن مريم العَذْراء ولدت إلهًا ربّنا يسُوع المسيح، الذي هو مع الله في الطبيعة، ومعنا في الناسوت". وقالوا: "إن المسيح طبيعتان، وأقنومٌ واحدٌ"، ولعنوا نسطورس، وبترك الإسكندرية. فانفضَّ هذا المجمع، وهم ما بين لاعنٍ وملعونٍ. ثم كان لهم بعد هذا مجمع سابع في أيام أنِسْطاس الملك. وذلك أن سورس القسطنطين جاء إلى الملك، فقال: إن أصحاب ذلك المجمع الست مئة والثلاثين قد أخطأوا، والصواب ما قاله أوطيسوس وبَترَكُ الإسكندرية، فلا تقبل ممَّن سواهما، واكتُب إلى جميع بلادك أن العنوا الست مئة والثلاثين، وأن يأخذوا الناس بطبيعة واحدة ومشيئة واحدة وأقنوم واحد، فأجابه الملك إلى ذلك. فلما بلغ بَترَكَ بيت المقدس جمع الرّهبان، فلعنوا أنسطاس الملك، وسورس، ومن يقول بمقالتهما، فبلغ ذلك الملك، فغضب، وبعث فنفى

بعث الملك أنسطاس يوحنا بتركا على بيت المقدس، فانضم إلى بترك بيت المقدس

البَتْرَك إلى أَيْلَة، وبعث يُوحَنّا بَتْرَكًا على بيت المقدس، لأنه كان قد ضَمِن للملك أن يلعن الست مئة والثلاثين. فلما قدم إلى بيت المقدس اجتمع الرهبانُ، وقالوا: إياك أن تَقبل سورس، ولكن قاتل عن الست مئة والثلاثين ونحن معك، ففعل، وخالف الملك. فلما بلغه أرسل قائدًا وأمره أن يأخذ يُوحَنّا بلعنة أولئك، فإن لم يفعلْ أنزله عن الكرسي ونفاه، فقدِم القائدُ، وطرح يُوحَنّا في الحبس، فصار إليه الرهبان في الحبس، وأشاروا عليه بأن يضمن للقائد أن يفعل ذلك، فإذا حضر فليقِرَّ بلعنة كلّ من لعنه الرهبان. فاجتمع الرهبانُ وكانوا عشرة آلاف راهب، فلعنوا أوطيسوس، ونَسْطُورس، وسورس، ومن لا يقبلُ من أولئك الست مئة والثلاثين. ففزع رسول الملك من الرهبان، وبلغ ذلك الملك، فَهَمّ بنفي يُوحَنّا، فاجتمع الرُّهبان والأساقفة، فكتبوا إلى الملك: أنهم لا يقبلون مقالة سورس، ولو أُريقت دماؤهم، وسألوه أن يَكُفّ أذاه عنهم. وكتب بَتْرَكُ رُومية إلى الملك بقُبْحِ فِعْله وبلَعْنِه، فانفضَّ ذلك المجمع على اللعنة أيضًا. وكان لسورس تلميذ يقال له: يعقوب البراذعي، لأنه كان يلبس من قِطع براذع الدواب، يرقّع بعضها ببعض، وإليه ينسب اليعاقبة، فأفسد أمانة القوم. ثم هلك أنسطاس الملك، وولي بَعْدُ قسطنطين، فردَّ كلّ من كان نفاه أنسطاس إلى موضعه، وكتب إلى بيت المقدس بأمانته.

قتل بولس الملكاني في أيام قسطنطين

فاجتمع الرهبان، وأظهروا كتابه، وفرحوا به، وأثبتوا قول الست مئة والثلاثين أسقفًا، وغلبت اليَعقوبية على الإسكندرية، وقتلوا بَتْرَكًا يقال له: بُولس، وكان مَلْكانيًا، فولى الملك إسطيانوس، فأرسل قائدًا ومعه عسكر عظيم إلى الإسكندرية، فدخل الكنيسة في ثياب البَتْرَكَة، وتقدّم وقدّس، فرمَوْه بالحجارة، حتى كادوا يقتلونه، فانصرف وتوارَى عنهم، ثم أظهر لهم بعد ثلاثة أيام أنه أتاه كتابٌ من الملك، وأمر الحرس أن يجمعوا الناس لسماعه، فلم يبق أحد بالإسكندرية حتى حضر لسماعه، وكان قد جعل بينه وبين جنده علامةً إذا هو فعلها وضعوا السيف في الناس، فصعد المنبر، وقال: يا معشر أهل الإسكندرية! إن رجعتم إلى الحق وتركتم مقالة اليعاقبة، وإلا لم تأمنوا أن يُوجّه الملك إليكم مَنْ يَسْفك دماءكم، فرموه بالحجارة حتى خاف على نفسه، فأظهر العلامة، فوضعوا السيوف على مَنْ بالكنيسة، فقُتل خلقٌ لا يحصيهم إلا الله تعالى، حتى خاض الجند في الدّماء، وظهرت مقالة المَلْكانية بالإسكندرية. ثم كان لهم بعد ذلك مجمع ثامن. وذلك أن أسقف مَنْبِجَ كان يقول بالتناسخ، وأنه ليس ثمة قيامة ولا بعثٌ، وكان أُسقف الرُّها وأسقف المِصّيصة وأسقف ثالث يقولون: إن جسد المسيح خيال غير حقيقة، فحشرهم الملك إلى قسطنطينية، فقال لهم بَتركُها: إن كان جسدُهُ خيالًا فيجب أن يكون فعله خيالًا، وقوله خيالًا، وكل جسدٍ نعاينه لأحدٍ من الناس أو فعلٍ أو قول فهو كذلك. وقال له: إن المسيح قد قام من الموتَى، وأعلمنا أنه كذلك يقومُ الناس يوم الدِّين.

ثم كان لهم مجمع تاسع على عهد معاوية بن أبي سفيان، وفي هذا المجمع لعنوا كل من تقدم من القديسين والبتاركة واحدا واحدا، وزادوا في الأمانة ونقصوا، ووضعوا أمانة أخرى

واحتج بنصوص من الإنجيل كقوله: "إن كل من في القبور إذا سمعوا قول الله سبحانه يَحْيَون" فأوجب عليهم اللعن، وأمر الملك أن يكون لهم مجمع يلعنون فيه، واستحضر بتاركة البلاد. فاجتمع عنده مئة وأربعة وستون أسقفًا، فلعنوا أسقف مَنْبج، وأسقف المصّيصة، وثبَّتوا: "أن جسد المسيح حقيقةٌ لا خيال، وأنه إله تامٌّ، وإنسان تام، معروفٌ بطبيعتين ومشيئتين وفعلين، أقنومٌ واحدٌ، وأن الدنيا زائلة، وأن القيامة كائنة، وأن المسيح يأتي بمجد عظيم، فيدين الأحياء والأموات، كما قال الثلاث مئة والثمانية عشر الأوائل"، فتفرقوا على ذلك. ثم كان لهم مجمعٌ تاسعٌ على عَهد معاوية بن أبى سفيان رضي الله عنه، تلاعنوا فيه. وذلك أنه كان بروميةَ راهبٌ له تلميذان، فجاء إلى قَسْطا الوالي، فَوَبّخه على قُبح مذهبه وشناعة كُفْره، فأمر به قَسْطا، فقُطعت يداه ورجلاه، ونُزع لسانه، وفُعل بأحد التلميذين كذلك، وضُرِب الآخر بالسّياط، ونفاه، فبلغ ذلك ملك قسطنطينية، فأرسل إليه أن يوجّه إليه من أفاضل الأساقفة، ليعلم وجه هذه الشبهة، ومَنْ كان ابتدأ بها، ويعلم من يستحق اللعن. فبعث إليه مئةً وأربعين أسقفًا، وثلاث مئة شَمّاس، فلما وصلوا إليه جمع الملك مئة وثمانية وستين أسقفًا، فصاروا مئتين واثنين وتسعين، وأسقطوا الشمامسة (¬1). ¬

_ (¬1) في الأصل: "الثمانية". والمثبت من م. والعدد غير مستقيم في الحساب. وفي "هداية الحيارى" (ص 422): ثلاث مئة وثمانية، وعدد الشمامسة ثلاث لا ثلاث مئة.

ثم كان لهم مجمع عاشر

وكان رئيس هذا المجمع: بَتْرَك قُسطنطينية وبترك أنطاكية، فلَعنُوا مَنْ تقدّم من القدِّيسين والبتاركة واحدًا واحدًا، فلما لعنوهم جلسوا، فلخَّصوا الأمانة، وزادوا فيها، ونقصوا، فقالوا: "نؤمن بأن الواحد من الناسوت (¬1) الابنُ الوحيد، الذي هو الكلمة الأزلية، الدائم المستوي مع الأب، الإله في الجَوْهَرِ، الذي هو رَبّنا يسوع المسيح بطبيعتين تامّتين، وفعلين، ومشيئتين، في أقنومٍ واحد، ووجهٍ واحد، تامًّا بلاهوته، تامًّا بناسوته، وشهدت أن الإله الابن في آخر الأيام اتخذ من العذراء السيدة مريم القِدِّسية جسدًا إنسانا بنفسٍ ناطقة عقلية، وذلك برحمة الله تعالى: محب البشر، ولم يلحقه اختلاط، ولا فساد، ولا فرقة، ولا فصل، ولكن هو واحد، يعملُ بما يشبه الإنسان أن يعمله في طبيعته، وما يُشبه الإله أن يعمله في طبيعته، الذي هو الابنُ الوحيدُ، والكلمة الأزلية المتجسدة، التي صارت في الحقيقة لحمًا، كما يقول الإنجيل المقدس، من غير أن ينتقل من مَجْده الأزلي، وليست بمتغيرة، لكنها بفعلين ومشيئتين وطبيعتين: إلهيٍّ وإنسيٍّ، الذي بهما يكمل قولُ الحق، وكل واحدةٍ من الطبيعتين تعمل مع شركة صاحبتها مشيئتين، غير متضادتين، ولا متصارعتين، ولكن مع المشيئة الإنسية: المشيئة الإلهية القادرة على كل شيء". هذه أمانة هذا المجمع، فوضعوها ولعنوا مَنْ لعنوه، وبين المجمع الخامس الذي اجتمعَ فيه الست مئة والثلاثون، وبين هذا المجمع مائة سنة. ثم كان لهم مجمع عاشر: وذلك لمّا مات الملك وولي ابنُه بعدَه، واجتمع أهل المجمع السادس، ¬

_ (¬1) في هداية الحيارى: "اللاهوت".

اختلاف النصارى وتضاربهم واضطرا بهم في آلهتهم، هو الذي أوجب للملاحدة أن يتمسكوا بما هم عليه من الإلحاد

وزعموا أن اجتماعهم كان على الباطل، فجمع الملك مئة وثلاثين أسقفًا، فثبّتوا قول أهل المجامع الخمسة، ولعنوا مَنْ لعنهم وخالفهم، وانصرفوا بين لاعنٍ وملعونٍ. فهذه عشرة مجامع كبارٍ من مجامعهم مشهورة، اشتملت على أكثر من أربعة عشر ألفًا من البتاركة والأساقفة والرهبان، كلهم ما بين لاعنٍ وملعونٍ. فهذه حال المتقدمين مع قرب زمانهم من أيّام المسيح، ووجود أخباره فيهم، والدولة دولتهم، والكلمة كلمتهم، وعلماؤهم إذ ذاك أوفر ما كانوا، واهتمامهم بأمر دينهم واحتفالهم به كما ترى، وهم حيارَى تائهون، ضالُّون مضلُّون، لا يثبت لهم قَدَمٌ، ولا يستقر لهم قول في إلههم، بل كلٌّ منهم قد اتخذ إلهه هواه، وصرَّح بالكفر والتبرِّي ممن اتبع سواه، قد تفرقت بهم في نبيهم وإلههم الأقاويل، وهم كما قال الله تعالى: {قَدْ ضَلُّوا مِنْ قَبْلُ وَأَضَلُّوا كَثِيرًا وَضَلُّوا عَنْ سَوَاءِ السَّبِيلِ} [المائدة: 77]. فلو سألت أهل البيت الواحد عن دينهم ومعتقدهم في ربهم ونبيهم لأجابك الرجل بجواب، وامرأته بجواب، وابنه بجواب، والخادم بجواب! فما ظنك بمن في عصرنا هذا، وهم نُخالة الماضين، وزُبالة الغابرين، ونُفاية المتحيرين! وقد طال عليهم الأمد، وبَعُدَ عهدهم بالمسيح ودينه. وهؤلاء هم الذين أوجبوا لأعداء الرسل من الفلاسفة والملاحدة أن يتمسَّكوا بما هم عليه، فإنهم شرحوا لهم دينهم الذي جاء به المسيح على هذا الوجه، ولا ريب أن هذا دين لا يقبله عاقل، فتواصَى أولئك بينهم أن يتمسَّكوا بما هم عليه، وساءت ظنونهم بالرسل والكتب، ورأوا أن ما هم

قول بعض ملوك الهند: الحكم العقلي يوجب محاربة النصارى؛ لأنهم قصدوا إلى مضادة العقل، وحلوا ببيت الاستحالات

عليه من الآراء أقرب إلى العقول من هذا الدين، وقال لهم هؤلاء الحيارى الضلَّال: إن هذا هو الحق الذي جاء به المسيح، فتركّب من هذين الظنَّين الفاسدين إساءة الظن بالرسل، وإحسان الظن بما هم عليه. ولهذا قال بعض ملوك الهند وقد ذُكرت له الملل الثلَاث، فقال: أما النصارى فإن كان محاربوهم من أهل الملل يحُاربونهم بحكم شرعي، فإني أرى ذلك بحكم عقلي، وإن كُنّا لا نرى بحكم عقولنا قتالًا، ولكن أسْتَثْنِي هؤلاء القوم من بين جميع العوالم، لأنهم قصدوا مضادَّة العقل، وناصبوه العداوة، وحلُّوا ببيت الاستحالات، وحادوا عن المسلك الذي انتهجه غيرهم من أهل الشرائع، فشذُّوا عن جميع مناهج العالم الصالحة العقلية والشرعية، واعتقدوا كلَّ مستحيل ممكنًا، وبنوا على ذلك شريعة لا تُؤدِّي البتة إلى صلاح نوع من أنواع العالم، إلا أنها تُصيّر العاقل إذا تشرَّع بها أخرق، والرشيد سفيهًا، والمحسن مسيئًا، لأن من كان أصل عقيدته التي جرى نَشْؤُهُ عليها الإساءة إلى الخالق، والنيل منه، ووصفه بضدّ صفاته الحسنى فأخْلِقْ به أن يستسهل الإساءة إلى المخلوق، مع ما بلغنا عنهم من الجهل، وضعف العقل، وقلة الحياء، وخساسة الهمة، فهذا، وقد ظهر له من باطلهم وضلالهم غَيْض من فيض، وكانوا إذ ذاك أقرب عهدًا بالنبوة. وقال أفلاطون رئيس سَدَنة الهياكل بمصر، وليس بأفلاطون تلميذ سُقراط، ذاك أقدم من هذا: "لما ظهر محمد بتِهَامةَ، ورأينا أمره يعلو على الأمم المجاورة له، رأينا أن نقصد إصطفن البابلي، لنعلم ما عنده، ونأخذ برأيه، فلما اجتمعنا على

الخروج من مصر رأينا أن نصير إلى قراطيس معلِّمنا وحكيمنا لنودِّعه، فلما دخلنا عليه ورأى جمعنا أيقن أن الهياكل قد خَلَتْ منا، فغُشي عليه حينًا غَشْيَةً، ظننا أنه فارق الحياة فيها، فبكينا، فأومأ إلينا أن كُفّوا عن البكاء، فتصبّرنا جَهْدَنا حتى هَدَأ وفتح عينيه، وقال: هذا ما كنت أنهاكم عنه، وأحذِّركم منه، إنكم قوم غيّرتم فغُيِّر بكم، أطعتم جُهالًا من ملوككم، فخلطوا عليكم في الأدعية، فقصدتم البَشَر من التعظيم بما هو للخالق وحده، فكنتم في ذلك كمن أعطى القلم مَدْحَ الكاتب، وإنما حركة القلم بالكاتب". ومن المعلوم أن هذه الأمة ارتكبت محذوريْنِ عظيميْن، لا يرضى بهما ذو عقل ولا معرفة: أحدهما: الغلوُّ في المخلوق، حتى جعلوه شريك الخالق وجزءًا منه، وإلهًا آخر معه، وأنِفُوا أن يكون عبدًا له. والثاني: تَنَقُّصُ الخالق وسَبُّه، ورميه بالعظائم، حيث زعموا أنه -سبحانه وتعالى عن قولهم علوًّا كبيرًا- نزل من العرش عن كرسيِّ عظمته، ودخل في فرج امرأة، وأقام هناك تسعة أشهر يتخبَّط بين البول والدم والنّجْوِ، وقد عَلَتْهُ أطباق المَشِيمَة والرحم والبطن، ثم خرج من حيث دخل، رضيعًا صغيرًا يمصّ الثدي، ولُفّ في القُمُطِ، وأُودع السرير، يبكي، ويجوع، ويعطش، ويبول، ويتغَوّط، ويحُمل على الأيدي والعواتق، ثم صار إلى أن لطمت اليهود خَدَّيْهِ، وربطوا يديه، وبصَقوا في وجهه، وصفعوا قفاه، وصلبوه جهرًا بين لِصْبَيْنِ، وألبسوه إكليلًا من الشوك، وسمَّروا يديه ورجليه، وجَرّعوه أعظم الآلام، هذا وهو الإله الحق، الذي بيده أُتْقنت العوالم، وهو

النصارى سبوا الله بما لم يسبه به أحد من البشر

المعبود المسجود له. ولعَمْرُ الله إن هذه مَسَبّة لله سبحانه ما سبَّه بها أحد من البشر قبلهم، ولا بعدهم، كما قال تعالى فيما يحكي عنه رسوله الذي نَزَّهه ونزَّه أخاه المسيح عن هذا الباطل، الذي {تَكَادُ السَّمَاوَاتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ وَتَنْشَقُّ الْأَرْضُ وَتَخِرُّ الْجِبَالُ هَدًّا} [مريم: 90]، فقال: "شَتَمني ابنُ آدم، وما ينبغي له ذلك، وكذَّبني ابن آدم، وما ينبغي له ذلك، أما شتمه إيَّاي فقوله: اتخذ الله ولدًا، وأنا الأحد الصمد، الذي لم ألد، ولم أولد، ولم يكن لي كفوًا أحد. وأما تكذيبه إياي فقوله: لن يعيدني كما بدأني، وليس أول الخلق بأهون عليّ من إعادته" (¬1). وقال عمر بن الخطاب (¬2) رضي الله تعالى عنه في هذه الأمة (¬3): أهينوهم ولا تظلموهم، فلقد سبُّوا الله عز وجل مسبّةً ما سَبّه إياها أحدٌ من البشر. ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري (3193) عن أبي هريرة. (¬2) لم أقف عليه بهذا اللفظ، وروى أبو نعيم في تاريخ أصبهان (2/ 31) وابن عساكر في تاريخ دمشق (2/ 183) من طريق ضمرة بن حبيب عن عمر قال: "سمّوهم ولا تكنوهم، وأذلّوهم ولا تظلموهم، وإذا جمعتكم وإيّاهم طريق فألجئوهم إلى أضيقها". وورد نحوه عن معاذ رضي الله عنه قال: "لا تأوَوا لهم؛ فإنّ الله قد ضربهم بذلّ مُفدَم، وإنهم سبُّوا الله سبًّا لم يسبّه أحد من خَلقْه؛ دعَوا الله ثالث ثلاثة"، رواه الحربي في غريب الحديث (3/ 1074)، والطبراني في مسند الشاميين (1041)، والخطابي في غريب الحديث (2/ 311) واللفظ له، ولفظ الحربي: "بِذُلّ مُغرم". (¬3) م: "الآية" تحريف.

عقيدة النصارى في الفداء وما فيها من الشناعات التي تأباها كل العقول

ولَعمْرُ الله إن عُبَّاد الأصنام مع أنهم أعداء الله عز وجل على الحقيقة، وأعداء رسله عليهم السلام، وأشدُّ الكفار كفرًا يأنفون أن يصفوا آلهتهم التي يعبدونها من دون الله تعالى، وهي من الحجارة والحديد والخشب، بمثل ما وصفت به هذه الأمةُ ربَّ العالمين، وإله السماوات والأرضين، وكان الله تعالى في قلوبهم أجلَّ وأعظمَ من أن يصفوه بذلك، أو بما يقاربه، وإنما شركُ القوم أنهم عبدوا من دونه آلهة مخلوقة مربوبة مُحْدَثةً، وزعموا أنها تقرِّبهم إليه، لم يجعلوا شيئًا من آلهتهم كفُوًا له، ولا نظيرًا، ولا ولدًا، ولم ينالوا من الرب تعالى ما نالت منه هذه الأمة. وعُذْرُهم في ذلك أقبح من قولهم، فإن أصل معتقدهم: أن أرواح الأنبياء عليهم السلام كانت في الجحيم في سجن إبليس، من عهد آدم إلى زمن المسيح، وكان إبراهيم، وموسى، ونوح، وصالح، وهود عليهم الصلاة والسلام معذَّبين مسجونين في النار بسبب خطيئة آدم عليه السلام، وأكله من الشجرة، وكان كلما مات واحد من بني آدم أخذه إبليس وسجنه في النار بذنب أبيه. ثم إن الله سبحانه وتعالى لمَّا أراد رحمتهم وخلاصهم من العذاب تحيَّل على إبليس بحيلةٍ، فنزل عن كرسي عظمته، والتحم ببطن مريم، حتى وُلد وكَبِرَ وصار رجلًا، فمكّن أعداءه اليهود من نفسه، حتى صلبوه وقتلوه وسمَّروه، وتَوّجوه بالشوك على رأسه، فخلّص أنبياءه ورسله، وفداهم بنفسه ودمه، فهراق دمه في مرضاة جميع ولد آدم، إذ كان ذنبه باقيًا في أعناق جميعهم، فخلّصهم منهُ بأن مكّن أعداءه من صَلبه وتسميره وصفعه إلا من أنكر صَلبه أو شكّ فيه، أو قال بأن الإله يَجِلّ عن ذلك، فهو في سجن إبليس معذّب حتى يُقِرّ بذلك، وأن إلهه صُلب وصُفعَ وسُمرَ!

قول بعض الملوك: إن النصارى عار على بني آدم

فنسبوا الإله الحق سبحانه إلى ما يأنَفُ أسقط الناس وأقَلُّهم أن يفعله بمملوكه وعَبْدِه، وإلى ما يأنَفُ عُبّاد الأصنام أن تُنْسَبَ إليه أوثانهم (¬1)، وكَذّبُوا الله سبحانه في كونه تابَ على آدم عليه السلام وغَفَر له خَطيئته، ونسبوه إلى أقْبَح الظلم، حيث زَعموا أنه سَجَن أنبياءَه ورُسله وأولياءه في الجحيم، بسبب خطيئة أبيهم، ونسبوه إلى غاية السَّفَه، حيث خَلّصَهُم من العذاب بتمكينه أعداءه من نَفْسه، حتى قتلوه وصلبوه وأراقوا دَمه، ونسبوه إلى غاية العَجْز حيث عَجّزوه أن يخُلّصهم بقُدرته من غير هذه الحيلة، ونسبوه إلى غاية النّقْص، حيث سَلّطَ أعداءه على نفسه وابنه، ففعلوا به ما فعلوا. وبالجملة، فلا نعلم أمةً من الأمم سَبّت رَبّهَا ومعبودها وإلهها بما سَبّته به هذه الأمة، كما قال عمر رضي الله عنه: إنهم سبُّوا الله مَسَبّةً ما سَبّهُ إيّاها أحد من البَشَرِ. وكان بعضُ أئمة الإسلام إذا رأى صَليبيًا أغمض عينيه عنه، وقال: لا أستطيعُ أن أملأ عيني ممن سَبّ إلهه ومعبوده بأقبح السب. ولهذا قال عقلاء الملوك: إن جهاد هؤلاء واجب شرعًا وعقلًا، إنهم عارٌ على بني آدم، مفسدون للعقول والشرائع. وأما شريعتهم ودينهم فليسوا متمسّكين بشيء من شريعة المسيح، ولا دينه البتة. فأول ذلك: أمرُ القِبْلة، فإنهم ابتدعوا الصلاة إلى مَطْلع الشمس، مع ¬

_ (¬1) كذا. في م. وفي باقي النسخ: "أربابهم".

لا يستنجون من بول ولا غائط

علمهم أن المسيح عليه السلام لم يُصلّ إلى المشرق أصلًا، بل قد نَقل مُؤرّخوهم أن ذلك حَدَث بعد المسيح بنحو ثلاث مئة سنة، وإلا فالمسيح إنما كان يصلي إلى قبلة بيت المقدس، وهي قبلة الأنبياء قَبْله، وإليها كان يصلي النبي - صلى الله عليه وسلم - مدّة مُقامه بمكة، وبعد هِجْرته ثمانية عشر شهرًا، ثم نقله الله تعالى إلى قِبْلة أبيه إبراهيم (¬1). ومن ذلك: أن طوائف منهم وهم الروم وغيرهم لا يرون الاستنجاء بالماء، فيبولُ أحدُهم ويَتغوّط، ويقومُ بأثر البول والغائط إلى صلاته بتلك الرائحة، فيستقبلُ الشرق، ويُصَلّب على وجهه، ويُحَدّثُ مَنْ يَليه بأنواع الحديث، كذبًا كان، أو فجورًا، أو غِيْبة، أو سَبًّا وشَتْمًا، ويخبره بسِعْر الخمر ولحْم الخنزير، وما شاكل ذلك، ولا يَضُرّ ذلك في الصلاة، ولا يبطلها، وإن دعته الحاجةُ إلى البول في الصلاة بالَ وهو يصلي، ولا يضرُّ صلاته. وكلّ عاقلٍ يعلم أن مواجهة إله العالمين بهذه العبادة قبيحٌ جدًّا، وصاحبُها إلى استحقاق غضبه وعقابه أقربُ منه إلى الرِّضا والثواب. ومن العجيب أنهم يَقرأون في التوراة: "ملعونٌ من تعلّق بالصّليب"، وهم قد جعلوا شعار دينهم ما يُلعَنون عليه، ولو كان لهم أدنى عقل لكان الأولى بهم أن يُحرّقُوا الصليب حيث وجدوه، ويُكَسّروه ويُضمّخوه بالنجاسة، فإنه صُلبَ عليه إلههم ومعبودهم بزعمهم، وأُهين عليه، وفُضِح وخُزي. ¬

_ (¬1) في حديث البراء بن عازب الذي أخرجه البخاري (4486)، ومسلم (525): "ستة عشر شهرًا أو سبعة عشر شهرًا". وانظر فتح الباري (1/ 97).

ما في تعظيمهم الصليب من تناقض ومخالفة للعقول والفطر

فيا للعجب! بأي وجه بعد هذا يستحقُّ الصليبُ التعظيم، لولا أن القوم أضلّ من الأنعام! وتعظيمهم للصليب مما ابتدعوه في دين المسيح بعده بزمان، ولا ذِكْر له في الإنجيل البتة، وإنما ذُكر في التوراة باللَّعْنِ لمن تَعَلَّق به، فاتخذته هذه الأمة معبودًا يسجدون له، وإذا اجتهد أحدُهم في اليمين، بحيث لا يحْنَثُ ولا يكذبُ، حلف بالصّليب، ويكذبُ إذا حلف بالله، ولا يكذب إذا حلف بالصليب. ولو كان لهذه الأمة أدنى مُسْكةٍ من عقلٍ لكان ينبغي لهم أن يَلعنُوا الصليب من أجل معبودهم وإلههم حين صُلب عليه، كما قالوا: إن الأرض لُعنت من أجل آدم حين أخطأ، وكما لعنت الأرضُ حين قتل قابيلُ أخاه، وكما في الإنجيل: "إن اللعنة تنزل على الأرض إذا كان أمراؤها الصبيان". فلو عقلوا لكان ينبغي لهم أن لا يحملوا صليبًا، ولا يمسّوه بأيديهم، ولا يذكرونه بألسنتهم، وإذا ذُكر لهم سَدّوا مَسامعهم عن ذكره. ولقد صدق القائل: عدوٌّ عاقل خيرٌ من صديق أحمق؛ لأنهم بحُمْقِهم قصدوا تعظيم المسيح، فاجتهدوا في ذَمّه وتنقُّصه، والإزراء به، والطّعْن عليه، وكان مقصودهم بذلك التشنيع على اليهود، وتنفير الناس عنهم، وإغراءَهم بهم، فَنَفّروا الأمم عن النصرانية وعن المسيح ودينه أعظم تنفير، وعلموا أن الدِّين لا يقوم بذلك، فوضع لهم رُهبانهُم وأساقفتهم من الحِيل والمخاريق وأنواع الشّعْبَذَة ما استمالوا به الجُهّال، وربطوهم به، وهم يَسْتجيزون ذلك، ويستحسنونه، ويقولون: إنه يَشُدّ دين النصرانية!

قولهم: إن تعظيم الصليب كتعظيم قبور الأنبياء

وكأنهم إنما عظموا الصليب لما رأوه قد ثبت لصلْبِ إلههم، ولم ينشقّ، ولم يتطاير ويتكسّر من هيبته لما حُمل عليه، وقد ذكروا أن الشمس اسوَدّت وتَغَيّر حال السماء والأرض، فلما لم يتغيّر الصليبُ ولم يتطاير استحقّ عندهم التعظيمَ وأن يُعْبَد. ولقد قال بعض عقلائهم: إن تعظيمنا للصليب جارٍ مجْرى تعظيم قبور الأنبياء، فإنه كان قبر المسيح وهو عليه، ثم لمّا دُفنَ صار قبرُه في الأرض! وليس وراء هذا الحمق والجهل حُمْق، فإن السجود لقبور الأنبياء وعبادتها شركٌ، بل من أعظم الشرك، وقد لَعَنَ إمام الحنفاء وخاتمُ الأنبياء - صلى الله عليه وسلم - اليهود والنصارى، حيثُ اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد (¬1)، وأصلُ الشرك وعبادة الأوثان: من العُكوف على القبور، واتخاذها مساجد. ثم يقال: فأنتم تعظّمون كلَّ صليب، ولا تَخُصّون التعظيمَ بذلك الصليب بعينِهِ. فإن قلتم: الصليب من حيث هو يُذَكِّر بالصليب الذي صُلب عليه إلهنا. قيل: وكذلك الحُفَر تذكِّر بحفرته، فعَظِّموا كلَّ حُفْرةٍ، واسجدُوا لها، لأنها كحفرته أيضًا بل أولى، لأن خشبة الصليب لم يَسْتَقِرّ عليها استقرارَه في الحفرة. ثم يقال: اليدُ التي مَسّته أولى أن تُعَظَّم من الصليب، فعظِّموا أيدي اليهود، لمسّهِم إيّاهُ، وإمساكهم له، ثم انقُلوا ذلك التعظيم إلى سائر الأيدي. فإن قلتم: منع من ذلك مانعُ العداوة: ¬

_ (¬1) تقدم تخريجه.

تبديلهم دين عيسى في الصيام

فعندكم أنه هو الذي رضي بذلك واختار، ولو لم يرضَ به لم يَصِلُوا إليه منه، فعلى هذا فينبغي لكم أن تشكروهم وتحمدوهم، إذ فعلوا مرضاته واختياره الذي كان سبب خلاص جميع الأنبياء والمؤمنين والقدّيسين من الجحيم ومن سِجْنِ إبليس، فما أعظم مِنّةَ اليهود عليكم وعلى آبائكم، بل وعلى سائر النبيين، من لدن آدم عليه السلام إلى زمن المسيح! والمقصود: أن هذه الأمة جمعت بين الشرك وعَيْب الإله وتنقّصه، وتنقّص نبيهم وعيبه ومفارقة دينه بالكُلِّيَّة، فلم يتمسَّكوا بشيء مما كان عليه المسيح، لا في صلاتهم، ولا في صيامهم، ولا في أعيادهم، بل هم في ذلك أتباعُ كلّ ناعِق، مستجيبون لكل مُمَخْرِق ومبطِل، أدخلوا في الشريعة ما ليس منها، وتركوا ما أتت به. وإذا شئتَ أن ترى العبر في دينهم فانظر إلى صيامهم الذي وضعوه لملوكهم وعُظمائهم، فلهم صيامٌ للحوارِّيين، وصيامٌ لمارِ مريم، وصيام لمارِ جِرْجِس، وصيام للميلاد! وتركُهم أكل اللحم في صيامِهم مما أدخلوه في دين المسيح، وإلا فهم يعلمون أن المسيح عليه السلام كان يأكلُ اللحم، ولم يمنعهم منه في صومٍ ولا فطرٍ. وأصل ذلك: أن المانوية كانوا لا يأكلون ذا رُوح، فلما دخلوا في النصرانية خافوا أن يتركوا أكل اللحم فيُقْتَلوا، فشرعوا لأنفسهم صيامًا، فصاموا للميلاد، والحواريين، ومار مريم، وتركوا في هذا الصوم أكل اللحم محافظةً على ما اعتادوه من مذهب مَانِيْ، فلما طال الزمانُ تبعهم على ذلك النّسطورية واليعقوبية، فصارت سنةً متعارفة بينهم، ثم تبعهم على ذلك الملكانية.

فصل: رهبان النصارى أشد الناس احتيالأ على عقول العامة والبسطاء

فصل ثم إنك إذا كشفت عن حالهم وجدت أئمة دينهم ورُهبانَهُم قد نصبوا حبائل الحِيَل ليقبضوا بها عقول العوامّ، ويتوصَّلوا بالتمويه والتلبيس إلى استمالتهم وانقيادهم، واستدرار أموالهم، وذلك أشهرُ وأكثر من أن يُذْكَر. فمن ذلك: ما يعتمدونه في العيد الذي يسمونه عيد النور، ومحله بيت المقدس، فيجتمعون من سائر النواحي في ذلك اليوم، ويأتون إلى بيتٍ فيه قنديلٌ معلّق لا نار فيه، فيتلو أحبارهم الإنجيل، ويرفعون أصواتهم، ويبتهلون في الدعاء، فبينا هم كذلك وإذا نارٌ قد نزلت من سقف البيت، فتقع على ذبالَة القنديلِ، فيشرق ويضيء ويشتعل، فيضجُّون ضَجَّةً واحدةً، ويصلِّبون على وجوههم، ويأخذون في البكاء والشهيق. قال أبو بكر الطُّرْطُوشي: كنتُ ببيت المقدس، وكان واليها إذ ذاك رجلًا يقال له: سقمان، فلما نما إليه خبرُ هذا العيد أنفذ إلى بتاركتهم، وقال: أنا نازلٌ إليكم في يوم هذا العيد لأكشف عن حقيقة ما تقولون، فإن كان حقًّا ولم يتضحْ لي وجه الحيلة فيه أقررتكم عليه وعظَّمته معكم بِعِلْمٍ، وإن كان مخرقةً على عوامِّكم أوقعتُ بكم ما تكرهونه، فصعُبَ ذلك عليهم جدًّا، وسألوه أن لا يفعل، فأبى وألحَّ، فحملوا له مالًا عظيمًا، فأخذه وأعرض عنهم. قال الطرطوشي: ثم اجتمعت بأبي محمد بن الأقدم بالإسكندرية، فحدَّثني أنهم يأخذون خيطًا رقيقًا من نحاس وهو الشريط، ويجعلونه في

حيلتهم في إدرار اللبن من ئدي تمئال لمريم كان بأرض الروم

وسط قبة البيت إلى رأس الفتيلة التي في القنديل، ويدهنونه بدهن اللبان، والبيتُ مظلمٌ، بحيث لا يدرك الناظرون الخيط النحاس، وقد عظّموا ذلك البيت، فلا يمكِّنون كلَّ أحد من دخوله، وفي رأس القبة رجلٌ، فإذا قدّسوا ودَعَوْا ألقى على ذلك الخيط شيئًا من نار النّفْط، فتجري النار مع دهن اللبان إلى آخر الخيط النحاس، فتَلْقَى الفتيلة، فتعلَّقُ بها. فلو نصح أحدٌ منهم نفسه، وفتش على نجاته، لتتبَّع هذا القدر، وطلب الخيط النحاس، وفتش رأس القبة ليرى الرجُل والنفط، ويرى أن منبع ذلك النولر من ذلك الممخرِق الملبّس، وأنه لو نزل من السماء لظهرَ من فوق ولم يكن ظهوره من الفتيلة. ومن حِيلهم أيضًا: أنه قد كان بأرض الروم في زمن المتوكّل كنيسةٌ، إذا كان يوم عيدها يحجّ الناس إليها، ويجتمعون عند صنم فيها، فيشاهدون ثَدْيَ ذلك الصنم في ذلك اليوم يخرجُ منه اللبن، وكان يجتمع للسادِن في ذلك اليوم مالٌ عظيم، فبحث الملك عنها، فانكشف له أمرها، فوجد القَيّم قد ثَقب من وراء الحائط ثُقبًا إلى ثدي الصنم، وجعل فيها أنبوبةً من رَصاصٍ، وأصلحها بالجير ليَخْفَى أمرها، فإذا كان يومُ العيد فتحها وصبّ فيها اللبن، فيجري إلى الثدي، فيقطر منه، فيعتقد الجهال أن هذا سرٌّ في الصنم، وأنه علامة من الله تعالى لقبول قُربانهم، وتعظيمهم له، فلما انكشف له ذلك أمر بضرب عنق السادِن، ومحو الصور من الكنائس، وقال: إن هذه الصور مقام الأصنام، فمن سجد للصورة فهو كمن سجد للأصنام. ولقد كان من الواجب على ملوك الإسلام أن يمنعوا هؤلاء من هذا وأمثاله لما فيه من الإعانة على الكفر، وتعظيم شعائره، فالمساعد على ذلك

واجب ملوك المسلمين أن يمنعوهم من هذا الدجل والأحتيال

والمعين عليه شريك للفاعل، لكن لمَّا هان عليهم دينُ الإسلام، وكان السُّحت الذي يأخذونه منهم أحبَّ إليهم من الله عز وجل ورسوله عليه الصلاة والسلام، أقَرّوهم على ذلك، ومكّنوهم منه. فصل والمقصود: أن دين الأمّة الصّليبية بعد أن بعث الله تعالى محمدًا - صلى الله عليه وسلم -، بل قَبْلَه بنحو ثلاث مئة سنة، مبنيٌّ على مُعاندة العقول والشرائع، وتنقُّصِ إله العالمين ورَمْيه بالعظائم، فكل نصراني لا يأخذ بحظّه من هذه البليّة فليس بنصراني على الحقيقة. أفليس هو الدِّين الذي أسَّسه أصحاب المجامع المتلاعنين على أن الواحد ثلاثة والثلاثة واحد؟ فيا عجبًا! كيف رضي العاقل أن يكون هذا مبلغَ عقله، ومنتهى علمه؟ أَتُرَى لم يكن في هذه الأمة مَنْ يَرْجِعُ إلى عقله وفطرته، ويعلم أن هذا عين المحال، وإن ضربوا له الأمثال، واستخرجوا له الأشباه، فلا يذكرون مثالًا ولا شبهًا إلا وفيه بيان خطئهم وضلالهم؟ كتشبيه بعضهم اتحاد اللاهوت بالناسوت وامتزاجه به، باتحاد النار والحديد، وتمثيل غيرهم ذلك باختلاط الماء باللبن، وتشبيه آخرين ذلك بامتزاج الغذاء واختلاطه بأعضاء البدن، إلى غير ذلك من الأمثال والمقاييس، التي تتضمن امتزاج حقيقتين واختلاطهما، حتى صارا حقيقة أخرى - تعالى الله عز وجل عن إفكهم وكذبهم.

ولم يُقنعهم هذا القول في ربّ السماوات والأرض، حتى اتفقوا بأسْرهم على أن اليهود أخذوه، وساقوه بينهم ذليلًا مقهورًا، وهو يحمل خشبته التي صلبوه عليها، واليهود يبصقون في وجهه، ويضربونه، ثم صلبوه وطعنوه بالحربة، حتى مات، وتركوه مصلوبًا، حتى التصق شعره بجلده، لما يبس دمه بحرارة الشمس، ثم دُفن، وأقام تحت التراب ثلاثة أيام، ثم قام بلاهُوتيّتِه من قبره. هذا قول جميعهم، ليس فيهم من ينكر منه شيئًا. فيا للعقول! كيف كان حال هذا العالمِ الأعلى والأسفل في هذه الأيام الثلاثة؟ ومَنْ كان يُدَبّر أمر السماوات والأرض؟ ومن الذي خَلَفَ الرب سبحانه وتعالى في هذه المدة؟ ومَن كان الذي يُمسك السماء أن تقع على الأرض، وهو مَدْفون في قبره؟ ويا عجبًا! هل دُفنت الكلمةُ معه بعد أن قُتِلت وصُلبت؟ أم فارقته وخذلته أحوج ما كان إلى نَصْرها له، كما خذله أبوه وقومه؟ فإن كانت قد فارقته وتَجَرّد منها فليس هو حينئذٍ المسيح، وإنما هو كغيره من آحادِ الناس. وكيف يصحّ مُفارقتها له بعد أن اتَّحَدَتْ به، ومازَجَتْ لحمه ودمه؟ وأين ذهب الاتحادُ والامتزاج؟ وإن كانت لم تفارقه، وقُتلت وصُلبت، ودُفنت معه، فكيف وصل المخلوق إلى قتل الإله، وصَلبه ودفنه؟ ويا عجبًا! أيّ قبر يسع إله السماوات والأرض؟ هذا وهو {الْمَلِكُ الْقُدُّوسُ السَّلَامُ الْمُؤْمِنُ الْمُهَيْمِنُ الْعَزِيزُ الْجَبَّارُ الْمُتَكَبِّرُ سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يُشْرِكُونَ} [الحشر: 23].

قصيدة بديعة للمؤلف في الرد على النصارى، وتقبيح ما هم عليه من العقيدة السخيفة

أَعُبّادَ المَسِيحِ لَنَا سُؤَالٌ ... نُرِيدُ جَوَابَهُ مِمَّن وَعَاهُ (¬1) إِذَا ماتَ الإِلهُ بِصُنْع قومٍ ... أمَاتُوهُ فَما هذَا الإِلهُ وَهَلْ أرضاه ما نَالُوهُ مِنْهُ ... فبُشْرَاهمْ إذا نالُوا رِضَاهُ وَإِنْ سَخِطَ الذي فَعَلُوهُ فيه ... فَقُوَّتُهمْ إِذًا أوْهَتْ قُوَاهُ وَهَلْ بَقِي الوُجُودُ بِلاَ إِلهٍ ... سَمِيعٍ يَسْتَجِيبُ لِمَنْ دَعَاهُ وَهَلْ خَلَتِ الطِّبَاقُ السَّبْعُ لمّا ... ثَوَى تحتَ التُّرَابِ وَقَدْ عَلاه وَهَلْ خَلَتِ الْعَوَالمُ مِن إِلهٍ ... يُدَبِّرهَا وَقَدْ سُمِرَتْ يَدَاهُ وَكَيْفَ تَخَلَّتِ الأَمْلاَكُ عَنْهُ ... بِنَصْرِهِمُ وَقَدْ سَمِعُوا بُكاهُ وكَيْفَ أطَاقَتِ الخَشَبَاتُ حَمْلَ الْـ ... إلَهِ الحَقِّ مَشْدُودًا قَفَاهُ وَكيْفَ دَنَا الحَدِيدُ إِلَيْهِ حَتَّى ... يُخَالِطَهُ وَيَلْحَقَهُ أذَاهُ وَكيْفَ تمَكَّنَتْ أَيْدِي عِدَاهُ ... وَطَالتْ حَيْثُ قَدْ صَفَعُوا قَفَاهُ وَهَلْ عَادَ المَسِيحُ إِلىَ حَيَاةٍ ... أَم المُحْيي لَهُ رَبٌّ سِوَاهُ وَيَا عَجَبًا لِقَبْرٍ ضَمَّ رَبًّا ... وَأَعْجَبُ مِنْهُ بَطْنٌ قَدْ حَوَاهُ أَقَامَ هُنَاكَ تِسْعًا مِنْ شُهُورٍ ... لَدَى الظُّلُمَاتِ مِنْ حَيْضٍ غِذَاهُ وَشَقَّ الْفَرْجَ مَوْلُودًا صَغِيرًا ... ضَعِيفا فَاتِحًا لِلثَّدْي فَاهُ وَيَأْكُلُ ثُمَّ يَشْرَبُ ثم يَأْتِي ... بِلاَزِمِ ذَاكَ هَلْ هذَا إِلهُ تَعَالىَ اللهُ عَنْ إِفْكِ النَّصَارَى ... سَيُسأَلُ كُلُّهُمْ عَمَّا افترَاهُ أَعُبَّادَ الصَّلِيبِ لأيّ مَعْنًى ... يُعَظَّم أوْ يُقَبَّحُ مَنْ رَمَاهُ وَهَلْ تَقْضِي العُقُولُ بِغَيْرِ كَسْرٍ ... وَإحْرَاقٍ لَهُ وَلِمَنْ نَعَاهُ إِذَا رَكِبَ الإِلهُ عَلَيْهِ كُرْهًا ... وَقَدْ شُدَّتْ لِتَسْمِيرٍ يَدَاهُ ¬

_ (¬1) لعل القصيدة للمؤلف.

فصل: تلاعب الشيطان بالنصارى في شأن المعبود، وفي عيسى وفي الصليب وعبادته، وتصوير الصور في الكنائس وعبادتها

فَذَاكَ المَرْكَبُ المَلْعُونُ حَقًّا ... فَدُسْهُ لا تَبُسْهُ إِذْ تَرَاهُ يُهَانُ عَلَيْهِ رَبُّ الخلقِ طُرًّا ... وتَعْبُدُهُ فَإِنّكَ مِنْ عِدَاهُ فإِنْ عَظَّمْتَهُ مِنْ أَجْلِ أَنْ قَدْ ... حَوَى رَبَّ العِبَادِ وَقَدْ عَلاَهُ وَقَدْ فُقِدَ الصَّلِيبُ فإِنْ رَأَيْنَا ... لَهُ شَكْلًا تَذَكَّرْنَا سَنَاهُ فَهَلاّ للقُبُورِ سَجَدْتَ طُرًّا ... لِضَمِّ القبرِ رَبّكَ في حَشَاهُ فَيَا عبد المَسيحِ أَفِقْ فَهَذَي ... بِدَايَتُهُ وَهذَا مُنْتَهاهُ فصل قد بانَ لكل ذي عقل أن الشيطان تلاعبَ بهذه الأمة الضّالة كلَّ التلاعُب، ودعاهم فأجابوه، واستخفهم فأطاعوه. فتلاعب بهم في شأن المعبود سبحانه وتعالى. وتلاعبَ بهم في أمر المسيح. وتلاعب بهم في شأن الصليب وعبادته. وتلاعبَ بهم في تَصْوير الصّور في الكنائس وعبادتها، فلا تجدُ كنيسة من كنائسهم تَخْلُو عن صورة مريم، والمسيح، وجرجس، وبطرس، وغيرهم من القديسين عندهم، والشهداء. وأكثرهم يسجدون للصور، ويدعونها من دون الله تعالى. حتى لقد كتب بِطْريقُ الإسكندرية إلى ملك الروم كتابًا يحتجّ فيه للسجود للصور: بأن الله تعالى أمر موسى عليه السلام أن يُصَوِّر في قُبّة الزمان صورة الساروس، وبأن سليمان بن داود لما عمل الهيكل عمل صورة الساروس من ذهب، ونَصَبها داخل الهيكل.

ثم قال في كتابه: وإنما مثال هذا مثال الملك يكتبُ إلى بعض عُمّاله كتابًا، فيأخذه العاملُ ويُقَبِّله ويضعهُ على عينيه، ويقومُ له، لا تعظيمًا للقِرطاس والمداد، بل تعظيمًا للملك، كذلك السجود للصور تعظيمٌ لاسم ذلك المصوّر، لا للأصباغ والألوان. وبهذا المثال بعينه عُبِدَت الأصنام. وما ذكره هذا المشركُ عن موسى وسليمان عليهما السلام لو صحَّ لم يكن فيه دليلٌ على السجود للصور، وغايتُه أن يكون بمثابة ما يُذكر عن داود: أنه نقش خطيئته في كفِّه لئلا ينساها، فأين هذا مما يفعله هؤلاء المشركون من التذَلّل، والخضوع، والسجود بين يدي تلك الصور؟ وإنما المثالُ المطابقُ لما يفعله هؤلاء المشركون: مثالُ خادمٍ من خُدّام الملك دخل على رَجُل قريب من مجلسه، وسجد له وعبده، وفعل به ما لا يصلح أن يُفعل إلا مع الملك، وكلّ عاقل يستجهله ويستحمقه في فعله إذ قد فعلَ مع عبد الملك ما كان ينبغي له أن يخُصّ به الملك دون عبيده من الإكرام، والخضوع، والتذلل. ومعلومٌ أن هذا إلى مَقْتِ الملك له، وسُقوطه من عينه أقربُ منه إلى إكرامه له، ورفع منزلته. كذلك حالُ مَنْ سجد لمخلوق، أو لصورة مخلوق لأنه عَمَدَ إلى السجود الذي هو غايةُ ما يتوصل به العبدُ إلى رضا الربّ، ولا يصلح إلا له، ففعله لصورة عبد من عبيده، وسوّى بين الله وبين عبده في ذلك، وليس وراء هذا في القبح والظلم شيء. ولهذا قال تعالى: {إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ} [لقمان: 13].

فطر الله العباد على استقباح معاملة عبيد الملك بما يعامل به الملك، فكيف من فعل ذلك بأعداء الملك

وقد فطر الله سبحانه عباده على استقباح معاملة عبيد الملك وخدمه بالتعظيم، والإجلال، والخضوع، والذل الذي يُعامل به الملك، فكيف حالُ مَنْ فعل ذلك بأعداء الملك؟ فإن الشيطان عدوّ الله، والمشرك إنما يشرك به، لا بِوَليِّ الله ورسوله، بل رسول الله وأولياؤه بريئون ممن أشرك بهم، مُعَادُون لهم، أشدّ الناس مقتًا لهم، فهم في نفس الأمر إنما أشركوا بأعداء الله، وسوَّوا بينهم وبين الله في العبادة والتعظيم، والسجود، والذل. ولهذا كان بُطلانُ الشرك وقبحه معلومًا بالفطرة السليمة والعقول الصحيحة، والعلم بقبحه أظهر من العلم بقبح سائر القبائح. والمقصود ذكر تلاعب الشيطان بهذه الأمة في أصول دينهم وفروعه كتلاعبه بهم في صيامهم فإن أكثر صومهم لا أصل له في شرع المسيح، بل هو مختلق مبتدع. فمن ذلك: أنهم زادوا جمعة في بَدْء الصوم الكبير، يصومونها لهرقل ملك بيت المقدس. وذلك أن الفُرس لمَّا ملكوا بيت المقدس، وقتلوا النصارى، وهدموا الكنائس، أعانهم اليهود على ذلك، وكانوا أكثر قتلًا وفتكًا في النصارى من الفُرس، فلما سار هرقل إليه استقبله اليهود بالهدايا، وسألوه أن يكتب لهم عهدًا، ففعل، فلما دخل بيت المقدس شكا إليه مَنْ فيه من النصارى ما كان اليهود صنعوه بهم، فقال لهم هرقل: وما تريدون مني؟ قالوا: تقتلهم، قال: كيف أقتلهم، وقد كتبت لهم عهدًا بالأمان؟ وأنتم تعلمون ما يجب على ناقض العهد، فقالوا له: إنك حين أعطيتهم الأمان لم تَدْرِ ما فعلوا مِنْ قَتْل

زيادتهم في الصيام الكبير جمعة يصومونها لهرقل الذي استرد بيت المقدس من الفرس كفارة له إذ نقض عهده مع اليهود وقتلهم

النصارى، وهَدْم الكنائس، وقَتْلُهم قُربانٌ إلى الله تعالى، ونحن نتحمَّل عنك هذا الذنب ونكفِّره عنك، ونسأل المسيح أن لا يؤاخذك به، ونجعل لك جمعة كاملة في بدء الصوم، نصومها لك، ونترك فيها أكل اللحم مادامت النصرانية، ونكتب به إلى جميع الآفاق، غفرانًا لما سألناك! فأجابهم، وقتل من اليهود حول بيت المقدس وجبل الخليل ما لا يحُصى كثرة. فصيّروا أول جمعة من الصوم الذي يترك فيه المَلِكيّة أكل اللحم، يصومونها لهرقل الملك، غفرانًا لنقضه العهد، وقتل اليهود، وكتبوا بذلك إلى الآفاق. وأهل بيت المقدس (¬1) وأهل مصر يصومونها. وبقية أهل الشام والروم يتركون اللحم فيها، ويصومون الأربعاء والجمعة. وكذلك لمَّا أرادوا نقل ذلك (¬2) إلى فصل الرّبيع المعتدل، وتغيير شريعة المسيح، زادوا فيه عشرة أيام عِوضًا وكفارة لنقلهم له. ومن ذلك: تلاعبه بهم في أعيادهم، وكلها موضوعة مختلقة، مُحْدَثَةٌ بآرائهم واستحسانهم. فمن ذلك عِيدُ ميكائيل، وسببه أنه كان بالإسكندرية صنم، وكان جميع مَن بمصر والإسكندرية يُعَيّدون له عيدًا عظيمًا، ويذبحون له الذبائح، فولَّى بَتْرَكةُ الإسكندرية واحدًا منهم، فأراد أن يكسره، ويبطل الذبائح، فامتنعوا ¬

_ (¬1) م: "الملك". وهو تحريف. (¬2) كذا في م، وفي بقية النسخ: "الصوم".

عيد الصليب، وقصة هيلانة أم قسطنطين في دعوى استخراجها الصليب من المكان الذي كان مدفونا به ببيت المقدس بدلالة يهودي لها

عليه، فاحتال عليهم، وقال: إن هذا الصنم لا ينفع ولا يضرُّ، فلو جعلتم هذا العيد لميكائيل ملك الله تعالى، وجعلتم هذه الذبائح له، كان يشفع لكم عند الله، وكان خيرًا لكم من هذا الصنم! فأجابوه إلى ذلك، فكسر الصنم، وصيّره صُلبانًا، وسمى الكنيسة كنيسة ميكائيل، وسماها قيسارية، ثم احترقت الكنيسة وخربت، وصيّروا العيد والذبائح لميكائيل. فنقلهم من كفر إلى كفر، ومن شرك إلى شرك. فكانوا في ذلك كمجوسيٍّ أسلم، فصار رافضيًّا، فدخل الناس عليه يهنئونه، فدخل عليه رجل، وقال: إنك إنما انتقلت من زاوية من النار إلى زاوية أخرى. ومن ذلك: عيد الصليب، وهو مما اختلقوه وابتدعوه فإن ظهور الصليب إنما كان بعد المسيح بزمن كثير، وكان الذي أظهره زورًا وكذبًا أخبرهم به بعض اليهود أن هذا هو الصليب الذي صُلب عليه إلههم وربهم. فانظر إلى هذا السند، وهذا الخبر! فاتخذوا ذلك الوقت الذي ظهر فيه عيدًا، وسمَّوه عيد الصليب، ولو أنهم فعلوا كما فعل أشباهُهم من الرافضة، حيث اتَّخذوا وقت قتل الحسين رضي الله عنه مأتمًا وحزنًا، لكان أقرب إلى العقول. وكان من حديث الصليب: أنه لما صُلب المسيح على زعمهم الكاذب، وقُتل ودفن، رُفع من القبر إلى السماء، وكان التلاميذ كلَّ يوم يصيرون إلى القبر إلى موضع الصلب ويصلُّون، فقالت اليهود: إن هذا الموضع لا يخفى، وسيكون له نبأ، وإذا رأى الناس القبر خاليًا آمنوا به، فطرحوا عليه التراب والزبل، حتى صار مَزْبلة عظيمة، فلما كان في أيام قُسطَنطين الملك جاءت

تقديسهم الصليب بمزاعم باطلة والرد عليهم من عدة وجوه

زوجته إلى بيت المقدس تطلب الصليب، فجمعت من اليهود والسكان ببيت المقدس والخليل مئة رجل، واختارت منهم عشرة، واختارت من العشرة ثلاثة اسمُ أحدهم يهوذا، فسألتهم أن يدلّوها على الموضع، فامتنعوا وقالوا: لا علم لنا بالموضع، فطرحتهم في الحبس في جُبٍّ لا ماء فيه، فأقاموا سبعة أيام، لا يُطعَمون، ولا يُسقون، فقال يهوذا لصاحبيه: إن أباه عرّفه بالموضع الذي تطلب، فصاح الاثنان، فأخرجوهما، فخبّراها بما قال يهوذا، فأمرت بضربه بالسياط، فأقرّ، وخرج إلى الموضع الذي فيه المقبرة، وكان مَزْبلة عظيمة، فصلى، وقال: اللهم، إن كان في هذا الموضع، فاجعله أن يتزلزل ويخرج منه دخان، فتزلزل الموضع، وخرج منه دخان، فأمرت الملكة بكنس الموضع من التراب، فظهرت المقبرة، وأصابوا ثلاثة صُلْبَانٍ، فقالت الملكة: كيف لنا أن نعلم صليب سيدنا المسيح؟ وكان بالقرب منهم عليل شديد العلة، قد أُيس منه، فوُضع الصليب الأول عليه، ثم الثاني، ثم الثالث، فقام عند الثالث، واستراح من عِلّته، فعلمت أنه صليبُ المسيح، فجعلته في غلاف من ذهب، وحملته إلى قسطنطين. وكان من ميلاد المسيح إلى ظهور هذا الصليب: ثلاث مئةٍ وثلاث (¬1) وعشرون سنة. هذا كله نقله سعيد بن بطريق النصراني في "تاريخه" (¬2). والمقصود: أنهم ابتدعوا هذا العيد بنقل علمائهم بعد المسيح بهذه المدة. ¬

_ (¬1) ش: "ثمان". (¬2) انظر تاريخه المسمى "نظم الجوهر".

وبعدُ، فسند هذه الحكاية من بين يهودي ونصراني، مع انقطاعها، وظهور الكذب فيها لمن له عقل من وجوه كثيرة. ويكفي في كذبها وبيان اختلاقها: أن ذلك الصليب الذي شفى العليل، كان أولى أن لا يُمِيتَ الإله (¬1) الرب المحيي المميت. ومنها: أنه إذا بقي تحت التراب خشب ثلاث مئة وثلاث وعشرين سنة، فإنه يَنْخَرُ ويَبْلىَ لدون هذه المدة. فإن قال عُبّاد الصليب: إنه لما مَسّ جسم المسيح حصل له الثبات والقوة والبقاء! قيل لهم: فما بالُ الصليبين الباقيين لم يَتَفَتَّتَا واشتبها به؟ فلعلهم يقولون: لما مَسّت صليبه مسَّها البقاء والثبات. وجهلُ القوم وحمقهم أعظم من ذلك، والرب سبحانه وتعالى لما تجلّى للجبل تَدَكْدَكَ الجبل، وساخ في الأرض، ولم يثبت لِتَجلِّيه، فكيف تثبت الخشبة لركوبه عليها في تلك الحال؟ ولقد صدق القائل: إن هذه الأمة عارٌ على بني آدم أن يكونوا منهم. فإن كانت هذه الحكاية صحيحةً، فما أقربها من حيل اليهود التي تخلَّصوا بها من الحبس والهلاك! وحيل بني آدم تصل إلى أكثر من ذلك بكثير، ولا سيما لمَّا علم اليهود أن ملكة دين النصرانية قاصدة إلى بيت المقدس، وأنها تعاقبهم حتى يَدُلُّوها ¬

_ (¬1) "الإله" ساقطة من م.

وأما تلاعبه بهم في صلاتهم فمن وجوه

على موضع القتل والصلب، وعلموا أنهم إن لم يفعلوا لم يتخلَّصوا من عُقوبتها. ومنها: أن عُبّاد الصليب يقولون: إن المسيح لما قُتل غار دمه، ولو وقع منه قَطرة على الأرض ليبستْ ولم تنبتْ. فيا عجبًا! كيف يَحْيَا الميتُ، ويبرأ العليل بالخشبة التي شُهر عليها وصلب؟ أهذا كله من بركتها، وفرَحِها به، وهو مشدود عليها يبكي ويستغيث؟ ولقد كان الأليق أن يَتفَتّت الصليبُ ويضمحلّ لهيبة من صُلب عليه وعظمته، تُخسَف الأرض بالحاضرين عند صلبه، والمتمالئين عليه، بل تتفطّر السماوات، وتنشقّ الأرض، وتخرّ الجبال هَدًّا. ثم يقال لعُبّاد الصليب: لا يخلو أن يكون المصلوب الناسوت وحده، أو مع اللاهوت: فإن كان المصلوبُ هو الناسوت وحده، فقد فارقتهُ الكلمة، وبطل اتحادها به، وكان المصلوب جسدًا من الأجساد، ليس بإله، ولا فيه شيء من الإلهية والربوبية البتة. وإن قلتم: إن الصَّلب وقع على اللاهوت والناسوت معًا، فقد أقررتم بصلب الإله وقتله وموته، وقدرة الخلق على أذاه، وهذا أبطلُ الباطل، وأمحلُ المحال. فبطل تعلُّقكم بالصليب من كل وجه عقلًا وشرعًا. وأما تلاعبه بهم في صلاتهم فمن وجوه:

تغطية المطارنة والأساقفة فساد هذا الدين بما اخترعوا من الحيل والصور في الحيطان بالألوان الجميلة والأعياد، وأنواع الموسيقى، وساعدهم على ترويجه غلظة اليهود وقسوتهم

أحدها: صلاة كثير منهم بالنجاسة والجنابة، والمسيحُ بريء من هذه الصلاة، وسبحان الله أن يُتقَرّب إليه بمثل هذه الصلاة! فَقَدْره أعلى، وشأنه أجلُّ من ذلك. ومنها: صلاتهم إلى مشرق الشمس، وهم يعلمون أن المسيح لم يصلّ إلى المشرق أصلًا، وإنما كان يُصليّ إلى قِبلة بيت المقدس. ومنها: تصليبهم على وجوههم عند الدخول في الصلاة، والمسيحُ بريء من ذلك. فصلاةٌ مفتاحها النجاسة، وتحريمها التصليب على الوجه، وقبلتها الشرق، وشعارها الشرك: كيف يخفى على العاقل أنها لا تأتي بها شريعة من الشرائع البتة؟ ولمَّا علمت الرّهبان والمطارنة والأساقفة أن مثل هذا الدِّين تنفرُ عنه العقول أعظم نُفْرة، شَدُّوه بالحِيَل والصُّوَر في الحيطان، بالذّهب واللازْوَرد والزّنجفر، وبالأرغُل، وبالأعياد المحدثة، ونحو ذلك مما يَرُوجُ على السفهاء وضعفاء العقول والبصائر. وساعدهم ما عليه اليهود من القسوة، والغلظة، والمكر، والكذب، والبَهت، وما عليه كثير من المسلمين من الظّلم، والفواحش، والفجور، والبِدعة، والغلوّ في المخلوق، حتى يتخذه إلهًا من دون الله، واعتقادُ كثيرٍ من الجهّال أن هؤلاء من خواصّ المسلمين وصالحيهم. فترَكّب من هذا وأمثاله تَمَسُّكُ القوم بما هم فيه، ورُؤيتهم أنه خيرٌ من كثير مما عليه المنتسبون إلى الإسلام من البِدَع، والفجور، والشرك، والفواحش.

لما رأى النصارى الصحابة وما هم عليه آمن أكثرهم وقالوا: ما الذين صحبوا عيسى بافضل من هؤلاء

ولهذا لما رأى النصارى الصحابة وما هُم عليه، آمن أكثرهم اختيارًا وطوْعًا، وقالوا: ما الذين صحبوا المسيح بأفضل من هؤلاء. ولقد دعونا نحن وغيرنا كثيرًا من أهل الكتاب إلى الإسلام، فأخبروا أن المانع لهم ما يرون عليه المنتسبين إلى الإسلام ممَّن يُعَظّمهم الجهال، من البدع والظلم، والفجور، والمكر، والاحتيال، ونسبة ذلك إلى الشرع، فساءَ ظنهُم بالشرع وبمن جاء به. فالله طليبُ قُطّاع طريق الله، وحسيبهم! فهذه إشارة يسيرة جدًّا إلى تلاعُب الشيطان بعُبَّاد الصليب، تدلّ على ما بعدها، والله الهادي الموفق!

فصل: في ذكر تلاعب الشيطان بالأمة الغضبية وهم اليهود

فصل في ذكر تلاعبه بالأمة الغضبيّة وهم اليهود قال الله تعالى في حقهم: {بِئْسَمَا اشْتَرَوْا بِهِ أَنْفُسَهُمْ أَنْ يَكْفُرُوا بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ بَغْيًا أَنْ يُنَزِّلَ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ فَبَاءُوا بِغَضَبٍ عَلَى غَضَبٍ وَلِلْكَافِرِينَ عَذَابٌ مُهِينٌ} [البقرة: 90]. وقال تعالى: {قُلْ هَلْ أُنَبِّئُكُمْ بِشَرٍّ مِنْ ذَلِكَ مَثُوبَةً عِنْدَ اللَّهِ مَنْ لَعَنَهُ اللَّهُ وَغَضِبَ عَلَيْهِ وَجَعَلَ مِنْهُمُ الْقِرَدَةَ وَالْخَنَازِيرَ} [المائدة: 60]. وقال تعالى: {تَرَى كَثِيرًا مِنْهُمْ يَتَوَلَّوْنَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَبِئْسَ مَا قَدَّمَتْ لَهُمْ أَنْفُسُهُمْ أَنْ سَخِطَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَفِي الْعَذَابِ هُمْ خَالِدُونَ} [المائدة: 80]. وقد أمرنا الله سبحانه أن نسأله في صلواتنا أن يَهْدِينَا صراط الذين أنعم عليهم، غير المغضوب عليهم ولا الضالّين. وثبت عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: "اليهودُ مغضوبٌ عليهم، والنصارى ضالُّون" (¬1). فأوّلُ تلاعب الشيطان بهذه الأمة: في حياة نبيّهَا، وقُرب العهد بإنجائهم من فرعون، وإغراقه وإغراق قومه، فلما جاوَزُوا البحر رأوا قومًا يَعْكُفون على أصنام لهم، فقالوا: {يَامُوسَى اجْعَلْ لَنَا إِلَهًا كَمَا لَهُمْ آلِهَةٌ} [الأعراف: 138]، فقال لهم موسى عليه السلام: {إِنَّكُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ (138) إِنَّ هَؤُلَاءِ مُتَبَّرٌ مَا ¬

_ (¬1) تقدم تخريجه.

حديث ذات أنواط: وقول النبي - صلى الله عليه وسلم -: "قلتم كما قال قوم موسى لموسى" إلخ

هُمْ فِيهِ وَبَاطِلٌ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [الأعراف: 138، 139]. فأي جهلٍ فوق هذا؟ والعهد قريبٌ، وإهلاك المشركين أمامهم بِرَأيِ عيونهم، فطلبوا من موسى عليه السلام أن يجَعلَ لهم إلهًا، فطلبوا من مخلوق أن يجعل لهم إلهًا مخلوفًا، وكيف يكون الإله مجعولًا؟ فإن الإله هو الجاعلُ لكلّ ما سواه، والمجعولُ مربوبٌ مصنوعٌ، فيستحيل أن يكون إلهًا. وما أكثر الخَلَف لهؤلاء في اتخاذ إله مجعول، فكل من اتخذ إلهًا غير الله فقد اتخذ إلهًا مجعولًا! وقد ثبت عن النبي - صلى الله عليه وسلم -: أنه كان في بعض غزواته، فمرّوا بشجرة يُعَلِّق عليها المشركون أسلحتهم وشاراتهم وثيابهَم، يسمُّونها ذات أنواطٍ، فقال بعضهم: يا رسول الله! اجعل لنا ذات أنواطٍ كما لهم ذاتُ أنواط! فقال: "الله أكبر! قلتم كما قال قوم موسى لموسى: {اجْعَلْ لَنَا إِلَهًا كَمَا لَهُمْ آلِهَةٌ} [الأعراف: 138]! ثم قال: "لتركبُنّ سَنَنَ من كان قبلكم حَذْوَ القُذّة بالقُذّة" (¬1). فصل ومن تلاعبه بهم: عبادتهُم العجلَ من دون الله تعالى، وقد شاهدوا ما حلّ بالمشركين من العقوبة، والأخذة الرابية، ونبيّهم حَيٌّ لم يمت. هذا، وقد شاهدوا صانِعَهُ يصنعه ويصوغُه، ويُصْلِيه النارَ، ويَدُقّه بالمطرقة، ويَسْطُو عليه بالمبرد، ويُقَلّبه بيديه ظهرًا لبطن. ¬

_ (¬1) تقدم تخريجه.

معنى قول الله في قصة العجل والسامري: {هذا إلهكم وإله موسى فنسي} رواية السذي في اتخاذ العجل وسببه

ومن عجيب أمرهم: أنهم لم يَكْتَفُوا بكونه إلهَهمْ، حتى جعلوه إله موسى، فنسبوا موسى عليه السلام إلى الشرك، وعبادة غير الله تعالى، بل عبادة أبْلَدِ الحيوانات، وأقلِّها دَفعًا عن نفسه، بحيث يُضربُ به المثلُ في البلادة والذُّلِّ، فجعلوه إله كليم الرحمن. ثم لم يكتفوا بذلك، حتى جعلوا موسى عليه السلام ضالًّا مخطئًا، فقالوا: {فَنَسِيَ} [طه: 88]. قال ابن عباس (¬1): أي ضَلّ وأخطأ الطريق. وفي رواية عنه (¬2): أي إن موسى ذهبَ يطلب ربه، فَضَلّ، ولم يعلم مكانه. وعنه أيضًا (¬3): نسي أن يذكر لكم أن هذا إلهه وإلهكم. وقال السُّدِّي (¬4): أي ترك موسى إلهه هاهنا، وذهب يطلبه. وقال قتادة (¬5): أي إن موسى إنما يطلب هذا، ولكنه نَسِيَهُ وخالفه في طريق آخر. ¬

_ (¬1) أقوال المفسرين في البسيط للواحدي (14/ 500). وقول ابن عباس في الكشف والبيان (6/ 257)، ومعالم التنزيل (5/ 290)، والجامع لأحكام القرآن (11/ 236). (¬2) رواه الطبري في تفسيره (18/ 356) من طريق عطية العوفي عن ابن عباس، وعزاه في الدر المنثور (3/ 535، 5/ 588) لعبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم. (¬3) رواه الفريابي وعبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم كما في الدر المنثور (5/ 595). (¬4) رواه الطبري في تفسيره (2/ 65، 18/ 357). (¬5) رواه الطبري في تفسيره (18/ 356).

على هذا القول المشهور أن قوله: {فَنَسِيَ} من كلام السامريّ وعُبّاد العجل معه. وعن ابن عباس (¬1) رواية أخرى: أن هذا من إخبار الله تعالى عن السامري أنه نسي أي ترك ما كان عليه من الإيمان. والصحيح: القول الأول، والسياق يدل عليه. ولم يذكر البخاريُّ في التفسير (¬2) غيره فقال: يقول: أخطأ الربّ. فإنه لمَّا جعله إله موسى استحضر سؤالًا من بني إسرائيل يوردونه عليه، فيقولون له: إذا كان هذا إله موسى فلأي شيء ذهب عنه لموعد إلهه؟ فأجاب عن هذا السؤال قبل إيراده عليه بقوله: فنسي. وهذا من أقبح تلاعب الشيطان بهم! فانظر إلى هؤلاء، كيف اتخذوا إلهًا مصنوعًا مَصُوغًا من جَوْهر أرضي، إنما يكون تحت التراب، محتاجًا إلى سَبْك بالنار، وتصفية وتخليص لخبثه منه، مدقوقًا بمطارق الحديد، مقلَّبًا في النار مرة بعد مَرّة، قد نُحِت بالمبارد، وأحدث الصانع صورته وشكله على صورة الحيوان المعروف بالبلادة والذل والضيم، وجعلوه إله موسى، ونسبوه إلى الضلال، حيث ذهب يطلب إلهًا غيره؟ ¬

_ (¬1) رواه الطبري في تفسيره (2/ 66، 18/ 356). (¬2) (8/ 432) (مع الفتح).

معنى قوله تعالى: {فقبضت قبضة من أثر الرسول}

قال محمد بن جرير (¬1): وكان سببُ اتخاذهم العجل: ما حدثني به عبد الكريم بن الهيثم، قال: حدثني إبراهيم بن بشار الرمادي، حدثنا سفيان بن عُيينة، حدثنا أبو سعيد، عن عِكرمة، عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما، قال: لما هجم فرعون على البحر هو وأصحابه، وكان فرعون على فَرَسٍ أدهم حصان، فلما هجم فرعون على البحر هابَ الحصانُ أن يقتحم في البحر، فمثَّل له جبريل على فرس أنثى، فلما رآها الحصان تَقَحّم خَلْفَها، قال: وعرف السامري جبريل، فقبض قَبْضة من أثر فرسه، قال: أخذ من تحت الحافر قبضة. قال سفيان: وكان ابن مسعود يقرؤها: "فَقَبَضْتُ قَبْضةً مِنْ أَثَرِ فَرَسِ الرّسُولِ". قال عكرمة عن ابن عباس: وأُلقِي في رُوع السامري: إنك لا تلقيها على شيء، فتقول: كُنْ كذا وكذا، إلا كان، فلم تَزَل القبضةُ معه في يده، حتى جاوز البحر، فلما جاوز موسى وبنو إسرائيل البحر، وغرَّق الله آل فرعون، قال موسى لأخيه هارون: اخْلُفْنِي في قَوْمي وأصْلِحْ، ومضى موسى لمَوعد ربه، قال: وكان مع بني إسرائيل حُلِيٌّ من حلي آل فرعون قد استعاروه، فكأنهم تأثّموا منه، فأخرجوه لتنزل النارُ فتأكله، فلما جمعوه قال السامري بالقَبْضَة التي كانت في يده هكذا، فقذفها فيه وقال: كن عِجْلًا جَسَدًا له خُوَارٌ، فصار عجلًا جسدًا له خوار، فكان يدخل الريح من دُبُره ويخرج من فيه، يُسْمَعُ له صوت، {فَقَالُوا هَذَوَإِلَهُ اإِلَهُكُمْ مُوسَى} [طه: 88]، فعكفوا على العجل يعبدونه، فقال هارون: {يَاقَوْمِ إِنَّمَا فُتِنْتُمْ بِهِ وَإِنَّ رَبَّكُمُ الرَّحْمَنُ ¬

_ (¬1) تفسير الطبري (918).

فَاتَّبِعُونِي وَأَطِيعُوا أَمْرِي (90) قَالُوا لَنْ نَبْرَحَ عَلَيْهِ عَاكِفِينَ حَتَّى يَرْجِعَ إِلَيْنَا مُوسَى} [طه: 90، 91]. وقال السّدي (¬1): لما أمر الله موسى أن يَخرج ببني إسرائيل من أرض مصر، أمر موسى بني إسرائيل أن يخرجوا، وأمرهم أن يستعيروا الحُلِيّ من القِبْطِ، فلما نَجّى الله موسى ومَنْ معه من بني إسرائيل من البحر، وأغرق آل فرعون، أتى جبريلُ إلى موسى ليذهب به إلى الله، فأقبل على فرس، فرآه السامريّ، فأنكره، ويقال: إنه فرس الحياة، فقال حين رآه: إن لهذا لشأنًا، فأخذ من تربة حافر الفرس، فانطلق موسى عليه السلام، واستخلف هارونَ على بني إسرائيل، وواعدهم ثلاثين ليلةً، فأتمَّها الله تعالى بعشر، فقال لهم هارونُ: يا بني إسرائيل! إن الغنيمة لا تحِلّ لكم، وإن حُليّ القِبْطِ إنما هو غنيمة، فاجمعوها جميعًا واحفروا لها حُفْرَة، فادفنوها، فإن جاء موسى فأحلَّها أخذتموها، فجمعوا ذلك الحلي في تلك الحفرة، وجاء السامريّ بتلك القبضة، فقذفها، فأخرج الله من الحلي عجلًا جسدًا له خُوارٌ، فلما رأوه قال لهم السامري: {هَذَا إِلَهُكُمْ وَإِلَهُ مُوسَى فَنَسِيَ}، يقول: ترك موسى إلهه هاهنا، وذهب يطلبه، فعكفوا عليه يعبدونه، وكان يخور ويمشي، فقال لهم هارون: يا بني إسرائيل! {إِنَّمَا فُتِنْتُمْ} يقول: إنما ابتليتم بالعجل، {وَإِنَّ رَبَّكُمُ الرَّحْمَنُ}، فأقام هارون ومن معه من بني إسرائيل لا يقاتلونهم، وانطلق موسى إلى الله يكلِّمه، فلما كلَّمه قال له: {وَمَا أَعْجَلَكَ عَنْ قَوْمِكَ يَامُوسَى (83) قَالَ هُمْ أُولَاءِ عَلَى أَثَرِي وَعَجِلْتُ إِلَيْكَ رَبِّ لِتَرْضَى (84) قَالَ فَإِنَّا قَدْ فَتَنَّا ¬

_ (¬1) رواه الطبري في تفسيره (919) من طريق أسباط بن نصر عن السدي.

رواية ابن إسحاق في قصة العجل والسامري

قَوْمَكَ مِنْ بَعْدِكَ وَأَضَلَّهُمُ السَّامِرِيُّ} [طه: 83 - 85]، فأخبره خبرهم، قال موسى: يا رب! هذا السامري أمرهم أن يتخذوا العجل، فالروحُ مَنْ نفخها فيه؟ قال الرب تعالى: أنا، قال: يا ربِّ! أنت إذًا أضللتهم! وقال ابن إسحاق (¬1)، عن حكيم بن جُبير، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس رضي الله عنهما، قال: كان السامري من قوم يعبدون البقر، فكان يحبُّ عبادة البقر في نفسه، وكان قد أظهر الإسلام في بني إسرائيل، فلما ذهب موسى إلى ربه قال لهم هارون: أنتم قد حملتم أوزارًا من زينة القوم آل فرعون وأمتعةً وحُلِيًّا، فتطهَّروا منها فإنها نَجَس، وأوقد لهم نارًا، فقال: اقذفوا ما كان معكم من ذلك فيها، فجعلوا يأتون بما كان معهم من تلك الأمتعة والحلي، فيقذفون به فيها، حتى إذا انكسر الحليّ فيها، ورأى السامريّ أثر فرس جبريل، فأخذ ترابًا من أثر حافره، ثم أقبل إلى النار، فقال لهارون: يا نبي الله! أُلقي ما في يدي؟ ولا يَظنّ هارون إلا أنه كبعض ما جاء به غيره من الحلي والأمتعة، فقَذَفه فيها، فقال: كُن عجلًا جسدًا له خوار، فكان البلاء والفتنة، فقال هذا إلهكم وإله موسى، فعكفوا عليه، وأحبوه حبًّا لم يحبُّوا شيئًا مثله قط، يقول الله عز وجل: {فَنَسِيَ} أي: ترك ما كان عليه من الإسلام، يعني: السامري {أَفَلَا يَرَوْنَ أَلَّا يَرْجِعُ إِلَيْهِمْ قَوْلًا وَلَا يَمْلِكُ لَهُمْ ضَرًّا وَلَا نَفْعًا} [طه: 89]. ¬

_ (¬1) رواه الطبري في تفسيره (921)، وروى بعضه ابن أبي حاتم في تفسيره (8986) من طريق القاسم بن أبي أيوب عن سعيد بن جبير بنحوه.

لم يعتب الله على موسى في إلقاء الألواح لأن الذي حمله عليه الغضب لله

فلما رأى هارونُ ما وقعوا فيه قال: {يَاقَوْمِ إِنَّمَا فُتِنْتُمْ بِهِ وَإِنَّ رَبَّكُمُ الرَّحْمَنُ فَاتَّبِعُونِي وَأَطِيعُوا أَمْرِي (90) قَالُوا لَنْ نَبْرَحَ عَلَيْهِ عَاكِفِينَ حَتَّى يَرْجِعَ إِلَيْنَا مُوسَى} [طه: 90، 91]! فأقام هارون فيمن معه من المسلمين ممن لم يَفْتَتِنْ، وأقام مَن يعبد العجل على عبادة العجل، وتخوف هارون إن سار بمن معه من المسلمين أن يقول له موسى: {فَرَّقْتَ بَيْنَ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَلَمْ تَرْقُبْ قَوْلِي} [طه: 94]، وكان له هائبًا مطيعًا. فقال تعالى مذكرًا لبني إسرائيل بهذه القصة التي جرت لأسلافهم مع نبيهم: {وَإِذْ وَاعَدْنَا مُوسَى أَرْبَعِينَ لَيْلَةً ثُمَّ اتَّخَذْتُمُ الْعِجْلَ مِنْ بَعْدِهِ} [البقرة: 51]، يعني: من بعد ذهابه إلى ربِّه، وليس المراد من بعدِ موته، {وَأَنْتُمْ ظَالِمُونَ} [البقرة: 51]، أي: بعبادة غير الله تعالى لأن الشّرك أظلم الظلم، لأن المشرك وضع العبادة في غير موضعها. فلما قَدِمَ موسى عليه السلام، ورأى ما أصابَ قومه من الفتنة، اشتد غضبه، وألقى الألواح عن رأسه، وفيها كلامُ الله الذي كتبه له، وأخذ برأس أخيه ولحْيَتِهِ، ولم يَعْتبِ الله عليه في ذلك لأنه حمله عليه الغضبُ لله، وكان الله عز وجل قد أعلمه بفتنة قومه، ولكن لما رأى الحال مشاهدةً حدث له غضب آخر فإنه ليس الخبر كالمعاينة. فصل ومن تلاعب الشيطان بهذه الأمة في حياة نبيهم أيضًا: ما قصَّه الله تعالى في كتابه حيث يقول: {وَإِذْ قُلْتُمْ يَامُوسَى لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى نَرَى اللَّهَ جَهْرَةً} [البقرة: 55]، أي عِيانًا.

رواية ابن إسحاق في هذه القصة

قال ابن جرير (¬1): ذَكّرهم الله سبحانه بذلك اختلافَ آبائهم، وسوء استقامة أسلافهم لأنبيائهم، مع كثرة معاينتهم من آيات الله ما يُثلَجُ بأقلِّها الصدورُ، وتطمئن بالتصديق معها النفوسُ، وذلك مع تتابع الحجج عليهم، وسُبوغ نِعَم الله تعالى لديهم، وهم مع ذلك مرة يسألون نبيّهم أن يجعل لهم إلهًا غير الله، ومرة يعبدون العجلَ من دون الله، ومرة يقولون: لا نُصَدّقك حتى نرى الله جَهْرة، وأخرى يقولون له إذا دُعُوا إلى القتال: {فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلَا إِنَّا هَاهُنَا قَاعِدُونَ} [المائدة: 24]، ومرة يقال لهم: {وَقُولُوا حِطَّةٌ وَادْخُلُوا الْبَابَ سُجَّدًا نَغْفِرْ لَكُمْ خَطِيئَاتِكُمْ} [الأعراف: 161] فيقولون: "حنطة في شعرة"، ويدخلون من قِبَل أسْتاههم، ومرة يُعرض عليهم العمل بالتوراة، فيمتنعون من ذلك، حتى نَتَقَ الله تعالى عليهم الجبلَ كأنه ظُلّة، إلى غير ذلك من أفعالهم، التي آذوا بها نبيّهم، التي يكثر إحصاؤها. فأعلم ربنا تبارك وتعالى الذين خاطبهم بهذه الآيات من يهود بني إسرائيل، الذين كانوا على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أنهم لن يَعْدُوا أن يكونوا في تكذيبهم محمدًا - صلى الله عليه وسلم -، وجحودهم نبوته، وتركهم الإقرار به وبما جاء به، مع علمهم به، ومعرفتهم بحقيقة أمره: كأسلافهم وآبائهم الذين قصّ الله علينا قصصهم. قال محمد بن إسحاق (¬2): لما رجع موسى إلى قومه، فرأى ما هم فيه من عبادة العجل، وقال لأخيه وللسامري ما قال، وحرّق العجل وذَرّاه في ¬

_ (¬1) تفسيره (1/ 289). (¬2) رواه الطبري في تفسيره (957، 15153).

معنى قول موسى: {لو شئت أهلكتهم من قبل وإياي} وقوله: {أتهلكنا بما فعل السفهاء منا}

اليمِّ، اختار موسى منهم سبعين رجلًا، الخيّر فالخيّرَ، وقال: انطلقوا إلى الله عز وجل، فتوبوا إلى الله مما صنعتم، وسَلُوه التوبة على من تَرَكْتُمْ وراءكم من قومكم، فصوموا وتَطَهّرُوا، وطهِّرُوا نِيّاتكم، فخرج بهم إلى طُور سَيْناء لميقاتٍ وَقّته له ربُّه، وكان لا يأتيه إلا بإذن منه، فقال له السبعون فيما ذكر لي حين صنعوا ما أمرهم به، وخرجوا لِلَقاء الله: يا موسى! اطلب لنا إلى رَبِّك أن نسمع كلام رَبّنا، فقال: أفعلُ، فلما دَنا موسى من الجبل وقع عليه الغَمام، حتى تغشَّى الجبلُ كلُّه، ودنا موسى، فأدخل فيه، وقال للقوم: ادنوا، وكان موسى عليه السلام إذا كلّمَه رَبُّه وَقعَ على جَبهته نُورٌ ساطعٌ لا يستطيع أحدٌ من بني آدم أن ينظر إليه، فضُرب دُونه بالحجاب، ودنا القوم، حتى إذا دخلوا في الغمام وقعوا سجودًا، فسمعوه تعالى وهو يُكلم نبيَّه موسى، يأمره وينهاه: افعل، ولا تفعل، فلما فرغ إليه من أمره انكشف عن موسى الغمام، فأقبل إليهم، فقالوا لموسى عليه السلام: {لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى نَرَى اللَّهَ جَهْرَةً} [البقرة: 55] فأخذتهم الصاعقة، فماتُوا جميعًا، وقام موسى عليه السلام يُناشدُ ربه ويدعوه، ويرغب إليه ويقول: {رَبِّ لَوْ شِئْتَ أَهْلَكْتَهُمْ مِنْ قَبْلُ وَإِيَّايَ} [الأعراف: 155]. فإن قيل: فما مقصود موسى بقوله: {لَوْ شِئْتَ أَهْلَكْتَهُمْ مِنْ قَبْلُ}؟ فقد ذُكر فيه وجوهٌ: فقال السُّدِّي (¬1): لما ماتوا قام موسى يبكي، ويقول: رب! ماذا أقول لبني إسرائيل إذا أتيتُهم وقد أهلكتَ خيارهم؟ ¬

_ (¬1) أقوال المفسرين هنا مأخوذة من البسيط للواحدي (9/ 389 - 390). وقول السدَّي رواه الطبري في تفسيره (958، 15152) وابن أبي حاتم في تفسيره (545) من طريق أسباط بن نصر عن السدي.

وقال ابن إسحاق (¬1): اخترتُ منهم سبعين رجلًا، الخيّر فالخيّر، أرجع إليهم وليس معي منهم رجل واحد؟ فما الذي يُصدّقوني به أو يأمنوني عليه بعد هذا؟ وعلى هذا فالمعنى: لو شئت أهلكتهم من قبل خروجنا، فكان بنو إسرائيل يُعاينون ذلك ولا يتَّهمونني. وقال الزجَّاج (¬2): المعنى: لو شئت أمتَّهم من قبل أن تَبتليَهم بما أوجب عليهم الرجفة. قلت: وهؤلاء كلهم حاموا حول المقصود. والذي يظهر -والله أعلم بمراده ومراد نبيِّه-: أن هذا استعطافٌ من موسى عليه السلام لربّه، وتوسُّلٌ إليه بعفوه عنهم من قَبْلُ حين عبد قومهم العجل ولم يُنكروا عليهم، يقول موسى: إنهم قد تَقَدَّمَ منهم ما يقتضي هلاكهم ومع هذا فوسعهم عفوُك ومغفرتك ولم تهُلكهم، فليَسعهم اليوم ما وسعهم من قبلُ. وهذا كما يقول مَنْ واخَذه سيّده بجُرم: لو شئت واخذتَني من قبل هذا بما هو أعظم من هذا الجُرم، ولكن وسعني عفوُك أولًا، فليسعني اليوم. ثم قال نبي الله: {أَتُهْلِكُنَا بِمَا فَعَلَ السُّفَهَاءُ مِنَّا} [الأعراف: 155]. فقال ابن الأنباري وغيره: هذا استفهام على معنى الجَحْد أي: لست تفعل ذلك. ¬

_ (¬1) رواه الطبري في تفسيره (957، 15169). (¬2) معاني القرآن (2/ 380).

فصل: من تلاعبه بهم حين قيل لهم: {وادخلوا الباب سجدا وقولوا حطة}

والسفهاء هنا: عَبَدَةُ العجل. قال الفراء (¬1): ظنّ موسى أنهم أُهلكوا باتخاذ قومهم العجل، فقال: {أَتُهْلِكُنَا بِمَا فَعَلَ السُّفَهَاءُ مِنَّا} وإنما كان إهلاكهم بقولهم: {أَرِنَا اللَّهَ جَهْرَةً} [النساء: 153]. ئم قال: {إِنْ هِيَ إِلَّا فِتْنَتُكَ} [الأعراف: 155] وهذا من تمام الاستعطاف أي: ما هي إلا ابتلاؤك واختبارك لعبادك، فأنت ابتليتهم وامتحنتهم، فالأمر كلُّه لك وبيدك، لا يَكشفه إلا أنت، كما لم يمتحن به ويختبر به إلا أنت، فنحن عائذون بك منك، ولاجئون منك إليك. فصل ومن تلاعب الشيطان بهذه الأمة وكيده لهم: أنهم قيل لهم وهم مع نبيّهم، والوحي ينزل عليه من الله تعالى: {ادْخُلُوا هَذِهِ الْقَرْيَةَ} [البقرة: 58]. قال قتادة (¬2)، وابن زيدٍ (¬3)، والسدي (¬4)، وابن جرير (¬5) وغيرهم: هي قرية بيت المقدس. ¬

_ (¬1) معاني القرآن له (1/ 395). (¬2) رواه عبد الرزاق في تفسيره (1/ 46) عن معمر عن قتادة، ومن طريق عبد الرزاق رواه الطبري في تفسيره (999) وابن أبي حاتم في تفسيره (569). (¬3) الذي رواه عنه الطبري في تفسيره (1002) هو قوله: "هي أريحا، وهي قريبة من بيت المقدس". (¬4) رواه الطبري في تفسيره (1000) من طريق أسباط بن نصر عن السدي. (¬5) جامع البيان (2/ 102).

{فَكُلُوا مِنْهَا حَيْثُ شِئْتُمْ رَغَدًا} [البقرة: 58] أي: هنيئًا واسعًا. {وَادْخُلُوا الْبَابَ سُجَّدًا} [البقرة: 58] قال السدي (¬1): هو بابٌ من أبواب بيت المقدس، وكذلك قال ابن عباس (¬2)، قال (¬3): والسجود بمعنى الركوع، وأصل السجود: الانحناء لمن تُعظِّمه، فكل منحنٍ لشيء معظمًاله فهو ساجدٌ، قاله ابن جرير (¬4)، وغيره. قلت: وعلى هذا فانحناء المتلاقيين عند السلام أحدهما لصاحبه: من السجود المحرّم، وفيه نهيٌ صريحٌ عن النبي - صلى الله عليه وسلم - (¬5). ¬

_ (¬1) رواه الطبري في تفسيره (1005) من طريق أسباط بن نصر عن السدي. (¬2) رواه الطبري في تفسيره (1006) من طريق عطية العوفي عن ابن عباس. (¬3) رواه الطبري في تفسيره (1007، 1008) وابن أبي حاتم في تفسيره (590) من طريق سعيد بن جبير عن ابن عباس، وعزاه في الدر المنثور (1/ 172) لوكيع والفريابي وعبد بن حميد وابن المنذر، وصححه الحاكم (3040). (¬4) جامع البيان (2/ 104). (¬5) نهيُ النبي - صلى الله عليه وسلم - عن الانحناء عند اللقاء رواه أحمد (3/ 198) وعبد بن حميد (1217) والترمذي (2728) وابن ماجه (3702) والبزار (7360، 7361، 7362) وأبو يعلى (4287، 4289) والطحاوي في شرح المعاني (6398، 6399) وابن عدي في الكامل (2/ 422) من طرق عن حنظلة عن أنس رضي الله عنه، قال أحمد كما في العلل رواية المروذي (368): "حديث منكر"، وقال البيهقي في الكبرى (7/ 100): "هذا ينفرد به حنظلة السدوسي، وقد كان اختلط، تركه يحيى القطان لاختلاطه"، وأما الترمذي فحسنه، وصححه ابن القيم في الزاد (4/ 160)، وهو في السلسلة الصحيحة (160).

حديث البخاري ومسلم عن أبي هريرة عن النبي - صلى الله عليه وسلم -: "فقدموا فدخلوا يزحفون على أستاههم"

ثم قيل لهم: {وَقُولُوا حِطَّةٌ} [البقرة: 58] أي: حُطّ عَنّا خطايانا. هذا قول الحسن، وقتادة (¬1)، وعطاء (¬2). وقال عكرمة (¬3) وغيره: أي قولوا: لا إله إلا الله. وكأن أصحاب هذا القول اعتبروا الكلمة التي تُحَطّ بها الخطايا، وهي كلمة التوحيد. وقال سعيد بن جُبير، عن ابن عباس (¬4): أُمروا بالاستغفار. وعلى القولين فيكونون مأمورين بالدخول بالتوحيد والاستغفار، وضَمِنَ لهم بذلك مغفرة خطاياهم، فتلاعب الشيطان بهم، فبذلوا قولًا غير الذي قيل لهم، وفعلًا غير الذي أمروا به. فروى البخاري في "صحيحه" ومسلم (¬5) أيضًا من حديث هَمّام بن مُنَبِّه عن أبى هريرة رضي الله عنه، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "قيل لبني إسرائيل: ادخلوا الباب سُجّدًا، وقولوا: حِطّةٌ نغفر لكم خطاياكم، فبدّلوا، فدخلوا الباب يزحفون على أستاههم، وقالوا: حبة في شعرة" فبدّلوا القولَ والفعل معًا، فأنزل الله عليهم رجزًا من السماء. ¬

_ (¬1) رواه عبد الرزاق في تفسيره (1/ 47) عن معمر عنهما، ومن طريق عبد الرزاق رواه الطبري في تفسيره (1009) وابن أبي حاتم في تفسيره (584). (¬2) رواه الطبري في تفسيره (1014). (¬3) رواه الطبري في تفسيره (1015)، وابن أبي حاتم في تفسيره (582)، والطبراني في الدعاء (1564)، وعزاه في الدر المنثور (1/ 173) لعبد بن حميد. (¬4) رواه الطبري في تفسيره (1016)، وابن أبي حاتم في تفسيره (580). (¬5) البخاري (3403)، ومسلم (3015).

الطاعون بالرصد لكل من بدل دين الله

قال أبو العالية (¬1): هو الغضبُ. وقال ابن زيد (¬2): هو الطاعون. وعلى هذا فالطاعون بالرَّصد لمن بَدّل دين الله قولًا وعملًا. فصل ومن تلاعب الشيطان بهم: أنهم كانوا في البريّة قد ظلل عليهم الغمام، وأنزل عليهم المن والسلوى، فملُّوا ذلك، وذكروا عيش الثّوم، والبصل، والعدس، والبَقل، والقِثاء، فسألوه موسى عليه السلام. وهذا من سوء اختيارهم لأنفسهم، وقِلّة بصرهم بالأغذية النافعة الملائمة، واستبدال الأغذية الضارة القليلة التغذية منها، ولهذا قال لهم موسى عليه السلام: {أَتَسْتَبْدِلُونَ الَّذِي هُوَ أَدْنَى بِالَّذِي هُوَ خَيْرٌ اهْبِطُوا مِصْرًا} أي مصرًا من الأمصار {فَإِنَّ لَكُمْ مَا سَأَلْتُمْ} [البقرة: 61]. فكانوا في أفسح الأمكنة وأوسعها، [165 ب] وأطيبها هواءً، وأبعدها من الأذى، ومجاورة الأنتان والأقذار، سَقْفُهم الذي يُظلهم من الشمس: الغمام، وطعامهم: السلوى، وشرابهم: المنّ. قال ابن زيد (¬3): كان طعامُ بني إسرائيل في التّيه واحدًا، وشرابهم واحدًا، كان شرابهم عسلًا ينزل من السماء يقال له: المنّ، وطعامهم طيرٌ يقال له: السلوى، يأكلون الطير ويشربون العسل، لم يكن لهم خبز ولا غيره. ¬

_ (¬1) رواه الطبري في تفسيره (1039)، وابن أبي حاتم في تفسيره (593). (¬2) رواه الطبري في تفسيره (1040). (¬3) رواه الطبري في تفسيره (1061).

فضل المن والسلوى على غيرهما من الأغذية والأشربة

ومعلومٌ فضلُ هذا الغذاء والشراب على غيرهما من الأغذية والأشربة. وكان مع ذلك يتفجّر لهم من الحجر اثنتا عشرة عينًا من الماء، فطلبوا الاستبدال بما هو دون ذلك بكثير، فذُمّوا على ذلك. فكيف بمن استبدل الضلال بالهدى، والغي بالرشاد، والشّرك بالتوحيد، والسنة بالبدعة، وخدمة الخالق بخدمة المخلوق، والعيش الطيب في المساكن الطيبة في جوار الله تعالى بحظّه من العيش النكد الفاني في هذه الدار؟ فصل ومن تلاعبه بهم: أنهم لما عُرضت عليهم التوراة لم يقبلوها، وقد شاهدوا من الآيات ما شاهدوه، حتى أمر الله سبحانه جبريل، فقلع جبلًا من أصله على قَدْرهم، ثم رفعه فوق رؤوسهم، وقيل لهم: إن لم تَقْبلوها ألقيناه عليكم، فقبلوها كرهًا. قال الله تعالى: {وَإِذْ نَتَقْنَا الْجَبَلَ فَوْقَهُمْ كَأَنَّهُ ظُلَّةٌ وَظَنُّوا أَنَّهُ وَاقِعٌ بِهِمْ خُذُوا مَا آتَيْنَاكُمْ بِقُوَّةٍ وَاذْكُرُوا مَا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} [الأعراف: 171]. قال عبد الله بن وهب: قال ابن زيد (¬1): لما رجع موسى من عند ربه بالألواح قال لبني إسرائيل: إن هذه الألواح فيها كتاب الله، وأمرُهُ الذي أمرَكم به، ونهيُه الذي نهاكم عنه، فقالوا: ومَنْ يأخذ بقولك أنت؟ لا والله، حتى نرَى الله جَهْرَة، حتى يَطْلُعَ الله علينا، فيقول: هذا كتابي فخذوه، فما له لا يكلِّمنا كما كلَّمك أنت يا موسى! فيقول: هذا كتابي فخذوه؟ فجاءت غضبة ¬

_ (¬1) رواه الطبري في تفسيره (959، 1115).

فصل: ومن تلاعبه بهم حين أمرهم الله أن يدخلوا القرية التي كتب الله لهم وبشرهم بها قالوا لموسى: {فاذهب أنت وربك فقاتلا إنا هاهنا قاعدون}

من الله تعالى، فجاءتهم صاعقة فصعقتهم، فماتوا أجمعون، قال: ثم أحياهم الله تعالى بعد موتهم، فقال لهم موسى: خذوا كتاب الله، فقالوا: لا، فقال: أيُّ شيء أصابكم؟ قالوا: متنا ثم حَيِينا، فقال: خذوا كتاب الله، قالوا: لا، قال: فبعث الله ملائكته، فنَتَقَت الجبلَ فوقهم، فقيل لهم: أتعرفون هذا؟ قالوا: نعم الطور، قال: خذوا الكتاب وإلا طرحناه عليكم، قال: فأخذوه بالميثاق. وقال السُّدي (¬1): لما قال الله تعالى لهم: {وَادْخُلُوا الْبَابَ سُجَّدًا وَقُولُوا حِطَّةٌ} [البقرة: 58] فأبوا أن يسجدوا، فأمر الله الجبل أن يرتفع فوق رؤوسهم، فنظروا إليه وقد غَشِيهم، فسقطوا سُجَّدًا على شِقٍّ، ونظروا بالشق الآخر، فكشفه عنهم، ثم تولَّوا من بعد هذه الآيات وأعرضوا، ولم يعملوا بما في كتاب الله، ونبذوه وراء ظهورهم، فقال تعالى مذكِّرًا لهؤلاء بما جرى من أسلافهم: {وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ وَرَفَعْنَا فَوْقَكُمُ الطُّورَ خُذُوا مَا آتَيْنَاكُمْ بِقُوَّةٍ وَاذْكُرُوا مَا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (63) ثُمَّ تَوَلَّيْتُمْ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ فَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لَكُنْتُمْ مِنَ الْخَاسِرِينَ} [البقرة: 63، 64]. فصل ومن تلاعبهم بهم: أن الله سبحانه أنجاهم من فرعون وسلطانه وظلمه، وفَرَق بهم البحر، وأراهم الآيات والعجائب، ونصرهم وآواهم، وأعزَّهم وآتاهم ما لم يُؤْتِ أحدًا من العالمين، ثم أمرهم أن يدخلوا القرية التي كتب الله لهم. ¬

_ (¬1) رواه الطبري في تفسيره (1122)، وابن أبي حاتم في تفسيره (654) من طريق أسباط بن نصر عن السدي.

ما في خطاب موسى لهم من التلطف والتذكير بنعم الله، وما في قولهم من المعصية والامتناع والجبن

وفي ضمن هذا بشارتهم بأنهم منصورون، ومفتوح لهم، وأن تلك القرية لهم، فأبوا طاعته وامتثال أمره، وقابلوا هذا الأمر والبشارة بقولهم: {فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلَا إِنَّا هَاهُنَا قَاعِدُونَ} [المائدة: 24]. وتأمَّلْ تَلَطُف نبيّ الله تعالى موسى عليه السلام بهم، وحسن خطابه لهم، وتذكيرهم [166 أ]، بنعم الله عليهم، وبشارتهم بوعد الله لهم: بأن القرية مكتوبة لهم، ونهيهم عن معصيته بارتدادهم على أدبارهم، وأنهم إن عصوا أمره ولم يمتثلوا انقلبوا خاسرين. فجمع لهم بين الأمر والنهي، والبشارة والنذارة، والترغيب والترهيب، والتذكير بالنعم السالفة، فقابلوه أقبح المقابلة، فعارضوا أمر الله تعالى بقولهم: {يَامُوسَى إِنَّ فِيهَا قَوْمًا جَبَّارِينَ} [المائدة: 22] فَلَمْ يوقِّروا رسوله وكليمه، حتى نادوه باسمه، ولم يقولوا: يا نبي الله! وقالوا: {يَامُوسَى إِنَّ فِيهَا قَوْمًا جَبَّارِينَ} ونسوا قدرة جبار السماوات والأرض الذي يُذلّ الجبابرة لأهل طاعته، وكان خوفهم من أولئك الجبارين (¬1) الذين نواصيهم بيد الله أعظمَ من خوفهم من الجبار الأعلى سبحانه، وكانوا أشدَّ رهبةً في صدورهم منه. ثم صرَّحوا بالمعصية والامتناع من الطاعة، فقالوا: {لَنْ نَدْخُلَهَا حَتَّى يَخْرُجُوا مِنْهَا} [المائدة: 22]، فأكَّدوا معصيتهم بأنواع من التأكيد: أحدها: تمهيد عذر العصيان بقولهم: {يَامُوسَى إِنَّ فِيهَا قَوْمًا جَبَّارِينَ}. ¬

_ (¬1) "الجبارين" ساقطة من م.

الرجلان اللذان أنعم الله عليهما، وممن كانا؟ أمن قوم موسى، أم من الجبارين؟

والثاني: تصريحهم بأنهم غير مطيعين، وصَدّروا الجملة بحرف التأكيد، وهو (إنّ)، ثم حققوا النفي بأداة (لن) الدالة على نفي المستقبل أي: لا ندخلها الآن، ولا في المستقبل، ثم علَّقوا دخولها بشرط خروج الجبارين منها، فقال لهم رجلان من الذين أنعم الله عليهما بطاعته والانقياد إلى أمره، من الذين يخافون الله. هذا قول الأكثرين، وهو الصحيح. وقيل: من الذين يخافونهم من الجبارين، أسْلَما واتّبعا موسى عليه السلام: {ادْخُلُوا عَلَيْهِمُ الْبَابَ} [المائدة: 23] أي: باب القرية، فاهجموا عليهم، فإنهم قد مُلئوا منكم رعبًا، {فَإِذَا دَخَلْتُمُوهُ فَإِنَّكُمْ غَالِبُونَ} [المائدة: 23] ثم أرشدهم إلى ما يحقق النصر والغلبة لهم، وهو التوكل. فكان جواب القوم أن: {قَالُوا يَامُوسَى إِنَّا لَنْ نَدْخُلَهَا أَبَدًا مَا دَامُوا فِيهَا فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلَا إِنَّا هَاهُنَا قَاعِدُونَ} [المائدة: 24]. فسبحان من عَظُم حلمه حيث يقابَل أمره بمثل هذه المقابلة، ويُواجَه رسوله بمثل هذا الخطاب، وهو يحلُمُ عنهم، ولا يعاجلهم بالعقوبة، بل وَسعهم حلمه وكرمه، وكان أقصى ما عاقبهم به: أن ردّدهم في بَرّية التّيه أربعين عامًا، يظل عليهم الغمام من الحرّ، ويُنزل عليهم المنّ والسّلوى. وفي "الصحيحين" (¬1): عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: لقد شهدت من المقداد بن الأسود مشهدًا لأن أكون صاحبَهُ أحبّ إلي مما عُدل به، أتى النبي - صلى الله عليه وسلم - وهو يدعو على المشركين، فقال: لا نقول لك كما قال قوم ¬

_ (¬1) البخاري (3952). ولم أجده عند مسلم.

فصل: ومن تلاعبه بهم قصة القتيل الذي تدارؤوا فيه والبقرة وما في هذه القصة من أنواع العبر

موسى لموسى: اذهب أنتَ وربّك فقاتلا إنا هاهنا قاعدون، ولكنا نقاتل عن يمينك وشمالك، وبين يديك ومن خلفك، فرأيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أشرق وجهه لذلك وسُرّ به. فلما قابلوا نبي الله بهذه المقابلة (¬1) قال: {قَالَ رَبِّ إِنِّي لَا أَمْلِكُ إِلَّا نَفْسِي وَأَخِي فَافْرُقْ بَيْنَنَا وَبَيْنَ الْقَوْمِ الْفَاسِقِينَ (25) قَالَ فَإِنَّهَا مُحَرَّمَةٌ عَلَيْهِمْ أَرْبَعِينَ سَنَةً يَتِيهُونَ فِي الْأَرْضِ فَلَا تَأْسَ عَلَى الْقَوْمِ الْفَاسِقِينَ} [المائدة: 25، 26]. فصل ومن تلاعبه بهم في حياة نبيهم أيضًا: ما قصّه الله سبحانه وتعالى في كتابه من قصة القتيل الذي قتلوه وتدافعوا فيه، حتى أُمروا بذبح بقرة وضربه ببعضها. وفي القصة أنواع من العِبَرِ: منها: أن الإخبار بها من أعلام نبوة رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. ومنها: الدلالة على نبوة موسى، وأنه رسول رب العالمين. ومنها: الدلالة على صحَّة ما اتفقت عليه الرسل من أوَّلهم إلى خاتمهم: من معاد الأبدان، وقيام الموتى من قبورهم. ومنها: إثبات الفاعل المختار، وأنه عالم بكل شيء، قادر على كل شيء، عَدْل لا يجوز عليه الظلم والجور، حكيم [166 ب] لا يجوز عليه العبث. ومنها: إقامة أنواع الآيات والبراهين والحُجَج على عباده بالطرق ¬

_ (¬1) ح: "المقالة".

لا ينبغي مقابلة أمر الله بالتعنت وكثرة الأسئلة

المتنوعات، زيادةً في هداية المهتدي، وإعذارًا وإنذارًا للضلَّال. ومنها: أنه لا ينبغي مقابلة أمر الله تعالى بالتعنّت، وكثرة الأسئلة، بل يُبادر إلى الامتثال فإنهم لما أُمروا أن يذبحوا بقرة كان الواجب عليهم أن يبادروا بالامتثال بذبح أيّ بقرة اتفقت فإن الأمر بذلك لا إجمال فيه ولا إشكال، بل هو بمنزلة قوله: أعْتِقْ رَقَبَة، وأطعم مسكينًا، وصُمْ يومًا، ونحو ذلك. ولذلك غلط من احتج بالآية على جواز تأخير البيان عن وقت الخطاب فإن الآية غنيّة عن البيان المنفصل، مبيَّنة بنفسها، ولكن لما تعنّتوا وشدَّودا شُدِّد عليهم. قال أبو جعفر ابن جرير (¬1)، عن الربيع، عن أبي العالية: لو أن القوم حين أُمروا أن يذبحوا بقرة استعرضوا بقرة من البقر فذبحوها لكانت إيّاها، ولكنهم شدّدوا على أنفسهم فشدّد الله عليهم. ومنها: أنه لا يجوز مقابلة أمر الله الذي لا يَعْلَمُ المأمورُ به وَجْه الحكمة فيه بالإنكار، وذلك نوع من الكفر فإن القوم لما قال لهم نبيهم: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُوا بَقَرَةً} قابلوا هذا الأمر بقولهم: {أَتَتَّخِذُنَا هُزُوًا}، فلما لم يعلموا وجه الحكمة في ارتباط هذا الأمر بما سألوه عنه قالوا: {أَتَتَّخِذُنَا هُزُوًا}، وهذا من غاية جهلهم بالله ورسوله فإنه أخبرهم عن أمر الله لهم بذلك، ولم يكن هو الآمر به ولو كان هو الآمر به لم يجُزْ لمن آمن بالرسول ¬

_ (¬1) جامع البيان (1173، 1243).

من أقبح ظلمهم وجهلهم قولهم لموسى: {الآن جئت بالحق}

أن يقابل أمره بذلك، فلما قال لهم: {أَعُوذُ بِاللَّهِ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ} [البقرة: 67] وتيقّنوا أن الله سبحانه أمره بذلك، أخذوا في التعنُّت بسؤالهم عن عينها ولونها، فلما أُخبروا عن ذلك رجعوا إلى السؤال مرة ثالثة عن عينها، فلما تَعيّنت لهم، ولم يبق إشكالٌ، توقَّفوا في الامتثال، ولم يكادوا يفعلون. ثم من أقبح جهلهم وظلمهم: قولهم لنبيهم: {الْآنَ جِئْتَ بِالْحَقِّ} [البقرة: 71]، فإن أرادوا بذلك: أنك لم تأتِ بالحق قبل ذلك في أمر البقرة، فتلك رِدّة وكفرٌ ظاهر، وإن أرادوا: أنك الآن بينت لنا البيان التامَّ في تعيين البقرة المأمور بذبحها، فذلك جهلٌ ظاهر فإن البيان قد حصل بقوله: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُوا بَقَرَةً} فإنه لا إجمال في الأمر، ولا في الفعل، ولا في المذبوح، فقد جاء رسول الله بالحق من أول مرة. قال محمد بن جرير: وقد كان بعض من سلف يزعم أن القوم ارتدُّوا عن دينهم، وكفروا بقولهم لموسى: {الْآنَ جِئْتَ بِالْحَقِّ}، وزعم أن ذلك نفيٌ منهم أن يكون موسى عليه السلام أتاهم بالحق في أمر البقرة قبل ذلك، وأن ذلك كفر منهم. قال: وليس الأمر كما قال عندنا لأنهم قد أذعنوا بالطاعة بذبحها، وإن كان قولهم الذي قالوا لموسى جَهْلةً منهم، وهفوةً من هفواتهم. فصل ومنها: الإخبار عن قساوة قلوب الأمة وغِلظها، وعدم تمكُّن الإيمان فيها.

الظاهر أن هذه القصة بعد قصة العجل

قال عبد الصمد بن مَعْقِل (¬1)، عن وهب: كان ابن عباس يقول: إن القوم بعد أن أحيا الله تعالى الميتَ فأخبرهم بقاتله، أنكروا قتله، وقالوا: والله ما قتلناه، بعد أن رأوا الآية والحق. قال تعالى: {ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُمْ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ فَهِيَ كَالْحِجَارَةِ أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً} [البقرة: 74]. ومنها: مقابلة الظالم الباغي بنقيض قصده شرعًا وقَدرَا فإن القاتل قصدُه ميراثُ المقتول، ودفع القتل عن نفسه، فَفَضَحه الله تعالى، وهتكه وحرَمه ميراث المقتول. ومنها: أن بني إسرائيل فُتنوا بالبقرة مرّتين من بين سائر الدواب ففتنوا بعبادة العجل، وفُتنوا بالأمر بذبح البقرة، والبقر [167 أ]، من أبلد الحيوان، حتى لَيُضرب به المثل. والظاهر: أن هذه القصة كانت بعد قصة العجل ففي الأمر بذبح البقرة تنبيهٌ على أن هذا النوع من الحيوان، الذي لا يمتنعُ من الذبح والحرث والسقي: لا يصلح أن يكون إلهًا معبودًا من دون الله تعالى، وأنه إنما يصلح للذبح والحرث والسقي والعمل. فصل ومن تلاعبه بهذه الأمة أيضًا: ما قصه الله سبحانه علينا من قصة أصحاب السبت، حين مسخهم قِردَةَ لما تحيّلوا على استحلال محارمه. ¬

_ (¬1) رواه الطبري في تفسيره (1289) قال: حدِّثت عن إسماعيل بن عبد الكريم عن عبد الصمد بن معقل به، ورواه أيضًا (1290، 1314) من طريق عطية العوفي عن ابن عباس.

فصل: ومن تلاعبه بهم: إذابتهم الشحوم وبيعها وأكل ثمنها، وقد حرمها الله عليهم

ومعلومٌ أنهم كانوا يعصون الله تعالى بأكل الحرام، واستباحة الفروج الحرام، والدم الحرام، وذلك أعظم إثمًا من مُجَرّد العمل يوم السبت، ولكن لما استحلّوا محارم الله تعالى بأدنى الحيل، وتلاعبوا بدينه، وخادعوه كمُخادعة الصبيان، ومَسَخُوا دينه بالاحتيال، مَسَخَهم الله قِردَةً. وكان الله سبحانه قد أباح لهم الصيد في كل أيام الأسبوع إلا يومًا واحدًا، فلم يَدَعْهُم حِرْصُهم وجَشَعُهُمْ حتى تعدَّوا إلى الصيد فيه، وساعد القدر بأن عوقبوا بإمساك الحيتان عنهم في غير يوم السبت، وإرسالها عليهم يوم السبت. وهكذا يفعلُ الله سبحانه بمن تَعَرّض لمحارمه فإنه يُرْسِلُها عليه بالقَدَر، حتى تَزْدَلِفَ إليه بأيها يبدأ. فانظر ما فعلَ الحرص، وما أوجبَ من الحرمان بالكُلّية ومن هاهنا قيل: مَنْ طَلَبَه كلّهُ فاته كُلّه. فصل ومن تلاعب الشيطان بهم أيضًا: أنهم لما حُرّمت عليهم الشحوم أذابوها، ثم باعوها، وأكلوا أثمانها. وهذا من عدم فِقْههِمْ وفهْمهم عن الله تعالى دينه فإن أثمانهَا بدلٌ منها، فتحريمها تحريمٌ لبدلها والمعاوضة عنها، كما أن تحريم الخمر والميتة والدم ولحم الخنزير يتناولُ تحريم أعيانها وأبدالها. ومن تلاعبه بهم أيضًا: اتخاذُ قبور أنبيائهم مساجد، وقد لعنهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على ذلك، ولَعنَتُه تتناول مَنْ فعل فِعْلهم.

كانوا يقتلون الأنبياء ويتخذون أحبارهم أربابا من دون الله

ومن تلاعبه بهم أيضًا: أنهم كانوا يقتلون الأنبياء الذين لا تُنالُ الهداية إلا على أيديهم، ويتخذون أحبارهم ورهبانهم أربابًا من دون الله تعالى، يُحَرّمون عليهم ويحُلّون لهم، فيأخذون بتحريمهم وتحليلهم، ولا يلتفتون: هل ذلك التحريمُ والتحليل من عند الله تعالى أم لا؟ قال عدي بن حاتم: أتيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وهو يقرأ: {اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ} [التوبة: 31]، فقلت: يا رسول الله! ما عبدوهم فقال: "حرّموا عليهم الحلال، وأحلُّوا لهم الحرام، فأطاعوهم، فكانت تلك عبادتهم إيَّاهم". رواه الترمذي، وغيره (¬1). وهذا من أعظم تلاعب الشيطان بالإنسان: أن يَقتل أو يُقاتل مَنْ هُداه على يده، ويتخذ مَنْ لم تُضْمَنْ له عصمته نِدًّا لله، يحرِّم عليه، ويحُلِّلُ له ومن تلاعبه بهم: ما كان منهم في شأن زكريا ويحيى عليهما السلام، وقتلهم لهما، حتى سلّط الله عليهم بُخْتَنَصّر، وسَنْجاريب، وجنودَهما، فنالوا منهم ما نالوه. ¬

_ (¬1) سنن الترمذي (3095) من طرق عن عبد السلام بن حرب عن غطيف بن أعين عن مصعب بن سعد عن عدي بن حاتم، وبهذا الإسناد رواه البخاري في التاريخ الكبير (7/ 106)، والطبري في تفسيره (16631، 16632، 16633)، وابن أبي حاتم في تفسيره (10057)، والطبراني في الكبير (17/ 92)، والبيهقي في الكبرى (10/ 116)، وغيرهم، قال الترمذي: "هذا حديث غريب، لا نعرفه إلا من حديث عبد السلام بن حرب، وغطيف بن أعين ليس بمعروف في الحديث"، وله طرق أخرى، منها ما عند ابن سعد في الطبقات (289 - الجزء المتمم-) من طريق أبان بن صالح عن عامر بن سعد عن عدي بنحوه، وقد حسنه ابن تيمية كما في المجموع (7/ 67)، والألباني في السلسلة الصحيحة (3293).

ما كان منهم في شأن عيسى وأمه ورميهما بالعظائم وهم يعلمون أنه رسول الله، ثم محاولتهم قتله وصلبه

ثم كان منهم في شأن المسيح ورَمْيهِ وأمّه بالعظائم، وهم يعلمون أنه رسول الله تعالى إليهم، فكفروا به بَغْيًا وعنادًا، وراموا قَتْله وصَلْبه، فصانه الله تعالى من ذلك، ورفعه إليه، وطَهّره منهم، فأوقعوا القتل والصّلب على شِبْهِه، وهم يظنُون أنه رسول الله عيسى - صلى الله عليه وسلم -، فانتقم الله تعالى منهم، ودَمّر عليهم أعظم تدميرٍ، ولزمَهم كلَّهم حكمُ الكفر بتكذيبهم بالمسيح، كما لزم النصارى معهم حكمُ الكفر بتكذيبهم بمحمد - صلى الله عليه وسلم -. ولم يزل أمر اليهود بعد تكذيبهم بالمسيح وكفرهم به في سِفال ونَقْصٍ، إلى أن قَطّعهم الله تعالى في الأرض أُممًا، ومَزّقهم كلّ ممُزَّق، وسَلَبهم عزَّهم وملكهم، [167 ب]، فلم يَقُمْ لهم بعد ذلك مُلك. فلما بعث الله تعالى محمدًا - صلى الله عليه وسلم -، فكفروا به وكذَّبوه: أتمّ عليهم غَضَبه، ودمرهم غاية التدمير، وألزمهم ذُلًّا وصَغارًا لا يُرفع عنهم إلى أن ينزل أخوه المسيح من السماء، فيستأصل شأفتَهم، ويُطَهّر الأرض منهم، ومن عُبّاد الصليب. قال تعالى: {بِئْسَمَا اشْتَرَوْا بِهِ أَنْفُسَهُمْ أَنْ يَكْفُرُوا بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ بَغْيًا أَنْ يُنَزِّلَ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ فَبَاءُوا بِغَضَبٍ عَلَى غَضَبٍ وَلِلْكَافِرِينَ عَذَابٌ مُهِينٌ} [البقرة: 90]. فالغضب الأول: بسبب كفرهم بالمسيح، والغضب الثاني: بسبب كفرهم بمحمد صلوات الله وسلامه عليهما. فصل ومن تلاعب الشيطان بهذه الأمة: أن ألْقَى إليهم أن الربّ سبحانه وتعالى محجور عليه في نَسْخ الشرائع، فحجروا عليه أن يفعل ما يشاء

جعلهم هذه الضلالة ترسا لهم في جحد نبوة محمد - صلى الله عليه وسلم -

ويحكم ما يُريد، وجعلوا هذه الشبهة الشيطانية تُرْسًا لهم في جَحْد نبوة رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وقرّروا ذلك بأن النسخ يستلزم البَداءَ، وهو على الله تعالى محالٌ. وقد أكذبهم الله سبحانه في نَصّ التوراة، كما أكذبهم في القرآن. قال الله تعالى: {كُلُّ الطَّعَامِ كَانَ حِلًّا لِبَنِي إِسْرَائِيلَ إِلَّا مَا حَرَّمَ إِسْرَائِيلُ عَلَى نَفْسِهِ مِنْ قَبْلِ أَنْ تُنَزَّلَ التَّوْرَاةُ قُلْ فَأْتُوا بِالتَّوْرَاةِ فَاتْلُوهَا إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (93) فَمَنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ (94) قُلْ صَدَقَ اللَّهُ فَاتَّبِعُوا مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ} [آل عمران: 93 - 95]. فتضمنت هذه الآيات بيان كَذِبهم صريحًا في إبطال النسْخ، فإنه سبحانه وتعالى أخبر أن الطعام كُلّه كان حِلًّا لبني إسرائيل قبل نزول التوراة، سوى ما حَرّمَ إسرائيل على نفسه منه. ومعلومٌ أن بني إسرائيل كانوا على شريعة أبيهم إسرائيل ومِلَّته، وأن الذي كان لهم حَلالًا إنما كان بإحلال الله تعالى له على لسان إسرائيل والأنبياء بعده إلى حين نزول التوراة، ثم جاءت التوراة بتحريم كثير من المآكل عليهم، التي كانت حلالًا لبني إسرائيل، وهذا محضُ النّسخ. وقوله تعالى: {مِنْ قَبْلِ أَنْ تُنَزَّلَ التَّوْرَاةُ} متعلِّق بقوله: {كَانَ حِلًّا لِبَنِي إِسْرَائِيلَ} أي: كان لهم حلالًا قبل نزول التوراة، وهم يعلمون ذلك. ثم قال تعالى: {قُلْ فَأْتُوا بِالتَّوْرَاةِ فَاتْلُوهَا إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} هل تجدون فيها أن إسرائيل حزم على نفسه ما حَرّمته التوراة عليكم؟ أم تجدون

الاستدلال بهذه الآيات على إبطال دعوى اليهود في النسخ لم يحم حوله أكثر المفسرين

فيها تحريم ما خضه بالتحريم؟ وهو لحوم الإبل وألبانُها خاصة؟ وإذا كان إنما حرّم هذا وحده، وكان ما سواه حلالًا له ولبنيهِ، وقد حرّمت التوراة كثيرًا منه، ظهر كذبكم وافتراؤكم في إنكار نسخ الشرائع، والحَجْر على الله تعالى في نسخها. فتأمل هذا الموضع الشريف، الذي حامَ حوله أكثرُ المفسرين، وما أوردوه. وهذا أولى من احتجاج كثير من أهل الكلام عليهم بأن التوراة حَرّمت أشياء كثيرةً من المناكح، والذبائح، والأفعال، والأقوال، وذلك نسخٌ لحكم البراءة الأصلية فإن هذه المناظرة ضعيفة جدًّا فإن القوم لم ينكروا رَفْع البراءة الأصلية بالتحريم والإيجاب إذ هذا شأن كل الشرائع، وإنما أنكروا تغيير ما أباحه الله تعالى، فيجعله حرامًا، أو تحليل ما كان حرمه، فيجعله مباحًا، وأما رفع البراءة والاستصحاب فلم ينكره أحد من أهل الملل. ثم يقال لهذه الأمة الغضبية: هل تُقرّون أنه كان قبل التوراة شريعة أم لا؟ فهم لا ينكرون أن يكون قبل التوراة شريعة. فيقال لهم: فهل رفعت التوراة شيئًا من أحكام تلك الشرائع المتقدمة أم لا؟ فإن قالوا: لم تَرْفع شيئًا من أحكام تلك الشرائع، فقد جاهروا بالكذب [168 أ]، والبَهْتِ. وإن قالوا: قد رفعت بعض الشرائع المتقدمة، فقد أقرُّوا بالنسخ قطعًا.

إلزامهم جواز النسخ ووقوعه بما هم عليه من أحكام في الطهارة والنجاسة خالفوا بها ما كان عليه موسى وخلفاؤه

وأيضًا فيقال للأمة الغضبية: هل أنتم اليومَ على ما كان عليه موسى عليه السلام؟ فإن قالوا: نعم. قلنا: أليس في التوراة: أن من مَسّ عظم ميّتٍ، أو وَطِئ قبرًا، أو حَضَر ميّتًا عند موته، فإنه يصير من النجاسة بحالٍ لا مخرج له منها إلا رماد البقرة التي كان الإمام الهارونيّ يَحْرقها؟ فلا يمكنهم إنكار ذلك. فيقال لهم: فهل أنتم اليوم على ذلك؟ فإن قالوا: لا نقدر عليه. فيقال لهم: فلِمَ جعلتم أن مَنْ لمَس العظم والقبر والميت طاهرًا يصلح للصلاة، والذي في كتابكم خلافه؟ فإن قالوا: لأنا عَدِمْنَا أسباب الطهارة، وهي رَماد البقرة، وعَدِمنا الإمام المطهِّر المستغفر. فيقال لهم: فهل أغناكم عَدَمُه عن فعله، أو لم يُغْنِكُم؟ فإن قالوا: أغنانا عدمه عن فعله. قيل لهم: فقد تبدّل الحكم الشرعيّ من الوجوب إلى إسقاطه لمصلحة التعذُّر. فيقال: وكذلك يتبدَّل الحكم الشرعيّ بنسخه لمصلحة النسخ فإنكم إن بَنَيتم على اعتبار المصالح والمفاسد في الأحكام فلا ريب أن الشيء يكون مصلحة في وقت دون وقت، وفي شريعة دون أخرى، كما كان تزويجُ الأخ بالأخت مصلحةً في شريعة آدم عليه السلام، ثم صار مَفْسدةً في سائر

الشرائع، وكذلك إباحة العمل يوم السبت كان مصلحةً في شريعة إبراهيم عليه السلام ومَنْ قبله، مفسدة في شريعة موسى عليه السلام. وأمثال ذلك كثيرة. وإن منعتم مراعاة المصالح في الأحكام، ومنعتم تعليلها بها، فالأمر حينئذٍ أظهرُ فإنه سبحانه يحُلّلُ ما يشاء، ويحُرّم ما يشاء، والتحليل والتحريم تبعٌ لمجرَّد مشيئته، لا يُسْألُ عمّا يَفْعلُ. وإن قلتم: لا نستغني في الطهارة عن ذلك الطهور الذي كان عليه أسلافنا فقد أقررتم بأنكم الأنجاسُ أبدًا، ولا سبيل لكم إلى حصول الطهارة. فإن قالوا: نعم، الأمر كذلك. قيل لهم: فإذا كنتم أنجاسًا على مقتضى أصولكم، فما بالُكم تعتزلون الحائض بعد انقطاع الحيض وارتفاعه سبعة أيام اعتزالًا تخرجون فيه إلى حدٍّ، لو أن أحدكم لمس ثوبُه ثوبَ المرأة نجّسْتموه مع ثوبه؟ فإن قلتم: ذلك من أحكام التوراة. قيل لكم: أليس في التوراة: أن ذلك يراد به الطهارة، فإذا كانت الطهارة قد تعذَّرت عندكم، والنجاسة التي أنتم عليها لا ترتفع بالغسل، فهي إذًا أشد من نجاسة الحيض. ثم إنكم ترون أنَّ الحائض طاهر إذا كانت من غير ملتكم، ولا تخَشون مِنْ لَمْسها، ولا الثوب الذي تلمسه، فتخصيص هذا الأمر بطائفتكم ليس في التوراة.

فصل: قالت الأمة الغضبية: لم تأت التوراة باباحة محظور، والنسخ الذي ننكره هو ما أباح محظورا، وجوابهم على ذلك

فصل قالت الأمة الغضبية: التوراة قد حَظَرَت أمورًا كانت مباحة من قبل، ولم تأتِ بإباحة محظور، والنسخ الذي نُنكره ونمْنَع منه: هو ما أوجب إباحة محظور لأن تحريم الشيء إنما هو لأجل ما فيه من المفسدة، فإذا جاءت شريعة بتحريمه كان ذلك من مؤكَداتها ومقرِّراتها، فإذا جاء مَنْ أباحَه علمنا بإباحته المفسدةَ أنه غير نَبيٍّ، بخلاف تحريم ما كان مباحًا فإنا نكون متعبِّدين بتحريمه. قالوا: وشريعتكم جاءت بإباحة كثير مما حرَّمته التوراة، مع أنه إنما حُرّم لما فيه من المفسدة. فهذه النكتة هي التي تعتمد عليها الأمة الغضبية، ويتلقّاها خالفٌ منهم عن سالف، والمتكلِّمون لم يَشْفوهم في جوابها، وإنما أطالوا معهم الكلام في رفع البراءة الأصلية بالشرائع، وفي نسخ الإباحة بالتحريم. ولَعَمْرُ الله، إنه لمِمَّا يبطل شُبهتهم لأن رفع البراءة الأصلية، ورفع الإباحة [168 ب] بالتحريم: هو تغيير لما كان عليه الحكم الاستصحابي أو الشرعي بحكم آخر لمصلحة اقتضت تغييره، ولا فرق في اقتضاء المصلحة بين تغيير الإباحة بالتحريم، أو تغيير التحريم بالإباحة. والشبهة التي عَرَضت لهم في أحد الموضعين: هي بعينها في الموضع الآخر فإن إباحة الشيء في الشريعة تابع لعدم مفسدته إذ لو كانت فيه مفسدة راجحة لم تأتِ الشريعة بإباحته، فإذا حرَّمته الشريعة الأخرى وجب قطعًا أن يكون تحريمه فيها هو المصلحة، كما كان إباحته في الشريعة الأولى هي المصلحة، فإن تضمَّن إباحةُ المحرم في الشريعة الأولى إباحة المفاسد

إلزامهم نبوة المسيح ومحمد - صلى الله عليه وسلم -

- وحاشا لله - تَضَمّن تحريم المباح في الشريعة الأولى تحريمُ المصالح، وكلاهما باطل قطعًا. فإذا جاز أن تأتي شريعة التوراة بتحريم ما كان إبراهيم ومَنْ تَقَدَّمهُ يستبيحه، فجائزٌ أن تأتي شريعة أخرى بتحليل بعض ما كان في التوراة محظورًا. وهذه الشبهة الباطلة الداحضة هي التي رَدّتْ بها الأمة الغضبيةُ نُبوة سيدنا محمد - صلى الله عليه وسلم -، هي بعينها التي رَدّ بها أسلافُهم نبوة المسيح، وتوارثوها كافرًا عن كافر، وقالوا لمحمد - صلى الله عليه وسلم -، كما قال أسلافهم للمسيح: لا نُقِرّ بنبوة من غيَّر شريعة التوراة. فيقال لهم: فكيف أقررتم لموسى بالنبوة، وقد جاء بتغيير بعض شرائع مَنْ تقدَّمه؟ فإن قَدَحَ ذلك في المسيح ومحمد عليهما الصلاة والسلام قدح في موسى، فلا تقدحون في نبوّتهما بقادح إلا ومثله في نبوة موسى سواءً، كما أنكم لا تثبتون نبوّة موسى ببرهان إلا وأضعافُه شاهد على نبوة محمد - صلى الله عليه وسلم -! فمِن أبين المُحال: أن يكون موسى رسولًا صادقًا، ومحمدٌ ليس برسول، أو يكون المسيح رسولًا، ومحمد - صلى الله عليه وسلم - ليس برسول. ويقال للأمة الغضبية أيضًا: لا يخلو المحرَّم إما أن يكون تحريمه لعَيْنِه وذاته بحيث تمتنع إباحته في زمان من الأزمنة، وإما أن يكون تحريمه لما تَضَمّنه من المفسدة في زمان دون زمان، ومكان دون مكان، وحال دون حال.

لو كان الشيء يحرم لعينه لحرم على جميع الأنبياء والأمم، وليس السبت ونحوه محزما على نوح وإبراهيم

فإن كان الأول لزم أن يكون ما حرَّمته التوراة محرَّمًا على جميع الأنبياء في كل زمان ومكان، من عهد نوح إلى خاتم الأنبياء صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين. وإن كان الثاني ثبت أن التحريم والإباحة تابعان للمصالح، وإنما يختلفان باختلاف الزمان والمكان والحال، فيكون الشيء الواحد حرامًا في مِلّة دون ملة، وفي وقت دون وقت، وفي مكان دون مكان، وفي حال دون حال، وهذا معلومٌ بالاضطرار من الشرائع، ولا يليق بحكمة أحكم الحاكمين غيرُ ذلك. ألا ترى أن تحريم السبت لو كان لعينه لكان حرامًا على إبراهيم، ونوح، وسائر النبيين؟ وكذلك ما حرَّمته التوراة من المطاعم والمناكح وغيرها، لو كان حرامًا لعينه وذاته لوجب تحريمه على كل نبيٍّ، وفي كل شريعة. وإذا كان الرب تعالى لا حَجْر عليه، بل يفعل ما يشاء، ويحكم ما يريد، ويبتلي عباده بما يشاء، ويحَكُم ولا يُحكَم عليه، فما الذي يُحِيلُ عليه ويمنعه أن يأمر أمّة بأمير من أوامر الشريعة، ثم ينهَى أُمّة أخرى عنه، أو يُحرّم محرّمًا على أُمَّة، ويُبيحَهُ لأمَّة أخرى؟ بل أيّ شيء يمنعه سبحانه أن يفعل ذلك في الشريعة الواحدة في وقتين مختلفين، بحسب المصلحة؟ وقد بيّن ذلك سبحانه وتعالى بقوله: {مَا نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنْسِهَا نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْهَا أَوْ مِثْلِهَا أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (106) أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ لَهُ

من العجب أن تحجر هذه الأمة الغضبية النسخ على الله، ثم تبيح لأحبارها أن يبطلوا من شرائع التوارة ما يشاؤون

{مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا نَصِيرٍ} [البقرة: 106، 107]. فأخبر سبحانه أن عموم قُدْرته ومُلْكِه وتَصرّفه في مملكته وخَلقِه لا يمنعه أن يَنْسَخَ ما يشاء، ويُثْبتَ ما يشاء، كما أنه [169 أ]، يمحو من أحكامه القَدَريّة الكونية ما يشاء ويُثبتُ، فهكذا أحكامُه الدينية الأمْرية، ينسخُ منها ما يشاء، ويُثبتُ منها ما يشاء. فمن أكفر الكفر، وأظلم الظلم: أن يُعارَض الرسول الذي جاء بالبينات والهدى، وتُدْفَع نبوّتُه، وتجحَد رسالته، بكونه أتى بإباحة بعض ما كان محُرمًا على مَنْ قَبْله، أو بتحريم بعض ما كان مباحًا لهم. وبالله التوفيق، يُضلّ مَنْ يشاء ويهدي من يشاء. ومن العجب أن هذه الأمة الغضبية تحَجُر على الله تعالى أن ينسخ ما يشاء من شرائعه، وقد تركوا شريعة موسى عليه السلام في أكثر ما هم عليه، وتمسّكوا بمَا شرعه لهم أحبارهم وعلماؤهم. فمن ذلك: أنهم يقولون في صلواتهم ما ترجمته هكذا: "اللهم! اضربْ ببُوق عظيم لفيفنا، واقْبضنا جميعًا من أربعة أقطار الأرض إلى قُدُسِك، سبحانك يا جامع شتاتِ قومه إسرائيل". ويقولون كل يوم ما ترجمته هكذا: "ارْدُد حُكَّامنا كالأولين، ومشيرينا كالابتداء، وابْنِ أورشَليم قرية قُدْسِك في أيامِنا، وأَعِزَّنا ببنيانها (¬1)، سبحانك يا باني يُورشليم". ¬

_ (¬1) م: "وعزنا بنيانها".

ومن تلاعب الشيطان بهم: زعمهم أن الفقهاء إذا أحلوا الشيء صار حلالا، وإذا حرموه صار حراما

فهذا قولهم في صلاتهم، مع علمهم بأن موسى وهارون عليهما السلام لم يقولا شيئًا من ذلك، ولكنها فصولٌ لَفَّقُوها بعد زوال دولتهم. وكذلك صيامُهم كصوم إحراق بيت المقدس، وصوم حصبا، وصوم كَدَلْيا التي جعلوها فرضًا، لم يَصمْها موسى، ولا يُوشَع بن نون، وكذلك صومُ صَلبِ هامان، ليس شيء من ذلك في التوراة، وإنما وضعوها لأسبابٍ اقتضت وَضْعَهَا عندهم. هذا مع أنه في التوراة ما ترجمته: "لا تزيدوا على الأمر الذي أنا مُوصيكم به شيئًا، ولا تَنقصوا منه شيئًا". وقد تضمنت التوراة أوامر كثيرة جدًّا، هم مجمعون على تعطيلها وإلغائها، فإما أن تكون منسوخةً بنصوصٍ أخرى من التوراة، أو بنقلٍ صحيح عن موسى عليه السلام، أو باجتهاد علمائهم وأحبارهم. وعلى التقادير الثلاثة: فقد بطلت شُبْهتهم في إنكار النسخ. ثم من العجب: أن أكثر تلك الأوامر التي هم مجمعون على عدم القول بها والعمل بها: إنما يستندون فيها إلى أقوال علمائهم وآرائهم، وقد اتفقوا على تعطيل الرّجْم للزّاني، وهو نصُّ التوراة، وتعطيل أحكام كثيرة منصوصةٍ في التوراة. ومن تلاعب الشيطان بهم: أنهم يزعمون أن الفقهاء إذا أحلّوا لهم الشيء صار حلالًا اذا حرّموه صار حرامًا، وإن كان نصّ التوراة بخلافه. وهذا تجويزٌ منهم لنسخهم ما شاءوا من شريعة التوراة، فحجروا على الربّ تعالى وتقدس أن يَنسخ ما يريد من شريعته، وجَوّزوا ذلك لأحبارهم وعلمائهم.

فصل: ومن تلاعب الشيطان بهم: ما شددوه على أنفسهم في باب الذبائح وغيرها مما ليس في التوراة

كما تَكَبّر إبليس أن يسجد لآدم، ورأى أن ذلك يغضُّ منه، ثم رضي أن يكون قَوَّادًا لكل عاصٍ وفاسقٍ. وكما أَنِفَ (¬1) عُبّادُ الأصنام أن يكون النبيُّ المرسَلُ إليهم بشرًا، ثم رَضُوا أن يكون إلههُمْ ومعبودُهم حجرًا. وكما نَزّهت النصارَى بَتَارِكَهم عن الولَدِ والصاحبة، ولم يَتحاشَوْا من نِسبة ذلك إلى الله سبحانه تعالى. وكما نزّهَت الفرعونية من الجهمية الربَّ سبحانه أن يكون مستويًا على عرشه لئلا يلزَم الحصر، ثم جعلوه سبحانه في الآبار والحانات، وأجواف الحيوانات! فصل ومن تلاعب الشيطان بهم: ما شدّدوه على أنفسهم في باب الذبائح وغيرها، مما ليس له أصل عن موسى عليه السلام، ولا هو في التوراة، وإنما هو من أوضاع الحخاميم وآرائهم، وهم فقهاؤهم. ولقد كان لهذه الأمة في قديم الزمان بالشام والعراق والمدائن مدراسُ وفقهاء كثيرون، وذلك في زمن دولة البابليّين والفُرْس، ودولة اليونان والروم، حتى اجتمع [169 ب]، فقهاؤهم في بعض تلك الدول على تأليف المِشْنَا والتلمود. فأما المِشْنا فهو الكتاب الأصغر، ومبلغُ حجمه نحو ثمان مئة ورقة. وأما التلمود فهو الكتاب الأكبر، ومبلغه نحو نِصْف حمل بَغْل لكثرته. ¬

_ (¬1) كذا في م. وفي بقية النسخ: "أبي".

التلمود ألف في عدة عصور من فتاوى الأحبار، وهو مقدار حمل بغل

ولم يكن الفقهاء الذين ألّفوه في عصر واحد، وإنما ألفوه جيلًا بعد جيل، فلمَّا نظر المتأخِّرون منهم إلى هذا التأليف، وأنه كلَّما مَرّ عليه الزمان زادوا فيه، وأن في الزيادات المتأخّرة ما يُناقضُ أوائل هذا التأليف، علموا أنهم إن لم يَقْطعوا ذلك ويمنعوا من الزيادة فيه، أدى إلى الخلل الذي لا يمكن سده، قطعوا الزيادة فيه، ومنعوا منها، وحظروا على الفقهاء الزيادة فيه، وإضافة شيء آخر إليه، وحرموا مَنْ يُضيف إليه شيئًا آخر، فوقف على ذلك المقدار. وكانت أئمتهم قد حَرّموا عليهم في هذين الكتابين مُؤاكلة الأجانب وهم مَنْ كان على غير مِلّتهم، وحظروا عليهم أكل اللُّحمان من ذبيحة مَنْ لم يكن على دينهم لأن علماءهم علموا أن دينهم لا يبقى في هذه الخلوة، مع كونهم تحت الذل والعبودية، إلا أن يصُدّوهم عن مخالطة مَنْ هو على غير ملَّتهم، فحرَّموا عليهم الأكل من ذبائحهم، ومناكحتهم، ولم يمكنهم تقرير ذلك إلا بحجة يبتدعونها من أنفسهم، ويكذبون بها على الله تعالى، لأن التوراة إنما حرمت عليهم مناكحة غيرهم من الأمم لئلا يوافقوا الأزواج في عبادة الأصنام والشرك بالله، وحرَّم عليهم في التوراة أكل ذبائح الأمم التي يذبحونها قُربانًا إلى الأصنام لأنه قد سُمّي عليها اسمُ غير الله تعالى، فأما الذبائحُ التي لم تُذبح قُربانًا للأصنام فلم تنطق التوراة بتحريمها، وإنما نطقت بإباحة الأكل من أيدي غيرهم من الأمم، وموسى عليه السلام إنما نهاهم عن مناكحة عبَّاد الأصنام، وأكل ما يذبحونها على اسمها، فما بالُ هؤلاء لا يأكلون من ذبائح المسلمين، وهم لا يذبحون للأصنام، ولا يذكرون اسمها عليها؟

اختلاق الأحبار في الذبائح كتابا سموه: "هلكت شحيطا" وما فيه من شروط الذبيحة

فلما نظر أئمتهم إلى أن التوراة غيرُ ناطقة بتحريم مآكل الأمم عليهم إلا عُبّاد الأصنام، وأن التوراة قد صَرّحت بأن تحريم مؤاكلتهم ومخالطتهم خوفَ استدراج المخالطة إلى المناكحة، وأن مناكحتهم إنما مُنع منها خوفَ استتباعها إلى الانتقال إلى أديانهم، وعبادة أوثانهم، ووجدوا جميع هذا واضحًا في التوراة، اختلقوا كتابًا في علم الذّباحة، ووضعوا فيه من التشديد والآصار والأغلال ما شغلوهم به عمَّا هم فيه من الذل والمشقة. وذلك أنهم أمروهم أن ينفخوا الرّئة، حتى يملأوها هواءً، ويتأملونها: هل يخرجُ الهواء من ثقب منها أم لا؟ فإن خرج منها الهواء حَرّموها، وإن كان بعض أطراف الرئة لاصقًا ببعض لم يأكلوه. وأمروا الذي يتفقد الذبيحة أن يدخل يده في بطن الذبيحة، ويتأمل بأصابعه: فإن وجد القلب ملتصقًا إلى الظهر، أو أحد الجانبين ولو كان الالتصاق بعرق دقيق كالشعرة، حرموه ولم يأكلوه، وسموه طَريفا؛ يعنون بذلك أنه نجس وأكله حرام. وهذه التسمية هي أصل بلائهم. وذلك أن التوراة حَرّمت عليهم أكل الطريفا، والطريفا: هي الفريسة التي يفترسها الأسد أو الذئب، أو غيرهما من السباع، وهو الذي عَبّر عنه القرآن بقوله تعالى: {وَمَا أَكَلَ السَّبُعُ} [المائدة: 3]. والدليل على ذلك أنه قال في التوراة: "ولحمًا في الصحراء فريسة لا تأكلوه، وللكلب ألقوه". وأصل لفظ "طريفا": طوارف، وقد جاءت هذه اللفظة في التوراة في

سبب تحريم الفريسة على بني إسرائيل

قصة يوسف عليه السلام، لما جاء إخوته على قميصه بدمٍ كذبٍ، وزعموا أن الذئب افترسه. وقال في التوراة: "ولحمًا في الصحراء [170 أ]، فريسة لا تأكلوا"، والفريسة إنما توجد غالبًا في الصحراء. وكان سبب نزول هذا عليهم: أنهم كانوا ذوي أخبية، يسكنون البر لأنهم مكثوا يتردَّدون في البرِّ والتِّيه أربعين سنة، كانوا لا يجدون طعامًا إلا المَنّ والسّلْوَى، وهو طائر صغير يُشبه السمان، وفيه من الخاصية: أن أكل لحمه يُلَيّن القلب، ويذهب بالحزون والقساوة فإن هذا الطائر يموت إذا سمع صوت الرعد، كما أن الخُطّاف يقتله البَرْدُ، فألهمه الله سبحانه وتعالى أن يسكن جزائر البحر التي لا يكون بها مَطَرٌ ولا رَعْد، إلى انقضاء أوانِ المطر والرعد، فيخرج من الجزائر، وينتشر في الأرض. فجلب الله تعالى إليهم هذا الطائر لينتفعوا به، ويكون اغتذاؤهم به كالدواء لغلظ قلوبهم وقسوتها. والمقصود: أن مشايخهم تعدَّوا في تفسير الطريفا عن موضوعها وما أريد بها. وكذلك فقهاؤهم اختلقوا من أنفسهم هذيانات وخرافات تتعلق بالرّئة والقلب، وقالوا: ما كان من الذبائح سليمًا من تلك الشروط فهو (دخنا)، ومعنى هذه اللفظة: أنه طاهر، وما كان خارجًا عن هذه الشروط فهو (طريفا)، وتفسيرها: أنه حرام. قالوا: ومعنى نص التوراة: "ولحمًا فريسة في الصحراء لا تأكلوه، وللكلب ألقوه" أي: إنكم إذا ذبحتم ذبيحة، ولم توجد فيها هذه الشروط، فلا

اليهود القراؤون يبرأون من المشنا والتلمود ويصفون مؤلفيهم بأنهم كذابون أهل حماقات ودعاوى كاذبة يدعون أنهم يوحى إليهم، وأن الوحي يوقفهم على الحق ويسمعونه

تأكلوها، بل تبيعونها على من ليس من أهل ملتكم. وفسَّروا قوله: "للكلب ألقوه" أي: لمن ليس من أهل مِلّتكم فأطعموه وبيعوه، وهم أحق بهذا اللقب، وأشبه بالكلاب. ثم إن هذه الأمة الغضبية فرقتان: إحداهما: عرفوا أن أولئك السلف الذين ألفوا المِشْنا والتلمود، وهم فقهاء اليهود، كذبوا على الله وعلى موسى النبي، وهم أصحابُ حماقات وتَنَطُّع، ودعاوَى كاذبة، يزعمون أنهم كانوا إذا اختلفوا في شيء من تلك المسائل يُوحي الله تعالى إليهم بصوت يسمعه جمهورهم، يقول: الحق في هذه المسألة مع فلان، ويسمون هذا الصوت: (بَثْ قُول). فلما نظرت اليهود القرَّاؤون (¬1) وهم أصحاب عانان وبنيامين إلى هذه المحالات الشنيعة، وهذا الافتراء الفاحش، والكذب البارد، انفصلوا بأنفسهم عن الفقهاء، وعن كل من يقول بمقالاتهم، وكذَّبوهم في كل ما افتروا على الله، وزعموا أنه لا يجوز قبول شيءٍ من أقوالهم، حيث ادَّعَوا أن الله تعالى كان يوحي إليهم كما يوحي إلى الأنبياء. وأما تلك الترَّهات التي ألفها الحخاميم وهم فقهاؤهم، ونسبوها إلى التوراة وإلى موسى، فإن القَّرَّائين اطَّرَحُوها كلها، وألغَوْها، ولم يحرِّموا شيئًا من الذبائح التي يتولَّون ذبيحتها البتة، ولم يحرموا سوى لحم الجَدْيِ بلبن أمه فقط، مراعاةً لنص التوراة: "لا يُنْضَجُ الجدي بلبن أمه"، وليسوا بأصحاب قياس، بل أصحاب ظاهر فقط. ¬

_ (¬1) م: "القرابون".

الفرقة الثانية: الربانون وهم أصحاب القياس، وفيهم الحاخامييم الكذابون المفترون وهم أشد اليهود عداوة لغيرهم بما بث الحاخاميم في نفوسهم من الكراهية للأمم

وأما الفرقة الثانية: فهم الرَّبَّانيُّون، وهم أصحاب القياس، وهم أكثر عددًا من القرائين، وفيهم الحخاميم المفترون على الله تعالى الكذب، الذين زعموا أن الله تعالى كان يخاطب جميعهم في كل مسألةٍ بالصوت، الذي يسمونه: (بَثْ قُول). وهذه الطائفة أشدّ اليهود عداوةً لغيرهم من الأمم لأن حخاميمهم أوهموهم أن المأكولات إنما تحلّ للناس إن استعملوا فيها هذا العلم الذي نسبوه إلى موسى عليه السلام وإلى الله تعالى، وأن سائر الأمم لا يعرفون هذا، وأنهم إنما شَرّفهم الله تعالى بهذا، وأمثال ذلك من التُّرَّهَات، فصار أحدهم ينظر من ليس على مذهبه وملَّته كما ينظر إلى الحيوان البهيم، وينظر إلى مآكل الأمم وذبائحهم كما ينظر إلى العَذِرة. [170 ب] وهذا من كيد الشيطان لهم، ولعبه بهم، فإن الحخاميم قصدوا بذلك المبالغة في مخالفتهم الأمم، والإزْراء عليهم، ونسبتهم إلى قلة العلم، وأنهم اختصوا دون الأمم بهذه الآصار والأغلال والتشديدات. وكلما كان الحخاميم فيهم أكثر تكلُّفًا، وأشد إصرًا، وأكثر تحريمًا قالوا: هذا هو العالم الرَّبَّانيُّ. وممَّا دعاهم إلى التشديد والتضييق: أنهم مُبدَّدون في شرق الأرض وغربها، فما من جماعة منهم في بلدة إلا وإذا قدم عليهم رجل من أهل دينهم من بلاد بعيدة، يُظْهر لهم الخشونة في دينهم، والمبالغة في الاحتياط، فإن كان من المتفقّهة فهو يشرع في إنكار أشياء عليهم، ويوهِمُهم التنزّه عَمَّا هم عليهم، وينسبُهم إلى قلَّة الدِّين، وينسب ما ينكره عليهم إلى مشايخه

هم أبدا يعتقدون الصواب والحق مع من يشدد ويضيق

وأهل بلده، ويكون في أكثر تلك الأشياء (¬1) كاذبًا، وقصدُه بذلك إما الرياسة عليهم، وإما تحصيل بعض مآرِبِه منهم، ولاسيما إن أراد المقام عندهم. فتراه أولَ ما ينزل بهم لا يأكل من أطعمتهم، ولا من ذبائحهم، ويتأمّل سكين ذبَّاحهم، وينكر عليهم بعض أمره، ويقول: أنا لا آكل إلا من ذبيحة يدي، فتراهم معه في عذاب، لا يزال ينكر عليهم المباح، ويُوهمهم تحريمه بأشياء يخترعها، حتى لا يشكُّون في ذلك. فإنْ قدم عليهم قادم آخر، فخاف المقيم أن ينقض عليه القادم، تلقّاه وأكرمه، وسعى في موافقته، وتصديقه، فيستحسن ما فعله الأول، ويقول لهم: لقد عَظّمَ الله تعالى ثواب فلان إذ قَوّى ناموس الدِّين في قلوب هذه الجماعة، وشَدّ سياج الشرع عندهم، وإذا لقيه يظهر من مدحه وشكره والدعاء له ما يؤكد أمره. وإن كان القادم الثاني منكِرًا لما جاء به الأول من التشديد والتضييق لم يقع عندهم بموقع، وينسبونه إما إلى الجهل، وإما إلى رِقّة الدِّين لأنهم يعتقدون أن تضييق المعيشة، وتحريم الحلال هو المبالغة في الدِّين. وهم أبدًا يعتقدون الصواب والحق مع مَنْ يُشَدّدُ ويُضَيّقُ عليهم. هذا إن كان القادم من فقهائهم. فأما إن كانوا من عُبّادهم وأحبارهم فهناك ترى العجب العجاب من الناموس الذي يعتمده، والسنن التي يحُدِثها ويُلحِقها بالفرائض، فتراهم مُسَلِّمين له منقادين، وهو يَحْتَلِبُ دَرَّهم، ويجتلب دِرْهمهم، حتى إذا بلغه ¬

_ (¬1) م: "ذلك الإسناد". والمثبت من ح، ت.

أن يهوديًّا جلس على قارعة الطريق يوم السبت، أو اشترى لبنًا من مُسلم ثَلَبَه وسَبّه في مجمع اليهود، وأباح عِرْضَه، ونسبه إلى قلة الدين. فصل ومن تلاعب الشيطان بهذه الأمة الغضبية: أنهم إذا رأوا الأمر أو النهي مما أُمروا به أو نُهوا عنه شاقًّا عليهم، طلبوا التخلُّص منه بوجوه الحيل، فإن أعْيَتْهُمُ الحِيلةُ قالوا: هذا كان علينا لمَّا كان لنا الملك والرياسة. فمن ذلك: أنهم أمروا إذا أقام أخَوَانِ في موضع واحد، ومات أحدُهما ولم يُعْقِبْ ولدًا، فلا تخرج امرأة الميت إلى رجلٍ أجنبي، بل ولد حميها ينكحها، وأول ولدٍ يُولِدُها يُنسبُ إلى أخيه الدارج، فإن أبي أن ينكحها خَرَجَتْ مُشتكيةً منه إلى مشيخة قومه، تقول: قد أبي ابن حمِي أن يستبقي اسمًا لأخيه في إسرائيل، ولم يُرِدْ نكاحي، فيُحضره الحاكم هناك، ويكلِّفه أن يقف ويقول: ما أردتُ نكاحها، فتتناولُ المرأة نَعْله، فتخرجه من رجله، وتمسكه بيدها، وتبصق في وجهه، وتنادي عليه: كذا فَليُصْنَعْ بالرجل الذي لا يبني بيت أخيه، ويُدْعَى فيما بعد بالمخلوع النعل، ويُنْبَزُ بَنُوه ببني مخلوع النعل. هذا كله مفترض عليهم فيما يزعمون في التوراة. وفيه حكمة مُلجئة للرجل إلى نكاح زوجة أخيه الدارج، فإنه [171 أ] إذا علم أن ذلك يناله إن لم ينكحها آثر نكاحها عليه، فإن كان مبغضًا لها زهدًا في نكاحها، أو كانت هي زاهدةً في نكاحه مبغضة له، استخرج لهما الفقهاء حيلةً يتخلَّص بها منها، وتتخلَّص منه، فيلزمونها الحضور عند الحاكم بمحضرٍ من مشايخهم، ويُلَقّنونها أن تقول: أبي ابن حمي أن يقيم لأخيه

احتيالهم ومكرهم بالنبي - صلى الله عليه وسلم -، والله يحفظه ويقيه شرهم

اسمًا في إسرائيل، لم يُرد نكاحي، فيلزمونها بالكذب عليه لأنه أراد نكاحها وكرهته هي، فإذا لقَّنوها هذه الألفاظ قالتها، فيأمرونه بالكذب، وأن يقوم ويقول: ما أردت نكاحها، ولعل ذلك سُؤْلُه وأمنيَّته، فيأمرونه بأن يكذب، ولم يَكفهم أن كذبوا عليه، وألزموه أن يكذب، حتى سلَّطوها على الإخراق به، والبصاق في وجهه، ويسمون هذه المسألة: "البياما والحالوس". وقد تقدم من التنبيه على حيلهم في استباحة محارم الله تعالى بعضُ ما فيه كفاية. فالقوم بيتُ الحيل والمكر والخبْث. وقد كانوا يتوّعون في عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بأنواع الحيلِ والكيد والمكر عليه وعلى أصحابه، ويرُدّ الله سبحانه وتعالى ذلك كلَّه عليهم. فتحيَّلوا عليه، وأرادوا قتله مرارًا، والله تعالى ينجِّيه من كيدهم: فتحيَّلوا عليه، وصعدوا فوق سطح، وأخذوا رحًى، أرادوا طرحها عليه وهو جالس في ظِلّ حائط، فأتاه الوحي، فقام منصرفًا وأخذ في حربهم وإجلائهم (¬1). ¬

_ (¬1) وهم بنو النضير، روى قصةَ مكرهم أبو نعيم في الدلائل (412)، والبيهقي في الدلائل (3/ 180) من طريق ابن لهيعة عن أبي الأسود عن عروة بن الزبير، ورواها أبو نعيم في الدلائل (411) من طريق عطاء والضحاك عن ابن عباس، ورواها الطبري في تاريخه (2/ 83، 84)، والبيهقي في الدلائل (3/ 354) من طريق ابن إسحاق عن يزيد بن رومان، ورواها البيهقي في الدلائل (3/ 180) بسنده إلى موسى بن عقبة بها، وانظر: السيرة النبوية لابن هشام (4/ 144)، والطبقات الكبرى لابن سعد (2/ 57).

ومكروا به، وظاهروا عليه أعداءه من المشركين، فظَفّره الله تعالى بهم (¬1). ومكروا به، وأخذوا في جمع العدُوّ له، فظفّر الله تعالى برئيسهم، فقتله (¬2). ومكروا به، وأرادوا قتله بالسّم، فأعلمه الله تعالى به، ونجّاه منه (¬3). ومكروا به، وسحروه، حتى كان يخيّل إليه أنه يفعل الشيء ولم يفعله، فشفاه الله تعالى وخلَّصه (¬4). ومكروا به في قولهم: {آمِنُوا بِالَّذِي أُنْزِلَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَجْهَ النَّهَارِ وَاكْفُرُوا آخِرَهُ} [آل عمران: 72]، يريدون بذلك تشكيك المسلمين في نبوَّته، فإنهم إذا أسلموا أول النهار اطمأنّ المسلمون إليهم، وقالوا: قد اتّبعوا الحقّ، وظهرت لهم أدِلّته، فيكفرون آخر النهار، ويجحدون نبوته، ويقولون: لم نقصد إلا الحق واتباعه، فلما تبين لنا أنه ليس به رجعنا عن الإيمان به. وهذا من أعظم خُبثهم ومكرهم. ¬

_ (¬1) وذلك في غزوة الأحزاب حيث نقضوا العهدَ ومالؤوا المشركين على النبيّ - صلى الله عليه وسلم -، فأظهره الله عليهم. (¬2) وهو كعب بن الأشرف، كان شديدَ الأذى لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - وللمؤمنين، وبعد غزوة بدر جعل يؤلّب المشركين على النبيّ - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه، فأمر - صلى الله عليه وسلم - بقتله، وقصّة قتله في الصحيحين: صحيح البخاري (4037) وصحيح مسلم (1801) من حديث جابر رضي الله عنهما. (¬3) كما في حديث أنس الذي أخرجه البخاري (2617) ومسلم (2190). (¬4) أخرجه البخاري (3175)، ومسلم (2189) عن عائشة.

اليهود أجبن الناس وأذلهم

ولم يزالوا مُوضعين مجتهدين في المكر والخبث إلى أن أخزاهم الله بيد رسوله وأتباعه - صلى الله عليه وسلم - ورضي عنهم أعظمَ الخزي، ومزّقهم كل ممُزَّق، وشتّت شملهم كلّ مُشَتَّتٍ. وكانوا يُعاهدونه - صلى الله عليه وسلم -، ويصالحونه، فإذا خرج لحرب عدوِّه نقضوا عهده. ولما سلَب الله تعالى هذه الأمةَ مُلكها وعزّها، وأذلهّا، وقَطّعهم في الأرض، انتقلوا من التدبير بالقدرة والسلطان، إلى التدبير بالمكر والدّهاء والخداع. وكذلك كل عاجز جَبَان، سلطانه في مَكره وخداعه، وبهْتِه وكذِبه، ولذلك كان النساء بيت المكر والخداع، والكذب والخيانة، كما قال تعالى عن شاهد يوسف عليه السلام، أن قال: {إِنَّهُ مِنْ كَيْدِكُنَّ إِنَّ كَيْدَكُنَّ عَظِيمٌ} [يوسف: 28]. ومن تلاعب الشيطان بهذه الأمة: أنهم يُمثّلون أنفسهم بعناقيد الكَرْم، وسائرَ الأمم بالشوك المحيط بأعالي حيطان الكرم. وهذا من غاية جهلهم وسَفههم، فإن المعتنين بمصالح الكرم إنما يجعلون على أعالي حيطانه الشوك حفظًا له، وحياطة، وصيانة، ولسنا نرى لليهود من سائر الأمم إلا الضرر والذل والصَّغار، كما يفعل الناس بالشوك. ومن تلاعبه بهم: أنهم ينتظرون قائمًا من ولد داود النبي، إذا حرَّك شفتيه بالدعاء مات جميع الأمم، وأن هذا المنتظر بزعمهم هو المسيح الذي وُعدوا به.

هم في الحقيقة إنما ينتظرون المسيح الدجال

وهم في الحقيقة إنما ينتظرون [171 ب] مسيح الضلالة الدجال، فهم أكثر أتباعه. وإلا فمسيح الهدى عيسى ابن مريم عليه السلام يقتلهم، ولا يُبْقِي منهم أحدًا. والأمم الثلاث: تنتظر منتظرًا يخرج في آخر الزمان، فإنهم وُعدوا به في كل ملَّة، والمسلمون ينتظرون نزول المسيح عيسى ابن مريم من السماء، لكَسر الصليب، وقتل الخنزير، وقتل أعدائه من اليهود، وعبَّاده من النصارى، وينتظرون خروج المهدي من أهل بيت النبوة، يملأ الأرض عدلًا، كما ملئت جورًا وظلمًا. فصل ومن تلاعب الشيطان بهذه الأمة الغضبية: أنهم في العشر الأول من الشهر الأول من كل سنة يقولون في صلاتهم: "كم تقول الأمم: أين إلههم؟ انتبه، كم تنامُ يا رب! استيقظ من رَقدتك". وهؤلاء إنما أقدموا على هذه الكفريات من شِدّة ضَجَرِهم من الذل والعبودية، وانتظار فَرجٍ لا يزداد منهم إلا بعدًا، فأوقعهم ذلك في الكفر والتزندق الذي لا يستحسنه إلا أمثالهم، وتجرَّأوا على الله سبحانه وتعالى بهذه المناجاة القبيحة، كأنهم يُنَخُّونَه بذلك لِينتخيَ لهم ويحمَى لنفسه، فكأنهم يخبرونه سبحانه وتعالى بأنه قد اختار الخمول لنفسه ولأحبابه، وأبناء أنبيائه، فينتخونه للنباهة، واشتهار الصيت! فترى أحدهم إذا تلا هذه الكلمات في الصلاة يقشعرّ جلده، ولا يشك في أن هذه المناجاة تقع عند الله تعالى بموقع عظيم، وأنها تؤثر فيه، وتُحرّكه، وتهزُّه، وتُنَخّيه.

نسبتهم الندم والبكاء ورمد العين إلى الله تعالى

ومن ذلك: أنهم ينسبون إلى الله سبحانه وتعالى الندم على ما يفعل. فمن ذلك: قولهم في التوراة التي بأيديهم: "وندم الله سبحانه وتعالى على خَلق البشر الذين في الأرض، وشق عليه، وعاد في رأيه"! وذلك عندهم في قصة قوم نوح. وزعموا أن الله سبحانه وتعالى وتقدس لما رأى فساد قوم نوح، وأن شرَّهم وكفرهم قد عَظُمَ، ندم على خلق البشر. وكثيرٌ منهم يقول: إنه بكى على الطُّوفان، حتى رَمِدَ، وعادته الملائكة. وأنه عَضّ على أنامله حتى جرى الدمُ منها. وقالوا أيضًا: إن الله تعالى ندم على تمليكه شاؤول علي بني إسرائيل، وأنه قال: ذلك لشَمويل. وعندهم أيضًا: أن نوحًا عليه السلام لما خرج من السفينة بدأ ببناء مَذبح لله تعالى، وقرّب عليه قربانين، وأن الله تعالى استنشق رائحة القُتار، فقال الله تعالى في ذاته: "لن أعاود لَعنة الأرض بسبب الناس، لأن خاطر البشر مطبوع على الرداءة، ولن أُهلك جميع الحيوان كما صنعتُ". وقد واجهوا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه رضي الله تعالى عنهم بأمثال هذه الكفريات، فقال قائل منهم للنبي - صلى الله عليه وسلم -: إن الله سبحانه وتعالى خلق السماوات والأرض في ستة أيام، ثم استراح، فَشَقّ ذلك على النبي - صلى الله عليه وسلم -، فأنزل الله تعالى تكذيبًا لهم: {وَلَقَدْ خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَمَا مَسَّنَا مِنْ لُغُوبٍ} (¬1). ¬

_ (¬1) روى عبد الرزاق في تفسيره (3/ 239) ومن طريقه الطبري في تفسيره (22/ 376) =

قولهم للنبي - صلى الله عليه وسلم - نحو ذلك وقول الله له: {فاضبر على ما يقولون}

[ق: 38] وتأمل قوله تعالى عَقِيبَ ذلك: {فَاصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ} [ق: 39]، فإن أعداء الرسول - صلى الله عليه وسلم - نسبوه إلى ما لا يليق به، وقالوا فيه ما هو مُنَزّه عنه، فأمره الله سبحانه وتعالى أن يصبر على قولهم، ويكون له أسوة بربِّه سبحانه وتعالى، حيث قال أعداؤه فيه ما لا يليق به. وكذلك قال فِنْحاص لأبي بكر: إن الله فقير ونحن أغنياء، ولهذا اسْتَقَرَضَنا من أموالنا، فأنزل الله سبحانه وتعالى: قول {لَقَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِيَاءُ سَنَكْتُبُ مَا قَالُوا وَقَتْلَهُمُ الْأَنْبِيَاءَ بِغَيْرِ حَقٍّ وَنَقُولُ ذُوقُوا عَذَابَ الْحَرِيقِ} (¬1) [آل عمران: 181]. وقالوا أيضًا: يد الله مغلولة، كما حكى ذلك سبحانه عنهم [172 أ] في قوله: {وَقَالَتِ الْيَهُودُ يَدُ اللَّهِ مَغْلُولَةٌ غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ وَلُعِنُوا بِمَا قَالُوا بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ يُنْفِقُ كَيْفَ يَشَاءُ} [المائدة: 64]. ويقولون في العشر الأول من الشهر الأول من كل سنة: "يا إلهنا وإله ¬

_ = عن معمر عن قتادة قال: قالت اليهود: إن الله خلق السموات والأرض في ستة أيام، ففرغ من الخلق يوم الجمعة، واستراح يوم السبت، فأكذبهم الله، وقال: {وَمَا مَسَّنَا مِنْ لُغُوبٍ}، ورواه الطبري أيضا (22/ 376) من طريق سعيد عن قتادة بنحوه. وورد نحوه عن ابن عباس وأبي بكر والحسن وأبي مجلز. (¬1) رواه الطبري في تفسيره (8300، 8301) والطحاوي في شرح المشكل (5/ 87 - 88) وابن أبي حاتم في تفسيره (4589) من طريق ابن إسحاق عن محمد بن أبي محمد عن عكرمة عن ابن عباس قال: دخل أبو بكر الصديق بيت المِدراس ... وذكر قصة بمعناه، وعزاه في الدر المنثور (2/ 396) لابن المنذر، وحسن إسناده ابن حجر في الفتح (8/ 231). وورد نحوه من قول عكرمة والسدي ومقاتل وابن إسحاق.

صلاتهم في العشر الأول من الشهر الأول، ويقولون فيها: لا يكون الملك لله إلا إذا عادت الدولة لبني إسرائيل

آبائنا! امْلِكْ على جميع أهل الأرض، ليقول كل ذي نَسَمةٍ: اللهُ إلهُ إسرائيل قد ملك، ومملكته في الكُلّ متسلطة". ويقولون في هذه الصلاة أيضًا: "وسيكون لله تعالى الملك، وفي ذلك اليوم يكون الله تعالى واحدًا، واسمه واحدًا". ويعنون بذلك: أنه لا يظهر أن الملك لله تعالى إلا إذا صارت الدولة لليهود الذين هم صفوته وأمّته، فأما ما دامت الدولةُ لغير اليهود فإنه سبحانه وتعالى خاملُ الذكر عند الأمم، مطعونٌ في ملكه، مشكوكٌ في قدرته. فصل ومن تلاعب الشيطان بهم: أنهم مُولَعون بالقَدْحِ في الأنبياء وأذيَّتهم. وقد آذوا موسى عليه السلام في حياته، ونسبوه إلى ما بَرّأه الله تعالى منه، ونهى الله سبحانه هذه الأمة عن الاقتداء بهم في ذلك، حيث يقول: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ آذَوْا مُوسَى فَبَرَّأَهُ اللَّهُ مِمَّا قَالُوا وَكَانَ عِنْدَ اللَّهِ وَجِيهًا} [الأحزاب: 69]. وثبت في "الصحيحين" (¬1) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "كانت بنو إسرائيل يغتسلون عُراةً، يَنْظُر بعضهم إلى سَوْأة بعض، وكان موسى عليه السلام يغتسلُ وحده، فقالوا: والله ما يمنعُ موسى أن يغتسل معنا إلا أنه آدَرُ، فذهب موسى يغتسل فوضع ثوبه على حجر، فَفَرّ الحجرُ بثوبه، قال: فجمح موسى بأثره، يقول: ثوبي حَجَرُ، ثوبي حَجَرُ! حتى نظرت بنو إسرائيل إلى سَوْأة موسى، وقالوا: والله ما بموسى بأس، فقام ¬

_ (¬1) البخاري (278، 3404)، ومسلم (339).

الحجر، حتى نظر إليه بنو إسرائيل، وأخذ ثوبه، وطفق بالحجر ضربًا". قال أبو هريرة: والله إنه بالحجر نَدَبٌ ستة أو سبعة من أثر ضرب موسى الحجر، وأنزل الله تعالى هذه الآية: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ آذَوْا مُوسَى فَبَرَّأَهُ اللَّهُ مِمَّا قَالُوا}. وقال ابن جرير (¬1): حدثنا ابن حُميد، حدثنا يعقوب، عن جعفر، عن سعيد، قالت بنو إسرائيل: إن موسى آدَرُ، وقالت طائفة: هو أبرص من شدّة تَسَتُّره. وقال ابن سيرين، عن أبي هريرة، عن النبي - صلى الله عليه وسلم -: "كان موسى رجلًا حَيِيًّا سِتّيرًا، لا يكاد يُرى من جلده شيء استحياءً منه، فآذاه مَنْ آذاه من بني إسرائيل، وقالوا: ما يتستَّر هذا التَّسَتُّرَ إلا من عيب بجلده، إما بَرَصٍ، وإما أُدْرَةٍ، وإما آفةٍ! وإن الله تعالى أراد أن يُبرِّئه مما قالوا ... " وذكر الحديث (¬2). وقال سفيان بن حسين، عن الحكم، عن ابن جُبير، عن ابن عباس، عن علي بن أبي طالب (¬3) في قوله تعالى: {لَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ آذَوْا مُوسَى} ¬

_ (¬1) جامع البيان (20/ 333). (¬2) أخرجه البخاري (3404). (¬3) رواه ابن منيع كما في إتحاف الخيرة (5791) والطبري في تفسيره (20/ 334 - 335) والطحاوي في شرح المشكل (1/ 68) وابن أبي حاتم كما في تفسير ابن كثير (6/ 486) وغيرهم عن عباد بن العوام عن سفيان به، ومن طريق ابن منيع رواه ابن عساكر في تاريخ دمشق (61/ 172) والضياء في المختارة (611)، ومن طريق الطبري رواه الثعلبي في تفسيره (8/ 66)، وصححه الحاكم (4110)، والبوصيري، وابن حجر في المطالب العالية (3455)، وحسنه في الفتح (6/ 438، 8/ 535) وقال: "وفي الإسناد ضعف".

أذيتهم لعيسى عليه السلام ولأمه

[الأحزاب: 69]، قال: صعد موسى وهارون الجبل، فمات هارون، فقالت بنو إسرائيل: أنت قتلته، وكان أشدَّ حبًّا لنا منك، وألْيَنَ لنا منك، وآذوه بذلك، فأمر الله تعالى الملائكة فحملته، حتى مَرّوا به علي بني إسرائيل، وتكلّمت الملائكة بموته، حتى عرف بنو إسرائيل أنه قد مات، فَبرّأه الله تعالى من ذلك، فانطلقوا به، فدفنوه، فلم يَطّلع على قبره أحدٌ من خلق الله تعالى إلا الرّخم، فجعله الله تعالى أصمَّ أبكمَ. وقال الله تعالى: {وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ يَاقَوْمِ لِمَ تُؤْذُونَنِي وَقَدْ تَعْلَمُونَ أَنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ} [الصف: 5]. وتأمَّل قوله: {وَقَدْ تَعْلَمُونَ أَنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ}، فإنها جملة في موضع الحال، أي: أتؤذونني وأنتم تعلمون أني رسول الله إليكم؟ وذلك أبلغ في العناد. وكذلك المسيح قال: {وَإِذْ قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ يَابَنِي إِسْرَائِيلَ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْرَاةِ وَمُبَشِّرًا بِرَسُولٍ يَأْتِي مِنْ بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ فَلَمَّا جَاءَهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ قَالُوا هَذَا سِحْرٌ مُبِينٌ} [الصف: 6]. فهذا قليلٌ من كثير من أذاهم لأنبيائهم. وأما أذاهم لهم بالقتل والنفي: فأشهر من أن يُذكر. ولقد بالغوا في أذى النبي - صلى الله عليه وسلم - بجهدهم بالقول والفعل، حتى رَدّهُم الله تعالى [172 ب] خاسئين. ومن قَدْحِهم في الأنبياء: ما نسبوه إلى نصّ التوراة: أنه لما أهلك الله أمّة لوطٍ لفسادها، ونجّى لوطًا بابنتيه فقط، ظن ابنتاه أن الأرض قد خَلَت ممن

نسبتهم يهوذا بن يعقوب إلى الزنى بزوجة ولده

يسْتبقين منه نَسْلًا، فقالت الكبرى للصغرى: إن أبانا شيخ، ولم يَبْقَ في الأرض إنسان يأتينا كسبيل البشر، فهَلُمّي نسقي أبانا خمرًا ونضاجعه، لنستبقي من أبينا نسلًا، ففعلتا ذلك بزعمهم! فنسبوا إلى النبي أنه سكر، حتى لم يعرف ابنتيه، ثم وطئهما وأحبلهما وهو لا يعرفهما، فولدت إحداهما ولدًا سمَّته: "مواب" يعني: أنه من الأب، والثانية سمت ولدها: "ابن عمي" يعني: أنه من قبيلها. وقد أجاب بعضهم عن هذا: بأنه كان قبل نزول التوراة، فلم يكن نكاحُ الأقارب حرامًا! والتوراة تكذِّبهم، فإن فيها: "أن إبراهيم الخليل خاف في ذلك العصر أن يقتله المصريون، حسدًا له على زوجته سارَة، فأخفى نكاحها، وقال: هي أختي، علمًا منه بأنه إذا قال ذلك لم يَبْقَ للظنون إليهما سبيل". وهذا أظهرُ دليل على أن تحريم (¬1) نكاح الأخت كان ثابتًا في ذلك الزمان، فما ظنك بنكاح البنت الذي لم يشرع ولا في زمن آدم عليه السلام؟ وعندهم أيضًا في التوراة التي بأيديهم قصةٌ أعجبُ من هذه! وهي: أن يهوذا بن يعقوب النبي زوّج ولده الأكبر من امرأة يقال لها: تامار، فكان يأتيها مُستدبرًا، فغضب الله تعالى من فعله، فأماته، فزوَّج يهوذا ولده الآخر بها، فكان إذا دخل بها أنزل على الأرض، علمًا منه بأنه إن أولدها كان أول الأولاد مدعوًّا باسم أخيه، ومنسوبًا إلى أخيه، فكره الله تعالى ذلك من فعله، فأماته أيضًا، فأمرها يهوذا باللحاق ببيت أبيها إلى أن يكبر شيلا ¬

_ (¬1) "تحريم" ساقطة من م.

بهتانهم بجعل أولاد المسلمين أولاد زنى

ولدُه، ويتمَّ عقله، حذرًا من أن يصيبه ما أصاب أخويه، فأقامت في بيت أبيها، ثم ماتت من بعدُ زوجةُ يهوذا، وصعد إلى منزل ليحرس غنمه، فلما أُخبرت المرأة (تامار) بإصعاد حَمْوِها إلى المنزل لبست زيّ الزواني، وجلست في مستشرف على طريقه، لعلمها بشَبَقِهِ، فلما مَرّ بها خالَها زانيةً، فراودها، فطالبته بالأجرة، فوعدها بجَدْي، ورهن عندها عصاه وخاتمه، ودخل بها، فعَلِقَتْ منه، فلمّا أُخْبِرَ يهوذا أن كِنّتهُ عَلِقَتْ من الزنى أفتى بإحراقها، فبعثت إليه بخاتمه وعصاه، فقالت: مِنْ رَبِّ هذين أنا حامل، فقال: صدقتِ، ومتى ذلك؟ واعتذر بأنه لم يعرفها، ولم يستحلّ معاودتها، ولا تسليمها إلى ولده، وعلقت من هذا الزنى بعارض، قالوا: ومِنْ وَلَدِها داود النبي. وفي ذلك من نسبتهم الزنى والكفر إلى أهل بيت النبوة ما يُقارب ما نسبوه إلى لوط عليه السلام. وهذا كله عندهم وفي نصّ كتابهم، وهم يجعلون هذا نسبًا لداود وسليمان عليهما السلام، ولمسيحهم المنتظر. ومن العجب أنهم يجعلون المسلمين أولاد زنى، ويسمّونهم (¬1) ممازير، واحدها مَمْزِير، وهو اسم لولد الزنى، لأن شرعهم أن الزوج إذا راجع زوجته بعد أن نكحت زوجًا غيره فأولادهما أولاد زنى. وزعموا أن ما جاءت به شريعة الإسلام من ذلك هو من موضوعات عبد الله بن سلام، قصد به أن يجعل أولاد المسلمين ممازير بزعمهم. قالوا: وكان محمد - صلى الله عليه وسلم - قد رأى أحلامًا تدلّ على أنه صاحب دولة، ¬

_ (¬1) "ويسمونهم" ساقطة من م.

بهتانهم بدعوى أن عبد الله بن سلام كان يعلم النبي - صلى الله عليه وسلم -

فسافر إلى الشام في تجارة لخديجة، واجتمع بأحبار اليهود، وقص عليهم أحلامه، فعلموا أنه صاحب دولة، فأصحبوه عبد الله بن سلام، فقرأ عليه علوم التوراة وفقهها مدّة، ونسبوا الفصاحة والإعجاز الذي في القرآن إلى عبد الله بن سلام، وأن من جملة ما قرره عبد الله بن سلام: [173 أ] أن الزوجة لا تحل للمطلق ثلاثًا إلا بعد أن ينكحها رجلٌ آخر، ليجعل أولاد المسلمين أولاد زنى. ولا ريب أن مثل هذا البَهْت يروجُ على كثير من حَميرهم! وقد خلق الله تعالى لكلّ باطلٍ وبهْتٍ حَمَلةً، كما للحق حملة، وليس وراء هذا البهت بهتٌ. وليس بمستنكر لأمّة قدحَت في معبودها وإلهها، ونَسَبَتْهُ إلى ما لا يليق بعظمته وجلاله، ونسبت أنبياءه إلى ما لا يليق بهم، ورمتهم بالعظائم، أن يَنْسُبوا محمدًا - صلى الله عليه وسلم - إلى ذلك. وعدواته لهم، وملاحِمُه فيهم، وإجلاؤه لهم من ديارهم وأموالهم، وسَبْيُ ذراريهم ونسائهم: معلوم غير مجهول. وقد نسبت هذه الأمة الغضبية عيسى ابن مريم إلى أنه ساحر، وَلَدُ غيَّة، ونسبت أمّه إلى الفجور. ونسبت لوطًا إلى أنه وطئ ابنتيه، وأولدَهما وهو سكران من الخمر. ونسبوا سليمان عليه السلام إلى أنه كان ملكًا ساحرًا، وكان أبوه عندهم ملكًا مسيحًا. ونسبوا يوسف الصِّدِّيق عليه السلام إلى أنه حَلّ تِكّة سراويله وتِكّة

زعمهم أن عيسى كان عالما أو طبيبا وإقامته الحجة عليهم في السبت

سراويل سيدته، وأنه قعد منها مقعد الرجل من المرأة، وأن الحائط انشقّ له، فرأى أباه يعقوب عليه السلام عاضًّا على أنامله، فلم يَقُمْ حتى نزل عليه جبريل عليه السلام فقال: يا يوسف! تكون من الزّناة، وأنت معدود عند الله تعالى من الأنبياء؟ فقام حينئذٍ. ومعلومٌ أن ترك الفاحشة عن هذا لا مدح فيه، فإن أفسق الناس لو رأى ذلك لولىّ هاربًا وترك الفاحشة! ومنهم مَنْ يزعم أن المسيح كان من العلماء، وأنه كان يُداوي المرضى بالأدوية، ويوهمهم أن الانتفاع إنما حصل لهم بدعائه، وأنه داوَى جماعة من المرضي في يوم السبت، فأنكرت عليه اليهودُ ذلك، فقال لهم: أخبروني عن الشاة من الغنم إن وَقعت في بئرٍ، أما تنزلون إليها وتُحِلّون السبت لتخليصها؟ قالوا: بلى، قال: فلمَ أحللتُم السبت لتخليص الغنم، ولا تُحِلّونه لتخليص الإنسان الذي هو أكبر حرمةً من الغنم؟ فأُفْحِمُوا. ويحكون أيضًا عنه: أنه كان مع قومٍ من تلاميذه في جبل، ولم يحضرهم الطعام، فأذن لهم في تناول الحشيش يوم السبت، فأنكرت عليه اليهود قطع الحشيش في يوم السبت، فقال لهم: أرأيتم لو أن أحدكم كان وحيدًا مع قوم على غير ملَّته، وأمرهم بقطع النبات وإلقائه لدوابهِّم، لا يقصدون بذلك إبطال السبت، ألستم تجيزون له قطعَ النبات؟ قالوا: بلى، قال: فإن هؤلاء القوم أمرتهُم بقطع النبات ليأكلوه، وليغتذوا به، لا لقطع السبت. ومن العجب: أن عندهم في التوراة التي بأيديهم: "لا يزول الملك من آل يهوذا، والراسم من بين ظَهرانيهم: إلى أن يأتي المسيح"، وهم لا يقدرون أن يجحدوا ذلك.

فيقال لهم: إنكم كنتم أصحاب دولة حتى ظهر المسيح، ثم انقضى ملككم، ولم يبق لكم اليوم ملك، وهذا برهان على أن المسيح قد أُرسل. ومن حين بُعث المسيح، وكفروا به وطلبوا قتله استولت ملوكُ الروم على اليهود وبيت المقدس، وانقضت دولتهم، وتفرّق شملهم. فيقال لهم: ما تقولون في عيسى ابن مريم؟ فيقولون: ولد يوسف النجار، لِغِيةٍ لا لِرِشْدَةٍ، وكان قد عَرَف اسم الله الأعظم، يُسَخِّر به كثيرًا من الأشياء! وعند هذه الأمة الغضبية أيضًا: أن الله تعالى كان قد أطلع موسى عليه السلام على الاسم المركّب من اثنين وأربعين حرفًا، وبه شَقّ البحر، وعمل المعجزات. فيقال لهم: فإذا كان موسى قد عمل المُعجزات باسم الله سبحانه فلمَ صدَّقتم نبوَّته، وأقررتم بها، وجحدتم نبوَّة عيسى، وقد عمل المعجزات بالاسم الأعظم؟ فأجاب بعضهم عن هذا الإلزام: بأن الله [173 ب] سبحانه هو الذي علّم موسى ذلك الاسم، فعلَّمه بالوحي، وعيسى إنما تعلم من حيطان بيت المقدس. وهذا هو اللائق ببهتهم وكذبهم على الله تعالى وأنبيائه، وهو يسدُّ عليهم العلم بنبوة موسى، لأن كلا الرسولين اشتركا في المعجزات والآيات الظاهرة، التي لا يقدر أحدٌ أن يأتي بمثلها، فإن كان أحدهما قد عملها بحيلة أو بعلم فالآخر يمكن ذلك في حقِّه، وقد أخبرا جميعًا أن الله سبحانه وتعالى

فصل: لا يمكن ليهودي ولا نصراني أن يؤمن بنبيه حتى يؤمن بمحمد - صلى الله عليه وسلم -

هو الذي أجرى ذلك على أيديهما، وأنه ليس من صنعهما، فتكذيب أحدهما وتصديق الآخر تفريق بين المتماثلين. وأيضًا فإنه لا دليل لهم على أن موسى تلقَّى تلك المعجزات عن الله تعالى إلا وهو يدلُّ على أن عيسى عليه السلام تلقَّاها أيضًا عن الله تعالى، فإن أمكن القَدحُ في معجزات عيسى أمكن القدح في معجزات موسى عليه السلام، وإن كان ذلك باطلًا فهذا أيضًا باطل. وإذا كان هذا شأن معجزات هذين الرسولين مع بُعد العَهد، وتشتُّتِ شمل أمَّتيهما في الأرض، وانقطاع معجزاتهما، فما الظن بنبوة مَنْ معجزاته وآياته تزيد على الألف، والعهد بها قريب، وناقلوها أصدق الخلق وأبرّهم، ونقلها ثابت بالتواتر قرنًا بعد قرن؟ وأعظهما معجزةً كتاب باقٍ غَضٌّ طريٌّ، لم يتغير ولم يتبدل منه شيء، بل كأنه منزَّل الآن، وهو القرآن العظيم، وما أخبر به يقع كلَّ وقت على الوجه الذي أخبر به، حتى كأنه كان يشاهدهُ عِيانًا. فصل ولا يمكن البتة أن يؤمنَ يهوديٌّ بنبوة موسى عليه السلام إن لم يؤمِنْ بنبوة محمدٍ - صلى الله عليه وسلم -، ولا يمكن نصرانيًّا أن يُقِرّ بنبوة المسيح إلا بعد إقراره بنبوة محمدٍ - صلى الله عليه وسلم -. وبيان ذلك: أن يُقال لهاتين الأُمَّتين: أنتم لم تُشاهدوا هذين الرسولين، ولا شاهدتم آياتهما وبراهين نبوَّتهما، فكيف يسع العاقلَ أن يُكذّب نبيًّا ذا دعوةٍ شائعة، وكلمةٍ قائمةٍ، وآياتٍ باهرةٍ،

تقليد اليهود والنصارى لآبائهم تقليدا أعمى لا يفيدهم شيئا، ولا يجعل آباءهم أصدق من غيرهم، وكل منهم يكفر الآخر

ويُصدّق من ليس مثله ولا قريبًا منه في ذلك؟ لأنه لم يَرَ أحد النبيّين، ولا شاهد معجزاته، فإذا كذّب بنبوّة أحدهما لزمه التكذيب بنبوتهما، وإن صدّق بأحدهما لزمه التصديق بنبوتهما، فمن كفر بنبيٍّ واحدٍ فقد كفر بالأنبياء كلّهم، ولم ينفعه إيمانه به. قال الله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَيُرِيدُونَ أَنْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ اللَّهِ وَرُسُلِهِ وَيَقُولُونَ نُؤْمِنُ بِبَعْضٍ وَنَكْفُرُ بِبَعْضٍ وَيُرِيدُونَ أَنْ يَتَّخِذُوا بَيْنَ ذَلِكَ سَبِيلًا (150) أُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ حَقًّا وَأَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ عَذَابًا مُهِينًا (151) وَالَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَلَمْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ أُولَئِكَ سَوْفَ يُؤْتِيهِمْ أُجُورَهُمْ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا} [النساء: 150 - 152]. وقال تعالى: {آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ} [البقرة: 285]. فنقولُ للمغضوب عليه: هل رأيت موسى وعاينتَ مُعجزاته؟ فبالضرورة يقول: لا. فنقول له: بأي شيء عرفت نبوته وصِدقه؟ فله جوابان: أحدهما: أن يقول: أبي عرّفني ذلك وأخبرني به. والثاني: أن يقول: التواترُ وشهادات الأُمَم حقَّق ذلك عندي، كما حَقّقت شهادتهم وجود البلاد النائية، والبحار، والأنهار المعروفة، وإن لم أشاهدها.

فإن اختار الجواب الأول، وقال: شهادة أبي وإخباره إياي بنبوة موسى هي سببُ تصديقي بنبوته. فيقال له: ولِمَ كان أبوك عندك صادقًا في ذلك، معصومًا عن الكذب، وأنت ترى الكفار يعلِّمهم آباؤهم ما هو كُفْرٌ عندك؟ فإذا كنت ترى الأديان الباطلة والمذاهب الفاسدة قد أخذها أربابهُا عن آبائهم، كأخذك مذهبك عن أبيك، وأنت تعلم أن الذين هم عليه ضلالٌ، فيلزمك أن تبحث عمَّا أخذته عن أبيك [174 أ] خوفًا أن تكون هذه حاله. فإن قال: إن الذي أخذتُه عن أبي أصحّ من الذي أخذه الناس عن آبائهم، كفاهُ معارضةُ غيره له بمثل قوله. فإن قال: أبي أصدقُ من آبائهم وأعرفُ وأفضلُ، عارضه سائرُ الناس في آبائهم بنظير ذلك. فإن قال: أنا أعرفُ حال أبي، ولا أعرف حال غيره. قيل له: فما يُؤمِنك أن يكون غير أبيك أصدقَ من أبيك، وأفضل، وأعرفَ؟ وبكل حالٍ، فإن كان تقليدُ أبيه حُجَّةً صحيحةَ كان تقليد غيره لأبيه كذلك، وإن كان ذلك باطلاً كان تقليده لأبيه باطلاً. فإن رجع عن هذا الجواب، واختار الجواب الثاني، وقال: إنما علمت نبوّة موسى بالتواتر قرنًا بعد قرن، فإنهم أخبروا بظهوره، وبمعجزاته، وآياته، وبراهين نبوّته التي تضطر إلى تصديقه. فيقال له: لا ينفعك هذا الجواب، لأنك قد أبطلت ما شهد به التواتُر من نبوّة عيسى ومحمدٍ صلى الله عليهما وسلم.

فإن قُلت: تواتر ظهور موسى ومعجزاته، ولم يتواتر ذلك في المسيح ومحمد. قيل: هذا هو اللائق ببهت الأمة الغضبية، فإن الأمم جميعهم قد عرفوا أنهم قومٌ بهُتٌ، وإلا فمن المعلوم أن الناقلين لمعجزات المسيح ومحمد صلوات الله وسلامه عليهم أضعافُ أضعافكم بكثير، والمعجزات التي شاهدها أوائلهم لا تنقص عن المعجزات التي أتى بها موسى عليه السلام، وقد نقلها عنهم أهل التواتر جيلًا بعد جيلٍ، وقرنًا بعد قرنٍ، وأنت لا تقبلُ خبر التواتر في ذلك وتردّه، فيلزمُك أن لا تقبله في أمر موسى عليه السلام. ومن المعلوم بالضرورة أن من أثبت شيئًا ونفى نظيره فقد تناقض. وإذا اشتهر النبيّ في عصرٍ، وصحّت نبوّته في ذلك العصر بالآيات التي ظهرت عليه لأهل عصره، ووصل خبرُه إلى أهل عصرٍ آخر، وجب عليهم تصديقه والإيمان به، وموسى والمسيح ومحمدٌ صلوات الله وسلامه عليهم في هذا سواءٌ. ولعل تواتر الشهادات بنبوة موسى أضعف من تواتر الشهادات بنبوة عيسى ومحمدٍ، لأن الأمة الغضبية قد مَزّقها الله تعالى كل ممُزَّق، وقطّعها في الأرض، وسلبها ملكها وعِزّها، فلا عيشَ لها إلا تحتَ قَهْرِ سواها من الأمم لها، بخلاف أمة عيسى عليه السلام، فإنها قد انتشرت في الأرض، وفيهم الملوك، ولهم الممالك. وأما الحنفاء: فممالكهم قد طَبّقت مشارق الأرض ومغاربها، ومَلأوا الدنيا سَهْلًا وجبلًا، فكيف يكون نقلهم لما نقلوه كذبًا، ونقل الأمة الغضبية

نبوة محمد - صلى الله عليه وسلم - هي التي تثبت نبوة موسى وعيسى

الخاملة، القليلة الزائلة (¬1) صدقًا؟ فثبت أنه لا يُمكنُ يهوديًّا على وجه الأرض أن يصدِّق بنبوّة موسى عليه السلام إلا بتصديقه وإقراره بنبوة محمدٍ - صلى الله عليه وسلم -، ولا يمكن نصرانيًّا البتة الإيمانُ بالمسيح عليه السلام إلا بعد الإيمان بمحمد - صلى الله عليه وسلم -. ولا ينفعُ هاتين الأمتين شهادةُ المسلمين بنبوة موسى والمسيح، لأنهم إنما آمنوا بهما على يد محمد - صلى الله عليه وسلم -، وكان إيمانهم بهما من الإيمان بمحمدٍ، وبما جاء به، فلولاه ما عرفنا نبوتهما، ولا آمنَّا بهما ولا بنبيِّهما. فإن أمة الغضب والضلال ليس بأيديهم عن أنبيائهم ما يوجبُ الإيمانَ بهم، فلولا القرآنُ ومحمدٌ - صلى الله عليه وسلم - ما عرفنا شيئًّا من آيات الأنبياء المتقدمين. فمحمد - صلى الله عليه وسلم - وكتابه هو الذي قرَّر نبوة موسى، ونبوة المسيح عليهما الصلاة والسلام، لا اليهود والنصارى. بل كان نفسُ ظهوره ومجيئه تصديقًا لنبوتهما، فإنهما أخبرا به، وبشَّرا بظهوره قبل ظهوره، فلما بُعث كان بعثه تصديقًا لهما. وهذا أحد المعنيين في قوله تعالى: {وَيَقُولُونَ أَئِنَّا لَتَارِكُو آلِهَتِنَا لِشَاعِرٍ مَجْنُونٍ (36) [174 ب] بَلْ جَاءَ بِالْحَقِّ وَصَدَّقَ الْمُرْسَلِينَ} [الصافات: 36، 37]، أي مجيئه تصديق لهم من جهتين: من جهة إخبارهم بمجيئه ومبعثه، ومن جهة إخباره بمثل ما أخبروا به، ومطابقة ما جاءوا به لما جاءوا به، فإن الرسول الأوّل إذا أتى بأمر لا يُعلَم إلا بالوحي، ثم جاء نبي آخر لم يقاربه في الزمان ولا في المكان ولا تلقّى عنه، بمثل ما جاء به سواءً: دلَّ ذلك على صدق ¬

_ (¬1) ح، ش: "الذليلة".

فصل: وقد اختلف أقوال الناس في التوراة التي بأيديهم، هل هي مبدلة، أو مؤولة؟ على ثلاثة أقوال

الرسولين الأول والآخر، وكان ذلك بمنزلة رجلين أخبر أحدهما بخبرٍ عن عِيان، ثم جاء آخرُ من غير بلده وناحيته بحيث نعلم أنه لم يجتمع به، ولا تلقى عنه، ولا عمَّن تلقى عنه، فأخبر بمثل ما أخبر به الأول سواءً، فإنه يُضْطَرُّ السامعُ إلى تصديق الأول والثاني. والمعنى الثاني: أنه لم يأت مكذبًا لمن قبله من الأنبياء، مُزْرِيًا عليهم، كما يفعل الملوك المتغلِّبة على الناس بمن تقدّمهم من الملوك، بل جاء مصدقًا لهم، شاهدًا بنبوتهم، ولو كان كاذبًا متقولاً مُنْشِئًا من عنده سياسةً لم يُصدّق مَنْ قبله، بل كان يُزْري بهم، ويطعن عليهم، كما يفعل أعداء الأنبياء. فصل وقد اختلف أقوال الناس في التوراة التي بأيديهم: هل هي مُبَدّلة؟ أم التبديلُ والتحريف وقعَ في التأويل دون التنزيل؟ على ثلاثة أقوالٍ: طرفين ووسطٍ. فأفرطت طائفةٌ وزعمت أنها كلَّها أو أكثرها مُبدلَّة مغيَّرة، ليست التوراة التي أنزلها الله تعالى على موسى عليه السلام، وتعرّض هؤلاء لتناقضها وتكذيب بعضها لبعضٍ. وغلا بعضهم، فجوّز الاستجمار بها من البول. وقابلهم طائفةٌ أخرى من أئمة الحديث والفقه والكلام، فقالوا: بل التبديلُ وقع في التأويل، لا في التنزيل. وهذا مذهب أبي عبد الله محمد بن إسماعيل البخاري، قال في "صحيحه" (¬1): "يحرّفُون: يزيلون، وليس أحدٌ ¬

_ (¬1) (13/ 522) مع الفتح.

يزيل لفظ كتابٍ من كتب الله تعالى، ولكنهم يحرِّفونه: يتأوَّلونه على غير تأويله". وهذا اختيار الرازي في "تفسيره" (¬1). وسمعت شيخنا يقول: وقع النزاع في هذه المسألة بين بعض الفضلاء، فاختار هذا المذهب، ووهّن غيره، فأُنكر عليه، فأحضر لهم خمسة عشر نقلًا به. ومن حُجَّة هؤلاء: أن التوراة قد طبّقت مشارق الأرض ومغاربها، وانتشرت جنوبًا وشمالًا، ولا يعلم عدد نُسخها إلا الله تعالى، ومن الممتنع أن يقع التواطؤ على التبديل والتغيير في جميع تلك النسخ، بحيث لا يبقى في الأرض نسخةٌ إلا مُبدَّلةً مغيرةً، والتغيير على منهاج واحد، وهذا مما يُحيله العقل ويشهد ببطلانه. قالوا: وقد قال الله تعالى لنبيه - صلى الله عليه وسلم - مُحتجًّا على اليهود بها: {قُلْ فَأْتُوا بِالتَّوْرَاةِ فَاتْلُوهَا إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} [آل عمران: 93]. قالوا: وقد اتفقوا على ترك فريضة الرّجم، ولم يمكنهم تغييرها من التوراة، ولهذا لما قرأوها على النبي - صلى الله عليه وسلم - وضع القارئ يده على آية الرجم، فقال له عبد الله بن سلام: ارفع يدك عن آية الرجم، فرفعها، فإذا هي تلوح تحتها، فلو كانوا قد بدّلوا ألفاظ التوراة لكان هذا من أهمّ ما يبدِّلونه. قالوا: وكذلك صفات النبي - صلى الله عليه وسلم - ومَخْرجه هو في التوراة بَيّنٌ جدًّا، ولم يمكنهم إزالته وتغييره، وإنما ذمّهم الله تعالى بكتمانه، وكانوا إذا احتُجّ عليهم ¬

_ (¬1) مفاتيح الغيب (11/ 187).

قول الطائفة الثالثة: إن التوراة زيد فيها، وغير ألفاظ يسيرة، ولكن أكثرها باقي على ما أنزل عليه، والتبديل في يسير منها جدا وهو اختيار شيخ الإسلام ابن تيمية

بما في التوراة من نعته وصفته يقولون: ليس هو، ونحن ننتظره. قالوا: وقد روَى أبو داود في "سننه" (¬1) عن ابن عمر، قال: أتى نَفَرٌ من اليهود، فدعوا رسول الله - صلى الله عليه وسلم -إلى القُفّ، فأتاهُم في بيت المِدْراس، فقالوا: يا أبا القاسم! إن رجلاً منّا زنى بامرأةٍ، فاحكم، فوضعوا لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - وسادةً، فجلس عليها، [175 أ] ثم قال: "ائتوني بالتوراة"، فأتي بها، فنزع الوسادة من تحته، ووضع التوراة عليها، ثم قال: "آمنت بكِ وبمن أنزلكِ"، ثم قال: "ائتوني بأعلمكم"، فأُتي بفتًى شابٍّ ... ثم ذكر قصة الرجم. قالوا: فلو كانت مُبدّلة مُغيّرة لم يضعها على الوسادة، ولم يقل: "آمنت بكِ". قالوا: وقد قال تعالى: {وَتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ صِدْقًا وَعَدْلًا لَا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِهِ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ} [الأنعام: 115]، والتوراة من كلماته. قالوا: والآثارُ التي في كتمان اليهود صفةَ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في التوراة، ومَنْعِهم أولادَهُم وعوامّهم من الاطلاع عليها: مشهورة، ومن اطّلع عليها منهم قالوا له: ليس به. فهذا بعضُ ما احتجّتْ به هذه الفرقة. وتوسَّطت طائفة ثالثة، وقالوا: قد زِيدَ فيها، وغُيّر ألفاظٌ يسيرةٌ، ولكنَّ أكثرها باقٍ على ما أُنزل عليه، والتبديلُ في يسير منها جدًّا. ¬

_ (¬1) سنن أبي داود (4451) من طريق هشام بن سعد عن زيد بن أسلم عن ابن عمر به، ومن طريق أبي داود رواه ابن عبد البر في التمهيد (14/ 397)، وحسنه الألباني في الإرواء (5/ 94). وأصل الحديث في الصحيح من طريق نافع عن ابن عمر، ومن طريق عبد الله بن دينار عن ابن عمر. انظر البخاري (3635) ومسلم (1699).

التحقيق أن الذبيح إسماعيل من عشرة وجوه

وممن اختار هذا القول: شيخنا في كتابه "الجواب الصحيح لمن بدل دين المسيح" (¬1). قال: وهذا كما في التوراة عندهم: أن الله سبحانه وتعالى قال لإبراهيم عليه السلام: "اذبح ولدك بكرك ووحيدك إسحاق". فـ "إسحاق" زيادة منهم في لفظ التوراة. قلت: وهي باطلة قطعًا من وجوه عشرة (¬2): أحدها: أن بِكره ووحيده: هو إسماعيل باتفاق الملل الثلاث، فالجمعُ بين كونه مأمورًا بذبح بِكره، وتعيينه بإسحاق: جمع بين النقيضين! الثاني: أن الله سبحانه وتعالى أمر إبراهيم أن يَنْقُل هاجر وابنها إسماعيل عن سارة، ويُسكنهما في برية مكة لئلا تَغير (¬3) سارة، فأُمر بإبعاد السُّرِّيَّة وولدها عنها، حفظًا لقلبها، ودفعًا لأذى الغَيْرة عنها، فكيف يأمر سبحانه وتعالى بعد هذا بذبح ابن سارة وإبقاء ابن السُّرّية؟ فهذا مما لا تقتضيه الحكمة. الثالث: أن قصة الذبح كانت بمكة قطعًا، ولهذا جعل الله تعالى ذبح الهدايا والقرابين بمكة، تذكيرًا للأمّة بما كان من قصة أبيهم إبراهيم مع ولده. ¬

_ (¬1) الجواب الصحيح (1/ 368). (¬2) انظر في هذا الموضوع "الرأي الصحيح في من هو الذبيح" للعلامة الفراهي. وللقاضي أبي بكر ابن العربي والسبكي والسيوطي وغيرهم رسائل مفردة في مسألة الذبيح. (¬3) كذا في النسخ، وهو عاميّ. والفعل غار يغار من باب سمع.

الرابع: أن الله سبحانه بشر سارة أمّ إسحاق {بِإِسْحَاقَ وَمِنْ وَرَاءِ إِسْحَاقَ يَعْقُوبَ} [هود: 71]، فبشرها بهما جميعًا، فكيف يأمُرُ بعد ذلك بذبح إسحاق، وقد بشّر أبويه بوَلدِ ولدهِ؟ الخامس: أن الله سبحانه وتعالى لمَّا ذكر قصة الذبيح وتسليمه نفسه لله تعالى، وإقدام إبراهيم على ذبحه، وفرغ من قصته، قال بعدها: {وَبَشَّرْنَاهُ بِإِسْحَاقَ نَبِيًّا مِنَ الصَّالِحِينَ} [الصافات: 112]، فشكر الله تعالى له استسلامه لأمره، وبَذْلَ ولده له، وجعل من إثابته على ذلك أن آتاه إسحاق، فنجّى إسماعيلَ من الذبح، وزاده عليه إسحاق. السادس: أن إبراهيم صلوات الله تعالى وسلامه عليه سأل ربّه الولد، فأجاب الله دعاءَه، وبشّره به، فلما بلغ معه السعي أمره بذبحه، قال تعالى: {وَقَالَ إِنِّي ذَاهِبٌ إِلَى رَبِّي سَيَهْدِينِ (99) رَبِّ هَبْ لِي مِنَ الصَّالِحِينَ (100) فَبَشَّرْنَاهُ بِغُلَامٍ حَلِيمٍ} [الصافات: 99 - 101]. فهذا دليل على أن هذا (¬1) الولد إنما بُشّر به بعد دعائه وسؤاله رَبّه أن يهب له ولدًا، وهذا المبشَّر به هو المأمورُ بذبحه قطعًا، بنصّ القرآن. وأما إسحاق فإنه بُشّر به من غير دعوة منه، بل على كِبر السنّ، وكون مثله لا يُولَدُ له، وإنما كانت البشارة به لامرأته سارة، ولهذا تعجّبت من حصول الولد منها ومنه. قال تعالى: {وَلَقَدْ جَاءَتْ رُسُلُنَا إِبْرَاهِيمَ بِالْبُشْرَى قَالُوا سَلَامًا قَالَ سَلَامٌ فَمَا ¬

_ (¬1) "هذا" ساقطة من م.

لَبِثَ أَنْ جَاءَ بِعِجْلٍ حَنِيذٍ (69) فَلَمَّا رَأَى أَيْدِيَهُمْ لَا تَصِلُ إِلَيْهِ نَكِرَهُمْ وَأَوْجَسَ مِنْهُمْ خِيفَةً قَالُوا لَا تَخَفْ إِنَّا أُرْسِلْنَا إِلَى قَوْمِ لُوطٍ (70) وَامْرَأَتُهُ قَائِمَةٌ فَضَحِكَتْ فَبَشَّرْنَاهَا بِإِسْحَاقَ وَمِنْ وَرَاءِ إِسْحَاقَ يَعْقُوبَ (71) قَالَتْ يَاوَيْلَتَى أَأَلِدُ وَأَنَا عَجُوزٌ وَهَذَا بَعْلِي شَيْخًا إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عَجِيبٌ (72) قَالُوا أَتَعْجَبِينَ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ} [هود: 69 - 73]. فتأمَّل سياق هذه البشارة وتلك: تجدْهما بشارتين متفاوتتين، مخرَجُ إحداهما غير مخرج الأخرى. والبشارة [175 ب] الأولى كانت له، والثانية كانت لها. والبشارة الأولى هي التي أُمر بذبح مَنْ بُشّر به فيها، دون الثانية. السابع: أن إبراهيم عليه السلام لم يَقدم بإسحاق إلى مكة البتة، ولم يفرّق بينه وبين أمّه، وكيف يأمره الله تعالى أن يذهب بابن امرأته، فيذبحه بموضع ضَرّتها وفي بلدها، ويدع ابن ضَرّتها؟ الثامن: أن الله تعالى لمّا اتخذ إبراهيم خليلاً، والخُلّة تقتضي أن يكون قلبه كلّه معلقًا بربه، ليس فيه شُعْبة لغيره، فلما سأل الولد وهَبَهُ إسماعيل، فتعلَّق به شُعبةٌ من قلبه، فأراد خليله سبحانه أن تكون تلك الشّعبة له، ليست لغيره من الخلق، فامتحنه بذبح ولده، فلمَّا أقدم على الامتثال خلصت له تلك الخُلَّة، وتمحّضت لته وحده، فنسخ الأمر بذبحه لحصول المقصود، وهو العزمُ وتوطينُ النفس على الامتثال. ومن المعلوم أن هذا إنما يكون في أول الأولاد، لا في آخرها، فلما حصل هذا المقصود من الولد الأول لم يُحتَجْ في الولد الآخر إلى مثله، فإنه لو زاحمت محبّة الولد الآخر الخُلّة لأمر بذبحه، كما أمر بذبح الأول.

حديث: "أنا ابن الذبيحين"

فلو كان المأمور بذبحه هو الولدَ الآخر لكان قد أقرّه في الأول على مزاحمة الخُلّة به مدة طويلة، ثم أمره بما يُزيل المُزاحم بعد ذلك، وهذا خلاف مقتضى الحكمة، فتأمَّلْهُ. التاسع: أن إبراهيم عليه السلام إنما رُزق إسحاق عليه السلام على الكِبَرِ، وإسماعيل عليه السلام رُزِقَهُ في عُنفوانه وقؤته، والعادة أن القلب أعلقُ بأول الأولاد، وهو إليه أمْيَلُ، وله أحبّ، بخلاف من يُرْزَقُه على الكبر، ومحلّ الولد بعد الكبر كمحلّ الشهوة للمرأة. العاشر: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يفتخر بقوله: "أنا ابنُ الذّبيحَيْن" (¬1) يعني: أباه عبد الله وجدّه إسماعيل. والمقصود: أن هذه اللفظة مما زادوها في التوراة. ونحن نذكر السبب الموجِبَ لتغيير ما غُيّر منها، والحق أحقُّ ما اتُّبع، فلا نغلو غُلُوّ المستهينين بها، المستجمرين بها، بل معاذَ الله من ذلك! ولا ¬

_ (¬1) كذا ذكره الحاكم (2/ 609) بلا إسناد، لكن ليس فيه ذكر الافتخار، وروى الطبري في تفسيره (21/ 85) والأموي في مغازيه كما في تفسير ابن كثير (7/ 35) والحاكم (4036) وابن عساكر في تاريخ دمشق (56/ 200، 201) وغيرهم من طريق عبد الله بن سعيد عن الصنابحي عن معاوية أن أعرابيا قال لرسول الله - صلى الله عليه وسلم -: يا ابن الذبيحين، فتبسم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ولم ينكر عليه، وفي إسناده اختلات، قال القرطبي في تفسيره (15/ 113): "سنده لا يثبت"، وقال الذهبي: "إسناده واه"، وقال ابن كثير في تفسيره (7/ 35): "هذا حديث غريب جدًّا"، وضعفه السيوطي في الدر المنثور (7/ 105) وقال في فتاويه (2/ 35): "هذا حديث غريب، وفي إسناده من لا يعرف حاله، وأبطله الألوسي في روح المعاني (23/ 136)، وهو في السلسلة الضعيفة (331، 1677).

أحبار اليهود معتقدون أن ما بأيديهم ليس هو التوراة الحقيقية وأدلة ذلك

نقول: إنها باقية كما أُنزلت من كل وجه كالقرآن. فنقول وبالله التوفيق: إن علماء اليهود وأحبارهم لا يعتقدون أن هذه التوراة التي بأيديهم هي التي أنزلها الله تعالى على موسى بن عمران بعينها، لأن موسى عليه السلام صان التوراة عن بني إسرائيل خوفا من اختلافهم من بعده في تأويلها، المؤدّي إلى تفرُّقهم أحزابًا، وإنما سَلّمها إلى عشيرته أولاد لاوي. ودليل ذلك قوله في التوراة: "وكتبَ موسى هذه التوراة ودَفَعها إلى الأئمة من بني لاوي". وكان بنو هارون قضاةَ اليهود وحكامهم، لأن الإمامة وخِدمَة القرابين وبيت المقدس كانت موقوفة عليهم، ولم يَبذلُ موسى عليه السلام من التوراة لبني إسرائيل إلا نصف سورةٍ، وهي التي قال فيها: "وكتبَ موسى هذه السورة وعلّمها بني إسرائيل". هذا نصّ التوراة عندهم. قال: "وتكون لي هذه السورة شاهدة على بني إسرائيل". وفيها: قال الله تعالى: "إن هذه السورة لا تُنْسَى من أفواه أولادهم". وهذه السورة مشتملةٌ على ذمّ طبائعهم، وأنهم سيخالفون شرائعَ التوراة، وأن السخط يأتيهم بعد ذلك، وتُخَرّبُ ديارهم، ويُسْبَوْنَ في البلاد، فهذه السورةُ تكون متداولة في أفواههم، كالشاهد عليهم، الموقفِ لهم على صحةِ ما قيل لهم. فما نصّت التوراة أن هذه السورة لا تُنْسَى من أفواه أولادهم دَلّ ذلك على أن غيرها من السور ليس كذلك، وأنه يجوز أن يُنْسَى من أفواههم.

ضياع التوراة بقتل بختنصر للأئمة الهارونيين يوم غزا بيت المقدس

وهذا يدل على أن موسى عليه السلام لم يُعْط بني إسرائيل من التوراة إلا هذه السورة، فأما بقيَّتها فدفعها إلى أولاد هارون، وجعلها فيهم، وصانها عن سواهم. وهؤلاء الأئمة الهارونيُّون الذين كانوا يعرفون التوراة، ويحفظون أكثرها، قتلهم بُخْتنصّر على دم واحد يوم [176 أ] فتح بيت المقدس، ولم يكن حفظُ التوراة فرضًا عليهم ولا سُنّةَ، بل كان كلّ واحدٍ من الهارونيين يحفظ فَصْلاً من التوراة. فلما رأى عُزَيرٌ (¬1) أن القوم قد أُحرق هيكلهم، وزالت دولتهم، وتفرّق جمعهم، ورُفع كتابهم، جمع من محفوظاته ومن الفصول التي يحفظها الكَهَنة ما اجتمعت منه هذه التوراة التي بأيديهم، ولذلك بالغوا في تعظيم عُزَيرٍ هذا غاية المبالغة. فزعموا أن النور الآن يظهر على قبره، وهو عند بطائح العراق، لأنه جمع لهم ما يحفظ دينهم. وغلا بعضهم فيه، حتى قال: هو ابن الله، ولذلك نسب الله تعالى ذلك إلى اليهود، إلى جنسهم لا إلى كلّ واحدٍ منهم. فهذه التوراة التي بأيديهم في الحقيقة كتاب عُزَير، وفيها كثيرٌ من التوراة التي أنزلها الله تعالى على موسى عليه الصلاة والسلام، ثم تداولتها أمّة قد مزّقها الله تعالى كلّ مُمزّق، وشَتّتَ شملها، فلحقها ثلاثة أمور: أحدها: بعض الزيادة والنقصان. ¬

_ (¬1) كذا في م. وفي باقي النسخ: "عزرا". وكلاهما صواب.

المثال الثاني: تحريفهم نص: "نبيا أقيم لهم" إلخ الذي فيه البشارة بنبوة محمد - صلى الله عليه وسلم -

الثاني: اختلاف الترجمة. الثالث: اختلاف التأويل والتفسير. ونحن نذكرُ من ذلك أمثلةً تُبيِّن حقيقة الحال: المثال الأول: ما تقدم من قوله: "ولحم في الصحراء فريسة لا تأكلوا، وللكلب ألقوه". وتقدم بيانُ تحريفهم هذا النصّ، وحمله على غير محمله. المثال الثاني: قوله في التوراة: "نبيًّا أُقيمُ لهم من وسط إخوتهم مثلك، فليؤمنوا به". فحرّفوا تأويله، إذ لم يمكنهم أن يبدّلوا تنزيله، وقالوا: هذه بشارة بنبيٍّ من بني إسرائيل، وهذا باطل من وجوه: أحدها: أنه لو أراد ذلك لقال: "من أنفسهم"، كما قال في حق محمد - صلى الله عليه وسلم -: {لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْ أَنْفُسِهِمْ} [آل عمران: 164]، وقال تعالى: {لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ} [التوبة: 128]، ولم يقل: "من إخوتكم". الثاني: أن المعهود في التوراة أن إخوتهم غيرُ بني إسرائيل. ففي الجزء الأول من السِّفْر الخامس قوله لهم: "أنتم عابرون في تُخُوم إخوتكم بني العِيصِ، المقيمين في سَيعير، إيّاكم أن تطْمعوا في شيء من أرضهم". فإذا كان بنو العيص إخوةً لبني إسرائيل، لأن العيص وإسرائيل وَلَدا إسحاق، والرومُ هم بنو العيص، واليهودُ هم بنو إسرائيل، وهم إخوتهم،

فكذلك بنو إسماعيل إخوةٌ لجميع ولد إبراهيم. الثالث: أن هذه البشارة لو كانت بشَمُويِل أو غيره من بني إسرائيل لم يصحّ أن يقال: بنو إسرائيل إخوة بني إسرائيل، وإنما المفهوم من هذا: أن بني إسماعيل أو بني العيص هم إخوةُ بني إسرائيل. الرابع: أنه قال: "أُقِيمُ لهم نبيًّا مثلك"، وفي موضع آخر: "أُنْزِلُ عليه توراةً مثل توراة موسى". ومعلوم أن شمويل وغيره من أنبياء بني إسرائيل لم يكن فيهم مثل موسى، لا سيما وفي التوراة: "لا يقومُ في بني إسرائيل مثلُ موسى". وأيضًا فليس في بني إسرائيل مَنْ أُنزل عليه توراةٌ مثل توراة موسى إلا محمدٌ والمسيح صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين، والمسيح كان من أنْفُسِ بني إسرائيل، لا من إخوتهم، بخلاف محمد - صلى الله عليه وسلم -، فإنه من إخوتهم بني إسماعيل. وأيضًا فإن في بعض ألفاظ هذا النص: "كلُّكم له تسمعون"، وشَمُويِلُ لم يأت بزيادة ولا نسخ، لأنه إنما أُرسل ليقوّي أيديهم على أهل فلسطين، وليَرُدّهم إلى شرع التوراة، فلم يأت بشريعةٍ جديدة، ولا كتابٍ جديد، وإنما حكمه حكم سائر أنبياء بني إسرائيل، فإنهم كانت تسوسهم الأنبياء، كلّما هلك نبيٌّ قام فمِهم نبي. فإن كانت هذه البشارةُ بشمويل فهي بشارةٌ بسائر الأنبياء الذين بُعثوا فيهم، ويكونون كلهم مثل موسى عليه السلام، وكلهم قد أنزل عليهم كتاب مثل كتاب موسى عليه السلام.

المثال الثالث: تحريفهم نص: "جاء الله من طور سيناء وأشرق نوره من سيعير واستعلى من جبال فاران"

المثال الثالث: قوله في التوراة: "جاء الله تعالى من طور سَيْناء، وأشرق نوره من سيعير، واستعْلَن من جبال فاران، [176 ب] ومعه ربوات المقدسين". وهم يعلمون أن جبل سيعير هو جبلُ السَّرَاةِ، الذي يسكنه بنو العيص، الذين آمنوا بعيسى، ويعلمون أن في هذا الجبل كان مقام المسيح، ويعلمون أن سيناء هو جبل الطور. وأما جبال فاران: فهم يحملونها على جبال الشام وهذا من بهَتهم وتحريف التأويل. فإن جبال فاران هي جبالُ مكة، وفاران اسمٌ من أسماء مكة، وقد دلّ على هذا نص التوراة: أن إسماعيل لما فارق أباه سكن في بَرّية فاران. ولفظ التوراة: "أن إسماعيل أقام في بريَّة فاران، وأنكحته أمُّه امرأةً من أرض مصر". فثبت بنصّ التوراة أن جبال فاران مسكن لولد إسماعيل، وإذا كانت التوراة قد أشارت إلى نبوةٍ تنزل على جبال فاران لزم أنها تنزل على ولد إسماعيل، لأنهم سُكَّانها. ومن المعلوم بالضرورة أنها لم تنزل على غير محمد- صلى الله عليه وسلم - من ولد إسماعيل عليه السلام. وهذا من أظهر الأمور بحمد الله تعالى.

فصل: ومما يدل على غلظ أفهام هذه الأمة: أنهم يحرمون طبخ لحم الجدي بلبن أمه، لعدم فهمهم للنص

فصل ومما يدلّ على غَلَط أفهام هذه الأمة الغضبية، وقلّة فقههم، وفسادِ رأيهم وعقو لهم كما جاء في التوراة: "أنهم شعبٌ عادمو الرأي، وليس فيهم فطانة" أنهم سمعوا في التوراة: "بكور ثمار أرضك تُحمَلُ إلى بيت الله ربِّك، ولا يُنْضَج الجديُ بلبن أمّه". والمراد من ذلك: أنهم أُمروا عَقِيب افتراض الحج إلى بيت المقدس عليهم أن يستصحبوا معهم إذا حَجُّوا أبكار أغنامهم، وأبكار مُسْتَغلّات أرضهم، لأنه كان فُرض عليهم قبل ذلك أن تبقى سُخولة البقر والغنم وراء أمّها سبعة أيامٍ، وفي اليوم الثامن فصاعدًا يصلُح أن تكون قُرْبانًا، فأشار في هذا النص بقوله: "لا يُنْضَجُ الجديُ بلبن أمّه" إلى أنهم لا يُبَالغون في إطالة مُكثِ باكور أولاد البقر والغنم وراء أمهاتها، بل يَسْتصحبون أبكارهن اللاتي قد عبرن سبعة أيام منذُ ميلادهن معهم، إذا حجوا إلى بيت المقدس، ليتخذوا منها القرابين. فتوهَّم المشايخ البُلْهُ أن الشرع يريد بالإنضاج: إنضاج الطبيخ في القِدْر، وأنهم نُهوا أن يطبخوا لحم الجدي باللبن. ولم يَكْفِهم هذا الغلط، حتى حرَّموا أكل سائر اللُّحْمان باللبن، فألغوا لفظ "الجدي"، وألغوا حليب "أمه"، وحمَّلوا النص ما لا يحتمله، وإذا أرادوا أن يأكلوا اللحم واللبن أكلوا كلًّا منهما على حِدة. والأمر في هذا ونحوه قريبٌ.

فصل: ولا يستبعد اصطلاح كافة هذه الأمة على المحال، لأن دولتهم انقرضت، وتتابعت عليهم الغارات

فصل ولا يُسْتبعدُ اصطلاح كافة هذه الأمة على المحال، واتفاقهم على أنواع من الضلال: فإن الدولة إذا انقرضت عن أمة باستيلاء غيرها عليها، وأخذها بلادها انطمست معالم دينها، واندرست آثارها. فإن الدولة إنما يكون زوا لها بتتابع الغارات والمصافّات، وإخراب البلاد وإحراقها، ولا تزال هذه الأمور متواترة عليها إلى أن يعود علومها جهلاً، وعِزها ذُلًّا، وكثرتها قلة، وكلما كانت الأمة أقدم، واختلفت عليها الدول المتناولة لها بالذُلّ والصّغار، كان حَظّها من اندراس معالم دينها وآثارها أوفر. وهذه الأمة أوفر الأمم حظًّا من هذا الأمر، لأنها من أقدم الأمم، ولكثرة الأمم التي استولت عليها: من الكشدانيين، والكلْدانيين، والبابليين، والفرس، واليونان، والنصارى، وآخر ذلك المسلمون. وما من هذه الأمم إلا من طلب استئصالهم، وبالغ في إحراق بلادهم وكتبهم، وقطع آثارهم، إلا المسلمين، فإنهم أعدل الأمم فيهم وفي غيرهم، حفظًا لوصية الله لهم، حيث يقول: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ لِلَّهِ شُهَدَاءَ بِالْقِسْطِ وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلَّا تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى} [المائدة: 8]. وصادف الإسلام هذه الأمة تحت ذِمّة الفُرس، وذمة النصارى، بحيث لم يَبْقَ [177 أ] لهم مدينة ولا جيش.

أعز ما صادفه الإسلام من هذه الأمة يهود خيبر والمدينة

وأعزّ ما صادفه الإسلام من هذه الأمة: يهود خيبر، والمدينة، وما جاورها. فإنهم إنما قصدوا تلك الناحية لما كانوا وُعِدُوا به من ظهور رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بها، وكانوا يقاتلون المشركين من العرب، فيستنصرون عليهم بالإيمان برسول الله - صلى الله عليه وسلم - قبل ظهوره، ويَعِدُونهم بأنه سيخرج نبيٌّ نتَّبعه، ونقتلكم معه قتلَ عادٍ وإِرَمَ. فلما بعث الله عز وجل نبيَّه- صلى الله عليه وسلم - سبقهم إليه من كانوا يحاربونهم من العرب، فحملهم الحسد والبغي على الكفر به وتكذيبه. وأشدُّ ما على هذه الأمة من ذلك ما نالهم من ملوك العصاة، وغيرهم من ملوك الإسرائيليين الذين قتلوا الأنبياء، وبالغوا في تطلُّبهم، وعبدوا الأصنام، وأحضروا من البلاد سَدَنتها ليعلِّموا رسومها في العبادة، وبنوا لها البِيَع والهياكل، وعكفوا على عبادتها، وتركوا أحكام التوراة أعصارًا متصلة. فإذا كان هذا تواتُر الآفات على دينهم من قبل ملوكهم، فما الظن بالاَفات التي نالتهم من غير ملوكهم، وإحراقهم كتبهم، ومنعهم من القيام بدينهم؟ فإن الفرس كثيرًا ما منعوهم من الختان، وكثيرًا ما منعوهم من الصلاة، لمعرفتهم بأن معظم صلاة هذه الطائفة دعاءٌ على الأمم بالبوار، وعلى العالم بالخراب. فلما رأت هذه الأمة الجِدّ من الفرس في منعهم من الصلاة، اخترعوا أدعية سموها الحَزَّانة، وصاغوا لها ألحانًا، وصاروا يجتمعون في أوقات صلواتهم على تلحينها وتلاوتها، وسمَّوا القائم بها الحَزَّان.

ابتداعهم الحزانة بدل الصلاة

والفرق بينها وبين الصلاة: أن الصلاة بغير لحن، والمصلي يتلو في الصلاة وحده، ولا يجهر معه غيره، والحزّان يشاركه غيره في الجهر بالحزَّانة، ويعاونونه في الألحان. وكانت الفرس إذا أنكرت ذلك منهم قالت اليهود: إنا نغني (¬1) أحيانا، وننوح على أنفسنا، فيتركونهم وذلك. فلما قام الإسلام، وأقرّهم على صلواتهم، استصحبوا تلك الحَزَّانة، ولم يعطِّلوها. فهذه فصولٌ مختصرةٌ في كيد الشيطان وتلاعبه بهذه الأمة، يَعْرِفُ بها المسلمُ الحنيفُ قَدْرَ نعمة الله عز وجل عليه، وما مَنّ به عليه من العلم والإيمان، ويهتدي بها من أراد الله تعالى هدايته من طالبي الحق من هذه الأمة. وبالله التوفيق (¬2). ¬

_ (¬1) م: "نعير". والمثبت من الأصل وباقي النسخ. (¬2) في خاتمة نسخة الأصل: "تم الكتاب بحمد الله وعونه وحسن توفيقه بمنّه وكرمه، وصلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلَّم تسليمًا. وقد اتفق الفراغ من نسخه في يوم الأربعاء العشر الأول من شهر الله الحرام رجب المرجب سنة ثمان وثلاثين وسبع مئة الهجرية. والحمد لله أولًا وآخرًا ظاهرًا وباطنًا، وصلاته تترى على سيد المرسلين وإمام المتقين ورسول رب العالمين، محمد المصطفى الأمين وعلى جميع إخوانه من الرسل والنبيين، وعلى آله وصحبه أجمعين، وحسبنا الله ونعم الوكيل. على يد العبد الضعيف المحتاج إلى رحمة الله تعالى إبراهيم بن حاجي سليمان بن محمد بن يحيى ... غُفر له ولوالديه".

§1/1