إغاثة اللهفان في حكم طلاق الغضبان ط عالم الفوائد
ابن القيم
مؤسسسة سليمان بن عبد العزيز الراجحي الخيرية حقوق الطبع محفوظة لمؤسسة سليمان بن عبدالعزيز الخيرية الطبعة الأولى 1425 دار عالم الفوائد للنشر والتوزيع مكة المكرمة ص. ب 2928 هاتف 5505305 فاكس 5542309 الصف والإخراج: دار عالم الفوائد للنشر والتوزيع
مقدمة التحقيق
مقدمة التحقيق اللهم لك الحمد كما ينبغي لجلال وجهك وعظيم سلطانك، حمدًا كثيرًا طيبًا مباركًا فيه، اللهم أهدنا لما اختُلِفَ فيه من الحق بإذنك. أما بعدُ؛ فإن تحريرَ مسائل العلم وتنقيحَها من المطالب الكبار التي لا ينهض بها إلا من رسخت في العلم قدمُه، وطالت له مصاحبتُه، مستبطنًا لدخائله، مستقرئًا لدقائقه، مستخرجًا لمخبَّآته، غائصًا على أسراره. ولا يُسابِق فيها إلا ضليعٌ، طابَ بالدليلِ مشربُه، وزكا بالاتباع غَرسه، وكان له من رُوحه المؤمنة مَعِينٌ لا يَنْضب، ومن نفسه التوَّاقة رِفْدٌ لا ينتهي. نعم، ولا تَهْتزّ لها إلا نفوسٌ عَشِقَت العلم، وأنِفَتْ من مَعرَّة الجهل، وسئمت تِيْهَ الحَيْرهَ، وغصَّت بمرارة الخطأ، وتَسامَتْ عن هَوان التبعية لغير الحق، ولم تَرْضَ بدلًا ببَرْدِ اليقين، وعِزِّ الثقة، ولذَّة الإصابة، وراحةِ التوفيق، وطمأنينة النَّجاح. وهذه الرسالة التي بين يديك ثمرةٌ يانعةٌ من ثمار التحرير والتنقجح، أنضجَها صدقُ الطَّلب وصحةُ العزم، وروَّاها طولُ التأمُل وحُسنِّ التأتِّي، ورَعَاها لزومُ الجادَّةِ وسلامةُ المنهج. وهي لأحد أولئك الأفراد الذين ازدانت بهم سماءُ العلم، وأشرقت بضيائهم شمسُ التحقيق، وكان له في هذا الباب مقامُ صِدْقٍ
مشهود: الإِمام العلم ابن قيم الجوزية -رحمه الله تعالى-. إذَا ذُكِر الأحبارُ في كل بلدةٍ ... فهم أنجمٌ فيها وأنت هلالُها وإنك لواجدٌ فيها من دقيقِ البحث، وعظيمِ التجرُّد، ما يملأ قلبك رضًا وطمأنينة، وما عسى ألا تقف عليه في موضعٍ آخر إن شاء الله. فدُونكها .. موردًا عذبًا لم تكدِّرْهُ العصبيَّة، ولا شابَتْه حميَّةٌ لغير ما اقضتهُ قواعدُ الشريعة، وهَدَتْ إليه نصوصُ الوحي. فَرِدْه، وانظر لنفسك، وتَبَصَّرْ, لتستوثق لعلمك، وسافر بهمَّتك في طلب الحق، وانْشُدْهُ كما تنشدُ عزيزًا فقدتَه، فإذا عرفته فالْزمْهُ، فعمَّا قليلٍ تَحْمدُ صُنعك.
دراسة الرسالة، والتعريف بها: * اسمها. * نسبتها إلى المصنف: * تاريخ تصنيفها: * موضوعها ومنهج المصنف فيها: * الثناء عليها: * طبعاتها. * الأصل الخطي المعتمَد عليه: * عملي في إخراجها:
اسم الرسالة
اسم الرسالة ليس في الأصل الخطيِّ الذي اعتمدتُه إشارةٌ إلى تسمية الرسالة، مِن كلام المصنف، لا في صدرها ولا في خاتمتها ولا في أثنائها. وإن كان الظاهر أن الاسم الذي أثبته الناسخ على ظهرها: "إغاثة اللهفان في حكم طلاق الغضبان"، هو الاسم الذي ارتضاهُ المصنف لها, ولعله كتبه على ظهر نسخته؛ ويدلُّ عليه أنه ذكرها به في كتابه الآخر "مدارج السالكين" (3/ 308) (¬1). وقد عرفها العلماء بهذا الاسم كما سيأتي في تثبيت نسبتها إلى المصنف. ورفعًا للالتباس، ودفعًا للوهم، وميلًا إلى الاختصار؛ دعاها بعضُ أهل العلم: "الإغاثة الصغرى" (¬2)، تفريقًا بينها وبين "الإغاثة الكبرى": "إغاثة اللهفان من مصايد الشيطان". ويُلاحَظ أن في العنوان الذي اختاره المصنف لهذه الرسالة إيماءً إلى الغرض الذي حمله على تأليفها، وهو إغاثة الملهوف الذي بدرت منه كلمةُ الطلاق حالَ غضبه، غيرَ قاصدٍ قراقَ زوجه = بحسب يُسَكِّن ¬
فؤاده، ويَرْبِط على قلبه، ويحميه عن التعرُّض لسخط الله، بالتردِّي في التحليل المحرَّم، فيما إذا قيل بوقوع طلاقه (¬1). ¬
نسبة الرسالة إلى المصنف
نسبة الرسالة إلى المصنف هذه الرسالة ثابتةُ النِّسبة إلى ابن القيم -رحمه الله تعالى-، دونما شك أو ريب. ودلائلُ ذلك متوافرة، يأخذ بعضها برقاب بعض، فمن ذلك: 1 - ذِكْرُ ابن القيم لها في بعض كتبه؛ كما في "مدارج السالكين" (3/ 308). 2 - نقلُ العلماء عنها؛ فقد نقل منها -مصرِّحًا باسمها العَلَميِّ، ونسبتها إلى ابن القيم- الشيخ مصطفى الرحيباني (ت: 1243) في كتابه "مطالب أولي النهي في روح غاية المنتهى" (5/ 322 - 323) وعنه نقل ابن عابدين (ت: 1252) في حاشيته "رد المحتار على الدر المختار" (3/ 257). 3 - تسميةُ بعض مترجمي ابن القيم لها ضمن سيادق تصانيفه؛ كما صنع ابن العماد في "شذرات الذهب" (8/ 290). 2 - ثبوت نسبتها إلى ابن القيم على ظهر النسخة الخطية المكتوبة سنة 885، وهي بخط أحد المشتغلين بالعلم. 5 - توافق كثيير من مباحثها، واختياراتها، مع ما هو موجود في مصنفات ابن القيم الأخرى. 6 - أسلوبُ ابن القيم الذي لا يخفى على من عانى قراءة مصنفاته ظاهرٌ الظهورَ كلَّه في هذه الرسالة.
تاريخ تصنيف الرسالة
تاريخ تصنيف الرسالة ليس بين يديَّ ما أستطيع به أن أجزم أو أقرِّب العلمَ بتاريخ كتابة المصنف لرسالته هذه. إلا أنه أشار إليها في كتابه "المدارج"، كما أشار فيه إلى غير ما كتابٍ من كتبه؛ فهي متقدِّمةٌ عليه في الغالب. وهذا وإن كان مفيدًا، إلا أنه -كما ترى- ليس يذي بالٍ في تحديد تاريخ التصنيف. فإذا نظرنا إلى طريقة أين القيم في معالجة موضوع الرسالة, وما حشده فيها من أنواع الدلائل، وقرَّره خلالها من لطائف الحُجج، وروائع الاستنباط، وقارنَّاها بالمواضع التي تعرَّض فيها لهذه المسألة في كتبه = فقد يتراءى لنا تأخُّر هذه الرسالة عنها, لظهور ابن القيم في رسالته هذه وقد استولى على الأمد، وأوفى على الغاية، واستقرَّت في يده أدواتُ المجتهد، وقويت ثقتُه باختياراته. وهذه المحجَّةُ في استكناه التاريخ, وإن كانت رائقة في مرأى العين، فهي مظنةُ الزلل؛ فلا تملأ منها يديك.
موضوع الرسالة، ومنهج المصنف فيها
موضوع الرسالة، ومنهج المصنف فيها أما موضوعُها، فهو -في الأصل-: حكمُ طلاق الغضبان، هل يقع أم لا؟. واختار المصنف عدم الوقوع بشرطه الآتي. وقد أشار -وهو بسبيل الاحتجاج لقوله في هذه الرسالة- إلى مسائل أخرى في الطلاق وغيره، مستشهدًا، ومفرِّقًا، ومقارنًا. ولما كان الإجمالُ والإيهامُ من مواردِ الغلط، ومظانِّ الالتباس والوهم، وكان التفصيل والتبيينُ من معالمِ طريقة المصنف في تناول مسائل العلم في عامة تصانيفه = حرص - في مواطن مختلفة من هذه الرسالة - على تحرير موضع النِّزاع، وتحديدِ مراده بالغضبان الذي يختار عدم وقوع طلاقه، وأبدأ في ذلك وأعاد. أما تحريرهُ لموضع النزاع؛ ففي تفصيله لأقسام الغضب، وما يلزم على كل قسمٍ من نفوذ الطلاق والعقود، وبيانِه أن القسمين الأولَيْنِ مما لا يتوجَّه فيه الخلاف، وإنما الشأن في القسم الثالث (¬1). وأما تحديدُه للغضبان الذي يذهب إلى عدم وقوع طلاقه، فقد قام على أمرين: الأول: النظر إلى قصدِ القلب للطلاق، وعدمِه. قال: "لا كلام في الغضبانِ العالمِ بما يقول، القاصدِ المختارِ لحكمه، دفعًا لمكروه البقاء مع الزوجة، وإنما الكلام في الذي اشتد ¬
غضبه حتى ألجأه الشيطان إلى التكلُّم بما لم يكن مختارًا للتكلُّم به ... " (¬1). ومثَّل للأول: بمن زنت امرأته، فغضب، فطلقها؛ لأنه لا يرى المُقام مع زانية، فلم يقصد بالطلاق إطفاء نار الغضب، بل التخلص من المقام معها، فهذا يقع طلاقه (¬2). وقال: "إن لو لم يقع هذا الطلاق لم يقع أكثرُ الطلاق؛ فإنه غالبًا لا يقع مع الرضا" (¬3). ومثَّل للثاني: بمن خاصمته امرأته وهو يعلم من نفسه إرادة المقام معها على الخصومة وسوء الخُلُق، ولكن حمله الغضب على أن شفى نفسه بالتكلُّم بالطلاق، كسرًا لها وإطفاءً لنار غضبه (¬4). فهذا الذي لا يقع طلاقه. فكلامه إنما هو في "الغضبان الذي يكره ما قاله حقيقة" (¬5). وهو يعتبر هذا الفرق بين الصورتين هو حرف المسألة ونكْتتها. الثاني: الوقوفُ على مرتبة الغضب ودرجته. ¬
فالغضب الذي يقصده هو ما منع الغضبان كمالَ التصوُّر والقصد، فليس هو غائب العقل بحيث لا يفهم ما يقول بالكلية، ولا هو حاضر العقل بحيث يكون قصده معتبرًا (¬1). فأما من حصلت له مبادئ الغضب وأوائله، بحيث لا يتغير عليه عقله وذهنه، ويعلم ما يقول ويقصده؛ فهذا لا إشكال في وقوع طلاقه. وكذا من بلغ به الغضب نهايته، بحيث ينغلق عليه باب الإرادة والعلم، فهذا لا يتوجَّه خلافٌ في عدم وقوع طلاقه (¬2). فتبيَّن بهذا أن المعَوَّلَ عليه عند ابن القيم لعدم وقوع طلاق الغضبان ليس هو الغضب، وحده، بل لا بُدَّ صلى اجتماع أمرين: غضبٍ يُغمِي عن كمال التصوُّر، وعدمِ قصدٍ من القلب لإيقاع الطلاق. والمرءُ يُدَيَّنُ في ذلك (¬3). فالغضبان الذي لا يقع طلاقه عنده هو من توفر فيه الأمران، وما عداه فواقعٌ طلاقُه. ومع هذا التفصيل والتحرير، أَجْمَلَ بعض الفقهاء مذهبَ ابن القيم في المسألة، وأطلق خلافه فيها. قال الشيخ مرعي الكرمي في "غاية المنتهى": ¬
"ويقع ممن أفاق من نحو جنونٍ وإغماءٍ فذكر أنه طلَّق، وممن غضب، خلافًا لابن القيم". فتعقبه شارحه الرحيباني بما ينفي إطلاق ابن القيم للقول بعدم وقوع طلاق الغضبان (¬1). وممن أجمل مذهب ابن القيم كذلك -دون أن يسميه-: الحافظ ابن حجر في "فتح الباري" (9/ 301)، ونسبه إلى بعض متأخري الحنابلة. ومن قبله. الحافظ ابن رجب في "جامع العلوم والحكم" (1/ 278). * ومن المعالم البارزة في منهج ابن القيم في تحرير مباحث رسالته هذه: 1 - عنايتُه البالغة بتحرير موضع الخلاف، وتحديدُ مقصودِه وقولِه بوضوح. كما تقدم شرحه. 2 - أحتفالُه بنصوص الوحي, تفقهًا، وتدبُّرًا, واستنباطًا. فَنزَعَ منها -نَزْعَ عبقريٍّ- دلائلَ وشواهد، لم أرها عند غيره، لما ذهب إليه في مسألة طلاق الغضبان. 3 - سَعَةُ دائرة اطلاعه على مذاهب العلماء وأقوالهم ومصنفاتهم، فضمَّن رسالته منع أقوال المتقدمين والمتأخرين من مختلف علماء المذاهب شيئًا كثيرًا، نصًّا وإشارةً، وقفتُ على بعضها بعد لأيٍ، ¬
وعجزت عن بعض. 4 - تمثُّلُه المدهش لعلوم الشريعة، أصولها وفروعها، فروقها ونظائرها، قواعدها وضوابطها، أسوارها ومقاصدها، واستثماره لذلك كله في تحقيق حكم الشارع في المسألة التي عقد لها هذه الرسالة. 5 - تجرُّده، وإنصافه، وحميَّته للحق، وسيره خلف ضياء الدليل المعصوم، ونبذه التعصُّب لآراء الرجال. 6 - تنوُّعُ أدلته، واستكثارُه من الحجَج والبراهين. 7 - يُسرُ عبارته، وسهولةُ لفظه، وتقيُّلُه أسلوب الكتاب والسنة.
الثناء عليها
الثناءُ عليها قال العلامةُ جمالُ الدين القاسمي عنها: "وهو كتاب نفيسٌ، يفيد الأمة فائدةً عظيمةً في المسألة المذكورة ... ، وكان الوالدُ -رحمه الله- يطالعُه دائمًا ويبتهجُ به" (¬1). وقال مرةً أخرى: "وكان الجدُّ والوالد -قدَّس الله روحهما- يطالعانها كثيرًا، بل إني شُغِفْتُ بها مِنْ صِغَري؛ لكثرة ما أرى الوالد ينظر فيها! " (¬2). وكما كان والدُ القاسميِّ وجدُّه حَفيَّيْنِ بها كان هو عظيمَ الإقبال عليها, ولئن كانا حريصَيْن على مطالعتها فلقد كان هو توَّاقًا إلى تعميم النفع بها (¬3)، ولذا لم يفتأَ من ذِكرها والإشادةِ بها في مجالسه ودروسه ورسائله إلى إخوانه. بعث إلى علامة العراق لعصره محمود شكري الآلوسي (ت: 1342) يحدِّثُه عنها، قائلًا. "إنها من النوادر المضنون بها" (¬4). ¬
وبلغ من شغفه بإذاعتها ونشرها أنه حين رأى الإعلان عن طباعتها على ظهر جزءٍ من مجلة "المنار" التي كانت تصدر لذلك العهد، لم يشعر -لِفرحه وابتهاجه - إلا وهو يكتبُ إلى صديقه العلامة الآلوسي يبشِّرُه، ويقول: " .... فالحمدُ لله على ما أنعم وتكرَّم، ونسأله سبحانه أن يوفِّق إخواننا لنشر أمثاله، وتعميم النفع بأشكاله" (¬1). وحين وقعت في يديه ملازمها الأولى كتب إلى الشيخ محمَّد نصيف (ت: 1391) يُسابِق قلمُه فرحَه: "تناولتُ أمس أوراق الملزمة الأولى من "إغاثة اللهفان"، وقد سُرِرْنا بالبشارة بطبعها؛ لِما أنها أنجحُ ما أُلّف للإصلاح في الزوجية والعائلات، وتحقيق أيمان الطلاقات؛ فإن سعادة الأمة في زيجتها هي معرفة الحالة التي تنحَلُّ بها العصمة قطعًا بلا خلاف، والحالةِ التي لا أثر لها في حَلِّ عصمة الزوجيّة ... ، وهذا الكتابُ نرجو منه تعالى أن ينبِّه المتفقِّهة والمُفتين على فيصل الحق في هذا الباب ... " (¬2). وقد حدَّث أخاه الآلوسي بالعناء الذي لقيه وهو بسبيل إعدادها للنشر، وتعزَّى بأن شغَفه بسرعة تنوير الأفكار، وتنبُّهِها إلى مراشدها، ممّا يُخفِّفُ تلك الصعوبات (¬3). ¬
طبعات الرسالة
طبعات الرسالة طُبِعت هذه الرسالة أولَ ما طُبِعت بعناية الشيخ العلامة جمال الدين القاسمي رحمه الله تعالى (ت: 1332)، بمطبعة المنار بمصر، سنة 1327 (¬1)، عن الأصل الخطي الذي كان في مكتبته الخاصة (¬2) , وهو الذي اعتمدتُ على مصوَّرته في هذه النشرة. وكُتِبْ على لوحة الكتاب: وقد عني بتصحيحه وتخريج أحاديثه وتعليق حواشيه الأستاذ الشيخ جمال الدين القاسمي الدمشقي. ووقف على تصحيح طبعه حسين وصفي رضا. ووجدتُ في آخر طبعة مكتبة الكليات الأزهرية -وهي مأخوذةٌ عن طبعة المنار- ما يلي: تم نسخًا على يد حامد بن أديب المتقي لقبًا الأثري مذهبًا في أواخر رمضان سنة 1327. وحامد التقي من تلاميذ القاسمي والآخذين عنه (¬3)، فيظهر أن القاسمي كلَّفه بنسخ الرسالة على الأصل المخطوط (¬4)، ثم تولى هو ¬
التعليق عليها، وربَّما مقابلتها. وفي آخر الرسالة تنبيهٌ من الواقف على تصحيحها على ما وقع فيها من أغلاطٍ طباعية. وقد جاءت هذه الطبعة مطابقة لأصلها الخطي تقريبًا، إلا في مواضع يسيرة، وهذا مما يُحْمدُ لَها، إلا أنها تابَعَتْة حتى فيما جانب الناسخ فيه الصواب, وضلَّ عنه قلمُه (¬1)، ولم تشِرْ إلى ذلك، ولا عَلَّقَتْ عليه، وقد كانت أحقَّ ببيان هذا وأهلَه. وتميَّزت هذه الطبعة بتعليقات العلامة القاسمي (¬2)، التي كتبها -في غالب الظن- قبل وفاته بخمس سنين، بعد ما اسْتَحْصَدَ زرعُه واستغلظ، وألقى عصاه واستقرَّ به النوى على المنهج الحقِّ في التلقِّي والتفقُه (¬3). وكانت هذه الطبعة أصلًا لما تلاها من طبعات: - طبعة مكتبة الكليات الأزهرية، بمصر. - وطبعة مطبعة الإِمام، بمصر. - وطبعة المكتب الإِسلامي ببيروت سنة 1406 بتصحيح محمَّد عفيفي، الذي أشغله تسويدُ التعليقات الطوال عن خدمة نصِّ الرسالة، بمقابلته على أصله الخطي، وتوثيق نقوله، وإضاءته بتعليقاتٍ كاشفةٍ مختصرة، وتذييله بفهارس هادية. ¬
وقد أُلحِق بطبعة القاسمي -فغالبِ ما تلاها- قصيدة طويلة لشاعر العراق معروف الرصافي، في الانتصاب لمذهب شيخ الإِسلام ابن تيمية وتلميذه ابن القيم في مسائل الطلاق، تصوِّرُ قصة رجل محبٍّ لزوجه، غاضبه رفقاؤُهْ يومًا، فحلف بطلاق امرأته ثلاثًا، نحنث، فأوقعها عليه بعض الفقهاء، فعاتبتة زوجهُ عتابًا مرًّا باكيًا. ثم التفت الشاعر إلى فقهاء عصره، فلامهم، وأشاد بابن القيم وبكتابه "إعلام الموقعين". ولم أر فيها إشارة لرسالتنا هذه، تسوِّغُ إلحاقها بها (¬1). ثم وقفتُ -بعد الفراغ من تحقيق الرسالة ومراجعتها- على طبعةٍ جديدة لها بتحقيق عمر بن سليمان الحفيان عن مؤسسة الرسالة ببيروت، سنة 1424 - 2004 م. وهي طبعةٌ جيدةٌ في الجملة، اعتمد المحققُ فيها على الأصل الخطِّي الذي اعتمدنا عليه، وأَثْبَتَ تعليقات الشيخين القاسمي وابن مانع في حواشيه، واعتنى بها عناية حسنة، ولم تخلُ من هناتٍ يسيرة لا يخلو من مثلها عملُ الحريص، ولا يحتملُ المقام ذكرها مفصَّلة، وقد نبَّهت عليها في موضعٍ آخر. ¬
الأصل الخطي المعتمد عليه
الأصل الخطيُّ المعتمد عليه اعتمدت في إخراج الرسالة على مصوَّرة الأصل الخطي الذي كان بمكتبة العلامة القاسمي، قبل أن يستقرَّ في مكتبة الملك فهد الوطنية بالرياض. وهو أصلٌ نادرٌ فريد (¬1). قال الشيخ عبد الله الرواف (ت: 1359) (¬2): إنه لا نظير له، ولا في خزائن كتب نجد (¬3). علَّقه فقير رحمة ربه الباري، محمد بْنِ عبد الله بن هشام الأنصاريّ (¬4)، في شهر شعبان سنة 885. ¬
وهو بخطِّ نسخيِّ واضح، ويقع في عشر ورقات، في كل ورقة صفحتان، في الصفحة نحو سبعة وعشرين سطرًا. وفي أسفل صفحة العنوان جوابٌ عن استفتاءٍ يتعلَّقُ بموضعٍ اختُلِفَ في حقِّ ملكيَّته، للشيخ نجم الدين الغيطي، وجماعة. وفي هذا الأصل بعض الأخطاء التي لا أدري أمردُّها إلى سهو الناسخ وعجلته، أم إلى سقم الأصل الذي ينقل عنه؟. وقد لقي العلامةُ القاسميُّ في تصحيحه -وهو يعِدُّه للنشر- عناء (¬1). وكتب بخطه الأنيق الفارسي المُنمنم بضْعَ تعليقات علي هذا الأصل، ثم تنفَّس فيها وزادها عند شروعه في طَبع الرسالة. وأتبتَ في خاتمتها تاريخ فراغه من نقلها (¬2)، وتصحيحها، وتعليق الحواشي عليها, في رمضان سنة 1327 (¬3). ¬
عملي في إخراج الرسالة
عملي في إخراج الرسالة 1 - كتبتُ تقدمة وجيزة في شرف وأهمية تنقيحِ العلوم، والتدقيقِ في تحرير مباحثها، وما حازتْهُ هذه الرسالة من ذاك الشرف. 2 - قدمت بين يدي الرسالة بدراسة وتعريفٍ مختصرَيْن حولها، من حيث اسمها، ونسبتها إلى المصنف، وتاريح تصنيفها، وموضوعها ومنهج المصنف فيها، وما ورد في الثناء عليها، وطبعاتها، والأصل الخطي الذي اعتمدتُه في إخراجها. 3 - قابلتُها بالأصل الخطي الذي وصفته آنفًا، وأثبتُّ ما في الأصل بعناية، وحيثما تبيَّن لي خطأ ناسخه خطأ لا أجد له وجهًا، أثبتُّ ما أراه أولى بالصواب، وأوفى بأداء حق المعنى والسياق، في المتن، ونبَّهتُ على ما في الأصل في الحاشية. وإن كان لما كتبه وجهٌ، وثَمَّ ما هو أقومُ منه، كتبت ما أراه الأولى في الحاشية وأبقيت الأصل على ما هو عليه. وأضفتُ بضع كلمات في مواطن مختلفة، اقتضاها السياق اقتضاءً لازمًا، وجعلتها بين معكوفين، ونبهتُ عليها في الحاشية غالبًا. 4 - قرأتُ النصَّ على مُكْثٍ، وأعدت ترقيمه وتوزيعه. 5 - عزوتُ الآيات القرآنية إلى سورها، وخرجتُ الأحاديث والآثار تخريجا موجزًا يفي بالمقصود.
6 - وثِّقتُ النقول, وآراء الفقهاء من مصادرها الأصلية (¬1). 7 - علَّقتُ تعليقاتٍ مختصرة على ما لاح لي حاجته إلى بيان. 8 - أثبتُّ جميع تعليقات العلامة القاسمي على طبعته، وختمتُها باسمه؛ تمييزًا لها عن تعليقاتي، وإن كانت تعليقاتُ الشيخ متميزة بنفسها، دالةً على مُنْشِئها، غيرَ مفتقرةٍ إلى تنبيه (¬2). كما أثبتُّ المهمَّ من تعليقات الشيخ محمَّد بن عبد العزيز بن مانع - رحمه الله- (ت: 1385) على نسخته الخاصة من مطبوعة القاسمي، المحفوظة بمكتبة الملك فهد الوطنية، برقم (208465) ونسبتُها إليه. وهي يسيرة. 9 - صنعتُ للرسالة فهارس لفظية (¬3) وعلميةً، تُقَرِّب فوائدها، وتُبرِز مخبَّآتها. والحمد لله رب العالمين. وكتب عبد الرحمن بن حسن بن قائد الريمي الأحد 16 من شهر رجب سنة 1424 مكة المكرمة -حرسها الله- ¬
نماذج من الأصل الخطِّي
صورة صفحة العنوان
صورة الصفحة الأولى
صورة الصفحة الأخيرة
آثار الإمام ابن قيم الجوزية وما لحقها من أعمال (6) إغاثة اللهفان في حكم طلاق الغضبان تأليف الإمام أبي عبد الله محمد بن أبي بكر بن أيوب ابن قيم الجوزية (691 هـ - 751 هـ) تحقيق عبد الرحمن بن حسن بن قائد إشراف بكر عبد الله أبو زيد تمويل مؤسسة سليمان بن عبد العزيز الراجحي الخيرية
مقدمة المصنف
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ الحمدُ لله الحكيم الكريم، العليِّ العظيم، السميع العليم، الرَّءوفِ الرحيم، الذي أَسْبَغ على عباده النِّعمة، وكتب على نفسه الرحْمة، وَضَمَّنَ الكتابَ الذي كَتَبه أن رحمته تَغْلِبُ غضبه، فهو أرحم بعباده من الوالدةِ بولدها، كما هو أشدُّ فرحًا بتوبة التائب مِنَ الفاقدِ لراحلته التي عليها طعامه وشرابه في الأرض المَهْلكة إذا وجدها. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له رب العالمين، وأرحمُ الراحمين، الذي تَعَرَّفَ إلى خلقه بصفاته وأسمائه، وتَحَجَّبَ إليهم بإحسانه وآلائه. وأشهد أنَّ محمدًا عبده ورسوله الذي خَتَم به النبيين، وأرسله رحمةً للعالمين، وبَعَثه بالحنيفيَّة السَّمحة والدين المُهَيْمِن على كُل دين، فَوَضَع به الآصارَ والأغلالَ، وأغنى بشريعته على طُرقِ المكر والاحتيال، وفَتَح لمن اعتصم بها طريقًا واضحًا ومنهجًا، وجعل لمن تمسَّك بها من كلِّ ما ضاق عليه فرجًا ومخرجًا. فعند رسول الله - صلى الله عليه وسلم - السَّعَهُ والرحمة، وعند غيره الشِّدة والنقمة، فما جاءه مكروبٌ إلا وَجَد عنده تفريجَ كربَتِه، ولا لهفان إلا وجد عنده إغاثة لَهْفته، فما فَرَّق بين زوجين إلا عن وَطَرٍ واختيار، ولا شتَّتَ شَمْلَ مُحبَّيْنِ إلا على إرادةٍ منهما وإيثار، ولم يُخَرِّبْ ديار المُحِبِّيْنِ بِغَلَطِ اللسان، ولم يُفَرِّقْ بينهم بما جرى عليه من غير قصدِ الإنساد، بل رفع المؤاخذةَ بالكلام الذي لم يَقْصِدْه المتكلِّم بل جرى على لسانه بحكم
حديث "لا طلاق ولا عتاق في إغلاق"
الخطأ والنسيان، أو الإكراه والسَّبْقِ [على] (¬1) طريق الاتفاق، فقال- فيما رواه عنه أهل السنن من حديث عائشة أم المؤمنين-: "لا طلاق ولا عَتَاق (¬2) في إغلاق" (¬3) رواه الإِمام أحمد، وأبو داود، وابن ماجه (¬4)، والحاكم في "صحيحه" وقال: "هذا حديث صحيح على شرط مسلم ¬
ولم يخرجاه" (¬1). ¬
تفسير الإغلاق
قال أبو داود: "في غِلاق" (¬1)، ثم قال: والغِلاقُ أظنه الغضب. وقال حنبل. سمعت أبا عبد الله - يعني أحمد بن حنبل - يقول: هو الغضب. ذكره الخلال [و] (¬2) أبو بكر عبدُ العزيز. ولفظ أحمد: يعني الغضب. قال أبو بكر: سألت أبا محمد (¬3)، وابن دريد (¬4)، وأبا عبد الله (¬5)، ¬
وأبا طاهرًا (¬1)، النحويين، عن قوله: "لا طلاق ولا عتاق في إغلاق". قالوا: يريد الإكراه! لأنه إذا أُكْرهَ انغلق عليه رأيه. ويدخل في هذا المعنى المُبَرْسَم (¬2) والمجنون. فقلت لبعضهم: والغضب أيضًا؟ فقال: ويدخل فيه الغضب؛ لأنَّ الإغلاق له وجهان: أحدهما الإكراه، والآخر ما دخل عليه مما ينغلق به رأيه عليه. وهذا مقتضى تبويب البخاري؛ فإنه قال في صحيحه: "بابُ الطلاق في إغلاق، والمكره (¬3)، والسكران، والمجنون" (¬4)، يُفَرِّقُ بين الطلاق في الإغلاق وبين هذه الوجوه. وهو أيضًا مقتضى كلام الشافعي؛ فإنه يُسَمِّي نذر اللَّجاج والغضب يمين الغلق ونذر الغَلَق (¬5)، هذا اللفظ يريد به نذر الغضب، وهو قول غير واحد من أئمة اللغة (¬6). ¬
أدلة عدم وقوع طلاق الغضبان
والقولُ بِمُوجبه هو مقتضى الكتاب، والسنة، وأقوال الصحابة، والتابعين، وأئمةَ الفقهاء، ومقتضى القياس الصحيح، والاعتبار، وأصول الشريعة. أما الكتاب، فمن وجوه: أحدها: قوله تعالى: {لَا يُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا كَسَبَتْ قُلُوبُكُمْ} [البقرة: 225]. قال ابن جرير في "تفسيره": حدثنا ابن وكيع، حدثنا مالك ابن إسماعيل، عن خالد, عن عطاء، عن وسيم، عن ابن عباس قال: "لغو اليمين أن تحلف وأنت غضبان" (¬1). حدثنا ابن حميد، حدثنا يحيى بن واضح، حدثنا أبو حمزة، عن عطاء، عن طاووس قال: "كلُّ يمينٍ حلف عليها رجل وهو غضبان, ¬
فلا كفارة عليه فيها، قوله: {لَا يُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ} (¬1) ". وهذا أحد الأقوال في مذهب مالك، أن لغو اليمين هو اليمين في الغضب (¬2)، وهذا اختيار أَجَلِّ المالكيةِ وأفضلِهم على الإطلاق وهو القاضي إسماعيل بن إسحاق، فإنه ذهب إلى أن الغضبان لا تنعقد يمينه (¬3). ¬
ولا تنافي بين هذا القولِ وبين قولِ ابن عباس وعائشة: "إن: لغو اليمين هو قول الرجل لا والله وبلى والله" (¬1)، وقولِ عائشة وغيرها: أيضًا "إنه يمين الرجل على الشيء يعتقده كما حلف عليه، فيتبين بخلافه" (¬2)؛ فإن الجميع من لغو اليمين، والذي فَسَّر لَغوَ اليمين بأنها: يمين الغضب يقول بِأنَّ النوعين الآخرَيْن من اللغو. وهذا هو الصحيح، فإن الله سبحانه جعل لغو اليمين مقابلًا لِكَسْب القلب، ومعلومٌ أن: الغضبانَ والحالفَ على الشيءِ يظنُّه كما حلف عليه، والقائلُ: لا والله وبلى والله -من غير عَقْدِ اليمين-، لم يَكْسِبْ قلبُه عقد اليمن، ولا قَصَدَها، واللهُ سبحانه قد رفع المؤاخذة بلفظٍ جَرَى على اللسان لم يَكْسِبْه القلبُ ولم يَقْصِدْه، فلا تجوز المؤاخذة بما رفع اللهُ المؤاخذةَ به، بل قد يقال: لغوُ الغضبان أظهرُ من لَغوِ القِسْمَيْن الأخيرَيْن؛ لما سيأتي بيانه إن شاء الله تعالى. ¬
الوجه الثاني
فصل الوجهُ الثاني من دَلالةِ الكتاب: قولهُ سبحانه: {وَلَوْ يُعَجِّلُ اللَّهُ لِلنَّاسِ الشَّرَّ اسْتِعْجَالَهُمْ بِالْخَيْرِ لَقُضِيَ إِلَيْهِمْ أَجَلُهُمْ فَنَذَرُ الَّذِينَ لَا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ (11)} [يونس: 11]. وفي تفسير ابن أبي نجيح عن مجاهد: هو قول الإنسان لولده وماله إذا غضب عليهم: "اللهم لا تبارك فيه، وَالْعَنْهُ"، فلو يعجل لهم الاستجابة في ذلك، كما يستجاب في الخير، لأهلكهم. انْتَهَض الغضبُ مانعًا من انعقاد سبب الدعاء الذي تأثيره في الإجابة أسرع من تأثير الأسباب في أحكامها، فإن الله سبحانه يجيب دعاء الصبيِّ، والسفيه، والمُبَرْسَم، ومن لا يَصِحُّ طلاقُه ولا عُقوده، فإذا كان الغضب قد منع كون الدعاء سببًا، لأنَّ الغضبان لم يَقصِدْهُ بقلبه، فإنَّ عاقلًا لا يختار إهلاك نفسه وأهله وذهاب ماله وقَطعَ يده ورجله وغير ذلك بما يدعو به، فاقتضت رحمة العزيز العليم أنْ لا يؤأخذَه بذلك، ولا يُجيب دعاءَه! لأنه عن غيرِ قصدٍ منه، بل الحاملُ له عليه الغضب الذي هو من الشيطان. فإن قيل: إن هذا ينتقض عليكم بالحديث الذي رواه أبو داود (¬1) ¬
عن جابر بن عبد الله عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنّه قال: "لا تدعوا على أنفسكم، ولا تدعوا على أولادكم، ولا على أموالكم، ولا تدعوا على خَدَمِكُم؛ لا توافقوا من الله ساعةً لا يُسأَلُ فيها شيئًا إلا أعطاه". قيل: لا تنافي بين الآية والحديث؛ فإن الآية اقتضت الفَرْقَ بين دعاءِ المُخْتارِ ودعاءِ الغضبان الذي لا يختار ما دعا به، والحديثُ دل على أن لله سبحانه أوقاتًا لا يَرُدُّ فيها داعيًا, ولا يُسْأَلُ فيها شيئا إلَّا أعطاه؛ فنهى الأمَّةَ أن يدعو أحدهم على نفسه أو أهله أو ماله، خشية أن يوافق تلك الساعة، فَيجَابُ له (¬1). ولا ريب أن الدعاء بالشرِّ كثيرًا ما يُجابُ، كالدعاء بالخير (¬2)، والإنسان يدعو على غيره ظلمًا وعدوانا [و] مع ذلك فقد يستجاب له، ولكنّ إجابةَ دعاء الخير من صفة الرحمة، وإجابةَ ضدِّه من صفة الغضب، والرحمةُ تغلب الغضب. والمقصودُ أن الغضبَ مُؤَثِّرٌ في عدم انعقاد السَّبب في الجملة. ومن هذا قوله تعالى: {وَيَدْعُ الْإِنْسَانُ بِالشَّرِّ دُعَاءَهُ بِالْخَيْرِ وَكَانَ الْإِنْسَانُ عَجُولًا (11)} [الإسراء: 11] وهو الرجل يدعو على نفسه وأهله بالشر في حال الغضب. ¬
الوجه الثالث
فصل الوجه الثالث: قوله تَعالى: {وَلَمَّا رَجَعَ مُوسَى إِلَى قَوْمِهِ غَضْبَانَ أَسِفًا قَالَ بِئْسَمَا خَلَفْتُمُونِي مِنْ بَعْدِي أَعَجِلْتُمْ أَمْرَ رَبِّكُمْ وَأَلْقَى الْأَلْوَاحَ وَأَخَذَ بِرَأْسِ أَخِيهِ يَجُرُّهُ إِلَيْهِ قَالَ ابْنَ أُمَّ إِنَّ الْقَوْمَ اسْتَضْعَفُونِي وَكَادُوا يَقْتُلُونَنِي فَلَا تُشْمِتْ بِيَ الْأَعْدَاءَ وَلَا تَجْعَلْنِي مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (150)} [الأعراف: 150]. ووجه الاستدلال بالآية أن موسى صلوات الله عليه لم يكن لِيُلْقي ألواحًا كتبها الله تعالى، فيها كلامه، مِنْ على رأسه إلى الأرض، فيكسوها = اختيارًا منه لذلك، ولا كان فيه مصلحةٌ لبني إسرائيل، ولذلك جَرَّة بلحيته ورأسه (¬1)، وهو أخوه، وإنما حمله على ذلك الغضب، فَعَذَرهُ اللهُ سبحانه به، ولم يَعْتَبْ عليه بما فعل؛ إذْ كان مصدرُه الغضبَ الخارجَ عن قدرة العبد واختياره، فالمُتَوَلِّدُ عنه غيرُ منسوب إلى اختيارهِ ورضاهُ به. يوضِّحُه: الوجه الرابع: وهو قوله: {وَلَمَّا سَكَتَ عَنْ مُوسَى الْغَضَبُ أَخَذَ الْأَلْوَاحَ} [الأعراف: 154]. فعَدَلَ سبحانه عن قوله: "سَكَن" إلى قوله: {سَكَتَ}؛ تنزيلًا للغضب منزلة السلطان الآمر الناهي، الذي يقول لصاحبه: افعل، لا تفعل. فهو مستجيب لداعي الغضبِ الناطقِ فيه، المتكلِّم على لسانه، ¬
الوجه الخامس
فهو أولى بِأَن يُعذرَ من المُكْرَهِ الذي لم يَتسلط عليه غضبٌ يأمُره وينهاه، كما سيأتي تقريره بعد هذا إن شاء الله. وإذا كان الغضبُ هو الناطق على لسانه، الآمر الناهي له، لم يكن ما جَرى على لسانه في هذه الحال منسوبًا إلى اختياره ورضاه، فلا يتم من عليه أثره (¬1). الوجه الخامس: قوله تعالى: {وَإِمَّا يَنْزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطَانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ} [الأعراف: 200] في ثلاثة مواضع من القرآن (¬2). وما يتكلمُ به الغضبان في حال شدة غضبه، مِن طلاقٍ أو شتمٍ ونحوه، هو من نزغات الشيطان، فإنه يُلجئُه إلى أن يقول ما لم يكن مختارًا لقوله، فإذا سُرِّيَ عنه عَلِم أن ذلَك مِنْ إلقاء الشيطان على لسانه، مِمَّا لم يكن بِرَضاهُ واختيارِه. والغضب من الشيطان، وأثرُه منه، كما في الصحيح أن رجلين اسْتبّا عند النبي - صلى الله عليه وسلم - حتى احْمَرَّ وَجْهُ أحدهما وانتفخت أوداجه، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: "إني لأعلم كلمة لو قالها لذهب عنه ما يجد: أعوذ بالله من ¬
الشيطان الرجيم" (¬1). وفي السنن أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "إن الغضب من الشيطان، وإن الشيطان من النار، وإنما تطْفَأ النار بالماء، فإذا غضب أحدكم فليتوضأ" (¬2). وإذا كان هذا السببُ وأثرُه من إلجاء الشيطان، لم يَكُنْ من اختيار العبد؛ فلا يترتب عليه حكمُه. ¬
دلالة السنة
فصل فأما دلالة السُّنّة فمن وجوه (¬1): أحدها: حديث عائشة المتقدم، وهو قوله: "لا طلاق ولا عتاق في إغلاق". وقد اخْتلفَ في الإغلاق (¬2)، فقال أهل الحجاز: هو الإكراه ¬
وقال أهل العراق: هو الغضب، وقالت طائفة: هو جَمْعُ الثلاث بكلمة واحدة حكى الأقوال الثلاثة صاحب كتاب "مطالع الأنوار" (¬1). وكأن الذي فَسَّره بجمع الثلاث أخذه من التغليق، وهو أن المطلِّق غلق طلاقه كما يغلق صاحب الدين ما عليه، وهو مِنْ غلق الباب، فكأنه أغلق على نفسه باب الرحمة بجمعه الثلاث، فلم يجعل له الشارع ذلك، ولم يُملِّكْهُ إيَّاهُ، رحمة به، إنما مَلَّكه طلاقًا يَمْلِكُ فيه الرَّجْعَة بعد الدخول، وحَجَر عليه في وقته، وَوَضْعِه، وقَدْره: فلم يُملِّكْهُ إياه في وقت الحيض، ولا في وقت طهرٍ جامعها فيه. ولم يُملِّكْه أن يُبينها بغير عِوَضٍ (¬2) بعد الدخول، فيكون قد غَيَّر صفة الكلام، وهذا عند الجمهور، فلو قال لها: أنت طالقٌ طلقةً لا رجعة لي فيها، أو طلقة بائنةً = لغى ذلك، وثبت (¬3) له الرجعة. ¬
وكذلك لم يمَلِّكْهُ جَمع الثلاث في مرة واحدة. بل حجر عليه في هذا وهذا وهذا، وكان ذلك منْ حُجَّةِ مَنْ لم يُوقع الطلاق المُحرَّم، ولا الثلاث بكلمة واحدة (¬1)، لأنه طلاقٌ محجورٌ على صاحبه شرعًا، وحَجْرُ الشارع يَمْنع نفوذ التصرُّف وصِحَّتَه، كما يَمْنَع نفوذ التصرُّف في العقود المالية. فهذه حُجَّةٌ من أكثر من ثلاثين حجة ذكرها على كلام وقوع الطلاق المحجور على المطلِّقِ فيه. والمقصود ها هنا أن هؤلاء فسَّروا الإغلاق بجَمع الثلاث؛ لكونه أغلق على نفسه باب الرحمة الذي لم يُغْلِقه اللهُ عليه إلا في المرة الثالثة. وأما الآخرون فقالوا: الإغلاق مأخوذ من إغلاق الباب، وهو إرتاجُه وإطباقه، فالأمرُ المُغْلَقُ ضدَّ الأمر المُنْفَرِج، والذي أُغلِقَ عليه الأمر ضد الذي فُرِجَ له وفُتِحَ عليه، فالمكْرَهُ (¬2) الذي أُكْره على أمرٍ إن لم يفعله وإلا حَصَل له من الضرر ما أكره إليه (¬3) = قد أُغلِقَ عليه بابُ القصد والإرادةِ لِما أُكْرِه عليه، فالإغلاق في حقه بمعنى إغلاق أبوابِ ¬
القصد والإرادة له، فلم يكن قلبه منفتحًا لإرادة القول والفعل الذي أُكْرِه عليه، ولا لاختيارِهما، فليسَ مُطْلَقَ (¬1) الإرادة والاختيار, بحيث إن شاء طَلَّقَ وإن شاء لم يُطَلِّقْ، وإن شاء تكلَّم وإن شاء لم يتكلَّم، بل أُغْلِق عليه بابُ الإرادة إلا لِلَّذي قد أُكْرِهَ عليه. ولهذا قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: "لا يقل أحدكم: اللهم اغفر لي إن شئت، اللهم ارحمني إن شئت، ولكنْ لِيَعْزِمْ المسألة؛ فإن الله لا مكْرِه له" (¬2). فبيَّن النبي - صلى الله عليه وسلم - أن الله لا يفعل إلا إذا شاء، بخلاف المكرَه الذي يفعل ما لا يشاؤه، فإنه لا يُقال: يَفْعَل ما يشاء، إلا إذَا كان مُطْلَق الدواعي، وهو المختار، فأما من أُلْزِمَ بفعل معيَّن، فلا. ولهذا يُقال: المكرَه غير مختار. ويُجْعَلُ قَسِيم المختار، لا قِسْمًا منه. ومَنْ سَمَّاهُ مختارًا فإنه يعني أن له إرادة واختيارًا بالقصد الثاني، فإنه يُرِيد الخَلاصَ من الشرّ، ولا خلاص له إلا بفعل ما أُكرِهَ عليه، فصار مريدّا له بالقصد الثاني لا بالقصد الأول. والغضبان الذي يمنعه الغضب من معرفةِ ما يقولُ وقصدِه، فهذا مِنْ أعظم الإغلاق، وهو في هذا الحال بمنزلة المبَرْسَمِ والمجنون والسكران، بل أسوء حالًا من السكران؛ لأن السكران لا يقتل نفسه، ولا يلْقِي ولده من علو، والغضبان يفعل ذلك، وهذا لا يتوجَّه فيه نزاعٌ أنه لا يقع طلاقه، والحديثُ يتناول هذا القسم قطعًا. ¬
وحينئذٍ، فنقول: الغضبُ ثلاثة أقسام (¬1): أحدها: أن يحصل للإنسان مبادئه وأوائله، بحيث لا يتغيَّر عليه عقله، ولا ذهنه، ويَعْلَمُ ما يقول ويقصده، فهذا لا إشكال في وقوع طلاقه، وعتقهِ، وصحة عقوده، ولا سيما إذا وقع منه ذلك بعد تردُّدِ فِكْره. القسم الثاني: أن يبلغ به الغضب نهايته، بحيث يَنْغَلِقُ عليه بابُ العلم والإرادة، فلا يعلم ما يقول ولا يريده، فهذا لا يتوجَّهُ خلافٌ فْي عدم وقوع طلاقه، كما تقدم. والغضبُ غولُ العقل (¬2)، فإذا اغتال الغضبُ عقله حتى لم يعلم ما يقول، فلا ريب أنه لا ينفذ شيء من أقواله في هذه الحالة، فإن أقوال ¬
الوجه الثاني
المكلف إنما تنفُذ مع علم القائل بصدورها منه، ومعناها، وإرادته للتكلم بها. فالأول يُخْرِجُ النائم، والمجنون، والمبَرْسَم، والسكران، وهذا الغضبان. والثاني: يُخْرِجُ من تكلم باللفظ وهو، يعلم معناه البتة، فإنه لا يلزم مقتضاه. والثالث: يُخْرِجُ من تكلم به مُكْرَها، وإن كان عالمًا بمعناه. القسم الثالث: من تَوَسَّط في الغضب بين المرتبتين، فتعدى مبادئه، ولم ينتَهِ إلى آخره بحيث صار كالمجنون، فهذا مَوْضِعُ الخلاف، ومحلُّ النظر. والأدلةُ الشرعية تدلُّ على عدم نُفوذ طلاقه، وعتقه، وعقوده التي يُعْتبر فيها الاختيار والرضا، وهو فرعٌ من الإغلاق، كما فسَّره به الأئمة، وقد ذكرنا دلالة الكتاب على ذلك من وجوه. وأما دَلالة السنة، فَمنْ وجوه: أحدها: حديث عائشة، وقد تقدَّم ذِكرُ وجه دَلالته (¬1). الثاني: ما رواه أحمد والحاكم في مستدركه من حديث عمران بن حصين قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "لا نَذْرَ في غضب، وكفارتُه كفارة ¬
يمين" (¬1) , وهو حديث صحيح، وله طرق. وجهُ الاستدلال به: أنه - صلى الله عليه وسلم - ألغى وجوبَ الوفاء بالنذر إذا كان في حال الغضب، مع أن الله سبحانه وتعالى أثنى على المُوفِين بالنذور، وأَمرَ النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - الناذرَ لطاعة الله بالوفاء بنذره، وقال: "من نذر أن يطيع الله فَلْيُطِعْهُ، ومن نذر أن يعصيه فلا يعْصِهِ" (¬2). فإذا كان النذرُ الذي أثنى الله على مَنْ أوفى به، وأَمَرَ رسولُة بالوفاء بما كان مِنْهُ طاعةً = قد أَثَّر الغضبُ في انعقاده، لِكَوْنِ الغضبان لم ¬
الوجه الثالث
يقصده، وإنما حَمَله على إتيانِه (¬1) الغضب = فالطلاقُ بطريق الأولى والأخري. فإن قيل: فكيف رُتِّب عليه كفارة اليمين؟ قيل: ترَتُّبُ الكفارة عليه لا يدلُّ على تَرتُّب مُوجَبه ومقتضاه عليه، والكفارةُ لا تستلزم التكليف، ولهدا تجب في مال الصبىِّ والمجنون إذا قتلا صيدًا أو غيره، وتجب على قاتل الصيد ناسيًا أو مخطئًا، وتجب على من وطئ في نهار رمضان ناسيًا- عند الأكثرين-، فلا يلزم من تَرَتُّبِ الكفارة اعتبار كلام الغضبان. وهدا هو الذي يسمِّيه الشافعيُّ: "نذر الغلق"، ومنصوصه: عدم وجوب الوفاء به إذا حلف به، بل يُخَيَّر بينه وبين الكفارة. وحُكِيَ له قولٌ آخر بتَعَيُّنِ الكفارة عينًا، وقولٌ آخر يتعيُّن الوفاء به إذا حنث، كما يلزمه الطلًاق والعتاق (¬2)، وهذا قول مالك (¬3)، وأشهر الروايتين عن أبي حنيفة (¬4). الثالث: ما ثبت في الصحيح عنه - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: "لا يقضي القاضي بين اثنين وهو غضبان" (¬5)، ولولا أن الغضب يؤثِّرُ في قصده وعلمه لم ¬
يَنْهَهُ عن الحكم حالَ الغصب. وقد اختلف الفقهاء في صحة حكم الحاكم في حال غضيه على ثلاثة أقوالٍ سنذكرها بَعْدُ إن شاء الله. ¬
آثار الصحابة
فصل وأما آثار الصحابة، فمن وجوه: أحدها: ما ذكره البخاري في صحيحه عن ابن عباس أنه قال: "الطلاق عن وَطَرٍ، والعِتْق ما يُبْتَغى به وجه الله" (¬1). فحَصَر الطلاق فيما كان عن وَطَرٍ، وهو الغرضُ المقصودُ، والغضبان لا وَطَر له. وهذا في الطلاق عن ابن عباسٍ نظيرُ قولهِ وقولِ أصحابه: لغوُ اليمين أن تحلف وأنت غضبان (¬2). ¬
الوجه الثاني
الوجه الثاني: أن الزهريَّ روى عن أبان بن عثمان على عثمان أنه رد طلاق السكران (¬1)، ولا يُعْرَفُ له مخالفٌ من الصحابة (¬2). وهذا القول هو الصحيح, وهو الذي رجع إليه الإمام أحمد أخيرًا (¬3). قال في رواية أبي طالب: والذي لا يأمر فيه بالطلاق فإنما أتى خصلة واحدة، والذي يأمر بالطلاق قد أتى خصلتين: حرَّمَها ¬
عليه، وأحلَّها لغيره؛ فهذا خيرٌ من هذا. وأنا أتقي جميعها (¬1). وقال في رواية عبد الملك الميموني: قد كنتُ أقول إن طلاق السكران يجوز، حتى تبيَّنتُه، فغَلَبَ عليَّ أنه لا يجوز طلاقه؛ لأنه لو أقرَّ لم يَلْزَمْهُ، ولو باع لم يَجُزْ بيعُه. قال: وأُلْزِمُه الجناية، وما كان مِنْ غير ذلك فلا يَلْزَمُه. قال أبو بكر (¬2): وبهذا أقول. وقال في رواية أبي الحارث: أرفعُ شيءٍ فيه (¬3): حديثُ الزهريِّ عن (¬4) أبان بن عثماد عن عثمان: "ليس لمجنونٍ ولا سكران طلاق". وهو اختيار الطحاوي (¬5)، وأبي الحسن الكرخي (¬6)، وإمام الحرمين (¬7)، وشيوخ الإسلام ابن تيمية (¬8)، وأحد قولي الشافعي (¬9). ¬
وإذا كان هؤلاء لا يُوقِعون طلاق السكران، لأنه غير قاصدٍ للطلاق؛ فمعلومٌ أن الغضبان كثيرًا ما يكون أسوأ حالًا من السكران. والسكرُ نوعان: سُكْرُ طَرَبٍ، وسُكْرُ غضَب، وقد يكون هذا أشدَّ، وقد يكون الآخر أشدَّ، فإذا اشتدَّ به الغضبُ حتى صار كالسكران كان أولى بعدم وقوع الطلاق منه؛ لأنه يُعْذَرُ مالا يُعذَر السكران، ويَبْلغُ به الغضبُ أشدَّ ما يَيْلغُ به السُّكْر، كما يُشاهَد مِنْ حال السكران والغضبان. ¬
الاعتبار وأصول الشريعة
فصل وأما الاعتبارُ وأصولُ الشريعة، فمن وجوه: الأول: أنَّ المؤاخذةَ إنما ترتَّبَتْ على الأقوال، لكونها أدلةً على ما في القلب مِنْ كسبه وإرادته، كما قال تعالى: {لًا يُؤًاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمانِكُمْ وَلَكِنْ يُؤاخِذُكُمْ بِما كَسَبَتْ قُلُوبُكُمْ} [البقرة: 225]، فجعلَ سبب المؤاخذة كَسْبَ القلبِ، وكَسْبُه هو إرادتُه وقصدُه. ومَنْ جرى على لسانه الكلام مِنْ غير قصدٍ واختيار، يل لشدةِ غضبٍ وسكْرٍ أو غير ذلك، لم يكن من كَسْبِ قلبه. ولهدا لم يؤاخذ الله سبحانه الذي اشتدَّ فرحُه بوجودِ راحلته بعد الإياس منها، فلما وَجَدها أخطأ من شدة الفرح، وقال: اللهم أنت عبدي وأنا ربك (¬1)، فجرى هذا اللفظُ على لسانه من غير قصدٍ، فلم يؤاخده به، كما يجري الغلطُ في القرآن على لسان القارئ. لكن، قد يقال: هذا قَصَد الصواب فأخطأ، فلم يُؤاخَذْ؛ إذْ كان قَصَد ضد ما تكلَّم به، بخلاف الغضبان إذا طَلَّق، فإنه قاصدٌ للطلاق. ¬
الوجه الثاني
قيل: لا كلام في الغضبان العالِم بما يقول، القاصدِ المختارِ لِحُكْمِه دفعًا لمكروه البقاء مع الزوجة، وإنما الكلامُ في الذي أشتد غصْبه حتى ألجأه الشيطان إلى التكلُّم بما لم يكن مختارًا للتكلُّم به، كما يُلْجِئه إلى فِعل مالم يكن لولا الغضبُ يفعله. يوضِّحه: الوجه الثاني: وهو أنَّ الإرادة فيه هو محمولٌ عليها، مُلْجَأٌ إليها، كالمُكرَهِ، بل المُكْرَهُ أحسنُ حالًا منه؛ فإن له قصدًا وإرادة حقيقةً، لكنْ هو محمولٌ عليه، وهذا ليس له قصدٌ في الحقيقة، فإذا لم يَقَع طلاقُ المكرَهِ فَطلاقُ هذا أولى بعدم الوقوع. يوضِّحه: الوجه الثالث: وهو أن الأمر الحامل للمُكْرَه على التكلُّمِ بالطلاق يُشْبِهُ الحامل للغضبان على التكلُّم به؛ فإن المتكلِّم مُكْرَهًا إنما يقصدَ الاستراحة من توقُّع ما أُكْرِه به إن لم يُباشَرْ به، أو من حصوله إن كان قد باشره شيءٌ منه (¬1)، فيتكلم بالطلاق قاصدًا لراحته مِنْ أَلَمِ ما أُكْرِه به. وهكذا الغضبان، فإنه إذا اشتد به الغضب يَأْلَم بِحَمْلِه، فيقول ما يقول، ويفعل ما يفعل، ليدفع عن نفسه حرارة الَغضب، فيستريح بذلك، وكذلك يلطم وجهه، ويصيح صياحًا قويًّا، ويشق ثيابه, ويُلْقِي ما في يده؛ دفعًا لألم الغضب, وإلقاءً لِحِمْلِه عنه، وكذلك يدعو على نفسه وأحبِّ الناس إليه، فهو يتكلم بصيغة الطلب والاستدعاء والدعاءِ وهو غيرُ طالبٍ لذلك في الحقيقة، فكذلك يتكلم بصيغة الإنشاء وهو ¬
الوجه الرابع
غير قاصدٍ لمعناها. ولهذا يأمر الملوكُ وغيرُهم عند الغضب بأمورٍ يَعْلَمُ خواصُّهم أنهم تكلموا بها دفعًا لحرارة الغضب، وأنهم لا يريدون مقتضاها، فلا يَمْتثِلُه خواصُّهم، بل يؤخرونه، فَيَحْمَدُونَهُمْ على ذلك إذا سكن غضبهم. وكذلك الرجل وقتَ شدة الغضب يقومُ ليبطش بولده أو صديقه، فيَحولُ غيره بينَه وبين ذلك، فيَحْمَدَهُم بعد ذلك، كما يَحْمَدُ السكرانُ والمحموم ونحوُهما مَنْ يحول بينه وبين ما يَهُمُّ بفعله في تلك الحالة. الوجه الرابع: أن العاقل لا يستدعي الغضب ولا يريده، بل هو أكرهُ شيءٍ إليه، وهو كما قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: "جَمْرَةٌ في قلب ابن آدم، أَمَّا رأيتم من احمرارِ عَيْنَيْه وانتفاخِ أوداجه؟! " (¬1). والعاقلُ لا يقصد إلقاء الجمرة في قلبه، فهو ناشئٌ فيه بغير اختياره، وإذا كان هو السببَ الحاملَ على التكلُّم بالطلاق وغيره، لم يكمن ذلك أيضًا مضافًا إلى اختياره وإرادته، وهذا كما أن إرادة السببِ إرادةٌ للمسبَّب، فكراهةُ السبب وبغضُه كراهةٌ للمسبَّب، يوضِّحه: ¬
الوجه الخامس
الوجه الخامس: هو أنك تقولُ للغضبان إذا اشتد غضبه، ففَعَل مالم يكن يفعله، أو تكلَّم ما لم يكن يتكلَّمُ به قبل الغضب: هل أردتَ ذلك أو قصدتَه؟ فيحلف أنه ما أراده ولا قصده، ولا كان له باختيار، ويحلف أنه وقع بغير اختيار. ولا تنكر هذا، فإنك تَجِدُهُ من نفسك. وتحقيقُ الأمر: أن له فيه إرادةً هو محمولٌ عليها، حَمَلهُ عليها الغضبُ، فهي كإرادة المكرَه، بل المكرَه أَدْخَل في الإرادة كما تقدم، وهذا يدلُّ على أن الغضبان أولى بعدم الوقوع من المكرَه. يوضِّحه: الوجه السادس: وهو أن الخوف في قلب المكره كالغضب في قلب الغضبان، لكنَّ المكرَه مقهورٌ بغيره مِنْ خارج، والغضبان مقهورٌ بغصبه الداخلِ فيه، وقهرُ الإكراه يُبْطِلُ حكم الاقوالِ التي أُكرِهَ عليها ويجعلها بمنزلة كلام النائم والمجنون، دون حكم الأفعال، فإنه يُقْتَلُ إذا قَتَلْ، ويَضْمَنُ إذا أتلف = فكذلك قَهْرُ الغضبِ يُبْطِلُ حكمِ أقوال الغضبان دون أفعاله، حتي لو قَتَل في هده الحالة أوَ أتلف شيئًا ضَمِنه. هذا كلُّه في الغضبان الذي يَكْرَهُ ما قاله حقيقةً، فأما من هو مُرِيدٌ له، على تقديرِ عدم غضبه لاقتضاء سبب ذلك (¬1)؛ فليس من هذا الباب، كمن زَنَتْ امرأته فغضب فطلَّقها لأنه لا يَرَى المُقام مع زانيةٍ، فلم يَقْصِدْ بالطلاقِ إطفاءَ نار الغضب، بل التخلُّصَ من المُقام مع زانيةٍ، فهذا يقع طلاقُه. ¬
الوجه السابع
فتأمَّلْ هذا الفرق؛ فإنه حرفُ المسألةِ ونُكْتَتُها، وهذا بخلاف مَنْ خاصَمَتْهُ امرأته وهو يعلم من نفسه إرادة المُقام معها على الخصومة وسُوءِ الخُلُق، ولكنْ حَمَلهُ الغضبُ على أن شَفى نفسَه بالتكلُّم بالطلاق، وكسرًا لها (¬1) وإطفاءً لنار غضبه. يوضِّحه: الوجه السابع: وهو أن الغضبان يفعل أمورًا مِنْ شَقِّ الثياب، وإتلاف المال، وغير ذلك، مِمَّا لو أُكْرِهَ به حتى يتكلم بالطلاق لم يَنْفُذْ طلاقُه، وَلَغَتْ أقوالُه، فإذا فعل هو هذه الأمور عُلِم أن الذي ألجأَه إليها أعظمُ من الإكراه؛ فإن المكرَه لو أُكْرِه بها لم يَفْعَلْها، وهذا قد فعلها، فَعُلِمَ أن المقتضي لفعلها فيه أولى من اقتضاء الإكراه لفعلها، والمكرَه لو فُعِلَ به ذلك كان مكرهًا، فالغضبان كذلك، وهذا واضحٌ جدًّا. فإن قيل: المكرَهُ إذا تَكَلَّمَ بما أُكْرِه عليه دَفَعَ عنه الضرر، والغضبان لا يَدْفَعُ عنه بهذا القول ضررًا، فليس كالمكره. قيل: لا ريب أنهما يفترقان في هذا الوجه، ولكنْ لا يُوجِبُ ذلك أن يكون الغضبان مختارًا مريدًا لما قاله أو فعله، بل [هو] أَكْرَهُ شيء إليه. وهذا أمرٌ لا يمكن دفعه. فإن قيل: فما الحاملُ له على فعل ما يكرهه ويؤذيه، مِنْ غير أن يتوصَّل به إلى ما هو أحبُّ إليه منه؟ قيل: لما كان الغضبُ عدوَّ العقل (¬2)، وهو له كالذئب للشاة، ¬
قلَّما يتمكن منه إلا اغتال عقله = فقصَدَ إزالة الغضبِ وإطفاء ناره، وهذا مقصودٌ صحيحٌ في نفسه، لكنْ لما غاب عنه عَقلُه قَصَد إزالة ذلك- ممَّا فيه ضررٌ عليه - ليخفِّفَ عن نفسه ما هو فيه من البلاء، ولولا ذلك لم يفعل مالا يفعله في الرِّضا، ولا تكَلَّمَ بما لم يكن يتكلم به، فهو قَصَدَ أن يستريح ويَسْكُن ويَبْرُدَ غضبُه بتلك الأقوال والأفعال، وإن لم يدفع ذلك عنه جملتة (¬1) تلك الشِّدَّة فإنها تُخَفِّفُ وتُضْعف. فاقتضت رحمة الشارع به أنْ ألغى أقوالَه في هذه الحال؛ إذْ يُمْكِنُ (¬2) أن لا يترتَّب عليها أثرها، وتكون كأقوال المُبَرْسَم, والمجنون الهاجِر (¬3)، ونحوهما، وأما الأفعال فلا يُمْكِن إلغاء أثرها؛ فرَتَّبَ عليه مُوجَب فعله. فإن قيل: فيلزمكم على هذا أنه لو حلف في هذه الحال أن لا تنعقد يمينه. قيل: قد قال بذلك جماعة من السلف والخلف، واختاره من لا يُرتابُ في إمامته وجلالته، وكان يُقْرَنُ بالأئمة الكبار: إسماعيل بن إسحاق القاضي (¬4). فإن قيل: لكنَّ المنقول عن الصحابة وجمهور التابعين والأئمة ¬
الأربعة اعتبار ندر اللَّجاج والغضب، وإن تنارعوا في مُوجَبه، فأوجب مالك وأهل العراق الوفاءَ به كنذر التبرُّرِ، وخَيَّرَ الليث بن سعد والشافعيُّ وأحمد بن حنبل بين فعلِه وبين كفارة اليمين، ولم يقل أحدٌ منهم: إنه لا ينعقد، وإنه لغو (¬1). وقد ذكر الله تعالى الكفارة في الأيْمان كلِّها ولم يُحَصِّلْ (¬2) منها يمين الغضب دون يمين الرضا. قيل: نعم، هدا حقٌّ، ولكن اليمين لما قَصَد صاحبُها الحَضَّ أو المَنْعَ كانت الكفارةُ رافعةً لما حصل بها من الضرر، بخلاف الطلاق والعتاق فإنهما إتلافٌ مَحْضٌ لِمُلْكِ البُضْعِ والرَّقَبة، ولا كفارة فيهما، فالضرر الحاصل بوقوعهما لا يندفعُ بكفارَةٍ ولا غيرِها، وكما أنه يُفَرَّقُ في الإكراه بين نوعٍ ونوعٍ، فالإكراهُ يُبيحُ الأقوال عندنا وعند الجمهور، وكلُّ قولٍ أُكْرِه عليه بغير حقٍ فإنه باطل، وأبو حنيفة يفرِّقُ بين نوعٍ ونوع (¬3). والإكراهُ على الأفعال ثلاثةُ أنواع (¬4): نوعٌ لا يُباح بالإكراه، كقتلِ المعصومِ، وإتلافِ أطرافِه. ونوعٌ يُبِيحُه الإكراه بشرط الضمان، كإتلاف مالِ المعصوم. ¬
ونوعٌ مختلفٌ فيه، كالزنا، والشُّربِ (¬1)، والسرقة، وفيه روايتان عن الإمام أحمد (¬2). فما أمكن تلافيه أُبِيح بالإكراه، كالأقوال والأموال، وما كان ضرره كضرر الإكراه لم يُبَحْ به، كالقتل؛ فإنه ليس قتلُ المعصوم يحياةِ المكرَه أولى من العكس. وأما الأفعال: فالقرآن يدل على رفع الإثم فيها، كقوله تعالي: {وَلَا تُكْرِهُوا فَتَيَاتِكُمْ عَلَى الْبِغَاءِ إِنْ أَرَدْنَ تَحَصُّنًا لِتَبْتَغُوا عَرَضَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَمَنْ يُكْرِهْهُنَّ فَإِنَّ اللَّهَ مِنْ بَعْدِ إِكْرَاهِهِنَّ غَفُورٌ رَحِيمٌ (33)} [النور: 33] (¬3). ¬
الوجه الثامن
الوجه الثامن: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - شرع للغضبان أن يقول: أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، وأن يتوضأ، وأن يتحوَّل عن حالته؛ فإن كان قائمًا فَلْيَقعُدْ، وإذا كان قاعدًا فليضطجع، قال: "إن الغضب من الشيطان، وإن الشيطان من النار، وإنما تطفأ النار بالماء، فإذا غضب أحدكم فليتوضأ" (¬1). وهذا يدل على أنه محمولٌ عليه من غيره، وأن الشيطان يُغْضِبُه لِيَحْمِلَهُ بغضبه على فعن ما يُحبُّه الشيطان، وعلى التكلُّم به. وما يضاف إلى الشيطان مما يكرهه العبد ولا يحبُّه, فلا يؤاخذ به الإنسان، كالوسوسة والنسيان، كما قال فتى موسى لموسى: {وَمَا أَنْسَانِيهُ إِلَّا الشَّيْطَانُ أَنْ أَذْكُرَهُ} [الكهف: 63]. فاللهُ وتعالى لا يؤاخِذ بالوسوسة، ولا بالنسيان؛ إذ هما من أثرِ فِعْلِ الشيطان في القلب، وقد أخبر النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - أن الغضب من الشيطان، فيكون أثرهُ مضافًا إليه أيضًا، فلا يُؤَاخَذُ به العبد، كأثر النسيان، فإنه لو حلف أن لا يتكلم بكدا فتكلم به ناسيًا لم يحنث؛ لعدم قصده وإرادته لمخالفة ما عَقَد يمينَه عليه، وإنْ كان قاصدًا للكلام، فإنه لم يقع منه إلا بقصده وإرداته. وهذه حالُ الغضبان، فإنه لم يقصد حقيقة ما تكلم به وموجَبه، بل جرى على لسانه كما جرى كلام الناسي على لسانه، بل قَصْدُ الناسي ¬
الوجه التاسع
للتكلُّم أظهرُ من قصد الغضبان، ولهذا يقول الناسي: قصدتُ أن أقول كذا وكذا. والغضبانُ يحلف أنه لم يقصد. الوجه التاسع: أن القُصُودَ في العقود معتيرة في عَقْدِها كلِّها (¬1)، والغضبان ليس له قصدٌ معتبر في حل عُقْدَةِ النكاح، كما ليس له قصدٌ في قتلِ ثفسه وولده وإتلافِ ماله، فإنه يفعل في الغضب هذا ويقول هذا، فإذا لم يكن له قصدٌ معتبر لم يصحَّ طلاقُه. فإن قيل: فهذا ينتقض عليكم بالهازل، فإنه يصحُّ طلاقه (¬2) وإنْ لم يكن له فيه قصد. قيل: الفرق بينهما أن الهازل قَصَدَ التكلم باللفظ وأراده رضًا واختيارًا منه، لم يُحْمَلْ على التلفُّظ به، وغايتُه أنه لم يُرِدْ حكمَه وموجَبه، وذلك إلى الشارع ليس إليه، فالسببُ الذي إليه قد أتي به اختيارًا وقصدًا، مع علمه به، لم يُحْمَلْ عليه، والسببُ [الذي] إلى ¬
الوجه العاشر
المشرِّع (¬1) ليس إليه، فلا يصحُّ اعتبار أحدهما بالآخر، وكيف يُقاس الغضبانُ على المتخذِ آيات الله هُزؤًا؟! وهذا من أفسد القياس. الوجه العاشر: أن الغضب مرضٌ من الأمرأض، وداءٌ من الأدواء، فهو في أمراض القلوب نظيرُ الحُمَّى والوسواس والصَّرعِ في أمراض الأبدان، فالغضبانُ المغلوبُ في غضبه كالمريض والمحمومِ، والمصروعِ المغلوب في مرضه، والمبرسَمِ المغلوب في برسامه. وهذا قياسٌ صحيح في الغضبان الذي قد اشتد به الغضب حتى لا يَعْلَمُ ما يقول، وأما إذا كان يَعْلَمُ ما يقول، ولكنْ يتكلَّم به حرجًا وضِيْقًا وغَلقًا، لا قصدًا للوقوع، فهو يُشْبِهُ المُبَرْسَمَ والهاجِر مِن الحُمَّى مِنْ وجهٍ, ويشبه المكرَه القاصدَ للتكلم مِنْ وجهٍ، ويشبه المختارَ القاصد للطلاق من وجهٍ، فهو مترددٌ بين هذا وهذا وهذا، ولكنَّ جهة الاختيار والقصدِ فيه ضعيفةٌ، فإنه يعلم من نفسه أنه لم يكن مختارًا لما صَدَر منه مِنْ خراب بيته، وفراق حبيبه، وكونِه يراه في يدِ غيره، فإنْ كان عاقلًا لا يختار هذا إلا لِيَدْفعَ به ما هو أكرهُ إليه منه، أو ليُحَصِّلَ به ما هو أحبُّ إليه، فإذا انتفى هذا وهذا لم يكن مختارًا لذلك. وهذا أمرٌ يعلمهُ كلُّ إنسانٍ من نفسه، فصار تردُّده بين المريض المغلوب، والمكرهِ والمحمولِ على الطلاق، وأيُّهما كان فإنه لا يَنْفُذُ طلاقُه. فإن قيل: الفرقُ بينهما أنَّ المريض المغلوب لا يَمْلِكُ نفسه في ¬
الحال، والمكرَه وإن مَلَك نفسه لكنَّه لا يملك دفعَ المكروه عنه، وأما الغضبان فإنه يمكنه أن يملك نفسه. كما قال النبيُّ - صلى الله عليه وسلم -: "ليس الشديد بالصُّرعة، ولكنه الذي يَمْلِكُ نفسه عند الغضب" (¬1). قيل: مِنَ الغضب ما يُمْكِنُ صاحبُه أن يملك نفسه عنده، وهو الغضب في مبادئه، فإذا استحكم وتمكَّن منه لم يَمْلِكْ نفسه عند ذلك، وكذاك الحُزْنُ الحامل على الجَزَع، يُمْكِنُ صاحبُه أن يملك نفسه في أوله، فإذا استحكم وقَهَر لم يملك نفسه، وكذلك الغضب يُمْكِن صاحبُه أن يملك نفسه في أوله، فإذا تمكن واستولى سلطانُه غلي القلبِ لم يملكْ صاحبُه قلبَه، فهو اختياريٌّ في أوله، اضطراريٌّ في نهايته، كما قال القائل (¬2): يا عاذلي والأمرُ في يده ... هلَّا عَذَلْتَ وفي يدي الأمرُ ¬
الوجه الحادي عشر
وهكذا السكرانُ، سببُ السُّكْرِ مقدورٌ له، يُمْكِنُه فعلُه وتركُه، فإذا أتى بالسبب خَرَج الأمرُ عن يده، ولم يملك نفسه عند السُّكرِ، فإذا كان السكر الذي هو مفَرِّطٌ بتعاطي أسبابه ويَقْدِرُ على ملك نفسه باجتنابها، قَدْ عَذَر الصحابةُ وغيرُهم من الفقهاء صاحبَه إذا طلَّق في هذه الحال، مع كونه غير معذورٍ في تعاطي سببه = فَلأَنْ يُعْذَر سكرانُ الغضبِ الذي لم يُفَرِّطْ- مع شدة سُكْرِه على سُكْرِ الخمر- أولى وأحرى. الوجه الحادي عشر: وهو أنَّ مِن الناسِ مَنْ إذا لم يُنْفِذْ غضبَه قَتَلَه غَضبُه، ومات أو مرض أو غُشِيَ عليه، كما يُذكَر عن بعض العرب أن رجلًا سبَّهُ، فأراد أن أن يَرُدَّ على السابِّ (¬1)، فأمسك جليسٌ له بيده على فمه, ثم رفع يده لما ظَنَّ أن غضبه قد سَكَن، فقال: قتلتني! ردَدْتَ غضبي في جوفي!. ومات من ساعته (¬2). فإذا نفذ مثلُ هذا غضبَه بقتلٍ أو ظلمٍ لغيره، لم يُعْذَرْ بذلك، كالسكران، وأما إذا نفذ بقولٍ فإنه يمْكِنُ إهدارُ قولِه، وأنْ لا يَتَرتَّب أثرُه عليه، كما أهدر اللهُ سبحانَه دعاءَه ولم يُرتِّبْ أثره عليه، ولم يستجِبْة له. ولهذا ذهب بعض, الفقهاء إلى أنه لا يُجْلَدُ بالقذف في حال الخصومة والغضب، وإنما يُجْلَدُ به إذا أتى به اختيارًا وقصدًا لقذفه (¬3)، ¬
وهو قول فويٌّ جدًّا، ويدلُّ عليه أن الخصمَ لا يُعَزَّرُ (¬1) يِجَرحِه لخصمه، وطعنِه فيه حال الخصومة، بقوله: هو فاجرٌ، ظالمٌ، غاشمٌ، يحلف على الكدب، ونحو ذلك. ومَنْ يَحُدُّه في هذه الحال يُفرِّقُ بين قذفِه وطلاقه بأن القذف حقٌّ لآدميٍّ، وانتهاكٌ لعرضه، أو قدحِه في نفسه فيجري مجري إتلافِ نفسِه ومالِه، فلا يُعْذَرُ فيه بالغضب، لا سيَّما ولو عُذِر فيه بذلك لأمْكَن كلَّ قاذفٍ أن يقول: قذفتُه في حال الغضب. فيسقط الحدُ. بخلاف الطلاق، فإنه يُمْكِن أن يدَيَّنَ فيما بينه وبين الله. والحق لا يَعْدُوْهُ. والمقصود أنه إذا تكلَّم بالطلاق دواءً لهذا المرض، وشفاءً له، بإخراج هذه الكلمة من صدره، وتنفُّسِه بها؛ فمِنْ كمال (¬2) هذه الشريعة ومحاسِنها وما اشتملت عليه من الرحمةِ والحكمة والمصلحة = أنْ لا يُؤاخَدَ بها، ويُلْزَمَ بموجَبها، وهو لم يَلزَمْهُ (¬3). ¬
الوجه الثاني عشر
الوجه الثاني عشر: أن قاعدة الشريعة أن العوارض النفسيَّة لها تأثيرٌ في القول، إهدارًا واعتبارًا، وإعمالًا وإلغاءً. وهذا كعارض النسيان، والخطأ، والإكراه، والسُّكْر، والجنون، والخوف، والحزنِ، والغفلة، والذهول، ولهذا يُحْتَمَلُ منِ الواحد من هؤلاء من القولِ مالا يُحْتَمَل مِنْ غيرِه، ويُعْذَرُ بما لا يُعْذَرُ به غيرُه، لعدم تجرُّدِ القصدِ والإرادة، ووجود الحامل على القول. ولهذا كان الصحابةُ يَسْأَلُ أحدُهم الناذِرَ: أفي رضًا قلتَ ذلك أم في غضب؟، فإنْ كان في غضبٍ أَمره بكفارة يمين (¬1)؛ لأنهم استدلوا بالغضب على أن مقصوده الحضُّ والمنعُ، كالحالف، لا التقرُّب. وقد قال تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَقْرَبُوا الصَّلَاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى حَتَّى تَعْلَمُوا مَا تَقُولُونَ} [النساء: 43]، فَجَعلَ عارض السُّكر مانعًا من اعتبار قراءةِ السكران وذكرِه وصلاتِه، كما جعله النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - مانعًا من صحة إقراره لمَّا أمر باستنكاه (¬2) مَنْ أقرَّ بين يديه ¬
الوجه الثالث عشر
بالزنا (¬1)، وجعله مانعًا من تكفيرِ مَنْ قال له ولأصحابه: "هل أنتم إلا عبيدٌ لأبي؟! " (¬2). وجعل الله سبحانه الغضب مانعًا من إجابة الداعي على نفسه وأهلة، وجعل سبحانه الإكراه مانعًا مِنْ كُفرِ المتكلِّم بكلمة الكفر، وجعل الخطأ والنسيان: مانعًا مِن المؤاخذة بالقول والفعل. وعارضُ الغضب قد يكون أقوى من كثيرٍ من هذه العوارض، فإذا كان الواحدُ من هؤلاء لا يترتَّبُ على كلامه مقتضاهُ لعدم القصد، فالغضبانُ الذي لم يَقْصِدْ ذلك إنْ لم يكن أولى بالعذر منهم لم يكن دُونهم. ويوضِّحه: الوجه الثالث عشر: أن الطلاق في حال الغضب له ثلاث صور: إحداها (¬3): أنْ يَبْلُغَه عن امرأته أمرٌ يشتدُّ غضبُه لأجله، ويظنُّ أنه حقٌّ، فيطلِّقُها لأجله، ثم يتبيَّن أنها بريئةٌ منه، فهذا في وقوع الطلاق به وجهان، أصحُّهما أنه لا يقع طلاقه؛ لأنه إنما طلّقها لهذا السبب ¬
والعلة، والسببُ كالشرط، فكأنه قال: "إنْ كانت فعلَتْ ذلك فهي طالق", فإذا لم تَفْعَلْهُ لم يُوجَدْ الشرط. وقد ذكر المسألة بعينها أبو الوفاء ابن عقيل، وذكر الشريف ابن أبي موسى في "إرشاده" (¬1) فيما إذا قال: "أنت طالق أَنْ دخلت الدار" بفتح الهمزة، مِرارًا، وهو يَعْرِفُ العربية، ثم تبيَّن أنها لم تدخل، لم تَطْلُق. ولا يقال: هو هاهنا قد صرَّح بالتعليل، بخلاف ما إذا لم يصرِّح به، فإن هذا لا تأثير له، فإنه قد أوقع الطلاق لعلةٍ، فإذا انتفت العلة تبيَّنَّا أنه لم يكن مريدًا لوقوعه بدونها، سواء صرَّح بالعلة أو لم يصرِّحْ بها، وغايةُ الأمر أن تكون العلة بمنزلة الشرط، وهو لو قال: "أنت طالق" وقال: "أردت إنْ فَعلَتْ كذا وكذا" دُيِّنَ فيما بينه وبين الله تعالى. وقد ذكر أصحاب الشافعي وأحمد فيما إذا كاتب عبده على عِوَضٍ فأدَّاهُ إليه، فقال: "أنت حُرٌّ"، ثم تبيَّن أن العِوَض مُسْتَحَقٌّ؛ لم يعتق، مع تصريحه بالحرية، فالطلاقُ أولى بعدم الوقوع في هذه الصورة (¬2). الصورة الثانية: أن يكون قد غضب عليها لأمرٍ قد عَلِم وقوعَه منها، فتكلَّم بكلمة الطلاق قاصدًا للطلاق، عالمًا بما يقول، عقوبةً لها على ذلك، فهدا يقع طلاقه، إذْ لو لم يقع هذا الطلاق لم يقع أكثر الطلاق، فإنه غالبًا لا يقع مع الرضا (¬3). ¬
الوجه الرابع عشر
الصورة الثالثة: أن لا يقصد أمرًا بعينه، ولكنَّ الغضب حمله على ذلك، وغيَّر عقلَه، ومنعه كمال التصوُّر والقصد، فكان بمنزلة الذي فيه نوعٌ من السُّكرِ والجنون. فليس هو غائب العقل بحيث لا يفْهَمُ ما يقولُ بالكلية، ولا هو حاضر العقل بحيث يكون قصده معتبرًا، فهذا لا يقع به الطلاق أيضًا، كما لا يقع بالمُبَرْسَمِ والمجنون. يوضِّحه: الوجه الرابع عشر: أن المجنون، والمُبَرْسَم، والموسوِس، والهاجِر، قد يشعرُ أحدهم بما قاله ويستحي منه، وكذلك السكران. ولهذا لم يشترط أكثر الفقهاء في كونه سكرانَ أن يعدم تمييزه بالكلية، بل قد قال الإمام أحمد وغيره: إنه الذي يخلط في كلامه، ولا يعرف رداءه في رداء غيره، وفعله من فعل غيره (¬1). والسنهُ الصريحة الصحيحة تدلُّ عليه، فإنَّ النبي - صلى الله عليه وسلم - أمر أن يُسْتَنْكَهَ من أقَرَّ بالزنا (¬2)، مع أنه حاضرُ العقل والذهن، يتكلَّمُ بكلامٍ مفهومٍ ومنتظمٍ، صحيحُ الحركة، ومع هذا فجوَّز النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - أن يكون به سُكْرٌ يَحُولُ بينه وبين كمال عقله وعلمه، فأمر باستنكاهه (¬3). ¬
والمقصود أن هؤلاء ليسوا مُسْلُوبي التمييز بالكلية، وليسوا كالعقلاء الذين لهم قصدٌ صحيحٌ، فإن ما عرض لهم أوجب تغيُّرَ العقل الذي منع صحة القصد، فلم يَبْق أحدهم يقصد قصْدَ العقلاء الذي مرادُه جَلْبُ ما ينفع، ودَفْعُ ما يضر، فَلَمْ يتصوَّر أحدهم لوازم ما تكلَّم به، ولا غاب عقلُه عن الشعور به، بل هو ناقصُ التصوُّر ضعيفُ القَصْد. والغضبان في حال غضبه قد يكون أسوأَ حالا من هؤلاء، وأشبهَ بالمجانين، ولهذا يقول ويفعل مالا يقولُه المجنون ولا يفعلُه. فإن قيل: فهل يُحْجَرُ عليه في هذه الحال كما يُحجر على المجنون؟ قيل: لا، والفرق بينهما أن هذه الحال لا تدوم، فهو كالذي يُجَنُّ أحيانًا نادرًا ثم يفيق، فإنه لا يُحْجَرُ عليه. نعم، لو صدر منه في تلك الحال قولٌ عن غير قصدٍ منه، كان مثل القول الصادر عن المجنون، في عدم ترتُّب أثرِه عليه. ولا ريب أنه قد يحصلُ للغضبان إغماءٌ وغَشْيٌ، وهو في هذه الحال غير مكلَّفٍ قطعًا، كما يحصلُ ذلك للمريض، فيزيلُ تكليفَه حال الإغماء، حتى إن بعض الفقهاء لا يُوجب عليه قضاء الصلاة في هذه الحال، إلحاقًا بالمجنون كما يقوله الشافعي (¬1)، وأحمد يوجِبُ عليه القضاء إلحاقًا له بالنائم (¬2) , وأبو حنيفة يفرِّق يين الطويل الزَائد على ¬
الوجه الخامس عشر
اليوم والليلة فيُلحِقُه بالجنون، وبين القصير الذي هو دون ذلك فيُلحِقُه بالنوم (¬1). وقد يُنكِر كثيرٌ من الناس أن الغضبَ يُزِيل العقل، ويبلغُ بصاحبه إلى هذه الحال، فإنه لا يعرف من الغضب إلا ما يَجدُ من نفسه، وهو لم يَعْلَمْ غضبًا انتهى إلى هذه الحال. وهذا غلط؛ فإن الناس متفاوتون في الغضب تفاوتًا عظيمًا، فمنه ما هو كالنَّشوة، ومنه ما هو كالسُّكْر، ومنه ما هو كالجُنون، ومنه ما هو سريعُ الحصولِ سريعُ الزوالِ، وعكسُه، ومنه سريعُ الحصول بطيء الزوال، وعكسه، كما قسَّمه النبي - صلى الله عليه وسلم - إلى هذه الأقسام (¬2). وقُوى الناس متفاوتةٌ تفاوتًا عظيمًا في مُلك تقواهم عند الغضب، والطمع، والحزن، والخوف، والشهوة، فمنهم من يملك [ذلك] (¬3) ويتصرَّفُ فيه، ومنهم من يملكُه ذلك ويتصرَّف فيه. الوجه الخامس عشر: أن الغَضِب (¬4) الذي قد انغلق عليه القصدُ (¬5) والرأيُ في الغضب، وقد صار إلى الجنون العارض أقربَ منه ¬
الوجه السادس عشر
إلى العقل الثابت= أولى بعدم وقوع طلاقه من الهازل المتلفِّظ بالطلاق في حال عقله وإن لم يُرِدْهُ بقلبه. وقد ألغى طلاقَ الهازل بعضُ الفقهاء، وهو إحدى الروايتين عن الإمام أحمد، حكاها أبو بكر عبد العزيز وغيره (¬1)، وبه يقول بعض أصحاب مالك إذا قام دليلُ الهزل، فلم يَلْزَمْهُ عتقٌ ولا نكاحٌ ولا طلاق (¬2)؛ ولا ريب أن الغضبان أولى بعدم وقوع طلاقه من هذا. الوجه السادس عشر: أن جماعة من أصحابنا لم يشترطوا في المجنون والمُبَرْسَمِ أن لا يكون ذاكرًا لطلاقه، وإن كان ظاهرُ نصِّ أحمد أنه متى ذَكَر الطلاق لَزِمَه؛ فإنه قال في رواية أبي طالبٍ في المجنون يُطَلِّق، فقيل له لمَّا أفاق: إنك طَلَّقْتَ امرأتك، فقال: أنا ذاكر أني طلَّقْتُ ولم يكن عقلي معي = فقال: إذا كان يَذْكرُ أنه طلَّق فقد طَلُقَتْ. قال أبو محمد المقدسي: "وهذا هو المنقول عن الإمام أحمد فيمن كان جنونُه بذهابِ معرفته بالكلية، وبطلان حواسِّه، فأمَّا من كان جنونه لِنَشافٍ، أو كان مُبَرْسَمًا، فإنَّ ذلك يُسْقِط حكم تصرُّفِه، مع أنَّ معرفته غيرُ ذاهبةٍ بالكلية، فلا يضرُّه ذِكرُ الطلاق إن شاء الله" انتهى ¬
الوجه السابع عشر
كلامه (¬1). ومعلومٌ أن الغضبان الممتلئ أسوأ حالًا مِمَّن جنونُه مِنْ نشَافٍ، أو برسام، وأقلُّ أحواله أن يكون مثله. يوضِّحه: الوجه السابع عشر: وهو أن الموسوس لا يقع طلاقه، صرَّح به أصحابُ أبي حنيفة وغيرهم (¬2)، وما ذاك إلا لعدم صِحة العقل والإرادة منه؛ فهكذا هذا. الوجه الثامن عشر: أنه لم يَقُلْ أحدٌ إن مجرد التكلُّم بلفظ الطلاق مُوجِبٌ لوقوعه على أيِّ حالٍ كان، بل لابدَّ من أمرٍ آخر وراءَ التكلُّم باللفَظ. فطائفةٌ اشترطَتْ أن يأتيَ به في حال التكليف، فقط، سواءً قصَدَه أو جرى على لسانه من غير قصد، سواءً أُكِره عليه أو أَتَى به اختيارًا. وهذا مذهبُ مِنْ يُوقِع طلاقَ المكره، والطلاقَ الذي يجري على لسان العبد من غير قصد منه. وهو المنصوص عن أبي حنيفة في الموضعين (¬3). وطائفة اشترطت: مع ذلك أن يأتيَ باللفظ مختارًا، قاصدًا له. وهو ¬
قول الجمهور الذين لا يُنفِذون طلاق المكره (¬1). ثم منهم: من اشترط مع ذلك أن يكون عالمًا بمعناه، فإنْ تكلَّم به اختيارًا غيرَ عارفٍ بمعناه، لم يَلْزَمْهُ حكمُه. وهذا قولُ من يقول: لا يُلْزَمُ المكلفُ أحكامَ الأقوالِ حتى يكون عارفًا بمدلولها. وهذا هو الصواب. ومنهم: من اشترط مع ذلك أن يكون مريدًا لمعناه، ناويًا له، فإنْ لم ينوِ معناه ولم يُرِدْهُ، لم يَلْزَمْهُ حكمه. وهذا قولُ من يشترط لصريح الطلاق النيةَ، وقولُ مَنْ لا يُوقِع الهازل. وهو قولٌ في مذهب الإمام أحمد ومالك (¬2) في المسألتين، فيَشْتَرِط هؤلاء الرضا بالنطق اللسانيِّ، والعلمَ بمعناه، وإرادةَ مقتضاه. ¬
ومنهم: من يشترط مع ذلك كون الطلاق مأذونًا فيه من جهة الشارع. وهو قولُ مَنْ لا يوقِع الطلاق المحرَّم، وهو قولُ طائفةٍ من السلف، من الصحابة، والتابعين، ومَنْ بعدهم. وقال محمد (¬1) بن عبد السلام الخشني: حدثنا محمد بن بشار، قال: حدثنا عبد الوهاب بن عبد المجيد الثقفي: حدثنا عبيد الله بن عمر، عن نافع، عن ابن عمر أنه قال في الرجل يطلِّق امرأته وهي حائض: "لا يعتد بذلك" (¬2). وحسبك بهذا الإسناد إذا صَحَّ، رواه أبو محمد بن حزم قال: حدثنا يوسف بن عبد الله، قال: حدثنا أحمد بن عبد الله بن عبد الرحيم، قال: حدثنا أحمد بن خالد، قال: حدثنا محمد بن عبد السلام، فذكره (¬3). ¬
وهذا مذهبُ أفقه التابعين على الإطلاقِ سعيدُ بن المسيب، حكاه عنه الثعلبيُّ في تفسير سورة الطلاق (¬1). وهو مذهب أفقه التابعين من أصحاب ابن عباس، وهو طاووس. قال عبد الرزاق: عن ابن جريج (¬2)، عن عبد الله بن طاووس، عن أبيه: أنه كان لا يرى طلاقًا ما خالفَ (¬3) وجهَ الطلاق, ووجهَ العدة. وكان يقول: وجهُ الطلاق أن يطلقها طاهرًا من غير جماعٍ، وإذا استبان حَمْلُها (¬4). وهذا مذهبُ خلاس بن عمرو. قال ابن حزم: حدثنا محمد بن سعيد بن نبات، قال: حدثنا عباس بن أصبغ، قال: حدثنا محمد بن قاسم بن محمد، قال حدثنا محمد بن عبد السلام الخشني، قال: حدثنا محمد بن المثنى، قال: حدثنا عبد الرحمن بن مهدي، قال: حدثنا همام (¬5) بن يحيى، عن قتادة عن خلاس بن عمروٍ أنه قال في الرجل يطلِّق امرأته وهي حائض، فقال: لا يعتَدُّ بها (¬6). ¬
وهذا قول أبي قلابة. قال ابن أبي شيبة [حدثنا] عبد الرزّاق، عن معمر، [عن أيوب] (¬1)، عن أبي قلابة قال: إذا طلَّق الرجل أمرأته وهي حائض، فلا يعْتَدُّ بها (¬2). وهذا اختيار ابن عقيل في كتابه "الواضح في أصول الفقه"، صرَّح به في مسألة: النهي يقتضي الفساد (¬3)، وهو اختيار شيخ الإسلام ابن تيمية (¬4)، وهو أحد الوجهين في مذهب أحمد (¬5). وقال أبو جعفر الباقر: لا طلاق إلا على سُنَّة، ولا طلاق إلا على طُهْرٍ من غير جماع، وكلُّ طلاقٍ في غضبٍ أو يمينٍ أو عتقٍ فليس بطلاقٍ إلا لمن أراد الطلاق (¬6). والمقصودُ أن هؤلاء يشترطون في وقوع الطلاق إذنَ الشارع فيه، وما لم يأذنْ فيه الشارعُ فهو عندهم لاغٍ (¬7) غيرُ نافذ. ¬
الوجه التاسع عشر
قال شيخ الإسلام: وقولُهم أصحُّ في الدليل من قولِ من يُوقِع الطلاق الذي لم يأذن فيه الله ورسوله, ويراهُ صحيحًا لازمًا. والمقصودُ أن أحدًا لم يَقُلْ إن مُجَرَّد التكلُّم بالطلاق مُوجِبٌ لترتُّبِ أثرِه علي أيِّ وجهٍ كان. الوجه التاسع عشر: أن هذا مقتضي نصِّ أحمد, كما تقدم تفسيرُه "الإغلاق" في رواية حنبل بالغضب. وقال عبد الله ابنه في "مسائله" (¬1): سألت أبي عن المجنون إذا طلَّق في وقتِ زَولان عقله, أيجوز؟ قال أبي: كلُّ من كان صحيحَ العقل, فَزَال عقلهُ عن صحته, فطلَّقَ, فليس طلاقه بشئ. فهذا عمومُ كلامه, وذاك خاصُّه, فقد جَعَل تغيُّرَ العقل عن صحته مانعًا من وقوع الطلاق, ولا ريب أن إغلاق الغضب يُغَيِّر العقل عن صِحَّته. الوجه العشرون: أن الفقهاء اختلفوا في صحة حُكْمِ الحاكم في الغضب علي ثلاثة أقوال, وهي ثلاثةُ أوجهٍ في مذهب أحمد (¬2): أحدها: لا يصِحُّ ولا يَنْفُذ؛ لأن النهي يقتضي الفساد. والثاني: يَنْفُذْ. والثالث: إنْ عَرَض له الغضبُ بعدَ فَهْمِ الحكم نفَذَ حكمُه, وإنْ ¬
الوجه الحادي والعشرون
عَرَض له قبل ذلك لم يَنْفُذْ، فإن الحاكم يجب أنْ يكون عالمًا عدلًا. فمن نَفَّذَ حكمَه قال: الغضبُ لا يمنعُه العلمَ والعدلَ، فقد حَكَم النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - للزبير في شِراج الحَرَّة وهو غضبان (¬1). ومن لم يُنَفِّذْ حكمَه قال: الغضبُ يمنعه كمال المقصود، وحسنَ القصد، فيمنعه العلم والعدل، ولا يصحُّ القياس على النبي - صلى الله عليه وسلم -، فإنه معصومٌ في غضبه ورضاه، فكان إذا غضب لم يقل إلا حقًّا كما كان في رضاه كذلك (¬2). ومن فَرَّق قال: إذا عَلِم الحق قَبْلَ الغضب لم يَمْنَعْهُ الغضبُ من العلم، وحينئذِ فيُمْكِنه أن ينفِّذ الحق الذي عَلِمَه، وإذا غضب قبل الفهم لم يَنْفذْ حكمُه، لإمْكان أن يَحُول الغضبُ بينه وبين الفهم. وهؤِلاء يحتجُّون بقضية الزبير، وأن النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - إنما عَرَضَ له الغضبُ بعد فهْمِ الحُكومة. والمقصود أن الغضب إذا أثَّر عند هؤلاء في بطلان الحكم، عُلِمَ أن كلام الغضبان غيرُ كلام الراضي المختار، وأنَّ للغضب تأثيرًا في ذلك. الوجه الحادي والعشرون: أن وقوعَ الطلاق حكمٌ شرعيٌّ، ¬
الوجه الثاني والعشرون
فيَسْتَدْعِي دليلًا شرعيًّا، والدليلُ إما كتابٌ، أو سنةٌ، أو إجماعٌ، أو قياسٌ يستوي فيه حكم الأصل والفرع، وليس شيءٌ منها موجودًا في مسألتنا. وإنْ شئتَ قلتَ: الدليلُ إمًّا نصٌّ وإمَّا معقولُ نصٍّ، وكلاهما منتفٍ. وإن شئتَ قلتَ: لو ثبت الوقوعُ لزم وجودُ دليلهِ، واللازمُ مُنْتَفٍ، فالملزوم مثلُه. الوجه الثاني والعشرون: أن نكاح هذا مثبتٌ بالإجماع، فلا يزول إلا بإجماعٍ مثلهِ. وإن شئت قلتَ: نكاحُه قبل صُدورِ هذا اللفظ منه ثابتٌ بإجماعٍ، والأصلُ بقاؤه حتى يَثْبُتَ ما يرفعُه. الوجه الثالث والعشرون: أن جمهور العلماء يقولون: إن طلاق الصبيِّ المميِّزِ العاقلِ لا يَنْفُذُ ولا يَصِحُّ. هذا قولٌ أبي حنيفة (¬1)، ومالك (¬2)، والشافعي (¬3)، وإحدى الروايتين عن الإمام أحمد اختارها الشيخ أبو محمد (¬4)، وهو قول إسحاق (¬5). مع كونه عارفًا باللفظ وموجبه بكلماتِه اختيارًا وقصدًا، وله قصدٌ ¬
صحيح، وإرادة صحيحةٌ، وقد أمر الله سبحانه بابتلائه واختباره في تصرفاته (¬1)، وقد نَفَّد عمر بن الخطاب وصيته (¬2)، واعتبر النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - قصدَه واختياره في التخيير بين أبويه (¬3). فالغضبان الشديدُ الغضب، الذي قد أُغْلِقَ عليه بابُ القصدِ والعلمِ أولى بعدم وقوع طلاقه من هذا بلا ريب. فإن قيل: الغضبانُ مكلَّفٌ، وهذا غير مكلَّفٍ؛ لأن القلم مرفوعٌ عنه. قيل: نَعَمْ، الأمرُ كذلك، ولكنْ لا يلزم من كونه مكلَّفًا أن يترتَّب الحكم على مجرَّد لفظه، كما تقدَّم. كيفَ، والمكرهُ مكلفٌ ولا يصح طلاقُه، والسكرانُ مكلف، والمريضُ مكلف؟!، فلا يلزم من كون العبد مكلَّفًا أن لا يَعْرِضَ له حالٌ يَمْنَعُ إعتبارَ أقواله، ونقضَ ¬
الوجه الرابع والعشرون
أفعاله (¬1). الوجه الرابع والعشرون: أن غاية التلفُّظ بالطلاق أن يكون جزءَ سببٍ، والحكمُ لا يتمُّ إلا بعد وجود سببه وانتفاء مانعه، وليس مجرَّدُ التلفظ سببًا تامًّا، باتفاق الأئمة، كما تقدم. وحينئد، فالقصد والعلمُ والتكليفُ إما أن تكود بقيةَ أجزاءِ السبب (¬2)، أو تكون شروطًا في اقتضائه، أو يكون عدمُها مانعًا من تأثيره. وعلى التقادير الثلاثة، فلا يؤثِّر التكلُّمُ بالطلاق بدونها. وليسِ مع من أوقع طلاق الغضبان، والسكران، والمكره، ومن جرى على لسانه بغير قصدٍ منه، إلا مجرَّدُ السبب، أو جزؤُه، بدون شرطِه وانتفاء مانعه، وذلك غير كافٍ في ثبوت الحكم، والله أعلم. الوجه الخامس والعشرون: أنه لو سَبَق لسانُه بالطلاق ولم يُرِدْهُ، دُيِّنَ فيما بينه وبين الله تعالى، ويُقْبَل منه ذلك في الحكم، في إحدي الروايتين عن أحمد، إلا أن تُكذِّبه قرينة. والرواية الأخرى: يُدَيَّنُ، ولا يُقبَل في الحكم (¬3). وكذلك قال أصحاب الشافعي، إذا سبق الطلاقُ إلى لسانه بغير قصدٍ فهو لغو، ولكن لا تُقْبَلُ دعوى سبق اللسان إلا إذا ظهرت قرينةٌ تدل عليه. فقبلوا منه في الباطن دون الحكم إلا بقرينة (¬4). ¬
وكذلك قال أصحاب مالك: مَنْ سَبقَ لسانُه إلى الطلاق لم يَقَعْ عليه الطلاق. قالوا: ويُقْبَلُ في الفتوى (¬1). وأبو حنيفة لا يرى سَبْقَ اللسان مانعًا من وقوع الطلاق، وعنه في سبق اللسان في العتق: روايتان، وقرَّرَ أصحابُه بأن المرأة تملك بُضعها لسببٍ يستوي فيه القصدُ وعدمُ القصد، كالسكران، والمكره، والهازل، وكالرضاع، بالاتفاق؛ فزوال البُضع لا يختلف في سببه القصدُ وعدمُ القصد، بخلاف العتق، فإن السبب الذي يملك به نفسه يختلف فيه القصد وعدمه، وروى أبو يوسف عن أبي حنيفة التسوية بينهما، ثم اختلف أصحابه، فقالت طائفة: هما سواء في الوقوع، وقالت طائفة: بل هما سواء في عدم الوقوع (¬2). والمقصودُ أن سبق اللسان إلى الطلاق من غير قصدٍ له مانعٌ من وقوعه عند الجمهور. والغضبانُ إذا عَلِم من نفسه أنَّ لسانه سَبَقه بالطلاق من غير قصدٍ جازَ له الإقامةُ على نكاحه، ويُدَيَّن في الفتوى، وأما قبولُه في الحكم فيُخَرَّج على الخلاف، والأظهرُ أنه إنْ قامت قرينةٌ ظاهرةٌ تدلُّ على صحة قولهِ قُبِل في الحكم، والغضبُ الشديدُ من أقوى القرائن، ولا سيَّما فإن كثيرًا ممن يطلِّق في شدة الغضب يحلفُ بالله جَهْدَ يمينه أنه لم ¬
يقصد الطلاق، وإنما سَبَق لسانُه. وحينئذٍ، فالجمهورُ، لا يُوقِعون عليه الطلاق، كما صرَّح به أصحابُ أحمد والشافعي ومالك. وفي قبوله (¬1) في القضاء ثلاثةُ أقوال، أصحُّها أنه إنْ قامت قرينةٌ ظاهرةٌ على صحة قوله قُبِل، وإلَّا فلا. ¬
فصل ومما يبين أن الغضبان قد يتكلم في الغضب بما لا يريده
فصل ومما يبيِّنُ أن الغضبان قد يتكلَّم في الغضب بما لا يريده، ما رواه مسلم في "صحيحه" من حديث أبي الزبير، أنه سمع جابر بن عبد الله يقول: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: "إنما أنا بشر، وإني اشترطْتُ (¬1) على ربي عز وجلَّ، أيُّ عبدٍ من المسلمين شتمتُه، أو سَبَبْتُه، أن يكون ذلك له زكاةً وأجرًا" (¬2). وفي "مسند الإمام أحمد" منِ حديث مسروق، عن عائشة قالت: دخل على النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - رجلان، فأغْلَظ لهما وسبَّهما (¬3)، قالت: فقلتُ: يا رسول الله! لَمَنْ أصابَ منكَ خيرًا، [ما أصاب هذان منك خيرًا!] (¬4)، قالت: فقال: "أَو ما علمتِ ما عاهدتُ عليه ربيِّ عز وجل؟، قلتُ: اللهمَّ أيُّما مؤمنٍ سببتُه، أو جلدتُه، أو لعنتُه، فاجعلها له مغفرةً وعافية" (¬5). وفي الصحيحين من حديث أبي هريرة، أنه سمع النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - يقول: "اللهم أيُّما عبدٍ مؤمنٍ سببتُه، فاجعل ذلك قربةً إليك يوم القيامة" (¬6). ¬
وفي بعض ألفاظ الحديث: "إنما أنا بشرٌ، أَرضى كما يرضى البشر، وأغضبُ كما يغضبُ البشر، فأيُّما مؤمنٍ سببتُه أو لعنتهُ فاجعلها له زكاةً". فلو كان النبي - صلى الله عليه وسلم - مُريدًا لِما دعا به في الغضب، لَما شَرَط على ربِّه وسألَ أن يَفْعَلَ بالمدعوِّ عليه ضدَّ ذلك، إذْ من الممتنع اجتماعُ إرادةِ الضِّدَّيْن، وقد صرّح بإرادة أحدِهما، مشترطًا له على ربِّه، فدلَّ على عدم إرادته لِما دعا به في حال الغضب. هذا وهُو - صلى الله عليه وسلم - معصومُ الغضب، كما هو معصومُ الرضا، وهو مالك لفظه بتصرُّفه (¬1)، فكيف بمن لم يُعْصَم (¬2) في غضبه، وتمليكه (¬3)، ويتصرَّفُ فيه غضبُه، ويتلاعبُ الشيطان به فيه؟! وإذا كان الغضبان يتكلَّم بما لا يريده، ولا يريدُ مضمونه، فهو بمنزلة المُكره الذي يُلْجَأُ إلى الكلام، أو يتكلَّم به باختياره ولا يريد مضمونه، والله أعلم. فإن قيل: ما ذكرتم مُعارَضٌ بما يدلُّ على وقوع الطلاق؛ فإن الغضبان أتي بالسببِ اختيارًا، وأراد في حال الغضب ترتُّبَ أثرِه عليه، ولا يضرُّ عدمُ إرادتهَ له في حال رضاه؛ إذْ الاعتبارُ بالإرادة إنما هو حالَ التلفُّظ، بخلافِ المُكْرَه، فإنه محمولٌ على التكلُّم بالسبب، غيرُ مريدٍ ¬
لترتُّبِ أثره عليه، وبخلاف السكران المغلوب [على] (¬1) عقله، فإنه غيرُ مكلفٍ. والغضبان مكلَّفٌ مختارٌ، فلا وجه لإلغاء كلامه. فالجواب: أن يقالُ: إنْ أُريد بالاختيار رضاهُ به وإيثارُه له، فليس بمختار، وإن أردتُم أنه وقع بمشيئته وإرادته التي هو غيرُ راضٍ بها ولا بأثرها، فهذا بمجرَّده. لا يُوجِبُ ترتُّب الأثر، فإن هذا الاختيار ثابتٌ للمكرَه والسكران، فإنا لا نشترط في السكران أن لا يفرِّقَ بين الأرض والسماء، بل المشتَرَط في عدم ترتُّب أثرِ أقواله: أنه يَهْذي ويخلِطُ في كلامه، وكذلك المحمومُ والمريض. وأبلغ من هذا: الصبيُّ المراهقُ للبلوغ, إذْ هو من أهل الإرادة والقصد الصحيح، ثم لم يَتَرتَّب على كلامه أثرُه، وكذلك مَنْ سَبقَ لسانُه بالطلاق ولم يُرِدْهُ فإنه لا يَقَع طلاقُه، وقد أتى باللفظ في حال الاختيار غيرَ مكرهٍ، ولكنْ لم يقصِدْهُ. والغضبانُ وإن قصده فلا حُكمَ لقصده في حال الغضب؛ لما تقدَّم من الأدلة الدالة على ذلك. وقد صرَّح أصحابُنا: مَن (¬2) كان جنونُه لِنَشافٍ، أو برسامٍ، لا يقعُ طلاقُه، ويسقط حكمُ تصرُّفه، وإن كانتْ (¬3) معرفتُه عْيرَ ذاهبةٍ بالكلية، ولا يضرُّه أن يَذْكُر الطلاقَ، وأنه أوقعه (¬4). ¬
خاتمة الرسالة
وما ذكرناه من دعاء النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - رَبَّه أن يجعل سبَّه لمَنْ سَبَّه في حال غضبه، صريحٌ في أنه [غير] (¬1) مريدٍ له، إذ لو أراده واختاره لم يَسْألْ ربَّه أن يَفْعَلَ بالمدعوِّ عليه ضِدَّ ما دعا به عليه، إذْ لا يُتَصَوَّرُ إرادةُ ضدَّين في حالة واحدة، وهذا وحده كافٍ في المسألة. فهذا ما ظهر في هذه المسألةِ بعد طُول التأمُّل والفِكْر، ونحنُ مِنْ وراء القبول والشكر لمن رَدَّ ذلك بحجةٍ يجب المصير إليها، ومِنْ وراء الردِّ على من رَدَّ ذلك بالهوى والعناد، والله المستعان، وعليه التكلان، وصلى الله على سيد المرسلين، وخاتم النبيين، وعلى آله وأصحابه وعترته وأنصاره، صلاةً دائمةً بدوام مُلك الله عز وجل. ¬