إعلان النكير على المفتونين بالتصوير

التويجري، حمود بن عبد الله

تقريض الشيخ عبد العزيز بن باز

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وأصحابه ومَن والاه. أما بعد، فلقد اطلعت على هذه الرسالة المباركة التي ألفها أخونا وصاحبنا العلامة الشيخ: حمود بن عبدالله التويجري - رحمه الله - في حكم تصوير ذوات الأرواح، وما ورد في ذلك من النصوص الصحيحة عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ومن كلام أهل العلم في معناها وشرْح مقتضاها؛ فألفيتها رسالة قيمة غزيرة الفائدة، قد اشتملت على إيضاح الحق بدليله، وكشف الشبه التي قد يتعلق بها المُعارِض، وإيضاح كثير من الحِكَم والأسرار التي من أجلها حرَّم الله التصوير، وحذَّر منه رسوله - صلى الله عليه وسلم - بأنواع التحذير، وأخبر أن المصورين أشد الناس عذابًا يوم القيامة، وأن مَن صَوَّر صورةً في الدنيا كُلِّف أن ينفخ فيها الروح وليس بنافخ. وكل مَن تأمل الأحاديث الواردة في هذا الباب وما أحدثه الناس اليوم من التوسُّع في التصوير وانتشاره في كل مكان والعناية بتصوير الزعماء والرؤساء والنساء الخليعات وغيرهم - علم الكثير من حكمة الشارع في النهي عن التصوير والتحذير منه، وعرف الكثير من مفاسد ذلك ومضارِّه على المجتمع في دينه وأخلاقه، وفي ديناه وسلوكه، وفي سائر أحواله وشؤونه. ولقد غلط غلطًا فاحشًا مَن فرَّق بين التصوير الشمسي والتصوير النحتي، وبعبارة أخرى بين التصوير الذي له ظل والذي لا ظل له؛ لأن الأحاديث الصحيحة الواردة في هذه المسألة تعمُّ

النوعَين وتنظمها انتظامًا واحدًا، ولأن المضار والمفاسد التي في التصوير النحتي وما له ظل مثل المفاسد والأضرار التي في التصوير الشمسي، بل التصوير الشمسي أعظم ضررًا وأكثر فسادًا من وجوه كثيرة، نسأل الله أن يمنَّ علينا وعلى المسلمين بالعافية من النوعَين جميعًا، وأن يصلح أحوال الأمة وقادتها، وأن يهدي الجميع صراطه المستقيم. وإني أنصح كلَّ مَن وقعت في يده هذه الرسالة أن يقرأها من أولها إلى آخرها، وأن يتدبر ما فيها من الأحاديث والفوائد وكلام أهل العلم؛ لعله بذلك يتضح له الحق، ويطمئن قلبه إلى ما دلت عليه النصوص من تحريم التصوير والتنفير منه؛ فينفع نفسه وينفع غيره، ويقوم بما أوجب الله عليه من الدعوة إلى الحق والتحذير من خلافه، وقد قال الله - عز وجل -: {وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلاً مِمَّنْ دَعَا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحًا وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ} [فصلت: 33]، وقال - عز وجل -: {ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ} [النحل: 125]، وقال النبي - صلى الله عليه وسلم - لعلي بن أبي طالب - رضي الله عنه -: ((لأن يهدي الله بك رجلاً واحدًا خير لك من حُمْر النَّعَمِ))، وقال - صلى الله عليه وسلم -: ((مَن دلَّ على خيرٍ فله مثل أجر فاعله))، والله الموفق والهادي إلى سواء السبيل، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم، وصلى الله على عبده ورسوله محمد وآله وصحبة ومَن اهتدى بهداة إلى يوم الدين. نائب رئيس الجامعة الإسلامية في المدينة المنورة عبدالعزيز بن عبدالله بن باز * * *

تقريض الشيخ عبد الرزاق العفيفي

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله ولى المتقين، وأشهد أن نبينا محمد عبده ورسوله، صلوات الله وسلامه عليه، وعلى إخوانه النبيين، ورضي الله عن أتباعهم إلى يوم الدين. وبعد، ففي تصوير الصالحين والوجهاء والنساء الخليعات والممثلات ونحوهم ما يفسد العقيدة أو يضعفها، وما يوجب الفتنة ويثير الشر، مع ما في ذلك عمومًا من المضاهاة بخلق الله والتشبه بالمشركين وأهل الزيغ والانحلال في تصويرهم لصالحيهم وزعمائهم ونسائهم، ومساعدتهم على ما قصدوا معه غزو البلاد الإسلامية بهذه الصور الفتَّانة إفساد الأخلاق وإضعافًا للغيرة، وإغراء لنا بما فُتِنوا به؛ حتى نقلدهم في صنيعهم ونسلك مسلكهم، ونصاب في عقائدنا بما أصيبوا به من الشرك والإلحاد، ويذهب ما لدينا من عفاف وسلامة في الأخلاق ومحافظة على الأعراض، ويهون علينا انتهاك الحرمات. من أجل هذا وغيره وردت النصوص عن الرسول - صلى الله عليه وسلم - بتحريم التصوير، ولعن المصورين وتوعدهم بالعذاب الأليم يوم القيامة؛ مما يدل على أن ذلك من الكبائر وعظيم والجرائم، كما جاء النهي عن اتخاذها وتحريم تعليقها مطلقًا بالمساكن والمؤسسات الثقافية والشركات والنوادي

والدكاكين ونحوها، على النوافذ أو الأبواب أو الجدران، مجسمة أو غير مجسمة، تعظيمًا لها أو أحياء لذكرى صاحبها أو لغير ذلك من المقاصد والأغراض. هذا، وقد اطلعت على ما كتبه الأخ الفاضل الشيخ: حمود بن عبدالله التويجري فوجدته - والحمد لله - وافيًا بالمطلوب مستقصيًا لأطراف الموضوع؛ فقد أتى على الأدلة التي تحرم ذلك وتحذر منه، والتي تصرح بفحش الجريمة وسوء عاقبة فاعلها، ومصير الأمة التي يفشو فيها ذلك دون نكير، مع البيان لوجه الدلالة من الأدلة والاستقصاء لما فيها من الفوائد، وذكر الطرق المتعددة للأحاديث ونسبها إلى دواوينها، وتبيين درجتها وشرح الحكمة التي رُوعِيت فيما دلت عليه النصوص من الأحكام؛ ليكون أرجى لقبول العقول، وأدعى إلى اطمئنان النفوس لما تضمنته الرسالة، وذكر آراء العلماء في المسألة؛ للاستئناس وقطعًا لأعذار مَن يتعلق بأقوال المجتهدين ويتعلل بها لهواه، وبيَّن كيف أفضت صور الصالحين قديمًا إلى الشرك وعبادة غير الله، وإلى الفتنة وانتشار الفاحشة وقضاء الوطر في غير ما أحل الله، وأيَّد ذلك بما ذكر من الآثار والوقائع التاريخية. ولقد جاءت هذه الرسالة المباركة - إن شاء الله - في وقت افتتن الناس فيه بالتصوير وتعليق الصور في شتى الأماكن، مع الارتياح إليها وعدم المبالاة بمخالفتها نصوص الشرعية، حتى أنس الجمهور بها زعموا أنها مباحة أو هوَّنوا الأمر فيها لما شاهد، وأَمِن كثرة الصور في البلاد

الإسلامية على مرأى من المتعلمين وقلة المنكرين، ولو علموا سنة الله في خلقة وأن الباطل لا حياة له مع يقظة الحق وأهله وعناية الدعاة إليه بنشره وتأييده، وأن الباطل إنما يصول ويجول حينما يندرس العلم ويذهب العلماء، أو حينما يغفل رجال الدين عن واجبهم أو يداهنوا غيرهم، أو تضعف شوكتهم ولا يجدون من ورائهم مَن ينفذ مقالتهم أو ينصرهم في أمرهم بالمعروف ونهيهم عن المنكر. أسأل الله أن ينفع بهذه الرسالة مَن قرأها أو سمعها، وأن يجزي مَن ألفها عن الإسلام والمسلمين خير الجزاء، وأن يبصر المسلمين جميعًا أئمتهم ورعيتهم علماءهم والأميين منهم بأمر دينهم، ويوفقهم للأخذ به والوقوف عند حدوده، فإنه - سبحانه - القوي العزيز الهادي إلى سواء السبيل، وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وسلم. حرر في 19/ 1/ 1382 هـ عبدالرزاق عفيفي المدرس بكلية الشريعة بالرياض * * *

التحذير من التصوير وبيان أنه أذية لله ولرسوله

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ الحمد لله المتفرد بالخلق والتدبير، الذي أتقن كل شي خلقة وصوَّر فأحسن التصوير، تعالى عن أن يكون له شريك أو نظير، ومَن أظلم ممن ذهب يخلق كخلق الله وهو عن الإيجاد عاجز حقير، لا يقدر على خلق ذرة ولا بعوضة ولا حبة من شعير، وهو مع ذلك ينازع الله فيما اختص به من التصوير، فويل للمصورين من عذاب السعير، فكل مصور في النار كما أخبر بذلك البشير النذير، ومَن أمر بالتصوير أو رضي به فهو شريك لفاعل هذا الذنب الكبير. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ولا وزير ولا ظهير، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله الذي كسر الأصنام ومحا التصاوير، وحذر من صناعتها واتخاذها غاية التحذير. اللهم صلِّ على عبدك ورسولك محمد وعلى آله وأصحابه نجوم الهداية والتبصير، وعلى مَن سلك سبيلهم من كبير وصغير، وسلم تسليمًا كثيرًا. أما بعد، فقد قال الله - تعالى -: {إِنَّ الَّذِينَ يُؤْذُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ لَعَنَهُمُ اللَّهُ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَأَعَدَّ لَهُمْ عَذَابًا مُهِينًا} [الأحزاب: 57]، قال عكرمة: نزلت في المصوِّرين؛ ذكره البغوي وابن كثير ورواه أبو نعيم في "الحلية".

صناعة الصور ونصبها في المجالس موروث عن قوم نوح وعن النصارى ومشركي العرب

وفي هذه الآية على هذا التفسير أبلغ تحذير من التصوير، ومثل ذلك ما في الأحاديث الصحيحة كما سيأتي ذكرها - إن شاء الله تعالى - وقد عظُمت البلوى بصناعة الصور وبيعها وابتياعها، وافتتن باقتنائها واقتناء الجرائد والمجلات والكتب التي فيها ذلك كثير من المنتسبين إلى العلم من معلمين ومتعلمين فضلاً عن غيرهم، وصار نصبها في المجالس والدكاكين عادة مألوفة عند كثير من الناس، ومَن أنكر ذلك عليهم أو أنكر صناعتها فأقل الأحوال أن يستهزئوا به ويهمزوه ويلمزوه، وهذا دليل على استحكام غربة الإسلام، وظهور الجهل بما بعث الله به رسوله محمدًا - صلى الله عليه وسلم - وما أمر به من هدم الأوثان وكسر الأصنام والصلبان وطمس الصور ولطخها، فالله المستعان. وهذا المنكر الذميم - أعني: صناعة الصور ونصبها في المجالس وغيرها - موروث عن قوم نوح ثم عن النصارى ومَن بعدهم، وكذلك عن مشركي العرب؛ فإنهم كانوا يصنعون الصور وينصبونها كما ستأتي الإشارة إلى ذلك من الأحاديث التي ستأتي قريبًا - إن شاء الله تعالى. ولكن كان عملها واتخاذها قليلاً عند مشركي العرب بالنسبة إلى النصارى، وقد صوَّر مشركو قريش في جوف الكعبة صورًا؛ منها: صورة إبراهيم، وصورة إسماعيل، وصورة مريم في حجرها عيسى - عليهم الصلاة والسلام -

التشديد في التشبه بأعداء الله

فالمصورون من هذه الأمة متشبِّهون بقوم نوح وبالنصارى وبمشركي العرب. وقد ثبت عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: ((مَن تشبه بقوم فهو منهم))؛ رواه الإمام أحمد وأبو داود وغيرهما من حديث ابن عمر - رضي الله عنهما - وصححه ابن حبان. وقال شيخ الإسلام أبو العباس ابن تيمية - رحمة الله تعالى -: إسناده جيد، وقال الحافظ ابن حجر العسقلاني: إسناده حسن، قال شيخ الإسلام: وقد احتجَّ الإمام أحمد وغيره بهذا الحديث، قال: وهذا الحديث أقل أحواله أنه يقتضي تحريم التشبه بهم، وإن كان ظاهره يقتضي كفر المتشبه بهم؛ كما في قوله: {وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ} [المائدة: 51]، انتهى. وفي "جامع الترمذي" عن عبدالله بن عمرو - رضي الله عنهما - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: ((ليس منا مَن تشبه بغيرنا)). وفي هذين الحديثين كفاية في التحذير من مشابهة قوم نوح والنصارى ومشركي العرب وطوائف الإفرنج وغيرهم من اسم الكفر والضلال في صناعة الصور واتخاذها. ومَن أصر على مشابهتهم فلا يأمن أن يحشر معهم يوم القيامة؛ فقد قال الله - تعالى -: {احْشُرُوا الَّذِينَ ظَلَمُوا وَأَزْوَاجَهُمْ وَمَا كَانُوا يَعْبُدُونَ} [الصافات: 22]. قال أمير المؤمنين عمر بن الخطاب - رضي الله عنه -: أزواجهم أشباههم، وكذا قال ابن عباس والنعمان بن بشير - رضي الله عنهم - يعني بأزواجهم: أشباههم وأمثالهم.

وقال قتادة والكلبي: كل مَن عمل مثل عملهم. وقال الله - تعالى -: {وَإِذَا النُّفُوسُ زُوِّجَتْ} [التكوير: 7]، قال: ابن كثير: أي: جمع كل شكل إلى نظيره. وروى ابن أبي حاتم عن النعمان بن بشير - رضي الله عنهما - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: {وَإِذَا النُّفُوسُ زُوِّجَتْ} قال: ((الضُّرَباء كل رجل مع كل قوم كانوا يعملوا عمله)). وروى ابن أبي حاتم أيضًا عن النعمان بن بشير - رضي الله عنهما - أن عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - خطب الناس فقرأ: {وَإِذَا النُّفُوسُ زُوِّجَتْ} [التكوير: 7] فقال: تزوجها أن تؤلف كل شيعة إلى شيعتهم، وفي رواية قال: هما الرجلان يعملان العمل فيدخلان به الجنة أو النار. وقال مجاهد: {وَإِذَا النُّفُوسُ زُوِّجَتْ} قال: الأمثال من الناس جمع بينهم، قال ابن كثير: وكذا قال الربيع بن خثيم والحسن وقتادة، واختاره ابن جرير وهو الصحيح، انتهى. وفي هذه الآية والآية قبلها وعيد شديد لِمَن تشبه بأعداء الله - تعالى - في صناعة الصور واتخاذها وفي غير ذلك من الأمور المحرمة. * * *

بدأ الشرك في بني آدم كان بسبب الصور

فصل وقد كان بدء الشرك في بني آدم بسبب الصور؛ كما قال ابن جرير: حدثنا ابن حميد، حدثنا مهران، عن موسى، عن محمد بن قيس في قوله: {وَلاَ يَغُوثَ وَيَعُوقَ وَنَسْرًا} [نوح: 23] قال: كانوا قومًا صالحين بين آدم ونوح وكان لهم أتباع يقتدون بهم، فلما ماتوا قال أصحابهم الذين كانوا يقتدون بهم: لو صورناهم كان أشوق لنا إلى العبادة إذا ذكرناهم، فصورهم، فلما ماتوا وجاء آخرون دبَّ إليهم إبليس فقال: إنما كانوا يعبدونهم وبهم يُسقون المطر فعبدوهم. وروى ابن أبي حاتم بسنده عن أبي المطهر قال: ذكروا عند أبي جعفر وهو قائم يصلي يزيد بن المهلَّب قال: فلما انتقل من صلاته قال: ذكرتم يزيد بن المهلَّب أما إنه قتل في أول أرض عُبِد فيها غير الله قال: ثم ذكروا رجلاً مسلمًا وكان محببًا في قومه، فلما مات اعتكفوا حول قبره في أرض بابل وجزعوا عليه، فلما رأى إبليس جزعهم عليه تشبه في صورة إنسان ثم قال: إني أرى جزعكم على هذا الرجل فهل لكم أن أصور لكم مثله فيكون في ناديكم فتذكرونه؟ قالوا: نعم، فصوَّر لهم مثله قال: وضعوه في ناديهم وجعلوا يذكرونه، فلما رأى ما بهم من ذكره قال: هل لكم أن أجعل في منزل كل رجل منكم تمثالاً فيكون له في بيته فتذكرونه؟ قالوا: نعم، قال: فمثل لكل أهل بيت تمثالاً مثله فأقبلوا فجعلوا يذكرونه به قال: وأدرك أبناؤهم فجعلوا

يرون ما يصنعون به قال وتناسلوا ودَرَسَ أمر ذكرهم إياه حتى اتخذوه إلهًا يعبدونه من دون الله أولاد أولادهم، فكان أول ما عُبِد من دون الله ود الصنم الذي سموه ودًّا. وقال البخاري في "صحيحه": حدثنا إبراهيم بن موسى، أخبرنا هشام، عن ابن جريج، وقال عطاء: عن ابن عباس - رضي الله عنهما - صارت الأوثان التي في قوم نوح في العرب بعد، أما ودُّ فكانت لكلب بدومة الجندل، وأما سواع فكانت لهذيل، وأما يغوث فكانت لمراد، ثم لبني غطيف بالجرف عند سبأ، وأما يعوق فكانت لهمدان، وأما نسر فكانت لحمير لآل ذي الكلاع، أسماء رجال صالحين من قوم نوح، فلما هلكوا أوحى الشيطان إلى قومهم أن انصبوا إلى مجالسهم التي كانوا يجلسون فيها أنصابًا وسموها بأسمائهم ففعلوا، فلم تُعبد حتى إذا هلك أولئك وتَنَسَّخَ العلم عُبِدت. فهذا ما آل إليه أمر الصور في قوم نوح فمَن بعدهم من المشركين، وأما النصارى فكانوا يعبدون الصور التي لا ظل لها؛ كما في الصحيحين عن عائشة - رضي الله عنها - أن أم حبيبة وأم سلمة - رضي الله عنهما - ذكرتا كنيسة رأينها بالحبشة فيها تصاوير فذكرتا ذلك للنبي - صلى الله عليه وسلم - فقال: إن أولئك إذا كان فيهم الرجل الصالح فمات بنوا على قبره مسجدًا وصوَّروا فيه تلك الصور فأولئك شرار الخلق عند الله يوم القيامة.

غالب كفر الأمم كان من جهة الصور

قال الحافظ ابن حجر في "فتح الباري": إنما فعل ذلك أوائلهم؛ ليتأنَّسوا برؤية تلك الصور، ويتذكروا أحوالهم الصالحة فيجتهدوا كاجتهادهم، ثم خلف من بعدهم خُلُوف جهلوا مرادهم، ووسوس لهم الشيطان أن أسلافكم كانوا يعبدون هذه الصور ويعظمونها فاعبدوها، فحذَّر النبي - صلى الله عليه وسلم - عن مثل ذلك؛ سدًّا للذريعة المؤدية إلى ذلك. وذكر الحافظ أيضًا أن النصارى كانوا يصورون صورة مريم والمسيح وغيرهما ويعبدونها، وقال أيضًا: كان غالب كفر الأمم من جهة الصور. وذكر ابن القيم - رحمة الله تعالى - في كتاب "الإغاثة" أمثلة كثيرة من تلاعب الشيطان بالنصارى قال فيها: وتلاعَب بهم في تصوير الصور في الكنائس وعبادتها، فلا تجد كنيسة من كنائسهم تخلو من صورة مريم والمسيح وجرجس وبطرس وغيرهم من القديسين عندهم والشهداء، وأكثرهم يسجدون للصور ويدعونها من دون الله - تعالى - حتى لقد كتب بطريق الإسكندرية إلى ملك الروم كتابًا يحتج فيه للسجود للصور بأن الله - تعالى - أمر موسى - عليه السلام - أن يصور في قبة الزمان صورة الساروس، وبأن سليمان بن داود لما عمل الهيكل عمل صورة الساروس من ذهب ونصبها داخل الهيكل، ثم قال في كتابه: وإنما مثل هذا مثال الملك يكتب إلى بعض عمَّاله كتابًا فيأخذه العامل ويقبله ويضعه على عينيه ويقوم له لا تعظيمًا للقرطاس

والمداد بل تعظيمًا للملك، كذلك السجود للصور تعظيم لاسم ذلك المصور لا للأصباغ والألوان. قال ابن القيم - رحمة الله تعالى -: وبهذا المثال بعينه عُبِدت الأصنام، وما ذكره هذا المشرك عن موسى وسليمان - عليهما السلام - لو صحَّ لم يكن فيه دليل على السجود للصور، وغايته أن يكون بمثابة ما يذكر عن داود أنه نقش خطيئته في كفه كي لا ينساها. فأين هذا مما يفعله هؤلاء المشركون من التذلل والخضوع والسجود بين يدي تلك الصور، وإنما المثل المطابق لما يفعله هؤلاء المشركون مثال خادم من خدمِ الملك دخل على رجل فوثب الرجل من مجلسه وسجد له وعبده، وفعل به ما لا يصلح أن يفعل إلا مع الملك، وكل عاقل يستجهله ويستحمقه في فعله؛ إذ قد فعل مع عبد الملك ما كان ينبغي له أن يخص به الملك دون عبيده من الإكرام والخضوع والتذلل، ومعلوم أن هذا إلى مقت الملك له وسقوطه من عينه أقرب منه إلى إكرامه ورفع منزلته، كذلك حال مَن سجد لمخلوق أو لصورة مخلوق؛ لأنه عمد إلى السجود الذي هو غاية ما يتوصل به العبد إلى رضا الرب، ولا يصلح الإله ففعله لصورة عبد من عبيده وسوى بين الله وبين عبده في ذلك، وليس وراء هذا في القبح والظلم شيء؛ ولهذا قال - تعالى -: {إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ} [لقمان: 13]، انتهى. وقد روى الإمام أحمد في "مسنده" والترمذي في "جامعه" وابن خزيمة

في كتاب "التوحيد" بإسناد صحيح عن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((يجمع الله الناس يوم القيامة في صعيد واحد، ثم يطلع عليهم رب العالمين فيقول: ألا يتبع كل أناس ما كانوا يعبدون، فيمثل لصاحب الصليب صليبه، ولصاحب التصوير تصويره، ولصاحب النار ناره، فيتبعون ما كان يعبدون)) الحديث؛ قال الترمذي: هذا حديث حسن صحيح. وفي "مستدرك الحاكم" من حديث أبي سعيد الخدري - رضي الله عنه - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: ((إذا كان يوم القيامة نادى منادٍ: ألا لتلحق كل أمة بما كانت تعبد، فلا يبقى أحدٌ كان يعبد صنمًا ولا وثنًا ولا صورة إلا ذهبوا حتى يتساقطوا في النار ...)) الحديث، قال الحاكم: صحيح الإسناد ولم يخرجاه بهذا السياق. والغرض من هذين الحديثين بيان أن الصور كانت من معبودات المشركين؛ فمنهم مَن كان يعبد الصور المجسمة، ومنهم مَن كان يعبد الصور التي ليس لها ظل. وإذا عُلِم أن عبادة الأصنام في قوم نوح كان سببها تصوير الصالحين ونصب صورهم في المجالس،

تحذير المسلمين من الافتتان بالصور

وعُلِم أيضًا أن النصارى كانوا يصورون صور القديسين عندهم ويسجدون للصور ويدعونها من دون الله - تعالى - فما يؤمن جُهَّال المسلمين أن يكون في أولادهم وأولاد أولادهم مَن يعبد الصور التي ينصبونها في مجالسهم ودكاكينهم، ولا سيما صور الملوك والوزراء، ونحوهم من الكبراء الذين قد افتتن السفهاء بتصويرهم ونصب صورهم في المجالس والدكاكين أكثر مما افتتنوا بغيرهم. وأعظم من ذلك أنه قد اتخذ نصب صور بعضهم رسميًّا في كثير من المجالس الرسمية في زماننا وهذا عين المحادة لله - تعالى - ولرسوله - صلى الله عليه وسلم - وقد قال الله - تعالى -: {أَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّهُ مَنْ يُحَادِدِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَأَنَّ لَهُ نَارَ جَهَنَّمَ خَالِدًا فِيهَا ذَلِكَ الْخِزْيُ الْعَظِيمُ} [التوبة: 63]. وما يفعله هؤلاء العصاة من تصوير الكبراء ونصب صورهم في المجالس وغيرها لا يشك عاقل شمَّ أدنى رائحة من العلم النافع أنه مثل ما فعله قوم نوح من تصوير الصالحين ونصب صورهم في المجالس سواء بسواء؛ وهذا مصداق قوله - صلى الله عليه وسلم - ((لا تقوم الساعة حتى تأخذ أمتي بأخذ القرون قبلها شبرًا بشبر وذراعًا بذراع)).

الصور داخلة في مسمى الأصنام

وما وقع من قوم نوح والنصارى وغيرهم من الشرك الأكبر بسبب الصور لا يبعد أن يقع مثله في آخر هذه الأمة؛ فالواجب على ولاة أمور المسلمين أن يمنعوا رعاياهم من صناعة التصاوير واتخاذها، وأن يطمسوا ما يوجد منها؛ عملاً بقول النبي - صلى الله عليه وسلم - لعلي - رضي الله عنه -: ((لا تدع صورة إلا طمستها)). وقد أخبر الله - تبارك وتعالى - عن خليله إبراهيم - عليه الصلاة والسلام - أنه قال: {وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هَذَا الْبَلَدَ آمِنًا وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَنْ نَعْبُدَ الأَصْنَامَ} [إبراهيم: 35]. فإذا كان خليل الرحمن أمام الحنفاء ووالد مَن بعده من الأنبياء قد خاف على نفسه وعلى بنيه من عبادة الأصنام، مع أنه قد كسرها بيده، مع أنه كان معصومًا عن عبادتها، فكيف لا يخاف عبادتها من ليس بمعصوم؟! ولهذا قال: إبراهيم التيمي: ومَن يأمن البلاء بعد إبراهيم؛ رواه ابن جرير وابن أبي حاتم. ومن أعظم أسباب البلاء نصب الصور في المجالس والدكاكين وغيرها مما قد افتتن به كثير من الناس في هذه الأزمان، والصور داخله في مسمى الأصنام عند أهل اللغة؛ فتدخل فيما دعا إبراهيم ربه أن يجنبه وبنيه عبادتها.

قال ابن الأثير: قد تكرر ذكر الصنم والأصنام وهو ما اتُّخِذ إلهًا من دون الله، وقيل: هو ما كان له جسم أو صورة، فإن لم يكن له جسم أو صورة فهو وثن. وقال أيضًا: الفرق بين الوثن والصنم أن الوثن كل ما له جثة معمولة من جواهر الأرض أو من الخشب والحجارة كصورة الآدمي تعمل وتنصب فتعبد، والصنم الصورة بلا جثة، ومنهم مَن لم يفرق بينهما وأطلقهما على المعنيين، وقد يطلق الوثن على غير الصورة، ومنه حديث عدي بن حاتم: قدمت على النبي - صلى الله عليه وسلم - وفي عنقي صليب من ذهب فقال لي: ((ألقِ هذا الوثن عنك)). قلت: هذا الحديث رواه البخاري في "التاريخ الكبير"، والترمذي وقال: حسن غريب. ومن إطلاق الوثن على الصليب قول الأعشى: يَطُوفُ العُفَاةُ بِأَبْوَابِهِ كَطَوْفِ النَّصَارَى بِبَيْتِ الوَثَنْ قال الأزهري: عن شمر: أراد بالوثن الصليب، نقله عنه ابن منظور في "لسان العرب". قال الحافظ ابن حجر: بين الوثن والصنم عموم وخصوص وجهي؛ فإن كان مصورًا فهو وثن وصنم، انتهى. وقد جاء عن على - رضي الله عنه - عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه سمى

تحريم بيع الصور

الصورة ضمنًا، وسيأتي هذا الحديث في آخر الأحاديث التي ستأتي قريبًا - إن شاء الله تعالى. إذا تقرر هذا فكيف يستجيز المسلم صناعة الصور ونصبها في مجلسه أو دكانه وهي من الأصنام التي تُعْبَد من دون الله - تعالى؟ وكيف يستحل المسلم بيعها وأكل ثمنها وذلك حرام عليه؛ لما في الصحيحين و"المسند" و"السنن" عن جابر بن عبدالله - رضي الله عنهما - أنه سمع رسول - صلى الله عليه وسلم - يقول وهو بمكة عام الفتح: ((إن الله ورسوله حرم بيع الخمر والميتة والخنزير والأصنام ...)) الحديث؛ قال الترمذي: حديث حسن صحيح، والعمل على هذا عند أهل العلم؟ وقال الخطابي: في تحريمه ثمن الأصنام دليلٌ على تحريم بيع جميع الصور المتَّخذة من الطين والخشب والحديد والذهب والفضة وما أشبه ذلك من اللعب ونحوها. قلت: وكذلك فيه دليل على تحريم بيع الصور المرقومة والمأخوذة بالآلة الفوتوغرافية؛ لأنها من جملة الأصنام. ومن أعظم الصور تحريمًا على البائع المبتاع والمتَّخذ ما يُصْنَع في زماننا من المطاط على صور النساء فإذا نفخت لم يفرق الرائي بينها وبين الآدميات في الصورة الظاهرة، وكثير من الكَفَرة ومَن فسَّاق المسلمين يستعملونها للجماع بدل الآدميات، وذلك حرام كالزنا، وقد فشا بيعها وابتياعها في كثير من البلدان التي ينتسب أهلها

جماع الصور المصنوعة على صفة النساء والغلمان حرام

إلى الإسلام من غير نكير إلا أن يكون من أفراد قليلين مستضعفين لا يؤبه لهم ولا يستمع إلى قولهم، فالله المستعان. وبائع هذه الصور الفتانة قد جمع بين إثمين عظيمين؛ أحدهما: بيع الأصنام، والثاني: الإعانة على فعل الفاحشة، إذ قد ثبت أنها تثير شهوة الرجال كما تثيرها الحسناء من الآدميات، وتدعو ذوي القلوب المريضة إلى الفجور بها كما تدعو إلى ذلك الحسناء من الآدميات. وقد نص العلماء على أنه لا يجوز بيع الأمرد ممَّن علم أنه يفجر به، ولا يبع الأمة ممَّن يطؤها في الدبر، وهكذا يقال في بيع صور النساء والمردان؛ لأن الغالب على مشتريها أنه إنما يشتريها لفعل الفاحشة بها. وقد حرم الله - تبارك وتعالى - جماع ما عدا الزوجات والسراري؛ فقال - تعالى - في وصف المؤمنين: {وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ * إِلاَّ عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ * فَمَنِ ابْتَغَى وَرَاءَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْعَادُونَ} [المؤمنون: 5 - 7]. فدلت الآية الثانية بمفهومها على أن الجامعِين للصور المصنوعة ملومون على جماعها، ودلت الآية الثالثة بالنص على أنهم عادون - والله أعلم. فإن قال جاهل: إن الصور المصنوعة من ملك اليمين فيجوز وطئها

من المنكر المستهجن تقبيل الصور المصنوعة على صور النساء والمردان

فالجواب من وجهين: أحدهما: أن الصور من الأصنام كما تقدم بيان ذلك قريبًا، سواء في ذلك الجسد منها وغير الجسد، والأصنام لا تدخل في ملك اليمين أصلاً لا بصناعة ولا ابتياع، ولا اتهاب ولا إرث، ولا غير ذلك من أسباب التملك؛ لأنها محرمة من جميع الوجوه فصناعتها حرام وبيعها حرام وابتياعها حرام واتخاذها حرام، ومتى وجدت فالواجب إتلافها؛ لأنها من أعظم المنكرات. الثاني: أن ملك اليمين الذي أباحه الله - تبارك وتعالى - في الآية الكريمة خاصٌّ بالآدميات فيجوز للمالك وإذا خلون من الموانع ما عداهن من ملك اليمين فهو حرام كالغلمان والبهائم، ومثل الغلمان في التحريم أدبار الإماء، كما تدل على ذلك أحاديث كثيرة ليس هذا موقع ذكرها. * * * فصل ومن المنكر المستهجَن تقبيل الصور المصنوعة على صور النساء والمردان الحسان كما يُذْكَر ذلك عن بعض السفهاء، وكما أن هذا مستقبح عند كل عاقل فهو أيضًا من أنواع الزنا، كما في حديث أبي هريرة - رضي الله عنه - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: ((والفم يزني وزناه القُبَل))؛ رواه أبو داود بإسناد جيد، وأصله في مسلم. * * *

من أعظم المنكرات فتح المدارس لتعليم صناعة التصوير

فصل ومن أعظم المنكرات وأقبح التهوُّكات ما يُفْعَل في بعض الأقطار التي ينتسب أهلها إلى الإسلام من فتح المدارس لتعليم صناعة التصوير الملعون فاعله، ويسمون تلك المدارس الفنون الجميلة. وكل مَن في قلبه حياة وله أدنى معرفة بما بعث الله به رسوله محمدًا - صلى الله عليه وسلم - لا يشك أن فتح تلك المدارس والتعليم والتعلم فيها هو عين المحادة لله - تعالى - ولرسوله - صلى الله عليه وسلم - وقد قال الله - تعالى -: {أَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّهُ مَنْ يُحَادِدِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَأَنَّ لَهُ نَارَ جَهَنَّمَ خَالِدًا فِيهَا ذَلِكَ الْخِزْيُ الْعَظِيمُ} [التوبة: 63]. ومن القبائح والفضائح التي ذُكِرت عن تلك المدارس المؤسسة على معصية الله - تعالى - ومعصية رسوله - صلى الله عليه وسلم - أنهم يصوِّرون فيها الفاجرات الماجنات عاريات على أوضاع مختلفة؛ قائمات، وقاعدات، ومضطجعات، وهذا عين ما يفعله أهل الخلاعة من دول الإفرنج وغيرهم من أعداء الله - تعالى - ومَن تشبه بقوم فهو منهم، وفي هذه الأفعال الشنيعة من الترغيب في الفجور والدعاء إلى الإباحية ما لا يخفي على عاقل. وقد روى البخاري في "صحيحه" وأبو داود وابن ماجه في سننيهما عن أبي مسعود عقبة بن عمرو البدري - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((إن مما أدرك الناس من كلام النبوة الأولى إذا لم تستح فاصنع ما شئت))،

الأدلة على تحريم التصوير

وتفسيره على أحد الأقوال: أن الذي لا يستحي يفعل ما شاء من القبائح ولا يبالي، وهكذا أهل تلك المدارس الملعونة هي وأهلها لا يبالون بفعل القبائح؛ إذ لا دين يردعهم عما حرمه الله - تعالى - ورسوله - صلى الله عليه وسلم - ولا حياء ولا مروءة يمنعانهم من تعاطي الأمور القبيحة. وقد قال الله - تعالى -: {أَفَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ فَرَآهُ حَسَنًا فَإِنَّ اللَّهَ يُضِلُّ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ فَلاَ تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَرَاتٍ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِمَا يَصْنَعُونَ} [فاطر: 8]. وقال - تعالى -: {وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيرًا مِنَ الْجِنِّ وَالإِنْسِ لَهُمْ قُلُوبٌ لاَ يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لاَ يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ آذَانٌ لاَ يَسْمَعُونَ بِهَا أُولَئِكَ كَالأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُولَئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ} [الأعراف: 179]. * * * فصل وقد تواترت الأدلة على تحريم التصوير ومشروعية طمْس الصور، وفيها الوعيد الشديد للمصورين، والأخبار بأن الملائكة لا تدخل بيتًا فيه صورة. وقد تقدم ما رواه أبو نعيم في "الحلية" وذكره غير واحد من المفسرين عن عكرمة في قول الله - تعالى -: {إِنَّ الَّذِينَ يُؤْذُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ لَعَنَهُمُ اللَّهُ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَأَعَدَّ لَهُمْ عَذَابًا مُهِينًا} [الأحزاب: 57]، قال: هم أصحاب التصاوير.

وأما الأحاديث: فالأول منها ما رواه الإمام أحمد والشيخان عن أبي زرعة بن عمرو بن جرير قال: دخلت مع أبي هريرة دار مروان بن الحكم فرأى فيها تصاوير وهي تبنى فقال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: ((بقول الله - عز وجل -: ومَن أظلم ممن ذهب يخلق خلقًا كخلقي، فليخلقوا ذرة، أو فليخلقوا حبة، أو ليخلقوا شعيرة))، وهذا لفظ أحمد، ولفظ مسلم ونحوه. ولفظ البخاري قال: دخلت مع أبي هريرة دارًا بالمدينة فرأى في أعلاها مصورًا يصور فقال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: ((ومَن أظلم ممن ذهب يخلق كخلقي، فليخلقوا حبة، وليخلقوا ذرة)). وروى أيضًا المرفوع منه في موضع آخر من "صحيحه" بنحو رواية أحمد ومسلم، ورواه الإمام أحمد أيضًا من حديث أبي سلمة عن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((قال الله - عز وجل -: ومَن أظلم ممن يخلق كخلقي، فليخلقوا بعوضة، أو ليخلقوا ذرة)). وقال الحافظ ابن حجر في "فتح الباري": قوله: ((كخلقي)) التشبيه في فعل الصورة وحدها لا من كل الوجوه، وقال أيضًا: نسب الخلق إليهم على سبيل الاستهزاء أو التشبيه في الصورة فقط. قلت: والأخير أقرب - والله اعلم.

التصوير من الكبائر

وفي هذا الحديث القدسي عدة فوائد؛ إحداها: تحريم التصوير لما فيه من المضاهاة بخلق الله - تعالى - وذلك من أعظم الظلم. وقد روى مسلم في "صحيحه" والبخاري في "الأدب المفرد" وأبو داود الطيالسي في "مسنده" من حديث أبي ذر - رضي الله عنه - عن النبي - صلى الله عليه وسلم - فيما يروى عن الله - تبارك وتعالى - أنه قال: يا عبادي، إني حرمت الظلم على نفسي وجعلته بينكم محرمًا فلا تظالموا. قال النووي - رحمه الله تعالى -: قال أصحابنا وغيرهم من العلماء: تصوير صورة الحيوان حرام شديد التحريم وهو من الكبائر؛ لأنه مُتَوَعَّد عليه بهذا الوعيد الشديد المذكور في الأحاديث، وسواء صنعه بما يمتهن أو بغيره فصنعته حرام بكل حال؛ لأن فيه مضاهاة لخلق الله، وسواء ما كان في ثوب أو بساط أو درهم أو دينار أو فلس أو إناء أو حائط أو غيرها. قال: ولا فرق في هذا كله بين ماله ظل وما لا ظل له، هذا تلخيص مذهبنا في المسألة وبمعناه قال جماهير العلماء من الصحابة والتابعين ومن بعدهم، وهو مذهب الثوري ومالك وأبي حنيفة وغيرهم. وقال بعض السلف: إنما ينهى عما كان له ظل، ولا بأس بالصورة التي ليس لها ظل، وهذا مذهب باطل، انتهى. وستأتي تتمة كلامه مع الكلام على حديث عائشة - رضي الله عنها، إن شاء الله تعالى. الثانية: أن التصوير من الكبائر؛ كما يدل على ذلك قول الله - تعالى -

لا تقبل شهادة المصور

في هذا الحديث: "ومَن أظلم ممن ذهب يخلق كخلقي"، وغير ذلك من الأدلة الكثيرة، كما سأنبه على كل منها في موضعه - إن شاء الله تعالى. وقد ذكر بعض الفقهاء أن المصور لا تقبل شهادته؛ لأنه فاسق. الثالثة: التنفير من التصوير. الرابعة: الحكم على المصورين بأنهم من أظلم الظالمين؛ لأنهم عمدوا إلى ما اختصَّ به الرب - تبارك وتعالى - من الخلق والتصوير فصنعوا على مثاله ليضاهئوا بخلق الله، وذلك جور منهم ومجاوزة للحد، ووضع للشيء في غير موضعه وهذا هو حقيقة الظلم، كما نص على ذلك أئمة اللغة وغيرهم من العلماء. قال الجوهري وغيره من أهل اللغة: الظلم وضع الشيء في غير موضعه، زاد الراغب الأصفهاني: إما بنقصان أو بزيادة، وإما بعدول عن وقته أو مكانه، قال: والظلم في مجاوزة الحق. وقال الهروي وابن الأثير: أصل الظلم الجور ومجاوزة الحد. قلت: وهذا القول يرجع إلى ما قاله الجوهري؛ لأن الجور ومجاوزة الحد من وضع الشيء في غير موضعه، إذا كان المعتدي على حقوق الخلق ظالمًا جائرًا فالمصور أَوْلَى بأن يكون ظالمًا جائرًا؛ لأنه قد تعاطى ما ليس له بحقٍّ ونازع الرب - تبارك وتعالى - في أفعاله وخصائصه التي لا يشركه فيها أحد.

بيان معنى قوله فليخلقوا ذرة أو حبة أو شعيرة

الخامسة: أن في وصف المصورين بالظلم العظيم إشعار بالوعيد الشديد لهم بدليل قول الله - تعالى -: {وَإِنَّ الظَّالِمِينَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} [الشورى: 21]. وفي "صحيح مسلم" و"سنن أبي داود" وابن ماجه عن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((قال: الله - عز وجل -: الكبرياء ردائي والعظمة أزاري، فمن نازعني واحدًا منها قذفته في النار))، وروى مسلم أيضًا من حديث أبي سعيد وأبي هريرة - رضي الله عنهما - عن النبي - صلى الله عليه وسلم - نحوه. وروى الطبراني في "الصغير" من حديث علي - رضي الله عنه - عن النبي - صلى الله عليه وسلم - نحوه، وهكذا الأمر في المصورين لمشاركتهم للمتكبرين والمتعظمين في الملة التي اقتضت قذفهم في النار، وهي منازعتهم للرب - تبارك وتعالى - في خصائصه التي لا يشركه فيها أحد. وسيأتي النص الصريح على أن كل مصور في النار وأنه يجعل له بكل صورة صورها نفس يعذب بها في جهنم، وأن المصورين من أشد الناس عذابًا يوم القيامة. السادسة: أن في قوله: ((فليخلقوا ذرة أو حبة أو شعيرة)) تبكيتًا لهم وتعجيزًا، قال النووي: معناه فليخلقوا ذرة فيها روح تتصرف بنفسها كهذه الذرة التي هي خلق الله - تعالى - وكذلك: ((فليخلقوا حبة حنطة أو

الرد على صاحب الأغلال فى قوله إنا لنخش أو نرجو أن يأتي الزمن الذى يقال فيه الإنسان الصناعي والحيوان الصناعي

شعير))؛ أي: ليخلقوا حبة فيها طعم تؤكل وتزرع تنبت، ويوجد فيها ما يوجد في حبة الحنطة والشعير ونحوهما من الحب الذي يخلقه الله - تعالى - وهذا أمر تعجيز، انتهى. السابعة: أنه لا فرق بين الصور المجسدة وغير المجسدة، فكل من النوعين صناعته حرام وظلم عظيم، وهذا هو الذي فهمه أبو هريرة - رضي الله عنه - قال ابن بطال: فهم أبو هريرة أن التصوير يتناول ما له ظل وما ليس له ظل، فلهذا أنكر ما يُنْقَش في الحيطان. قلت: والأدلة على ما فهمه أبو هريرة - رضي الله عنه - كثيرة في الأحاديث الآتية وسأنبه عليها - إن شاء الله تعالى. الثامنة: فيه الرد على صاحب الأغلال وأضرابه من الزنادقة المارقين من دين الإسلام؛ فقد زعم عدو الله أن بني آدم قد يقدرون على خلق الإنسان وغيرة من الحيوان، قال في الصفحة السابعة والستين من أغلاله: وإنا لنخشى أو نرجو وقد تحقق الأيام أي الأمرين أحسن أن يأتي الزمن الذي يقال فيه الإنسان الصناعي والحيوان الصناعي. وهذا ما لا يزال العلم أمامه حيران عاجزًا ولكنه لم يعترف بالعجز ولم يفكر في الاستسلام للإخفاق، بل ما فتئ يهاجم ويناضل يعزم مَن يعلم أنه منتصر لا محالة، هذا لفظة بحروفه.

والجواب أن يقال له ما قال الله - تعالى - لأشباهه وسلفه: {كَبُرَتْ كَلِمَةً تَخْرُجُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ إِنْ يَقُولُونَ إِلا كَذِبًا} [الكهف: 5]. ويقال أيضًا: قد دلَّ الكتاب والسنة وإجماع المسلمين على أن خلْق جميع الأشياء وإيجاد الحياة في كل مخلوق هي من خصائص الرب - تبارك وتعالى - التي لا يشاركه فيها أحد، وهذا مما لا يشك فيه مسلم، وجميع الأديان السماوية متفقة على هذا. وقد كان المشركون الأوَّلون مقرِّين به، كما أخبر الله - تبارك وتعالى - بذلك عنهم في آيات كثيرة من كتابه، فهم أحسن حالاً من صاحب الأغلال وأضرابه من الزنادقة الذين يدندنون حول تشريك المخلوقين مع الخالق في خصائص الربوبية. ويقال أيضًا لصاحب الأغلال: لا يشك مسلم أن ظنك كاذب وأن رجاءك خائب، فلن يأتي الزمن الذي توهمته بعقلك الفاسد أبدًا، ولن يقدر أعداء الله على خلق ذرة ولا بعوضة ولا حبة شعير فضلاً عن خلق الإنسان، ولو اجتمعت الإنس والجن على أن يخلقوا ذرة واحدة أو حبة واحدة لما قدروا على ذلك ولو جمعوا جميع قواهم وأسبابهم، وقول الخبيث: وهذا ما لا يزال العلم أمامه حيران ... إلى آخره يعني بذلك علم أهل الصناعات الكيماوية، وجوابه أن يقال: ولا يزال علمهم كذلك حيران عاجزًا أبد الآبدين، ومَن شك في هذا فليس بمسلم. وكيف يكون مسلمًا مَن يشك في تفرد الرب - تبارك وتعالى - بخصائص الربوبية

أبدًا كما كان متفردًا بذلك في الأزل؟ ولا يشك مسلم أن مهاجمة أعداء الله - تعالى - ومناضلتهم في إيجاد الحياة ستذهب سدًى، ولو فعلوا من الرسائل والأسباب ما فعلوا فمآلهم إلى العجز والإخفاق لا محالة، ومَن شك في عجزهم وإخفاقهم في هذا فقد شك في وحدانية الله - تعالى - وتفرده بخصائص الربوبية، ومَن شك في وحدانية الله - تعالى - وتفرده بالربوبية فهو ضالٌّ كافر. وقد أقام عدو الله الظنون الكاذبة من الكفَرة الفجَرة مقام العلم المحقق الذي لا بُدَّ أن يكون معلومًا، وهذا من تهوُّره الخبيث وجراءته على الله - تعالى - وجهله بعظمته وجلاله، وكبريائه وتفرده بالخلق والأمر، فلا شريك له في ربوبيته ولا في ألوهيته، ولا في أسمائه وصفاته وأفعاله، ومن ظن أو رجا أن يكون لله شركاء في ربوبيته وأفعاله يخلقون أناسيَّ وحيوانات مثل مخلوقاته فما قدر الله حقَّ قدره، ومَن اغترَّ بظنون أعداء الله - تعالى - وجعلها علمًا محققًا لا بُدَّ أن تكون معلومة فهو من أحمق الناس وأقلهم عقلاً وليس وراء جهله وغروره جهل وغرور، فالحمد لله الذي عافاني وإخواني المسلمين مما ابتلى به صاحبَ الأغلال وأمثاله، ونسأله - تعالى - أن لا يزيغ قلوبنا بعد إذ هدانا وأن يهب لنا من لدنه رحمة إنه هو الوهاب. الحديث الثاني: عن عائشة - رضي الله عنها - وله أربع طرق: الطريق الأولى: عن القاسم بن محمد عنها - رضي الله عنها - وقد روي عن القاسم من خمسة أوجه:

أشد الناس عذابا يوم القيامة الذين يضاهون بخلق الله

الوجه الأول: عن عبدالرحمن بن القاسم عن أبيه أنه سمع عائشة - رضي الله عنها - تقول: دخل عليَّ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - وقد سترت سهوة لي بقرام فيه تماثيل، فلمَّا رآه هتكه وتلوَّن وجهه، وقال - صلى الله عليه وسلم -: ((يا عائشة، أشد الناس عذابًا عند الله يوم القيامة الذين يضاهون بخلق الله))، قالت عائشة - رضي الله عنها - فقطعناه فجعلنا منه وسادة أو وسادتين؛ رواه الإمام أحمد والشيخان والنسائي وابن ماجه وهذا لفظ مسلم. وفي رواية النسائي: بقرام فيه تصاوير. وفي رواية ابن ماجه: بستر فيه تصاوير. وفي رواية لمسلم قالت: دخل النبي - صلى الله عليه وسلم - عليَّ وقد سترت نمطًا فيه تصاوير فنحَّاه فاتخذت منه وسادتين. وفي رواية له وللنسائي أنها نصبت سترًا فيه تصاوير فدخل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فنزعه قالت: قطعته وسادتين، فقال رجل في المجلس حينئذ يقال له ربيعة بن عطاء مولى بني زهرة: أفما سمعت أبا محمد يذكر أن عائشة - رضي الله عنها - قالت: فكان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يرتفق عليهما، قال ابن القاسم: لا، قال: لكني قد سمعته، يريد القاسم بن محمد، هذا لفظ مسلم. وفي رواية له وللنسائي قالت: كان في بيتي ثوب فيه تصاوير فجعلته إلى سهوة في البيت فكان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يصلي إليه ثم قال: ((يا عائشة، أخريه عنِّي))، فنزعته فجعلته وسائد.

ورواه أبو داود الطيالسي في "مسنده" بنحوه. الوجه الثاني: عن الزهري عن القاسم بن محمد عن عائشة - رضي الله عنها - قالت: دخل عليَّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأنا متسترة بقرام فيه صورة فتلوَّن وجهه، ثم تناول الستر فهتكه ثم قال: ((إن من أشد الناس عذابًا يوم القيامة الذين يشبهون بخلق الله))؛ رواه مسلم والنسائي، وهذا لفظ مسلم. الوجه الثالث: عن نافع عن القاسم بن محمد عن عائشة - رضي الله عنها - زوج النبي - صلى الله عليه وسلم - أنها أخبرته إنها اشترت نمرقة فيها تصاوير، فلما رآها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قام على الباب فلم يدخل، فعرفت في وجهه الكراهية، قالت: يا رسول الله، أتوب إلى الله وإلى رسوله ماذا أذنبت؟ قال: ((ما بال هذه النمرقة))، فقالت: اشتريتها لتقعد عليها وتوسدها، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((إن أصحاب هذه الصور يعذبون يوم القيامة، ويقال لهم: أحيوا ما خلقتم))، وقال: ((إن البيت الذي فيه الصور لا تدخله الملائكة))؛ رواه مالك والشيخان وأبو داود الطيالسي في "مسنده". وروى النسائي وابن ماجه منه قوله: ((إن أصحاب الصور يعذَّبون يوم القيامة، ويقال لهم: أحيوا ما خلقتم)). وفي رواية للبخاري أن النبي - صلى الله عليه وسلم - لما رأى التماثيل قام بين البابين وجعل يتغير وجهه.

وفي رواية لمسلم قالت: فأخذته فجعلته مرفقتين فكان يترفَّق بهما في البيت. الوجه الرابع: عن سماك عن القاسم بن محمد، عن عائشة زوج النبي - صلى الله عليه وسلم، ورضي الله عنها - أنها قالت: إن أشد الناس عذابًا يوم القيامة الذين يضاهون الله في خلقه؛ رواه النسائي هكذا موقوفًا وله حكم الرفع كنظائره. الوجه الخامس: عن ربيعة بن عطاء مولى بني زهرة، عن القاسم بن محمد، عن عائشة - رضي الله عنها - وقد تقدمت هذه الرواية مع الرواية الثالثة من روايات عبدالرحمن بن القاسم عن أبيه. الطريق الثانية: عن هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة - رضي الله عنها - قالت: قدم النبي - صلى الله عليه وسلم - من سفر وعلقت درنوكًا فيه تماثيل فأمرني أن أنزعه فنزعته؛ متفق عليه، وهذا لفظ البخاري. ولفظ مسلم قالت قدم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من سفر وقد سترت على بابي درنوكًا فيه الخيل ذوات الأجنحة فأمرني فنزعته. وقد رواه النسائي بنحو رواية مسلم. الطريق الثالثة: عن سعد بن هشام عن عائشة - رضي الله عنها - قالت: كان لنا ستر فيه تمثال طائر، وكان الداخل إذا دخل استقبله،

ذكر العلل في تحريم التصوير

فقال لي رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((حولي هذا؛ فإني كلما دخلت فرأيته ذكرت الدنيا))؛ رواه مسلم والنسائي. ورواه الترمذي بمعناه وقال: هذا حديث حسن صحيح غريب من هذا الوجه. الطريق الرابعة: عن زيد بن خالد الجهني - رضي الله عنه - عن عائشة - رضي الله عنها. وستأتي هذه الرواية مع حديث أبي طلحة - رضي الله عنه. وقد اشتمل حديث عائشة - رضي الله عنها - على فوائد كثيرة إحداها تحريم التصوير، ويستفاد ذلك من إنكار النبي - صلى الله عليه وسلم - لنصب الستر الذي فيه الصور، ومن هتْكه له، ومن تلوُّن وجهه لما رآه، ومن الوعيد الشديد للمصورين. الثانية: أنه من الكبائر؛ لما جاء فيه من الوعيد الشديد. الثالثة: أن علة التحريم هي المضاهاة بخلق الله - تعالى - وذلك من أعظم الظلم كما تقدم في حديث أبي هريرة - رضي الله عنه - والمضاهاة هي المشابهة والمماثلة. وللتحريم علة أخرى وهي أن التصوير ذريعة إلى عبادة الصور كما وقع ذلك لقوم نوح وللنصارى وغيرهم من المشركين،

الرد على من زعم أن تحريم التصوير خاص بالصور المجسدة

والذرائع لها حكم الغايات كما هو مقرر عند الأصوليين. وللتحريم أيضًا علة ثالثة وهي التشبه بالنصارى والمشركين واتباع سنتهم، وقد ثبت عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: ((مَن تشبه بقوم فهو منهم))، وكل واحدة من هذه العلل الثلاث تكفي وحدها في تحريم التصوير، فكيف وقد اجتمعت كلها فيه؟ فهذا مما يزيد التحريم شدة وتغليظًا، والله أعلم. الرابعة: أنه لا فرق في تحريم التصوير بين أن تكون الصور مجسَّدة أو غير مجسدة؛ لأن الذي أنكره النبي - صلى الله عليه وسلم - في هذا الحديث كان غير مجسَّد، ففيه ردٌّ على مَن زعم أن التحريم خاصٌّ بالصور المجسَّدة كما يقول كثيرٌ من أهل الجهل المركب في زماننا، وقد قال ذلك أناس قبلهم. قال النووي: وهو مذهب باطل؛ فإن الستر الذي أنكر النبي - صلى الله عليه وسلم - الصورة فيه لا يشكُّ أحد أنه مرقوم وليس لصورته ظل مع باقي الأحاديث المطلقة في كل صورة. وقال الزهري: النهي في الصورة على العموم، وكذلك استعمال ما هي فيه، ودخول البيت الذي هي فيه، سواء كانت رقمًا في ثوب أو غير رقم، وسواء كانت في حائط أو ثوب أو بساط ممتهَن أو غير ممتهَن؛ عملاً بظاهر الأحاديث لا سيما حديث النمرقة.

ذكر الإجماع على منع الصور المجسدة ووجوب تغييرها

قال: وهذا مذهب قوي، انتهى. وقال الحافظ ابن حجر في الكلام على حديث النمرقة: يستفاد منه أنه لا فرق في تحريم التصوير بين أن تكون الصورة لها ظل أو لا، ولا بين أن تكون مدهونة أو منقوشة أو منقورة أو منسوجة، خلافًا لِمَن استثنى النسج وادعى أنه ليس بتصوير، انتهى. الخامسة: الغضب وتسعر الوجه عند رؤية المنكر. السادسة: كراهة دخول البيت الذي فيه صورة. السابعة: إنكار المنكر بحسب القدرة فمَن قدر على التغيير بيده فذلك هو الواجب عليه كما فعل النبي - صلى الله عليه وسلم - في هتْك الستر بيده الكريمة ولا يكفي الإنكار باللسان لِمَن قدر على الإنكار باليد، ومَن لم يستطع بيده فبلسانه، فإن لم يستطع فبقلبه. الثامنة: هتْك الصور وطمْسها أينما وُجِدت، وسواء في ذلك الصور المجسدة وغير المجسدة. وقد حكى الإجماعَ على منْع المجسَّدة ووجوب تغييرها غيرُ واحد من العلماء ومنهم النووي وابن العربي المالكي. قال ابن العربي: وسواء كانت مما يمتهن أم لا. وقرر الإمام أبو العباس ابن تيمية - رحمه الله تعالى - تغيير الصورة المجسَّمة وغير المجسمة قال: وكل ما كان من العين أو التأليف المحرَّم فإزالته وتغييره متَّفق عليها بين المسلمين؛ مثل إراقة خمر المسلم،

وتفكيك آلات الملاهي، وتغيير الصور المصورة، وإنما تنازعوا في جواز إتلاف محلِّها تبعًا للحال، والصواب جوازه كما دلَّ عليه الكتاب والسنة وإجماع السلف، وهو ظاهر مذهب مالك وأحمد وغيرهما، انتهى كلامه - رحمه الله تعالى. وعمومات الأحاديث التي تقدَّمت والتي ستأتي تقتضي التسوية بين المجسَّدة وغير المجسَّدة في المنْع من صناعتها، ووجوب تغييرها إذا وجدت الأماكن في بساط ونحوه مما يُدَاس بالأرجل، وكذلك ما يكون فيما يُمْتَهَن بالاستعمال كالوسائد ونحوها، فهذه وإن أمكن نقضها بدون نقض يَلحَق ما هي فيه - نقضت والدليل على ذلك فعلُ النبي - صلى الله عليه وسلم - كما سيأتي في حديث عائشة - رضي الله عنها - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - لم يكن يترك في بيته شيئًا فيه تصاليب إلا نقضه، وفي رواية تصاوير بدل تصاليب. وإن لم يمكن نقضها وأمكن لطخ الرأس بخياطة أو صبغ أو غيره مما يطمسه فإنه يلطخ؛ لأن في ذلك تغييرًا للصورة؛ والدليل على ذلك أمر النبي - صلى الله عليه وسلم - كما سيأتي في حديث علي - رضي الله عنه -: ((لا تدع صورة إلا طمستها))، وفي رواية: ((إلا لطختها))، وإن لم يمكن نقضها ولا لطخها تُرِكت بشرط أن تبتذل وتمتهن. قال النووي: وأما اتخاذ المصوَّر فيه صورة حيوان فإن كان معلَّقًا على حائط أو ثوبًا ملبوسًا أو عمامة ونحو ذلك مما لا يُعَدُّ ممتهَنًا فهو حرام، وإن كان في بساط يداس ومخدة ووسادة ونحوها مما يمتهن فليس بحرام. قلت: والدليل على ذلك رواية ربيعة بن عطاء عن القاسم بن محمد، وما رواه مسلم في حديث النمرقة وغير ذلك من الروايات التي

تقدمت في حديث عائشة - رضي الله عنها - وما سيأتي في رواية زيد بن خالد - رضي الله عنه - عن عائشة - رضي الله عنها، وكذلك حديث أبي هريرة - رضي الله عنه - في قصة جبريل كما سيأتي - إن شاء الله تعالى. وما ذكرته هاهنا فيه جمع بين الأحاديث، والله أعلم. التاسعة: جواز القعود والاتِّكاء على ما فيه صورة إذا لم يمكن طمسها؛ لأن في وطء الصورة والقعود والاتكاء عليها ابتذالاً وامتهانًا لها. العاشرة: شدة الوعيد للمصورين. الحادية عشرة: تكليفهم بما لا يقدرون عليه من نفخ الروح فيما صوروه، والقصد من ذلك طول تعذيبهم وإظهار عجزهم. قال النووي: وأما قوله - صلى الله عليه وسلم -: ((ويقال لهم أحيوا ما خلقتم)) فهو الذي يسميه الأصوليون أمر تعجيز كقوله - تعالى -: {قُلْ فَأْتُوا بِعَشْرِ سُوَرٍ مِثْلِهِ مُفْتَرَيَاتٍ} [هود: 13]، انتهى. الثانية عشرة: فيه الرد على صاحب الأغلال وأضرابه من الزنادقة الذين يخشون أو يرجون أن يقدر المصورون على نفخ الروح في تصاويرهم. الثالثة عشرة: قال الحافظ ابن حجر: إن في قوله - صلى الله عليه وسلم -: ((إن

متخذ الصور أولى بالوعيد من صانعها

أصحاب هذه الصور يعذبون يوم القيامة)) اهتمامًا بالزجر عن اتخاذ الصور؛ لأن الوعيد إذا حصل لصانعها فهو حاصل لمستعملها؛ لأنها لا تصنع إلا لتستعمل فالصانع متسبب والمستعمل مباشر فيكون أولى بالوعيد، انتهى. الرابعة عشرة: امتناع الملائكة من دخول البيت إذا كان فيه صورة. ولا فرق في هذا بين أن تكون الصورة مجسَّمة أو غير مجسمة؛ لأن (أل) للاستغراق فتعم كل صورة محرمة الصنعة والاتخاذ، وكذلك النكرة في قوله: ((لا تدخل الملائكة بيتًا فيه صورة)) تقتضي العموم أيضًا؛ لأنها في سياق النفي فتعم كل صورة من صور ذوات الأرواح. قال الخطابي في الكلام على هذا الحديث: وأما الصورة فهي كل صورة من ذوات الأرواح كانت لها أشخاص منتصبة أو كانت منقوشة في سقف أو جدار أو مصنوعة في نمط أو منسوجة في ثوب أو ما كان، فإن قضية العموم تأتي عليه فليجتنب، انتهى. وقد ذكر القرطبي والنووي سبب امتناع الملائكة من دخول البيت الذي فيه الصورة. فأما القرطبي فقال في "المفهم": إنما لم تدخل الملائكة البيت الذي فيه الصورة؛ لأن مُتَّخِذها قد تشبَّه بالكفار؛ لأنهم يتخذون الصور

الصور لها تأثير فى القلوب

في بيوتهم ويعظمونها، فكرهت الملائكة ذلك فلم تدخل بيته هجرًا له لذلك، انتهى. وأما النووي فقال في "شرح مسلم": قال العلماء: سبب امتناعهم من بيت فيه صورة كونها معصية فاحشة، وفيها مضاهاة لخلق الله - تعالى - وبعضها في صورة ما يُعْبَد من دون الله - تعالى - فعوقب مُتَّخِذها بحرمانه دخول الملائكة بيته وصلاتها فيه، واستغفارها له، وتبريكها عليه وفي بيته، ودفعها أذى الشيطان، انتهى. الحديث الثالث: عن أنس - رضي الله عنه - قال: كان قرام لعائشة - رضي الله عنها - قد سترت به جانب بيتها فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: ((أميطي عنِّي قرامك هذا؛ فإنه لا تزال تصاويره تعرض لي في صلاتي))؛ رواه الإمام أحمد والبخاري. قال الطيبي: فيه إيذان بأن للصور والأشياء الظاهرة تأثيرًا في القلوب الطاهرة والنفوس الزكية؛ يعني: فضلاً عمن دونها. قلت: وهذا الحديث شبيه بالرواية الأخيرة عن عبدالرحمن بن القاسم عن أبيه عن عائشة - رضي الله عنها - وشبيه أيضًا برواية سعد بن هشام عنها - رضي الله عنها. وظاهر هذه الروايات أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان قد أقرَّها على نصب القرام في أول الأمر، ثم أمرها بعد ذلك بنزعه، فعلى هذا يكون الأمر بالنزع ناسخًا للإقرار.

شدة عذاب المصورين

قال النووي في الجواب عن إقراره لها: هذا محمول على أنه كان قبل تحريم اتخاذ ما فيه صورة فلهذا كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يدخل ويراه ولا ينكره قبل هذه المرة الأخيرة، انتهى. الحديث الرابع: عن عبدالله بن عمر - رضي الله عنهما - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: ((إن الذين يصنعون هذه الصور يُعَذَّبون يوم القيامة، يقال لهم: أحيوا ما خلقتم))؛ رواه الإمام أحمد والشيخان والنسائي. وفي هذا الحديث من الفوائد تحريم التصوير، وأنه من الكبائر وتعذيب المصوِّرين يوم القيامة وتكليفهم بما يظهر به عجزهم، والرد على صاحب الأغلال وأشباهه، وأنه لا فرْق بين الصور المجسَّمة وغير المجسمة؛ لأن (أل) للاستغراق فتعم كما تقدم التنبيه على ذلك قريبًا. الحديث الخامس: عن أبي الضحى مسلم بن صبيح قال: كنا مع مسروق في دار يسار بن نمير فرأى في صفته تماثيل فقال: سمعت عبدالله - رضي الله عنه - قال: سمعت النبي - صلى الله عليه وسلم - يقول: ((إن أشد الناس عذابًا عند الله يوم القيامة المصورون))؛ رواه الإمام أحمد والشيخان والنسائي، وهذا لفظ البخاري. وفي رواية لأحمد ومسلم عن مسلم بن صبيح قال: كنت مع مسروق في بيت فيه تماثيل مريم فقال مسروق: هذه تماثيل كسرى، فقلت: لا هذه تماثيل مريم، فقال مسروق: أما إني سمعت عبدالله بن مسعود - رضي الله عنه - يقول: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((أشد الناس عذابًا يوم القيامة المصورون))؛

وفي رواية لهما أيضًا: أن من أشد أهل النار يوم القيامة عذابًا المصورون، وفي هذا الحديث من الفوائد تحريم التصوير وأنه من الكبائر، وشدة الوعيد للمصورين، وأنهم من أشد أهل النار عذابًا، وأنه لا فرق بين تصوير ما له ظل وما لا ظل له. قال الخطابي: إنما عظمت عقوبة المصور؛ لأن الصور كانت تُعْبَد من دون الله، ولأن النظر إليها يفتن، وبعض النفوس إليها تميل. قال: والمراد بالصور هنا التماثيل التي لها روح، انتهى. الحديث السادس: عن أبي وائل عن عبدالله بن مسعود - رضي الله عنه - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: ((أشد الناس عذابًا يوم القيامة رجلٌ قتله نبي أو قتل نبيًّا، وإمام ضلالة، وممثل من الممثلين))؛ رواه الإمام أحمد. الحديث السابع: عن ابن عباس - رضي الله عنهما - وقد روي عنه من ثلاثة أوجه: الوجه الأول: عن سعيد بن أبي الحسن قال كنت عند ابن عباس - رضي الله عنهما - إذ أتاه رجل فقال: يا أبا عباس إني إنسان إنما معيشتي من صنعة يدي وإنما أصنع هذه التصاوير، فقال ابن عباس - رضي الله عنهما -: لا أحدثك إلا ما سمعت من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - سمعته يقول: ((مَن صور صورة فإن الله مُعَذِّبه حتى ينفخ فيها الروح، وليس بنافخٍ فيها أبدًا))، فربا الرجل ربوةً شديدة واصفرَّ وجهه فقال: ((ويحك، إن أبيت إلا أن تصنع فعليك بهذا الشجر وكل شيء ليس فيه روح))؛ رواه الإمام أحمد والشيخان، وهذا لفظ البخاري.

ولفظ مسلم قال: جاء رجل إلى ابن عباس - رضي الله عنهما - فقال: إني رجل أصوِّر هذه الصور فأفتني فيها، فقال له: ادنُ منِّي، فدنا منه ثم قال: ادنُ منِّي، فدنا حتى وضع يده على رأسه قال: أنبئك بما سمعت من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: ((كل مصور في النار، يجعل له بكل صورة صورها نفس فتعذبه في جهنم))، وقال: إن كنت لا بُدَّ فاعلاً فاصنع الشجر وما لا نفس له. الوجه الثاني: عن النضر بن أنس بن مالك قال كنت عند ابن عباس - رضي الله عنهما - وهو يفتي الناس لا يسند إلى نبي الله - صلى الله عليه وسلم - شيئًا من فتياه، حتى جاءه رجل من أهل العراق فقال: إني رجل من أهل العراق، وإني أصور هذه التصاوير، فقال ابن عباس - رضي الله عنهما -: ادنُهْ، إمَّا مرتين أو ثلاثًا، فدنا فقال له ابن عباس - رضي الله عنهما - سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: ((مَن صور صورة في الدنيا يكلف الله يوم القيامة أن ينفخ فيه الروح وليس بنافخ))؛ رواه الإمام أحمد والشيخان والنسائي، وهذا لفظ أحمد. الوجه الثالث: عن عكرمة عن ابن عباس - رضي الله عنهما - عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: ((مَن صوَّر صورةً عُذِّب وكُلِّف أن ينفخ فيها، وليس بنافخ))؛ رواه الإمام أحمد والبخاري والترمذي والنسائي، وهذا لفظ البخاري. ولفظ الترمذي: ((مَن صور صورةً عذَّبه الله حتى ينفخ فيها - يعني: الروح - وليس بنافخ فيها))، ثم قال الترمذي: حديث حسن صحيح.

الخلاف في تصوير الشجر

الحديث الثامن: عن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((مَن صوَّر صورةً كُلِّف يوم القيامة أن ينفخ فيها الروح، وليس بنافخ))؛ رواه الإمام أحمد والنسائي. وفي هذا الحديث والذي قبله من الفوائد تحريم التصوير، وأنه من الكبائر للوعيد عليه بالنار، وأن التحريم عامٌّ في كل صورة من صور ذوات الأرواح؛ لأن قوله: ((صورة)) نكرة في سياق الشرط فتعم المجسدة وغير المجسدة والتامة والناقصة إذا كان فيها الرأس. ويدخل في العموم تصوير الوجه وحده؛ لإطلاق الصورة عليه لغة وشرعًا كما سيأتي تقريره - إن شاء الله تعالى. وفيهما أيضًا تعذيب المصورين وتعجيزهم والرد على صاحب الأغلال. وفي حديث ابن عباس - رضي الله عنهما - جواز تصوير الشجر ونحوه مما لا روح فيه. وفي هذه المسألة خلاف بين العلماء وقول المانعين أحوط. ومن أقوى ما يُحْتَجُّ لهم به حديث أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: ((يقول الله - عز وجل -: ومَن أظلم ممن ذهب يخلق خلقًا كخلقي، فليخلقوا ذرة، أو ليخلقوا حبة، أو ليخلقوا شعيرة))؛ متفق عليه، فقوله في هذا الحديث: "يخلق خلقًا كخلقي" يعمُّ ذوات الأرواح والشجر وغيره ويعمُّ الصور التامة والناقصة. ويدخل في عمومه تصوير اليد وحدها، والرجل وحدها، وما سواهما من الأعضاء؛ لأن الجميع من خلق الله - تعالى.

لعن المصورين

وفي قوله: "فليخلقوا حبة، أو ليخلقوا شعيرة" دليل أيضًا على أنه لا يجوز تصوير الشجر. ومما يدل على المنع أيضًا حديث عائشة - رضي الله عنها - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: ((أشد الناس عذابًا عند الله يوم القيامة الذين يضاهون بخلق الله))؛ متفق عليه. وفي رواية لمسلم والنسائي: ((أن من أشد الناس عذابًا يوم القيامة الذين يشبهون بخلق الله)). وظاهر هذا الحديث يقتضي العموم للحيوانات والنباتات وغيرها من مخلوقات الله - تعالى. وقد ورد التصريح بالمنع في حديث ضعيف رواه ابن ماجه في "سننه" عن أبي أمامة - رضي الله عنه - أن امرأة أتت النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - فأخبرته أن زوجها في بعض المغازي فاستأذنتْه أن تصوِّر في بيتها نخلة فمنعها أو نهاها. وهذا الحديث مما يستأنس به، ويؤيده ما تقدَّم عن أبي هريرة وعائشة - رضي الله عنهما - والله أعلم. الحديث التاسع: عن أبي جحيفة - رضي الله عنه - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - لعن المصورين؛ رواه الإمام أحمد والبخاري وأبو داود الطيالسي في "مسنده". وفي هذا الحديث من الفوائد تحريم التصوير وأنه من الكبائر؛ لأن اللعن لا يكون إلا على كبيرة.

المصورون شرار الخلق عند الله

وفيه شدة الوعيد للمصورين؛ لأن اللعن هو الطرد والإبعاد من رحمة الله - تعالى. وفيه عموم التحريم للصور المجسدة لكل ما يسمى صورة من صور ذوات الأرواح، والله أعلم. الحديث العاشر: عن عائشة - رضي الله عنها - أن أم حبيبة وأم سلمة - رضي الله عنهما - ذكرتا كنيسة رأياها بالحبشة فيها تصاوير فذكرتا ذلك للنبي - صلى الله عليه وسلم - فقال: ((إن أولئك إذا كان فيهم الرجل الصالح فمات بنوا على قبره مسجدًا وصوروا فيه تلك الصور، فأولئك شرار الخلق عند الله يوم القيامة))؛ متفق عليه. وفيه من الفوائد تحريم التصوير وأنه من سنن النصارى، وأن المصورين من هذه الأمة متشبِّهون بهم. وفي قوله: ((أولئك شرار الخلق عند الله يوم القيامة)) وعيد شديد لهم، ودليل على سوء ما لهم في الدار الآخرة، وتحذير لهذه الأمة عن التشبه بهم. الحديث الحادي عشر: عن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((يخرج عنق من النار يوم القيامة له عينان تبصران وأذنان تسمعان ولسان ينطق يقول: إني وُكِّلتُ بثلاثة: بكل جبار عنيد، وبكل مَن دعا مع الله إلهًا آخر، وبالمصورين))؛ رواه الترمذي وقال: هذا حديث حسن صحيح غريب.

لا تدخل الملائكة بيتا فيه كلب ولا صورة

وفيه من الفوائد تحريم التصوير، وأنه من الكبائر لشدة الوعيد عليه، وأن مآل المصورين إلى النار مع الجبابرة والمشركين، وظاهره أنه لا فرق بين الصور المجسمة وغير المجسمة. الحديث الثاني عشر: عن عائشة - رضي الله عنها - قالت: واعَد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - جبريل - عليه السلام - في ساعة يأتيه فيها فجاءت تلك الساعة ولم يأته وفي يده عصا، فألقاها من يده وقال: ((ما يخلف الله وعده ولا رسله))، ثم التفت فإذا جرو كلب تحت سريره فقال: ((يا عائشة، متى دخل هذا الكلب هنا؟))، فقالت: والله ما دريت، فأمر به فأُخْرِج فجاء جبريل فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((واعدتني فجلست لك فلم تأتِ!))، فقال: منعني الكلب الذي كان في بيتك، إنا لا ندخل بيتًا فيه كلب ولا صوره؛ رواه مسلم. ورواه ابن ماجه مختصَرًا ولفظه: قالت: واعَد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - جبريل - عليه السلام - في ساعة يأتيه فيها فراث عليه، فخرج النبي - صلى الله عليه وسلم - فإذا هو بجبريل قائم على الباب فقال: ((ما منعك أن تدخل؟))، قال: إن في البيت كلبًا، وإنا لا ندخل بيتًا فيه كلب ولا صورة))؛ إسناده صحيح. الحديث الثالث عشر: عن ابن عباس - رضي الله عنهما - قال: أخبرتني ميمونة - رضي الله عنها - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أصبح يومًا واجمًا فقالت ميمونة: يا رسول الله، لقد استنكرت هيئتك منذ اليوم، قال

رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((إن جبريل كان وعدني أن يلقاني الليلة فلم يلقني، أم والله ما أخلفني))، قال: فظل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يومه ذلك على ذلك، ثم وقع في نفسه جرو كلب تحت فسطاط لنا فأمر به فأُخْرِج، ثم أخذ بيده ماء فنضح مكانه، فلما أمسى لقيه جبريل فقال له: قد كنت وعدتني أن تلقاني البارحة، قال: أجل، ولكنَّا لا ندخل بيتًا فيه كلب ولا صورة))؛ رواه مسلم وأبو داود والنسائي والطبراني. الحديث الرابع عشر: عن ابن عمر - رضي الله عنهما - قال: وعد النبي - صلى الله عليه وسلم - جبريل فراث عليه حتى اشتدَّ على النبي - صلى الله عليه وسلم - فخرج النبي - صلى الله عليه وسلم - فلقيه فشكا إليه ما وجد فقال له: إنا لا ندخل بيتًا فيه صورة ولا كلب؛ رواه البخاري. الحديث الخامس عشر: عن أسامة بن زيد - رضي الله عنهما - قال: دخلت على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وعليه الكآبة فسألته فقال: ((لم يأتني جبريل منذ ثلاث))، فإذا جرو كلب بين يديه فأمر به فقتل، فبدا له جبريل- عليه السلام - فهشَّ إليه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال: ((ما لك لم تأتني؟)) فقال: إنا لا ندخل بيتًا فيه كلب ولا تصاوير؛ رواه الإمام أحمد وأبو داود الطيالسي. الحديث السادس عشر: عن أبي هريرة - رضي الله عنه - وقد روي عنه من وجهين: أحدهما: عن سهيل بن أبي صالح عن أبيه عن أبي

هريرة - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((لا تدخل الملائكة بيتًا فيه تماثيل أو تصاوير))؛ رواه مسلم. الوجه الثاني: عن مجاهد عن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((أتاني جبريل فقال: إني كنت أتيتك البارحة فلم يمنعني أن أكون دخلت عليك البيت الذي كنت فيه إلا أنه كان في باب البيت تمثال الرجال، وكان في البيت قرام ستر فيه تماثيل، وكان في البيت كلب، فمُرْ برأس التمثال الذي بالباب فليُقْطْع فيصير كهيئة الشجرة، ومُرْ بالستر فليقطع ويجعل منه وسادتين منتبذتين تُوطَآن، ومُرْ بالكلب فيخرج))، ففعل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وكان ذلك الكلب جروًا للحسين أو للحسن تحت نضد له فأمر به فأُخْرِج؛ رواه الإمام أحمد وأهل السنن إلا ابن ماجه، وهذا لفظ الترمذي وقال: هذا حديث حسن صحيح، وصححه أيضًا ابن حبان، ورواية النسائي مختصرة وفيها زيادة ليست عند أبي داود والترمذي. ولفظه: استأذن جبريل - عليه السلام - على النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال: ((ادخل))، فقال: كيف أدخل وفي بيتك ستر فيه تصاوير؟ فإما أن تقطع رؤوسها أو يُجْعَل بساطًا يُوطَأ؛ فإنا معشر الملائكة لا ندخل بيتًا فيه تصاوير. الحديث السابع عشر: عن علي - رضي الله عنه - عن النبي - صلى الله عليه وسلم -: ((لا تدخل الملائكة بيتًا فيه صورة ولا كلب ولا جنب))؛ رواه الإمام أحمد

وأبو داود الطيالسي وأهل السنن إلا الترمذي، وصححه ابن حبان والحاكم والذهبي. ورواه الإمام أحمد أيضًا مطولاً وفيه: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: ((سمعت في الحجرة حركة فقلت: مَن هذا؟ فقال: أنا جبريل، قلت: ادخل، قال: لا، اخرج إليَّ، فلمَّا خرجت قال: إن في بيتك شيئًا لا يدخله مَلَك ما دام فيه، قلت: ما أعلمه يا جبريل، قال: اذهب فانظر، ففتحت البيت فلم أجد فيه شيئًا غير جرو كلب كان يلعب به الحسن، قلت: ما وجدت إلا جروًا، قال: إنها ثلاث لن يلج ملَك ما دام فيها أبدًا واحد منها: كلب، أو جنابة، أو صورة روح)). الحديث الثامن عشر: عن أبي طلحة الأنصاري - رضي الله عنه - وقد روي عنه من ثلاثة أوجه: الوجه الأول: عن ابن عباس - رضي الله عنهما - قال: سمعت أبا طلحة - رضي الله عنه - يقول: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: ((لا تدخل الملائكة بيتًا فيه كلب ولا صورة))؛ رواه الإمام أحمد والشيخان وأبو داود الطيالسي وأهل السنن إلا أبا داود. الوجه الثاني: عن الليث بن سعد، عن بكير بن عبدالله بن الأشج، عن بسر بن سعيد، عن زيد بن خالد الجهني - رضي الله عنه - عن أبي طلحة صاحب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: ((إن الملائكة لا تدخل بيتًا فيه صورة))، قال بسر: ثم اشتكى زيد بعدُ فعدناه فإذا على بابه ستر فيه صورة فقلت لعبيدالله الخولاني ربيب ميمونة زوج النبي - صلى الله عليه وسلم -: ألم يخبرنا زيد عن الصور يوم الأول؟ فقال عبيدالله:

ألم تسمعه حين قال: إلا رقمًا في ثوب؛ رواه الإمام أحمد والشيخان وأبو داود والنسائي. ورواه الشيخان أيضًا من حديث عمرو بن الحارث، أن بكير بن الأشج حدثه، أن بسر بن سعيد حدثه، أن زيد بن خالد الجهني - رضي الله عنه - حدثه ومع بسر بن سعيد عبيدالله الخولاني الذي كان في حجر ميمونة - رضي الله عنها - زوج النبي - صلى الله عليه وسلم - حدثهما زيد بن خالد، أن أبا طلحة - رضي الله عنه - حدثه، أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: ((لا تدخل الملائكة بيتًا فيه صورة))، قال بسر: فمرض زيد بن خالد فعدناه، فإذا نحن في بيته بستر فيه تصاوير فقلت لعبيدالله الخولاني: ألم يحدثنا في التصاوير؟ فقال: إنه قال: إلا رقم في ثوب ألا سمعته؟ قلت: لا، قال: بلى قد ذكره. ورواه مسلم أيضًا وأبو داود من حديث سعيد بن يسار، عن زيد بن خالد الجهني - رضي الله عنه - عن أبي طلحة الأنصاري - رضي الله عنه - قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: ((لا تدخل الملائكة بيتًا فيه كلب ولا تمثال)). وقال: انطلق بنا إلى أم المؤمنين عائشة - رضي الله عنها - نسألها عن ذلك، فانطلقنا فقلنا: يا أم المؤمنين، إن أبا طلحة حدثنا عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بكذا وكذا، فهل سمعت النبي - صلى الله عليه وسلم - يذكر ذلك؟ قالت: لا، ولكن سأحدثكم بما رأيته فعل؛ خرج رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في بعض مغازيه وكنت أتحيَّن قُفُوله، فأخذت نمطًا كان لنا فسترته على العرض، فلما

جاء استقبلته فقلت: السلام عليك يا رسول الله ورحمة الله وبركاته، الحمد لله الذي أعزك وأكرمك، فنظر إلى البيت فرأى النمط فلم يرد علي شيئًا ورأيت الكراهية في وجهه، فأتى النمط حتى هتكه، ثم قال: ((إن الله لم يأمرنا فيما رزقنا أن نكسو الحجارة واللبن))، قالت: فقطعته وجعلته وسادتين وحشوتهما ليفًا، فلم ينكر ذلك عليَّ؛ هذه رواية أبي داود وهي أتم من رواية مسلم. الوجه الثالث: وهو الحديث التاسع عشر عن عبيدالله بن عبدالله بن عتبة بن مسعود أنه دخل على أبي طلحة الأنصاري - رضي الله عنه - يعوده، فوجد عنده سهل بن حنيف - رضي الله عنه - قال: فدعا أبو طلحة إنسانًا ينزع نمطًا تحته، فقال سهل: لم تنزعه؟ قال: لأن فيه تصاوير وقال فيها النبي - صلى الله عليه وسلم - ما قد علمت، قال سهل: أو لم يقل: ((إلا ما كان رقمًا في ثوب))؟ قال: بلى، ولكنه أطيب لنفسي؛ رواه مالك وأحمد والترمذي والنسائي، وقال الترمذي: هذا حديث حسن صحيح. الحديث العشرون: عن إسحاق بن عبدالله بن أبي طلحة، أن رافع بن إسحاق مولى الشفا أخبره قال: دخلت أنا وعبدالله بن أبي طلحة على أبي سعيد الخدري - رضي الله عنه - نعوده، فقال أبو سعيد الخدري - رضي الله عنه -: أخبرنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن الملائكة لا تدخل بيتًا فيه تماثيل أو تصاوير، يشك إسحاق بن عبدالله لا يدري أيتهما قال أبو سعيد - رضي الله عنه. رواه مالك وأحمد والترمذي وابن حبان في "صحيحه"، وقال الترمذي: هذا حديث حسن صحيح.

الحديث الحادي والعشرون: عن علي - رضي الله عنه - قال: صنعت طعامًا فدعوت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فجاء، فرأى في البيت تصاوير فرجع؛ رواه ابن ماجه هكذا مختصرًا وإسناده صحيح، وبوَّب عليه بقوله: (باب إذا رأى الضيف منكرًا رجع). ورواه النسائي أتمَّ منه ولفظه: قال: صنعت طعامًا فدعوت النبي - صلى الله عليه وسلم - فجاء، فدخل فرأى سترًا فيه تصاوير فخرج وقال: ((إن الملائكة لا تدخل بيتًا فيه تصاوير)). ورواه أبو نعيم في "الحلية" بأبسط منه، ولفظه عن سعيد بن المسيب أن عليًّا - رضي الله عنه - صنع طعامًا فجاء النبي - صلى الله عليه وسلم - حتى إذا نظر في البيت رجع، فقال له علي: ما رجعك يا رسول الله - فداك أبي وأمي؟ قال: ((إني رأيت في بيتك سترًا فيه تصاوير، وإن الملائكة لا تدخل بيتًا في تصاوير)). وفي هذا الحديث والأحاديث التسعة قبله عدة فوائد نذكر منها ما يتعلق بالمقصود في هذا الفصل: فالأولى منها: امتناع الملائكة من دخول البيت إذا كان فيه صورة من صور ذوات الأرواح، وقد تقدم تعليل امتناعهم في فوائد الحديث الثاني فليراجع. قال الخطابي - رحمه الله تعالى - والصورة التي لا تدخل الملائكة البيت الذي هي فيه ما يحرم اقتناؤه: وهو ما يكون من الصور التي فيها روح مما لم يقطع رأسه أو لم يمتهن، انتهى.

الرد على من أجاز اتخاذ الثياب والستور التي فيها الصور

والمراد بالبيت: المكان الذي يستقر فيه الشخص سواء كان بناء أو خيمة أو غير ذلك، نبه على ذلك الحافظ ابن حجر في "فتح الباري". الثانية: أنه لا فرق بين الصور المجسدة وغير المجسدة فكل منها مانع من دخول الملائكة كما تدل على ذلك عمومات الأحاديث التي ذكرت آنفًا، وحديث أبي هريرة - رضي الله عنه - في قصة جبريل صريح في امتناعهم من دخول البيت الذي فيه الصور التي ليست بمجسدة، وكذلك الحديث الأخير من حديثي علي - رضي الله عنه - صريح في ذلك أيضًا، وإذا كانت الصور التي ليست بمجسدة مانعة من دخول الملائكة فالصور المجسدة كذلك بل أَوْلَى، والله أعلم. الثالثة: الرد على مَن أجاز صناعة الصور التي ليست بمجسدة، ومَن أجاز اتخاذها فيما لا يُوطَأ ويمتهن؛ كالبساط والمخدة ونحو ذلك، وحديث أبي هريرة - رضي الله عنه - صريح في الرد عليهم، وكذلك الأخير من حديثي علي - رضي الله عنه - وكذلك حديث عائشة - رضي الله عنها - في النمرقة. وأما استثناء الرقم في الثوب كما في حديث زيد بن خالد وحديث عبيدالله بن عبدالله بن عتبة عن أبي طلحة وسهل بن حنيف - رضي

الله عنهما - فقد احتج به مَن أجاز اتخاذ الثياب والستور التي فيها الصور كما هو مروي عن زيد بن خالد - رضي الله عنه. قال النووي: وهو مذهب القاسم بن محمد، وقد أجاب عن ذلك النووي وابن حجر العسقلاني؛ فأما النووي فقال في "شرح مسلم" قوله: ((إلا رقما في ثوب)) هذا يحتج به مَن يقول بإباحة ما كان رقمًا مطلقًا، وجوابنا وجواب الجمهور عنه: إنه محمول على رقم على صورة الشجر وغيره مما ليس بحيوان، وقد قدمنا أن هذا جائز عندنا، وأما ابن حجر فإنه ذكر جواب النووي بمعناه، ثم قال: ويحتمل أن يكون ذلك قبل النهي، كما يدل عليه حديث أبي هريرة الذي أخرجه أصحاب السنن. قلت: هو الحديث السادس عشر مما تقدم ذكره قريبًا، ولعل زيد بن خالد والقاسم بن محمد لم يبلغهما حديث أبي هريرة وحديث علي - رضي الله عنهما - في المنع من تعليق الستور التي فيها الصور، ولم تبلغهما أيضًا الأحاديث التي تقتضي عموم النهي عن اتخاذ ما فيه صورة إلا ما كان في بساط ومخدة ونحوهما مما يداس ويمتهن، والله أعلم. الرابعة: أن قطع رأس الصورة يزيل المحذور منها ويكفي في التغيير، وأما قطع غيره فلا يكفي عنه، ولو قطعت الصورة كلها سوى الرأس فالمحذور باقٍ، والتغيير المشروع لم يحصل كما سيأتي تقريره - إن شاء الله تعالى.

جواز الجلوس والإتكاء على ما فيه صورة

الخامسة: جواز الجلوس والاتكاء على ما فيه صورة؛ لأن في ذلك امتهانًا لها، وقد روى ابن أبي شيبة من طريق أيوب عن عكرمة قال: كانوا يقولون في التصاوير في البسط والوسائد التي توطأ ذل لها. وروي أيضًا من طريق عاصم عن عكرمة قال: كانوا يكرهون ما نصب من التماثيل نصبًا، ولا يرون بأسًا بما وطئته الأقدام، وروي أيضًا من طريق ابن سيرين ومن طريق سالم بن عبدالله ومن طريق عكرمة بن خالد ومن طريق سعيد بن جبير أنهم قالوا: لا بأس بالصورة إذا كانت تُوطَأ، وروي أيضًا من طريق عروة أنه كان يتكئ على المرافق فيها تماثيل الطير والرجال. نقل هذه الآثار كلها الحافظ ابن حجر في "فتح الباري". السادسة: أن الملائكة لا تمتنع من دخول البيت إذا كانت فيه صورة في بساط ومخدة ونحوهما مما يداس ويمتهن؛ ويدل على ذلك قول جبريل للنبي - صلى الله عليه وسلم - ومُرْ بالستر فليقطع، ويجعل منه منتبذتين تُوطَآن. وفي رواية النسائي: فإما أن تقطع رؤوسها أو يجعل بساطًا يُوطَأ. ولو كان وجود الصورة في الوسائد والبُسُط التي تمتهن وتُداس بالأرجل مانعًا من دخول الملائكة لأمر جبريل بإتلافها أو إخراجها من البيت كما أمر بقطع رأس التمثال وإخراج الكلب، والله أعلم. السابعة: وجوب إنكار المنكر؛ كما يدل على ذلك حديث أبي هريرة وحديث عائشة وحديث علي - رضي الله عنهم.

كراهة دخول البيت الذي فيه تصاوير

الثامنة: هجر مَن أظهر المنكر؛ فلا يسلم عليه ولا تجاب دعوته. التاسعة: كراهة دخول البيت الذي فيه تصاوير، وقد نص الإمام أحمد على هذا، وهو قول عمر وأبي مسعود - رضي الله عنهما - وروي ذلك عن ابن مسعود - رضي الله عنه. قال شيخ الإسلام أبو العباس ابن تيمية - رحمه الله تعالى -: المنصوص عن أحمد والمذهب الذي نص عليه عامة الأصحاب كراهة دخول الكنيسة التي فيها التصاوير، انتهى. وقال البخاري - رحمه الله تعالى - في "صحيحه": وقال عمر - رضي الله عنه -: إنا لا ندخل كنائسكم من أجل التماثيل التي فيها الصور. قال الحافظ ابن حجر في "فتح الباري": هذا الأثر وصله عبدالرزاق من طريق أسلم مولى عمر قال: لما قدم عمر الشام صنع له رجل من النصارى طعامًا وكان من عظمائهم، وقال: أحب أن تجيئني وتكرمني؟ فقال له عمر: إنا لا ندخل كنائسكم من أجل الصور التي فيها؛ يعني: التماثيل. قلت: وقد رواه البخاري موصولاً في "الأدب المفرد" فقال في باب دعوة الذمي: حدثنا أحمد بن خالد، قال: حدثنا محمد بن إسحاق، عن نافع، عن أسلم مولى عمر قال: لما قدمنا مع عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - الشام أتاه الدهقان قال: يا أمير المؤمنين، إني قد صنعت لك طعامًا فأحب أن تأتيني بأشراف مَن معك؛ فإنه أقوى لي في عملي وأشرف لي، قال:

من دخل دارا فرأى فيها تصاوير فالواجب أن يغيرها فإن لم يقدر فالسنة له أن يخرج

إنا لا نستطيع أن ندخل كنائسكم هذه مع الصور التي فيها. وروى البيهقي من طريق عدي بن ثابت، عن خالد بن سعيد، عن أبي مسعود - رضي الله عنه - أن رجلاً صنع طعامًا فدعاه، فقال: أفي البيت صورة؟ قال: نعم، فأبى أن يدخل حتى تكسر الصورة؛ قال الحافظ ابن حجر: سنده صحيح. قلت: وقد ذكره أبو بكر المروذي في كتاب "الورع" من حديث خالد بن سعيد قال: دُعِي أبو مسعود - رضي الله عنه - إلى طعام فقالوا له: في البيت صورة، فأبى أن يأتيهم حتى ذهب إنسان فكسرها. وقال البخاري في "صحيحه"، ورأى ابن مسعود - رضي الله عنه - صورة في البيت فرجع. العاشرة: أن المدعو إذا لم يعلم بما في بيت الداعي من التصاوير إلا بعد ما دخل فالسنة له أن يخرج؛ كما تفيده رواية النسائي عن علي - رضي الله عنه - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - خرج من بيته لما رأى الستر الذي فيه التصاوير، وهو ظاهر ما ذكره البخاري عن ابن مسعود - رضي الله عنه. وقد نص الإمام أحمد - رحمه الله تعالى - على أنه يخرج لصورة على الجدار. وإن كان المدعوُّ يقدر على تغيير الصورة فالواجب عليه أن يغيرها كما فعل النبي - صلى الله عليه وسلم - في هتك الستر الذي نصبته عائشة - رضي الله عنها - ولما في حديث علي - رضي الله عنه -: ((لا تدع صورة إلا طمستها))، وسيأتي ذكره قريبًا - إن شاء الله تعالى.

الحديث الثاني والعشرون: عن ابن عباس - رضي الله عنهما - وقد روي عنه من وجوه: أحدها: عن كريب مولى ابن عباس، عن ابن عباس - رضي الله عنهما - قال: دخل النبي - صلى الله عليه وسلم - البيت فوجد فيه صورة إبراهيم وصورة مريم فقال - صلى الله عليه وسلم -: ((أما لهم فقد سمعوا أن الملائكة لا تدخل بيتًا فيه صورة، هذا إبراهيم مصور فما له يستقسم))؛ رواه الإمام أحمد والبخاري والنسائي. الوجه الثاني: عن عكرمة، عن ابن عباس - رضي الله عنهما -: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لما قدم مكة أبى أن يدخل البيت وفيه الآلهة فأمر بها فأخرجت، فأخرج صورة إبراهيم وإسماعيل في أيديهما الأزلام، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((قاتلهم الله، أما والله لقد علموا أنهما ما اقتسما بها قط))؛ رواه الإمام أحمد والبخاري وأبو داود. وفي رواية لأحمد والبخاري أن النبي - صلى الله عليه وسلم - لما رأى الصور في البيت - يعني: الكعبة - لم يدخل، وأمر بها فمحيت، ورأى إبراهيم وإسماعيل - عليهما السلام - بأيديهما الأزلام فقال: ((قاتلهم الله، والله ما استقسما بالأزلام قط)). الوجه الثالث عن أبي صالح، عن ابن عباس - رضي الله عنهما - قال: لما فتح رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مكة دعا عثمان بن طلحة، فلما أتاه قال: ((أرني المفتاح))، فأتاه به - فذكر الحديث إلى أن قال: - وفتح باب الكعبة فوجد في الكعبة تمثال إبراهيم - عليه الصلاة والسلام - معه قداح

أمر النبي - صلى الله عليه وسلم - بإزالة ما في الكعبة من الصور

يستقسم بها، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((ما للمشركين - قاتلهم الله - وما شأن إبراهيم وشأن القِدَاح))، ثم دعا بجفنة فيها ماء فأخذ ماء فغمسه فيه، ثم غمس به تلك التماثيل؛ رواه ابن مردويه. الحديث الثالث والعشرون: عن جابر - رضي الله عنه - قال: كان في الكعبة صور فأمر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن يمحوها قبل عمر - رضي الله عنه - ثوبًا ومحاها به، فدخلها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وما فيها منها شيء؛ رواه الإمام أحمد وأبو داود وهذا لفظ أحمد. ولفظ أبي داود: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أمر عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - زمن الفتح وهو بالبطحاء أن يأتي الكعبة فيمحو كل صورة فيها، فلم يدخلها النبي - صلى الله عليه وسلم - حتى مُحِيَت كل صورة فيها. الحديث الرابع والعشرون: عن شيبة بن عثمان - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((يا شيبة، امحُ كلَّ صورة في البيت))؛ ذكره البخاري في "تاريخه". الحديث الخامس والعشرون: قال ابن جريج: أخبرني عمرو بن دينار، أنه بلغه أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أمر بطَمْس الصور التي كانت في البيت؛ رواه عمر بن شبة في "أخبار مكة". وقال ابن هشام: حدثني بعض أهل العلم أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - دخل البيت يوم الفتح فرأى فيه صور الملائكة وغيرهم، ورأى إبراهيم

قول النبي- صلى الله عليه وسلم - قاتل الله قوما يصورون ما لا يخلقون

مصورًا في يده الأزلام يستقسم بها فقال: ((قاتلهم الله، جعلوا شيخنا يستقسم بالأزلام، ما شأن إبراهيم والأزلام، {مَا كَانَ إِبْرَاهِيمُ يَهُودِيًّا وَلا نَصْرَانِيًّا وَلَكِنْ كَانَ حَنِيفًا مُسْلِمًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ})) [آل عمران: 67]، ثم أمر بتلك الصور كلها فطُمِسَت. الحديث السادس والعشرون: عن أسامة بن زيد - رضي الله عنهما - قال: دخلت على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في الكعبة ورأى صورًا، قال: فدعا بدلو من ماء فأتيته به، فجعل يمحوها ويقول: ((قاتل الله قومًا يصورون ما لا يخلقون))؛ رواه أبو داود الطيالسي في "مسنده" بإسناد جيد، وعمر بن شيبة في "أخبار مكة" والحافظ الضياء المقدسي في "المختارة". وفي معنى قوله: ((قاتلهم الله)) أقوال: أحدها: لعنهم الله، قاله ابن عباس - رضي الله عنهما - واختاره الإمام البخاري - رحمه الله تعالى. الثاني: قتلهم الله، قاله ابن جريج. الثالث: أنه ليس هو على تحقيق المقاتلة، ولكنه بمعنى التعجب، حكاه البغوي في "تفسيره". قال الراغب الأصفهاني: والصحيح أن ذلك هو المفاعلة، والمعنى صار بحيث يتصدَّى لمحاربة الله، فإن مَن قاتل الله فمقتول، ومَن غالَبه فهو مغلوب، انتهى. ويظهر لي أن المراد به هاهنا اللعن المقرون بالإنكار على المصورين،

والتعجب من سوء صنيعهم وجراءتهم على المضاهاة بخلق الله - تعالى - مع عجزهم عن نفخ الروح فيما يصورونه، والله أعلم. فإن قيل: إن في هذه الأحاديث شيئًا من التعارض؛ ففي الرواية الأولى عن عكرمة أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أمر بالآلهة فأُخْرِجت، وفي روايته الأخرى أنه أمر بها فمُحِيت، ومثله ما في حديث جابر وأسامة بن زيد وعمرو بن دينار. وأيضًا ففي رواية كريب عن ابن عباس - رضي الله عنهما - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - دخل البيت فوجد فيه صورة إبراهيم وصورة مريم، ونحوه ما في حديث أسامة بن زيد - رضي الله عنهما - وما ذكره ابن هشام وهذا يعارض رواية عكرمة عن ابن عباس - رضي الله عنهما - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أبى أن يدخل البيت وفيه الآلهة، ونحوه ما في حديث جابر - رضي الله عنه - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - لم يدخل الكعبة حتى مُحِيَت كل صورة فيها. والجواب أن يقال: ليس بين هذه الروايات تعارض بحمد الله - تعالى - فأما التي يفهم منها التعارض بين المحو والإخراج فوجه الجمع بينها أنه - صلى الله عليه وسلم - أمر بمحو ما كان منقوشًا في أعمدة الكعبة وحيطانها، وأمر بإخراج ما كان مجسدًا ليكسر خارج الكعبة مع الأصنام التي كانت حولها؛ ليرى المشركين ما يصيب ألهتهم من

نهي النبي - صلى الله عليه وسلم - عن التصوير

الإهانة والإذلال، وليعلموا أنها لا تنفع ولا تضر، ولا تدفع عن أنفسها شيئًا فضلاً عن عابديها؛ وعلى هذا فمَن قال من الرواة أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أمر بالصور فمُحِيت فمراده الصور المنقوشة، ومَن قال أمر بها فأُخْرِجت فمراده الصور المجسدة، والله أعلم. وأما التي يفهم منها التعارض بين دخوله - صلى الله عليه وسلم - الكعبة مع وجود الصور فيها وبين امتناعه من الدخول حتى محيت الصور كلها فوجه الجمع بينها أنه - صلى الله عليه وسلم - أراد دخول الكعبة، فلما رأى ما فيها من الصور رجع وأمر بإخراج ما كان مجسدًا ومحو ما كان منقوشًا في الأعمدة والحيطان، فلما أخبروه بإزالة الصور كلها دخل فوجد بقية خَفِيت على المأمورين بالمحو والإخراج، فمنها حمامة من عيدان كسرها بيده الكريمة ثم طرحها، ومنها صور منقوشة محاها بالماء، وعلى هذا فمَن قال من الرواة: إن النبي - صلى الله عليه وسلم - دخل الكعبة وفيها صور فمراده ما وجده النبي - صلى الله عليه وسلم - مما خفي على المأمورين بإتلاف الصور، ومَن قال: إنه لم يدخلها حتى محيت كل صورة فيها فعمدته ما أخبر به المأمورون من محو الصور كلها، وخفي على الراوي ما خفي على المأمورين بالإتلاف، والله أعلم. الحديث السابع والعشرون: عن جابر - رضي الله عنه - قال: نهى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن الصورة في البيت، ونهى أن يصنع ذلك؛ رواه الترمذي وقال: حديث حسن صحيح.

نقض التصاليب والتصاوير

الحديث الثامن والعشرون: عن معاوية - رضي الله عنه - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - نهى عن النوح، والشعر، والتصاوير، وجلود السباع، والتبرج، والغناء، والذهب، والخز والحرير؛ رواه الإمام أحمد والبخاري في "تاريخه" بأسانيد جيدة. الحديث التاسع والعشرون: عن عائشة - رضي الله عنها - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - لم يكن يترك في بيته شيئًا فيه تصاليب إلا نقضه؛ رواه الإمام أحمد والبخاري وأبو داود والنسائي، وهذا لفظ البخاري. ولفظ أحمد: لم يكن يدع في بيته ثوبًا فيه تصاليب إلا نقضه. ولفظ أبي داود: كان لا يترك في بيته شيئًا فيه تصاليب إلا قضبه، قال الخطابي: معناه: قطعه، والقضب: القطع، والتصليب: ما كان على صورة الصليب. وذكر الحافظ ابن حجر أن في رواية الكشميهني "تصاوير" بدل "تصاليب"، فلعل البخاري - رحمه الله تعالى - أشار إلى هذه الرواية؛ حيث ترجم على هذا الحديث بقوله: (باب نقض الصور). وقال الحافظ ابن حجر: الذي يظهر أنه استنبط من نقْض الصليب نقْض الصورة التي تشترك مع الصليب في المعنى وهو عبادتها من دون الله، فيكون المراد بالصور خصوص ما يكون من ذوات الأرواح، بل أخص من ذلك. ثم نقل الحافظ عن ابن بطَّال أنه قال: في هذا الحديث دلالة على أنه - صلى الله عليه وسلم - كان ينقض الصورة سواء كانت مما له ظل

أمر النبي - صلى الله عليه وسلم - بطمس الصور

أم لا، وسواء كانت مما تُوطَأ أم لا، وسواء في الثياب وفي الحيطان وفي الفرش والأوراق وغيرها، انتهى. الحديث الثلاثون: عن أبي الهياج الأسدي - واسمه: حيان بن حصين - قال: قال لي علي بن أبي طالب - رضي الله عنه -: ألا أبعثك على ما بعثني عليه رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: أن لا تدع تمثالاً إلا طمسته، ولا قبرًا مشرفًا إلا سويته؛ رواه الإمام أحمد ومسلم، وأهل السنن إلا ابن ماجه. وفي رواية لمسلم: ولا صورة إلا طمستها، ونحوه رواية النسائي. وفي رواية لأحمد: أن عليًّا - رضي الله عنه - قال: أبعثك فيما بعثني رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: أمرني أن أسوِّي كل قبر، وأطمس كل صنم. قال ابن القيم - رحمه الله تعالى -: هذا يدل على طمس الصور في أيِّ شيء كانت، وهدم القبور المشرفة وإن كانت من حجارة أو آجر أو لبن. قال المروذي: قلت لأحمد: الرجل يكتري البيت فيرى فيه تصاوير، ترى أن يحكها؟ قال: نعم. قال ابن القيم - رحمه الله تعالى -: وحجته هذا الحديث الصحيح، انتهى. الحديث الحادي والثلاثون: عن أبي محمد الهذلي ويكنى أيضًا بأبي مورع عن علي - رضي الله عنه - قال: كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في جنازة فقال: ((أيكم ينطلق إلى المدينة فلا يدع بها وثنًا إلا كسره، ولا قبرًا إلا سوَّاه، ولا صورة إلا لطخها؟))، فقال رجل: أنا يا رسول الله، فانطلق فهاب أهل المدينة فرجع، فقال علي - رضي الله عنه -: أنا انطلق

التشديد في صناعة الصور وإن ذلك كفر بما أنزل الله على محمد - صلى الله عليه وسلم -

يا رسول الله، قال: ((فانطلق))، فانطلق ثم رجع فقال: يا رسول الله، لم أدع بها وثنًا إلا كسرته، ولا قبرًا إلا سوَّيته، ولا صورة إلا لطختها، ثم قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((مَن عاد لصنعة شيء من هذا فقد كفر بما أُنْزِل على محمد)) - صلى الله عليه وسلم - رواه الإمام أحمد وابنه عبدالله في "زوائد المسند" وأبو داود الطيالسي في "مسنده". وفي هذا الحديث والأحاديث التسعة قبله عدة فوائد: الأولى منها: امتناع الملائكة من دخول البيت إذا كان فيه صورة. الثانية: أن تصوير ذوات الأرواح واتخاذ الصور من أفعال المشركين وسننهم، فمَن صنع الصور من هذه الأمة أو اتخذها عنده فهو متشبه بهم، ومَن تشبه بقوم فهو منهم. الثالثة: كراهة دخول البيت الذي فيه صورة، وقد تقدم ما روي عن عمر وأبي مسعود وابن مسعود - رضي الله عنهم - في ذلك. الرابعة: مشروعية تغيير الصور بالمحو ونحوه إن أمكن، وإلا فبالتلطيخ بما يغير هيئتها. الخامسة: كراهة الصلاة في الموضع الذي فيه صورة. قال ابن القيم - رحمه الله تعالى -: وهو أحق بالكراهة من الصلاة في الحمام؛ لأن كراهة الصلاة في الحمام إما لكونه مظنَّة النجاسة، وإما لكونه بيت الشيطان وهو الصحيح. وأما محل الصور فمظنَّة الشرك، وغالب شرك الأمم كان من جهة الصور والقبور، انتهى.

نص أحمد على حك رأس الصورة

وقال البخاري في "صحيحه": وكان ابن عباس - رضي الله عنهما - يصلي في البيعة إلا بيعة فيها تماثيل، قال الحافظ ابن حجر في "فتح الباري": وصله البغوي في "الجعديات"، وزاد فيه: فإن كان فيها تماثيل خرج فصلى في المطر. وقال شيخ الإسلام أبو العباس ابن تيمية - رحمه الله تعالى -: المنصوص عن أحمد والمذهب الذي نص عليه عامة الأصحاب كراهة دخول الكنيسة التي فيها التصاوير، والصلاة فيها وفي كل مكان فيه تصاوير أشد كراهة، وهذا هو الصواب الذي لا ريب فيه ولا شك، انتهى. السادسة: أنه لا فرق بين الصور المجسَّدة وغير المجسدة، فكل من النوعين يجب تغييره. وتُكْرَه الصلاة في الموضع الذي هو فيه، وقد نص الإمام أحمد - رحمه الله تعالى - على حكِّ التصاوير التي ليست بمجسدة، ونقدم قريبًا ما نقله المروذي عنه في ذلك. وقال المروذي أيضًا: قلت لأبي عبدالله: فإن دخلت حمامًا فرأيت فيه صورة ترى أن أحك الرأس؟ قال: نعم. وقد روي عن الحسن وعمر بن عبدالعزيز نحو ذلك، فأما الحسن البصري فذكر المروذي في كتاب "الورع" عن عيسى بن المنذر الراسبي قال: سمعت الحسن وقال له عقبة الراسبي: في مسجدنا سابحة فيها تصاوير فقال الحسن: أنجروها. وأما عمر بن عبدالعزيز فذكر الحافظ أبو الفرج ابن الجوزي - رحمه الله تعالى - عن حسين بن وردان قال: مر عمر بن عبدالعزيز بحمام عليه

متخذ الصورة شريك لصانعها في الوزر واللعنة

صورة، فأمر بها فطمست وحُكَّت، ثم قال: لو علمت مَن عمل هذا لأوجعته ضربًا، ويتخرج على هذه الرواية عن الإمام أحمد - رحمه الله تعالى - أن تغيير الصور المجسَّدة مطلوب كغير المجسدة بل أولى. السابعة: إنكار المنكر باليد لِمَن قدر على ذلك. الثامنة: لعن المصورين، والدعاء عليهم. التاسعة: أن متخذ الصورة شريكٌ لصانعها في الوزر واللعنة؛ لأن اتخاذها دليل على الرضا بصناعتها، والراضي بالذنب كفاعله. وقال الحافظ ابن حجر: إن المتخذ أَوْلَى بالوعيد، وتقدم كلامه في ذلك مع فوائد الحديث الثاني، فيراجع. العاشرة: التصريح بعجز المصورين عن نفخ الروح فيما يصورون. الحادية عشرة: الرد على صاحب الأغلال ومَن شاكَلَه من الزنادقة الذين يخشون أو يرجون أن يأتي زمن يوجد فيه إنسان صناعي وحيوان صناعي. الثانية عشرة: الرد على مَن زعم أن المنع خاص بالصور المجسدة؛ فإن الصور التي أمر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بمحوها ومحا هو بنفسه الكريمة ما بقي منها قد كانت من غير المجسدة قطعًا. وأما المجسدة فقد كان - صلى الله عليه وسلم - يطعنها بعود معه أو يشير به إليها إشارة فتخر على وجوهها وأقفائها، كما جاء ذلك في أحاديث صحيحة عن ابن مسعود وابن عباس وابن عمر وأبي هريرة - رضي الله عنهم.

يجب على ولاة الأمر أن يطمسوا الصور عملا بأمر النبي - صلى الله عليه وسلم - بذلك

وذكر ابن إسحاق في "السيرة" أن النبي - صلى الله عليه وسلم - وجد في الكعبة حمامة من عيدان فكسرها بيده ثم طرحها، فقد سوى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بين الصور المجسدة وغير المجسدة في الإنكار والتغيير، فمَن فرق بينهما فمنع المجسدة وأوجب تغييرها وأجاز غير المجسدة ولم يرَ تغييرها فقد فرق بين متماثلين، وآمن ببعض ما جاء عن الرسول - صلى الله عليه وسلم - في ذلك وردَّ بعضه. الثالثة عشرة: النهي الصريح عن اتخاذ الصور في البيوت وعن صناعتها. الرابعة عشرة: أن النهي يقتضي التحريم وهذا هو الصحيح من قولي العلماء، وقد نُقِل هذا عن مالك والشافعي وهو قول الجمهور، واختاره البخاري - رحمه الله تعالى - قال في آخر كتاب الاعتصام من "صحيحه": (باب نهي النبي - صلى الله عليه وسلم - على التحريم إلا ما تعرف إباحته). قال الحافظ ابن حجر في "فتح الباري": أي: بدلالة السياق، أو قرينة الحال، أو قيام الدليل على ذلك، انتهى. الخامسة عشرة: مشروعية نقض الصور والتصاليب من الثياب ونحوها إذا أمكن ذلك، فإن لم يمكن فالواجب تلطيخها بما يغير هيئتها. السادسة عشرة: الأمر الصريح بطمس الصور وأن لا يترك منها شيء، ومن الواجب المتعين على ولاة أمور المسلمين أن يفعلوا كما فعل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وكما فعل الخليفة الراشد علي - رضي الله عنه - فيبعثوا رجالاً يطمسون الصور التي عند رعاياهم ولا يتركوا منها شيئًا، ويجب عليهم أيضًا أن يمنعوا من صناعة التصاوير في سائر بلاد ولايتهم، ومَن

ينبغي لولاة الأمر أن يؤدبوا المصورين اقتداء بالخليفة الراشد عمر بن عبد العزيز -رحمه الله تعالى-

جلبها إليهم من خارج ولايتهم. ولو سلكوا منهاج الخليفة الراشد عمر بن عبدالعزيز - رحمه الله تعالى - في تأديب المصورين لكان ذلك خيرًا لهم، وليعلم أولو الأمر أنهم مسؤولون يوم القيامة عن رعاياهم فليعدُّوا للسؤال جوابًا. السابعة عشرة: عموم الأمر بطمس الصور، فيدخل في ذلك كل صورة من صور ذوات الأرواح، سواء كان لها ظل أو لم يكن، وسواء كانت تامة أو ناقصة إذا كان فيها رأس؛ لأن النكرة في قوله - صلى الله عليه وسلم -: ((لا تدع صورة إلا طمستها)) تقتضي العموم، ويدخل في عمومها الرأس المصور وحده؛ لأن تصوير الرأس هو أعظم مقصود بالنهي كما يدل على ذلك قول جبريل للنبي - صلى الله عليه وسلم -: "مُرْ برأس التمثال فليقطع فيصير كهيئة الشجرة". وقد قال بعض الفقهاء إذا فرق بين الرأس والجسد فقد زال المحذور، وكذلك إذا قطع من الصورة ما لا يبقى الحيوان بعد ذهابه كصدره أو بطنه، وكذلك إذا كانت الصورة رأسًا بلا بدن. وهذا القول ليس بشيء لمخالفته لحديث أبي هريرة - رضي الله عنه - في قصة جبريل - عليه السلام -ولمخالفته أيضًا لعمومات كثير من الأحاديث التي سبق ذكرها،

نص أحمد على أن الصورة الرأس

والصحيح أن المحذور في الصورة الرأس وحده نص عليه الإمام أحمد - رحمه الله تعالى. وروى ذلك عن ابن عباس - رضي الله عنهما - وعكرمة، قال أبو داود سمعت أحمد - رحمه الله تعالى - يقول: الصورة الرأس. وقد تقدم قريبًا ما نقله المروذي عن أحمد - رحمه الله تعالى - من حكِّ الرأس وحده. ثم قال أبو داود: حدثنا محمد بن محبوب قال: حدثنا وهيب - يعني: بن خالد الباهلي - عن خالد - يعني: الحذاء - عن عكرمة عن ابن عباس - رضي الله عنهما - قال: الصورة الرأس، فإذا قطع الرأس فليس هو صورة؛ إسناد صحيح على شرط البخاري. وقال أيضًا: حدثنا أحمد - يعني: الإمام أحمد بن حنبل - قال: حدثنا إسماعيل - يعني: ابن عُلَيَّة - عن خالد، عن عكرمة نحوه، لم يذكر ابن عباس - رضي الله عنهما - إسناده صحيح على شرط البخاري. وفي "المسند" من حديث شعبة بن دينار مولى ابن عباس - رضي الله عنهما - أن المسور بن مخرمة - رضي الله عنهما - دخل على ابن عباس - رضي الله عنهما - يعوده من وجع وعليه برد إستبرق، فقال: يا أبا عباس، ما هذا الثوب؟ قال: ما هو؟ قال: هذا الإستبرق، قال: والله ما علمت به، وما أظن النبي - صلى الله عليه وسلم - نهى عن هذا حين نهى عنه إلا للتجبر والتكبر، ولسنا بحمد الله كذلك، قال: فما هذه التصاوير في الكانون؟ قال: ألا ترى قد

أحرقناها بالنار، فلما خرج المسور قال: انزعوا هذه الثوب عنِّي، واقطعوا رؤوس هذه التماثيل، قالوا: يا أبا عباس، لو ذهبت إلى السوق كان أنفق لها مع الرأس، قال: لا، فأمر بقطع رؤوسها، وهذا حديث حسن قال أحمد وابن معين: شعبة بن دينار لا بأس به، وبقية رجاله "الصحيح". قال الجوهري وغيره من أهل اللغة: الكانون الموقد؛ يعني: الموضع الذي توقد فيه النار. قلت: وهو معروف بهذا الاسم إلى زماننا، ولكنه لنوع من المواقد لا لجميعها. وفي هذا الحديث والذي قبله دليل على أن حكم الصورة متعلق بالرأس وحده؛ والأصل في هذا قول جبريل للنبي - صلى الله عليه وسلم -: مر بالرأس فليقطع فيصير كهيئة الشجرة، فدلَّ على أن المحذور كله في تصوير الرأس، ودلَّ على أن قطع غيره لا يقوم مقامه ولا يكفى في التغيير، ولو كان المقطوع مما لا تبقى الحياة بعد ذهابه كصدره أو بطنه. وعلى هذا فتحريم التصوير والاتخاذ متعلق بوجود الرأس، وكذلك وجوب الطمس متعلق بوجود الرأس، والله أعلم. وأما قياس قطع الصدر أو البطن على قطع الرأس فهو قياس مع وجود الفارق؛ لأنها وإن شاركاه في ذهاب الحياة بذهابهما فقد اختفى هو دونهما ودون سائر الأعضاء بشيئين:

يجب طمس الوجه المصور وحده لأنه يسمى صورة شرعا ولغة ويحرم تصويره

أحدهما: أنه إذا قطع صار باقي الجسم كهيئة الشجرة، وخرج عن شكل ذوات الأرواح. الثاني: أنه مشتمل على الوجه الذي هو أشرف الأعضاء ومجمع المحاسن، وأعظم فارق بين الحيوان وبين غيره من النباتات والجمادات، وبطمسه تذهب بهجة الصورة ورونقها، وتعود إلى مشابهة النباتات والجمادات؛ ولهذا قال جبريل للنبي - صلى الله عليه وسلم -: "مر برأس التمثال فليقطع فيصير كهيئة الشجرة". وبهذا يعرف أن غير الرأس لا يساويه، وأن مَن قاس شيئًا من الأعضاء على الرأس فقياسه غير صحيح فلا يعتدُّ به، والله أعلم. وقد قال بهذا القياس الفاسد كثير من فقهاء الحنابلة، فخالفوا نص أمامهم مع مخالفتهم لحديث أبي هريرة - رضي الله عنه - في قصة جبريل - عليه السلام - ولما ثبت عن ابن عباس - رضي الله عنهما - أنه قال: الصورة الرأس، فإذا قطع الرأس فليس بصورة، ولعمومات الأحاديث التي تقدم ذكرها، وخليق بهذا القول أن يضرب به الحائط ولا يعول عليه، والله الموفق. ويدخل في عموم النكرة أيضًا الوجهُ المصوَّر وحده؛ لإطلاق لفظ الصورة عليه في كلام النبي - صلى الله عليه وسلم - وكلام أصحابه - رضي الله عنهم - وكلام أهل اللغة. فأما إطلاق ذلك عليه في كلام النبي - صلى الله عليه وسلم - ففي عدة أحاديث:

الأول منها: عن سالم بن عبدالله، عن أبيه - رضي الله عنه - قال: نهى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن تضرب الصور يعني: الوجه؛ رواه الإمام أحمد في "مسنده" بإسناد صحيح على شرط الشيخين. وقال البخاري - رحمه الله تعالى - في "صحيحه": (باب الوسم والعلم في الصورة) حدثنا عبيد الله بن موسى، عن حنظلة، عن سالم، عن ابن عمر - رضي الله عنهما - أنه كره أن تعلم الصورة، وقال ابن عمر - رضي الله عنهما -: نهى النبي - صلى الله عليه وسلم - أن تضرب، تابعه قتيبة قال: حدثنا العنقري، عن حنظلة، وقال: تضرب الصورة. قوله: "أن تعلم الصورة"؛ أي: يجعل في الوجه علامة من كي أوسمة. قال الحافظ ابن حجر في "فتح الباري": المراد بالصورة الوجه، قال: وقد أخرج الإسماعيلي الحديث من طريق وكيع عن حنظلة بلفظ أن تضرب وجوه البهائم، ومن وجه آخر عنه أن تضرب الصورة؛ يعني: الوجه. وأخرجه أيضًا من طريق محمد بن بكر البرساني وإسحاق بن سليمان الرازي كلاهما عن حنظلة قال: سمعت سالمًا يسأل عن العلم في الصورة فقال: كان ابن عمر - رضي الله عنهما - يكره أن تعلم الصورة، وبلغنا أن النبي - صلى الله عليه وسلم - نهى أن تضرب الصورة يعني بالصورة الوجه. الحديث الثاني: عن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((أول زمرة تلج الجنة صورهم على صورة القمر ليلة البدر))؛ الحديث رواه الإمام أحمد والشيخان والترمذي وابن ماجه.

والمراد بالصور هاهنا الوجوه خاصة؛ لما في الصحيحين عن أبي حازم، عن سهل بن سعد - رضي الله عنه - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: ((ليدخلن الجنة من أمتي سبعون - أو سبعمائة - ألف - لا يدري أبو حازم أيهما قال - متماسكون، آخذ بعضهم بعضًا، لا يدخل أولهم حتى يدخل آخرهم وجوههم على صورة القمر ليلة البدر)). وفي "المسند" و"صحيح مسلم" عن جابر بن عبدالله - رضي الله عنهما - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال - فذكر الحديث وفيه -: ((فتنجوا أول زمرة وجوههم كالقمر ليلة البدر سبعون ألفًا لا يحاسبون)) الحديث. وفي "المسند" أيضًا من حديث أبي بكر الصديق - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((أُعْطِيت سبعين ألفًا يدخلون الجنة بغير حساب، وجوههم كالقمر ليلة البدر)). الحديث الثالث: عن أبي سعيد الخدري - رضي الله عنه - عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: ((أول زمرة تدخل الجنة على صورة القمر ليلة البدر ...)) الحديث؛ رواه الإمام أحمد والترمذي وقال: هذا حديث حسن صحيح. وفي هذا الحديث والذي قبله تشبيه صور الزمرة الأولى من أهل الجنة بصورة القمر، ومعلوم أن القمر ليس فيه إلا صورة الوجه وحده فدل على أن الوجه

وحده يسمى صورة على الحقيقة، فيحرم تصويره مطلقًا سواء كان معه جسم أو بعض جسم أو كان مفردًا بالتصوير، والله أعلم. الحديث الرابع: عن أبي سعيد الخدري أيضًا - رضي الله عنه - قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول وهو يصف يوسف حين رآه في السماء الثالثة قال: ((رأيت رجلاً صورته كصورة القمر ليلة البدر، فقلت: يا جبريل، مَن هذا؟ قال: هو أخوك يوسف))؛ رواه الحاكم في "مستدركه". وفي هذا الحديث إطلاق لفظ الصورة على الوجه وحده؛ لأنه هو الذي يشبه صورة القمر. الحديث الخامس: عن أبي هريرة - رضي الله عنه - عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: ((أما يخشى أحدكم أو إلا يخشى أحدكم إذا رفع رأسه قبل الإمام أن يجعل الله رأسه رأس حمارٍ، ويجعل الله صورته صورة حمار))؛ رواه الإمام أحمد والشيخان وأهل السنن، وهذا لفظ البخاري، والمراد بالصورة هاهنا الوجه؛ لما في رواية لمسلم: ((أن يجعل الله وجهه وجه حمار))، ففي هذه الرواية بيان المراد بالصورة في الرواية الأولى، والله أعلم. الحديث السادس: عن علي بن أبي طالب - رضي الله عنه - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان إذا سجد يقول: ((اللهم لك سجدت، ولك أسلمت، وبك آمنت، سجد وجهي للذي خلقه، وصوره فأحسن صورته، وشقَّ سمعه وبصره، تبارك الله أحسن الخالقين))؛ رواه الإمام أحمد ومسلم وأبو داود

والنسائي والدارقطني، وهذا لفظ النسائي. الحديث السابع: عن أبي سعيد الخدري - رضي الله عنه - أن ناسًا قالوا: يا رسول الله، الله هل نرى ربنا يوم القيامة؟ قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((نعم)) الحديث بطوله وفيه: ((حتى إذا خلص المؤمنون من النار، فوالذي نفسي بيده ما منكم من أحد بأشد مناشدة في استقصاء الحق من المؤمنين لله يوم القيامة لإخوانهم الذين في النار، يقولون: ربنا، كانوا يصومون معنا ويصلون ويحجون، فيقال لهم: أخرجوا مَن عرفتم فتحرم صورهم على النار))؛ الحديث متفق عليه، وهذا لفظ مسلم. والمراد بالصور هاهنا الوجوه؛ والدليل على ذلك ما رواه مسلم من حديث جابر بن عبدالله - رضي الله عنهما - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((يحترقون فيها إلا دارات وجوههم حتى يدخلون الجنة)). وأما إطلاق لفظ الصورة على الوجه في كلام الصحابة - رضوان الله عليهم أجمعين - فقد رواه الإمام أحمد في "مسنده" من حديث سالم بن عبدالله، عن عبدالله بن عمر - رضي الله عنهما - أنه كان يكره العلم في الصورة، وقال: نهى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن ضرب الوجه. وقد رواه البخاري في "صحيحه" والإسماعيلي بنحوه، وتقدم ذكره قريبًا. وروى مسلم في "صحيحه" والبخاري في "الأدب المفرد" من حديث هلال بن يساف قال: كنا نبيع البز في دار سويد بن مقرن فخرجت جارية فقالت لرجل شيئًا فلطمها ذلك الرجل، فقال له سويد بن مقرن: لطمت

وجهها! لقد رأيتُني سابع سبعة وما لنا إلا خادم فلطمها بعضنا فأمره النبي - صلى الله عليه وسلم - أن يعتقها؛ هذا لفظ البخاري. وفي رواية لمسلم فقال له سويد بن مقرن عجز عليك إلا حر وجهها، وفي رواية لهما عن محمد بن المنكدر قال: حدثني أبي شعبة العراقي، عن سويد بن مقرن، أن جارية له لطمها إنسان فقال له سويد: أما علمت أن الصورة محرمة؟ وذكر تمام الحديث بنحو رواية هلال بن يساف، والمراد بالصورة الوجه كما صرح به في الرواية الأولى، وأشار سويد - رضي الله عنه - بقوله: أما علمت أن الصورة محرمة؟ إلى ما ثبت عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: ((إذا ضرب أحدكم فليجتنب الوجه))؛ رواه الإمام أحمد ومسلم في "صحيحه" والبخاري في "الأدب المفرد" وأبو داود وغيرهم من حديث أبي هريرة - رضي الله عنه. وأما إطلاق لفظ الصورة على الوجه في كلام أهل اللغة فقال ابن الأثير في "النهاية" وتبعه ابن منظور في "لسان العرب": وفي حديث ابن مقرن: "أما علمت أن الصورة محرمة"، أراد بالصورة الوجه، وتحريمها المنع من الضرب واللطم على الوجه، ومنه لحديث كره أن تعلم الصورة؛ أي: يحمل في الوجه كي أوسمة. وقال مرتضى الحسيني في "تاج العروس": والصورة الوجه، ثم ذكر ما ذكره ابن الأثير وابن منظور. ومما ذكرنا يعلم أن تصوير الوجه حرام سواء كان مفردًا أو غير

صناعة التصاوير كفر أكبر في ثلاث صور

مفرد، وأن اتخاذ ما فيه صورة الوجه حرام إلا فيما يداس ويمتهن؛ كالبساط والوسادة ونحوهما، ويعلم أيضًا أنه يجب طمس صورته أينما وجدت عملاً بقول النبي - صلى الله عليه وسلم -: ((لا تدع صورة إلا طمستها)). الثامنة عشرة من فوائد الأحاديث التي تقدم ذكرها: إطلاق اسم الصنم على كل صورة سواء كانت مجسدة وغير مجسدة، وسواء كانت تامة أو ناقصة إذا كان فيها رأس. التاسعة عشرة: أن صناعة التصوير من الكبائر. العشرون: تكفير المصورين، والمراد به - والله أعلم - كفر دون كفر، إلا في ثلاث صور فإنه يكون كفرًا أكبر: الأولى: أن يصنع الصور ليعبدها غيره، ومن عبادتها رجاء جلب النفع أو دفع الضر منها، ولقد ذُكِر لنا أن بعض السفهاء في بعض البلاد المجاورة كانوا يمشون في الأسواق بصورة أحد الفراعنة في زماننا يبيعونها وينادون عليها: مَن يشتري صورةً تحفظه في بيته بثمن قليل أو كلمة نحوها، وهذا هو الشرك الأكبر. الثانية: مَن يستحل صناعتها مع اعتقاده للتحريم؛ لأن من استحل محرمًا فقد كفر. الثالثة: مَن يصنعها قاصدًا بذلك مضاهاة الباري - تبارك وتعالى - والله - سبحانه وتعالى - أعلم. * * *

التحذير من صناعة الصور واتخاذها

فصل والتصوير من الكبائر كما تقدم بيان ذلك في مواضع متعددة، ومع هذا فقد تلاعَب الشيطان بكثير من المسلمين والمنتسبين إلى الإسلام وفتنهم بصناعة التصاوير واتخاذها، فأطاعوه وعصوا الله ورسوله - صلى الله عليه وسلم. وقد حذر الله - تبارك وتعالى - عباده من طاعة الشيطان بأبلغ التحذير؛ فقال - تعالى -: {إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمْ عَدُوٌّ فَاتَّخِذُوهُ عَدُوًّا إِنَّمَا يَدْعُو حِزْبَهُ لِيَكُونُوا مِنْ أَصْحَابِ السَّعِيرِ} [فاطر: 6]. وقال - تعالى -: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ وَمَنْ يَتَّبِعْ خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ فَإِنَّهُ يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ} [النور: 21]. وصناعة التصاوير واتخاذها من أعظم المنكر الذي يأمر به الشيطان ويرضاه، والآيات في التحذير من طاعة الشيطان كثيرة. وكذلك قد حذر - تبارك وتعالى - من معصيته ومعصية رسوله - صلى الله عليه وسلم - بأبلغ التحذير، وأخبر أن ذلك ضلال عن طريق الهدى؛ فقال - تعالى -: {وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلاَلاً مُبِينًا} [الأحزاب: 36]، وقال - تعالى -: {وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَتَعَدَّ حُدُودَهُ يُدْخِلْهُ نَارًا خَالِدًا فِيهَا وَلَهُ عَذَابٌ مُهِينٌ} [النساء: 14]، والآيات في هذا المعنى كثيرة جدًّا. ومن معصية الله ورسوله - صلى الله عليه وسلم - وتعدي حدود الله - تعالى - صناعة

من أمر بالتصوير أو طلبه أو رضى به فهو شريك المصور فيما يلحقه من اللعنة والوعيد

التصاوير واتخاذها، فليحذر المصورون من الإصرار على محادة الله ورسوله - صلى الله عليه وسلم - فقد قال الله - تعالى -: {أَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّهُ مَنْ يُحَادِدِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَأَنَّ لَهُ نَارَ جَهَنَّمَ خَالِدًا فِيهَا ذَلِكَ الْخِزْيُ الْعَظِيمُ} [التوبة: 63]. وقد تقدم النص على أن التصوير من أظلم الظلم، وقد قال الله - تعالى -: {وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنْقَلَبٍ يَنْقَلِبُونَ} [الشعراء: 227]، وقال - تعالى -: {أَلاَ إِنَّ الظَّالِمِينَ فِي عَذَابٍ مُقِيمٍ} [الشورى: 45]. وتقدم أيضًا النص على أن كل مصور في النار، وأنه يجعل له بكل صورة صورها نفس فيعذب بها في جهنم، وتقدم أيضًا النص على أن المصورين أشد الناس عذابًا يوم القيامة. فاتقوا الله أيها المضاهون بخلق الله، ولا تغترُّوا بحلم الله وإمهاله؛ فإنه يمهل ولا يهمل فاحذروا أخذه وعقوبته، ففي الصحيحين عن أبي موسى - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((إن الله ليملى للظالم حتى إذا أخذه لم يفلته))، ثم قرأ رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: {وَكَذَلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذَا أَخَذَ الْقُرَى وَهِيَ ظَالِمَةٌ إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ} [هود: 102]. * * * فصل وكما أن المصور ملعون ومتوعَّد بالنار في الدار الآخرة فكذلك من أمر بالتصوير أو طلبه أو رضي به؛ لأن الآمر والطالب كالمباشر، والراضي بالذنب كفاعله. والدليل على هذا قول الله - تعالى -: {وَقَدْ نَزَّلَ عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَابِ

الأدلة على أن الراضي بالذنب كفاعله

أَنْ إِذَا سَمِعْتُمْ آيَاتِ اللَّهِ يُكْفَرُ بِهَا وَيُسْتَهْزَأُ بِهَا فَلاَ تَقْعُدُوا مَعَهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ إِنَّكُمْ إِذًا مِثْلُهُمْ} [النساء: 140]. وقد رُوِي عن عمر بن عبدالعزيز - رحمه الله تعالى - أنه رُفِع إليه قوم شربوا خمرًا فأمر بجلدهم فقيل له: إن فيهم صائمًا، فقال ابدؤوا به، أما سمعتم الله - تعالى - يقول: {وَقَدْ نَزَّلَ عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَابِ أَنْ إِذَا سَمِعْتُمْ آيَاتِ اللَّهِ يُكْفَرُ بِهَا وَيُسْتَهْزَأُ بِهَا فَلاَ تَقْعُدُوا مَعَهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ إِنَّكُمْ إِذًا مِثْلُهُمْ} [النساء: 140]. فاستدلَّ عمر بن عبدالعزيز - رحمه الله تعالى - بهذه الآية الكريمة على أن الراضي بالذنب كفاعله، واعتبر الجلوس مع العصاة رضًا بأعمالهم. وقد ذكر عبدالله بن الإمام أحمد في "زوائد الزهد" عن عبدالله بن شميط، عن أبيه، كان يقول: مَن رضي بالفسق فهو من أهله. قال شيخ الإسلام أبو العباس ابن تيمية - رحمه الله تعالى -: مَن حضر المنكر باختياره ولم ينكره فقد عصى الله ورسوله بترك ما أمره به من بغض المنكر وإنكاره والنهي عنه، وإذا كان كذلك فهذا الذي يحضر مجالس الخمر باختياره من غير ضرورة ولا ينكر المنكر كما أمر الله هو شريك الفُسَّاق في فسقهم فيلحق بهم. قلت: ومثله مَن يحضر مواضع التصوير باختياره ولا ينكر على المصورين فهو شريكهم في ظلمهم وإثمهم. وقد روى أبو داود الطيالسي في "مسنده" ومسلم في "صحيحه" والبخاري

في "التاريخ الكبير" عن أم سلمة - رضي الله عنها - عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: ((يُسْتَعمل عليكم أمراء فتعرفون وتنكرون، فمَن كره فقد برئ، ومَن أنكر فقد سلم، ولكن مَن رضي وتابع))، وفي هذا الحديث دليل على أن الراضي بالذنب كفاعله. ومما يدل على ذلك أيضًا ما أخبر الله به عن ثمود أنهم عقروا الناقة، وإنما كان الذي عقرها واحدًا منهم والباقون أقرُّوه ورضوا بفعله فصاروا شركاءه في الإثم والعقوبة؛ قال الله - تعالى -: {كَذَّبَتْ ثَمُودُ بِطَغْوَاهَا * إِذِ انْبَعَثَ أَشْقَاهَا * فَقَالَ لَهُمْ رَسُولُ اللَّهِ نَاقَةَ اللَّهِ وَسُقْيَاهَا * فَكَذَّبُوهُ فَعَقَرُوهَا فَدَمْدَمَ عَلَيْهِمْ رَبُّهُمْ بِذَنْبِهِمْ فَسَوَّاهَا * وَلاَ يَخَافُ عُقْبَاهَا} [الشمس: 11 - 15]. قال عبدالواحد بن زيد قلت للحسن: يا أبا سعيد، أخبرني عن رجل لم يشهد فتنة ابن المهلب إلا أنه رضي بقلبه، قال: يا ابن أخي، كم يد عقرت الناقة؟ قال: قلت: يد واحدة، قال: أليس قد هلك القوم جميعًا برضاهم وتمالئهم؟ رواه الإمام أحمد في "الزهد". إذا عُلِم هذا فقد يزعم بعض الناس أنه ممن يكره التصوير وينكره، فإذا أراد سفرًا إلى بعض البلاد المجاورة أو ما وراءها من الممالك الأجنبية جاء إلى المصور طائعًا مختارًا وطلب منه أن يصور صورته في كتاب جوازه.

وكذلك إذا عرض لبعض الناس وظيفة لا تحصل له إلا بالتصوير فإنه يأتي إلى المصور طائعًا مختارًا ويطلب منه أن يصور صورته، وهذا ينافي ما يزعمونه من كراهة التصوير وإنكاره، ومن أمكن من تصوير نفسه طائعًا مختارًا فقد رضي بالتصوير وتابَع عليه شاء أم أبى، فيكون شريكًا للمصور فيما يلحقه من اللعنة والعذاب، عياذًا بالله من موجبات غضبه وأليم عقابه. ثم إن بعض الناس يفتي نفسه أو يفتيه بعض المنتسبين إلى العلم ممن لا تحقيق عندهم بأنه لا بأس بطلب التصوير لِمَن كان سفره أو توظيفه متوقفًا على التصوير، ويعللون ذلك بأنه في حكم المُلْجَأ إلى التصوير، وليس الأمر كما يظنون، ومَن طلب التصوير وأفتى نفسه بهذه الفتيا فقد جمع بين أمرين عظيمين؛ أحدهما: استحلال المحرم بالشبه الباطلة، والثاني: القول على الله بغير علم. ومَن أفتى غيره بهذه الفتيا فقد أحل له ما حرمه الله - تعالى - على لسان رسوله - صلى الله عليه وسلم - وعلى المفتي بذلك أثم العاملين بفتياه؛ لقول الله - تعالى -: {لِيَحْمِلُوا أَوْزَارَهُمْ كَامِلَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَمِنْ أَوْزَارِ الَّذِينَ يُضِلُّونَهُمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ أَلاَ سَاءَ مَا يَزِرُونَ} [النحل: 25].

التشديد في الإفتاء بغير علم

وفي "سنن أبي داود" وابن ماجه و"مستدرك الحاكم" عن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((مَن أُفْتِي بغير علم كان أثمه على مَن أفتاه)) هذا لفظ أبي داود، ولفظ ابن ماجه: ((مَن أُفْتِي بفتيا غير ثَبْت فإنما إثمه على مَن أفتاه))، ورواه الحاكم باللفظين جميعًا. ورواه البخاري في "الأدب المفرد" بنحو رواية ابن ماجه، قال الحاكم: صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه، ولا أعرف له علة، ووافقه الحافظ الذهبي في "تلخيصه". والقول بأنه في حكم المُلْجَأ قول باطل؛ لأن المُلْجَأ مَن يؤتى به قهرًا ويُوقَف للتصوير بغير اختياره، فأما مَن يأتي بنفسه طائعًا مختارًا طالبًا لتصوير فهذا لا شك في رضاه بالتصوير باختياره، ويقف أمام المصور مقرًّا له على تصويره، فكلٌّ منهما شريك للمصور فيما يلحقه، والله أعلم. وقد روى ابن بطة بإسناد جيد عن أبي هريرة - رضي الله عنه - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: ((لا ترتكبوا ما ارتكب اليهود فتستحلُّوا محارم الله بأدنى الحِيَل))، ويُسْتَثنى مما ذكرنا مَن يكون مريضًا مرضًا مخيفًا ولم يوجد له علاج إلا في الخارج، فهذا قد يقال: إنه في حكم المُلْجَأ

افتتان كثير من المسلمين بصناعة الصور تقليدا لأعداء الله

إلى التصوير؛ لأنه يخشى على نفسه، ويُسْتَثنى من ذلك أيضًا مَن يكون له مال كثير في الخارج ولا يتمكَّن من أخذه إلا بالسفر فهذا قد يقال: إنه في حكم الملجأ إلى التصوير؛ لأنه يخشى من ضياع ماله الخطير، والله أعلم. * * * فصل وقد عظمت البلوى في زماننا بصناعة التصاوير واتخاذها، واستحلَّ ذلك كثير من المسلمين، فضلاً عن المنتسبين إلى الإسلام وغيرهم من أمم الكفر والضلال، فلا ترى صحيفة ولا مجلة إلا وهي مملوءة بالتصاوير، وكذلك كثير من الدكاكين والمجالس، ولا سيما المجالس الرسمية فقد نصبت فيها تصاوير الكبراء، ومَن أراد سفر إلى البلاد المجاورة أو ما وراءها من الممالك الأجنبية فإنه لا يمكن من السفر إلا بعد أخذ صورته ووضعها في كتاب جوازه، وكذلك لا يكتب لأحد جنسية إلا بصورته. وكذلك لا يُمَكَّن أحد من العمل عند الشركات الأجنبية إلا بصورته، وكذلك لا يُعْطَى أحد رخصة القيادة للسيارة إلا بصورته، والسُّرَّاق وأصحاب الجرائم يصوَّرون. وغالب الموظفين لا يوظفون إلا بصورة، حتى إن دائرة المعارف - وهي في الحقيقة دائرة المجاهل - يأمرون بتصوير المعلمين والمتعلمين،

ذكر الشبه في استحلال التصوير والرد عليها

ويأمرون التلاميذ بالتصوير، ويجعلونه قسمًا من أقسام دروسهم، فلا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم. وكل ما يفعله المسلمون وغيرهم مما ذكرنا هاهنا، وما لم نذكره فإنما هو محض التشبُّه بأعداء الله - تعالى - واتباع سننهم حذو النعل بالنعل. وقد ثبت عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: ((مَن تشبه بقوم فهو منهم))؛ رواه الإمام أحمد وأبو داود من حديث عبدالله بن عمر - رضي الله عنهما - وصححه ابن حبان. وقال شيخ الإسلام أبو العباس ابن تيمية - رحمه الله تعالى -: إسناده جيد. وفي "جامع الترمذي" من حديث عبدالله بن عمرو بن العاص - رضي الله عنهما - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((ليس منَّا مَن تشبه بغيرنا، لا تشبهوا باليهود ولا بالنصارى)). * * * فصل ومن الناس مَن يستحلُّ صناعة التصوير المحرم واتخاذ الصور المحرمة بأنواع من الشُّبَه الباطلة؛ فمن ذلك قول بعضهم: إن التصوير مكروه لا محرم، وعلَّلوا ذلك بعلة باطلة سيأتي ذكرها قريبًا - إن شاء الله تعالى - وهذه الشبهة قديمة، وقد ذكرها ابن دقيق العيد في "شرح العمدة" وبالغ في ردها. قال في شرح حديث عائشة - رضي الله عنها -: إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: ((إن أولئك إذا كان فيهم الرجل الصالح فمات بنوا على قبره مسجدًا، وصوروا

فيه تلك الصور، فأولئك شرار الخلق عند الله يوم القيامة))؛ متفق عليه، فيه دليل على تحريم مثل هذا الفعل، وقد تضافرت دلائل الشريعة على المنع من التصوير والصور. ولقد أبعد غاية البعد مَن قال: إن ذلك محمول على الكراهة، وأن هذا التشديد كان في ذلك الزمان؛ لقرب عهد الناس بعبادة الأوثان وهذا الزمان حيث انتشر الإسلام وتمهَّدت قواعده لا يساويه في هذا المعنى فلا يساويه في هذا التشديد هذا أو معناه، وهذا القول عندنا باطل قطعًا؛ لأنه قد ورد في الأحاديث الأخبار عن أمر الآخرة بعذاب المصورين، وأنهم يقال لهم: أحيوا ما خلقتم، وهذه علة مخالفة لما قاله هذا القائل وقد صرح بذلك في قوله - عليه الصلاة والسلام -: ((المشبهون بخلق الله))، وهذه علة عامة مستقلة مناسبة لا تخص زمانًا دون زمان، وليس لنا أن نتصرف في النصوص المتظاهرة المتضافرة بمعنى خيالي يمكن أن يكون هو المراد مع اقتضاء اللفظ التعليل بغيره وهو التشبه بخلق الله. قلت: وأكثر الأحاديث التي تقدم ذكرها تردُّ هذه الشبهة أيضًا، وقد ذكرت ما فيها من الدلالة على التحريم في مواضع كثيرة ولله الحمد والمنة، وأذكر هاهنا ما لم يذكره ابن دقيق العيد. فمن ذلك قوله في الحديث القدسي: "ومَن أظلم ممن ذهب يخلق كخلقي"، وهذا لفظ عام يقتضي تحريم التصوير في كل زمان، والعلة فيه المضاهاة بخلق الله - تعالى - وهي علة عامة مستقلة لا تخص زمانا دون زمان،

الرد على من أجاز حضور السماء لرؤية ما يصور فيها من ساحات القتال

ووصفه - تبارك وتعالى - للمصورين بارتكاب أعظم الظلم يقتضي العموم لكل مصور في كل زمان ومكان. ومن ذلك لعن المصورين على الإطلاق، وذلك مما يقتضى تحريم التصوير على العموم في كل زمان. ومن ذلك الأمر بطمس الصور على العموم، وذلك مما يقتضى تحريم التصوير في كل زمان. ومن ذلك قوله: ((مَن عاد إلى صنعة شيء من هذا فقد كفر بما أنزل على محمد - صلى الله عليه وسلم))، وهذا يعمُّ كلَّ زمان من وقت هذا القول إلى قيام الساعة، وفي هذا الحديث من التشديد في التصوير وتغليظ تحريمه ما ليس في غيره من الأحاديث، والله أعلم. * * * فصل ومن الشبه الباطلة أيضًا فتيا بعض العصريين بإباحة حضور السينما لرؤية ما يُصَوَّر فيها من ساحات القتال، وحجَّته أن ذلك مما يبعث على الشجاعة والإقدام على القتال، وهذه حجة داحضة، والجواب عنها من وجوه: أحدها: أن السينما من أنواع السحر التخييلي بل هي أخبث منه؛ لأن كل ما يأتيه به أصحاب السحر التخييلي يمكن الإتيان به فيها وزيادة، والسحر لا يجوز تعاطيه ولا الحضور عند مَن يعمله، وهكذا الأمر في السينما فلا يجوز عملها ولا الحضور عندها؛ لأن الحضور عندها بدون

تغيير دليل على الرضا بالسحر، والراضي بالذنب كفاعله. الثاني: أن الحضور عند السينما دليلٌ على الرضا بما رُكِّب فيها من صور الآدميين والحيوانات، والراضي بالصور شريك للمصورين كما تقدم تقرير ذلك. الثالث: أن الإفتاء بجواز حضور السينما يتضمن رد الأحاديث الدالة على تحريم التصوير والمنع من اتخاذ الصور ومشروعية طمسها، ومَن أفتى بخلاف الأحاديث الثابتة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - فهو إما جاهل ضال، وإما معاند مشاق للرسول - صلى الله عليه وسلم - وعلى كلا التقديرين فعليه إثم العاملين بفتياه؛ لقول الله - تعالى -: {لِيَحْمِلُوا أَوْزَارَهُمْ كَامِلَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَمِنْ أَوْزَارِ الَّذِينَ يُضِلُّونَهُمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ أَلاَ سَاءَ مَا يَزِرُونَ} [النحل: 25]. ولما رواه أبو داود وابن ماجه في سننيهما والبخاري في "الأدب المفرد" والحاكم في "مستدركه" عن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((مَن أُفْتِي بفتيا غير ثبت فإنما إثمه على مَن أفتاه))؛ قال الحاكم صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه، ولا أعرف له علة، ووافقه الذهبي في "تلخيصه". الرابع: أن الحضور عند السينما لرؤية ما فيها من الصور مخالف لهدي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وموافق لهدي النصارى والمشركين، فأما هدي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقد تقدم أنه لم يدخل الكعبة حتى محيت الصور منها. وتقدم أيضًا أنه - صلى الله عليه وسلم - رجع عن دخول بيت علي - رضي الله عنه -

لما رأى فيه سترًا تصاوير. وتقدم أيضًا أنه لما رأى نمرقة عائشة - رضي الله عنها - وقف بين البابين ولم يدخل. وتقدم أيضًا ما رُوِي عن عمر - رضي الله عنه - أنه امتنع من دخول الكنيسة من أجل الصور. وتقدم أيضًا ما روي عن ابن مسعود وأبي مسعود - رضي الله عنهما - في ذلك، وكفى بالخليفة الراشد عمر - رضي الله عنه - قدوة بعد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وبعد أبي بكر الصديق - رضي الله عنه. وقد روى الإمام أحمد والترمذي وابن ماجه من حديث حذيفة بن اليمان - رضي الله عنهما - عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: ((اقتدوا باللذَين من بعدي؛ أبي بكر، وعمر))؛ قال الترمذي: هذا حديث حسن. وله أيضًا من حديث ابن مسعود - رضي الله عنه - عن النبي - صلى الله عليه وسلم - نحوه. وأما النصارى والمشركون فقد كانوا مفتونين بصناعة التصاوير واتخاذها والنظر إليها كما تقدم بيان ذلك، وعلى هذا فالمتَّخذون للسينما والحاضرون عندها لرؤية ما فيها من الصور كلهم منحرفون عن هَدْي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ومتشبِّهون بالنصارى والمشركين ومَن تشبه بقوم فهو منهم. الوجه الخامس: أن يقال: ليس كل ما بعث على الشجاعة والإقدام يكون جائزًا، بل يُنْظَر في الشيء فإن كان مما لا بأس به فالتدريب به

شبهة من قال أن المحرم التصوير المنقوش بالأيدى لا المأخوذ بالآلة الفوتوغرافية

على الشجاعة والإقدام جائز وقد يكون مندوبًا إليه؛ كالمسابقة على الخيل، وتعلم الرمي، وغير ذلك من القُوَى الحربية الحادثة في هذه الأزمان. وإن كان مما به بأس فالتدريب به غير جائز، وقد يكون محرمًا شديد التحريم؛ كالخمر فقد قيل: إنها تبعث على الشجاعة والإقدام؛ كما قال حسان بن ثابت - رضي الله عنه -: وَنَشْرَبُهَا فَتَتْرُكُنَا مُلُوكًا وَأُسْدًا مَا يُنَهْنِهُنَا اللِّقَاءُ ومع هذا فشربها حرام على كل حال. ومن هذا الباب حضور السينما فإنه حرام على كل حال سواء كان باعثًا على الشجاعة والإقدام أو لم يكن؛ لأن الحضور عندها دليل على الرضا بما فيها من المضاهاة بخلق الله، ودليل على الرضا بما فيها من السحر، ودليل على الرضا بما يُمَثَّل فيها من أنواع الفسوق والعصيان، وقد ذكرت مرارًا أن مَن رضي بشيء من المعاصي فهو شريك لصاحب المعصية، وذكرت الدليل على ذلك قريبًا فليراجع. * * * فصل ومن الشُّبَه الباطلة أيضًا قول بعض العصريين أن المحرم التصوير المنقوش باليد فأما المأخوذ بالآلة الفوتوغرافية فلا، وهذه الشبهة من أغرب الشُّبَه وفيها دليل على حماقة قائلها وكثافة جهله. ومثلها لا يحتاج إلى جواب؛ لظهور بطلانها لكل عاقل فضلاً عمن له أدنى علم ومعرفة، ولو قال قائل: إنه لا يحرم من الخمر إلا ما اعتصر

شبهة من قال أن المحرم تصوير الصور المجسدة لا المنقوشة

بالأيدي فقط فأما ما اعتصر بالآلات المعدَّة للاعتصار فلا يحرم وإن كان أشد إسكارًا مما اعتصر بالأيدي لما كان بين قوله وبين قول صاحب هذه الشبهة فرقٌ؛ لأن كلاًّ منهما قد حرم شيئًا وأباح ما هو أعظم من جنسه وما هو أولى بالتحريم والمنع مما حرمه. وقد ذكرت قريبًا أن علة تحريم التصوير هي المضاهاة بخلق الله - تعالى - كما يدل على ذلك حديث أبي هريرة وحديث عائشة - رضي الله عنهما - وهذه العلة تشمل كلَّ تصوير سواء كان منقوشًا بالأيدي أو مأخوذًا بالآلة الفوتوغرافية، وكلما كان التصوير أقرب إلى مشابهة الحيوانات فهو أشد تحريمًا؛ لما فيه من مزيد المضاهاة بخلق الله - تعالى. ولا يخفى على عاقل أن التصوير الفوتوغرافية هو الذي يطابق صور الحيوانات غاية المطابقة بخلاف التصوير المنقوش بالأيدي فإنه قد لا يطابقها من كل وجه، وعلى هذا فيكون التصوير بالآلة الفوتوغرافية أشد تحريمًا من التصوير المنقوش بالأيدي، والله أعلم. * * * فصل ومن الشبه الباطلة أيضًا قول مَن قال: إن المحرم تصوير ماله ظل وهي الصور المجسمة، فأما ما لا ظل له؛ كالمنسوج في الثياب ونحوها، وكالمنقوش في القراطيس والحيطان والأواني والآلات وغيرها فهذا لا بأس به، وهذا قول باطل وتفريق لا دليل عليه.

وقد تقدم ردُّه في مواضع كثيرة عند ذكر فوائد الأحاديث في تحريم التصوير، وذكرت هناك كلام النووي وابن حجر العسقلاني في ردِّه. وذكرت أيضًا كلام الخطابي وابن بطال في التسوية بين الصور المجسمة وغير المجسمة. والأدلة على بطلان هذه الشبهة كثيرة: منها حديث أبي هريرة - رضي الله عنه - في قصة امتناع جبريل - عليه السلام - من دخول بيت النبي - صلى الله عليه وسلم - من أجل الستر الذي فيه التصاوير، ثم أمر أن تقطع رؤوسها أو يجعل الستر بساطًا يُوطَأ ويُمْتَهن. ومنها إنكار النبي - صلى الله عليه وسلم - على عائشة - رضي الله عنها - نصب الستر الذي فيه التماثيل وهتكه إياه بيده الكريمة. ومنها إنكاره - صلى الله عليه وسلم - على علي - رضي الله عنه - وخروجه من بيته لما رأى فيه سترًا فيه تصاوير. ومنها أمره - صلى الله عليه وسلم - بمحو الصور التي في الكعبة، ومحوه لبعضها بيده الكريمة، وهي صور منقوشة في حيطان الكعبة وأعمدتها؛ ويدل على ذلك أنه - صلى الله عليه وسلم - دعا بدلو من ماء فجعل يبل ثوبًا معه ويضرب به على الصور. ومنها قول عائشة - رضي الله عنها -: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - لم يكن يترك في بيته شيئًا فيه تصاليب - وفي بعض الروايات تصاوير - إلا نقضه. ومنها إنكار أبي هريرة - رضي الله عنه - على المصور الذي يصور في حيطان دار مروان بن الحكم، واستدلاله على المنع بالحديث القدسي. ومنها إنكار مسروق للتماثيل التي في دار يسار بن نمير، واستدلاله

شبهة من قال أنه إذا فرق بين رأس الصورة وجسدها فقد زال المحذور وكذلك إذا قطع صدرها أو بطنها أو كانت رأسا بلا جسد

على التحريم بحديث عبدالله بن مسعود - رضي الله عنه. ومنها حديث علي - رضي الله عنه - في الأمر بطمس الصور كلها. وكل هذه الأحاديث قد تقدمت ولله الحمد والمنة فلتراجع ففيها كفاية في رد هذه الشبهة، بل كل حديث منها يكفي وحده في ردها، والله الموفق. * * * فصل ومما يتشبَّث به المفتونون بصناعة التصاوير واتخاذها ما ذكره كثيرٌ من الفقهاء أنه إذا فرق بين رأس الصورة وجسدها فقد زال المحذور، وكذلك إذا قطع من الصورة ما لا يبقى الحيوان بعد ذهابه كصدره أو بطنه وكذلك إذا كانت الصورة رأسًا بلا جسد. وقد تقدم رد هذه الشبهة بما أغنى عن إعادته هاهنا، وبينت هناك أن المحذور كله في تصوير الرأس، وأنه يجب تغييره ولا يجوز إبقاؤه مع القدرة على إزالته. * * * فصل ومن أقوى ما يتعلَّق به المصورون ومَن يفتيهم قوله في حديث أبي طلحة وسهل بن حنيف - رضي الله عنهما - إلا رقمًا في ثوب. والجواب أن يقال: ليس في هذا الاستثناء ما يدل على جواز صناعة الصور أصلاً، وغاية ما فيه أنه يدل على جواز اتخاذ الثياب

شبهة من تعلق بلعب عائشة -رضى الله عنها-

والستور التي فيها الصور، وفي هذا خلاف تقدم ذكره بعد سياق حديث أبي طلحة وسهل بن حنيف - رضي الله عنهما. وقد بيَّنت هناك أن قول المجيزين مرجوح، وأن النهي عن اتخاذ التصاوير عام إلا ما كان في بساط ومخدة ونحوهما مما يداس ويمتهن، فهذا مخصوص من العموم. كما تدل على ذلك الأحاديث الصحيحة عن عائشة - رضي الله عنها - وحديث أبي هريرة - رضي الله عنه - في قصة جبريل - عليه السلام. وأما تحريم صناعة الصور والنهي عن ذلك والتشديد فيه فعمومه محفوظ لم يدخله تخصيص أصلاً، والله أعلم. * * * فصل ومن أقوى ما يتعلق به المصورون أيضًا حديث عائشة - رضي الله عنها - قالت: كنت ألعب بالبنات عند النبي - صلى الله عليه وسلم - وكان لي صواحب يلعبن معي فكان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا دخل ينقمعن منه فيسر بهن إلي فيلعبن معي؛ رواه الشافعي وأحمد والشيخان وأهل السنن إلا الترمذي. وفي رواية لمسلم: كنت ألعب بالبنات في بيته وهن اللعب. وعنها - رضي الله عنها - قالت: قدم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من غزوة تبوك أو خيبر وفي سهوتها ستر فهبت ريح فكشفت ناحية الستر عن بنات لعائشة لعب فقال: ((ما هذا يا عائشة؟))، قالت: بناتي، ورأى بينهن فرسًا له جناحان من رقاع فقال: ((ما هذا الذي أرى وسطهن))، قالت: فرس، قال: ((وما

كراهة الإمام مالك أن يشتري الرجل لابنته الصور

هذا الذي عليه))، قالت: جناحان، قال: ((فرس له جناحان!))، قالت: أما سمعت أن لسليمان خيلاً لها أجنحة، قالت: فضحك حتى رأيت نواجذه؛ رواه أبو داود والنسائي. قال الحافظ ابن حجر في "فتح الباري": استدلَّ بهذا الحديث على جواز اتخاذ صور البنات واللعب من أجل لعب البنات بهن، وخص ذلك من عموم النهي عن اتخاذ الصور، وبه جزم عياض ونقله عن الجمهور، وأنهم أجازوا بيع اللعب للبنات؛ لتدريبهن من صغرهن على أمر بيوتهن وأولادهن. قال: وذهب بعضهم إلى أنه منسوخ، وإليه مال ابن بطال وحكى عن بن أبي زيد عن مالك أنه كره أن يشتري الرجل لابنته الصور، ومن ثم رجح الداودي أنه منسوخ وقال البيهقي بعد تخريجه: ثبت النهي عن اتخاذ الصور فيحمل على أن الرخصة لعائشة في ذلك كان قبل التحريم وبه جزم ابن الجوزي، وقال المنذري: إن كانت اللعب كالصورة فهو قبل التحريم، وإلا فقد يسمى ما ليس بصورة لعبة وبهذا جزم الحليمي فقال: إن كانت صورة كالوثن لم يَجُزْ وإلا جاز، انتهى المقصود مما ذكره ابن حجر - رحمه الله تعالى. وأحسن هذه الأقوال وأقربها إلى الصواب قول المنذري والحليمي، وأما ما جزم به عياض وغيره من جواز اتخاذ صور البنات وأن ذلك مخصوص من عموم النهي عن اتخاذ الصور فإنه قول مردود،

صفة لعب بنات العرب وصبيانهم

والجواب عنه من وجوه: أحدها: أنه ليس في حديث عائشة - رضي الله عنها - تصريح بأن لعبها كانت صورًا حقيقة، وبانتفاء التصريح بأنها كانت صورًا حقيقة ينتفي الاستدلال بالحديث على جواز اتخاذ اللعب من الصور الحقيقة، ومَن ادَّعى أن لعب عائشة - رضي الله عنها - كانت صورًا حقيقة فعليه إقامة الدليل على ذلك، ولن يجد إلى الدليل سبيلاً. وأما تسمية اللعب بنات كما في حديث عائشة - رضي الله عنها - فلا يلزم منه أنها كانت صورًا حقيقة، كما قد يظن ذلك مَن قصر فهمه، بل الظاهر - والله أعلم - أنها كانت على نحو لعب بنات العرب في زماننا فإنهن يأخذن عودًا أو قصبة أو خرقة ملفوفة أو نحو ذلك فيضعن قريبًا من أعلاه عودًا معترضًا ثم يلبسنه ثيابًا ويضعن على أعلاه نحو خمار المرأة، وربما جعلته على هيئة الصبي في المهد، ثم يلعبن بهذه اللعب ويسمينهن بنات لهن على وَفْق ما هو مرويٌّ عن عائشة وصواحباتها - رضي الله عنهن. وقد رأينا البنات يتوارثن اللعب بهذه اللعب اللاتي وصفنا زمانًا بعد زمان، ولا يبعد أن يكون هذا التوارث قديمًا ومستمرًّا في بنات العرب من زمن الجاهلية إلى زماننا هذا، والله أعلم. وليس كل بنات العرب في زماننا يلعبن باللعب اللاتي وصفنا، بل كثير منهن يلعبن بالصور الحقيقة من صور البنات وغير البنات من

أنواع الحيوانات، وهؤلاء هن اللاتي دخلت عليهن وعلى أهليهن المدنية الإفرنجية وكثرت مخالطتهم للأعاجم وأشباه الأعاجم. وأما السالمات من أدناس المدنية الإفرنجية ومن مخالطة نساء الأعاجم وأشباه الأعاجم فهؤلاء لم يزلن على طريقة بنات العرب، ولعبهن على ما وصفنا من قبل، وكما أن بين لعب هؤلاء ولعب أولئك بونًا بعيدًا في الحقيقة والشكل الظاهر فكذلك الحكم فيهما مختلف أيضًا. فأما اللعب اللاتي على ما وصفنا فلا بأس بعملهن واتخاذهن واللعب بهن؛ لأنهن لسن بصور حقيقية، وأما اللعب اللاتي على صور البنات وأنواع الحيوانات فصناعتهن حرام، وبيعهن حرام، وشراؤهن واتخاذهن حرام، والتلهِّي بهن حرام، وإتلافهن واجب على مَن قدر على ذلك؛ لأنهن من الأصنام وقد أمر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بطمس الأصنام كما تقدم في حديث علي - رضي الله عنه. والقول في الفرس الذي كان مع لعب عائشة - رضي الله عنها - كالقول في لعبها سواء، ومَن ادعى أنها كانت صورة حقيقة لها رأس ووجه فعليه إقامة الدليل على ذلك، ولن يجد إليه سبيلاً. والظاهر - والله أعلم - أنها على نحو لعب صبيان العرب في زماننا فإنهم يأخذون العظم ونحوه ويجعلون عليه شبه الإكاف ويسمونه حمارًا وربما سموه فرسًا، ويأخذون أيضًا من كرب النخل ويغرزون في ظهر كل واحدة عودين كهيئة عودي الرحل، ثم يضعون بينهما شبه ما يوضع

على النجائب من الأخراج وغيرها، ويجعلون لها مقودًا يقودونها به، وربما اتخذوا ذلك من خشبة منجورة في أعلاها مثل السنام وبين يديه ومن خلفه عودان كهيئة عودي الرحل، يُوضَع بينها شبه ما يُوضَع على النجائب ومن أمامها عودٌ كهيئة الرقبة يوضع فيه المقود، ولها أربع عجلات تمشى عليهن، ويسمون هذه اللعب والتي قبلها إبلاً، وليست هذه اللعب من الصور المحرمة في شيء والنسبة بينها وبين الصور الحقيقة بعيدة جدًّا، ومما يدل على أن الفرس كان على نحو لعب صبيان العرب ولم يكن صورة حقيقة أن النبي - صلى الله عليه وسلم - لما رآه سأل عائشة - رضي الله عنها -: ((ما هذا؟))، فقالت: فرس، ولو كان صورة حقيقية لعرفه النبي - صلى الله عليه وسلم - من أول وهلة ولم يحتج إلى سؤال عائشة عنه، وكذلك سؤاله - صلى الله عليه وسلم - عن اللعب يدل على أنها لم تكن صورًا حقيقة، ولو كانت صورًا حقيقية لم يحتج إلى السؤال عنها، والله أعلم. الوجه الثاني: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنكر على عائشة - رضي الله عنها - نصب الستر الذي فيه الصور وتلوَّن وجهه لما رآه، ثم تناوله بيده الكريمة فهتكه، وقد تقدمت الأحاديث بذلك، وهذا يدل على أن لعب عائشة - رضي الله عنها - لم تكون صورًا حقيقة، ولو كانت صورًا حقيقة لكانت أَوْلَى بالتغيير من الصور المرقومة في الستر؛ لأن الصور المجسدة أقرب إلى مشابهة الحيوانات وأبلغ في المضاهاة بخلق الله - تعالى - من الصور المرقومة فكانت أشد تحريمًا وأَوْلَى بالتغيير

من الصور المرقومة. الوجه الثالث: ما تقدم من حديث عائشة - رضي الله عنها - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - لم يكن يترك في بيته شيئًا فيه تصاليب إلا نقضه وفي رواية إلا قبضه، وفي رواية تصاوير بدل تصاليب، وصيغة هذا الحديث تقتضي العموم؛ لأن "شيئًا" نكرة في سياق النفي فتعم كل تصليب وصورة، وهذا يدل على أن لعب عائشة - رضي الله عنها - لم تكن صورًا حقيقة، ولو كانت صورًا حقيقة لنقضها النبي - صلى الله عليه وسلم - كسائر التصاليب والصور. الوجه الرابع: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أخبر أن الملائكة لا تدخل بيتًا فيه كلب ولا صورة وقد تقدمت الأحاديث بذلك، وأخبر النبي - صلى الله عليه وسلم - أيضًا عن جبريل - عليه السلام - أنه أتاه ليلة فلم يدخل البيت من أجل كلب فيه، ومن أجل ما فيه من تمثال الرجال، ثم قال للنبي - صلى الله عليه وسلم -: مر بقطع رأس التمثال وإخراج الكلب، وهذا يدل على أن لعب عائشة - رضي الله عنها - لم تكن صورًا حقيقة، ولو كانت صورًا حقيقة لمنعت الملائكة من دخول بيتها، وما كان النبي - صلى الله عليه وسلم - ليترك في بيته شيئًا يمنع من دخول الملائكة فيه، فتعيَّن أن لعب عائشة - رضي الله عنها - لم تكن صورًا حقيقة، وإنما هي على نحو ما وصفته في الوجه الأول. الوجه الخامس: ما تقدم من رواية عكرمة عن ابن عباس - رضي الله عنهما - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لما قدم مكة أبى أن يدخل البيت وفيه الآلهة، فأمر بها فأخرجت.

وفي رواية: أنه - صلى الله عليه وسلم - لما رأى الصور في البيت لم يدخل حتى أمر بها فمُحِيَت، وإذا كان النبي - صلى الله عليه وسلم - قد امتنع من دخول الكعبة مرة واحدة من أجل ما فيها من الصور فكيف يُظَنُّ به أنه كان يدخل بيت عائشة - رضي الله عنها - في اليوم والليلة مرارًا متعددة وفيه الصور، فتعين أن لعب عائشة - رضي الله عنها - لم تكن صورًا حقيقة، وبهذا تجتمع الأحاديث وينتفي عنها التعارض. والوجه السادس: ما تقدم من حديث أبي الهياج الأسدي قال: قال لي على - رضي الله عنه -: ألا أبعثك على ما بعثني عليه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن لا تدع تمثالاً إلا طمسته، ولا قبرًا مشرفًا إلا سويته، وفي رواية: ولا صورة إلا طمستها. وفي رواية: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أمر عليًّا - رضي الله عنه - أن يُسَوَّى كل قبر ويُطْمَس كل صنم، والنكرة في هذا الحديث من صِيَغ العموم كما تقدم تقرير ذلك. ويستفاد من هذا أن لعب عائشة - رضي الله عنها - لم تكن صورًا حقيقية، ولو كانت صورًا حقيقة لكانت داخلة في عموم ما أمر النبي - صلى الله عليه وسلم - بطمسه، ولم يجئ عن النبي - صلى الله عليه وسلم - ولا حرف واحد يقتضي استثناء لعب عائشة - رضي الله عنها - من هذا العموم، فتعين كونها من غير الصور الحقيقة. الوجه السابع: ما تقدم من حديث علي - رضي الله عنه - أن رسول الله

- صلى الله عليه وسلم - قال: ((مَن عاد لصنعة شيء من هذا فقد كفر بما أنزل على محمد - صلى الله عليه وسلم))، وفي هذا الزجر الأكيد أوضح دليل على تحريم اتخاذ الصور كلها، ولا فرق بين أن تكون لعبًا أو غير لعب. وأكثر الأحاديث التي تقدم ذكرها تدل على ما دل عليه هذا الحديث من عموم تحريم الصنعة والاتخاذ لكل صورة من صور ذوات الأرواح، وعلى هذا فيتعين القول بأن لعب عائشة - رضي الله عنها - لم تكون صورًا حقيقية. الوجه الثامن: أن التخصيص نوعٌ من النسخ؛ لكونه رفعًا لبعض أفراد الحكم العام بدليل خاص، والنسخ لا بُدَّ فيه من أمرين: أحدهما: ثبوت دليل النسخ. والثاني: تأخر تاريخه عن تاريخ المنسوخ، وإذا فرضنا إمكان ما زعمه عياض وغيره من تخصيص صور البنات من عموم النهي عن الصور بناءً على أن لعب عائشة - رضي الله عنها - كانت صورًا حقيقية فلا بُدَّ إذًا من إقامة الدليل على أن لعب عائشة - رضي الله عنها - كانت صورًا حقيقية. ولا بُدَّ أيضًا من ثبوت التخصيص بأن يكون النبي - صلى الله عليه وسلم - رأى تلك الصور عند عائشة - رضي الله عنها - بعد نهيه العام عن الصور فأقرها على الاتخاذ، وإذا كان كل من الأمرين معدومًا فلا شك في بطلان ما زعمه عياض ومَن قال بقوله.

نص الإمام أحمد على أن الوصي لا يشتري للصبية اللعبة من الصور. ونصه أيضا أنه لا بأس بلعب البنات باللعب إذا لم يكن فيها صورة

وقد قال المروذي في كتاب "الورع": (باب كراهة شراء اللعب وما فيه الصور) قيل لأبي عبدالله - يعني: الإمام أحمد بن حنبل -: ترى للرجل الوصي تسأله الصبية أن يشتري لها لعبة؟ فقال: إن كانت صورة فلا، وذكر فيها شيئًا، قلت: الصورة إذا كانت يدًا أو رجلاً فقال: عكرمة يقول: كل شيء له رأس فهو صورة، قال أبو عبدالله: فقد يصيرون لها صدرًا وعينًا وأنفًا وأسنانًا، قلت: فأحب إليك أن يجتنب شراءها؟ قال: نعم. وقال الإمام أحمد أيضًا في رواية بكر بن محمد وقد سُئِل عن حديث عائشة - رضي الله عنها - كنت ألعب بالبنات، قال: لا بأس بلعب اللعب إذا لم يكن فيه صورة، فإذا كان فيه صورة فلا، وهذا نص من أحمد - رحمه الله تعالى - على منع اللعب باللعبة إذا كانت صورة. وفي رواية المروذي: منع شراء الصورة للصبية. وقد كان أحمد - رحمه الله تعالى - من أكثر الناس اتباعًا للسنة، ومن أعلمهم بأحاديث رسول الله - صلى الله عليه وسلم. وقد روى في "مسنده" حديث عائشة - رضي الله عنها - أنها كانت تلعب باللعب عند النبي - صلى الله عليه وسلم - كما تقدم ذكره ذلك، ومع هذا فقد أفتى بما ذكر المروذي وبكر بن محمد عنه. ولو ثبت عنده أن لعب عائشة - رضي الله عنها - كانت صورًا حقيقية وأنها مخصوصة من عموم النهي عن الصور لما أفتى بخلاف ذلك، هذا هو المعروف من حاله

- رضي الله عنه - وشدة تمسُّكه بما ثبت عن النبي - صلى الله عليه وسلم - وعن أصحابه - رضوان الله عليهم أجمعين. وبما قررتُه في هذا الفصل يزول الإشكال عن لعب عائشة - رضي الله عنها - ويتبين الصواب لكل منصف مؤثر لاتباع السنة النبوية. ويتبين أيضًا بطلان قول مَن أجاز اتخاذ اللعب من الصور المحرمة، والله - سبحانه وتعالى - أعلم. وهذا آخر ما تيسر جمعه والحمد لله رب العالمين وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وأصحابه، ومَن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، وسلم تسليمًا كثيرًا. وقد وقع الفراغ من تسويد هذه النبذة في يوم الاثنين السادس عشر من شهر جمادى الأولى سنة 1382 هـ، ثم كان الفراغ من كتابة هذه النسخة في يوم السبت الخامس والعشرين من شهر رجب سنة 1382 هـ على يد كاتبها وجامعها الفقير إلى الله - تعالى - حمود بن عبدالله التويجري غفر الله له ولوالديه، ولجميع المسلمين والمسلمات، الأحياء منهم والأموات، والحمد لله الذي بنعمته تتم الصالحات.

§1/1